هول المرايا، بورخيس

هول المرايا، للكاتب الأرجنتيني خورخه لويز بورخيس.


كما يحكي في هذه القصيدة الأوتوبيوغرافية عن الخوف الذي كان ينتابه أمام المرايا الكبرى، وعن التجربة الرهابية و الفزع من كل ما يكرر الواقع ويضاعفه بشكل شجي حينها كان الكاتب يتضرع الى الله في كل مساء كي لا يحلم بالمرايا، وكان يرقبها في ضيق مخافة أن يراها تنزاح فجأة عن الواقع وكان خوفه هذا شبيها بخوف القدماء من التماثيل فقد كانوا يخشون المباعدة بين ساقي التمثال حتى لا يهرب، كما جاء في بعض الأساطير وفي أسطورة بيجماليون

ويقدم بورخيس في نص قصير بعنوان المرايا المغطاة اعترافاً يصعب الحسم في ما إذا كان حقيقياً أو مختلقا إذ يحكي أنه في العام 1927 تعرف الى فتاة كئيبة وعيناها مخيفتان من شدة الاتساع لم يكن بينهما حب ولا ما يوهم بذلك، غير أنه كان يتوسم فيها قوة لا علاقة لها بالشهوة الجنسية، وهذا ما كان يفزعه، ويبدو له نذير حمق ولكي يكسب ودها قرر ذات يوم أن يحدثها عن خوفه من المرايا

حكيت لها سنة 1928 عن هلوسة ستتضخم سنة 1931 وقد علمت مؤخراً أنها أصيبت بالجنون فهي تغطي المرايا في غرفة نومها لأنها ترى فيها انعكاسي يغتصب انعكاسها، ولا تملك إزاء ذلك إلا الارتجاف والصمت تقول إني أُلاحقها بشكل سحري

وبورخيس ماهر في اللعب بموضوعه المفضل وجوده الشخصي المتخيل يقول أنا حلم شخص آخر لأن الانعكاس الذي يغتصب انعكاساً آخر في المرآة هو بمثابة هوية تذوب في حال من الجنون كما أن سحر المرايا والتطير منها وتغطيتها في أوقات الحداد، كل ذلك من مؤشرات الجنون

ومن الثيمات البارزة في قصيدة المرايا تكاثر الكائن المتخيل وما ينجم عن ذلك من اختلال في عدد الناس ثمة كائن يشغل فضاء مستحيلا فيكرر العالم ويضاعفه ورغم أنه من المفروض أن يكون خارج العالم بما أنه يكرره إلا أنه يبقى جزءاً منه هكذا يصير التكرار جزءاً لا يتجزأ من المكرَّر

من كل هذا التموج والتعاكس الشائه في المرايا، وفتنة الانشطار، والتباس الحقيقة بالوهم، ودوخة التبادل اللامتناهية، والقلب التناظري لكل الأشياء، وانعدام الثبات، والتطواف المزوبع، من كل هذا التناظر السائد يتشكل العالم الباروكي ذلك أن عالم الباروك ليس أحادي الجانب بل هو تناظري ومتأثر بذلك الخط الذي ينبثق منه الانعكاس لقد ظهر الباروك في عالم متروك لفوضى المحاكاة، ولم يتمكن العصر الكلاسيكي من احتواء هذه الفوضى إلا بتخيل نقطة مطلقة لا متماثلة، نقطة أرخميدية، هي كوجيطو اليقين الرياضي ومع ذلك فإن الرؤيا الباروكية لعالم تناظري، مأخوذ بقوة التقليد، تتطور تطوراً طبيعياً والخط الذي ينطلق منه الانعكاس هو خط المرآة

المرآة العصية على الاختراق

فيها ينتهي ويبدأ مهجوراً

الفضاء المستحيل الآهل بالانعكاسات

إنه فضاء مستحيل لأنه يبدأ وينتهي من نفس النقطة الهندسية فضاء بدون سُمك هو في غير متناول أيدينا لكنه يتحدانا فضاء بدون أي امتداد حقيقي، مأهول بكائنات عجيبة ومزعجة قادرة على سكن ما لا يسكن هذا الفضاء العصي على الاختراق، والذي تسكنه الانعكاسات، ينعته لا كان Lacan بـ الحاجز الزجاجي وهو حاجز وهاوية في نفس الآن بحكم أنه يجعل الكون لا متناهيا يكتب بورخيس

يدهشني وجود الأحلام والمرايا

وذلكم الرصيد المعهود المنهوك

الذي يحتوي الكون في كل يوم

عميقاً وهمياً

منسوجا من الانعكاسات

هو ذا مصدر كل حيرة فبورخيس يقول إنه يندهش لكن هذا الفعل ضعيف جداً وهنا ينضاف الرعب الرهابي والدوخة الذهنية، لدى هذا الميتافزيقي الذي ينزعج من الحقائق المتخيلة، الى الرعب اللاهوتي المقدس الذي يستفظع أعمال الشيطان ويرى في المحاكاة عملا شيطانياً

كيف يعقل أن يحتوي الكون صنوه؟ وكيف له أن يسع تكراره الخاص؟

الكون لا متناه بإمكاننا أن نضاعفه دون أن ننميه وهذا كما يقول راسل عمل شائن بالنسبة لعاداتنا الذهنية ذلك أن عالم الانعكاسات المستحيل والثابت يضاعف العالم الواقعي دون أن ينميه ثم إنه هو نفسه جزء من هذا العالم ما دامت هناك انعكاسات للانعكاسات وفكرة وجود حقائق متخيلة تشكل نظائر لكائنات واقعية هي بدورها أجزاء من مجموع الكائنات الواقعية ­ هذه الفكرة تبعث على القلق

ربما كانت الحيرة المنطقية ترتبط في العمق برعب رهابي أو مقدس نابع من البشاعة الفائقة فهل من قبيل الصدفة أن يتم تحديد كل مفارقة يصعب إلغاؤها، في مجال المنطق، بهذا المصطلح (monstrousit)؟ إن الطبيعة القربانية للاستعارة واضحة وشفافة والحيرة المنطقية والميتافزيقية تضاف الى تراجيديا الأنداد في مضمار اللامعقول حيث ينتفي مبدأ الهوية والمحاكاة تفحم الهوية هنا مبعث الرعب ومكمن السر ولذلك لا موجب لأن نكون نحن أيضا انعكاسات

وتبرز المحاكاة الحقيقية لا الاستشباحية في تلك الأسطورة الصينية التي يوردها بورخيس في كتيب علم الحيوان العجيب حين يقول

في ذلك الزمن البعيد لم يكن عالم المرايا وعالم البشر معزولين عن بعضهما كما هو الحال في أيامنا هذه وكانا فضلا عن ذلك مختلفين جدا لم تكن الكائنات والألوان والأشكال تتطابق في ما بينها كانت كل من مملكة المرايا ومملكة البشر تعيشان في سلام وذات ليلة اجتاح سكان المرايا الارض كان بأسهم قويا لكن بعد معارك دامية انتصرت فنون السحر التي سخرها الامبراطور الاصفر فبعد أن دحر الغزاة وسجنهم في المرايا فرض عليهم أن يقلدوا، كما لو أنهم في حلم، كل أفعال البشر، وجردهم من قوتهم ووجوههم، وجعلهم مجرد انعكاسات حقيرة ومع ذلك فإنهم في يوم ما سيزعزعون هذا السبات السحري وستكون السمكة هي أول من يستفيق منهم بعد ذلك ستأخذ الاشكال الأخرى في الاستيقاظ لن يختلفوا عنا إلا قليلا، وشيئا فشيئا سيكفون عن تقليدنا سيحطمون حواجز الزجاج والمعدن ولن يهزموا هذه المرة

إنها طريقة أخرى لفهم انزياح المرايا وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال تكاثر الصور بمجرد أن تغدو المرايا غير متوازية بل يعني انعتاقها وتحررها لأن المرايا هي مصدر كل تهديد مداهم فهي آهلة بكائنات أسيرة جمال ساحر، محكوم عليها بالتقليد غير أنها ستظهر في عالمنا بعد أن تحطم المرايا وهذا ما تعبر عنه الأسطورة ­ الصينية ­ بكيفية ملتوية لأن الانعكاس حالة تخضع لها الغيلان بواسطة سحر آسر، قبل أن تشرع لا شعوريا في الاختلاف والانعتاق الذي يوقفها عند تخوم الحاجز الزجاجي، وآنذاك سينكشف الغول من خلال حركاته الإيمائية لكننا كلنا إيماءات وغيلان معوقة تحت تهديدات خفية وكائنات متخيلة مثل كل الانعكاسات يكتب بورخيس

لقد خلق الله الليالي التي

تنجب الأحلام وأشكال المرايا

حتى يشعر الإنسان

بأنه هو الآخر انعكاس وتباه

وبهذا نحن منذرون

إن الدمج المدوخ اللانهائي للكائن المتخيل انعكاس المرآة في العالم الواقعي هو مبدأ كل ما يذوب في الإبعاد القرباني إذ يكفي أن ينضاف كائن آخر ليصبح كل شيء خيالياً لأن هذا الكائن الإضافي يجعل من الكل، بحكم أن مبدأه قائم على انعدام الحدود، كائنات إضافية كما أن التخيل هنا يجعل العالم الذي يحتويه خياليا إذن من واجب العالم أن يبعد التخيل لأنه كلما تمادى في ذلك تضاعفت تهديدات الصنو كما أن تخيل فضاء مستحيل يساهم في عزل العنصر اللاواقعي ويعمل على دمجه في نفس الوقت كما لو أنه سند العالم

وحين يشتد الرعب من عدم القدرة على تمييز الصنو يستعمل بورخيس المصطلحات الشرعية canoniques التي تعكس الرعب المقدس واللعنة والغضب اللاهوتي من قبيل رجس ­ عار ­ مكروه الخ

وهذا قاموس متداول في نصه، ويبرز الصلة القائمة بين مصادرة مبدأ التخيل العجيب وأساس اللاهوت

لقد كان اللاهوت خطاباً مفارقاً على الدوام، وإبعاداً قربانياً للمقدس، أي إبعاد الإبعاد، ومازال في العمق مرتبطاً بتناقض يتضح فيه حد المفارقة من خلال الهرطقات الصوفية كما أن لاهوت السر هو مصدر المفارقات بالنسبة للفكر والخلط المثير في محكيات بورخيس، بين المنطق واللاهوت، ناشئ عن ارتباطهما معاً بالمفارقة

وإذا كانت الأشياء السحرية مثل المرآة قبل أن تصبح رمزاً أدبياًَ قد تصلح ثيمة عجيبة، فذلك لأنها من الطرائق المفضلة لعرض آثار المحاكاة غير أن المحاكاة، لا المرآة، هي منبع السحر والعجيب الذي تعبر عنه الثيمات العجيبة بشكل رمزي


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر