نهج البلاغة/بعد انصرافه من صفين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بعد انصرافه من صفين

ومن خطبة له (عليه السلام) بعد انصرافه من صفين [وفيها حال الناس قبل البعثة وصفة آل النبي ثمّ صفة قوم آخرين] أحْمَدُهُ اسْتِتْماماً لِنِعْمَتِهِ، وَاسْتِسْلاَماً لِعِزَّتِهِ، واسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَأَسْتَعِينُهُ فَاقَةً إِلى كِفَايَتِهِ، إِنَّهُ لاَ يَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ، وَلا يَئِلُ[1] مَنْ عَادَاهُ، وَلا يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاهُ; فَإِنَّهُ أَرْجَحُ ما وُزِنَ، وَأَفْضَلُ مَا خُزِنَ. وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، شَهَادَةً مُمْتَحَناً إِخْلاَصُهَا، مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا[2]، نَتَمَسَّكُ بها أَبَداً ما أَبْقانَا، وَنَدَّخِرُهَا لاَِهَاوِيلِ مَا يَلْقَانَا، فَإِنَّها عَزيمَةُ الاِْيمَانِ، وَفَاتِحَةُ الاِْحْسَانِ، وَمَرْضَاةُ الرَّحْمنِ، وَمَدْحَرَةُ الشَّيْطَانِ[3]. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أرْسَلَهُ بِالدِّينِ المشْهُورِ، وَالعَلَمِ المأْثُورِ، وَالكِتَابِ المسْطُورِ، وَالنُّورِ السَّاطِعِ، وَالضِّيَاءِ اللاَّمِعِ، وَالاَمْرِ الصَّادِعِ، إزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ، وَاحْتِجَاجاً بِالبَيِّنَاتِ، وَتَحْذِيراً بِالايَاتِ، وَتَخْويفاً بِالمَثُلاَتِ[4]، وَالنَّاسُ في فِتَن انْجَذَمَ[5] فِيها حَبْلُ الدِّينِ، وَتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي[6] اليَقِينِ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ[7]، وَتَشَتَّتَ الاَْمْرُ، وَضَاقَ الْـمَخْرَجُ، وَعَمِيَ المَصْدَرُ، فَالهُدَى خَامِلٌ، واَلعَمَى شَامِلٌ. عُصِيَ الرَّحْمنُ، وَنُصِرَ الشَّيْطَانُ، وَخُذِلَ الاِْيمَانُ، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ، وَتَنكَّرَتْ مَعَالِمُهُ، وَدَرَسَتْ[8] سُبُلُهُ، وَعَفَتْ شُرُكُهُ[9]. أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ، وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ[10]، بِهِمْ سَارَتْ أَعْلامُهُ، وَقَامَ لِوَاؤُهُ، في فِتَن دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا[11]، وَوَطِئَتْهُمْ بأَظْلاَفِهَا[12]، وَقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا[13]، فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ، في خَيْرِ دَار، وَشَرِّ جِيرَان، نَوْمُهُمْ سُهُودٌ، وَكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ، بأَرْض عَالِمُها مُلْجَمٌ، وَجَاهِلُها مُكْرَمٌ. ومنها: ويعني آل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ، وَلَجَأُ[14] أَمْرِهِ، وَعَيْبَةُ[15] عِلْمِهِ، وَمَوْئِلُ[16] حُكْمِهِ، وَكُهُوفُ كُتُبِهِ، وَجِبَالُ دِينِه، بِهِمْ أَقَامَ انْحِناءَ ظَهْرِهِ، وَأذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ[17]. منها: يعني بها قوماً آخرين زَرَعُوا الفُجُورَ، وَسَقَوْهُ الغُرُورَ، وَحَصَدُوا الثُّبُورَ[18]، لا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّد(عليهم السلام)مِنْ هذِهِ الاُمَّةِ أَحَدٌ، وَلا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أبَداً. هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ، وَعِمَادُ اليَقِينِ، إِلَيْهمْ يَفِيءُ الغَالي[19]، وَبِهِمْ يَلْحَقُ التَّالي، وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الوِلايَةِ، وَفِيهِمُ الوَصِيَّةُ وَالوِرَاثَةُ، الاْنَ إِذْ رَجَعَ الحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ، وَنُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ.







[1] وَألَ: مضارعها يَئِلُ ـ مِثل وَعَدَ يَعِدُ ـ نجا ينجو. [2] مُصَاصُ كل شيء: خالصُهُ. [3] مَدْحَرَةُ الشيطان: أي أنها تبعده وتَطْرُدُهُ. [4] المَثُلات ـ بفتح فضم ـ: العقوبات، جمع مَثُلَة بضم الثاء وسكونها بعد الميم. [5] انْجَذَمَ: انقطع. [6] السّوارِي: جمع سارية، وهي العَمُود والدِّعامة. [7] النّجْر ـ بفتح النون وسكون الجيم ـ: الاصل. [8] دَرَسَت، كانْدَرَسَتْ: انطَمَستْ. [9] الشّرُك: جمع شِراك ككتاب وهي الطريق. [10] المَنَاهِلُ: جمع مَنْهل، وهو مَوْرِد النهر. [11] الاخْفَاف: جمع خُفّ، وهو للبعير كالقدَم للانسان. [12] الاظلاف: جمع ظِلْف ـ بالكسر ـ للبقر والشاة وشبههما، كالخفّ للبعير والقدم للانسان. [13] السّنَابك: جمع سُنْبُك ـ كقُنْفُذ ـ وهو طَرَفُ الحافر. [14] اللّجَأ ـ محرّكةً ـ: المَلاَذُ وما تلتجىء وتعتصم به. [15] العَيْبَةُ ـ بالفتح ـ: الوعاء. [16] المَوْئِلُ: المَرْجِع. [17] الفَرَائص: جمع فريصة، وهي اللحمة التي بين الجنب والكتف لاتزال تُرْعَدُ من الدابة. [18] الثّبُور: الهلاك. [19] الغالي: المبالغ، الذي يُجاوز الحد بالافراط.