قصة الحضارة - ول ديورانت - م 9 ك 2 ف 8

صفحة رقم : 12016

قصة الحضارة -> عصر فولتير -> فرنسا -> الأخلاق والتعليم -> التعليم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثامن: الأخلاق والعادات

1- التعليم

كان بين الصراعات الكثيرة الأساسية التي شهدتها فرنسا في القرن الثامن عشر، محاولة الكنيسة الاحتفاظ بسيطرتها على التعليم، إلى جانب محاولة الفلاسفة وغيرهم إنهاء هذه السيطرة والقضاء عليها. وبلغ الصراع ذروته بطرد اليسوعيين من فرنسا في 1762، وتأميم المدارس الفرنسية، وغلبة التعليم العلماني في الثورة الفرنسية. وكان خلاف قد بدأ يبرز في النصف الأول من القرن الثامن عشر فقط. ولم تكن الغالبية العظمى من الفلاحين تعرف القراءة. وفي كثير من المجتمعات الريفية، كانت الهيئات البلدية، حتى إلى عام 1789، "لا تكاد تعرف الكتابة"(1). وكان في معظم الأبرشيات على أية حال "مدرسة صغيرة" يقوم فيها الكاهن بنفسه، أو من يعينه هو، بتعليم القراءة والكتابة والدين المسيحي على صورة سؤال وجواب، للأولاد الذكور أساساً، في مقابل رسم زهيد يدفعه الآباء عن كل تلميذ(2)، أما الأولاد الذين يعجز آباؤهم عن الدفع فكانوا يتعلمون بالمجان إذا طلبوا ذلك. وكان اللحاق بهذه المدرسة مطلوباً قانوناً بمقتضى مراسيم 1694 و1724، ولكن هذه المراسيم لم تنفذ(3)، وامتنع كثير من الآباء الفلاحين عن إرسال أبنائهم إلى المدرسة، لحاجتهم إليهم في المزرعة من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنهم رأوا أن التعليم أمر مزعج لا ضرورة له لمن قدر عليهم أن يشتغلوا في الأرض. فالتعليم لم يكن يكفل أي ارتفاع في المركز الاجتماعي لأن الحواجز الطبقية كانت عقبة لا يمكن التغلب عليها تقريباً في النصف الأول من القرن. وفي القرى والمدن الصغيرة نادراً ما كان الذين تعلموا القراءة يقرئون شيئاً غير ما تعلق بعملهم اليومي. وكان كل إنسان يعرف قواعد الدين، وفي المدن الكبيرة وحدها كان هناك شيء من المعرفة بالأدب والعلوم والتاريخ.

وفي الطبقات المتوسطة والعليا كان معظم التعليم على أيدي المربيات والمؤدبين، أو المعلمين الخاصين، وأخيراً على أيدي معلمي الرقص، وهؤلاء الأخيرين كان مفروضاً فيهم أن يعلموا الجنسين كليهما الفنون الشاقة، وهي فنون الجلوس والوقوف والمشي والحديث والإيماء، في كياسة ورقة. وتلقت بعض الفتيات دروساً خاصة في اللاتينية، وفوق هذا كله تقريباً، تعلم الفقراء الغناء والعزف على البيان القيثاري. وقام التعليم العالي للبنات في الأديار، حيث ارتقين في الدين والتطريز والموسيقى والرقص وقواعد السلوك القويم الذي يجدر بالشابة أو الزوجة أن تتحلى به.

وكان كل التعليم الثانوي للذكور تقريباً في يد اليسوعيين، ولو أن الرهبان الأوراتوريين والبندكتيين أسهموا فيه. وكان المتشككون من أمثال فولتير وهلفيشيوس من بين الخريجين العديدين المرموقين في كلية اليسوعيين "لويس الأكبر" حيث كان الأب شارل بوريه يقوم بتدريس "البلاغة" (أي اللغة والأدب وعلم الكلام) وترك في تلاميذه ذكريات طيبة. وما كاد المنهج في المدارس اليسوعية ليتغير طوال قرنين من الزمان. وعلى الرغم من تركيز هذا المنهج على الدين والأخلاق، فإن مادته كانت كلاسيكية إلى حد بعيد، فكان التلاميذ يدرسون مؤلفات روما القديمة في نصوصها الأصلية، فأكب التلاميذ الصغار على دراسة الفكر الوثني لمدة خمس أو ست سنوات، فلا عجب أن ساورتهم بعض الريبة في عقيدتهم المسيحية. وأكثر من هذا فإن اليسوعيين "لم يدخروا وسعاً في تنمية ذكاء تلاميذهم وغيرتهم"(4). فكانوا يشجعون على المناقشة والتحدث علانية وعلى تمثيل الروايات، وكانوا يتعلمون قواعد لترتيب أفكارهم والتعبير عنها، ومن ثم كان جزء من وضوح الأدب الفرنسي وصفاته من غرس المدارس اليسوعية، وأخيراً تلقى الطالب مناهج قاسية في المنطق والميتافيزيقا وعلم الأخلاق عن أرسطو من ناحية وفلاسفة العصور الوسطى السكولاسيين (المدرسيين) من ناحية أخرى. وهنا مرة أخرى، نجد أن النتائج كانت تقليدية، إلا أن عادة التفكير والاستنتاج والتعليل بقيت-وأصبحت بالفعل-علامة مميزة لهذا العصر "عصر العقل" بوجه خاص. وكان الجلد بالسياط أيضاً جزءاً من المنهج، حتى لطلاب الفلسفة، ودون تميز في المرتبة أو المكانة الاجتماعية، فقد جلد من أصبح فيما بعد مركيز دارجنسون ودوق بوفلرز، أمام أقرانهما في الفصل، لأنهما قذفا أساتذتهما الأجلاء بحبات البازلاء(5).

وعلت الشكوى بالفعل من أن المنهج لم يول عناية تذكر بما وصلت إليه المعرفة من تقدم وازدهار، وأن التعليم كان نظرياً إلى حد كبير، ولا يعد للحياة العملية، وإن الإلحاح الشديد على التعليم الديني قد أفسد الأذهان أو أغلقها. وفي "رسالة عن التعليم" كانت يوماً مشهورة (1726-1728) دافع شارل رولان رئيس جامعة باريس عن المنهج الكلاسيكي (القديم التقليدي) وعن التركيز على الدين. وكان من رأيه أن الهدف الأسمى من التعليم هو خلق أناس أفضل. وأفاضل المعلمين "لا يعنون كثيراً بالعلوم، حيث لا تساعد هذه العلوم على التمسك بأهداب الفضيلة. ولم يكونوا يأبهون كثيراً بالتزود بألوان المعرفة، إذا لم تقترن بالاستقامة وحسن الخلق. وكانوا يؤثرون الرجل الأمين على الرجل العالم الواسع الإطلاع(6). وقال رولان إنه من الصعب أن نشكل الخلق القويم دون تأسيسه على عقيد دينية. ومن ثم "ينبغي أن يكون الهدف من جدودنا، والغرض من تعليمنا هو الدين"(7)وسرعان ما يثير الفلاسفة الجدل حول هذا الموضوع، ويستمر الجدل حول ضرورة الدين للأخلاق طوال القرن الثامن عشر، والقرن الذي يليه. وهو جدل حي في أيامنا هذه.


2- الأخلاق

ويبدو أن حجة رولان كانت تؤيدها الفروق الطبقية في المبادئ الأخلاقية. وإن الفلاحين الذين تمسكوا بدينهم عاشوا حياة أخلاقية نسبياً، وربما كان هذا، على أية حال راجعاً إلى حقيقة أن الأسرة كانت وحدة الإنتاج الزراعي، وأن الأب كان أيضاً المستخدم أي صاحب العمل، وكان نظام الأسرة يرتكز في جذوره على نظام اقتصادي يفرضه تعاقب الفصول ومتطلبات الأرض. واستمسكت الطبقات الوسطى بقدر كبير من العقيدة الدينية، مما عزز سلطة الأبوين أساساً للنظام الاجتماعي. أما مفهوم الأمة باعتبارها رابطة من الأسرات عبر الأجيال، فقد هيأ لأخلاقيات الطبقة الوسطى قوة التماسك والتقاليد. وكانت الزوجة البرجوازية نموذجاً للجد والتقوى والأمومة. وكانت تتحمل آلام الوضع في صبر وجلد، وسرعان ما كانت تعود إلى عملها. وكانت قانعة ببيتها وعلاقاتها مع جيرانها، وقليلاً ما انزلقت إلى زخرف الدنيا الخداع التي يسخر الناس فيها من الإخلاص على أنه شيء عتيق بال. ونادراً ما نسمع عن حوادث الزنى عند زوجات الطبقة الوسطى. وضرب كل من الأب والأم معاً مثلاً رائعاً في العادات القويمة والتمسك بالدين والحب المتبادل. وتلك هي الحياة التي خلد شاردان ذكرها معتزاً بها، في لوحته مثل "البركة".

ومارست كل الطبقات أعمال البر والإحسان وكرم الضيافة. وكانت الكنيسة تجمع الصدقات وتوزعها. ودعا الفلاسفة المعادون للدين إلى عمل الخير، وبنوا دعوتهم على أن هذا الحب للإنسانية لا حب لله، ومن ثم كانت "الإنسانية" الحديثة نتاجاً للدين والفلسفة معاً. وأمدت الأديار الجياع بالطعام، وعنيت الراهبات بالمرضى، وقامت المستشفيات وملاجئ الفقراء والأيتام والعجزة على الموال التي تدفعها الدولة للكنيسة والنقابات. وكان بعض الأساقفة مبذرين منصرفين إلى متاع الدنيا. ولكن نفراً آخر منهم-مثل أساقفة أوكسير وميربوا وبولون ومرسيليا-وهبوا ثرواتهم وحياتهم لأعمال البر والإحسان. ولم يكن موظفو الدولة مجرد طالبي مناصب أو نفعيين طفيليين، فإن موظفي بلدية باريس كانوا يوزعون الطعام وحطب الوقود والنقود على الفقراء" وفي ريمس خصص أحد أعضاء البلدية 500 ألف جنيه للصدقات. وكان بالملك لويس الخامس عشر نزعات إلى الشفقة والعطف والحنان المشوب بالجبن. وعندما خصص مبلغ 600 ألف جنيه للألعاب النارية احتفالاً بمولود دوق برجندي الجديد (1751)، ألغى الملك العرض وأمر بتوزيع المبلغ مهوراً لستمائة من أفقر بنات باريس، وحذت مدن أخرى حذوه. وعاشت الملكة عيشة مقتصدة غير مسرفة وأنفقت معظم دخلها في الأعمال الخيرية. وكذلك أنفق دوق أورليان ابن الوصي المشاغب الخليع ثروته في أعمال البر والإحسان. ويبدو الجانب غير المشرق في هذا الموضوع في الفساد والإهمال اللذين شوها إدارة المؤسسات الخيرية. فهناك عدة أمثلة لمديري مستشفيات استولوا لأنفسهم على الأموال التي كانت تصلهم من اجل العناية بالمرضى والفقراء.

وعكست الأخلاقيات الاجتماعية طبيعة الإنسان-أناني وكريم، وحشي ولطيف، يخلط بين قواعد اللياقة وسفك الدماء في المعركة. ولعب رجال الطبقات العليا والدنيا ونساؤها الميسر في تهور بالغ، دون إحساس بالمسئولية وبددوا ثروات أسراتهم، وكان الغش في اللعب سائداً إلى حد كبير(8). وفي فرنسا، كما كان الحال في إنجلترا، أفادت الحكومة من حب الناس للمقامرة بإنشاء "يانصيب" وطني. أما أسوأ مظاهر الحياة الفرنسية وأكثرها مجافاة للأخلاق فهو أرستقراطية الحاشية البالغ الخالي من الرحمة، تلك الأرستقراطية التي كانت تعيش على الدخول التي كانت تبتزها من الفلاحين الفقراء. فإن ملاءات سرير الدوقة دي لافري كانت مشغولة بالمخرمات الغالية الثمن، وتكلفت 40 ألف كراون، وكانت لآلئ ومجوهرات مدام اجمونت تساوي 400 ألف كراون(9)، وكانت الخيانة والخداع أمرين عاديين مألوفين من أعمال الموظفين، واستمر بيع الوظائف والمناصب، وكان مشتروها يستغلونها في الإثراء غير المشروع تعويضاً لهم عما دفعوا فيها ولم يكن قدر كبير مما يجبى من الضرائب يصل إلى خزانة الدولة. وفي غمرة هذا الفساد نمت روح الوطنية، ولم يكف الرجل الفرنسي عن حب فرنسا، ولك يطق الرجل الباريسي أن يعيش طويلاً بعيداً عن باريس. وامتاز كل فرنسي تقريباً بالبسالة. وفي حصار ماهون، ورغبة من المارشال دي ريشيليو في منع جنوده من تعاطي المسكرات، أصدر هذا القائد قراراً يقول فيه "أن أي فرد منكم يوجد ثملاً في المستقبل لن يكون له شرف الاشتراك في الهجوم" فتوقف شرب الخمر تقريباً(10)، واستمرت المبارزة على الرغم من كثرة قرارات تحريمها. وقال لورد تشسترفيلد "إن المرء ليلحقه الخزي والعار إذا لم يثر للإهانة، وإنه ليلقى حتفه إذا استاء لها(11)".

وكان عقاب اللواط الإعدام حرقاً. ولكن هذا القانون كان ينفذ في الفقراء وحدهم، كما حدث مع أحد رعاة البغال 1724. وفي 1725 ألقي القبض على الراهب ديفونتين، الذي كان قد اشتغل بالتدريس في إحدى الكليات اليسوعية لمدة خمسة عشر عاماً، واتهم بمثل هذه الفعلة، فأهاب بفولتير لمساعدته، فنهض من فراش مرضه قاصداً إلى فونتبنلو، واستحث فليري ومدام دي بري لاستصدار عفو عنه(12)، وطيلة العشرين عاماً اللاحقة كان ديفونتين من ألد أعداء فولتير. وكان بعض خدم الملك منحرفين جنسياً. ويبدو أن أحدهم، وهو تريمو ويل، اتخذ من الملك ذي الستة عشر ربيعاً غلاماً له(13).

وانتشر البغاء بين الفقراء والأغنياء. وفي المدن الصغيرة كان أصحاب الأعمال ينقدون مستخدماتهم الإناث مبالغ لا تفي بنفقاتهن الضرورية، وأجازوا لهن أن يكملن أجورهن اليومية بالاستجداء وممارسة الدعارة ليلاً(14). وقدر كاتب معاصر عدد البغايا في باريس بأربعين ألفاً. وهناك تقدير آخر بأنهن ستون ألفاً(15)وكان الرأي العام-فيما عدا الطبقة الوسطى متسامحاً مترفقاً بأمثال هؤلاء النسوة، حيث أدرك أن كثيراً من النبلاء ورجال الدين ووجوه المجتمع ساعدوا على خلق هذا الطلب الذي أدى إلى هذا العرض، وتذرع الرأي العام بشيء من اللياقة، فأدان الفقيرات اللاتي يبعن أعراضهن أقل مما أدان الذين يشترون المتعة، أي أن مسئولية هؤلاء عن هذا العمل الشائن أكبر. وكانت نظرة رجال الشرطة إلى هذا الأمر تختلف عن ذلك اللهم إلا إذا قدمت شكوى خاصة أو عامة ضد هؤلاء "البنات" وهنا يتم الاعتقال بالجملة، تبرئة لساحة الحكومة، وعندئذ يساق النساء للمثول أمام أحد القضاة، وقد يحكم القاضي بإيداعهن السجن أو المستشفى، حيث تحلق رءوسهن بالموس ويعاقبن ويوضعن تحت المراقبة ثم يطلق سراحهن، وتنمو شعورهن من جديد. وإذا خلقن متاعب جمة لأحد ذوي النفوذ والسلطان أو أسأن إليه، فيمكن إرسالهن إلى لويزيانا. وعرضت محظيات الحاشية أو المومسات اللاتي يتردد عليهن الأغنياء، مركباتهن وحليهن ومجوهراتهن في طريق "كور-لا-رين" في باريس، أو في متنزه "لونجشامب"(16). وإذا حصلن على عضوية الكوميدي فرانسيز أو الأوبرا، حتى لتمثيل الأدوار القصيرة، اكتسبن الحصانة ضد الاعتقال بتهمة بيع مفاتنهن أو أعراضهن. وارتفع بعضهن ليكن نماذج للفنانين (لرسم الصور العارية)، أو يتخذهن النبلاء ورجال المال أخداناً لهم خاصة. واقتنص بعضهن أزواجاً، وحصلن على ألقاب وثروات، وأصبحت واحدة منهن بارونة سانت شاموند.

وكانت الزيجات القائمة على الحب، دون موافقة الأبوين، تزداد في عددها وفي الإنتاج الأدبي. وكان من الممكن الاعتراف بشرعيتها إذا عقدت أمام كاتب العدل أو الموثق. ولكن في معظم الأحوال، حتى بين الفلاحين ظل الآباء هم الذين يرتبون أمر الزواج باعتباره اتحاداً بين الممتلكات والأسرات، لا مجرد اتحاد الأفراد. فالأسرة، لا الفرد، هي وحدة المجتمع، ومن ثم كانوا يرون أن بقاء الأسرة وممتلكاتها أهم من الملذات العابرة أو العواطف السريعة الوهن عند الشباب المتهور. وفوق هذا قال فلاح لابنته "الحظ أقل عمى من الحب(17)".

وكانت السن القانونية للزواج هي الرابعة عشرة للذكور والثالثة عشر للإناث. ولكن كان يمكن قانوناً أن تتم الخطبة في سن السابعة، وهي التي حددها فلاسفة العصور الوسطى مبدأ "سن العقل" وكانت الشهوة الجامحة عند الشبان تدفع بهم إلى مطاردة الآنسات مطاردة عنيفة، إلى حد أن الآباء زوجن بناتهن حالما كان ممكناً ميسوراً تفادياً لإنفضاض البكارة قبل الأوان، وهكذا كانت المركيزة دي سوفبيف أرملة في الثالثة عشرة من عمرها. ولزمت بنات الطبقتين الوسطى والعليا الدير حتى يتم اختيار الأزواج لهن، وعندئذ يعجل بهن من حياة الدير إلى حياة الزوجية، وكان لزاماً تشديد الحراسة عليهن في الطريق. وبهذا النظام القاسي المنافي للأخلاق السيئ، كان كل النساء تقريباً عذارى عند الزواج.

وإذ احتقرت الأرستقراطية الفرنسية التجارة والصناعة، ونادراً ما غطت الدخول الإقطاعية نفقات الإقامة في البلاط وما تقتضيه من مظاهر، فإنها وطنت النفس على تزويج أبنائها للذين توافرت لهم الأرض ولم يتوافر لديهم المال، من بنات الطبقة البرجوازية العليا اللاتي لا يملكون أرضاً، ولكن يملكن كالاً. ولما اعترض ابن دوقة شولن على زواجه من ابنة التاجر بونييه ذات الصداق الكبير، أوضحت له أمه "أن زواج المنفعة ممن هي دونك مرتبة، هو مجرد حصولي على الروث لتسميد الأرض"(18). وفي مثل هذه الزيجات عادة، كان الزوج النبيل أو ذو اللقب، وهو يستغل أموال زوجته، يذكرها من حين لآخر بأصلها الوضيع، وسرعان ما يتخذ خليلة، وفي هذا خير شاهد على احتقاره لزوجته. ولم يغب هذا أيضاً عن ذاكرة الطبقة الوسطى حين ساعدت الثورة.

ولم يوصم الزنى بأية وصمة عار اجتماعي، في البيئة الأرستقراطية، بل كان أمراً مقبولاً باعتباره بديلاً ساراً عن الطلاق الذي حرمته الديانة الوطنية. وقد يتخذ الزوج الذي يخدم في الجيش أو في الأقاليم له خليلة، دون أن يبدي لزوجته سبباً مقبولاً للشكوى. وقد يفترقان الواحد منهما عن الآخر، بالخدمة في الحاشية أو في الضيعة، وهنا أيضاً قد يتخذ خليلة ومذ كان عقد الزواج يتم دون الزعم بأن العاطفة يمكن أن تتجاوز عن الثراء فإن كثيراً من الزوجين من النبلاء عاشا فترة طويلة من حياتهما منفصلين، وأباح كل منهما للآخر زلاته، شريطة أن تكون هذه الزلات مستورة بلباقة، كما تكون في حالة المرأة مقصورة على رجل واحد في نفس الوقت وأجرى مونتسكيو على لسان سائحه الفارسي قوله: "إن الرجل الذي يريد أن يستحوذ على زوجته له هو وحده يعتبر معكراً لصفو السعادة العامة، غبياً يريد أن يستأثر بالاستمتاع بضوء الشمس، ويحجبها عن سائر الناس(19)". وسئل يوماً دوق دي لوزون الذي لم يكن رأى زوجته طيلة عشر سنين، ماذا يقول لو أن زوجته أرسلت إليه تنبئه بأنها حامل، فأجاب، مثل أي سيد ماجد في القرن الثامن عشر: "أكتب إليها لأقول إني مبتهج فرح لأن الله بارك زواجنا، اعتن بصحتك، سأحضر لأقدم لك إحتراماتي هذا المساء(20)" فالغيرة كانت أمراً مرذولاً.

وكان بطل الزنى وفتى العصر ونموذج الأناقة في ذاك الزمان هو لويس فرانسوا أرمان دي فينيرو دي بلسيس، دوق ريشيليو حفيد أخي الكاردينال الصارم المتقشف. وقد انزلقت إلى مخدعه عدة سيدات نبيلات من ذوات الألقاب، الواحدة تلو الأخرى، تجرهن إليه مكانته وثروته وشهرته. ولمما وبخ ابنه وهو في العاشرة من عمره على بطء تقدمه في دراسته اللاتينية، أجاب في سرعة مفحمة: "أن أبي لا يعرف اللاتينية، ولكنه مع ذلك يحظى بأجمل نساء فرنسا(21)". وهذا لم يمنع اختياره للأكاديمية الفرنسية قبل فولتير، صديقه ودائنه، بثلاث وعشرين سنة، وكان فولتير يكبره بعامين. ومهما يكن من أمر فإن الرأي العام استهجن سلوك هذا الدوق لأنه كان يجلب إلى الملك النساء لهذا الغرض الدنيء. ومنعته جيوفران من التردد على ندوتها لأنه يجمع بين عديد من أمهات الكبائر(22)". وعمر حتى بلغ الثامنة بعد التسعين، ومات قبل قيام الثورة بعام واحد.

وإذا كانت العلاقة بين الزوجين على هذا النحو، فإننا نستطيع أن نتصور مصير أبنائهما. وكان النبلاء يعتبرون صراحة أن أبنائهم عوائق في طريقهم، ويدفعون بهم عند ولادتهم إلى المرضعات، ويتولى تنشئتهم مربيات ومعلمون خاصون، حيث يرون والديهم بين الحين والحين. وروى تاليران أنه لم ينم قط تحت السقف الذي نام تحته أبوه وأمه. وكان من رأي الأبوين أنه من الحكمة أن يباعدوا بينهم وبين أبنائهم، فكانت العلاقة الحميمة أمراً شاذاً، وكانت الألفة أمراً غير معروف. فخاطب الابن أباه بقوله "سيدي" وقبلت البنت يد أمها. وإذ كبر الأبناء أرسلوا إلى الجيش أو الكنيسة أو الدير. وكانت كل الممتلكات تؤول إلى الابن الأكبر، كما كان الحال في إنجلترا.

واستمر أسلوب الحياة هذا سائداً في نبلاء الحاشية، حتى ارتقاء لويس السادس عشر عرش فرنسا في 1774. وكشف هذا الأسلوب، من جهة أخرى، عن فقدان الأيمان بالدين عند الطبقات العليا. وتخلى الناس تماماً عن مفهوم الزواج في المسيحية، مثله في ذلك مثل مفهوم الفروسية في العصور الوسطى. وأصبح الجري وراء اللذة والمتعة "وثنياً" بشكل أشد سفوراً منه في أي وقت منذ عصر روما الإمبراطورية المضمحلة. ونشرت كتب كثيرة في "الأخلاقيات في فرنسا في القرن الثامن عشر"، ولكن كانت هناك أيضاً كتب كثيرة تعالج البذاءة والفحش بطريقة مدروسة متعمدة، وكانت أوسع انتشاراً ورواجاً ولو كانت سرية. وكتب فردريك الأكبر يقول :إن الفرنسيين ولا سيما سكان باريس، أصبحوا الآن مترفين منغمسين في الملذات، أوهنتهم المتعة والدعة"(23)وحوالي 1749 رأى مركيز دارجنسون في انحطاط الوعي الخلقي نذيراً آخر بكارثة وطنية: "القلب قوة نسلب أنفسنا إياها كل يوم لأننا لا نروضه ولا ندربه أبداً. على حين أننا نشحذ الذهن ونصقله باستمرار، فنصبح عقلانيين-لا عاطفيين-أكثر فأكثر... وإني لأتنبأ بأن هذه المملكة لا بد هالكة، نتيجة لإخماد القوى التي تنبع من القلب، إننا لا نكسب أصدقاء، ولم نعد نحب عشيقاتنا، فكيف نحب بلادنا؟... إن الناس يفقدون يوماً بعد يوم تلك الخلة الحميدة التي نسميها رقة الشعور. ويختفي الحب والحاجة إلى الحب... وحسابات المصلحة تشغلنا وتستنزفنا دائماً. وكل شيء سبيل إلى الدسيسة والمكيدة... وتنطفئ جذوة النار الداخلية (العواطف) لأننا لا نغذيها، ومن ثم يزحف الشلل إلى القلب(24)".

وهذا هو صوت بسكال يردد مذهب طائفة بورت رويال (مذهب الجانسنيين) وصوت روسو، قبل ظهور جان جاك بجيل واحد، أو صوت الأرواح المرهفة الحس في أي عصر من عصور القلق الفكري والتحرير، ولسوف يطرق أسماعنا ثانية.


3- العادات

لم ير التاريخ قط أخلاقيات طائشة مثل هذه، مزخرفة مموهة بتهذيب ورقة في السلوك وأناقة في الملبس والحديث، وتنوع في المتع والملذات، وفتنة في النساء، وكياسة متأنقة في المراسلات، وإشراق في الفكر والذكاء.

"ولم يوجد قط في فرنسا من قبل، أو في أوربا المعاصرة... بل ولا في العالم منذ وجد العالم، مجتمع مهذب ذكي مبهج، مثل المجتمع الفرنسي في القرن الثامن عشر"(25) قال هيوم في 1741 إن الفرنسيين "أتقنوا بدرجة كبيرة ذلك الفن، وهو انفع الفنون وأليقها ألا وهو فن الحياة، فن المجتمع، فن الحديث"(26). ولم تستخدم كلمة "مدنية" إلا في أخريات هذه الحقبة، فلم تظهر في قاموس جونسون 1755، ولا في "المعجم الكبير" الذي صدر في 30 مجلداً في باريس في 1768.

وأحس الفرنسيون بالمدنية بوجه خاص في ملابسهم، ونافس الرجال النساء منافسة كبيرة في العناية بالثياب. واقتضى الزي العصري السائد أن يلبس أفراد الطبقة العليا قبعات كبرى ذوات ثلاث زوايا، مزدانة بالريش والأشرطة الذهبية، ولما كانت هذه القبعات تفسد ترتيب شعورهم المستعارة، فإنهم وضعوا القبعات عادة تحت أذرعتهم. وكانت الشعور المستعارة آنذاك أصغر مما كانت عليه أيام الملك العظيم (لويس الرابع عشر)، وكانت أكثر شيوعاً حتى بين الحرفيين. وكان في باريس ألف ومائتا حانوت للشعور المستعارة، يعمل فيها ستة آلاف عامل. وكان الشعر الطبيعي والمستعار يدهن بالمساحيق. وكان شعر الذكور طويلاً عادة، ويلم بشريط أو في كيس وراء الرقبة. وكانوا يرتدون سترة طويلة زاهية اللون-من المخمل عادة-فوق البذلة الداخلة التي تكشف عن صدرة مفتوحة عند الحلق، وعن قميص حريري رقيق، ورباط عنق عريض، وأكمام تنتهي إلى "كشكشات" مزخرفة عند المعصم. وكانت "بنطلونات" الركوب القصيرة ملونة، والجوارب من الحرير الأبيض. وكانت الأحذية تشد بمشابك من فضة. ولبس أفراد الحاشية أحذية ذات كعوب حمراء، علامة مميزة لهم، واستخدم بعضهم عظام فك الحوت ليحتفظوا بأذيال ستراتهم ممتدة على نحو صحيح. وتزين بعضهم بالماس في عري ستراتهم. وكان الجميع يحملون سيوفاً. وحمل بعضهم العصى. وكان حمل السيف محرماً على الخدم وغلمان الحرفيين والموسيقيين(27). وكانت ملابس أفراد الطبقة البرجوازية

بسيطة: سترة و "بنطلون" قصير من قماش عادي قاتم، وجوارب صوفية سوداء أو رمادية، وأحذية ذات نعال سميكة وكعوب وطيئة. وارتدى الحرفيون وخدم المنازل الأردية التي كان الأغنياء ينبذونها. وتذمر ميرابو الأكبر من انه لا يستطيع التمييز بين الحداد واللورد!

وظلت السيدات تتمتعن بحرية أرجلهن داخل الرحاب الفسيح لتنوراتهن ذات الأطواق الموسعة. وشجب رجال الدين النساء اللائي ارتدين مثل هذه التنورات "بأنهن إناث قردة أو أعوان الشيطان" ولكن النساء أحببنها لأنها تضفي عليهن جلالاً حتى ولو كن حبالى. وتروي مدام دي كريكي "أنها لم تستطع أن تهمس أذن مدام دي اجمونت لأن التنورة ذات الأطواق الموسعة حالت دون اقتراب الواحدة منهما من الأخرى"(28)أما حذاء السيدة ميلادي "ذو الكعب العالي المصنوع من جلد ملون والمرصع بتطريزات من الذهب والفضة-فقد أضفى على قدميها فتنة تسلب الألباب إذا لم يراهما أحد. وارتقى صانع حذائها إلى مصاف البرجوازية العليا بسبب إبداعه في فنه، وكم من قصة حب كتبت عن قدم جميلة، وهي عادة حذاء جميل وكان مثيراً إلى مثل هذا الحد تقريباً، ذلك "الخف" المزين برسوم الأزهار، الذي لا نعل له، والذي كانت تلبسه ميلادي في البيت. وكانت مقيدة أيضاً الأهداب والحواشي والمراوح والملابس التحتية المزخرفة التي كانت تجذب عين الرجل الزائغة أو تخفي جسم المرأة الحائرة في كل ناحية. وكان مشد الخصر والردفين (الكورسيه) المصنوع من عظام فك الحوت يساعد على تشكيل هذا الجسم في القوام الأنيق الذي يقتضيه العصر ويلائم المكانة الاجتماعية. وبرز جزء معقول من الصدر ليشهد بالامتلاء المناسب المريح. وكان الحلاقون وضيعين بسطاء. ولم تظهر تسريحة الشعر العالية إلا في 1763. وعالجت مستحضرات التجميل والتطرية لليدين والذراعين والوجه والشعر. وتخلف الرجال قليلاً عن النساء في استخدام العطور. وكان وجه السيدة ينقش ويطلى بالمساحيق، وتوضع عليه بطريقة بارعة لصوق تجميلية أو شامات من الحرير الأسود مقطعة على شكل قلوب أو قطرات من الدموع أو أقمار أو نيازك أو نجوم، ويمكن أن يكون للسيدة العظيمة سبع أو ثمان من هذه اللصوق على جبهتها، وصدغيها وقرب عينيها وعلى جوانب الفم. وكانت تحمل صندوقاً للصوق فيه شامات إضافية تعوض بها ما قد يتساقط منها. وكانت المائدة في حجرة ملابس السيدة الغنية تتألق بالأدوات والمواد اللازمة لها-صناديق من الذهب والفضة أو الحجر اللازوردي، مخصصة لحفظ أدوات الزينة. وتلألأت الجواهر الثمينة على الذراعين والرقبة والأذنين والشعر. وكان يسمح للرجال ذوي الحظوة بالدخول إلى حجرة ملابس السيدة ميلادي ليجاذبوها أطراف الحديث، بنما كانت وصيفاتها تقمن بإعدادها لبرنامج اليوم. وكان الرجال في الطبقة الأرستقراطية عبيداً للنساء كما استعبدوا للزي السائد للنساء، أما الزي فيحدده مصممو ملابس النساء. وبعد 1704 أعرضت فرنسا عن محاولات تحديد الزي او الملابس، عن طريق قوانين ضبط الإنفاق. واتبعت أوربا الغربية بصفة عامة أزياء فرنسا، ولكن كانت هناك أيضاً موجة معاكسة فإن زواج لويس الخامس عشر من ماري لزكزنسكا أتى بطرز بولندية وأدخلت الحرب ضد النمسا والمجر أزياء مجرية، وعمل زواج الدوفين من الأميرة الإسبانية ماريا تريزا رافاييلا على انتشار "الطرحة" في فرنسا من جديد.

ولم تكن وجبات الطعام منمقة مزخرفة مثل الثياب، ولكنها تطلبت علماً دقيقاً متنوعاً، كما تطلبت فناً رقيقاً. وكان المطبخ بالفعل النموذج الذي يحتذى في العالم المسيحي ومكمن الخطر فيه. وفي 1749 حذر فولتير قومه من أن وجبات الطعام الثقيلة التي يتناولونها "قد تصيب آخر الأمر أذهانهم بالتبلد"(29). وضرب مثلاً طيباً للغذاء البسيط وسلامة العقل والفطنة. وكلما ارتقت الطبقة، ازداد ما تتناول من طعام. وعلى هذا كانت وجبة العشاء على مائدة لويس الخامس عشر تتكون من حساء، وشواء من لحم تتكون من حساء، وشاء من لحم البقر، وطبق من لحم العجل، وبعض الدجاج، والحجل والحمام، ثم الفاكهة الطازجة والفاكهة المحفوظة(30)ويقول فولتير "كان نفر قليل من الفلاحين يذوقون طعم اللحم لأكثر من مرة واحدة في الشهر"(31).

وكانت الخضراوات ضرباً من الترف في المدينة حيث كان يصعب الاحتفاظ بها طازجة. وانتشر أكل السمك "الأنقليس". وكان بعض السادة الكبار ينفقون 500 ألف جنيه سنوياً على المطبخ، وأنفق أحدهم 72 ألف جنيه على مأدبة عشاء أعدها للملك والحاشية. وكان رئيس الخدم في البيوتات الكبيرة شخصية مهيبة تثير الإعجاب، يلبس ثياباً فاخرة ثمينة، ويحمل سيفاً، ويتألق في إصبعه خاتم من الناس. وكانت النساء الطباخات موضع ازدراء واحتقار، وكم طمع الطباخون وجهدوا في ابتداع أطباق جديدة ليخلدوا أسماء سادتهم، فأكلت فرنسا طبق شرائح لحم العجل المنظر الجميل (بل في)-قصر مدام دي بمبادور المفضل لديها-"ودجاج فيلروا" وصلصة الميونيز، تخليداً لذكرى انتصار ريشيليو في "ماهون"(32). وكانوا يتناولون الأكلة الرئيسية في الساعة الثالثة أو الرابعة بعد الظهر، والعشاء في التاسعة أو العاشرة ليلاً.

وكانت القهوة آنذاك تنافس النبيذ شراباً.ولا بد أن ميشيليه (المؤرخ الفرنسي 1798-1874) أحب القهوة كثيراً، حيث رأى أن تزايد تدفق البن من شبه الجزيرة العربية والهند وجزيرة البوريون والبحر الكاريبي أسهم في انتعاش الروح الذي ميز عصر الاستنارة(33). وكانت كل صيدلية تبيع البن حبوباً أو القهوة المعدة للشراب على المنضدة الطويلة بداخلها. وفي 1715 كان في باريس 300 مقهى، وفي 1750 زادت إلى 600، كما وجد منها عدد مناسب في كل مدينة في الأقاليم وفي مقهى "بروكوب" وكان يسمى أيضاً "كاف الكهف لأنه كان دائماً مظلماً" كان ديدرو ينشر أفكاره، كما كان فولتير يقصد إليه متنكراً ليسمع التعليقات على أحدث رواياته. وكان مثل هذا المقهى منتدى العامة حيث يلعبون الشطرنج أو "الضامة" أو "الدومينو"، وفوق هذا وذاك يتجاذبون أطراف الحديث لأن الناس ازداد شعورهم بالوحدة والوحشة بازدياد السكان في المدن.

وكانت الأندية عبارة عن مقاه خاصة، عضويتها مقيدة، وتغلب عليها رعاية مصالح من نوع محدد. وحوالي 1721 أسس الراهب آلاري نادي "دي لا نترسول" (عبارة عن طابق مسروق بين الطابق الأرضي والطابق الذي فوقه، في دار الراهب، حيث كان يجتمع نحو عشرين من رجال السياسة والقضاء والحكم والأدب ليتدارسوا شئون الساعة، دينية أو سياسية وكان بولنجبروك هو الذي جاء بهذا الاسم فأدخل لفظة CLUB إلى اللغة الفرنسية، وهناك شرح الراهب دي سانت بيير برامجه للإصلاح الاجتماعي والسلام الدائم، مما أزعج الكاردينال فليري فأمر بفض النادي في 1731. وبعد ذلك بثلاث سنوات أسس أيضاً أنصار جيمس الثاني اللاجئون من إنجلترا في باريس أول دار فرنسية للبنائين الأحرار (الماسونيين)، كانت ملجأ للربوبيين، ووكراً للدسائس السياسية، وأصبحت منفذاً للنفوذ الإنجليزي ومهدت الطريق للفلاسفة.

إن الرجال والنساء، وقد أصابهم الضجر والسأم من الكدح والنصب في أعمالهم اليومية كانوا يقصدون زرافات ووحداناً إلى المتنزهات وقاعات الرقص والمسارح وفرق الموسيقى والأوبرا، وأولع الأثرياء بالصيد والقنص والبرجوازيون بالنزهات الخلوية. وكانت غابة بولونيا والشانزلزيه وحدائق التويرلري وحدائق لكسمبرج وحديقة النباتات أو حديقة الملك، كما كانوا يسمونها آنذاك-أماكن مفضلة للتنزه في المركبات أو مشياً على الأقدام، ولقاء العشاق وعروض عيد الفصح. أما إذا لزم الناس بيوتهم فإنهم كانوا يتسلون بالألعاب المنزلية والرقص والموسيقى والتمثيليات الخاصة. وكان كل إنسان يرقص. وكان "البالية" قد أصبح فناً ملكياً معقداً. ظفر الملك فيه بنصيب من حين إلى حين. وكان راقص الباليه مثل كامارحو أو لاجوسان معبود الجماهير في المدينة ومشتهى أصحاب الملايين.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4- الموسيقى

كانت الموسيقى في فرنسا قد انحطت منذ تفوق للي على موليير في تسلية الملك الأعظم فلم يكن هنا في فرنسا هذا الجنون أو الولع الشديد بالموسيقى الذي أدى بإيطاليا إلى نسيان إذلالها أو خضوعها السياسي، ولا التفاني الشديد في أساليب التلحين، الذي أوجد القداسات الضخمة والألحان الموسيقية المطولة المبنية على رواية الإنجيل لآلام المسيح في ألمانيا على عهد باخ.

وكانت الموسيقى الفرنسية في عصر انتقال من الشكل التقليدي إلى زخرفة الباروك، إلى رقة الروكوكو، ومن الطباق المعقد ذي الألفاظ المشوهة للحن، إلى ألحان سلسة متدفقة وأفكار رئيسية رقيقة تتلاءم مع الطبيعة الفرنسية. واستمر مؤلفو الموسيقى يخرجون أغاني الغزل أو الهجاء أو أغاني حزينة تتحدى الفتيات، وتتحدى الملوك، وتستنكر العزوبة والتواني. وامتدت رعاية الموسيقى من الملوك الذين يتطلبون العظمة والجلال إلى رجال المال الذين يدافعون عن حظوظهم مع الفرق الموسيقية والمسرحيات والشعر مما يستأثر به القلة من ذوي الجاه والنفوذ. وأخرجت أوبرا روسو "الموزيات الأنيقات" (إلهات تسع تحمين الشعر والغناء في الأساطير اليونانية) Les Muses Galantes في بيت الملتزم العام بوبلنيير. وكان لبعض الأغنياء فرق موسيقية خاصة بهم. وكانت العروض أو الحفلات المفتوحة للجمهور مقابل رسم دخول، تقدمها بانتظام في باريس "فرق الموسيقى الروحية" التي أنشئت 1725 وتبعتها في ذلك سائر المدن. وقدمت الأوبرا في باليه رويال" في وقت متأخر بعد الظهر عادة، حتى إذا انتهت في الثامنة والنصف مساء، قصد المتفرجون للتنزه في حدائق التويلري، وأطربهم المغنون والعازفون في الهواء الطلق. وكان هذا واحداً من المظاهر الفاتنة في الحياة في باريس.

وإنا لندرك من مطالعة كتاب ديدرو "ابن أخي رامو" كم من الملحنين والموسيقيين البارعين أقبل الناس عليهم إقبالاً شديداً في هاتيك الأيام، على حين جر عليهم النسيان اليوم ذيوله. وثمة ملحن فرنسي واحد من تلك الحقبة خلف لنا أعمالاً لا تزال تتشبث بالحياة. إن جين فيليب رامو أولع أيما ولع بالموسيقى. وكان أبوه عازف الأرغن في كنيسة سانت اتيين في ديجون. ويؤكد لنا كتاب السير المتحمسون أن جين استطاع في سن السابعة أن يقرأ أية موسيقى توضع أمامه بمجرد زقزق نظره عليها. وفي الكلية استغرق كل جهده في الموسيقى إلى حد أن الآباء اليسوعيين فصلوه، وبعد ذلك كاد جين لا يفتح كتاباً إلا في الموسيقى أو عن الموسيقى. وسرعان ما أصبح بارعاً في العزف على الأرغن والبيان القيثاري والكمان مما لم يكن بعده زيادة لمستزيد في ديجون. ولما وقع الشاب في شراك الغرام، ورأى الوالد أن في هذا مضيعة لمواهبه أرسله إلى إيطاليا ليدرس أسرار الألحان فيها (1701).

ولما عاد جان إلى فرنسا، عمل عازفاً على الأرغن في كليرمونت فراند وخلف أباه في ديجون (1709-1714)، ثم رجع أدراجه إلى كليرمونت عازفاً على الأرغن، في الكاتدرائية (1716)، ثم استقر به المقام في باريس 1721. وهناك في 1722 وهو في التاسعة والثلاثين كتب مؤلفه الرائع عن النظرية الموسيقية في فرنسا في القرن الثامن عشر "رسالة عن علم الإيقاع موجزاً في أسسه الطبيعة". وحاول رامو أن يبرهن أنه يوجد دائماً في التأليف الموسيقي السليم، سواء كان موزعاً أو غير موزع-"قاعدة أساسية" يمكن أن تستمد منها كل الأنغام التي فوقها، وأن كل النغمات المتآلفة يمكن أن تستخرج من سلسلة إيقاعات النغمات الجزئية، وأن كل هذه الأنغام يمكن أن تقلب دون أن تفقد هويتها. إن رامو كتب بأسلوب لا يفهمه إلا أكثر الموسيقيين تبحراً ومعرفة بالموسيقى، ولكن أفكاره سرت دالمبرت الرياضي، الذي شرحها بشكل أوفى 1752 وإنك لتجد أن قوانين الترابط الوتري التي صاغها رامو، مقبولة في عصرنا هذا أساساً نظرياً للتأليف الموسيقي(34).

وشن النقاد هجومهم على رامو، فرد عليهم هو بتآليف وتفاسير، حتى حظي بالتقدير والإجلال بما أخضع له الموسيقى من قوانين، كما فعل نيوتن بالنسبة للنجوم(35). وفي 1726-وهو في سن الثالثة والأربعين تزوج من ماري ماجنو، إذ ذاك في الثامنة عشرة. وفي 1727 وضع موسيقى مسرحية فولتير الغنائية "سمسون" ولكنهم حظروا إخراجها على أساس أن قصص الكتاب القدس لا يجوز تحويلها إلى أوبرا. وكان على رامو أن يكسب قوته بالعمل عازفاً للأرغن في كنيسة "سانت كروادي لا بروتنيري. وبلغ الخمسين من العمر قبل أن يغزو مسرح الأوبرا.

وفي 1733 قدم له الراهب بللجرين أوبرا "هبوليريت وأريسيمي" المبنية على رواية راسين "فدر" ولكن الراهب حصل من رامو على صك بمبلغ خمسمائة جنيه ضماناً في حالة سقوط الأوبرا. ولما مثلت على سبيل التجربة ابتهج الراهب بموسيقاها أيما ابتهاج، إلى حد أنه مزق الصك في نهاية الفصل الأول. ولما مثلت أمام الجمهور في أكاديمية الموسيقى أدهشت المتفرجين بخروجها الجريء عن الأنماط التي كانت قد أصبحت تقاليد مقدسة منذ عهد للي. واعترض النقاد على ما أتى به رامو من إيقاعات جديدة غريبة، وتغييرات مبتدعة في طبقة الصوت وتعقيدات في التوزيع الموسيقي بل أن الفرقة الموسيقية نفسها كرهت الموسيقى. وفكر رامو لبعض الوقت في التخلي عن محاولاته في مجال الأوبرا ولكن محاولاته الثانية Les Indes Galantes (1735) حظيت بإعجاب المتفرجين بتدفق ألحانها المنسقة، أما أوبرا Castor Et Polluy 1737 فكانت من أروع الانتصارات في تاريخ الأوبرا الفرنسية.

وأفسده النجاح، وتفاخر بأنه في مقدوره أن يحول أي نص إلى أوبرا جيدة وأن ينقل صحيفة أي جريدة إلى موسيقى. وأنتج(36)سلسلة طويلة من الأوبرات غير الهامة. ولما ضاق مديرو أكاديمية الموسيقى ذرعاً به انصرف إلى تأليف قطع للبيان القيثاري والكمان والفلوت. وأخذ لويس الخامس عشر-أو بالأحرى مدام بمبادور-بيده، باستخدامه في كتابة موسيقى رواية فولتير "أميرة نافار"، التي لقيت في فرساي نجاحاً أعاد له مكانته (1745) ونال رضا الأكاديمية من جديد، وكتب مزيداً من روايات الأوبرا. ومذ ألفت باريس أسلوبه فإنها نسيت للي، ونادت برامو ملكاً على دنيا الموسيقى بلا منازع.

وفي 1752 وجد نفسه يواجه تحدياً جديداً. ذلك أن بعض الفنانين العازفين والملحنين كانوا قد قدموا من إيطاليا. ومن ثم بدأت حرب صاخبة بين الموسيقى الفرنسية والموسيقى الإيطالية التي بلغت ذروتها في السبعينات بالموسيقار بتشيني ينافس جلك Gluck. وفي دار الأوبرا في باريس قدمت فرقة إيطالية مع أوبرا برجوليزي "La Serva Randona" فاصلاً موسيقياً وهي من روائع الأوبرا الهزلية ورد أنصار الموسيقى الفرنسية على ذلك بالنشرات ويقطع رامو. وانقسمت الحاشية إلى معسكرين وناصرت مدام بمبادور الموسيقى الفرنسية على حين دافعت الملكة عن الموسيقى الإيطالية، وهاجم جريم الأوبرا الفرنسية بأسرها (1752) وأعلن روسو أن الموسيقى الفرنسية بغيضة لا تطاق. والعبارة الأخيرة في مؤلفه "رسالة في الموسيقى الفرنسية" (1753) تدل أبلغ دلالة على خلله العاطفي قال: "وفي اعتقادي أني قد أوضحت أن الموسيقى الفرنسية مجردة من الوزن والتناغم معاً، لأن اللغة لا توفرها لها هذا أو ذاك. والغناء الفرنسي مجرد نباح وشكوى متصلتين ولا تطيقه الأذن غير المتحيزة، وأن إيقاعها غير مستساغ وأنها لا تعبر عن شيء ولا تشعر إلا بما تلقت عن معلمها، وأن النغم الفرنسي ليس نغماً، وأن المقاطع الصوتية الفرنسية ليست مقاطع صوتية. ومن ثم انتهيت إلى أن الفرنسيين ليس لديهم موسيقى، ولن يكون لهم شيء منها قدر لهم أن يكون لديهم شيء من الموسيقى فستكون وبالاً عليهم".

وانتقم أنصار الموسيقى الفرنسية بخمس وعشرين نشرة أصدروها ضد روسو، وأحرقوا تمثالاً على باب دار الأوبرا(37)واستخدم رامو، على كره منه، عنصراً رئيسياً في حرب المهرجين، فلما هدأت المعركة وأعلن انتصاره فيها اعترف هو نفسه بأن الموسيقى الفرنسية لا تزال في حاجة إلى أن تتعلم الشيء الكثير عن الموسيقى الإيطالية، وقال إنه لو لم تكن سنه قد كبرت إلى هذا الحد، لعاد إلى إيطاليا ليدرس طرق برجوليزي وغيره من الأساتذة الإيطاليين.

وكان رامو آنذاك في قمة شعبيته، ولكن كان له أعداء كثيرون قدامى وجدد. وأضاف إليهم بنشرة أصدرها يعرض فيها أخطاءه التي وردت في المقالات التي ظهرت عن الموسيقى في دائرة المعارف. فما كان من روسو، وهو كاتب معظم هذه المقالات إلا أن انقلب عليه وازداد مقتاً له. أما ديدرو أبو دائرة المعارف فإنه كان السباب للملحن العجوز في لباقة تبعث على الاحترام في "ابن أخي رامو" التي لم ينشرها تفضلاً منه وكرماً، قال: إنه الموسيقار الشهير الذي خلصنا من موسيقى للي المتعددة الأصوات التي ترنمنا بها لأكثر من قرن من الزمان، والذي كتب كلاماً كثيراً خيالياً غير مفهوم وحقائق غامضة عن نظرية الموسيقى-وهي كتابات لم يفهمها هو، ولا أحد غيره قط. إنه أخرج لنا عدداً من الأوبرات التي يجد فيها المرء أنغاماً متآلفة وشيئاً من الغناء، والأفكار غير المترابطة والثرثرة في سرعة وجلبة، والحركات السريعة ومواكب النصر والحراب والمثل العليا وألحان الرقص... مما سيبقى إلى الأبد(38).

وحين ظهر رامو في إحدى المقصورات 1760-وهو في سن السابعة والسبعين لمناسبة إعادة أوبرا "داردانوس" وهي من إخراجه، لقي احتفاء وترحيباً حماسياً كاد يفوق ما قوبل به فولتير بعد ذلك بثمانية عشر عاماً. ومنح الملك براءة النبالة. وأعفته هو وأسرته ديجون الفخورة بابنها من الضرائب البلدية مدى الحياة. وانتابته وهو في قمة مجده حمى التيفوييد، وذبل بسرعة وقضى نحبه في 12 ديسمبر 1764 وشيعته باريس باحتفال مهيب حيث ووري التراب في كنيسة سانت أوستاش. وأقامت مدن كثيرة في فرنسا الصلوات تكريماً له.

5- الصالونات

كانت باريس العاصمة الثقافية للعالم، أكثر منها فرنسا. قال ديكلوس "إن هؤلاء الذين يعيشون على مسافة مائة فرسخ من العاصمة إنما يبعدون عنها بمائة عام من حيث أساليب السلوك والتفكير(39)وربما لم توجد عبر التاريخ قط مدينة تعج بحياة متنوعة الألوان. فالمجتمع المهذب المصقول وفنون الأدب الرفيع ائتلفا في رباط وثيق مذهل. وكان الخوف من الجحيم قد زال عن الباريسيين المتعلمين وتركهم في حالة المرح والابتهاج لم يسبق لها مثيل، لا يلقون بالاً في وثوقهم الجديد بأنه ليس هناك عملاق رهيب قدير في السموات، يسترق السمع إلى خطاياهم ويحصيها عليهم. ومن تحرير الذهن على هذا النحو لم تنجم بعد آثار كئيبة من عالم مجرد من القداسة والهدف الخلقي، عالم برتجف في زمهرير التفاهة والحقارة، وكان الحديث شائقاً تتخلله الدعابة والمرح. وغالباً ما انتقل إلى هزل ظاهري، وهنا كان التفكير ينحصر في ظواهر الأمور خشية عدم العثور على شيء في أعماقها. وكان القيل والقال والفضائح تنتشر بسرعة من ناد إلى ناد ومن بيت إلى بيت، وكثيراً ما تطرق الحديث إلى آفاق خطيرة في السياسة والدين والفلسفة، مما قد يتيسر الخوض فيه اليوم إلا نادراً.

وكان المجتمع متألقاً، لأن السيدات كن مبعث الحياة فيه، وكن المعبودات التي قدسها هذا المجتمع، وهن اللائي تولين توجيهه، وبطريقة ما وبرغم العرف والعوائق أتيح لبعضهن قدر من التعليم يكفي لتبادل الحديث في فطنة وذكاء مع أئمة الفكر الذين أحببن أن يستضيفوهم. ونافسن الرجال في الاستماع إلى محاضرات رجال العلم(40). إذ عاش الرجال قليلاً في المعسكرات وطالت إقامتهم في العاصمة وفي الحاشية فقد تزايد إحساسهم بالمفاتن غير الملموسة في النساء-رشاقة الحركة، عذوبة الصوت حيوية الروح ومرحها، بريق العينين، رهافة الذوق، الجزع المشوب بالحنان والحب، النفس المشربة بالرحمة والشفقة. إن تلك الصفات جعلت المرأة محبوبة في كل مدينة ولكنا ربما لا نجد في أية ثقافة أخرى أن الطبيعة والتعليم والملابس والحلي وأدوات التجميل والزينة قد جعلت من المرأة مخلوقاً يسحر الألباب بقدر مل كانت عليه في فرنسا القرن الثامن عشر. وكل هذا المفاتن والمغريات لا تستطيع على أية حال أن تفسر سلطان المرأة وقوتها. إن الذكاء في معالجة الرجال وسياستهم أمر ضروري. وبارى ذكاء النساء عقل الرجال وفي بعض الأحيان تفوق عليه. وعرف النساء الرجال أفضل مما عرف الرجال النساء. والرجال يندفعون في تهور بالغ إلى أفكار لتنضج حتى تفهم، على حين إن التراجع المحتشم المطلوب حتى من السيدة المتفتحة، هيأ لهل فسحة من الوقت للملاحظة والتجريب وتخطيط حملتها أو هجومها.

وكلما ازدادت حساسية الرجل اتساعاً وعمقاً، نما تأثير المرأة ونفوذها. وفتشت البسالة في ميدان الحب عن جزاء وفاق لها في الصالون وفي مخدع المرأة وفي الحاشية على حد سواء. وكم اهتز الشعراء طرباً حين وجدوا آذاناً صاغية من الجنس الرقيق. وكم رفع من شأن الفلاسفة تفضل السيدات ذوات التهذيب الرفيع والمكانة العالية بالاستماع إليهم، بل إن أغزر العلماء علماً وأوسعهم إطلاعاً وجدوا في الصدور الناعمة وفي حفيف الرقص مثاراً للفكر والعقل. وهكذا مارست المرأة قبل "تحريرها" سيادة طبعت العصر بطابعها المتميز. وتذكرت مدام فيجي لبرون فيما بعد "كانت المرأة تحكم آنذاك، ثم ثلت الثورة عرشها"(41). إن النساء لم يعلمن الرجال آداب السلوك والعادات فحسب، بل إنهن كذلك رفعن أو خفضن من درجاتهم في الحياة السياسية، بل حتى في الحياة العلمية. من ذلك أن مدام دي تنسان هيأت اختيار ماريفو بدلاً من فولتير، لعضوية مجمع الخالدين "الأكاديمي فرانسيز) في 1742. وكان شعار "فتش عن المرأة" وسيلة النجاح، فإنك إذا عثرت على المرأة التي يحبها الرجل، كشفت عن المنفذ الذي تصل منه إلى الرجل الذي تريد.

كانت كلودين الكسندرين دي تنسان-بعد بمبادور-هي السيدة الأكثر إمتاعاً وتشويقاً بين النساء اللاتي سيطرن على فرنسا في النصف الأول من القرن الثامن عشر. وقد عرفنا كيف هربت من أحد الأديار، وأنجبت دالمبرت، واتخذت لها مسكناً في باريس في شارع سانت أونوريه حيث استقبلت مجموعة متعاقبة من العشاق، بينهم بولنجبروك، ريشيليو، فونتنيل (صموت ولكنه نشيط قوي في سن السبعين) وعدداً من الرهبان ومدير الشرطة في باريس. وأضافت الشائعات أخاها بيير إلى قائمة المترددين عليها، ولكن ربما أحبته لمجرد أنها أخت حنون مصممة على تنصيبه كاردينالاً، إن لم يكن رئيساً للوزراء. وعن طريقه وعن طريق غيره دبرت أن تكون ركناً قوياً في حياة فرنسا.

إنها جمعت المال أولاً:. واستثمرته على طريقة دكتور لو، ولكنها باعت الأسهم في الوقت المناسب. وقبلت الحراسة على ثروة شارل جوزيف دي لا فرزني، ثم أبت إعادتها إليه، فانتحر في دارها، تاركاً وصية يتهمها فيها بالسرقة (1726)، وأرسلت إلى الباستيل ولكن أصدقائها دبروا أمر الإفراج عنها، واحتفظت بمعظم الثروة. وتحدت ثرثرة المدينة والحاشية، وخرجت منها سالمة.

وحوالي 1728 أفاضت مدام دي تنسان إلى مخدعها صالوناً اتخذته سلماً ترقى به إلى السلطة والقوة، واستقبلت فيه مساء يوم الثلاثاء من كل أسبوع، على مائدة العشاء عدداً من الرجال البارزين، أطلقت عليهم "معرض الوحوش" منهم مونتنيل، مونتسكيو، ماريفو، بريفوست، هلفشيوس، استروك، مارمونتل، هينولت، ديكلوس، مابلي، كوندرسيه، وأحياناً تشسترفيلد. وكانت المجموعة كلها من الرجال عادة لأن تنسان لم تكن تطيق على مائدتها أية منافسات. ولكنها أطلقت "لوحوشها" العنان، ولم تغضب قط لرافضهم السافر للمسيحية. وتساوي كل الناس من كل الطبقات هناك، فكان الكونت النبيل في مستوى الرجل من العامة، وقد تروى التقاليد فيما بعد أنه هنا كانت تجري أكثر المناقشات تألقاً ودقة طوال هذا القرن، قرن الحديث الذي لا حدود له(42).

وعن طريق ضيوفها وعشاقها وكهنة اعترافها استخدمت نفوذها لتحقيق أهدافها بطريقة سرية فيما بين فرنسا وروما. ولم يكن أخوها طموحاً، بل كان يتوق إلى الباسطة في الحياة والهدوء في الأقاليم، ولكنها وسعت حتى عين رئيس أساقفة ثم كاردينالاً، وأخيراً وزيراً في مجلس الدولة. وعاونت على أن تجعل من مدام شاتورو خليلة للملك، واستحثتها على حث الملك ليقود جيشه في الحرب. إنها رأت في بلادة لويس وتكاسله مصدراً للاضمحلال السياسي ونذيراً بهذا الاضمحلال. وربما كانت على صواب فيما فكرت فيه من أنها لو تولت رياسة الوزارة للقيت الحكومة نجاحاً أكبر، وأظهرت نشاطاً وحيوية أكثر. وناقش رواد صالونها في جرأة انحلال الملك واحتمال قيام الثورة.

وفي شيخوختها نسيت خطاياها، وانضمت إلى اليسوعيين وشنت الحملات على الجانسينين، وتبادلت رسائل المودة مع البابا بندكت الرابع عشر الذي أرسل إليها صورته اعترافاً منه بخدمتها للكنيسة. إن رقة الفؤاد التي ازدانت بها أخطاؤها، وجدت لها منافذ كثيرة. ولما قابل الجمهور في بداية الأمر كتاب مونتسكيو "روح القانون" (1748) بعدم الاكتراث اشترت تنسان كل نسخ الطبعة الأولى تقريباً، ووزعتها مجاناً على أصدقائها الكثيرين. وتولت رعاية مارمونتل الشاب وأسدت إليه النصح أن يعقد فوق كل شيء، أواصر الصداقة مع النساء، لا الرجال، وسيلة للارتقاء والصعود في هذا العالم(43). وأصبحت هي نفسها، في سني شيخوختها وضعفها الأخيرة، كاتبة ومؤلفة، وسترت الطيش والحماقة بإغفال ذكر اسمها على ما ألفت. وقارن أصدقاؤها النقاد قصتها بقصة مدام دي لافاييت (برنسيس دي كليف Prnicesse De Cleves). وفارقت مدام تنسان الحياة في 1749 وهي في الثامنة والستين. وعندئذ تساءل فونتينل العجوز "أين أتناول العشاء مساء يوم الثلاثاء الآن؟" ولكنه أجاب لنفسه في ابتهاج على الفور "حسناً"، عند مدام جيوفرين(44). وربما التقينا به هناك.

كان صالون مدام دي دفاند قديماً قدم صالون تنسان، كما عمر مثل ما عمر صالون جيوفرين تقريباً. إن ماري دي فيشي شامروند باتت يتيمة وهي في سن السابعة فوضعت في دير اشتهر بالتعليم، فبدأت تدرس وتتأمل في سن مبكرة الأوان، وكانت تلقي أسئلة تتسم بالتشكك إلى حد مزعج، وإذ وقعت الراهبة في حيرة من أمر الصبية وأسئلتها فإنها أحالتها إلى الواعظ المتفقه ماسيون، الذي عجز عن تفسير المسائل الغامضة، فتخلى عنها يأساً من إنقاذها من الضلال. وفي سن الحادية والعشرين أصبحت مركيزة دي ديفان بزواج تم عن تراض بين الطرفين، ولكنها سرعان ما تبينت أن زوجها شخص مبتذل ممل إلى حد لا يحتمل، فافترقا بعد اتفاق وفر لها ثروة لا بأس بها. وفي باريس وفرساي انصرفت إلى لعب الميسر في اندفاع شديد "لم أفكر في شيء إلا القمار" ولكن بعد ثلاثة أشهر منيت فيها بخسائر فادحة، "تولاني جزع شديد، وحزنت على ما أنا فيه، ونأيت بنفسي عن هذه الحماقة". وقضيت فترة قصيرة خليلة للوصي(45). ثم تنحت عنه إلى عدوته الدوقة دي مين. وفي مسكو التقت بشارل هنولت رئيس مجلس التحقيق العسكري، الذي أصبح عشيقاً لها، ثم صديقاً مدى الحياة.

وبعد أن أقامت لبعض الوقت مع أخيها انتقلت إلى نفس الدار في شارع دي بون، التي قضى فيها فولتير نحبه. وإذ اشتهرت بجمالها وعينيها البراقتين وذكائها الحاد، فإنها جذبت إلى مائدتها (حوالي 1739) نفراً من مشاهير الرجال الذين جاءوا ليؤلفوا صالوناً يذيع صيته كما ذاع صيت صالون تنسان تقريباً: هنولت، مونتسكيو، فولتير، مدام دي شانيليه، ديدرو، دالمبرث، مارمونتل، مدام دي ستال دي لونيه...... وفي 1747، وقد بلغت آنذاك الخمسين، وخفضت من غلوائها بعض الشيء، استأجرت شقة جميلة في دير سان جوزيف في شارع سان دومنيك. وكان من عادة الأديار تأجير غرف للعرائس والأرامل والنساء اللائي افترقن عن أزواجهن، وكانت هذه المساكن عادة في أبنية خارج المبنى الأساسي الخاص بالراهبات. ولكن في حالة هذه المتشككة الثرية، كان المسكن داخل جدران الدير، والحق إنه المسكن الذي كان قد آوى تحت سقفه مؤسسة هذا الدير الآثمة، مدام دي مونتسبان. وتبع صالون المركيزة شخصها إلى مقرها الجديد. ولكن ربما أزعجت البيئة المحيطة به الفلاسفة، فلم يعد ديدرو يحضر ونادراً ما كان يجيء مارمونتل، وكان جريم يتردد بين الحين والحين، وسرعان ما أنقطع دالمبرث. ومعظم المجموعة الجديدة في سان جوزيف كانوا من سلالة الأرستقراطية القديمة: مارشال لكسمبورج ومارشال ميربوا وعقيلتاهما، دوقا ودوقتا دي بوفلوز ودي شوازيل ودوقات اجوبون وجرامونت وفليروا وصديق مدام دي ديفاند من أيام طفولتها ولمدى الحياة، وهو بونت دي فيل. وكانوا يلتقون في السادسة، ويتناولون العشاء في التاسعة ثم يلعبون الورق والميسر؛ ويتناولون بالتحليل والتفصيل الأحداث الجارية في عالم السياسة والأدب والفن، ثم يفترقون. في نحو الساعة الثامنة صباحاً. وكان الأجانب البارزون، والوافدون على باريس يحتالون للحصول على دعوة إلى "مأوى النبلاء" هذا. وروى لورد باث في 1751 "إني لأذكر أمسية دار الحديث فيها عن تاريخ إنجلترا، وكم دهشت وارتبكت حين وجدت أن هؤلاء القوم عرفوا من تاريخ بلادنا خيراً مما عرفنا نحن عنه!(46).

وتفردت دي ديفاند بأصفى ذهن وأسوأ خلق بين صاحبات الصالونات فكانت مغرورة متغطرسة عيابة شكاكة، أنانية أكثر مما يليق بالمرء أن يكون. ولما عالج كتاب هلفشيوس "الروح" ما ذهب إليه لاروشفوكول من أن كل الدوافع الإنسانية أنانية، علقت هي بقولها في ازدراء "إنه إنما كشف عن سر كل إنسان"(47)وكانت تجيد الهجاء المشوب بالحقد والضغينة كما فعلت في وصفها مدام دي شاتيليه. ولم تر في الحياة الفرنسية إلا الجوانب التافهة الضعيفة. وذهبت إلى ان الفقراء اشتركوا، بقدر ما سمحت به ظروفهم في رذائل الأغنياء ومساوئهم. ولم تضف شيئاً إلى التطلعات المثالية للفلاسفة سوى ما جاءت به العقيدة العتيقة من أساطير مغرية مريحة للنفس. وتجنيب الاستنتاجات وآثرت العادات القويمة. واحتقرت ديدرو ونعته بأنه جلف ساذج. وأحبت دالمبرث ثم عادت فكرهته. وأعجبت بفولتير لأنه سيئ السلوك حاد الذهن. والتقت به في 1721 وعندما هرب من باريس، ثم شرعت في 1736 تبادله الرسائل التي تعد من الروائع في الأدب الفرنسي ولم تقل رسائلها عن رسائله. رقة وعمقاً وصفاء وروعة ولكنها لم تبلغ ما بلغه في رسائله من لطف وسهولة وبعد عن التكلف والكياسة.

وفي سن الخامسة والخمسين بدأت تفقد بصرها، واستشارت كل متخصص في طب العيون، ثم بجأت إلى كل دجال ومشعوذ. وبعد ثلاث سنوات من الكفاح والعناء ذهب بصرها تماماً (1754)، ويومذاك أنذرت أصدقاءها بأنهم إذا استمروا في شهود أمسياتها فإنه يجدر بهم أن يحتملوا السيدة العجوز الضريرة. وعلى الرغم من هذا قصدوا إليها. وأكد لها فولتير من جنيف أن ذكاءها وفطنتها باتا أكثر تألقاً مما كانت حتى وهي بصيرة، وشجعاها على المضي في الحياة لمجرد أن تثير غضب من يدفعون لها رواتبها السنوية. ووجدت في جولي دي لسبيناس شابة لطيفة نشيطة فاتنة تعاونها على أن تستقبل وتستضيف الأصدقاء. وكانت هي آنذاك تتصدر المائدة وكأنها هومر الأعمى يتصدر مائدة مستديرة وحوله الحكماء وشعراء الملاحم البطولية، وكانت تتنقل هنا وهناك وقورة شامخة متحدية لمدة ستة وعشرين عاماً آخر. وإنا لنأمل أن نلتقي بها هي أيضاً مرة أخرى.

ولقد كان عصراً مشرقاً زاهياً، لأن النساء تألقن فيه، وجمعن فيه بين الذكاء والجمال، مما لم يسبق له مثيل. وبفضلهن ألهب الكتاب الفرنسيون الفكر بالعاطفة، وزينوا الفلسفة بالظرف وخفة الروح. وكيف كان يتسنى لفولتير أن يكون فولتير بغير وجودهن؟ حتى ديدرو الفظ الغامض اعترف بقوله "إن النساء عودتنا أن نناقش أشد الموضوعات جفافاً وتعقيداً، بشكل ساحر واضح، إننا نحدثهم حديثاً متواصلاً، ونريد منهن الإصغاء إلينا، ونخشى أن يتولاهن التعب أو الضجر. ومن ثم كنا نستخدم طريقة معينة في إيضاح آرائنا لهن في يسر وسهولة. وكانت هذه الطريقة تنتقل من مجرد الكلام إلى أسلوب"(48)وبفضل النساء أصبح النثر الفرنسي أكثر إشراقاً ووضاءة من الشعر واكتسب اللغة الفرنسية سحراً رقيقاً، ورشاقة في العبارة ولباقة في الحديث مما جعلها بهيجة ذات مكانة رفيعة. وبفضل النساء انتقل الفن الفرنسي من طراز الباروك الغريب الشاذ إلى الشكل المهذب المصقول والذوق الرفيع، مما ازدانت به كل مظاهر الحياة في فرنسا.