كتاب حجة الوداع/الفصل الأول

كتاب حجة الوداع
الفصل الأول
ابن حزم


الفصل الأول خلاصة في أعمال الحج

أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أنه حاج ، ثم أمر بالخروج للحج فأصاب الناس بالمدينة جدري أو حصبة ، منعت من شاء الله تعالى أن تمنع من الحج معه ، فأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمرة في رمضان تعدل حجة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عامدا إلى مكة عام حجة الوداع التي لم يحج من المدينة منذ هاجر صلى الله عليه وسلم إليها غيرها ، فأخذ على طريق الشجرة ، وذلك يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة سنة عشر نهارا بعد أن ترجل وادهن ، وبعد أن صلى الظهر بالمدينة وصلى العصر من ذلك اليوم بذي الحليفة ، وبات بذي الحليفة ليلة الجمعة ، وطاف تلك الليلة على نسائه ، ثم اغتسل ، ثم صلى الصبح بها ، ثم طيبته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بيدها بذريرة وطيب فيه مسك ، ثم أحرم ولم يغسل الطيب ، ثم لبد رأسه وقلد بدنته بنعلين ، وأشعرها في جانبها الأيمن وسلت الدم عنها ، وكانت هدي تطوع ، وكان صلى الله عليه وسلم ، ساق الهدي مع نفسه ثم ركب راحلته ، وأهل حين انبعثت به من عند المسجد ، مسجد ذي الحليفة بالقران بالعمرة والحج معا ، وذلك قبل الظهر بيسير ، وقال صلى الله عليه وسلم للناس بذي الحليفة : « من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ، ومن أراد أن يهل بحج فليفعل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليفعل » .

وكان معه صلى الله عليه وسلم من الناس جموع ، لا يحصيها إلا خالقهم ورازقهم عز وجل ، ثم لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم : « لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك » ، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم زاد على ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم  : « لبيك إله الحق » ، وأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن يأمر أصحابه بأن يرفعوا أصواتهم بالتلبية ، وولدت أسماء بنت عميس الخثعمية زوج أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، محمد بن أبي بكر ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتستثفر بثوب ، وتحرم وتهل ، ثم نهض صلى الله عليه وسلم وصلى الظهر بالبيداء ، ثم تمادى واستهل هلال ذي الحجة ليلة الخميس ، ليلة اليوم الثامن من يوم خروجه من المدينة ، فلما كان بسرف حاضت عائشة رضي الله عنها ، وكانت قد أهلت بعمرة ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتنقض رأسها وتمتشط وتترك العمرة وتدعها وترفضها ، ولم تحل منها وتدخل على العمرة حجا ، وتعمل جميع أعمال الحج إلا الطواف بالبيت ، ما لم تطهر . وقال صلى الله عليه وسلم وهو بسرف للناس : « من لم يكن منكم معه هدي ، فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ، ومن كان معه هدي فلا » ، فمنهم من جعلها عمرة كما أبيح له ، ومنهم من تمادى على نية الحج ولم يجعلها عمرة ، وهذا فيمن لا هدي معه ، وأما من معه الهدي فلم يجعلها عمرة أصلا وأمر صلى الله عليه وسلم في بعض طريقه ذلك من معه شاء أن يهل بالقران : بالحج والعمرة معا . ثم نهض صلى الله عليه وسلم إلى أن نزل بذي طوى ، فبات بها ليلة الأحد لأربع خلون لذي الحجة ، وصلى الصبح بها ، ودخل مكة نهارا من أعلاها من كداء من الثنية العليا صبيحة يوم الأحد المذكور المؤرخ فاستلم الحجر الأسود ، وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكعبة سبعا ، رمل ثلاثا منها ومشى أربعا يستلم الحجر الأسود والركن اليماني في كل طوفة ، ولا يمس الركنين الآخرين اللذين في الحجر ، وقال بينهما { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} ثم صلى عند مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم ركعتين ، يقرأ فيهما مع أم القرآن قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد جعل المقام بينه وبين الكعبة ، وقرأ صلى الله عليه وسلم إذ أتى المقام قبل أن يركع { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ثم رجع إلى الحجر الأسود فاستلمه ، ثم خرج إلى الصفا والمروة ، فقرأ ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) « أبدأ بما بدأ الله به » ، فطاف بين الصفا والمروة أيضا سبعا راكبا على بعيره ، يخب ثلاثا ويمشي أربعا ، إذا رقي على الصفا استقبل الكعبة ونظر إلى البيت ووحد الله وكبره ، وقال صلى الله عليه وسلم  : « لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده » ، ثم يدعو ، ثم يفعل على المروة مثل ذلك ، فلما أكمل صلى الله عليه وسلم الطواف والسعي أمر كل من لا هدي معه بالإحلال حتما ولا بد ؛ قارنا كان أو مفردا ، وأن يحلوا الحل كله ، من وطء النساء والطيب والمخيط ، وأن يبقوا كذلك إلى يوم التروية وهو يوم منى ، فيهلوا حينئذ بالحج ويحرموا حين ذلك عند نهوضهم إلى منى ، وأمر من معه الهدي بالبقاء على إحرامهم ، وقال لهم صلى الله عليه وسلم حينئذ إذ تردد بعضهم : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي حتى اشتريته ، ولجعلتها عمرة ، ولأحللت كما أحللتم ، ولكني سقت الهدي ، فلا أحل حتى أنحر الهدي » .

وكان أبو بكر وعمر وطلحة والزبير وعلي ورجال من أهل الوفر ساقوا الهدي ، فلم يحلوا وبقوا محرمين ، كما بقي صلى الله عليه وسلم محرما ؛ لأنه كان ساق الهدي مع نفسه ، وكان أمهات المؤمنين لم يسقن هديا فأحللن ، وكن قارنات حج وعمرة ، وكذلك فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم وأسماء بنت أبي بكر ، أحلتا حاشا عائشة ، رضي الله عنها ، فإنها من أجل حيضها لم تحل كما ذكرنا ، وشكا علي فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذ أحلت فصدقها النبي صلى الله عليه وسلم في أنه هو أمرها بذلك ، وحينئذ سأله سراقة بن مالك بن جعشم الكناني ، فقال : يا رسول الله متعتنا هذه ، ألعامنا هذا أم للأبد ؟

فشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه ، وقال : « بل لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة » ، وأمر صلى الله عليه وسلم من جاء إلى الحج على غير الطريق التي أتى صلى الله عليه وسلم عليها ممن أهل بإهلال كإهلاله أن يثبتوا على أحوالهم ، فمن ساق معه الهدي لم يحل ، فكان علي في أهل هذه الصفة ، ومن كان منهم لم يسق الهدي أن يحل ، فكان أبو موسى الأشعري من أهل هذه الصفة ، وأقام صلى الله عليه وسلم بمكة محرما من أجل هديه يوم الأحد المذكور والاثنين والثلاثاء والأربعاء وليلة الخميس ثم نهض صلى الله عليه وسلم ضحوة يوم الخميس ، وهو يوم منى ، وهو يوم التروية مع الناس إلى منى ، وفي ذلك الوقت أحرم بالحج من الأبطح كل من كان أحل من الصحابة رضي الله عنهم ، فأحرموا في نهوضهم إلى منى في اليوم المذكور ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى الظهر من يوم الخميس المذكور والعصر والمغرب والعشاء الآخرة ، وبات بها ليلة الجمعة ، وصلى بها الصبح من يوم الجمعة ثم نهض صلى الله عليه وسلم ، بعد طلوع الشمس من يوم الجمعة المذكور إلى عرفة بعد أن أمر صلى الله عليه وسلم بأن تضرب له قبة من شعر بنمرة ، فأتى صلى الله عليه وسلم عرفة ، ونزل في قبته التي ذكرنا ، حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء ، فرحلت له ، ثم أتى بطن الوادي فخطب الناس على راحلته خطبة ذكر فيها صلى الله عليه وسلم تحريم الدماء والأموال والأعراض ، ووضع فيها أمور الجاهلية ودماءها ، وأول ما وضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، كان مسترضعا في بني سعد بن بكر من هوازن ، فقتله هذيل ، وذكر النسابون أنه كان صغيرا يحبو أمام البيوت ، وكان اسمه آدم ، فأصابه حجر غائر أو سهم غرب ، من يد رجل من بني هذيل فمات ، ثم نرجع إلى وصف عمله صلى الله عليه وسلم ، ووضع أيضا صلى الله عليه وسلم في خطبته بعرفة ربا الجاهلية ، وأول ربا وضعه ربا عمه العباس رضي الله عنه ، وأوصى بالنساء خيرا وأباحهم ضربهن غير مبرح ، إن عصين بما لا يحل وقضى لهن بالرزق والكسوة بالمعروف على أزواجهن .

وأمر بالاعتصام بعده بكتاب الله عز وجل وأخبر أنه لن يضل من اعتصم به وأشهد الله عز وجل على الناس أنه قد بلغهم ما يلزمهم ، فاعترف الناس بذلك ، وأمر صلى الله عليه وسلم أن يبلغ ذلك الشاهد الغائب ، وبعثت إليه أم الفضل بنت الحارث الهلالية ، وهي أم عبد الله بن العباس لبنا في قدح فشربه صلى الله عليه وسلم أمام الناس ، وهو على بعيره فعلموا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن صائما في يومه ذلك ، فلما أتم الخطبة المذكورة أمر بلالا فأذن ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئا ، لكن صلاهما صلى الله عليه وسلم بالناس مجموعتين في وقت الظهر بأذان واحد لهما معا وبإقامتين ، لكل صلاة منهما إقامة ، ثم ركب صلى الله عليه وسلم راحلته حتى أتى الموقف ، فاستقبل القبلة وجعل جبل المشاة بين يديه ، فلم يزل واقفا للدعاء ، وهنالك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرم في جملة الحجيج فمات ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يكفن في ثوبيه ولا يمس بطيب ولا يحنط ولا يغطى رأسه ولا وجهه ، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يبعث يوم القيامة ملبيا ، وسأله قوم من أهل نجد هنالك عن الحج ، فأعلمهم صلى الله عليه وسلم بوجوب الوقوف بعرفة ووقت الوقوف بها ، وأرسل إلى الناس أن يقفوا على مشاعرهم ، فلم يزل واقفا للدعاء حتى إذا غربت الشمس من يوم الجمعة المذكور وذهبت الصفرة أردف أسامة بن زيد خلفه ، ودفع صلى الله عليه وسلم وقد ضم زمام ناقته القصواء ، حتى إن رأسها ليصيب طرف رجله ، ثم مضى يسير العنق ، فإذا وجد فجوة نص ، وكلاهما ضرب من السير ، والنص آكدهما ، والفجوة الفسحة من الناس ، كلما أتى ربوة من تلك الروابي أرخى للناقة زمامها قليلا ، حتى تصعدها ، وهو صلى الله عليه وسلم يأمر الناس بالسكينة في السير ، فلما كان في الطريق عند الشعب الأيسر ، نزل صلى الله عليه وسلم فبال وتوضأ وضوءا خفيفا ، وقال لأسامة : « المصلى أمامك » أو كلاما هذا معناه ، ثم ركب حتى أتى المزدلفة ليلة السبت العاشرة من ذي الحجة ، فتوضأ ثم صلى بها المغرب والعشاء الآخرة مجموعتين في وقت العشاء الآخرة دون خطبة ، ولكن بأذان واحد لهما وبإقامتين ، لكل صلاة منهما إقامة ، ولم يصل بينهما شيئا ، ثم اضطجع صلى الله عليه وسلم بها ، حتى طلع الفجر ، فقام صلى الله عليه وسلم وصلى الفجر بالناس بمزدلفة يوم السبت المذكور ، وهو يوم النحر ، وهو يوم الأضحى ، وهو يوم العيد ، وهو يوم الحج الأكبر مغلسا أول انصداع الفجر ، وهنالك سأله عروة بن مضرس الطائي ، وقد ذكر له عمله أنه حج ، فقال له صلى الله عليه وسلم : « إن من أدرك الصلاة ، يعني صلاة الصبح ، بمزدلفة في ذلك اليوم مع الناس فقد أدرك الحج ، وإلا فلم يدرك » .

واستأذنته سودة وأم حبيبة في أن تدفعا من مزدلفة ليلا ، فأذن لهما ولأم سلمة في ذلك وللنساء وللضعفاء بعد وقوف جميعهم بمزدلفة ، وذكرهم الله تعالى بها ، إلا أنه صلى الله عليه وسلم أذن للنساء في الرمي بليل ولم يأذن للرجال في ذلك ، لا لضعفائهم ولا لغير ضعفائهم ، وكان ذلك اليوم يوم كونه صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة ، فلما صلى صلى الله عليه وسلم الصبح كما ذكرنا بمزدلفة أتى المشعر الحرام بها فاستقبل القبلة ودعا الله عز وجل بها ، وكبر وهلل ووحد ، ولم يزل واقفا بها حتى أسفر جدا ، وقبل أن تطلع الشمس ، فدفع صلى الله عليه وسلم حينئذ من مزدلفة ، وقد أردف الفضل بن العباس وانطلق أسامة على رجليه في سباق قريش ، وهنالك سألت الخثعمية النبي صلى الله عليه وسلم الحج عن أبيها الذي لا يطيق الحج ، فأمرها أن تحج عنه ، وجعل صلى الله عليه وسلم يصرف بيده وجه الفضل بن عباس عن النظر إليها وإلى النساء ، وكان الفضل أبيض وسيما ، وسأله أيضا صلى الله عليه وسلم رجل عن مثل ما سألت عنه الخثعمية ، فأمره صلى الله عليه وسلم بذلك ، ونهض صلى الله عليه وسلم يريد منى ، فلما أتى بطن محسر حرك ناقته قليلا ، وسلك صلى الله عليه وسلم الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى منى ، فأتى الجمرة التي عند الشجرة ، وهي جمرة العقبة ، فرماها صلى الله عليه وسلم من أسفلها بعد طلوع الشمس من اليوم المؤرخ بحصى التقطها له عبد الله بن عباس من موقفه الذي رمى فيه مثل حصى الخذف ، وأمر بمثلها ونهى عن أكبر منها ، وعن الغلو في الدين ، فرماها صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته بسبع حصيات كما ذكرنا يكبر مع كل حصاة منها ، وحينئذ قطع صلى الله عليه وسلم التلبية ولم يزل بمنى حتى رمى الجمرة التي ذكرنا ورماها صلى الله عليه وسلم راكبا ، وبلال وأسامة أحدهما يمسك خطام ناقته صلى الله عليه وسلم ، والآخر يظله بثوبه من الحر ، وخطب الناس صلى الله عليه وسلم في اليوم المذكور وهو يوم النحر بمنى خطبة كرر فيها أيضا صلى الله عليه وسلم تحريم الدماء والأموال والأعراض والأبشار ، وأعلمهم عليه السلام فيها بحرمة يوم النحر وحرمة مكة على جميع البلاد ، وأمر بالسمع والطاعة لمن قاد بكتاب الله عز وجل ، وأمر الناس بأخذ مناسكهم فلعله لا يحج بعد عامه ذلك ، وعلمهم مناسكهم وأنزل المهاجرين والأنصار والناس منازلهم ، وأمر أن لا يرجعوا بعده كفارا ، وأن لا يرجعوا بعده ضلالا يضرب بعضهم رقاب بعض .

وأمر بالتبليغ عنه وأخبر أن رب مبلغ أوعى من سامع .

ثم انصرف صلى الله عليه وسلم إلى المنحر بمنى فنحر ثلاثا وستين بدنة ، ثم أمر صلى الله عليه وسلم بنحر ما بقي منها مما كان علي أتى به من اليمن مع ما كان صلى الله عليه وسلم أتى به من المدينة وكانت تمام المائة .

ثم حلق صلى الله عليه وسلم رأسه المقدس وقسم شعره فأعطى نصفه الناس الشعرة والشعرتين ، وأعطى نصفه الثاني كله أبا طلحة الأنصاري ، وضحى عن نسائه بالبقر ، وأهدى عمن كان اعتمر منهن بقرة ، وضحى صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم بكبشين أملحين ، وحلق بعض الصحابة ، وقصر بعضهم ، فدعا صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة ، وأمر صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ من البدن التي ذكرنا من كل بدنة بضعة ، فجعلت في قدر وطبخت ، فأكل هو وعلي من لحمها وشربا من مرقها ، وكان صلى الله عليه وسلم قد أشرك عليا فيها ، ثم أمر عليا بقسمة لحومها كلها وجلودها وجلالها ، وأن لا يعطي الجازر منها على جزارتها شيئا ، وأعطاه صلى الله عليه وسلم الأجرة على ذلك من عند نفسه ، وأخبر الناس أن عرفة كلها موقف حاشا بطن عرنة ، وأن مزدلفة كلها موقف حاشا بطن محسر ، وأن منى كلها منحر ، وأن رحالهم بمنى كلها منحر ، وأن فجاج مكة كلها منحر . ثم تطيب صلى الله عليه وسلم قبل أن يطوف طواف الإفاضة ، ولإحلاله قبل أن يحل في يوم النحر ، وهو السبت المذكور ، طيبته عائشة رضي الله عنها بطيب فيه مسك بيديها ، ثم نهض صلى الله عليه وسلم راكبا إلى مكة في يوم السبت المذكور نفسه فطاف في ذلك اليوم طواف الإفاضة وهو طواف الصدر قبل الظهر ، وشرب من ماء زمزم بالدلو ومن نبيذ السقاية .

ثم رجع من يومه ذلك إلى منى فصلى بها الظهر .

هذا قول ابن عمر ، وقالت عائشة وجابر : بل صلى الظهر ذلك اليوم بمكة ، وهذا الفصل الذي أشكل علينا الفصل فيه بصحة الطرق في كل ذلك ، ولا شك أن أحد الخبرين وهم ، والثاني صحيح ، ولا ندري أيهما هو .

وطافت أم سلمة في ذلك اليوم على بعيرها من وراء الناس وهي شاكية استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فأذن لها ، وطافت أيضا عائشة ذلك اليوم ، وفيه طهرت وكانت رضي الله عنها حائضا يوم عرفة ، وطافت أيضا صفية في ذلك اليوم ثم حاضت بعد ذلك ليلة النفر ، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى وسئل صلى الله عليه وسلم حينئذ عما تقدم بعضه على بعض من الرمي والحلق والنحر والإفاضة ؟

فقال في ذلك : « لا حرج » ، وكذلك قال أيضا في تقديم السعي بين الصفا والمروة قبل الطواف بالكعبة ، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أنزل لكل داء دواء إلا الهرم ، وعظم إثم من اقترض عرض مسلم ظلما ، فأقام بمنى باقي يوم السبت ، وليلة الأحد ، ويوم الأحد ، وليلة الاثنين ، ويوم الاثنين ، وليلة الثلاثاء ، ويوم الثلاثاء ، وهذه هي أيام منى ، وهي أيام التشريق ، يرمي الجمرات الثلاث كل يوم من هذه الأيام الثلاثة بعد الزوال بسبع حصيات كل يوم لكل جمرة يبدأ بالدنيا وهي التي تلي مسجد منى ، ويقف عندها للدعاء طويلا ، ثم التي تليها وهي الوسطى ويقف عندها للدعاء كذلك ، ثم جمرة العقبة ولا يقف عندها ويكبر صلى الله عليه وسلم مع كل حصاة , وخطب الناس أيضا يوم الأحد ثاني يوم النحر ، وهو يوم الرءوس ، وقد روي أيضا أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم أيضا يوم الاثنين وهو يوم الأكارع ، وأوصى بذوي الأرحام خيرا ، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تجني نفس على أخرى .


واستأذنه العباس عمه في المبيت بمكة ليالي منى المذكورة من أجل سقايته فأذن له صلى الله عليه وسلم ، وأذن للرعاء أيضا في مثل ذلك اليوم . ثم نهض صلى الله عليه وسلم بعد زوال الشمس من يوم الثلاثاء المؤرخ ، وهو آخر أيام التشريق ، وهو الثالث عشر من ذي الحجة ، وهو يوم النفر إلى المحصب ، وهو الأبطح ، فضربت له قبته ضربها أبو رافع مولاه ، وكان على ثقله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان صلى الله عليه وسلم قال لأسامة أن ينزل غدا بالمحصب خيف بني كنانة ، وهو المكان الذي ضرب فيه أبو رافع قبته وفاقا من الله عز وجل دون أن يأمره صلى الله عليه وسلم بذلك .

وحاضت صفية أم المؤمنين ليلة النفر بعد أن أفاضت فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل : { أفاضت يوم النحر } ؟ فقيل : نعم ، فأمرها أن تنفر ، وحكم فيمن كانت حالها كحالها أيضا بذلك . وصلى صلى الله عليه وسلم بالمحصب الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة من ليلة الأربعاء الرابع عشر من ذي الحجة ، وبات بها صلى الله عليه وسلم ليلة الأربعاء المذكورة ، ورقد رقدة ، ولما كان يوم النحر وهو يوم النفر رغبت إليه عائشة بعد أن طهرت أن يعمرها عمرة منفردة ، فأخبرها صلى الله عليه وسلم أنها قد حلت من عمرتها وحجتها ، وأن طوافها يكفيها ويجزئها لحجها وعمرتها فأبت إلا أن تعتمر عمرة مفردة ، فقال لها صلى الله عليه وسلم : {ألم تكوني طفت ليالي قدمنا } ؟ قالت : لا ، فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أخاها بأن يردفها ويعمرها من التنعيم ففعلا ذلك ، وانتظرها صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة ، ثم انصرفت من عمرتها تلك ، وقال لها : { هذا مكان عمرتك } ، وأمر الناس أن لا ينصرفوا حتى يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت ، ورخص في ترك ذلك للحائض التي قد طافت طواف الإفاضة قبل حيضها .

ثم إنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة في الليل من ليلة الأربعاء المذكورة فطاف بالبيت طواف الوداع لم يرمل في شيء منه سحرا قبل صلاة الصبح من يوم الأربعاء المذكور .

ثم خرج من كداء أسفل مكة من الثنية السفلى ، والتقى بعائشة رضي الله عنها وهو ناهض في الطواف المذكور وهي راجعة من تلك العمرة التي ذكرنا ثم رجع صلى الله عليه وسلم ، وأمر بالرحيل ومضى صلى الله عليه وسلم من فوره ذلك راجعا إلى المدينة ، فكانت مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة مذ دخلها إلى أن خرج إلى منى إلى عرفة إلى مزدلفة إلى منى إلى المحصب إلى أن وجه راجعا عشرة أيام ، فلما أتى ذا الحليفة بات بها ثم لما رأى المدينة كبر ثلاث مرات ، وقال : { لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون ، صدق الله وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده} ، ثم دخل صلى الله عليه وسلم المدينة نهارا من طريق المعرس ، والحمد لله رب العالمين كثيرا ، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وسلم .


كتاب حجة الوداع
مقدمة المؤلف | الفصل الأول | الفصل الثاني | الفصل الثالث