قصة الحضارة - ول ديورانت - م 9 ك 5 ف 22


 صفحة رقم : 12665   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> فولتير والله


الفصل الثاني والعشرون



فولتير والمسيحية



1734 - 1778



1- فولتير والله


قد ندرس فيما بعد الأنشطة والآراء والاهتمامات غير الدينية في تلك النار المدمرة التي يقال لها فولتير، والتي تتأجج بين الحين والحين في فرني Ferne ونكتفي هنا في تلخيص آرائه في الدين وحربه ضد المسيحية. ولن نذكر هنا شيئاً لم يذكر مائة مرة من قبل. كما أنه لم يقل عن المسيحية شيئاً لم يسبق قوله. وكل ما في الأمر أنه تكلم انطلقت كلماته مثل اللهب سرى في أوربا، وأصبحت قوة شكلت عصره وعصرنا. وكان طبيعياً أن يرتاب في العقيدة المسيحية، لأن الدين قصد به تهدئة الفكر لا إثارته. وكان فولتير هو الفكر مجسداً فهو قلق مضطرب يهدأ ولا يسكن. ورأيناه في سيرة حياته ينضم إلى ذوي العقول المتشككة في The Tempole يغذي شكوكه بين الربوبيين في إنجلترا ساعياً وراء العلم في سيري، متبادلاً رسائل الإلحاد مع فردريك في ألمانيا. ومع ذلك فإنه حتى بلغ السادسة بعد الخمسين احتفظ بإلحاده أو كفره مظهراً عارضاً أو لعبة أو تسلية خاصة. ولم يشن على الكنيسة الحرب علانية. بل على النقيض من ذلك دافع علناً وتكراراً عن أساسيات العقيدة المسيحية: إله عادل وإرادة حرة والخلود. وإذا لم نعده كذوباً (وغالباً ما كان طذلك) فإنه احتفظ حتى وفاته بإيمانه بالله وبقيمة الدين. ويمكن أن نقتبس عنه لأي غرض تقريباً، لأنه مثل أي حي، نما وتغير واضمحل. ومن هنا



 صفحة رقم : 12666   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> فولتير والله


احتفظ في سن الخمسين بما اعتنق من آراء في سن العشرين، أو في سن السبعين، بآرائه حين كان في الخمسين؟ إن فولتيرناقض نفسه إلى أبعد الحدود، لأنه عمر طويلاً وكتب كثيراً، فكانت آراؤه من فيض رؤيته كلما تقدمت به السنون(1). وفي سيري حوالي 1734 حاول أن يصوغ أفكاره حول الأشياء الأولى والأخيرة في "رسالة في الميتافزيقا" وقبل أن يجعل بالي المقارنة مأوفة لدى اإنجليز بعدة سنين ذكر فولتير لأنه من المنطق التسلسم بذهن ذي عاقل في الكون مثلما هو منطقي افتراض أن الساعاتي قد صنع الساعة. ففي كلتا الحالتين رأى دليلاً على التصميم والتخطيط في تهيئة وسائل معينة لغايات بعينها. ولكن كما أن الساعة ولو أنها من تصميم العقل تعمل وفق قوانين ثابتة، فكذلك الكون. وليس ثمة معجزات. ولكنه إلى حد ما لم يستطع أن يطرح جانباً الشعور بأن الإرادة الإنسانية، بطريقة خفيفة ولدرجة بسيطة حرة. على الرغم من أنه عرف تماماً أن الاختيار الحر المطلق حين يتصرف في عالم ميكانيكي لابد أن يفسد آليته أو طبيعتة تريب أجزائه. والذهن شكل من أشكال المادة وظيفة من وظائفها. ويقول فولتير متبعاً في ذلك لوك. "ينبغي أن نقرر أنه من اليسير جداً على الله أن يضيف إلى المادة فكراً.(2) وقدرة المادة على التفكير ليست معجزة أكبر من إمكان تأثير الذهن غير المادي على الجس المادي. والنفس ليست إلا حياة الجسم وتفنى بفنائه، وليس ثمة وحي مقدس سوى الطبيعة نفسها، وهذا كافٍ، وهو معين لا ينضب. وقد يكون ثمة بعض النفع في الدين ولكن الرجال الأريب لا يحتاج إليه تعزيزاً لفضيلة. وغالباً ما استخدمه رجال على مدى التاريخ لإرباك أذهان الناس، على حين ابتز الملوك أموالهم. وينبغي تعريف الفضيلة على أساس الخير الاجتماعي لا على أساس طاعة الله، ويجب ألا تتوقف على الثواب والعقاب بعد الموت. وقرأ فولتير في هذه الصفحات المس والسبعين على مدام ي شاتيليه



 صفحة رقم : 12667   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> فولتير والله


التي يبدو واضحاً إنها تشجعه على نشرها. ويبدو أنه أقرها على ذلك وطرح المخطوطة جانباً، فلم تنشر قط طيلة حياته. وفوق هذا اصبح مقتنعاً بأن أية يتافيزيقا وأية محاولة لتفسير أصل العالم والإنسان وطبيعتهما ومصيرهما عن طريق العقل ستكون إلى الأبد فوق اقة البشر. قرأ الفلاسفة ولكن لم ترقه مناهجهم، وذهب إلى أن "الأقدمين قالوا كل شيء في الميتا فيزيقا وفي الأخلاق، وأننا دائماً نعارضهم أو نكررهم. وكل الب الديثة من هذا النوع هي مجرد تكرار معاد(3)" ولابد أنه تأثر بمنهج سبينوزا لأنه أجهد نفسه في دحضه وتفنيده. وعلى الرغم من تنصله وإنكاره لم يستطع أن يتغلب على ولعه بالخوض قي المسائل العيصة المستعصية. وبين الحين والحين فيما بين عامي 1734-1756 أخذ ينقب في الميتافيزيقا واللاهوت. وظل حتى آخر حياته يؤسس إيمانه بالله على حجة التخطيط أو التبير منذ البداية، ولو أنه عمد إلى تسفيه الترف في الغائية (الاعتقاد بأن كل شيء في الطبيعة مقصود به تحقيق غاية معينة). "قد لا أومن بأن الأنوف قد صنعت لتكون جسراً مريحاً للنظارات، ولكني مقتنع بأنها صنعت لنشم بها(4)". "وأليس من أشبع السخف والحماقات أن نؤكد أن العي لم تصنع لتبصر والإذن لتسمع والمعدة لتهضم؟(5) وعندما طرق مؤلف شاب الباب Les Delices (1757) وقدم نفسه إلى فولتير على أنه "لحد شاب مستعد لخدمته، أجاب فولتير لي الشرف أن أستخدم ربوبياً، وعلى الرغم من تعارض آرائنا سأقدم لك طعام العشاء الليلة، وأقدم لك العمل غداً، سأستفيد من ذراع وعضلاتك لا من رأسك وهنك.(6) أنه سمى نفسه ربوبياً ولكنه كان مؤمناً، أي أن إلهه لم يكن قوة غير مجسمة تماثل الطبيعةبشكل أو بآخر، ولكنه عقل واع يصمم العالم ويحكمه. وبعد 1750 بصفة عامة أطلق على نفسه أنه مؤمن بوجود إله.(7) وفي القاموس الفلسفي في مقال "الإيمان بوجود الله



 صفحة رقم : 12668   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> فولتير والله


"كتب على أساس يمكن أن يبرر وصف وندرسيه بأنه رجل شديد التمسك بالدين: "إن المؤمن الموحد باللهرجل مقتنع كل الاقتناع بوجود كائن أسمى فاضل قوي معاً، خلق كل الموجودات يعاقب على الخطايا دون قسمة، ويثبت على صالح الأعمال في رفق وحنان. إن المؤمن لا يعرف كيف يعاقب الله وكيف يثبت، وكيف يعفو، ويغفر لأنه لم تبلغ به الجرأة حداً يخدع معه نفسه بأنه يدرك كيف يتصرف الله، ولكنه يعلم أن الله يفعل وإن الله عادل. إن العقباتب التي تواه العناية الإلهي لا تزعزع إيمانه لأنها مجرد عقبات ضخمة وليسلت اختبارات إنه يخضع نفسه لتلك العناية الإلهية، ولو لأنه لم يدرك منها إلا بعض آثارها وبعض المظاهر. إنه يحكم على الأشياء التي لا يراها بالأشياء التي يراها. ومن ثم فإنه يرى أن هذه العناي الإلهية تحيط بكل مكان وبكل زمان. وقد اتحد في هذا المبدأ مع سائر الكون. فإنه لا ينظم إلى أي من الشيع أوالطوائف التي تناقض نفسها. إن ديانته هي أقدم الديانات وأوسعها انتشاراً، لأن العبادة البسيطة لله سبقت كل الأساليب والطرق في العالم...أنه يؤمن بأن الديانة لا تقوم على آراء الميتا فيزيقا المبهمة التي يصعب سبر غورها، ولا على الزخارف العقيمة، بل تقوم على العبادة والتقديس والعدالة. إن عمل الخير عبادته والخضوع لله مذهبه...إنه يسخر من لوريتو ومكة ولكنه يغيث الملهوف ويدافع عن المظلوم(8). فهل كان فولتير مخلصاً في هذه الاعترافات؟ إن بعض الباحثين ينسبها إلى الحيطة والحذر، أو إلى الرغب في التحول إلى الإلحاد طوة خطوة،(9) أو إلى أمل في أن يقلل غرس الإيمان الديني في خدمة من السرقة والاختلاس. وهناك في كتاب فولتير قطع يبدو أنها تبرر هذا التفسير (إذا كان لديك قرية واحدة لتحكمها، فينبغي أن يكون لها دين)(10). وإن امكثر الملاحظات اقتباساً عنه يبدو أنها تهبط بالديانة إلى مجرد منفعة عامة، ولكن سياق الكلام يلقىي على هذا البيت ضوء أكثر إشراقاً وإيضاحاً. أنه يوجد في



 صفحة رقم : 12669   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> فولتير والله


رسالة إلى مؤلف الدالين الثلاثة "إذا لم يكن الإله موجوداً فيجب أن نبتدعه،ولكن الطبيعة بأسرها تصبح فينا أنه موحود فعلاً.(11)" والقصيدة كلها دعوة إلى الإيمان. إن فولتير يعود إلى قضية الإيمان بوجود إله واحد المرة بعد المرة، وكأنما يرد شكوكه. وفي السنوات العشرة الأخيرة من حياته كتب ضد الإلحا قدر ما كب ضد التقليدية في نفس الوقت شن حرباً ضد المفهوم المألوف للرب بأنه إله الانتقام الذي قدر على معظم الناس الحلود في عذاب الجحيم: "سيكون الجنس البشري تعساً بائساً إلى أبعد حد إذا ألف ارتكاب الفظائع قدر ما يألف التصديق بها(12) وإذا كان الرب قد خلق الإنسان على صورته فقد جازيناه على ذلك خير الجزاء(13) بتصويره على صورتنا. ولا شيء يوضح مفهوم الإنسان عن نفسه أكثر من فكرته عن الله". وحاول فولتير جاهداً أن يوفق بين إيمانه بإله واحد وبين وود الشر. وفي محاولاته لتبرير العدل الإلهي لوجود الشر اقترب ممن تفاؤل ليبنتز (الذي عمد إلى تسفيهه في كانديد) إن الشر من وجهة نظر الجزء قد يكون خيراً، وعلى الأقل ليس شراً في منظور الكل. إن هذا ليس أحسن عالم يمكن تصوره بل أكثر ما يتحمل وجوده.(14) وكتب فولتير إلى فردريك 1738 يقول "إذا حسب كل شيء وقدر أحسن تقدير فإن في هذه الحياة متع لا تعد ولا تصى أكثر ما فيها من مرارة.(15)" ولكن هذا كتبفي السنوات صحته وعافيته في اواسط عمره. ولم يؤمن بأن الإنسان شرير بالطبيعة بل على النقيض من ذلك اعتقد أن في الإنسان إحساساً فطرياً بالعدالة وشعوراً طيباً بالود نحو الآخرين(16) وهنا فوارق وتناقضات لا حصر لها في الأفكار الأخلاقية لدى الجنس البشري وفي عاداته. ولكن الشعوب تستنكر قتل الوالدين وقتل الإخوة والأخوات(17). وفي بوتسدام 1752 نظم قصيدة "القانون الطبيعي" (نشرت في 1756) التي لخصت ديانته الطبيعية. "وحيث اتخذت القصيدة شكل رسالة إلى فردريك



 صفحة رقم : 12670   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> فولتير والله


الثاني المتشكك فإنه من الصعب أن تكون محاولة لإرضاء الأتقياء، ولكنها تقترب من التقوى العقيدة القومية أكثر من أي شيء آخر طبعه فولتير. إنها تئكد الإيمان بالله الخالق فحسب ولكنها كذلك تصف الإحساس الخلقي عن الإنسان بأنه من غرس الرب(18). إنه هما يتحدث كمل يتحدث روسو ويستبق حماسة كانت للسلطان المطلق للظمير. أنه يحدد ديانته في سطر واحد: "أعبد الله وكن عادلاً وأحب وطنك".(19) ويعرض تنوع العقيدة الدينية ويرثي للكراهية والتعصب ويدعو إلى تسامح متبادل بين مختلف المذاهب والشيع، ويختتم بدعاء كان يمكن أن يقره أي قديس. وفي 23 يناير 1759 أمر برلمان باريس بإحراق القصيدة علناً. ويحتمل أن يكون هذا بسبب أن بعض أبياتها استنكر الجاسنية. وقد تخلص إلى القول بأنه حتى عام 1751-إلى أن يبلغ فولتير السابعة والخمسين تورع عم أي هجوم مباشر صريح على المسيحية أو الكنيسة الكاثوليكية. فماذا أثاره حفزه لشن الحرب في نفس الوقت الذي جنح فيه معظم الثائرين إلى السلم؟ أنه كان وقت صدور دائرة المعارف، والتفسيرات الدينية التقليدية لزلزال لشبونة، والإعدام الوحشي لكل من جان كالا Calas وشيفالييه دي لابار De La Barre.



 صفحة رقم : 12671   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> فولتير ودائرة المعارف


2- فولتير ودائرة المعارف


كان فولتير في بوتسدام حين نشر المجلد الأول من دائرة المعارف (1751). ولابد أنه قرأ وهو مغتبط أشد الاغتباط السطور التي كتبها دالمبير تقديراً لفولتير وثناء عليه في "تشهير" حيث قال "قد اوفي هذه العبقرية الفذة حقها من الإجلال والمديح مما لقيه كثيراً من مواطنيه ومن الأجانب ومن أعدائه، ومما ستضيف إليه الأجيال المقبلة ثيراً حين يعود غير قادر على الاستمتاع بالإطراء والثناء". ورد فولتير على هذه التحية في رسالة مؤرخة 5 سبتمبر 1752 إلى دالمبير قال فيها "إنك وديدرو تقومان بعمل



 صفحة رقم : 12672   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> فولتير ودائرة المعارف


سيكون فيه فخار فرنسا ومجدها، وعار وخزي لهؤلاء الذين سضطهدونكما أو يقفون في طريقكما. أنا لا أعترف من بين الفلاسفة البلغاء الأبك وبة" وعاهد نفس على مساندته تأييده، ولم يضيع أي فرصة لجذب الأنظار إلى الشروع باعتباره "عملاً ضخماً خالداً يتهم قصر الحياة الإنسانية ويبدد به(20)". ومهما يكن من أمر انشغال فولتير بأعمال الكبر-قرن لويس الرابع عشر، ورسالة في الاعتراف والعادات، وتورطه مع هرشك وموبرتوي وفردريك فإنه وجد فسحة من الوقت ليرسل إلى دالمبير (1753) بمقالات موجزة: "مجرد مادة يمكنك تبويبها كيف تشاء وضمها إلى الصرح الخالد الذي تقيمه. إني أمدك ببعض لبنات تضعها في أية زاوية في البناء"(21). وتوسل إلى الأصدقاء ذوي النفوذ أن يعملوا على حماية المحررين. وفي 1755 كتب إلى دالمبير "ما دام فيّ عرق ينبض بالحياة سأكون في خدمة مؤلفي الموسوعة اللامعين، وإني لاعتبره شرفاً كبيراً لي أن أسهم ولو بقدر ضئيل في أعظم وأجمل أثر باق للأمة للأدب"(22) وارفق بهذه الرسالة مقالات عن النار والقوة والفسوق والعبقرية الفرنسية والذوق الفرنسي. وأطلع على المجلدات الخمسة الأولى مدققاً فاحصاً، فوجد أجزاء كثيرة جديرة بالثناء، كما حز رثى لبعض الأجزاء الأخرى، وطلب إلى المحررين أن يطالبوا كل الكتاب بالوضوح والإيجاز، وحذر دالمبير (الذي ظنه خطأ رئيس التحرير) بقوله "إن معاويك ضعاف فهناك جنود غير صالحين في جيش القائد العظيم..ويؤسفني أن أجد في مقال "الجيم" أن الكاتب يعلن أن الجحيم واردة في شريعة موسى، وأقسم لك الآن بكل الشياطين أن هذا غير صحيح(23). وسرعان ما بعث بعدة مقالات صغيرة وببث ضخم في التاريخ. وحرص قسيساً عالماً من لوزان هو أنطوان نوى دي بولييه Noe de Polies على أن يكتب لدائرة المعارف مقالات عن "المايين والسحر والسحرة وعن المخلص



 صفحة رقم : 12673   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> فولتير ودائرة المعارف


المنتظر"، وكلها تعج بالهرطقة في هدوء وقد رأينا كيف أن فولتير كان مسئولاً إلى حد ما عن مقال دالمبير عن نيف 1757، وخفف من هذه العاصفة التي ثارت بسبب هذه المقالات بدوة الكاهن المخدوع إلى العشاء. وحين أوشكت الكارثة أن تنزل بمشروع دائرة المعارف وتهدد بتوقفها عن الظهور، كتب إلى ديدرو: "أي ديدرو الشجاع ودالمبير الجسور: امضيا في طريقكما..هاجما الوغاد، واقضيا على تخرصاتهم الجوفاء وسفستهم الحقيرة وأكاذيبهم التاريخية تناقضاتهم وسخافاتهم التي لا حصر لها...لا تدعوا رجال الفر أرقاء مستعبدين لمن لا يتحلون بشيء من الفكر والذكاء. إن الجيل القادم سيكون مديناً لكما بالعقل والحرية"(24). ولم يجب ديدرو على هذه الرسالة، وأصر دالمبير على الانسحاب من المشروع. أما فولتير فخانته شجاعته وساءه صمت يدرو، ومن ثم قرر أن ينفض يديه من العمل. وفي 6 أو 7 فبراير كتب ثانية إلى ديدرو يطلب إليه إعاد المقالات التي لم تنشر، فأجاب ديدرو بأن الخطوطات عند دالمبير ولكن إذا كرر فولتير طلب إعادتها إليه فأته لن ينسى هذه الإساءة. وفي 26 فبراير كتب فولتير إلى دارجننال يقول: "إني أحب ديدرو واحترمه ولكني غاضب". ولكنه كتب إليه مرة أخرى في 12 مارس: "إذا التقيت بهذا الرجل اليب ديدرو، فأبلغ هذا العبد المسكين أني أغفر له قدر ما أشفق عليه من كل قلبي"(25) وفي مايو أرسل دالمبير المقالات المطلوبة إلى فولتير. ولك دالمبير استأنف العمل في دائرة المعارف في شهر يونية، فأرسل فولتير المقالات إليه ثانية، ولكنه طلب عدم ذكر أسمه إذا نشرت. واقترح نقل المشروع إلى بلد آخر لا يتعرض فيه لعنت الرقابة فعلاً أو توجساً. ورأى ديدرو أن هذا الاقتراح غير عملي. وفقد فولتير ثقته في قيمة موسوعة ضخمة باهظة التكاليف وسيلة لنشر الفكر المتحرر. وفي 16 يونية 1758



 صفحة رقم : 12674   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> فولتير ودائرة المعارف


أبلغ ديدرو أن مشاغله الأخرى قد تجعل من المتعذر عليه أن يسهم في الموسوعة فضلاً عن أن تأزم الأمور بين المحرري والحكومة والكنيسة "قد يضطر الإنسان إلى الكذب، وأنا لنلقيى الاضطهاد والتعذيب إذا لم نمضِ في الكذب"(26) إن الضجة التي أحدثها كتاب هلفشيوس "الذكاء" (في يوليه) أزعجت الثائر العجوز، فكتب رداً على ذلك الكتاب. وفي 16 نوفمبر أبلغ ديدرو أنه ابتاع داراً في فرني واعتزم أن يقيم هناك ويحيا حياة ريفية هادئة. فهل كان يخدع نفسه، أو أنه كان يدبر استئناف القتال بوسائل أخرى؟



 صفحة رقم : 12675   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> لاهوت الزلازل


3- لاهوت الزلازل


بينما كانت الموسوعة تكبو وتفيق وتختفي وتنبعث من جديد ارتعدت فرائص الفلسفة الوربية نتيجة لولوال لشبونة ففي الساعة التاسعة وأربعين دقيقة من صباح أول نوفمبر 1755يوم عيد كل القديسين-هزت الآض كتفيها في البرتغال وشمال أفريقية. وفي ست دقائق تهدمت ثلاثون كنيسة وألف منزل، ومات خمسة عشر ألف رجل، وأصيب مثلهم باصابات خطيرة، في واحدة من أجمل العواص في العالم. ولم يكن ثمة شيء جديد لم يسبق له ثيل في هذه المذبحة الرهيبة التي حدث فيها الموت بالجملة. ولكن كانت هناك بعض ملابسات وظروف محيطة حيرت رجال اللاهوت، وأقلقت بالهم. لماذا اختار هذا اللغز المحير مثل هذه المدينة الكاثوليكية، ومثل هذا الاحتفال المقدس، في مثل هذه الساعة التي اجتمع فيها كل المواطنين الاتقياء تقريباً لحضور القداس؟ ولماذا أبقى وسط هذا الدمار الشامل على دارسيا ستيو دي كارفالو ميللو مركيز بومبال فيما بعد-الوزير الآمر الناهي الذي كان ألد أعداء اليسوعيين في أوربا بأسرها؟ وأوضح مالاجريدا أحد اليسوعيين البرتغاليين أن الزلزال وما أعقبه من أمواج عاتية مدمرة كانا عقاباً من الله على الرذيلة التي استشرت في



 صفحة رقم : 12676   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> لاهوت الزلازل


لشبونة(27). ولكن هل كان الآثمون هم وحدهم الذين ذهبوا للصلاة في الكنائس في هذا الصباح الرهيب؟ ولماذا هلك كثير من القساوسة المتبتلين والراهبات المتفانيات في الإخلاص للدين في الزلزال والحريق؟ وربما هلل المسلمون للكارثة باعتبارها غنتقاماً إلهياً من محاكم التفتيش في البرتغال، ولكن الزلزال دمر المسجد الكبير الذي يحمل اسم المنصور في الرباط. وعزا بعض الكهنة البروتستنت في لندن هذه الكارثة لاستنكار السماء لجرائم الكاثوليك ضد الإنسانية. ولكن في 19 نوفمبر من نفس العام دمر الزلزال خمسة عشر ألف منزل في بوسطن مساشوست موطن الحجاج والبيوريتانيين. وأعلن وليم ووربرتون أن مذبحة لشبونة "أبرزت عظمة الله في أبهى صورها(28) وألقى جون ويزلي موعظة عن أسباب الزلازل علاجها قال فيها "إن الخطيئة هي السبب المعنوي للزلازل مهما كان سببها الطبيعي...إن الززل هي نتيجة اللعنة التي صبتها على الأرض خطيئة آدم وحواء الأولى(29)". واستشاط فولتير غضباً لهذه التفسيرات، ولكنه هو نفسه لم يجد شيئاً يوفق بين الحادث وبين إيمانه بإله عادل "أين الآن قول ليبنتز "أحسن العوالم الممكنة" أو قول بوب "كل ما هو موجود هو حسن"؟(30) ونظم فولتير كرد فعل غاضب لتفائله السابق أعظم قصيدة له "كارثة لشبونة" اختيار للحقيقة المقررة "كل شيء حسن" وهنا نغتنم الفرصة لنقطتف نموذجاً من فكرة شعره: "آه أيتها المخلوقات الفاتنة التعسة. أيها الأرض المخزنة، أيها الجمع الرهيب من البشر. أيها المستقر الخالد لل البلايا العقيمة الفاجعة، أيها الحكماء الحمقى الذين ينادون بأعلى صوت كل شيء حسن، تعالوا وتأملوا كل هذه الخرائب الأطلال الرهيبة. وهذا الحطام وأشلاء ورماد الجثث بني جنسكم، وأنظروا إلى النساء والأطفال الذين حصدهم الموت بالجملة، إلى الأعضاء المتناثرة تحت الأعمدة المحطمة. لقد التهمت الأرض مائة ألف حالفهم النحس، لقد سالت دماؤهم وتمزقت أوصالهم، واندفعوا وهم أحياء



 صفحة رقم : 12677   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> لاهوت الزلازل


تحت السقوف التي انهارت عليهم، فأنهوا دون أية مساعدة أيامهم التي تبعث على الأسى في عذاب كريه. هل تواجهون صيحاتهم الضعيفة التي تؤذن بالفناء، والدخان المتصاعد في هذا المنظر البشع بقولكم هذا رى وفق قوانين أبدية طبقاً لمشيئة الله المطلقة الخيرة؟ وهل تقولو نأما هذه الأكداس من الضحايا لقد انتقم الله منهم إن موتهم جزاء جرائمهم؟". ولكن أية جريمة وأي خطأ ارتكب هؤلاء الأطفال الذين اغتالهم الزلزال وسالت دماؤهم وهم في أحضان امهتاتهم؟ وهل كانت رذائل لندن أو باريس أقل من رذائل لشبونة؟ ومع ذلك دمرت لشبونة وباريس ترقص؟ ألم يكن في مقدور الله العليم الخبير أن يصنع عالماً ليس فيه هذا الشقاء الذي لا معنى له؟ إني اجهل إلهي ولكني احب الجنس البشري. إن الشاعر يتامل في عالم الحياة فيرى في كل مكان وعلى ألف صورة متباينة تنازعاً على البقاء يلقى فيه كل كائن حتفه إن عاجلاً أو آجلاً. إن هذه الخلاصة المريرة لعلم الحياة (للبيولوجيا) تتطلب أن نوردالنص: "إن الصقر الضاري ينقض على فريسته المخلوعة الفؤاد ويتلذذ مبتهجاً بالتهام أوصالها الدامية، وكل شيء يبدو في نظره على مايرام، ولكن سرعان ما يأتي نسر كاسر يلتهم بمنقاره الحاد الصقر بدور، ثم يعاجل الإنسان هذا النسر المتكبر بطلقة تصيب منه مقتلاً. ويتوسد الإنسان التراب على أرض المعركة ينزف الدم وقد أثخنته الضربات سط كومة من الموتى. وهناك يكون غداء رهيباً للطيور النهمة. وهكذا تئن الدنيا بكل من فيها حيث ولدت كلها لتشقى وتعاني، ويكون مصيرها الوت الكتبادل. وفي هذه الفوضى القاتلة تبنى على تعاسة البعض سعادة المجموع، أية سعادة هذه؟ أيها المخلوق الفاني الضعيف البائس، أنك تصبح في نعمة حزينة "إن كل شيء حسن على ما يرام" إن الكون يقدم الكذبة، وقلبك يفند مائة مرة خطأ ذهنك. إن العناصر والحيوان والإنسان كلها في صراع. فلنعترف بأن الشر ملأ الأرض واستشرى فيها.



 صفحة رقم : 12678   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> لاهوت الزلازل


كيف يتفق هذا الصراع الكوني الشامل وهذا الموت المذل المؤلم مع الإيمان بإله خير طيب؟ إن الله موجود، ولكنه لغز محير. إنه يبعث بابنه ليخلص الجنس البشري، ولكن الأرض والإنسان بقيا على ماهما عليه على الرغم من تضحيته. ماذا يمكن أن يقول أوسع العقول مدى في هذا؟ لا شيء فإن كتاب القدر محجوب عن أبصارنا. فالإنسان وهو الغريب الأجنبي بالنسبة لنفسه، مجهول لدي الإنسان. من أنا؟ وأين أكون؟ إلى أين أنا ذاهب؟ ومن أين أتيت؟ إن الذرات تتعذب على هذه الكومة من الطين، ويحصدها الموت ويلعب بها القدر. ومع ذلك فإنها الذرات المفكرة التي قاست اعينها ورصدت ما في السماوات بهدي من الفكر. إننا خترق بأذهاننا وعقولنا هذا الكون اللاهائي، ولكننا لا نستطيع للحظة واحدة أن نرى أونعرف أنفسنا". وتلك بطبيعة الحال هي النغمة التي ضرب عليها بسكال قبل مائة عام في نثر أروع من شعر فولتير. وكان فولتير قد نبذ يوماً بسكال واستهجنه، ولكنه الآن يردد تشاؤمه. وعلى أساس هذا التشاؤم نفسه خلص بسكال إلى قوله: فلنركن إلى العقيدة المسيحية ونتعلق بالأمل. وختم فولتير قصيدته في الأصل بيتين كئيبين رواقيين: "اذا يجب علينا أن نفعل أيها الفانون ؟ يجب علينا أن نقاسي ونخضع في صمت ونعبد ونموت". واحتج أصدقاؤه بأن هذه الخاتمة البائسة غير محتملة فغير السطر الأخير إلى أخضعوا واعبدوا وأملوا وموتوا ولم يشعر أحد بالرضا فاستسلم وأضاف 29 بيتاً، وأسلم نفسه للعنياية الإلهية ؤمناً بأن "الله وحده على حق". وعلى الرغم من ذلك فإن القصيدة لم تذهل المتدينين فقط، بل أذهلت الفلاسفة كذلك. فإن مثل هذه النغمة الكئيبة الجوعة يبدو أنها أحرجت الفلاسفة وأرسل روسو إلى فولتير رسالة ويلة بليغة يوضح فيها إن كل ما تعاني الإنسانية من علل وشرور، إن هو إلا نتيجة لأخطاء البشر، وأن زلزال لشبونة هو عقاب عادل للإنسان لتخليه عن الحياة الطبيعية



 صفحة رقم : 12679   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> لاهوت الزلازل


وإقامته في المدن، ولو أن الناس التزموا الحياة البسيطة في القرى المتفرقة في دور متواضعة فلربما كانت الضحايا قليلة نسبياً، وينبغي أن نؤمن بأن الله طيب خير، هذا كما قال جان جاك هو البديل الوحيد للتشاؤم القاتل، وأن نستمر مع ليبنتز، على الإيمان بأنه حيث إن الله خلق هذا العالم، فلابد أن يكون كل شيء فيه على المدى الطويل وبالنظرة البعيدة حقاً وصدقاً. وحصل أحد أصحاب المطابع على هذه الرسالة، ونشرها فلقيت أكبر الترحيب على اوسع نطاق، رداً بارعاً على قصيدة فولتير، ولزم فولتير الصمت لمدة أطول مما كان مألوفاً. ولما عاد للخوض ثانية قي موضوع التفاؤل خرج الناس بأروع أعماله وهو كتاب ظل حديث العالم لمدة جيل، وهو الآن أعظم وأبقى أثر ورمز لفولتير.



 صفحة رقم : 12680   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> كانديد


4- كانديد


نشر هذا الكتاب في اوائل عام 1759 تحت أسم Candide أو التفاؤل، مع الأيهام بأنه مترجم عن الألمانية عن كتاب دكتور رالف، مع اضافات وجدت في جيب الدكتور عند وفاته في ميندن Minden. وأمر المجلس الكبير بإحراق الكتاب فور صدوره تقريباً (5 مارس) وأنكر فولتير بطبيعة الحال أنه مؤلف. وكتب إلى قسيس صديق له في جنيف "لابد أن الناس فقدوا عقولهم لينسبوا إلى هذه المجموعة من الهراء. إن عندي ولله الحمد والشكر ما شغلني خيراً منه(31) ولكن فرنسا أجمعت على أنه ما كان في مقدور أحد غير فولتير أن يكتب "كانديد". فهنا كان النشر البسيط بشكل خداع الذي يتدفق برفق والذي يتميز بمرح خفيف وتهكم لاذع شيطاني مما يستطيع هو وحده أن يكتبه. وهنا وهناك في الكتاب قليل من الفحش والبذاءة وقليل من الأدب الداعر، وفي كل مكان عبارات هازلة غاضب مهلكة تنم على عدم التوقير. فإذا كان الأسلوب هو الرجل فلابد أن يكون هذا فولتير.



 صفحة رقم : 12681   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> كانديد


أنه يبدأ بريئاً، ولكنه سرعان ما ينم على العين النافذة البراقة: "في إقليم وستفاليا في قصر أنبل البارونات ثندر-تن-ترونخ Thunder-ten-Tronckh، عاش شاب حبته الطبيعة أحلى مزاج وأكرم خلق...وكان سديد الرأي صائب الحكم، إلى جاب ما تحلى به من بساطة بعيدة عن التكلف كل البعد، ولهذا السبب فيما أعتقد سمى "كانديد". أن الخدام القدامى في القصر أرتابو فب أن يكون ابن أخت البارةن من رجل طيب شريف من الجيران رفضت تلك الآنسة أن تتو من لأنه لم يكن يستطيع أن يصل بنسبه إلى أكثر من واحد وسبعين شريفاً. وكان غير أهل للزواج، ولكنه واف بالمراد في الفراش، وكان يتولى تربي الولد الوسيم غير الشرعي وتعليمه الأستاذ بانجلوس Pangloss (الكثير الكلام) الذي يستطيع أن يثبت إلى حد الإعجاب أنه ليس ثمة نتيجة دون علة أو سبب، وأنه في أحسن هذه العوالم الممكنة، فإن قصر البارون هو افخم القصور، وأن ميلادي أحسن بارونة يمكن وجودها (على الرغم من أنها تزن 350 رطلاً) وقال أنه يمكن إقامة الدليل على أنه لا يمكن أن تكون الأشياء على غير ما عليه لأن كا الأشياء خلقت لبعض الغيايات، فلابد أنها بالضرورة خلقت لأحسن الغايات. لاظ مثلاً أن الأنف شكلت للنظارة ولهذا نلبس النظارات، وواضح أن الأرجل صممت للجوارب ولهذا نلبس الجوارب...أن هؤلاء الذين يؤكدون أن كل شيء صحيح حق، يخطئون التعبير، وجدير بهم أن يقولوا أن كل شيء هو أفضل شيء". أن كانديد "أنصت في أنتباه شديد وآمن ضمناً" لأن الآنسة كونيجوند ابنة البارون كان واضحاً أنها أحسن وأجمل مخلوقة يمكن وجودها. وتجذبه إلى حبها ويقع في شراك غرمها، ويوسعه البارون ضرباً ويطرده من القصر. ويجوب كانديد الآفاق، ويأسره ضباط التجنيد، ويرغمونه على اللحاق بالجيش البلغاري (هنا يعود فولتير بذاكرته إلى اليش البروسي) "وهنا جعلوه ينعطف يميناً ويساراً وينزع بندقيته ثم يعيدها ويصوبها ويطلق



 صفحة رقم : 12682   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> كانديد


النار ويسير. وجلدوه ثلاثين ضربة بالعصا" أنه يشهد المعركة ثم يتخلى عنها، ويلتقي بالأستاذ بانجوس الذي كاد أن يفقد آخر جزء في انفه، وعما قريب سيفقد إحدى عينيه وإحدى اذنيه لافراطه من البغي الجميلة "باكت" التي اصابها داء عضال عن طريق العدوى من أحد الأخوة الفرنسيسكان العلماء كوردلييه، وكان قد انتقل إليه هذا المرض عن طريق العدوى من كونتيسة عجوز كانت قد أصيبت به من أحد قواد الفرسان الذي نقله عن مركيزة نسبته إلى أحد الغلمان كان ق أصيب به بالعدوى من أحد اليسوعين. وكان المرض قد انتقل إلى هذا الأخير من أحد رفاقكرستوفركولمبس(32). وتحطمت سفينة كانديد وبانجلوس بالقرب من لشبونة، ووصلا إلى الشاطئ ساعة خدوث الزلزال، وكتب لهما البقاء على قيد الحياة، ولكن محكمة التفتيش تقبض عليهما بتهمة الهرطقة، ويعدم بانجلوس شنقاً. أما كانديد فيتمكن من الهرب بمعونة كونيجوند التي كان الجنود قد اختطفوها ثم بيعت لأحد اليهود، ثم بيعت مؤخراً لأحد رؤسات محكمة التفتيش. وتمكن كانديد وكونيجوند من الهرب بمساعدة سيدة عجوز أخرست شكاواهما بقولها أنها كانت على وش أن يلتهمها الأتراك الذين كانوا يتضورون جوعاً في حصار آزور. وكانت قد قعت أسيرة في أيديهم، ولكن برحمة من القدر نصف الأعمى بدأوا بقطع ردف كل امرأة يمكن العثور عليها. وانتهى الحصار قبل المضي فيا لتجربة. وتختتم السيدة العجوز كلامها بقولها "كفا الآن عن النوح والتوجع لبؤسكما وتعاستكما، وابتهجا لأنكما تستطيعان الجلوس على ردفيكما كلهما". ويعبران المحيط الأطلني على أمل أن تكون الدنيا الجديدة أقل قساوة من القديمة. وفي بونس أيرس يستولي قائد الموقع على كونيجوند ويختص بها نفسه ويأمر بابعاد كانديد، فيدخل المستعمرة اليسوعية في باراجواي ويجد هناك شقيق كونيجوند الذي يهاجمه لمجرد تجاسره على التفكير بالزواج



 صفحة رقم : 12683   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> كانديد


منها، فيرديه كانديد قتيلاً، ويستأنف تجواله وحيداً بائساً، حتى يصل فجأة في وادٍ منعزل في بيرةو إلى "الدرادو" حيث يكثر الذهب إلى درجة لا يقدر فيها أحد قيمته. وهي أرض لا يوجد فيها مال ولا سجون ولا محامون ولا كهنة ولا أي صراع اقصادي. ويعمر أهلها السعداء لمائتي عام، وليس لهم ديانة إلا عبادة بسيطة لإله واحد. ويحمل كانديد بعض الذهب ويغادر المكان، ولا يزال قلبه يهفو إلى كونيجوند. ويبحر عائداً إلى أوربا ويصل إلى بور سموث ليجد من فوره أن أمير البحرين Byng قد أعدم رمياً بالرصاص لأنه خسر معركة. ويقول مارتن صديق كانديد الجديد أنهم يعتبرون من الحكمة في هذه البلاد أن يقتلوا أحد أمراء البحر بين الحين والحين ليستحثوا همم الآخرين ويشجعونهم(33).وعلم كانديد أن كوبيجوند في البندقية فيستقل السفينة إلأى إيطاليا ويكتئب ويحس بالضيق والحزن حين يسمع عما تعاني البغايا. ويستمع إلى غناء أصحاب الزوارق في فينيسيا ويخلص إلى أنه قد وجد بعض أناس سعداء. ولكن مارتن ينتهر بقوله "أنت لا تراهم في بيوتهمبين زوجاته اطفالهم. أن للأزواج ما يشغل بالهم ويحزنهم، لأصحاب الجندولات (الزوارق) ما يقلقهم كذلك. حقاً أن صاحب الزورق في الجملة أسعد حظاً من الدوج، ولكني أعتقد أن الفرق بينهما طفيف لا يستحق التفكير فيخه(34). إن كونيجوند ليست في البندقية. إنها في الأستانة ويهرع إليها كانديد ليجد أنها باتت الآن أمة عوزاً شوهاء. ومع ذلك يحررها ويتزوجها. ويلحق بانجلوس الذي لم تقض عليه محكمة التفتيش تماماً بتلميذه، ويستأنف دفاعه عن التفاؤل، ويلتقون برجل سعيد تقريباً فيرحب بهم ويقدم لهم فاكهة وجوزاً من غرس البيت. ويسأله كانديد "لابد أن لك ضيعة كبيرة" فيجيب الرجل التركي ليس عندي إلا 20 فداناً أفلحها مع أولادي. وإن عملنا ليباعد بيننا وبين ثلاث مساوئ جسيمة: والسأم والرذيلة والحاجة(35). ويقرر كانديد أن يحذو حذو هذا الرجل التركي "ويعمد



 صفحة رقم : 12684   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> كانديد


هو وكويجوند وأصدقاؤهما إلى فلح قطعة من الأرض يزرعون فيها غذاءهم وتقوم المرأة ذات الردف الواحد وبغي صلح شأنها صديقها الأخ الراهب بمهام كثيرة. إنهم يجدون في العمل ويلقون في عملهم نصباً، ويأكلون، ويتولاهم بعض الضجر لكنهم إلى حد ما راضون قانعون. ويحاول بانجلوس أن يثبت أن هذا أفضل العوالم الممكنة، حيث أن معاناتهم أدت بهم إلى هذا الهدوء والسلام. فيجيب كانديد بأن هذا كلام جميل ولكن علينا أن نزرع جنتنا. وتنتهي القصة القصيرة. وكان فولتير قد حاول تضمين صة المغامرة والحب شيئاً من الهجاء اللاذع لما إليه ليبنتز من تبرير العدالة الإلهية في وجود الشر، ولتفاؤل بوب، ومساوئ الدين، وحوادث العشق والغرام في الأدبار، والصراع الطبقي والفساد السياسي، والحيل الشرعية والرشاوى القضائية، ووحشية قلنون العقوبات، وجور الاسترقاق، وما تجره الرب من خراب ودمار. وكانت قصة كانديد قد ألفت حين كانت حرب السنين السبع دائرة سجالاً بين النصر والخراب والدمار والموت. وأطلق فلوبرت على تحفة فولتير خلاصة أعماله(36). ولم تخل كانديد من عيب معظم الهجاء وهو المبالغة السخيفة، ولكن فولتير كان يعلم تمام العلم أن قليلاً من الرجال يواجهون هذه السلسلة المريرة من الكوارث مثلما واجهها كانديد. ولابد أنه عرف كذلك أنه على الرغم من أنه حسن أن يزرع الإنسان حديقته وأن يتقن المرء عمله الفردي المباشر، فإنه من الخير كذلك ألا تقتصر أرباحه على ما يعود عليه من حقله. أنه أفلح حديقته في فرني على أحسن وج. ولكنه ملأ أوربا صراخاً واحتجاجاً على إعدام كالاس.



 صفحة رقم : 12685   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> ضمير أوربا


5- ضمير أوربا


كان جان كالاس أحد أفراد جماعة صغيرة من الهيجونوت-البروتستانت الكلفنيين تركت في تولوز بعد قرن من الاضطهاد ومصادرة الأملاك والتحول الجبري إلى الكثلكة. ولم يستبعد القانون الفرنسي البروتستانت من الوظائف



 صفحة رقم : 12686   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> ضمير أوربا


العامة فحسب، بل أعلن كذلك أنه لا يسوغ لهم أن يشتغلوا محامين أو أطباء أو صيادلة أة قابلات أو باعة كتب أو صانعين أو بقالين. وإذا لم يكن قد سبق تعميدهم فليس لهم أية حقوق مدنية أياً كانت. وإذا لم يكن قد تم زواجهن على يد قسيس كاثوليكي كان زواجهم باظلاً، وكأنما يعيشون مع خليلات لا حليلات، وأعتبر ابناؤهم غير شرعيين(37) والخدمات والقداسات البروستانتية محظرة. وكان الرجال الذين يحضرونها يعاقبون بإرسالهم للتجديف مدى الحياة. أما النساء فكان عقابهن السجن مدى الحياة. وعقاب الكهنة الذين يقيمون مثل هذه القداسات الإعدام. ولم تكن هذه القوانين مطبقة تطبيقاً صارماً في باريس أو قريباً منها، وتفاوتت صرامة هذه التوانين تبعاً للبعد العاصمة. وكانت الاحقاد الدينية حادة بصفة خاصة في جنوب فرنسا. وكان الصراع بين الكاثوليك والهيجونوت عنيفاً لا هوادة ولا رحمة فيه. وكانت الفضائع التي ارتبها الطرفان لا تزال حية في الأذهان. وكان الكاثوليك المنتصرون قد قتلوا في تولوز في 562 ثلاثة آلاف من الهيجونوت، كما حكم برلمان تولوز على مائتين آخرين بالتعذيب حتى الموت(38)، وأحيا كاثوليك تولوز في كل عام ذكرى هذه الذبحة في احتفالات شاكرة ومواكب دينية مهيبة. وطافت نقابات المهنيين ومختلف طبقات النبلاء ورجال الدين وجماعات "النادمين البيض والسود والرماديين" بشوارع المدينة في هيبة جلاء حاملين مخلفات رهيبة: جمجمة رئيس أساقفة تولوز الأول، قطعة من ثوب العذراء، وعظام أطفال قتلوا بمناسبة أسطورة هيرود "قتل الأبرياء". وكان من سوء حظ كالاس أن تكون السنة القادمة هي ذكرى مرور مائتي عام على أحدث 1562. إن برلمان تولوز الذي كان قوياً مسيطراً في لنجدوك كما كان برلمان باريس في وسط فرنسا، كان يتحكم فيه الجانسنيون-أي أنه برلمان كاثوليكي مع نزعة قوية إلى صرامة الكلفنية وزمها وكآبتها. ولم يدخر وسعاً في إثبات أنه أشد تمسكاً بالكثلكة من اليسوعيين أنفسهم. وفي 2 مارس



 صفحة رقم : 12687   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> ضمير أوربا


1761 حكم بالإعدام على الراعي الهيجونوتي روشيت لإقامته قداساً بروتستانتياً، كما حكم بالإعدام على ثلاثة رجال من كومت دي فوا حاولوا تخليص روشيت ن أيدي الشرطة(39). وفي 22 مارس أمر بتعذيب وإعدام صاحب متجر بتهمة قتله إبناً له عرض أن يعتنق المذهب الكاثوليكي. وإنصافاً للمتعصبين ينبغي القول بأن نظم العقيدة المسيحية عند الكلفنيين وضعت أساساً لاعتقادهم بأنه من المرخص للوالد أن يقتل الابن العاق. وفي الأوقات التي كان القانون لا يزال فيها ضعيفاً، والسرة فيها هي المصدر الرئيس أو الحيد تقريباً للنظام والانضباط، منحت معظم المجتمعات الآباء حق إعدام أبنائهم أو الابقاء عليهم. ولابد أن شيئاً ومن هذا القانون الأبوي كان يعتمل فذ ذهن كلفن حين كتب "إن الرب يأمر بقتل الأبناء العاقين لآبائهم(40). وأشار كلفن إلى سفر التثنية (الإصحاح 21: الآيات 17-21) وإلى إنجيل متي (الإصحاح 15: الآيات 4-6) إن هذه الآيات على أية حال تبيح للآباء أن يتهموا الابن المعاند أمام شيوخ مدينته، الذين يمكنهم حينئذ أن يحكمو بإعدامه (يرجمونه بالحجارة حتى يموت). ولكن الكاثوليك المهتاجين في جنوب فرنسا ارتابوا في قدرة الهيجونوت على اللجوء إلى شيوخ المدينة ومن ثم يأخذون تطبيق هذا القانون القديم على عاتقهم هم انفسهم. ويجدر بنا أن ننظر من حلال هذه الخلفية الكئيبة القاتمة إلى قضية جان كالاس. أنه كان تاجر ملابس كتانية. وكان له مخزن في الشارع الرئيسي في تولوز حيث أقام لمدة ألارعين عاماً. وكان له ولزوجته أربعة أبناء وبنتان واحتفظوا طيلة ثلاثين عاماً بمربية كاثوليكية لأولادهم، هي جين فنييز حتى بعد أن حولت أحد الأبناء وهو لويس إلى الكثلكة. وأقام لويس آنذاك في شارع آخر تلميذاً صناعياً يتقاضى من أبيه راتباً بانتظام. واشتغل الابن



 صفحة رقم : 12688   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> ضمير أوربا


الأصغر، دونات، تلميذاً صناعياً في نيم وعاش الابنان الآخران، بيير ومارك أنطوان مع والديهما. وكان مارك أنطوان، وهو أكبرهما سناً، قد درس القانون، ولكنه حين هيأ للاشتغال به وجد أن كل الأوباب موصدة إلا أمام الكاثوليك. وحاول أن يخفي مذهبه البروتستانتي، وأن يحصل على شهادة بأنه كاثوليكي ولكن كشف أمره. وما كان له إلا أن يختار بين أمرين أحلاهما مر: إما أن يتخلى عن ذهبه البروتستانتي أو يضيع دراسة القانون هباء. واستبد به التفكير وعراه الاكتئاب، وانغمس في لعب الميسر والشراب وكان يحب أن يعيد على مسامع الناس مناجاة هملت للانتحار(41). وفي 13 أكتوبر 161 اجتمعت أسرة في دارها فوق المخزن، وكان جوبير لافاييس، وهو أحد أصدقاء مارك انطوان، قد حضر لتوه من بوردو وقبل دعوة الوالد لتناول العشاء. ونزل مارك انطوان إلى المتجر وتسائل بيير ولافايبس عن السبب في عدم عوته، فنزلا يستطلعان الأمر فوجداه متدلياً من قضيب كان قد وصعه بين عضادتي الباب، فأنزلاه وناديا على الوالد واستديا طبيباً وحاول الجميع إنقاذه ولكن الطبيب أكد وفاته. وهنا أرتكب الواد أ جسيم. لقد عرف إن هناك قانوناً نافذ المفعول يقضي بأن يجر المنتحر عارياً في الشوارع المدينة؟ وأن يرجمه الأهالي بالطين والحجارة ثم يشنق وتصادر أملاكه للدولة. وتوسل الوالد إلى أسرته وحاول إقناعها بالقول بأن الفاة طبيعية(42) في نفس الوقت كانت صيحات ببير واستدعاء الطبيب قد أدت إلى احتشاد جمع من الناس أمام باب الحانوت. وجاء الضابط واستمع إلى القصة التي رويت له، رأى الحبل وشاهد الأثر الذي تركه في عنق الرجل الميت. وأمر الأسرة ولافييس وجين فنيين بالشخوص إلى دار البلدية. وهناك احتجزوا في زنزانات مستقل. وفي اليوم التالي سئل كل منهم فأقروا جميعاً أن الوفاة غير طبيعية أكدوا أنه إنتحار، ولكن مدير الشرطة أبى أن يصدقهم، اتهمهم بقتل مار انطوان حتى



 صفحة رقم : 12689   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> ضمير أوربا


يحولوا بينه وبين الارتداء إلى الكثلكة. وأقر الاتهام الأهالي وكثير من أعضاء برلمان تولوز، وأعمت حمى الانتقام الناس. قد يكون من الصعب الآن أن يصدق أحدنا أن يعهد والد إلى قتل ابنه ليحول دون تغيير مذهبه اليني، وقد يكون مرجع ذلك إلى أننا نفكر تفكيراً تغلب عليه النزعة الفردية. وبعد قرنين من الزمان تدهورت فيهما العقيدة الدينية. وفكر أهل تولز مجتمعين كجمهور، والجماهير قد تشعر ولكن لاتفكر، واشتدت صورة الغضب حمى الانتقام نتيجة احتفال أقامه "النادمون البيض" في كنيستهم، وعلقوا فوق نعيش خال هيكلاً عظيماً يحمل في إحدى يديه نقشاً يدل عل "تجنب الهرطقة" وفي الأخرى سعفاً يرمز إلى الاستشهاد، وتحت هذا الاسم "مارك" انطوان كالاس اقترضوا أن الشباب لم ينتحر فدفنوا الجثة باحتفال مهيب في كنيسة سان ستيفن. وعبثاً احتج بعض رجال الدين على أن هذا استباق للحكم في قضية القتل(43). وجرت محاكمة آل كالاس أمام الاثني عشر قاضياً في محكمة تولوز البلدية. وصدرت مذكرة تحذير تتلى في ثلاثة أيام أحد متوالية في كل كنيسة تدعو للأدلاء بالشهادة كل من يعرف شيئاً عنظروف الوفاة. وتقدم للشهادة عدة أشخاص وشهد أحد الحلاقين بأنه سمع في تلك الليلة المشئومة صراحاً من بيت أسرة كالاس: آه يالهي أنهم شنقونني "وادعى آخرون أنهم سمعوا مثل هذه الصيحات. وفي 10 نوفمبر 1761 إدانت محكمة تولوز البلدية جان كالاس وزوجته وأبنه بيير، وأصدرت حكماً بإعدامهم شنقاً، وحكمت على لافاييس بالتجديف في المراكب الشرعية، كما حكمت على جين فنيير بالسجن لمدة خمسة أعوام. وكانت المربية الكاثوليكية قد اقسمت اليمين على براءة مخدوميها البروتسانت. واستؤنف الحكم أمام برلمان تولوز الذي عين هيئة من ثلاثة عشر قاضياً استمعوا إلى ثلاثة وستين شاهداً آخرين. واستند كل الشهو إلى الشائعات واستمرت المحاكمة ثلاثة أشهر احتجزت فيها أسرة كالاس ولافايسس منفردين



 صفحة رقم : 12690   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> ضمير أوربا


وأدان الحكم النهائي الوالد فقط. ولم يستطع أحد أن يوضح كيف تسنى لرجل في الرابعة والستين أن يتغلب دون مساعدة على أبنه الناضج المكتمل النمو ويشنقه. وأملت المحكمة أن يعترف كالاس تحت ضغط التعذيب، ولكم من مرة نصحوه بالاعتراف، وكم من مرة أكد أن مارك أنطوان انتحر. وبعد راحة مدتها نصف ساعة خضع للتعذيب الشديد الاستثنائي حيت صبوا في حلقة نحو "جاولنين" من الماء ولكنه أصر على أنه بريء . ثم صبوا في حلقه عنوه جالونين آخرين حتى انتفخ جسمه إلى ضعف حجه الطبيعي، ولكنه ظل مصراً على براءته فسمح له بالتلص من الماء، فأخذه إلى ميدان عام أمام الكاتدرائية ووضع على صليب وبإحدى عشرة ضربة من قضيب حديدي هشم الجلاد أطرافه في موضعين وأعلن الرجل براءته، وهو يهيب بيسوع المسيحح لنجده، وبعد ساعتين من الآلام المبرحة شنق ثم شيدوا جثمانه إلى خازوق وأحرق (10 مارس 1762)(44). واطلق سراح المسجونين الآخرين، ولكن الدولة صادرت ممتلكات كارس. وأسرعت الأرملة وبيير إلى مأوى في في مونتوبان وأرسلت البنتان إلى ديرين مختلفين. ولما رأى دونات أنه مهد بالخطر في نيم هرب إلى جنيف. وإذ سمع فولتير بالمأساة دعا دونات إلى ملاقاته في لي دليس في 22 مارس وكتب فولتير إلى داميلافيل "سألت ونات إذاً كان أبوه وأمه من ذوي الطبع الحاد، فأجاب أنهما لم يضربا أحد من أبنائهما قط، وأنه ليس ثمة آباء أشد منهما حناناً وتسامحاً(45). واستشار فولتير تارين من جنيف كانا قد أقاما مع كالاس في تولوز، فأكد صدق ا قال دونات. وكتب إلى بعض الأصدقاء في لنجدوك فأجاب الكاثوليك والبروتستانت جميعهم بأن جريمة الأسرة كانت فوق أي شك معقول(46) وأتصل فولتير بالأرملة فبعثت إليه برد واضح فيه صدقها وإخلاصها كل الوضوح، إلى حد أنه حفزه إلى العمل والتصرف. فأهاب بالكردينال دي بريس، ودارجنتال ودوقة دي أنفيل ومركيزة دي يقولا والدوق دي فبللار والدوق دي ريشيليو ليتوسلوا



 صفحة رقم : 12691   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> ضمير أوربا


إلى وزيري الملك شوازيل وسانت فلورتين ليأمرا بإعداة النظر في المحاكمة. ةالحق دونات بأسرته وأحضر بيير كالاس إلى جنيف وأقنع مدام كالاس بالإقامة في باريس حتى يكون من الميسور سؤالها والرجوع إليها. واستخدم محامين ليشيروا عليه بما يجب إتخاذه من إجراءات فنية قانونية في القضية. ونشر كتيباً تحت عنوان "الوثائق الأصلية في وفاة السيد الاس(47)، واتبعه بنشرات أخرى. أهاب بسائر الكتاب أن يسخروا أقلامهم لإيقاظ ضمير أوربا وإثارة الشعور فيها. وكتب إلى داميلافيل "أحتج ودع الأخرين يحتجون على قضية أسرة كالاس، أرفعوا عقيرتكم بالاحتجاج على التعصب(48)" كما كتب إلى دالمبير "أرفع صوتك في كل مكان، استحلفك بالله من اجل آل كالاس ضد التعصب. إنهم فقدوا اعتبارهم نتيجة أتهامهم بهذا الجرم الشائن. وهذا هو سبب شقائهم وتعاستهم، وحث على التبرع بالأموال لسد نفقات هذه الحملة التي تحمل الجزء الأكبر منها حتى هذه اللحظة. وأنهالت عليه التبرعات من كل جانب، ومن ملكة إنجلترا إمبراطورة روسيا وملك بولندا. ووافق محام لامع ن باريس على إعداد القضية لرفعها إلى مجلس الدولة دون أن يتقاضى أجراً. وقصدت بنات كالاس إلى باريس للحاق بوالدتهن. وحصلت أحداهن على رسالة من راهبة كاثوليكية تستدر العطف على آل كالاس(50) وفي 7 مارس 1763 أستقبل وزراء الملك الأم وبناتها. واجتمع الرأي علىضرورة ظر القضية من جديد. وصدر الأمر بإحضار كل الوثائق والمستندات المتعلقة بالموضوع من تولوز. ولكن قضاة تولوز لجأوا إلي مائة حيلة للأطباء في جميع الوقائع وإحالتها. وفي أثناء ذلك الصيف كتب فولتير ونشر بحثه الهام "رسالة عن التسامح" ورغبة منه في إدياد إقبال الناس عليها وأفتتانهم بها كتبها بأسلوب يتسم باعتدال يثير الدهشة والعجب. أنه أخفى أنه المؤلف، وتحدث حديث رجل مسيحي تقي متمسك بالدين مؤمن بالخلود، وامتدح أساقفة فرنسا على أنهم سادة مهذبون ويفكرون ويعملون بشكل نبيل يتناسب مع شرف محتدهم(51).



 صفحة رقم : 12692   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> ضمير أوربا


وزعم أو تظاهر بأنه يرتضي المبدأ الذي يقول بأنه "لا خلاص بغير الكنيسة"(52). ولم تكن الرسالة موجة إلى الفلاسفة بل إلى رجال الدين الكاثوليك أنفسهم، ومع ذلك لم تخلُ من الجرأة والتهور لأنه كثيراً ما نسي قراءه. وبدأ فولتير رسالته بالحديث عن محاكمة كالاس وإعدامه وعرض تاريخ التسامح وبالغ في الكلام عنه في حالة اليونان ورومة. واستبق جيبون في محاولة إقامة الدليل على أن اضطهاد المسيحيين للهرطقة فاق بما لا يقاس اضطهاد الرومان للمسيحيين حيث كان الهراطقة "يشنقون أو يغرقون أو تحطم أجسامهم في عجلة التعذيب أو يحرقون بسبب حب الله(53)" ودافع عن الإصلاح الديني باعتباره ثورة لها ما يبررها ضد بيع البابوية لصكوك الغفران، وهي البابوية التي حط من قدرها حوادث غرام البابا الإسكندر السادس وحوادث القتل التي أرتكبها قيصر بورحيا ابن البابا. وأبدى دهشته وشدة استيائه عندما اطلع على محاولة حديثة لتبرير مذبحة سانت برثلميو وسلم بأن البروتستنت كانوا كذلك غير متسامحين وعلى الرغم من ذلك أوصى بإباحة العبادة البروتستنتية في فرنسا وعودة الهيجونوت المنفيين إليها.

أنهم لا يطالبون إلا حماية القانون الطبيعي لهم، وإقرار صحة زواجهم، والأطمئنان على احوال أبنائهم وحقهم في الوراثة عن آبائهم، وتحرير



 صفحة رقم : 12693   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> ضمير أوربا


أشخاصهم، ولا يطالبون بكنائس عامة ولا بأي حق في الوظائف البلدية ولا في المناصب الرفيعة(55). وعلى الرغم من هذا التحديد البارع عرف فولتير التسامح بقوله: "هلي إذن أن اقترح أن يكون كا إنسان حراً في اتباع ما يمليه عليه عقله هو، ويؤمن بما يوحى به إليه عقله المستنير أو المخدوع أيا كان؟ وحقاً شريطة ألا يعكر صفو النظام العام...وإذا كنت تصر على القول بأن عدم الإيمان باليانة السائدة ريمة فإنك بذلك تتهم المسيحيين الأولين أباءك الأقدين وتبرر عمل من تلومهم على أضطهادهم وتعذيبهم....وغّا كان ينبغي أن يكون للحكومة الحق في معاقبة الناس عاى أخطائهم فمن الضروري أن تتخذ هذه الأخطاء شكل الجرائم. ولن تتذ الأخطاء شكل الجرائم إلا إذا ازعجت المجتمع وعكرت صفوه. وهي تقلق بال المجتمع إذا ولدت التعصب. ومن ثم يجدر بالناس أن يتفادوا التعصب ليكونوا جديرين بالتسامح"(56).أو المخدوعأو وختم فولتير حديثه بالتوجه إلى الإله "أنك لم تخلق لنا القلوب ليكره بعضنا بعضاً، ولا الأبدي ليقتل الواحد من الآخر. فلنسلم بأن الواحد منا قد يعين الآخر على احتمال عبء الحياة المؤلمة الزائلة. نرجو الايستخدم الناس هذه الفروق الطفيفة في الملابس التي تستر أجسامنا الضعيفة، وفي الطرق التي نعبر بها عن أفكارنا وفي عاداتنا السخيفة وقوانيننا اقصرة...وباختصار هذه الاختلافات اليسيرة الموجودة بين الذرات المسماة بالناس...وتقول نرجو ألا يستخدمها الناس علامات على الكراهية والاضطهاد المتبادلين ونرجوا أن يتذكر الناس جميعاً أنهم أخوة(57). ولسنا دري أي تعصب أسهم به هذا النداء في مرسوم التسامح الذي أصدره لويس الساس عشر في 1787. وهل وصل إلى أسماع وزراء لويس الخامس عشر وحرك مشاعرهم. وعلى أية حال وبعد معوقات جمة



 صفحة رقم : 12694   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> ضمير أوربا


امتحن الله بها قلوب آل كالاس أعلم مجلس الملك في 9 مارس 1765 أن اتهام جان كالاس باطل نطق ببراءته وحصل شوازيل من الملك على منحه قدرها ثلاثون ألفاً من الجنيهات تعويضاًللأرملة أبنائها عن فقد ممتلكاتهم. ولما وصلت أنباء هذا الحكم إلى فرني بى فولتير فرحاً. وفي الوقت نفسه (19 مارس 1764) أمرت المحكمة البلدية Mazamet في جنوب وسط فرنسا بإعدام بييربول سيرفن Sirven زوجته بتهمة قتل أبنتهما للحيلولة بينها وبين التحول إلى الكاثوليكية. وقضى الحكم بأن تشهد البنتان الباقيتان على قيد الحياة إعدام الديهما(58) وكان ينبغي أن يتم هذا الإجراء بصورة رمزية لأن الأسرة كانت قد هربت إلى جنيف (1 إبريل) وكانت قد بلغت فولتير بقصتها. وكان سيرف بروتستانتياً يقيم في كاستر Castre على بعد نحو أربعين ميلاً إلى الشرق من تولوز. وفي 6 مارس 1760 اختفت الأبنة الصغرى اليزابث وعبثاً حاول والداها البحث عنها. واستدعاهما أسقف كاستر وأبلغهما أنه كان قد أرسل الفتاة إلى أحد الأديار، بعد أن أفضت إليه برغبتها في أن تصبح كاثوليكية. وسمح القانون الفرنسي الذي سن في عهد لويس الرابع عشر للسلطات الكاثوليكية بانتزاع الولد فوق سن السابعة من بين أحضان والدية، ولو بالقوة عند الاقتضاء، إذا طلب التحول إلى المذهب الكاثوليكي. واستبدت الأوهام باليزابث في الدير وتحدثت إلى الملائكة ومزقت ملابسها عن جسمها وتوسلت أن تُضرب بالسياط. وباتت الراهبات في حيرة من أمر أليزابث، وكيف يتصرفن معها، فأبلغن الأسقف بخبرها، فأمر بإعادتها إلى والديها. وفي يولية 1761 أنتلت الأسرة إلى سانت آبي St. Abby على بعد 50 ميلاً من كاستر. وهناك في إحدى ليالي ديسمبر غادرت اليزابث غرفتها-ولم تعد. وفي 3 يناير وجد جثمانها في بئر. ولم يكن أهالي سانت آبي ميالين إلى اتهام أسرة سيرفن بقتلها ومثل 45 شاهداً أمام المحكمة المحلية. فعبروا



 صفحة رقم : 12695   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> ضمير أوربا


جميعاً بلا استثناء عن رأيهم في أن الفتاة إنتحرت أو أنها سقطت في البثر بمحض الصدفة . فأرسل المدعي المحلي ترنكييه Trinquier مذكرة بالحادث إلى المدعي العام في تولوز فأصدر إليه تعليماته بمواصلة السير في القضية مع إفتراض أن سير فن مذنب: وبدا هذا غير جائز لأن سير فن كان متغيباً عن البلدة ليلة اختفاء اليزابث. كما كانت زوجته عجوزاً واهنة. وكانت إحدى البنات حبلى. وكاد يكون من غير المعقول أن تكون إحدى هاتيك السيدات قد دفعت بالبنت إلى البئر دون أن يسمع لها صراخ. ومع ذلك فإن ترنكييه أصدر في 20 يناير أمراً بالقبض على سيرفن. وعلم سير فن أنه قبل ذلك بنحو شهرين كانت محكمة تولوز قد أصدرت حكماً بإعدام جان كالاس بتهمة مماثلة بناء على: أدلة مشتبه فيها غير قاطعة. وإذا استسلم للأعتقال والتحقيق والمحاكمة فإن قضيته ستعرض فب النهاية على برلمان تولوز، ولما لم يكن يثق في هذه المحاكم فأنه حمل زوجته وبناته في أواسط الشتاء عبر فرنسا وفوق جبال السفن Sevennes إلى نيف على أمل أن يهب المدافع عن كالاس لمعاونته. وكان فولتير لا يزال منهمكاً في حملته من أجل كالاس فرأى من سداد الرأي ألا يشغل الذهن الفرنسي بقضيتين في وقت معاً. وأسهم في الأخذ بيد الأسرة التي كانت أملاكها قد صوردرت، ولكن عندما أقحمتها سلطات تولوز فقي الموضوع استجابة لطلب وثائق مستندات قضية كالاس، استأنف فولتير الهجوم بالبدء في شن حملة من أجل سير فن، وعاود الكرة في طلب المعونة والتبرعات التي جاءته من فردريك الثاني ملك بروسيا وكريستيان السابع ملك الدنمرك وكترين الثانية قيصرة روسيا وستاسلاس بونيا توسكي ملك بولندا. ورفضت محكمة مازامي طلب نسخة من أوراق التحقيق. ويجدر بنا ألا نسهب في إيراد فاصيل الصراع في هذه القضية فقد ظلت منظورة حتى نقض برلمان تولوز آخر الأمر في 1771 حكم محكمة أول



 صفحة رقم : 12696   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> ضمير أوربا


درجة وقضى ببراءة أسرة سيرفن وأعاد إليها أملاكها. وقال فولتير: "لقد استغرق صدور الحكم بإعدام هذا الرجل ساعتين واستغرق النطق ببراءته تسع سنوات(59). وروع فولتير حين علم وسط هذا الجهد الكبير والشغل الشاغل أنه هو نفسه متورط في قضية برزت فجأة في آبفيل على شاطئ المانش. ذلك أنه في ليلة 8-9 أغسطس شوه صليب خشبي (تمثال يمثل المسيح مصلوباً) على جسر بونت نيف على نهر السوم كما لطخ صليب آخر في مقبرة سانت كاترين بالأوساخ والأقذار. وفزع رجال الدين والهالي حين ما اكتشفوا تدنيس المقدسات على هذا النحو وقصد أسقف أميان إلى آبفيل وقاد وهو حافي القدمين موكباً اشترك فيه كل السكان تقريباً يلتمسون المغفرة من الرب. وقرئ في كل الكنائس تحذير ينذر بتوقيع العقوبة الصارمة على كل من كان في مقدوره أن يلقي شيئاً من الضوء على هذا السر لم يتقدم للأدلاء بما يعلم. واتمع القاضي دوفال إلى 77 شاهداً وذكر بعضهم أنهم لاحظا ثلاثة شبان بموكب عيد الجسد دون أن يركعوا أو يخلعوا قبعاتهم. وزعم آخرون إن عصابة من شبان آبفيل، من بينهم ابن دوفال، درجوا على السخرية من المواكب والاحتفالات الدينية والتغني بأغان ماجنة(60). وفي 26 أغسطس صدرت مذكرات إلى جيار أتاللوند وشيفالييه جان فرنسوا ليفبردي لابار شاب في السابعة عشرة يعرفهالتاريخ باسم موازيل فقط. وهرب أتاللوند إلى بروسيا. وقبض على موازنل Moisnel ودي لابار. وحصل موازنل على عفو جزئي باعترافه بأنه هو والآخرون ارتكبوا هذه الأعمال المزعومة. واتهم دي لابار بأنه بصق على صور القديسين وبأنه أنشد ابتهالاً بذيئاً اسمه "لامادلين" وبأنه أعار القاموس الفلسفي "ورسالة إلى فراشه" لفولتير، وزعم أنه رأى أتاللوند يضرب الصليب فوق القنطرة ويلطخ الصليب بالأقذار في المقبرة.



 صفحة رقم : 12697   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> ضمير أوربا


وكان لابار حفيد قائد أخنى عليه الدهر واعترف بأنه مهرطق. وروى أحد الشهود أن لابار عندما سئل لماذا لم يخلع قبعته أمام موكب عيد القربان أجاب بأنه "اعتبر القربان قطعة من الشمع ول يستطع أن يفهم كيف يقدم أي إنسان على عبادة إله من العجين. وأقر لابار بأنه ربما قال شيئاً من هذا القبيل وأضاف إنه قد سمع شباناً آخرين يبدون شيئاً من مثل هذه المشاعر والآراء وإنه لا ضير عليه من مثلها. كذلك وفتشت مكتبته فوجد فيها قاموس فولتير وكتاب هلفشيوس "الذكاء" وكتب أخرى تهاجم الدين وفي أول الأمر نفى علمه بانتهاك أتاللوند للحرمات المقدس فلما علم باعتراف موازنل عاد فأكد صحته. وكانت الجريمة النهائية التي اتهم بها دي لابارهي التجديف على الله والقربان المقدس والعذراء المقدسة والدين والوصايا الإلهية وتعاليم الكنيسة والتغني بأغنيتين مملؤتين بالتجديف اللعين البغيض ووضع علامات التقديس والإجلال على بعض الكتب السيئة السمعة وانتهاك حرمة علامة الصليب وسر تقديس النبيذ والبركات التي تمنحها الكنيسة والتي يقرها المسيحيون(61). وفي 28 فبراير 1866 أصدرت محكمة آبفيل حكمها. وهو يقضي بتعذيب لاباروتا للموند عند اعتقالهما حتى يبوحا بأسماء شركائهما. كما يقضي عليهما بالتفكير علناً أمام الكنيسة الرئيسية في المدينة ويقطع لسانيهما من الجذور ضرب عنقيهما ثم إحراق جثتيهما حتى رمادا. كما يجب إلقاء القاموس فولتير الفلسفي في نفس النار. واستؤنفت الحكم أمام برلمان باريس. وطالب بعض الأعضاء بتخفيفه. فرد العضو باسكييه بأن الأمر يحتاج إلى إنذار وعقوبة رادعة لاستئصال شأفه الكفر الذي يهدد الاستقرار الاجتماعي والأخلاقي، وحاول التدليل على أن المجرم الحقيقي هو فولتير، ولكن حيث أنه لا سبيل أمام البرلمان للوصول إلى أس البلاء فيجب أن ينال تلميذه جزاءه بدلاً منه. وصوت عضوان على إبدال الحكم وتخفيفه وصوت خمسة عشر عضواً على تنفيذه برمته. وفي أول يولية 1766 نفذ



 صفحة رقم : 12698   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> ضمير أوربا


الحكم باستئناء قطع اللسان. ولقي لابار مصيره دون توريط أحد من أصدقائه. وفصل الجلاد الرأس عن الجسد بضربة مسددة تسديداً محكماً مما نال إعجاب الجمهور واستخدامه(62). وصعق فونتير لصرامة العقوبة وأحس بأنها وحشية خليقة بمحكمة التفتيش الإسبانية في أسوأ أحوالها، وكتب أسقف أنسي Anncey إلى المحكمة الفرنسية يطلب تطبيق العقوبات الواردة في إلغاء مرسوم نانت على يد فولتير الذي كتب إلى دالمبير يقول إن هذا الأسقف الوغد لا يزال يقسم أنه سيراني أحرق غفي هذه الدار الدنيا أو في الدار الآخرة....وتجنباً للاحتراق فاني أرقد في مقدار من الماء المقدس(63). وخشية إستدعائه للمثول أمام برلمان ديجون إنتهز الفرصة لتجربة المياه المعدنية في رول بسويسرا. ثم عاد إلى فرني ليستأنف جهوده من أجل سيرفن. واقترح آنذاك على دالمبير وديدرو أن يبرحا هم وسائر الفلاسفة فرنسا تحت جنح الليل: ويقيموا في كليفر تحت حماي فردريك الأكبر. ولم يتحمسا كما لم يتحمس فردريك لهذه الخطة. وأقر الملك بأن عقوبة دي لابار كانت متطرفة في صرامتها أما هو فكان يرى من جانبه الحكم على الشاب بقراءة "خلاصة اللاهوت" لتوماس أكويناس، فهذا في نظره مصير أسوأ من الموت، ثم استطرد فردريك ليزود فولتيربشء من النصيحة: "إن ما حدث في آبفيل مأساة ولكن ألم يخطئ أولئك الذين عوقبوا؟ هل لنا أن نهاج باشرة الحزازات والاحقاد التي غرسها الزمن في أذهان المم؟ وهل يجوز لنا إذا أردنا أن ننعم بحرية الفكر أن نتقر الديانة السائدة. أن الإنسان الذي لا يهدف إلى تعكير الصفو وأثاره القلق نادراً ما يضطه. وتذكر قول فونتنل "إذا كانت يدي مملؤة بالحقائق فينبغي عليّ أن أفكر لأكثر من مرة قبل أن أفتحها(64)". أما فيما يتعلق بمستعمرة الفلاسفة المقترحة في ليفز فإن فردريك عرض أن يبسط عليهم حمايته شريط أن يحافظوا على السلام ويحترموا عقيدة الشعب.



 صفحة رقم : 12699   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> ضمير أوربا


وأضاف "أن الرجل لا ينبغي له أن يتنور...وإذا كان الفلاسفة أن يشلوا حكوم فإن الناس بعد 150 عاماً سيصطنعون خرافات جديدة، فيصلون لأصنام صغيرة أة للأجداث التي دفنت رفات عظماء الرجال، أو يتضرعون إلى الشمس أو يعمدون إلى شيء من مثل هذا الهراء. إن الخرافة وطن ضعف في ذهن الإنسان وجزء لا يتجزأ منه ولا ينفصل عنه، إن هذا الضعف كان موجوداً وسيظل موجوداً دائماً(65). وتابع فولتير حملته وأخرج "موجز عن الموت شيفاليه دي لابار. وأرسل إلى أصدقائه الملكيين يطلب إليهم التوسط لدى لويس الخامس عشر ليرد إلى الشاب الميت اعتباره بشكل أو بآخره. ولما أخفقت هذه المساعي أرسل إلى لويس السادس عشر (1775) رسالة عنوانها "صرخة الدم البرئ". ولم ينقض الحكم على لابار قط ولكن رضيت نفس فولتير حين رأى ترجو يعيد النظر في قانون العقوبات الذي أجاز إعدام شاب نتيجة أخطاء يبدو أنها تستحق عقوبة أقل من ضرب العنق. وتابع فولتير بنشاط يستحق التنويه به في مثل سنه، قيادة هذه الحملة الصليبية حتى آخر ياته ضد إفراط الكنيسة والدولة. وفي 1764 ظفر بإطلاق سراح لود شومونت الذي كان قد حكم عليه بالجديف في السفن الشراعية لحضوره صلاة بروستانتية. ولما أطاحوا برأس كونت توملس دي لالي (1766 في باريس) القائد الفرنسي الذي هزم أمام الإنجليز في الهند بتهمة الخيانة والجبن فإن فولتير تلبية لنداء ابن لالي، كتب مجلداً من 300 صحيفة تح عنوان شذرات تاريخية عن الهند يبرئ فيه الكونت، واستحث مدام دي باري لتتوسط لدي لويس الخامس عشر وألغى الحكم 778 قبل وفاة فولتير بزمن قصير. إن هذه الجود الشاقة أرهقت المناضل الذي بلغ الثمانين، ولكنها جعلت منه بطل فرنسا المتحررة. وأورد ديدور في كتابه (ابن أخي رامو) أن فولتير بلغ الذروة في كتابه محمد، ولكني كنت أفضل أن أدافع عن كالاس.(66)



 صفحة رقم : 12700   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> ضمير أوربا


وقال بوماريه وهو قسيس بروتستانتي في جنيف لفولتير-يبدو كأنك تهاجم المسيحية ولكنك تؤدي عمل الرحل المسيحي(67) وأسهم فردريك على-الرغم من كل حرصه وحذره في تقدير وإجلال الرجل الذي جعل من نفسه "ضمير أوربا"، حيث يقول كم هو جميل أن يسمع فيلسوف صوته لكل الناس من ميكنه. وأن يجبر الجنس البشري الذي يتكلم هذا الفيلسوف باسمه القضاة على إعادة النظر في الأحكام الائر وإذا لم يكن ثمة شيء آخر يتحدث بفضل فولتير، فإن هذا وحده كان ليحظى بمكان بين من أحسنوا إلى الجنس البشري وأدواله أجل الخدمات(68).



 صفحة رقم : 12701   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> اقضوا على الرجس


6- اقضوا على الرجس


في غمرة هذا الصراع انقلبت مناهضة فولتير للمسيحية إلى بغض استمر عشر سنين من حياته (175-1769) وكان قد بدأ باحتقار شبابي للمعجزات والأسرار والأساطير التي واجهت الناس، ثم انتقل إلى تشكك ساخر في المبادئ المسيحية مثل التثليث وتجسي المسيح (اتحاد الألوهية والناسوتية فيه) وآلام المسيح وموته (تكفيراً عن خطايا البشر)، عما اعترف توماس أكويناس صراحة بأنه ليس في متناول العقل، أو أنه يشق على الفهم. ولكن الات التمرد والثورة هذه طبيعية في ذهن شيط يحس بالنمو في العروق وربما ر فولتير بهذه الحالات حتى أصبح رجلاً يتغاضى كما يتغاضى العالم تغاضياً عن المعتقدات العزيزة على جماهير الناس المفيدة بوصفها عاملاً مساعداً على النظام الاجتماعي والانضباط الخلقي. وفي النصف الأول من القرن الثامن عشر كان رجال الدين الفرنسيون متسامحين نسبياً، وأسهموا في تقديم الاستنارة ولكن اتساع نطاق الكفر والترحيب الذي قوبلت به دائرة المعارف أزعجا رجال الكنيسة وانتهزوا فرصة ا داحل الملك من رعب بمحاولة داميين Damiens قتله (1757) ليخرجوا من الدولة بمرسوم (1759) ينص على أن مهاجمة الكنيسة جرينة عقوبتها الإعدام. ورأى الفلاسفة فذ هذا إعلاناً للحرب،وأحسوا بأنهم ليسو منذ الآن في حاجة إلى أن يدخروا أية مشاعر أو أية تقاليد في شن ما بدا لهم أنه حماقة



 صفحة رقم : 12702   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> اقضوا على الرجس


قاتلة. ورأوا خلف جمال الديانة وشعرها دعاية تسخر الفن وتصادره، وخلف مساندة المسيحية للفضيلة والآخلاق القويمة ألف مهرطق يحرقون وهم مشدودونإلى الخازوق، كما رأوا أهل مدينة ألبي Albi (في جنوب فرنسا) يسحقون في حرب صليبية طاحنة، ورأو أسبانيا والبرتغال تجللهما الكآبة والقتال بسبب محاكم التفتيش، وفرنسا ممزقة منعزلة بما فيها من أساطير متنافسة، ورأوا متقبل الروح البشرية في لك مكان خاضعاً للتجديد أو البعث المتكرر للخرافة ولأساليب الكهنة والاضطهاد والتعذيب، وعليهم أن يكافحوا نكسة العصور الوسطى في أواخر سني ياتهم. وثمة ثلاثة أحداث جعلت من عام 1762 نقطة تحول في هذا الصراع المتعذر كبح جماحه. فبدا إعدام كالاس في مارس وكأنه إعلان انتكاس فرنسا إلى العصور الوسطى ومحاكم التفتيش. إن السلطة المدنية هي التي تولت المحاكمة والتعذيب والقتل، ولكن وراء خلفية من التعصب شعبي عام ولدته التعاليم والطقوس والكراهية الدينية. وفي مايو زودكتاب روسو "إميل القرن الثامن عشر" بإعلان قسيس سافوي لعقيدة الإيمان، وهو ولو أن مؤلفه خصيم للفلاسفة جرد المسيحية من كل شيء تقريباً فيما عدا الإيمان بالله وبأخلاق المسيح. وبدا أن إحراق الكتاب في 11 يونية في باريس و19 يونية في جنيف وحد بي الكاثوليكية والكلفنية في مؤامرة ضد العقل البشري. وكان واضحاً أن استنكار برلمان باريس لليسوعيين في أغسطس نصر الفلاسفة، كما كان أيضاً نصراً للجانسنيين الذي سيروا على برلمانات باريس وتزلوز وروان، إن تصرفات البرلمانات في قضيتي كالاس ولا بار لتوضح أن الجانسنيين كانوا أعداء ألداء لحرية الفكر، قدر عداوة غيرهم في تاريخ فرنسا بأسره. وفي نفس الوقت نجد أن العداء بين البرلمانات والحاشية الملكية ونمو سلطان شوايل في الحكوم (1758-1770).؟ وهو من مشايعي فولتير-مهدا للفلاسفة الفرصة للمضي في النضال مع التعرض لخطر أقل مما هو مألوف من جانب رقباء الدولو والشرطة، ومن ثم أعدت الساحة لذروة الهجوم على المسيحية.



 صفحة رقم : 12703   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> اقضوا على الرجس


والآن يطلق فولتير النذير ويصيح بأعلى صوته غاضباً في "إقضوا على الرجس". وكان قد بدأ باستخدام هذه العبارة في 1759، واستخدامها منذ تلك اللظ مئة مرة في عدة صيغ مختلفة، كما استخدمها أحياناً بمثابة توقيع(69). لقد اكتسب فولتير ابن الثمانية والستين عاماً حيوية جديدة ونشاطاً جديداً حين شبه نفسه بكاتو سنكس القنصل حين ختم خطابه أمام مجلس السانتو الروماني بصيحته "حذار من قرطاجة" وكتب فولتير يقول "إني مصاب بالمغص، وأنا أعانب كثيراً، ولكن تخف آلامي حين أهاجم الخزي والعار"(70). وفي حماسة شابة وثقة بالغة المدى نصب نفسه ونفراً من المعاونين المترددين لشن الحملة على أقوى نظام في تاريخ البشرية. وماذا كان يقصد بالرس؟ كان يريد القضاء على الخراف والتعصب والظلامية (النزعة إلى تعويق التقدم انتشار المعرفة) والاضطهاد؟ أو أنه أخذ على عاتقه هدم الكنيسة الكاثوليكية، أو كل مذاهب المسيحية، أو الدين أي دين؟ أغلب الظن ألا يكون هذا الأخير لأننا نراه مرة بعد أخرى وسط الحملة يعلن إيمانه بالتوحيد، وفي بعض الأحيان في لغة عامرة بتقوى فولتير. وفي القاموس الفلسفي عرف الديانة بطريق غير مباشرة بقوله "إن كل شيء تقريباً يتجاوز عبادة كائن أسمي وإخضاع القلب لأوامره الأبدية هو خرافة(71) وقد يبدو أن هذا يرفض كل أشكال السيحية فيما عدا مهب الموحدين إن فولتير نبذ تقريباً كل المبادئ المميزة في المسيحية التقليدية-الحطيئة الأولى، التثبيث التجسيد، تكفير المسيح عن خطايا البشر، والقربان، وسفه "التضحية" من الله لله على الصليب أمن الكاهن في القداس، ومن ثم نبذ معظم أشكال البروتستنتية أيضاً، وأعتبر الكلفنية عائقاً في سبيل التقدم ونشر المعرفة، مثل الكاثوليكية. وصعق كهنة جنيف حين قال بأن كلفن مراوغ فظيع ورأى أن في مقدوره أن يعيش راضياً قانعاً في ظل الكنيس الرسمية كما كان قد رآها في إنجلترا. وكتب إلى دالمبير: "آمل أن تقضي على الرجس، تلك هي النقطة الهامة. ويجدر أن نهبط بها



 صفحة رقم : 12704   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> اقضوا على الرجس


إلى ما هي عليه في إنجلترا. وستصل إلى هذه الغاية إذا أردت أو تلك هي أجل خدمة يمكن أن يديها للجنس البشري"(72) وقد نحلص من هذا إلى أنه قصد بالرجس الدين عامة، بل الدين الذي قصد به شر الخرافة والأساطير والتحكم في التعليم والسيطرة عليه، ومناهضة الانقاض على الرقابة، والأعتراض على الاضطهاد. وتلك هي المسيحية التي رآها فولتير في التاريخ وفي فرنسا. وهكذا احرق كل الجسور من خلفه، ودعا كل أفراد صبته للحرب. "وكان المطلوب لدك الحصون خمسة أو ستة من الفلاسفة يفهم الواحد منهم الآخر...لقد غرس دالمبير وديدرو وآل بولينجاروك وهيوم وأمثالهم بذور الحقيقية"(73) ولكن بشكل مشتت تعوزه الخطة المتماسكة، وعليهم الآن أن يتحدوا، وسيكون هو على رأسهم، وتلك قضية يسلم هو بها، ويشير عليهم بخطة العمل فيقول: "أضرب أخف يدك...إني آمل أن يستطيع كل من الإخوة أن يسدد بعض السهام إلى هذا المسخ دون أن يعلم أيه يد صوبتها إليه(74) وإني لأرجو أن يتسلل الإخوان إلى الأكاديميات ومراكز النفوذ إلى الوزارة إذا أمكن، إنهم ليسوا في حاجة إلى تحويل الجماهير بل إلى تحويل الرجال ذوي السلطة الذين يمكنهم أن يأخذوا بزمام المبادرة. إن بطرس الأكبر غير روح روسيا ووجهها" وكذلك حاول فولتير إدخال فردريك في هذه الزمرة (5 يناير 1767) "مولاي إنك على حق تماماً أن المير القوي الشجاع يستطيع بالمال والجنود والقوانين أن يحكم الناس دون عون من الدين الذي ما أقيم إلا ليضللهم ويخدعهم. إن جلالتكم تؤدون إلى الجنس البشري أجل خدمة خالدة باقتلاع جذور الخرافة المخزية، ولا أقول من الرعاع غير الجديرين بالتنوير، الذين يتبعون أول ناعق، وهم أهل للخضوع لأي سلطان، ولكن أقول بين الناس المخلصين الأمناء، بين الذين يفكرون والذين يريدون أن يعملوا فكرهم..



 صفحة رقم : 12705   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> اقضوا على الرجس


وعليك أن تختبر عقولهم..ولست آسف على شيء حين تدهمني المنون إلا على أني لن أتمكن من معانتك في هذه المهمة النبيلة"(75). وسخر فردريك من سذاجة هذا الشيخ الهرم، ولكن فولتير أصر وثابر، مما كان اه كما سنرى فيما بعد، بعض الأثر على وزراء فرنسا والبرتغال وأسبانيا. ورحب باهون أقل شأناً وكتب نصائح رسولية إلى بورد في ليون، وسرفان في جرينوبل، وبيير روسو في بويون، وأودبير في مرسيليا، وريبوت في مونتوبان، ومركيز دار جنس في شارنت، وإلى الراهب أودرا في تولوز. وأطلق على هؤلاء جميعاً وغيرهم اسم "الإخوة"، وأرسل إليهم بالمادة والنداءات يستحثهم ويحفزهم حتى لا يغلب عليهم النعاس. "شنوا الحرب أيها الإخوة جميعاّ ببراعة على الرجس. إن كل ما يهمني هو نشر الإيمان والحقيقة والنهوض بالفلسفة، والقضاء على الخزي والعار. اشربوا معي نخب أفلاطون (ديدرو) وأمحوا الرجس. إني أعانقكم أيها الإخوة جميعاً..إن صحتي تدعو إلى الإشفاق..امحوا الرجس. إني احتضن أوتي في كنفوشيوس..في لوكر يشس، في شيشرون، في سقراط، في ماركس أوربليوس، في جوليان، وفي شيوخنا الإجلاء جميعاً. إني أمنح بركتي للإخوة جميعاً. صلوا ارقبوا أيها الإخوة، اقضوا على الرجس"(76). وباتت الكتب الآن أسلحة بات الأدب حرباً. ولم تقتصر الأمور على دخول ديدرو ودالمبير وهلفشيوس ورينال وموريلليه وكثير وغيرهم بأقلامهم في المعرهة. ولكن فولتير الذي كان يحتضر دائماً أصبح مستودعاً حقيقياً للقذائف ضد رجال الدين، وأخرج على مدى عشر سنين نحو ثلاثين كتيبا. ولم يكن يؤمن بفعالية المجلدات الضخمة فهو يقول: "أي أذي ينج عن كتاب (الموسوعة مثلاً) يكلف مائة كروان..إن عشرين مجلداً من القطع الكبير لن يفجروا ثورة أبداً. إنها المجلدات الصغيرة السهلة الحمل القليلة



 صفحة رقم : 12706   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> اقضوا على الرجس


الثمن (من ذات الثلاثين سو) هي التي يخشى جانبها. ولو كان الإنجيل غالي الثمن (ثمنه 1200 سسترس عملة رومانية قديمة) لما قامت الديانة المسيحية(77). ومن ثم لم يخرج مجرد تواريخ وروايات، بل نشرات وحكايات وعظات وتوجيهات وتعاليم دينية مفرغة في قالب أسئلة وأجوبة، وخطباً لاذعة ومحاورات ورسائل ونقداً موجزاً للكتاب المقدس وتاريخ الكنيسة، مما يسهل تداوله وانتشاره ويصيب الرجس بجراح، وكان فردريك قد كتب إليه منذ زمن طويل: "أني لأتصور أنه مكان ما في فرنسا نخبة منتقاة من ذوي العبقرية الرفيعة المتساوية، ممن يكتبون معاً وينشرون كتاباتهم تحت أسم فولتير...فإذا كان هذا الأفتراض صحيحاً فلسوف أصبح مؤمناً بالتثليث وابدأ في رؤية ضوء النهار في هذا السر الذي آمن به المسيحيون حتى الآن دون أن يفهموه(78). ولكن فولتير لم يكن يكتب الآن تحت أسم فولتير، بل استخدم أكثر من مائة من مختلف الأسماء المستعارة، بل أحياناً، في مرح شيطاني، نسب هجماته العنيفة إلى رئيس أساقفة كنتربري، أو رئيس أساقفة باريس، أو إلى قسيس أو كاهن أو راهب، ورغبة في أبعاد كلاب السماء عن طريقهخص نفسه بإحدى قذائفه. وكان يعرف أصحاب مطابع باريس وأمستردام ولاهاي ولندن وبرلين، فاستخدمهم في حملته. وعن طريق داملافيل وغيره، وكان يزور باعة الكتب مجاناً بهذه النشرات، وكانوا يبيعونها بأثمان رخيصة. وهم بذلك يغامرون. وأشتد العود ونما الغرس. ونشر آنذاك في 1762 "عظة الخمسين" التي كان قد ألفها قبل ذلك بعشر سنين على الأقل، وقرأها على فردريك الأكبر في بوتسدام، وكانت أول هجوم مبار على المسيحية. وبدأت بداية بريئة كل البراءة: "اجتمع كل يوم أحد في المدينة تجارية آهلة بالسكان، خمسون شخصاً متعلماً تقياً



 صفحة رقم : 12707   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> اقضوا على الرجس


متعقلاً (الكويكرز في لندن) فأدوا الصلاة ألقى أحدهم بحثاً "ثم تناولوا طعامهم، وأخذوا قدراً من للفقراء، وتناوب كل منهم الرياسة، وأم الصلوات" وألقى الموعظة وهذه أحدى الصلوات وإحدى العظات: "يا إلهنا، يا رب السموات ورب النجوم، احغظنا بمنأى عن الخرافة. وإذا أسأنا إليك بتضحيات لا تليق بك فامح اللهم هذه الأسرار المخزية، وإذا انتقضنا من قدرك بهذه الخرافات الحمقاء، فلتهلك الخرافات إلى الأبد...فليعش الناس ويموتوا في عبادة إله واحد، إله لم يكن ليولد أو ليفنى(79)". وحاولت العظ التدليل على أن الرب الذي ورد ذكره في التوراة رب فخور حقود غضوب قاس قاتل، لا يمكن لإنسان عاقل أن يعبده، وأن داود كان وغداً منغمساً في الشهوات سفاحاً. فكيف يتسنى لأحد أن يصدق بأن هذا الكتاب تنزيل من عند الله؟ وكيف تسنى أن يأتي من الأناجيل اللاهوت المسيحي الذي لا يصدق، والعمل الفذ السهل اليومي الذي يحول الرقاقة إلى جسد المسيح ودمه والبقايا التي لا تصى، وبيع الغفران والعداوات والبغضاء والحريق في الحروب الدينية؟ "لقد قيل لنا إن الناس بحاجة إلى الأسرار ومن الواجب خداعهم وتضليلهم. أيها الأخوة، هل يجرؤ أحد على العدوان على الإنسانية بهذا الشكل؟ ألم يخلص آباؤنا (المصلحون) الناس من إحالة الخبز والنبيذ إلى جسد المسيح ودمه، ومن الاعتراف المهموس به، ومن صكوك الغفران، ومن الرقي والتعاويذ ومن المعجزات الزائفة والتماثيل السخيفة؟ ألم يتعود الناس الآن الاستغناء عن هذه الخرافات؟ يجب أن تكون لدينا الشجاعة لنخطو بعض طوات أبعد من ذلك. فالناس ليسوا ضعاف العقول كما هو مظنون، أنهم يستطيعون في سهولة ويسر أن يقروا عبادة حكيمة بسيطة لإله واحد....أننا لا نعمل على سلب رجال الدين ما فرلهم سخاء أتباعهم، بل أن كل ما نريده-حيث أن معظمهم يسخرون من الأباطيل التي يعلمونها-وهو أن ينضموا إلينا في التبشير بالحقيقة....وأي خير عميم لا يحصى يمكن أن يتأتى بسبب هذا التغيير الميمون(80)!



 صفحة رقم : 12708   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> اقضوا على الرجس


أن هذا يرهقنا اليوم ل الإرهاق، ولكنه كان مادة ثورية في فرنسا القرن الثامن عشر. فلا عجب إذن أن يصدره فولتير على زعم أن لامتري كان فد دبجه من قبل، ولامتري في عداد الأموات الآمنين. وفي سنة 1763 تحول المناضل إلى الدراما (المسرحيات)، قصة قصيرة تافهة تحت عنوان "أبيض وأسود"، وكتيب "أشئلة وأجوبة عن الرجل المين" يسر فيه "ديانته الطبيعية" ولكن عام 1764 كان عاماً بارزاً، فقد شغل فيه فولتير أصحاب المطابع "بأنجيل العقل" و"أخيار الديانة" (وهو طبيعة منقحة من كتاب جان مسلييه الملتهب) (العهد الجديد) ثم أحد أهم منشوراته وهو موجز القاموس الفلسفي (السهل الحمل) ولم يكن المجلد الضخم ذا الثمانمائة أربع وعشرين صفحة ذات نهرين الموجود الآن، أو الخمسة أو الثمانية مجلدات التي تملؤها "مجموعة أعماله" بل كان كتاباً صغيراً يسهل الامساك به أو إخفاؤه. إن إجاز مقالاته وبساطة أسلوبه ووضوحه، كل أولئك جعله في متناول مليون قارئ في كثير من البلاد. وهذا إنتاج ضخم جدير بالتنويه لرجل واحد. وربما كان به ألف من الأخطاء، ولكن المادة التي معت فيه، والمعلومات التي تناولت كل فروع المعرفة تقريباً، جعلت الكتاب واحدة من العحزات في تاريخ الأدب. وأي جد ومثابرة وأي هذر وأي إصرار وعناد هذا الكتاب: أن فولتير منهمك في القيل والقال، أن لديه ما يقوله في كل شيء تقريباً، ولديه دائماً شيء لا يفقد أهميته وتشويقه أبداً تقريباً. وهنا ثير من العبث والتغاهة والسفاسف أو السطحية، وهناك بعض ملاحظات حمقاء (إن عقل أوربا أحرز تقدماً في المائة سنة الأخيرة أكثر مما أحرز العالم كله من قبل منذ أيام براهما وزرادشت)(81). ولكن لن يتسنى لأحد أن يلتزم جانب العقل والحكمة في ألف صحيفة، ولم يكن أي إنسان بارعاً متألقاً دائماً وهو يكتب هذا القدر الكبير من الصفحات. أنه أورد فيه دراسة أصول الألفاظ وتاريخها، لأن فولتير مثل كل قارئ محب للاستطلاع، وكانت تجذب



 صفحة رقم : 12709   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> اقضوا على الرجس


نظره المحن التي قاستها الألفاظ والكلمات في ترحالها عبر الزمان. وهنا في مقال "سوء استدام الكلمات" ثم في مقال "المعجزات" نجد قاعدة فولتير الشهيرة "حدد ألفاظك". وقصد بالكتاب أساساً أن يكون مصنعاً لإخراج الحجج ضد المسيحية كما عرفها فولتير، وهنا نجد مرة أخرى الأشياء التي لا يمكن تصديقها في الكتاب المقدس وما فيه من سخافات وحماقات ومخازلاً في مقال "المتناقضات" وحده، بل في كل صحيغة تقريباً. من خول الكنيسة سلطة الحكم بأن أربعة فقط من الخمسين إنجيلاً التي دونت في القرن الذي تلا موت المسيح، هي وحدها-أي الأناجيل الأربعة-معتمدة موحى بها من عند الله؟ وأوى سهو فاضح أن أن نأن يتحدث الكتاب عن مولد المسيح من مريم العذراء ثم يتعقب نسبه إلى داود الوغد عن طريق يوسف المزعوم الخاكل. ولماذا نبذت المسيحية شريعة موسى على الرغم من تكرار توكيد المسيح عليها؟ وهل كان بولص الذي نبذ هذه الشريعة (من اجل قطعة من الجلد) سلطة أو مرجعاً أقوى من المسيح؟ ولم يرق القاموس الفلسفي للآباء الروحانيين في مدينة جنيف. وفي 24 سبتمبر 1763 أمر مجلس الخمسة والعشرين النائب العام بإحراق أية نسخة يجدها منه. وفي 1765 أصدر برلمان باريس أمراً شبيهاً بهذا، وقد رأينا مصير الكتاب في آبفيل (1766) وأكد فولتير لسلطات جنيف أن القاموس من عمل مجموعة من الكتاب مجهولة تماماً لديه. وفي الوقت نفسه أعد مقالات إضافية لتلحق بالطبعات الأربع الأخرى التي طبعت سراً قبل نهاية 1765 كما أدخل مادة جديدة إلى الطبعات الخمس الإضافية التي ظهرت قبل وفاته 1778. ورتب المور مع باعة كتب جنيف المتسترين ليمدهم مجاناً بأكبر عدد ممكن من النسخ يمكن توزيعه، ومع الباعة على أن يتركوا نسخاً من هذا القاموس في الدور الخاصة(82). وتابع فولتير الرب بلا هوادة في 1765-1767. وفي 1764 كان



 صفحة رقم : 12710   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> اقضوا على الرجس


قد ترك نهائياً داره في لي دليس في مدينة جنيف التي باتت غير ملائمة لهرطقاته وضاقت بها ذرعاً، وكان لمدة نحو ثلاث سنوات لم يكد يبرح مكانه في فرني، وكان في كل شهر تقريباً يرسل إلى إحدى المطابع نشرة جديدة ضد "العار" وزعم كتيب Ouestions de Zopata (مارس 1767) أنه مجموعة أسئلة طرحها أمام لجنة من اللاهوت في جامعة سالا منكا 1629. وأعلن زاباتا عن شكوكه في "نجم بيت لحم" وفي الإحصاء المزعوم "لكل الأرض" الذي أجراه أغسطس، وفي قتل الأبرياء "وإغراء الشيطان ليسوع فوق جبل يستطيع الإنسان منه أن يرى كل ممالك الأرض. وأين كان يقع هذا التل العجيب؟ ولم لم يف المسيح بوعده في الحضور على متن سحابة في قوة ومجد عيم، ليؤسس "مملكة الله" قبل أن ينقرض هذا الجيل؟(83) ما الذي عوقه؟ هل كان الضباب كثيفاً إلى حد بير؟(84) ماذا أفعل مع أولئك الذين يتجرأون على الشك؟..هل أجأ من أجل تنيرهم وتهذيبهم، تعذيبهم العذاب العادي وغير العادي؟ أو ألا يكون من الأفضل أن اتجنب هذه المتاهات، وأخص على الفضيلة بساطة فقط؟(85) والخاتمة. "حيث أن زاباتا لم يتلق جواباً، فإنه لجأ إلى التبشير بالله بكل بساطة وأعلن إلى الناس أنه "أي الرب" هو والد الجميع، وأنه هو الذي يثيب ويعاقب وهو الغفور. واستخلص الحقيقة من الأكاذيب، وفصل الديانة عن التعصب. وعلم الفضيلة ومارسها، وكان وديعاً عطوفاً متواضعاً وأحرق في بلد الوليد (في أسبانيا) في عام البركة 1631(86)". وفي مايو 1767 عاد فولتير إلى الهجوم في نشاط أكبر في كتاب من مائة وخمسين صفحة "اختبار هام للورد بولنجيروك". وهنا وضع حججه على لسان الرجل الإنجليزي المتوفى. ولكنه كان من المحتمل أن يرتضي بولنجيروك هذا العبء الثقيل. وفي نفس العام نشر فولتير "الساذج"، وهي قصة لطيفة تقع في مائة صفحة عن أمريكي فاضل بشكل لا يصدق



 صفحة رقم : 12711   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> اقضوا على الرجس


احضروه إلى فرنسا من أمريكا، حيرته العادات الأوربية والاهوت المسيحي. وفي 1769 خرج كتيب "صيحة الأمم" وهو نداء إلى أوربا الكاثوليكية لتخلع نيران سلطان الباباوات المزعوم على الملوك والدول. وتابع الحملة نفس العام بكتاب جاد مدروس ولكنه مثير هو "تاريخ البرلمان" متهماً هذه الهيئة بأنها مؤامرة من جانب الجانسيين الرجعيين. وفي 1770-1772 أصدر تسعة مجلدات تحت عنوان أسئلة عن المووعة" وهي خليط من مقالات تشكل موسوعة رجل واحد. وهو أشد عداء للكاثوليكية وأقسى في هجومه عليها من موجز القاموس الذي أسلفنا ذكره. إن فولتير أخفى منشوراته عادة تحت أسماء أو عنوانات خداعة مضللة: "محاضرات" في تفسير العهد القديم، رسالة إلى الرومان، عظات الأب الجليل جاك روست، محاضرات وعظات الكاهن بورن، نصائح لأرباب الأسر. وساورت جمهور فرنسا المتعلم الظنون بأن فولتير هو الملف، لأنه لم يكن يستطيع أن خفي أسلوبه، ولكن لم يثبت أحد ذلك، وباتت هذه اللعبة المثيرة ديث باريس وجنيف، وتردد صداها في لندن وأمستردام وبرلين، بل وفي فيينا، ولم يحدث في التاريخ أن لعب كاتب لعبة النمضية (أو الاخفاء) مع اعداء أقوياء مثل هؤلاء، وبمثل هذا النجاح. وحاول مائة من الخصوم أن يردوا عليه ولكنه قارعهم الحجة بالحجة جميعاً، وحارب في قسوة، وأحياناً في خشونة وغلظة، كما كا أحياناً مجحفاً غير منصف، وتلك هي الحرب. وكان مستمتعاً فرحاً بها، وحمى وطيس المعركة فنسي أن يموت. والحق أن تفاؤلاً غريباً غلب على فولتير، الذي بدأ بعد "زلزال لسبونة" و"كانديد" وكأنه ينصح بالاستسلام لشرور الحياة التي لا سبيل لقهرها أو التغلب عليها، وراوده حلم فلسفة منتصرة على كنيسة متغلغلة في حاجيات الناس. وإذا كان اثنا عشر من صيادي السمك الأميين قد أقاموا السيحية، قلم يستطيع اثنا عشر فيلسوفاً أن يقضوا على تعاليمها وعلى محاكم



 صفحة رقم : 12712   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> اقضوا على الرجس


التفتيش فيها. وكتب إلى أحد الأخوة "عش سعيداً واقض على الرجس" وأكد أنهم سيقضون عليه(87). ألم يكن إلى جانب ملك وإمبراطورة وعشيقة ملكية. وكثير من الشخصيات اللامعة؟ أنه تملق الحاشية وتودد إليها علناً أو سراً بمهاجمة برلمان باريس، ونعم بعطب مدام دي بمبادور ومدام دي باري فيما بعد، بل إنه كان يأمل في إغضاء لويس الخامس عشر عنه. وكتب إلى دالمبير في 177 "فلنيارك هذه الثورة السعيدة التي نشأت في عقول كل المخلصين والأمناء من الرجال في الخمسة عشر أو العشرين عاماً الأخيرة، فإنها فاقت كل ما كنت أؤمل فيه)(88) ألم يتنبأ بها؟ ألم يكتب إلى هلفشيوس في 1760 (إن هذا القرن بدأ يشهد انتصار العقل)(89).



 صفحة رقم : 12713   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> الدين والعقل


7- الدين والعقل


إن فولتير لم يكن من السذاجة بحيث يتصور أن الدين اخترعه القساوسة والكهان، بل على النقيض من ذلك كتب في القاموس الفسفي: (إن فكرة الإله مستمدة من الشعور، وذاك المنطق الطبيعي الذي يتكشف بتقدم العمر، حتى في أغلظ البشر قلباً. وشوهدت أكثر آثار الطبيعة ادهاشاً-وفرة المحصول والجدب والأمحال والجو المعتدل والعواصف، المزايا والبلايا-كما كان الإحساس بيد سيد خارق للطبيعة...إن الملوك القدامى استخدموا في زمانهم هذه الأفكار ليدعموا سلطانهم(90). وأفردت كل جماعة إحدى القوى الخارقة لتكون إلهاً حارساً لها، وأضفت عليه حالة من التقديس وعبدته وقدمت له القوانين، على أمل أن يتولى حمايتها من سطو الجماعات الأخرى وآلهتها، وأوجدت هذه المعتقدات الكهنة، ولكن التفاسير والتأويلات والطقوس كانت من عمل الكهنة. وبمرور الزمن لعب الكهنة على الخوف الناس واستغلوه ليبسطو سلطانهم وقوتهم. واقترفوا كل ضروب الخداع واللؤم، حتى إلى حد إعدام (الهرطقين) وقتل جماعات بأسرها، والقضاء على الأمم تقريباً. وانتهى فولتير إلى القول: "لقد



 صفحة رقم : 12714   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> الدين والعقل


كرهت الكهنة، وأنا الآن أبغضهم، وسأظل أبغضهم إلى يوم الحساب(91)". أن فولتير وجد كثيراً مما يمكن قبوله في الديانات غير المسيحية، وبخاصة في الكونفوشيه (وهي ليست ديانة)، ولكن لم يسره إلا النزر اليسير في اللاهوت السيحي. "أن لدي مائتي مجلد في هذا الموضوع، الأدهى من ذلك أني قرأتها وكأني أقوم بجولة في مستشفى للأمراض العقلية(92)". ولم يضيف إلا القليل لما سبق أن ظهر من نقد للكتاب المقدس. وإنما كانت مهمته أن ينشر هذا النقد على نطاق واسع. ولا يزال أثر هذا علينا واضحاً. وفي جرأة وإندفاع أكثر ممن جاءوا بعده، أكد مراراً سخف طوفان نوح وعبور البحر الأحمر، وذبح الأبرياء وغير ذلك. ولم يكل ولم يمل قط من شجب قصة "الخطيئة الأولى" ونظرتها. وأقتبس في سخط وغضب قول سانت أوغسطين "أن المذهب الكاثوليكي يعلمنا أن كل الناس يولدون مذنبين إلى حد أن الأطفال أنفسهم ملعونون يالتأكيد إذا ماتوا دون أن ينفخ فيهم المسيح روحاً جديدة أفضل(93)". (يقال إن مثل هؤلاء الأطفال يذهبون إلى مكان جميل بجوار الجحيم اسمه الأعراف)!! أما بالنسبة للسيد المسيح فإن فولتير كان مذبذباً. وأنتقل من الورع الطبيعي في الطفولة إلى عدم التوقير الذي يغلب في الشباب، إلى حد قبول قصة ماري مع الجندي الروماني، وفكر في وقت ما أن يسوع متعصب مخدوع "أحمق". ولما نضج وتعلم كيف يبدي إعجابه بتعاليم يسوع الأخلاقية وقال: "سيكون خلاصنا بفضل ممارسة هذه المبادئ الأخلاقية، لا نتيجة إيماننا بأن المسيح هو الله". وسخر كثيراً من "التثليث" في كتابه الملحد والحكيم. ويسأل الملحد "هل تؤمن بأن للمسيح طبيعة واحدة وشخصاً واحدة وإرادة واحدة، أو أن له طبيعتين وشخصيتين إرادتين، أم أن له إرادة واحدة وطبيعة واحدة وشخصيتين، أو إرادتين وشخصيتين وطبيعة واحدة؟" ولكن الحكيم يأمره أن ينسى هذه الألغاز ويكون مسيحياً طيباً(95). ويشير فولتير إلى أن المسيح، بخلاف القديس بولص والمسيحيين اللاحقين، ظل مخلصاً



 صفحة رقم : 12715   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> الدين والعقل


لليهودية على الرغم من نقده للفرنسيين: "أن هذا الإله الخالد، بعد أن جعل نفسه يهودياً، يتمسك بالديانة اليهودية طيلة حياته ويؤدي شعائرها ويتردد على المعبد ليهودي ولا ينطق بشيء يخالف الشريعة اليهودية. وكل التلاميذ يهود يؤدون الشعائر اليهودية. يقينا إنه ليس هو الذي أسس الديانة المسيحية...أن يسوع المسيح لم يبشر بأية خصيصة واحدة من خصائص المسيحية(96)". أن يسوع في رأي فولتير، قبل معتقد كثير من اليهود الأتقياء قبله، بأن العالم كما عرفوا يسير إلى نهايته، وسرعان ما تحل محله "مملكة الرب" أي الحكم المباشر لله على الأرض. (والنقد الحديث يقبل وجهه النظر هذه). وتجاوب فولتير في سنواته الأخيرة، أكثر فأكثر، مع قصة المسيح وبدأ يسمسه "أخي" "مولاي(97)" وصور نفسه وكأنما أنتقل في حلم إلى صحراء مغطا بأكوام من العظام، فهنا أشلاء 300 ألف من اليهود المذبوحين، وهناك أربعة تلال من المسيحين شنقوا بسبب الخلافات الميتافيزيقية، وأكوام من ذهب وفضة تعلوها صولجانات وتيجان الأساقفة والملوك المنحلين، ثم حمله ملاكه المرشد إلى واد أخضر حيث أقام الحكماء العظام، وهناك رأي نوما ويمبليوس وفيثاغورس وزردشت وطاليس وسقراط...وأخيراً "تقدمت مع دليلي إلى أيكة أعلى من تلك التي أخلد فيها الحكماء القدامى إلى راحة بهيجة، ورأيت رجلاً يتسم بالبسطة وحسن المنظر، بدا لي أنه في الخامسة والثلاثين من العمر، كانت قدماه ويداه منتفختين داميتين، وكان مطعوناً في جنبه وكان لحمه ممزقاً بضربات من سقوط. ولم يكن ثمة للمقارنة بين آلام هذا الحكيم وآلام سقراط". وسأله فولتير عن سبب موته، فأجابه يسوع "اللكهنة والقضاة". هل قصد أن يؤسس ديناً جديداً؟ كلا. هل كان مسؤلاً عن هذ الأداس من العظام وهذه المقادير الضخمة من الذهب الملكي أو الكهنوتي؟ كلا. لقد عشت وصحبي في أشد الفقر "إذن مم تتألف الديانة الحقة؟" ألم أقل



 صفحة رقم : 12716   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> الدين والعقل


لكم من قبل؟ أحب الله وأحب جيرانك كما تحب نفسك "فقال فولتير" إذا كان الأمر كذلك فأنت مولاي الوحيد، ورسم لي علامة نزلت على قلبي برداً وسلاماً. وأختفى الطيف وتركني وقد إرتاح ضميري وشاع في نفسي السلام والطمأنينية(98). ولك نتلك كانت حالة نفسية لاحقة. فإن فولتير في سني حربه ضد المسيحية رأى في تاريخها شقاء بالغاً للجنس البشري. أن صوفية بوص وخرافات الأناجيل المعترف بها أو المشكوك في صحتها وأساطير الشهداء والمعجزات وبراعة الكهنة في التخطيط والتدبير، وتضافرت كلها مع السذاجة المتعلقة بأهداب الأمل عن الفقراء لخلق الكنيسة المسيحية، ثم أن آباء الكنيسة صاغوا العقيدة بفصاحة تكفل إرضاء عقول الطبقة الوسطى. وخبا شيئاً فشيئاً نور الثقافة الكلاسيكية بأنتشار الخيلة الصبيانية والاحتيالات والخدع الورعة، حتى يم الظلام لعدة قرون على عقل أوربا. وزحف المتأملون من الناس والخاملون منهم، كما زحف المتقاعدون عن مواجهة تحديات الحياة ومسؤلياتها، إلى الديار، وأصاب بعضهم بعضاً بعدوى أحلام المنساء والشياطين والآلهة. واجتمعت مجالس العلماء والمتفقهين لتنظر أي الحماقات والسخافات تصلح لتكون جزاء من العقيدة المعصومة. وباتت الكنيسة، بعد أن أسست قوتها وسلطانها على فكرة إشباع رغبة الناس في الأساطير والخرافات التي تبعث على السلوى والعزاء، نقول باتت الكنيسة بعد ذلك أقوى من الدولة التي تؤسس سلكانها على القوات النظامية. وأصبحت قوة السيف تعتمد على قوة الكلمة وثل الباباوات عروش الملوك، وأحلوا الأمم من واجب الولاء للملوك. ومن رأى فولتير أن الإصلاح البروتتانتي كان مجرد خطوة متعثرة نحو العقل وامتدح الثورة ضد الرهبان الذين يعيشون على الصدقات في الأديار، وضد بائعي صكوك الغفران، وضد رجال الدين الساعين إلى جمع الثروة، الذين "استنزفوا في بعض الحالات دخل إقليم بأسره" وفي شمال أوربا



 صفحة رقم : 12717   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> الدين والعقل


اختار الناس ديناً أرخص وأقل تكلفة(99)". ولكن أثاره توكيد اللوثريين والكلفنيين على القضاء والقدر(100). تخيل حاكماً أو ملكاً يحكم على ثلثي رعاياه بالخلود في النار! أو تأمل في مختلف التأويلات المسيحية للقربان المقدس، فالكاثوليك يصرحون بأنهم يأكلون الرب لا الخبز، وللوثريون يلتهمون الرب والحبز كليهما، والكفنيون يأكلون الخبز، لا الرب. وإذا روى لنا أحد شيئاً من مثل هذا الأسفاف والجنون بين الهوتنتوت والكفار لقلنا إنه يخدعنا ويلعب على عقولنا(101)". لقد ولى تقدم العقل لمثل هذه الخلافات ظهره، وتركها بعيداً إلى الوراء "وإذا قدر للوتروكلفن أن يعود إلى الحياة الدنيا فلن يثيرا ضجة أكثر مما فعل أتباع جون دنز سكوتس وتومات أكوبناس(102)". وإذا أستمر البروتستانت على التبشير بمثل هذا اللاهوت فلسوف تتخلى عنهم الطبقات المتعلمة، على حين تؤثر الجماهير مذهب رومه المعطر النابض بالحياة. وبالفعل كان فولتير يظن "أن الكلفنية واللوثرية معرضان للخطر في ألمانيا، فإن تلك البلاد مملؤة بالأسقفيات العظيمة والأديان المسيطرة والشرائع والمذاهب الكثيرة، وكلها ملائمة لعمل أية ردة"(103). إذن هل يجدر بالناس المتعلقين أن يتخلوا عن الدين تماماً؟ كلاً، فإن دينا يدعو إلى الله وإلى لفضيلة دون أية تعاليم أو مبادئ أخرى، لابد أن يكون ذا نفع حقيقي للجنس البشري...وفي سنيه الأولى كان فولتير يظن "أن أولئكالذين يحتاجون إلى مساعدة الدين ليكونوا طيبين صالحين، هم أحق بالرثاء والأشفاق" وأن أي مجتمع يمكن أن يعيش بالأخلاق الطبيعية غير معتمدة على المعتقدات الخارقة(104)". ولكن لما اتسعت خبرته بالأهواء البشرية بدأ يسلم بأنه ليس ثمة قانون أخلاقي يمكن أن يقاوم بنجاح القوة البدائية في الغرائز الفردية، إلا إذا دعمه أيما شعبي عام بأن هذا القانون الخلاقي صادر عن إله بصير، إله يثبت ويعاقب، وهو الذي يتولى السهر عليه. وبعد أن اتفق مع لوك عن أنه ليست هناك أفكار فطرية، عاد فانحاز



 صفحة رقم : 12718   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> الدين والعقل


إلى رأي ليبنتز في أن الحس الخلقي فطري، وعرفه بأنه شعور بالعدل أودعه الله فينا "أن القوانين تراقب الجرائم المعروفة ولكن الين يراقب الجرائم الخلقية(105)". وفي كتاب "الملحد والحكيم" يقول الحكيم: سأفرض (لا قدر الله) أن كل الإنجليز ملحدون، وأذهب إلى أن هناك بعض مواطنين مسالمين، هادئين بطبيعتهم أثرياء إلى حد يمكن أن يكونوا معه أمناء يالتزمون الشرف. ويراعون قواعد السلوك إلى حد أنهم يسعون جهدهم ليعيشوا معاً في المجتمع...ولكن الملحد الفقير المعوز سيكون غبياً إذا هو لم يقتل أو يسرق ليحصل على المال. فهل تنقصم إذن كل عرى المجنمع وروابطه وتطغى كل الجرائم الخفية على العالم وتنتشر مثل الجراد فوق الأرض، ولو أنها في اول الأمر تكون ضئيلة لا تدرك...من ذا الذي يكبح جماح الملوك العظام؟ أن الملك الملحد أشد خطراً من الكاهن المتعصب...وتفاقم الإلحاد في إيطاليا في القرن الخامس عشر. فماذا كانت النتيج؟ وكان من الأمور الشائعة أن تسمم إنساناً وكأنك تدعوه إلى العشاء. إذن يكون الإيمان بآله يثيب على صالح الأعمال ويعاقب على الشرور، ويغتفر مادون ذلك من الأخطاء اليسيرة، من أنفع الأشياء للإنسان(106)". واتجه فولتير آخر المر إلى أن يرى بعض المعنى في نظرية الجحيم: "إلى أولئك الفلاسفة الذين ينكرون الجحيم في كتاباتهم أسوق الحديث: أيها السادة، أن لانقضي أيامنا مع شيشرون أتيكوس وماركوس أوريليوس أبيقور...ولامع الفاضل المبالغ في التدقيق والشك، سبينوزا الذي رد-رغم كدحه تحت وطأة الفقر والعوز-إلى أطفال المتقاعد الكبير دي ويت، راتباً قدره 300 فلورين، كان قد منحه أياه رجل الدولة العظيم، الذي قد يذكر أن الهولنيين قد حطموا قلبه. وصفوة القول، أيها السادة، أن الناس ليسوا جميعاً فلاسفة. أننا مضطرون إلى عقد الأتصالات والقيام بمختلف الأعمال، والاختلاط في غمار الحياة بالأوغاد الذين لا يفكرون إلا قليلاً، أو أنهم لا يفكرون أبداً، وبعدد لا يحصى من



 صفحة رقم : 12719   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> الدين والعقل


الناس الذين لاهم لهم إلا الوحشية والسكر والسلب والنهب، ويمكنكم إذا أردتم أن تعظوهم بأن نفس الإنسان فانية. أما أن فسوف أصرخ في آذانهم بأنهم إذا سلبوني فسيكونون مذنبين لا محالة"(107). ونختتم بأن في مقدور الشيطان أن يقتبس من فولتير ما يحقق أغراضه أي ما يؤيد الشيطان نفسه. وبعد المناداة بديانة متحررة من الخرافات(108)، وأنهى المتشكك الكبير أسوأ الخرافات، إنه قد طالب بديانة تقتصر على غرس الفضائل والأخلاق القويمة(109). أما الآن فهو يسلم بأن الناس العاديين لا يمكن أن يكونوا بمنأى عن ارتكاب الجرائم إلا عن طريق دين فيه جنة ونار أو نعيم وجحيم، وللكنيسة أن تقول إنه تاب وأناب. وفي سن الثانية والسبعين أعاد فولتير صياغة معتقده تحت العنوان المهذب "الفيلسوف الاهل" (176) إنه في البداية يعترف بأنه لا يعرف ما هي المادة وما هو الذهن، ولا يعرف كيف يفكر ولا يعرف كيف يحرك فكره ذراعه(110)، إنه يسأل نفسه سؤالاً من الواضح أنه يدر بخلده من قبل: أمن الضرورة لي أن أعرف؟ ولكنه يضيف "أنا لا أستطيع أن أجرد نفسي من الرغبة في التعليم والمعرفة. أن حب الاستطلاع الذي يبعث على الحيرة والارتباك عندي، لا يشبع ولا يقف عند حد مطلفاً"(111) وهو الآن مقتنع بأن الإرادة غير حرة: "أن الجهول الذي يرى هذا لم يفكر دائماً هكذا، ولكنه في النهاية مضطر إلى الاستسلام"(112). هل يوجد هناك إله؟ نعم، وهو العقل وراء "النظام والفن المذهل والقوانين الميكانيكيةوالهندسيةالتي تكم الكون(113). ولكن هذا العقل الأسمي معروف لدينا فقط بوجوده لا بطبيعته. "أيها الإنسان الفاني البائس. إذا كنت لا أدرك عقلي، وإذا كنت لا أعرف ماذا ينفخ في الحياة، فكيف تكون لي أية دراي بهذا العقل الذي يجل عن الوصف والذي من الواضح أنه يتحكم في الكون؟...ولكنا من صنعه وتدبيره"(114). ويميل فولتير إلى الاعتقاد بأنه لم يكن ثمة خلق في وقت معين، وأن الدنيا



 صفحة رقم : 12720   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> الدين والعقل


قد وجدت دائما، "تنبعث دائماً من هذه العلة البدائية الأساسية، كما ينبعث الضوء عن الشمس" وأن الطبيعة كانت تنبعث فيها الحياة دائماً(115). ولا يزال يؤمن بأن هناك تدبيراً مقصوداً في لكون، أي "العناية الإلهية" التي توحيه الجميع، ولكنها تسمح للجزء-بما في ذلك كل إنسان بمفره-أن التدبير أمر نفسه(116). وينتهي إلى القول "إن قلت لي إني لم أعلمك شيئاً، فتذكر أني إبتدرتك بأني جاهل(117). وبدأ الفيلسوف المتحير يحسد أولئك الذين لم يفكروا ق، ولكنهم آمنوا، وراودهم الأمل فحسب. ومع ذاك رجع إلى رأي سقرا وهو أن الحياة بدون تفكير غير جديرة بالإنسان...وعبر عن تردد بين هذه الآراء في الحياة في كتاب "تاريخ برهمي طيب"(1761): (اتفق لي أن التقيت في رحلاتي ببرهمي عجوز، وكان الرجل ذا عقل راجح وعلم واسع وثراء عريض..وقال لي الرجل ذات يوم : وددت لو أني لم أولد قط، فسألت: ولم هذا، فقال: لأني كنت أدرس طيلة تلك السنوات الأربعين، ووجدت أني قد ضيعت وقتاً طويلاً. وأني لا أعرف شيئاً على الرغم من أني أعلم الأخرين..أنا موجود في الزمن دون أن أعرف ما هو الزمن، أنا موضوع، كما يقال حكماؤنا، في التخزم بين عالمين لا نهائيين، ومع ذلك ليس عندي أيه فكرة عن الأبدية أو الخلود. وأنا مكون من مادة فيما أظن، ولكني لم أستطع قط أن اقنع نفسي بهذا الذي ينتج التفكير...ولا أدري لماذا أنا موجود، ومع ذلك فأنا مكب كل يوم على حل اللغ، ويجب أن أراد جواباً، ولكني لا أستطيع أن أقول شيئاً مرضياً في هذا الموضوع. إني أتكلم كثيراً، وعندما انتهي من الكلام أظل متحيراً مرتبكاً شاعراً بالخجل مما قلت..) وأهمتني كثيراً الحالة التي رأيت عليها هذا الرجل حقاً. وفي اليوم نفسه كان لي حديث مع سيدة عجوز هي جارته. وسألتها أكانت يوماً قد شعرت بعدم السعادة لأنها لم تعرف كيف صنعت نفسها.



 صفحة رقم : 12721   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> الدين والعقل


ولم تفهم سؤالي.أنها لم تفكر ولو لبرهة في حياتها، وفي هذه الموضوعات التي عذب البرهمي الطيب نفسه بالتفكير فيها. وآمنت من أعماق قلبها بتحول إلهها فشنو Vishnu وكانت ترى أنها أسعد النساء شريطة أن يتاح لها الحصول على شيء من الماء المقدس من نهر الكنج لتغتسل به. وأثارتني سعادة هذه المخلوقات المسكينة، فعدت إلى فيلسوفي وابتدرته بقولي: ألا تخجل من بؤسك وتعاستك، على حين أنه على بعد 50 يارد من يوجد مخلوق آلي (أوتوماتيكي) لا يفر في شيء ويعيش هانئاً راضياً فرد عليّ بقوله "أنت على حق. لقد قلت في نفسي إني سأكون سعيداً لو أني كنت جاهلاً مثل جيراني العجائز. ومع ذلك فتلك سعادة لا أرعب فيها. وكان أثر رد البرهمي في نفسي أعظم من أي شيء مضى. وخلصت إلى أننا على الرغم من أننا قد نضفي على السعادة قيمة عظيمة، فإننا لا نزال نقدر قيمة أعظم. ولكن بعد تأمل ناضج...لا أزال أرى هناك قدراً كبيراً من الجنون في إثار العقل على السعادة(118).



 صفحة رقم : 12722   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> فولتير متعصب


8- فولتير متعصب


وفي حالة نفسية مماثلة لهذه كان بسكال قد اختار أن يخضع تفكيره الذي غلب عليه المنطق للكنيسة الكاثوليكية باعتبارها تنظيماً كان قد وجده بعد طول التجربة مزيجاً من التعليم والطقوس تساعد على الفضيلة والأخلاق القومية وتخفف من لوعة التساؤل والحزن. ولم يذهب فولتير في سن السبعينات بعيداً إلى هذا الحد، ولكنه سار مضطرباً لذهن في هذا الإتاه. وبدأ بإن وطن النفس على قبول فكرة أن الدين، أي دين، أمر مرغوب فيه بصفة عامة. وحين سأله بزول (29 ديسمبر 1764) ألا ترى أن تكون هناك عبادة عامة؟ أجاب فولتير "نعم، من كل قلبي. فلنجتمع أربع



 صفحة رقم : 12723   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> فولتير متعصب


مرات في كل عام في معبد كبير، تصدح فيه الموسيقى، لنقدم الشكر لله على كل نعمائه. فهناك شمس واحدة، وهناك إله واحد. ولتكن لنا ديانة واحدة (ومن ثم يكون بنو البشر إخوة)(119). أن الشمس-كما يقولون مهدت له نصف الطريق إلى الله. وفي مايو ذ774 وهو في سن الثمانين، صحا من نومه قبل الفجر، وصعد مع أحد أصدقائه ليشهد مشرق الشمس من تل قريب. وربما كان يقرأ روسو. وبلغ القمة وقد نال منه التعب، وأربكه جلال الشمس المنتصرة وعظمتها، فركع وصاح: يا الله العلي العظيم، اني أؤمن! لكن ثابت نفس فولتير إليه فقال وهو ينض على قدميه أما بالنسبة للسيد الابن والسيدة أمه، فتلك مسألة أخرى(120). وذهب شيئاً فشيئاً إلى أبعد من ذلك فارتضى وجود رجال دين يعلمون الناس الفضيلة ويقومون الصلوات لله(121). واعترف بأن الأساقفة في فرنسا وإنجلترا أسهموا في إقرار النظام الاجتماعي، ولكن الكاردينالات كانوا باهضي النفقة ويجب الاستغناء عنهم. وكان ينظر بعين الإجلال الإكبار إلى راعي الأبرشية البسيط الذي حفظ سجل القرية وساعد الفقراء وأصلح بين الأسرات المتنازعة، فهولاء الكهنة رعاة الأبرشيات يجب أن يكون احترامهم أكبر وأن تزاد مخصصاتهم، وألا يستغلهم رؤساء الكنيسة(122). وفي ساعات التجلي كان الائب العجوز يريد يادة الاجتماعات الدينية لتكون مرة في كل شهر، بل حتى في كل أسبوع(123). ويجب أن يكون هناك صلوات وتكبير لله، وعبادات ودروس في الأخلاق، ولكن لا قربان ولا ذبائح ولا توسلات، ولتكن العظات قصيرة. وإذا كان لابد من صور وثماثيل دينية فلتكن لتخليد ذكرى أبطال الإنسانية، لا ذكر القديسين المشكوك في أمرهم، مثل هنري الرابع (لا خليلاته). وينبغى ألا يكون هناك تعاليم خارقة ااطبيعة، اللهم إلا وجود إله عادل. ويجدر أن تخضع هيئة الكنيسة للدولة. وأن تتولى الحكومة تدريب رجال الدين ودفع أجورهم.



 صفحة رقم : 12724   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> فولتير متعصب


ويمكن أن تبقى الأديار والراهبات على أن تكون ملاجئ للعج والمرضى. ومثل كثير من المتشككين نظر فولتير بعين الإكبار والإجلال إلى الراهبات اللائي خرجن من اديارهن لمساعدة المرضى والفقراء منذ رأي "أخوات البر والإحسان" في مستشفيات باريس. وكان قد كتب في رسالة العادات والأعراف: ليس في العالم كله ما يضارع التضحية بالجمال والشباب وغالباً بكرم المحتد وعراقة الأصل، تلك التضحية التي يقدمها الجنس اللطيف عن طيب خاطر لتخفيف من ويلات الإنسانية في المستشفيات. إن الأمم التي انفصلت عن العقيدة الكاثوليكية قلدت بشكل منقوص، اعمال البر والإحسان الجليلة هذه.(124) وكما يعرف العالم بأسره سيدفولتير بالقرب من قصره في فرني كنيسة صغيرة نقش على مدخلها باعتزاز عبارة "يارب إذكر عبدك فولتير" وادعى أنها الكنيسة الوحيدة المخصصة لله وحده على هذه الأرض. أما الكنائس الآخرى فهي مخصصة للقديسيين(125). وطلب إلى روما أن تزوده ببعض المخالفات المقدسة ليضعها في كنيسته، فأرسل البابا ثوبا من وبر الجل للقديس فرانسيس أوف أسيس، ووضع فولتير على المذبح تمثالاً بالحجم الطبيعي من المعدن المذهب للمسيح لا وهو مصلوب بل باعتباره حكيماً. وهناك إبتداء من 1760 فصاعدا، ضر فولتير القداس في كل يوم أحد، وكان يقوم هو نفسه بعملية البخور باعتباره سيد القرية. وفي عيد الفصح 1768 تناول العشاء الرباني (126) وكان يرسل خدمه إلى الكنيسة بانتظام ودفع أجور تعليم أبنائهم قواعد الديانة(127). وربما قصد بجزء كبير من هذه التقوى والورع أن يكون قدوة حسنة لأهل قريته، ويشجعهم على إيمان قد يحد من جرئمهم ويصون ممتلكاته. وكان واثقاً أن الحاشة الملكية في فرساي سوف يترامى إليها أنباء سلوكه المثالي، وربما راوده الأمل في أن قد ييسر مهمته في شن الحملات من أجل كالاس وآل سيرفن ودي لابار، ويشفع في عودته إلى باريس. والحق أن



 صفحة رقم : 12725   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> فولتير متعصب


الملك والملكة قد سرهما ما سمعا من أنباء إصلاحه. ووافق الكاهن دي لاباتري على أن يتناول فولتير الأسرار المقدسة، ولكنه عندما رأى هزال المبلغ أبدى ملاحظة فحواها أن فولتير نسي أن يدفن نفسه، فأجاب فولتير بأنحناء واحترام "بعدك يا سيدي".(128) وفي 31 مارس سنة 1769 استدعى موثقاً ووقع أما عدة شهود وثيقة تؤكد رغبته في الموت على العقيدة الكاثوليكية(129). وسخر منه الأخوة في باريس، وتقبل هو سخريتهم بصدر رحب. وبعد 1768 اعتاد كما هو الحال في الأديار، أن تقرأ عليه بعض الكتب التعبدية أثناء تناول الطعام. وكان لهذا الغرض يؤثر "عظات ماسيون" لأنه استطاع أن يقدر قيمة الأدب حتى ولو بقلم كاهن. وكان قد أشترك في الحملة ضد اليسوعيين، ولكن في 1770 انظم إلى رابطة علمانية للأخوة الكبوشيين، وحصل من رئيس هذه الطائفة على لقب "الأب الدنيوي لطائفة الكبوشية في جكس"، وهي القرية التي كان فيها سيداً إقطاعياً. وكان فخوراً جداً بهذا التشريف، وكتب عنه عدة رسائل وقع على بعضها باسم "الأخ فولتير الكبوشي". وحياه فردريك قديساً جديداً في الكنيسة، ولكنه أبلغه أن السلطات الكنسية في رومة كانت قد أحرقت في نفس العام بعض أعمال الكبوشيين الحقيرة(130). وليس من اليسير أن نتبين أن تووده إلى الكنيسة كان مخلصاً أو أنه كان ترضيه لقصر فرساي، أو أنه كان بدافع الخوف من الحيلولة دون دفن رفاته في الأرض المخصصة لهذا الغرض، وهي شمل كل مقابر فرنسا. وربما لعبت هذه العوامل الثلاثة دوراً في الكوميديا المقدسة. وفي تلك الأعوام الأخيرة 1770-1778 وقف قلمه على تفنيد الإلحاد لا مهاجمة المسيحية. وأضاف إلى مقال "الله" في القاموس الفلسفي فقرتين دحض فيهما "نظام الطبيعة" لدى هولباخ. وفي 1772 دبج مقالاً رائعاً تحت عنوان "يجب أن نؤيد" وفيه دافع عن "الله والتسامح". واعترف لمدام تكر والدوقة دي شوازيل، والأمير البروسي فردريك وليم، وبخوفه



 صفحة رقم : 12726   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> فولتير متعصب


على حركة التسامح الديني من أن يهزمها تأييد الإلحاد والدفاع عنه، وأسف لأن نقده لدى هولباخ قد تضامن "الأخوة" ولكنه أصر في عناد "لأشك عندي في أن المؤلف وثلاثة من مؤيدي هذا الكتاب سيكونون من الد أعدائيلأنهم تحدثوا بأفكاري. وقد أعلنت لهم أني سأتكلم طالما كان في عرق ينبض أو طالما ترددت أنفاسي دون أن أخشى المتعصبين للالحاد ولا المتعصبين للخرافة(31). ورد أنصار دي هولباخ على هذا بقولهم على هذا بقولهم ان السيد الثرى يشتغل بالسياسة مع فرساي ويستخدم الله ليحافظ على النظام بين خدمه وفلاحيه في فرنى. وفي السنوات العشر الأحيرة من حياته ، نظر إليه الرجال الذي هتف لهم يوما، وحفزهم وشجعهم على الانظمام إلى الحملة ضد "الرجس" بأعتبارهم أخوة، نظروا إليه وكأنه قائد مضيع. أن ديدرو ما أحبه قط، وما ألف تبادل الرسائل معه، وكره منه زعمه الواضح بأن دالمبير هو رأس الموسوعة المفكر وروحها المدبر. لقد استحسن دفاع فولتير عن آل كالوس. ولكن أفلتت منه عبارة تنم على الحقد يقول فيها " أن هذا الرجل لايعدو أن يكون الثاني في كل الاحوال (132) ". أن فولتير لم يشارك ديدرو سياسته الثورية ولاحبه لمسرحية البرجوازية العاطفية، أن البرجوازية حين تصبح ارستقراطية لاتسيغ قناعة البرجوازية. ولم يقم ديدرو ولادى هولباخ بحج الاخلاص والولاء إلى فرني. وعلق جييم في صرامة غير معهودة على نقد فولتير لهوبز وسبينوزا بقوله: " أن الفيلسوف الجاهل لمس بصعوبة سطح هذه الموضوعات ولم يتعمق في فهمها" (133). إن الملحدين في باريس، وقد زاد عددهم وإعتزازهم بأنفسهم، ولوا الآن ظهورهم لفولتير وانصرفوا عنه. وفي أوائل 1765 ، وحتى وسط المعركة ضد "الرجس" نبذه أحدهم في إحتقار قائلا "إنه منعصب إنه ربوبي(134)". وبدأ الشيخ الجليل الواهن حوالي 1770، بعد أن تخلى عنه الجانبان وقاوموه، بدأ يفقد ثقته في أمكانات الفوز، وأطلق على نفسه "المدمر



 صفحة رقم : 12727   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> فولتير متعصب


الكبير" الذي لم يبن شيئا.(135) وخشى من أن دينه الجديد - وهو دين "الله والتسامح" لن يتأتى إلا إذا قبل الحطام نصيحة القديس بطرس "أعملوا من أجل السلام الدائم" أي أنه لن يأتي أبداً. أنه أرتاب طويلا في وهن الفلسفة وانعدام الفتنة والجاذبية في العقل. إن أي فيلسوف لم يؤثر في عادات الناس حتى في الشارع الذي يقطنه، وأسلم الجماهير للخرافة أو الأساطير. وراوده الأمل في أن يحظى بنحو أربعين حكيما في فرنسا وبالفئات المتعلمة في الطبقة الوسطى، ولكن هذا الأمل نفسه بدأ يزوى ويذبل حين آدنت شمس حياته بمغيب. وكل الحلم الذي كان يراوده وهو يستعد في سن الرابعة والثمانين ليرى باريس قبل أن يموت، هو حلم "تنوير الشباب شيئاً فشيئاً". فربما يعود إليه في غمرة الترحيب الشديد به هناك، إيمانه بالإنسان وأمله فيه. وهل كان فولتير فيلسوفاً ؟ نعم . أنه كان كذلك على الرغم من أنه لم يصطنع مذهباً. وأنه تردد وتذبذب في كل شيء وغالباً مابقى فوق سطح الأشياء ولم يتعمق فيها. ولم يكن فيلسوفاً إذا كانت هذه الكلمة تعتى صانع مذهب قائم على فكر موحد متماسك عن العالم والإنسان، إنه انصرف عن المذاهب بأعتبارها هجمات وقحة على "المطلق غير المحدود" ولكنه كان فيلسوفاً إذا كان المقصود بالفلسفة انشغال الذهن بشكل جدي بالمشاكل الأساسية للطبيعة والاخلاق والحكومة والحياة والقضاء والقدر. ولم يعتبر فولتير عميقاً، وربما كان السبب في هذا أنه كان غير متأكد، وكان واضحاً وقل أن كانت أفكاره أصيلة. ولكن كل الأفكار الأصيلة تقريباً في الفلسفة سخيفة. وأنعدام الأصالة علامة الحكمة. يقيناً كان الشكل الذي صاغ فيه أفكاره أصيلاً. وفولتير بلانزاع ألمع كاتب ظهر، وهل كان الرجل الثاني، لا الرائد الأول، في كل مجال كما اتهمه ديدرو؟ كان الثاني في الفلسفة بعد ديدرو، نعم، وفي المسرحية بعد كورني وراسين ولكنه كان الأول والأفضل في زمانه في فهمه وكتابته للتاريخ وفي رقة شعره، وفي



 صفحة رقم : 12728   



قصة الحضارة -> عصر فولتير -> الهجوم على المسيحية -> فولتير والمسيحية -> فولتير متعصب


سحر نثره وظرفه، وفي مدى تفكيره وتأثيره. ورفرفت روحه مثل اللهب فوق القارة وفوق القرن. كما أنها تثير وتهز مليون نفس في كل جيل. وربما أسرف في كراهيته، ولكن علينا أن نتذكر الاستفزاز والإثارة ، ونتصور أنفسنا عائدين إلى الوراء في عصر كان الناس يحرقون فيه على الخازوق، أو تقطع ايديهم وارجلهم من خلاف بسبب الارتداد عن الديانة التقليدية. وقد نرى المسيحية الآن أفضل مما كانت عليه أو مما رآها هو آنذاك، لأنه ناضل وأصاب بعض النجاح للتخفيف من تعاليمها وحدتها. ويمكن أن نحس بقوة وروعة العهد القديم وجمال العهد الجديد وسموه، لأننا أحرار في أن نفكر فيهما بأعتبارهما من عمل وإيحاء رجال غير معصومين من الخطأ. ويمكن أن نكون شاكرين ومقدرين لاخلاق المسيح لأنه لم يعد يهددنا بالجحيم، أو يصب اللعنة على الناس والمدن التي لاتستمع إليه(137). ويمكن أن نحس نبل القديس فرانسيس الأسيسى لأنه لم يعد يطلب منا أن نصدق أن القديس فرانسيس أكسافيير كان يسمع في عدة لغات على حين كان يتحدث بلغة واحدة، ويمكن أن نحس بشعر الطقوس الدينية وبالمسرحية في هذه الطقوس، حيث تركنا الأنتصار العابر للتسامح أحرارا في أن نتعبد أو نمتنع عن العبادة. ويمكن أن نتقبل مائة أسطورة بأعتبارها رموز عميقة أو مجازات منيرة موضحة، لأننا لم نعد يطلب منا أن نتقبل خفيقتها الحرفية. وتعلمنا أن نتعاطف مع ماكنا يوماً نحبه. وكان علينا أن نتخلى عنه، عندما نستعيد أجمل الذكريات لما كنا نحب في شبابنا. ولمن، أكثر من أي رجل واحد آخر، ندين بفضل هذا التحرر العزيز علينا والذي يعتبر فاتحة عصر جديد؟ أننا ندين بهذا الفضل لفولتير.