ك.خ.ط.: حسن التهامي

حسـن التهامي

كمال خلف الطويل


ما من أحد من رجالات يوليو ارتبط اسمه بظلال شائهة كما ارتبط اسم التهامي.

هو أحد أعضاء خلية الضباط الأحرار الأولى التي عملت مباشرة مع عبد الناصر وهم – إلى جانبه - عبد الحكيم عامر وخالد محي الدين وكمال حسين وحسن إبراهيم وكمال رفعت.

هو واحد من ثلاثة اشتركوا مع عبد الناصر في محاولة اغتيال رجل الملك في الجيش اللواء حسين سري عامر قائد سلاح الحدود في يناير 52 .

عرف بالشجاعة لحد التهور، وبالقدرة على الكتمان والطاعة. ولأجل الخصلتين الأخيرتين فقد اختير ليكون ضابط الاتصال "التنفيذي – العملياني" مع محطة المخابرات المركزية بالقاهرة بعد نجاح انقلاب يوليو.

والحق أن نظرة طائر فوق العلاقات السرية لضباط يوليو مع ممثلي الولايات المتحدة بالقاهرة بعد نجاح انقلابهم تغدو الآن على قدر حيوي من الأهمية بما يرفع عنها غشاوة التضليل والتشويه ولوي عنق الحقائق.

كان ملف مصر في وكالة المخابرات المركزية تحت إشراف كيرميت روزفلت مسؤول منطقة الشرق الأوسط يعاونه في القاهرة جيم إيغلبرغر ومايلز كوبلاند وبيل ليكلاند كملحقين مدنيين في السفارة ودافيد إيفانز الملحق الجوي.

من معاونيهم العرب - مصريين وغير مصريين - كان اثنان على قدر من الأهمية ملحوظ هما: ناصر النشاشيبي ومصطفى أمين.

هرع روزفلت للقاهرة بعد حريقها الشهير ليدرس على الأرض ما جرى ويقيّم احتمالات المستقبل.

خرج بنتيجة أن خيار الملك لا زال هو الأفضل خصوصا مع إقناعه بتصحيح سلوكه الشخصي، لكن التفتيش عن خيار مواز و/أو مكمل يبدو عملا صائبا فيما لو بلغ الخيار الأول مداه بغير نجاح .

لم تكن مصادر المعلومات الأمريكية في القاهرة تعرف شيئا عن تنظيم الضباط الأحرار لكنها كانت تحس أن هناك تفاعلات مكتومة تدور في أحشاء الجيش عبرت عن نفسها في انتخابات نادي الضباط في ديسمبر 51.

ولا شك أن هذه المصادر حاولت أن تتابع إيقاع الذين فازوا في الانتخابات ولكن من دون أن تصل إلى يقين بأن هناك تنظيما يوشك أن يتحرك وأن بعض هؤلاء هم من أعمدة التنظيم.

مع قدوم يوليو 52 كانت المعلومات عن التنظيم قد بدأت تتكاثر في جعبة رجال الملك، وبالأخص مرتضى المرعي وزير الداخلية وأحيانا الحربية –والمستنسب من قبل الملك لدور رئيس الوزراء بعد حين – ، وإن لم تكن قد اكتملت بالتمام والكمال .

عند يوم 18 يوليو ومع حل الملك مجلس نادي الضباط المنتخب أحس عبد الناصر ورفاقه الثمانية في اللجنة التأسيسية للتنظيم أن ما تسرب عنهم أكثر مما يمكن قبوله، وأن مصيرهم – إن لم يتحركوا وللتو – في خطر مهلك ، وأن الأثوب ألف مرة هو التحرك والآن فاحتمالات النجاح والفشل متساوية، بينما يصل الأخير إلى 100% في حال القبوع المنتظر.

مع يوم 20 يوليو اتخذ القرار بالتحرك في اليوم التالي، ثم أجل لمساء اليوم الذي يليه أي 22 يوليو.

ليلة 21/22 يوليو توجه كمال الدين حسين عضو اللجنة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار عن سلاح المدفعية إلى ضابط عظيم السلاح ذينيك اليومين، ومن داع الحاجة الماسة لدور له، وهو المقدم عبد المنعم أمين من فرع الدفاع الجوي.

والثابت أن الأخير كان أحد المؤمنين "عقائديا" بالولايات المتحدة، وعرف بعلاقاته الاجتماعية الواسعة بالرعايا الأجانب، وبالذات الأمريكيين، عبر نادي السيارات، تشاركه في ذلك زوجته "الاجتماعية" محاسن سعودي.

صارح كمال متقدمه عبد المنعم بما هو ورفاقه مقبلون عليه في تلك الساعات المشحونة بالتوتر والقلق، حاثا إياه على الانضمام إليهم في الاستيلاء على سلطة القرار في القوات المسلحة سبيلا إلى إقالة مصر من عثرتها.

ربما كان كمال يتوقع إيجابية الرد، خصوصا وأن عبد المنعم عرف بسخطه على حالة التردي التي وصلتها البلاد.

لم يخطئ رهان كمال إذ وجد عبد المنعم على أهبة الاستعداد متطوعا ليلقي بثقله كله معهم.

والحال أن خيار عبد المنعم كان بين التبليغ والاشتراك فاختار الثاني، وبقناعة أنه بذلك يسهم في جهد يستطيع عبره أن يلعب دور صلة وصل بين التنظيم وبين الولايات المتحدة وهو المؤمن شكلا وموضوعا بها سياسات وطريقة حياة. باختصار، كان هو مقتنعا بأن الملك أضحى عبئا على البلاد ولا يحتاج إلى سوى "كش"، ومن ثم فالطريق مفتوح أمام تغيير لما يراه الأفضل لمصر ولحليف مرغوب هو الولايات المتحدة.

وفعلا كان للرجل دور ملحوظ ليلة 22/23 يوليو في تأمين اشتراك سلاحه بالانقلاب ونصرته له، مما جعل اللجنة التأسيسية تكافئه بعد أسابيع ثلاث باستنسابه لعضوية مجلس قيادة الثورة.

نلحظ هنا أيضا أنه كان من كلف صبيحة 23 يوليو بالاتصال بالسفارة البريطانية لإخطارها بما جرى وبأن العملية لا تستهدف الأجانب ومصالحهم.

والحال أن هكذا تكليف ما كان ليتم لولا أنه كان معروفا لأوساط هذه السفارة بما يكفل ارتياحهم للاستماع إليه.

هنا يمكن القول أن عبد المنعم أمين لم يبح للسفارة الأمريكية بمعلومات عن الإنقلاب طيلة اليومين الأخيرين قبل التحرك، لأنه لو فعل لكان ذلك كفيلا بأن تصل المعلومات عبرها للملك – ومن ثم التصفية. والأكيد أن دور عبد المنعم أمين تضافر مع دور حيوي آخر لعبه المقدم علي صبري مدير المخابرات الجوية وأحد الضباط الأحرار. والثابت أن طبيعة منصب علي صبري تطلبت علاقات وظيفية مع الملحقين العسكريين الأجانب، لكن دافيـد إيفانز الملحق الجوي الأمـريكي كان أكثر من متعامل ..

كان صديقا مقربا لضابط ألمعي من أشهر الأسر التركية – المتمصرة - والذي كان أيضا يؤمن بمصير أفضل لمصر في إطار علاقة وثقى مع الولايات المتحدة، وهو الذي درس فيها وتلقى علوم المخابرات العسكرية.

من هنا اختياره الذكي ليكون رسول الإنقلاب إلى دافيد إيفانز ذاته صبيحة الإنقلاب منبئا وساعيا للتفهم ومن ثم التعاون.

كفل هذا الدور الأولي أن يعين علي صبري في ديسمبر 52 رئيسا للوفد العسكري الموفد لواشنطن سعيا لصفقة سلاح ظن ضباط يوليو أن وليم فوستر نائب وزير الدفاع قد وعدهم خيرا بها عندما زارهم في نوفمبر المنقضي.

قبع علي صبري أسابيع طويلة في واشنطن وهو يعدو إلى البنتاغون جيئة ورواحا مستعملا كل حجج الإقناع الممكنة من دون فائدة تذكر.

كان الجواب الأخير، بعد طول انتظار، أننا يمكن أن نرسل لكم سلاحا لأغراض الأمن الداخلي لكن تسليحا للجيش غير وارد قبل أن تعقدوا صلحا مع إسرائيل وقبل حل مشكلاتكم مع البريطانيين في القنال، ومن ثم إنضواؤكم في ترتيبات أمن إقليمي أمام بطن الاتحاد السوفياتي الرخو.

يمكن القول بيقين أن تلك التجربة المرة كانت المدماك الذي رست عليه تحولات علي صبري، المعرفية والفكرية والسياسية، من مشروع حليف لواشنطن إلى عدو ضروس لمقاصد سياساتها في المنطقة، ولأن يصبح رأسه ثمن رضا واشنطن عن أنور السادات في مايو 71، عندما اشترطت إقالته من نيابة رئيس الجمهورية عربونا لمحاولتها التوسط "لحل سلمي" للاحتلال الإسرائيليي لأراضي 67.

منذ عودته الخائبة توقف علي صبري عن أن يكون قناة اتصال مع رجالات واشنطن في القاهرة، لكن صداقته مع إيفانز استمرت ومن هنا لقاؤهما في القاهرة في جنازة عبد الناصر.

مع بدايات 53 توقفت قناة عبد المنعم أمين مع الأمريكان – والتي كانت الأنشط بين أغسطس 52 ويناير 53 – عن العمل لسبب بسيط وهو أن الرجل أُقيل من مجلس قيادة الثورة في فبراير 53 ونفي سفيرا في هولندا على خلفية تمرد سلاح المدفعية قبلها بشهر، وهو السلاح الذي أجمع ضباطه على كراهية تمثيله لهم في مجلس القيادة بسبب سوء سمعته في الشارع، إذ كانت زوجته تتباهى بأنها صاحبة نفوذ لا يضاهى، فالجيش والبوليس طوع بنانها كما اشتهر عنها تردادها القول.

باستنكاف علي صبري وبإبعاد عبد المنعم أمين، برز للصدارة دوري مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل .. ولكل ملابساته وأسبابه.

مصطفى أمين كان ربيب الأمريكان منذ عام 1944 عندما مول جهاز الخدمة السرية الأمريكية (الأب الشرعي لوكالة المخابرات المركزية فيما بعد) تأسيس دار أخبار اليوم لتكون المسوق الإعلامي للسياسات الأمريكية في المنطقة غداة الحرب العالمية الثانية.

ومع ذلك فقد اختار الأخوين أمين أن يبقوا على قناة مباشرة مع جهاز الخدمة السرية البريطاني عبر علي أمين في عملية توزيع أدوار استمرت لعقود ثلاث.

والراجح أن دور مصطفى أمين الأمريكي لم يكن خافيا على ضباط يوليو كما الحال مع قربه – وتوأمه – الشديد من القصر.

على خلفية هذه المعرفة تم اعتقال مصطفى أمين غداة 23 يوليو في عملية تأمين وتحذير في آن.

ولعل هذه المعرفة بخيوط الرجل هي التي رشحته منذ عام 53 ليكون أحد قوات الاتصال السرية وإن بقدر من الحذر مستدام إذ غلب الشك في أنه ذو هوى أمريكي قد يودي به إلى أن يغدو عميلا مزدوجا ... ولكن في أسوأ الأحوال.

تلقى الأخوين أمين تحذيرا مبطنا – وإن واضحا – بنقلهما من دار أخبار اليوم التي أسسا إلى دار الهلال عام 61، ثم توقف عبد الناصر عن لقائه بالمرة عام 63، ولم يعد يكلف بمهام اتصال.

لكنه استمر في الاتصال مع من اعتاد لأكثر من سنوات عشر الاتصال بهم وبما غيَّر طبيعته – أي الاتصال - من تكليف إلى تخابر، ومن هنا وقوعه المدوي متهما – وبحق – بالعمالة للمخابرات الأمريكية ... في يوليو 65.

وكم الفرق هائل، بل ومهول، بين دور مصطفى هذا ودور محمد حسنين هيكل في مجال العلاقات المصرية – الأمريكية.

هيكل وفي عمر العشرين كان يغطي مسارح عدة لمعارك الحرب العالمية الثانية ثم معارك الحرب الباردة في اليونان وإيران ثم حرب فلسطين. عبرها كلها تعرف على العديد من الصحفيين والدبلوماسيين الأمريكيين بمن فيهم الذين عرفهم في مصر بعد أن عاد للاستقرار فيها عام 49.

إذن ومنذ نقطة البداية كان هيكل مصدر معلومات لعبد الناصر عن الأمريكان شديد الثراء والوفرة.

ثم هو متمرس في هذه الأواصر والعلاقات لما يقرب من سنوات عشر كفلت فهمه الوافي لطبائعهم ومراميهم وسبل مقاربتهم.

والأهم من ذلك كله هو ماهية الإجابة عن سؤال مركزي: لمن الولاء ؟

في حالة هيكل ومنذ أن ترسخت علاقة هيكل بعبد الناصر - غداة يوليو مباشرة - كان الولاء قاطعا وحاسما: لعبد الناصر ... ولا لأحد سواه.

وفر هذا اليقين ارتياحا كبيرا لعبد الناصر جعله – أي هيكل - رسولا أمينا بل ومحاورا لا يشق له غبار مع مقابليه الأمريكيين بدءا من أول كيرميت روزفلت ووصولا إلى دونالد بيرجس مرورا بقافلة من الأسماء عسيرة على الإحصاء.

لكن دور هيكل لم يكن يغني عن الحاجة لقناة عمليانية – وليس فقط حوارية ومعلوماتية –.

حينها كان زكريا محي الدين قد كلف بالإشراف على جهاز المخابرات الحربية، والذي ضم إليه العديد من الضباط الأحرار من بينهم حسن التهامي. نُسّب الأخير لمهمة ضابط الاتصال التنفيذي مع محطة الوكالة واستمر في مزاولته عندما انتقل – مع الكثيرين من الضباط الأحرار وأصدقائهم – إلى جهاز المخابرات العامة الوليد والذي أسسه ورئسه زكريا محي الدين عام 1953.

بقي التهامي في مهمته هذه، وعبرها أشرف على تأسيس برج القاهرة ليكون في أدواره العليا برج اتصالات قادرة على التجسس المناطقي وعلى اكتشاف التجسس المضاد.

بني هذا البرج من منحة الـ 3 مليون دولار والتي قدمتها وكالة المخابرات المركزية عام 53 للواء محمد نجيب رئيس الجمهورية للإنفاق على تأسيس حرس رئاسي له.

قبلها مجلس القيادة، وإن حوّلها للإنفاق على البرج، من باب أن شعرة من الخنزير مكسب .. ولكن بطريقتنا.

قبع التهامي في مكتب داخل الأدوار السفلية للبرج، فيما تستمر أعمال التشييد في الأعالي، وكان بين قلة من ضباط الجهاز العالي الرتبة الذين بقوا داخله بعد تولي صلاح نصر رئاسة الجهاز في مايو 57، بينما كان العديد ممن عملوا تحت رئاسة زكريا محي الدين 53-56 ورئاسة علي صبري 56-57 قد غادروه إلى مواقع مدنية أخرى سواء في السلك الدبلوماسي أو هياكل الحكم المحلي.

والبادي أن استبقاءه كان بسبب تمرسه لسنوات ست في عملية الاتصال.

لكن الحاصل – بالمقابل – أن التمرس قاد إلى التجند، ومن هنا أوجه الشبه بين التهامي ومصطفى أمين، إذ أن الأول سبق الثاني بسبع سنوات في اختراق حاجز الولاء غير المرئي.

في مايو 58 وبينما عبد الناصر – وبصحبته البغدادي وكمال حسين - في موسكو منيبا عبد الحكيم عامر بصلاحيات رئيس الجمهورية، تم اكتشاف تنصت حسن التهامي – من برجه – على مكالمات عامر.

جنّ جنون الأخير وطلب من عبد الناصر السماح باعتقاله ومحاكمته. قدّر عبد الناصر أن ذلك سيساء فهمه كثيرا في واشنطن وسيعتبر جائزة للسوفيات الذين يزورهم وقتها. كان قراره هو استتابة التهامي وعزله من المخابرات وإبعاده ... سفيرا في النمسا.

من هذه النقطة بالذات يبدأ لغز التهامي. لمَ كان عبد الناصر دوما يبعّده ويقرّبه دون أن يخرجه من جنته بالمرة ؟؟

لنتابع سيرة التهامي تبينا للمسألة :

قضى التهامي ما بين 58-68 متنقلا كسفير بين النمسا واليابان. يمكن اعتبار هذه الفترة نفيا مؤدبا عقوبة له على خرق حاجز الثقة غير المرئي كما أسلفنا الذكر.

فجأة وفي أبريل 68 وبينما عبد الناصر يئن تحت وطأة هزيمة 67، والتي خطط لها وأمر بإلحاقها به ليندون جونسون مكلفا إسرائيل بتلك المهمة الكبرى، .. وفيما هو يتنحنح ليعيد استجماع قواه والتقاط أنفاسه، نجده يستدعي التهامي من فيينا ويلحقه بجهاز رئاسة الجمهورية مستشارا له.

لمـاذا؟ ...

ليس عندي من جواب سوى تقدير أن عبد الناصر، وهو يجد كل الأبواب مسدودة وكل النوافذ مغلقة أمامه على المقلب الأمريكي، أراد شخصية تستطيع أن تفتح له طاقة أو منفذا في وقت كان فيه الاتحاد السوفياتي قد أصبح القوة العظمى الوحيدة المساندة ..

ومن أفضل من التهامي، الصديق الصدوق لرجالات الوكالة، بلدوزرا يشق قناة التواصل الخلفية ؟

تلك الفترة حرص عبد الناصر على إعادة العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا بعد زيارة جورج براون وزير الخارجية البريطانية له وحرص أكثر على توطيد العلائق مع فرنسا ديغول معينا حافظ إسماعيل – المشهود له بالكفاءة – سفيرا له فيها.

لبث التهامي في قصر الرئاسة بلا واضح دور أو مهمة سنة ونصف السنة إلى أن ظهر فجأة للعيان مرة أخرى في 22 سبتمبر 69 مديرا عاما للاتحاد الاشتراكي في ذات الوقت الذي عزل فيه علي صبري عن أمانة التنظيم فيه عقابا على فساد مدير مكتبه مصطفى ناجي.

الرسالة كانت واضحة: رجل اليسار يُضعَف ورجل اليمين يُبرَز خصوصا والأخير قد عزز بتعيين أنور السادات - خدينه القديم - مشرفا على دار أخبار اليوم بعد عزل محمود أمين العالم الشيوعي عن رئاستها بالتزامن مع قصة علي صبري.

نقف عند هذه النقطة لنسترجع العلاقة القديمة بين السادات والتهامي:

في تطبيقه لمفهوم الدائرة الإسلامية إحدى الدوائر الثلاث: العربية والإسلامية والأفريقية.. أسس عبد الناصر عام 54 المؤتمر الإسلامي واستنسب له السادات أمينا وأرفق به التهامي مساعدا.

في وجه من الأوجه كان المؤتمر الإسلامي ردا منظما من عبد الناصر على نفوذ التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم الحاجة إلى رجل مخابرات، تحت عنوان مساعد الأمين، .. أي التهامي.

بعد نفي التهامي إلى فيينا توقف عمله في المؤتمر الإسلامي، وهو من ذوى وضمر بعد أن استبدل بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.

لكن السنوات الأربع 54-58 أمنت علاقة وثقى بين السادات والتهامي لاذت بالكمون – بعد ابتعاد التهامي – ولكن سارعت باستعادة الحيوية والنضارة بعد استدعائه المعيد للكرامة.

والحال أن أواخر الستينات وبالتحديد بعد الهزيمة شهدت كلا الشخصين وهما في جدول خدمة وكالة المخابرات المركزية.

في أبريل 70 رفع التهامي إلى وزير دولة مكلفا بشؤون القصر الجمهوري وتوازى هذا الترفيع مع ترفيع سامي شرف إلى وزير دولة مكلفا بشؤون المعلومات موازنا له في إطار عملية التوازن.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ماذا فعل السادات والتهامي بعبد الناصر عام 1970؟

للمرة الأولى منذ بدء حرب الاستنزاف في مارس 69 يصدر الإذن الأمريكي لإسرائيل بقصف العمق المصري بضراوة (كانت هناك سابقة مفردة في أكتوبر 68 في غارة نجع حمادي) وبهدف تأليب الشعب على عبد الناصر سبيلا لإسقاطه عبر تذمر يقود لتمرد.

حينها عجت الصحافة الغربية بعديد من مقالات الحرب النفسية التي تتوقع وصول إسرائيل لحد الإقدام على الإغارة على منزل عبد الناصر بغرض اختطافه أو قتله.

هذا السعار الدموي أنبأ أن عام 70 سيكون عاما حاسما في تقرير مصير عبد الناصر، وأن واشنطن ستذهب للنهاية في طلب اصطياده بالهزيمة أو حتى بالقتل.

فهم الرسالة فرد بأحسن منها ذاهبا إلى موسكو ملوحا لأقطابها بورقة استقالته واستخلاف من يسلم مصر للولايات المتحدة أي .. نائبه المعين حديثا أنور السادات.

خضع السوفيات لعملية الاستثارة ، فقرروا – ولأول مرة – الانتشار بقواتهم خارج حدود حلف وارسو مرسلين 8000 عسكري للخدمة في مصر في أسلحة الدفاع الجوي والطيران.

إن كان لهذه الخطوة من مفعول عند واشنطن فهو أن نيكسون عقد العزم على قتل جمال عبد الناصر.

صدر القرار في ربيع 70.

ولكي تجري عملية خداع استراتيجي مموِّهة أوفد جوسف سيسكو وكيل الخارجية الأمريكية لزيارة الرجل متوسلا أن يفتح مع واشنطن صحفة جديدة فهي لا تريد به شرا بل جاهزة لعرض خدمات الوسيط النزيه لحل معضلة الصراع العربي-الإسرائيلي.

ردّ عبد الناصر المناورة بمثلها عندما خاطب نيكسون مباشرة في 1 مايو 70 طالبا منه إما أن يأمر إسرائيل بالانسحاب من أراضي 67 أو أن يجعل من الولايات المتحدة عدوا مباشرا للعرب إن رفض.

ولكي تكتمل عملية التنييم ردّ نيكسون بتقديم مبادرة وساطة عبر وزير خارجيته روجرز تتضمن وقفا مؤقتا لإطلاق النار.

لكن يوليو حمل لهم، بالإضافة إلى رد عبد الناصر المسّر بقبول المبادرة ، نبأ مقلقا بأنه طلب من نائبه السادات البقاء في منزله والتوقف عن العمل بانتظار التحقيق بمسألة استيلائه غير الشرعي بالحراسة على فيلا اللواء المتقاعد صلاح الموجي أثناء غياب عبد الناصر في زيارته الطويلة لموسكو.

منشأ القلق هو أن عميلها النائم الأول السادات وعميلها النائم الثاني التهامي كنزان لا يصح التفريط بأحدهما أو كليهما، وبالتالي فطالما اقتربت شباك الإطاحة من السادات أصبح لا مناص من تفعيلهما على أسرع وجه للقيام بمهمة قتل جمال عبد الناصر.

من جانبه ، ولحسابات عنده ، فضل عبد الناصر تأجيل التخلص من السادات نائبا لحين استنضاج دعم سوفياتي لا محدود في مجال السلاح وهو أمر لم يكن قد اكتمل ، وإن قرب من مستويات واعدة.

من هنا تكليفه علي صبري بزيارة موسكو كل شهرين كقناة تنسيق على أعلى مستوى مدشنا بذلك عودته لدور المشرف على ملف العلاقات السوفياتية – المصرية، كما كان قبل عقوبته في سبتمبر 69 الآنفة الذكر.

سبق هذا التكليف إعادة تأهيل من شعبتين تمت في أبريل 70:

الأولى منح علي صبري رتبة الفريق أول فخري وتعيينه مساعدا لرئيس الجمهورية لشؤون الطيران والدفاع الجوي مشرفا على قائدي السلاحين.

والثانية تعيينه أمينا للشؤون الخارجية في الاتحاد الإشتراكي ترضية له على عقوبة سبتمبر الفائت ، وموازنة لنيابة السادات وربما – من يدري – على طريق إبداله به بعد تلميع شعبي يلزمه... وكثيرا.

إذن صعود علي صبري منذ الربيع وهبوط أنور السادات منذ الصيف عجل في تنفيذ عملية التخلص من عبد الناصر بكل السبل حتى منها القتل .

لم تخفف إعادة السادات من إقامة المنزل إلى مزاولة العمل من قرار واشنطن بل سرعت منه حتى تضمن تنفيذه وإنفاذه قبل أن يحل به - السادات - غضب لاحق يجعل من الوصول الآمن لعبد الناصر مسألة أكثر من عسيرة.

اشترك في العملية أشخاص أربع هم: كمال أدهم مدير المخابرات السعودية، ومدير محطة وكالة المخابرات المركزية بجدة... شرق السويس، وأنور السادات وحسن التهامي ... غربها.

ولأن القتل يجب أن يكون ضمن دراما كبيرة في المنطقة، فلقد استقر القرار على أن يتم في إطار الحملة الهاشمية المقبلة على المقاومة الفلسطينية في الأردن والمخطط لها أن تتم في سبتمبر.

سلم مندوب الوكالة أحدث سموم الوكالة إلى التهامي مكلفا إياه باستعماله في اليوم الذي يحدد له في غضون ذات الشهر .. سبتمبر.

وفي نهار 27 سبتمبر أُمر التهامي بالتنفيذ .

هنا تختلف الروايات : هل وضع السادات السم بنفسه لعبد الناصر في طعامه – وهو الذي كان يشرف عليه - في الهيلتون ... مقر إقامة الجميع المؤقتة أثناء أحداث الأردن وانعقاد القمة العربية الطارئة فيه ؟

أم أنه دسّ له عبر التهامي في كوب الشاي الذي تناوله أثناء الاحتفال بتوقيع اتفاق القاهرة مساء ذلك اليوم ؟

أم أنه دسّ له في كأس البرتقال الذي ربما تناوله في المطار أثناء توديع صباح السالم في الثالثة عصرا من يوم الوفاة ؟

ليس من يقين بعد ، إنما الشبهات تحوم وبكثافة فوق هذين الشخصين العميلين لوكالة المخابرات المركزية في أنهما اشتركا في التخطيط وقاما بالتنفيذ لأكبر جريمة سياسية ، لا زالت مسربلة بالغموض الرهيب ، جرت في العصر الحديث، ولم يزل القرار غير مستقر عليها بأنها جريمة.

ساعد في إسدال أستار الغموض حول الجريمة أن إصابة عبد الناصر باحتشاء قلبي قبل عام واحد من وفاته وفرت مناخا مصدقا وقابلا لترجيح احتمال الوفاة الطبيعية.

وأمَّن عدم إمكان برهانها أن أي تشريح للجثة حينها لم يكن لها أن يثبت شيئا أمام أحدث السموم الغير قابلة للإكتشاف مخبريا، وفي وقت لم تكن فيه تحاليل الحمض النووي قد عرفت بعد.

ساعد في الحيلة والتحايل اتخاذ التهامي لبوس التقي الورع والذي عندما يستبد به الوجد يلقي السلام على سيدنا الخضر، إذ يراه ولا يراه سواه .

كان عبد الناصر يظنه قد دخل في التدروش عندما أطلق للحيته العنان فنبهه ليشذبها وإلا فسيقصها له بمقص الجنائن.

ساعد هذا السلوك – الذي واصله التهامي للآن وربما للقبر – في استخفاف المحيطين به مقللين من شأنه بينما هو صاحب أخطر الأدوار في حياة مصر والعرب ، أهمها قتل جمال عبد الناصر، ومن أهمها الصلح المنفرد مع إسرائيل عبر التمهيد لزيارة السادات للقدس عام 77، ومنها أنه عراب التواطؤ الفيصلي – الساداتي أوائل السبعينات، ومن أشرسها أنه أكبر المشوهين لسيرة عبد الناصر بعد مماته مؤديا واحدا من أهم التكليفات التي عهدتها إليه الوكالة ضمن قافلة من المكلّفين فاقت في طولها قامة الرجل ذاته.

عاش التهامي حياته على "دين" الوكالة وسيموت على ذات "الدين" عميلا من الطراز الأول .

خدع الكثيرين وأثار اشمئزاز المعظم، لكنه لم يبدِّل ولم يتبدل، مزاولا أعمال الخيانة بطريقته الفريدة والتي لن ينال عليها بركات الخضر

والله أعلم!

في حياة الأبطال صنّاع الحوادث الكبرى في التاريخ أعوان يقبعون في سويداء بنيان أنظمتهم ، ويضحون – بالعجز أم بالخيانة – معول الهدم والبلاء ، وبالا على قائدهم وثورته وشعبه وأمته وعالمه .

دون تلك الأثافي ، كان يمكن لعبد الناصر – الذي اعتبره أندريه مالرو أحد خمس صناع للقرار العالمي عام 1965 – أن يصل بالأمة إلى حيث الآن مقام الصين ... ولكن هيهات .

الدكتور كمال خلف الطويل