قصة الحضارة - ول ديورانت - م 8 ك 5 ف 24

صفحة رقم : 11521

قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا تواجه أوروبا -> غروب الشمس -> مدام دي مينتنون

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الخامس: فرنسا تواجه أوربا 1683-1715

الفصل الرابع والعشرون: غروب الشمس

مدام دي مينتنون

بعد وفاة "ماري تريز" (30 يوليه 1683) كانت الملكة المتوجة لفرنسا "الأرملة سكارون" المركيزة دي مينتنون، مربية أبناء الملك غير الشرعيين، وسرعان ما أصبحت (يناير 1684؟) زوجته غير المتكافئة والتي لا ترث عرشه، وكانت منذ ذلك التاريخ ذات أكبر نفوذ شخصي طيلة حكمه. ومن العسير اليوم أن نعرف حقيقة خلقها، ولا يزال المؤرخون يختلفون عليه. وكان لها أعداء كثيرون كرهوا صعودها وقوتها. وكتب بعضهم التاريخ وأسلمها إلينا وغداً أنانياً ماكراً مدبراً للمكائد. ومهما يكن من أمر، فإنها حين كان من الميسور لها أن تحل محل مدام مونتسبان "خليلة الملك"-بكل ما يأتي به هذا من نفوذ وسيطرة-أبت، وبدلاً من ذلك، حرضت الملكة آنذاك في الثانية والأربعين من العمر، أصغر من دي مينتنون بثلاثة أعوام، ولم يكن ثمة ما يبر توقع موتها الباكر. وظاهر أن المركيزة، في هذه الآونة، آثرت الفضيلة على السيطرة والنفوذ، وعندما اختطفت يد المنون الملكة ظلت المربية على رفضها أن تكون خليلة، وسعت وراء أهداف عليا، مغامرة بوظيفتها الحالية. وإذا كانت فضيلتها طموحاً فإنها لم تتلطخ به أكثر ما تلطخ به تواضع عانس متعلقة ليس لها أمناً إلا مفاتنها تساوم بها من أجل حياتها، وتظن أن مضاجعة ليلة واحدة أقل أمناً من خاتم العرس. ولما تزوج لويس من مينتنون كان عمرها ثمانية وأربعين عاماً. ورسمها مينارد عقيلة لطيفة جاوزت مرحلة الإغراء أو الفتنة الجسدية، وكانت في أحسن الأحوال تقية مخلصة في تقواها، وفي أسوأ الأحوال قامرت مقامرة جريئة وكتب لها الفوز.

وخصص لها آنذاك مسكناً قريباً من مسكن الملك، فعاشت في قصر فرساي في بساطة برجوازية تقريباً. "كانت حياة البلاط تضايقها، ولم تجد لذة في التباهي والتفاخر(1)". ولم تجمع ثروة، وحتى في قمة سعود نجمها لم تكن تملك إلا القليل إلى جانب قصر مينتنون الذي تركته غير مؤثث ولم يستخدم. ويقال أن لويس، في أعوامها الأخيرة، قال لها يوماً "ولكنك يا سيدتي لا تملكين شيئاً، وإذا ما مت فستكونين فقيرة خاوية الوفاض، خبريني ماذا يمكن أن أفعل من أجلك؟". فطلبت بعض الامتيازات والرعاية المتواضعة لذوي قرباها، ومبالغ كبيرة من المال لمشروعها الأثير لديها: الكلية التي أسست 1686 في سان سير لبنات الأسرات الكريمة اللاتي أفنى عليها الدهر. ولم يكن خيلاؤها بل خيلاء الملك هو الذي جند الرجال وخصص الأموال لقناة الماء التي لم يتم بناؤها، والتي حملت أسمها.

وكانت دي مينتنون، من نواح كثيرة، زوجة صالحة. وكان شغلها الشاغل في يوم حافل أن تقف حائلاً بين الملك وبين العالم، وأن تحافظ على السلام والهدوء، وسط أطماع أفراد البلاط ودسائسهم، وتلاطف سرباً من الطامعين في المناصب، وتعمل خالة عطوفة لحفدة زوجها، وتفي بمتطلباتهم بوصفه رجلاً، وتواسيه في إخفاقه وهزائمه. وترفه "عن الرجل الذي من أصعب الصعب الترفيه عنه في مملكة بأسرها(3)"، وتخلق جواً من الهدوء المنزلي، في حياة كان لزاماً في كل ساعة تقريباً أن تتخذ فيها قرارات يتأثر بها مليون حياة. وفي أوراقها الخاصة التي وجدت بعد وفاتها، عثر على هذا الدعاء، وظاهر أنه كتب فور زواجها:

يا إلهي، لقد بوأتني هذا المكان الذي أنا فيه الآن، وإني لأترك نفسي رهن تدبيرك وعنايتك دون قيد أو شرط، امنحني النعمة الإلهية، حتى أستطيع، كمسيحية، أن أحتمل الآلام، وأقدس المسرة، والتمس في كل شيء مجدك، و.... أعاون على خلاص الملك، وحل بيني وبين الاستسلام لتهيجات ذهن قلق. ولتكن مشيئتك يا إلهي، مشيئتي، فإن السعادة كل السعادة، في هذه الدنيا وفي الآخرة هي موضوع لمشيئتك أنت دون تحفظ.

اغمر نفسي بهذه الحكمة، وبسائر الهبات الروحية اللازمة لتلك المنزلة العالية التي وضعتني فيها. ولتجعلها مثمرة تلك القدرات التي طاب لك أن تمنحني إياها. يا إلهي، أنت يا من تمسك بين يديك قلوب الملوك، افتح قلب الملك حتى أصب فيه من الخير ما تشاء أنت سبحانك. أوعزني أن أسعده وأسره وأواسيه وأشجعه، بل حتى أن أزعجه وأحلب عليه الحزن إذا اقتضى الأمر تمجيداً لك. هيئ لي ألا أخفي عنه شيئاً يجدر أن يعلمه مني، مما لا يجد الآخرون في أنفسهم الشجاعة ليبلغوه إياه. هيئ لي أن أنقذ نفسي وأنقذه معي، وأن أحبه فيك ومن أجلك يا إلهي. وهيئ له أن يحبني بنفس الطريقة. هب لنا أن نسير معاً في ملكوتك دون لوم أو خزي حتى يوم قدومك(4).

وهذا الدعاء جميل قدر جمال أية رسالة من ألواز إلى أبيلارد، ونأمل أن يكون أصح وأصدق. ومثل هذا الدعاء يمكن أن يمنح القوة، بصرف النظر عن أية استجابة خارجية، وربما كانت ثمة إرادة خفية للسيطرة والسلطة في ثنايا الرغبة في إصلاح الآخرين وهدايتهم، ولكن السنوات الباقية من عمر مينتنون أثبتت أصدق تقواها وضيق أفق هذه التقوى معاً. يقول سان سيمون "لقد وجدت ملكاً يعتقد في نفسه أنه رسول أو حواري لأنه طيلة حياته يضطهد الجانسينة.... وهذا أوحى إليها بنوع الحب الذي تبذر به الحقل لتجني أعظم حصاد(5)". (عرفت من أين تؤكل الكتف). هو شجعت مينتنون على اضطهاد الهيجونوت؟ وهكذا يظن سان سيمون(6)، ولكن التحقيقات اللاحقة تميل إلى تبرئتها من هذه الوحشية التي كان بطلها عدوها اللدود لوفوا. ورأى فيها لورد أكتون، وهو مؤرخ كاثوليكي، نادراً ما كان مناصراً للكاثوليكية:

أعظم امرأة ثقافة وتفكيراً وإدراكاً. وكانت بروتستانتية من قبل. واحتفظت لأمد طويل بحماسة المرتدة وغيرتها. وكانت تعارض الجانسنية معارضة شديدة، وكانت تحظى بثقة أفاضل رجال الدين إلى حد كبير، وساد الاعتقاد بأنها شجعت الاضطهاد وحرضت الملك على إلغاء مرسوم نانت. وأبرزت رسائلها شواهد على ذلك. ولكن رسائلها كانت قد حرفت بواسطة محرر كان مزيفاً مشوهاً(7) .

أن مينتنون-مثل فنيلون، ومدام دي سفيني ومعظم الكاثوليك في ذاك العصر. أقرت إلغاء مرسوم نانت، ولكنها استخدمت نفوذها-بنجاح غالباً، كما يروي البروتستانتي ميشيليه-في وقف قساوة الاضطهاد أو الحد منها(8).

وحتى لا تطغي النزعة الرومانتيكية على إضفاء المثالية على المرأة، فتلون الصورة بألوان وردية زاهية، فلننظر إلى المركيزة من خلال آراء أخرى فيها تحامل عليها. أن كبرياء سان سيمون النابعة من لقب الدوق أو الدوقة، لم تكن لتغفر صعود البرجوازية الوضيعة إلى مرتبة سيدة فرنسا: أن العوز والفقر اللذين عاشت في براثنهما لفترة طويلة قد ضيقا من أفق تفكيرها، وهبطا إلى الحضيض بقلبها وعواطفها. أن مشاعرها وأفكارها كانت محدودة، إلى درجة أنها كانت دائماً في الحقيقة أقل حتى من مدام سكارون... وليس ثمة شيء أشد إثارة للنفور والاشمئزاز من منبت وضيع يتبوأ مكاناً متألقاً إلى هذا الحد(9).

ولكن الدوق نفسه وجد بعض المزايا والفضائل وسط أخطائها وعيوبها:

كانت مدام دي مينتنون امرأة على جانب كبير من الذكاء الذي احتملته الرفقة الطيبة التي عاشت بين ظهرانيها أولاً، ولكن تألقت فيها سريعاً، وصقلتها كثيراً وزودتها بزينة المعرفة الدنيوية، التي جعلتها الكياسة البالغة من أكثر ألوان المعرفة استساغة وقبولاً. وجعلتها المناصب المختلفة التي شغلتها مداهنة متملقة راضية تسعى دائماً إلى إرضاء الناس. أن حاجتها إلى الدسائس، وأولئك الذين التقت بهم من كل الأنماط، واختلطت بهم من أجل شخصها ومن أجل الآخرين، أضفوا عليها ذوقهم وعاداتهم. أن كياسة لا تضاهى وسلوكاً هيناً ليناً رضياً، ولكنه كدروس، يدعو إلى الاحترام، وكأنه نتيجة لطول خمول ذكرها قد أصبح أمراً طبيعياً بالنسبة لها، كل أولئك ساعد على تنمية مواهبها بشكل عجيب، إلى جانب لغة مهذبة محكمة حسنة للتعبير، فصيحة موجزة بشكل طبيعي. أما أسعد أيامها، حيث كانت تكبر الملك بثلاث أو أربع سنوات، فكانت فترة التودد ومطارحة الغرام والمغازلة الرقيقة.... وبعدها أحاطت نفسها بهالة من الأهمية وجلال الشأن. وتقلص ظل هذه تدريجياً لتحل محلها هالة من التقوى أحاطت بها نفسها بطريقة تدعو إلى الإعجاب. ولم تكن نزاعة إلى الخداع والغدر، ولكن الحاجة ألجأتها إلى أن تكون كذلك. وجعلها طيشها الطبيعي تبدو مخادعة ضعف ما هي عليه في حقيقة الأمر(10). وأثار بعد الشقة في نفس ماكولي شيئاً من الشفقة، فنظر إلى مدام دي مينتنون نظرة أكثر اتساماً بالشهامة والاحترام، وربما أحس بأنه يمكن أن يغتفر الكثير لسيدة كانت "تمتاز بالفصاحة والإيجاز معاً:

أنها حين جذبت انتباه مليكها، لم تكن في وضع تستطيع معه أن تتيه عجباً بشبابها أو بجمالها، ولكنها، وبدرجة غير عادية، كانت تتمتع بتلك المفاتن الأبقى على الزمن، والتي يقدرها أعظم التقدير الرجال الذين يتحلون بحسن الإدراك في شريكة الحياة... كانت دي مينتنون تتميز بعقل منصف، ومعين لا ينضب، ولكنه غير ممل إطلاقاً، من حديث عقلاني رقيق مرح، ومزاج لا يتكدر صفوه أبداً، ولباقة فاقت لباقة بنات جنسها، بقدر ما فاقت لباقة جنسها لباقة جنسنا نحن. تلك هي المناقب التي جعلت من أرملة المهرج في أول الأمر صديقة جديرة بالثقة، ثم زوجة لأقوى ملوك أوربا وأكثرهم غطرسة وغروراً(11).

وأخيراً نراها من خلال قلم هنري مارتن، وهو مؤرخ فرنسي غير مشهود له بالبراعة كثيراً:

كان ثمة توافق في الذهن والطباع بين الاثنين (المركيزة والملك)، وهو توافق قدر له أن يزداد على مر الأيام، كما أن جمالها الناعم المتناسق الرزين الذي زاد منه وقار طبيعي نادر، كان هو الجمال الذي يرضي لويس أساساً. وأحبت هي التأمل والبحث، وأحب هو العظمة والمجد. وكانت مثله متحفظة حذرة، ومع ذلك تفيض جاذبية ورقة. ولحديثها نفس السحر والفتنة، اللتين دعمتهما طويلاً بفضل خيال أخصب وتعليم ذي جوانب أكثر تعدداً. وكانت ذات شخصية تتميز بالأنانية واتخاذ التدابير القوية، ومع ذلك كانت أهلاً لعواطف متينة ثابتة وإن لم تكن حارة، وكانت في نفس الوقت أقل انفعالاً وأشد ثباتاً من الملك الذي لم يكن مخلصاً حقاً في الصداقة وفي الحب، إلا لها وحدها. ولكنها لم تعرف قط بم تضحي من أجل عواطفها، بمصالحها أو بهدوئها, وعلى النقيض من لويس الرابع عشر، كانت تهتم بالبسيط من الأمور، ولا تتسامح في عظائمها. أن طبيعتها الهادئة المفطورة على التأمل والتفكير، البعيدة عن الانفعالات والأوهام، ساعدتها على الدفاع عن الفضيلة غالباً كانت محصورة(12).

ومهما يكن من أمر، فلا بد أن هذه السيدة تحلت بمناقب جديرة بالإعجاب، حدث بملك مستبد إلى أن يختارها زوجة له، ويعهد إليها بالنظر في أدق شئون الدولة. وكان عادة يلتقي بوزرائه في حجرتها الخاصة، تحت سمعها وبصرها، وعلى الرغم من أنها كانت تجلس على مسافة معقولة منهم، تلتزم الصمت، حكمة وحزماً منها، منهمكة في أشغال الإبرة، كان لويس "أحياناً يتجه إليها ويسألها رأيها(13)" وأطلق عليها المتشككون "سيدة اللحظات الراهنة" مقدرين أنها لن تلبث حتى ينضم إليها المنافسات أو يجلينها عن مكانتها ليحللن محلها، ولكن على النقيض من ذلك، ظل الملك الزوج المحب الوفي لها حتى وفاته. وعظم نفوذها عاماً بعد عام. وكان مقروناً بالخير والإحسان قدر ما سمحت به تقواها. وحاولت أن تحد من إسراف الملك وتبذيره، وأن تصرفه عن الحرب. ومن هنا كان عداء لوفوا لها. ووفرت دي مينتنون إعانات ملكية للصدقات والمستشفيات والأديار، ومساعدة النبلاء المفلسين، ومهور البنات(14)ولم يحظ بالترشيح للوظائف من جانبها إلا الكاثوليك الأخيار، وكست التماثيل العارية والصور الزيتية العادية التي ازدان بها قصر فرساي بالأستار أو النباتات المعترشة(15). وحولت كنيسة سان سير إلى دير (1693) أغلقت أبوابه بعد ذلك أمام العالم. وأصبحت هي نفسها راهبة في قصر، "كانت قعيدة القصر تقضي الساعات وحيدة، ومن ثم بدت وكأن لها قدماً في الدير(16)".

وبدأ الملك بالسخرية من تقواها، وانتهى بتقليدها في هذا التواضع. وابتهج القساوسة المحيطون به ليروا مداومته على تأدية طقوس العبادة، ولكن زوجته كانت تفهمه فهماً جيداً، فقالت "أن الملك لا يخطأ موضعاً في الصليب، أو موقفاً للكفارة أبداً، ولكنه لا يستطيع أن يدرك الحاجة إلى الخشوع أو إلى إذلال نفسه حتى تتجلى فيه الروح الحقيقية للتوبة والندم(17)". وكان البابا اسكندر الثامن راضياً على أية حال، وهنا مدام دي مينتنون على هداية الرجل الفرنسي الذي كان يوماً معادياً للبابوية، وربما زاد من تقوى الملك اعتلال صحته وضعف جسمه بعد 1680، ومعاناته من ناسور في الشرج، حيث ذكره هذا كله بأنه فان. وفي 18 نوفمبر 1686 استسلم لعملية أليمة، احتملها في شجاعة أملاها عليه وعيه الطبقي أو إدراكه أنه ملك لا ينبغي أن يخور أو يضعف. ولفترة من الوقت ابتهج الائتلاف المعادي لفرنسا للشائعات التي راجت بأنه على وشك أن يقضي نحبه(18). ولكنه بقي على قيد الحياة. وعندما قصد كنيسة نوتردام (30 يناير 1687) ليقدم الشكر لله على شفائه، حيته كل فرنسا الكاثوليكية وابتهجت لإبلاله من مرضه وكأنه يوم عيد. قال فولتير "ومنذ ذلك الوقت لم يذهب الملك إلى المسرح قط(19)، أن المرح المقرون بالوقار والعظمة، والذي كان يميز النصف الأول من حكمه، وقد ولى ليحل محله وقار ورزانة قاربتا أحياناً الصرامة القاتمة والتزمت، ولكنه سمح بين الحين والحين بشيء من الإفراط في النوم والطعام(20). وقد أضناه الإرهاق والتعب، وحيث شجعته مينتنون، فإنه أنقص من حفلات البلاط وعروضه، وأوى إلى حياة أكثر انعزالاً، قانعاً بألفة الحياة الأسرية التي عودته إياها زوجته. وظل مسرفاً في الإنفاق على القصور والحدائق، وظل مزهواً أبياً مثل صولجانه، حساساً مثل فكيه. وفي مارس 1686 أجاز لرجل متذلل خنوع من رجال الحاشية، فرنسوا دي أوبيسون دوق دي لافياد فيما بعد، أن يقيم له في "ميدان الانتصارات" تمثالاً يرمز إلى أنه "الرجل الخالد". على أننا يجب أن نضيف أنه عندما أراد أوبيسون أن يضع، وفاء بنذر، أمام التمثال مصباحاً يضاء ليل نهار، حظر عليه الملك افتراض الألوهية والقداسة بهذا الشكل المبتسر غير الجائز.

وضربت جماعة محدودة من الأرستقراطيين المخلصين، على رأسهم دوق ودوقة شفريز، ودوقتي بوفليير ومورتمار، وبنات كولبير الثلاث، ضربت حول الملك وزوجته "نطاقاً كريماً من الأتقياء" وكان كثير منهم متمسكين بأهداب الدين حقاً، كما نقل بعضهم عن مدام جويون طمأنينتها المتصوفة. وحوالي هذا الوقت ألف شاعر فرنسي غير معروف الترنيمة الذائعة الصيت والمعروفة باسم "المؤمنون الأخيار" وشارك بقية أفراد البلاط، الملك مزاجه الجديد، ظاهرياً فقط. وتخلوا عن اللهو والعبث، وكثيراً ما حضروا القداس وتناولوا القربان المقدس، وقل شيئاً فشيئاً ذهابهم إلى الأوبرا والمسرح اللذين هبطا آنذاك بسرعة من عليائهما على عهد للي ومليير، واستمر الصيد والقنص والمآدب الباذخة وحفلات الرقص، ولعب الورق بمبالغ ضخمة، ولكن في جو من الاعتدال تشوبه مسحة من الكآبة. وأخفى المعربدون الصاخبون والمفكرون الأحرار في باريس رؤوسهم، انتظار للثأر في ظل وصي يرقبون مجيئه بفارغ الصبر. ولكن شعب فرنسا ابتهج لقداسة مليكه، واحتمل الصمت، في الموت وفي الضرائب، أعباء الحرب المتزايدة.


الحلف الأعظم 1689 - 1697

زادت الضرائب حتى بعد هبوط مستوى الرخاء والازدهار. وكان مشروع كولبير لتنظيم التجارة والصناعة بواسطة الحكومة، قد بدأ ينهار قبل موته (1683). لقد مات المشروع، من ناحية نتيجة لسوق الرجال من المزارع والمصانع إلى المعسكرات وميادين القتال، ولكنه انهار أساساً نتيجة الاختناق الذاتي: ذلك أن التنظيمات الحكومية عوقت النمو الذي كان يمكن أن يؤتي ثماره في ظل رقابة وقيود أخف، وفي ظل مزيد من الحرية للتنفس والتجريب والخطأ. ووجد حب العمل والمغامرة أنه مقيد بمتاهة من الأوامر والعقوبات. وضجت وتعثرت الكثرة من الناس والجشع المبدع الخلاق عند فئة قليلة منهم، تحت ضغط عبء ثقيل من القواعد، حتى هددت هذه الآلة بالتوقف. وما وافى عام 1685 حتى ترددت صيحة "أتركه يعمل"، قبل ظهور فرانسواكساني وترجو بخمسة وستين عاماً، وقبل ظهور آدم سميث بواحد وتسعين عاماً. وقال أحد أتباع لويس الرابع عشر "أن السر الأعظم يكمن في الطلاق الحرية الكاملة للتجارة. أن أصحاب المصانع لم يصابوا قط بمثل هذا الخراب والدمار في هذه المملكة إلا منذ فكرنا أن ندعمهم بقوانين من الدولة(21)". وثمة عوامل أخرى أسهمت في هذا الانهيار. وذلك أن الهيجونوت الذين فروا من الاضطهاد، حملوا معهم مهاراتهم الاقتصادية، وفي بعض الأحيان مدخراتهم أيضاً. وعانت التجارة من رغبة الملك في الغزو والفتح، لا الاتجار. وعوقت الرسوم الأجنبية صادرات فرنسا انتقاماً من رسوم الواردات الفرنسية. وأثبت الإنجليز والهولنديون أنهم رجال بحر واستعمار من الغاليين (الفرنسيين) المتغطرسين النافذي الصبر. وأخفقت شركة الهند، وعوقت الضرائب الزراعة. وأفسدت العملة المزيفة مرفق المال، وشلت حركته وأحدثت فيه الاضطراب.

ولم يكن ثمة وجه للمقارنة بين الوزراء الذين حملوا لويس الرابع عشر بعد وفاة كولبير. وبين أولئك الذين ورثهم عن ريشليو ومازاران. وتولى ابن كولبير، جان بابتست، مركيز سينلي وزارتي التجارة والبحرية، وتولى كلود بلتييه الشئون المالية، ولكن سرعان ما خلفه فيها لويس فيليبو سنيور دي بونتشارتران. أما لوفوا فقد بقي وزيراً للحربية. ولكن أرهب الوزراء الجدد ما جمع لويس الرابع عشر من مجد وسلطان، فقعد بهم الخوف عن اتخاذ أي قرار، واعتمد دولاب الحكومة على ذهن الملك المكدود المرهق. ولم يكن يتصرف بمحض إرادته إلا لوفوا، من أجل الحرب-ضد الهيجونوت، وضد الأراضي الوطيئة، وضد أي أمير أو شعب اعترض طريق فرنسا المتوسعة. وكان لوفوا قد أنشأ أحسن جيش في أوربا، ودربه على النظام والانضباط والبسالة، وزوده بأحدث الأسلحة، وعلمه الفن الرشيق في استخدام الحراب . فكيف يتيسر إطعام مثل هذه القوات والمحافظة على روحها المعنوية إلا إذا حاربت وانتصرت؟

ونظرت فرنسا إلى الجيش بعين الإعجاب والفخر، على حين استشاطت أوربا غضباً وارتعدت فزعاً لدى سماعها به. وفي مايو 1685، عندما طالب لويس الرابع عشر بجزء من أملاك ناخب البالاتين، ميراثاً يستحقه عن أخت الناخب المتوفاة شارلوت اليزابيث، دوقة أورليان آنذاك، تساءل أمراء الإمبراطور عجباً: ماذا عسى أن تكون كطالب الملك المغامر المعتدي بعد ذلك. وزادت حدة التوتر عندما ربط لويس بالفعل، كولون وهلدشيم ومنستر بفرنسا، بضمان انتخاب مرشحيه حكاماً أسقفيين لهذه البلاد (1686). وفي 6 يوليه انضم الإمبراطور الكاثوليكي ليوبولد الأول، والناخب الكاثوليكي مكسيمليان الثاني وأمانويل أمير بافاريا، إلى ناخب براندنبرج الأعظم البروتستانتي، وفي تكوين عصبة أوجزبرج للدفاع ضد أي هجوم على أراضيهم أو عدوان على دولهم, وكان الإمبراطور مشغولاً مع الأتراك المتقهقرين، ولكن هزيمتهم في "موهاكز" الثانية (1687) وفي بلغراد (1688) أطلقت يد القوات الإمبراطورية للعمل على الجبهة الغربية للإمبراطورية.

وارتكب ملك فرنسا آنذاك أكبر خطأ في سجل حياته العسكرية. وكان حاكم هولندا يتوقع منه أن يجدد هجومه على هولندا، ولكن لويس، بدلاً من ذلك، قرر غزو ألمانيا قبل أن تتمكن القوات الإمبراطورية من الاحتشاد على جبهته. وفي 22 ديسمبر 1688 تقدمت قواته الرئيسية نحو الراين. ومع توجيه خاص متميز إلى الدوفين ذي السبعة والعشرين ربيعاً: "أي بني، إني إذ أبعث بك لتتولى إمرة جيوشي، إنما أهيئ لك كل الفرص لتثبت جدارتك، فاكشف عنها لكل أوربا، حتى إذا حان أجلي، لا يشعر أحد بأن الملك قد قضى نحبه(23)". وفي 25 سبتمبر اجتاح الجيش الفرنسي ألمانيا. وفي غضون شهر واحد استولى على كايزرسلوترن، ونيوستاد، وورمز وبنجن ومينز وهيدلبرج. وفي 29 أكتوبر سقطت قلعة فيليبسبرج المنيعة، وفي 4 نوفمبر تقدم الدوفين المنتصر لمهاجمة مانهيم.

وربما كان في هذه الانتصارات بداية سقوط الملك، لأنها ورطت الملك في حرب طويلة الأجل ضد عدد متزايد من العداء، لقد حرروا هولندا من الخوف من غزو مبكر، وأقنعوا برلمان المقاطعات المتحدة بالموافقة على أن يغزو وليم الثالث إنجلترا ويعاونه على أعمال الغزو. وما أن وثق وليم من قوته حتى حول إنجلترا من بلد تابع لفرنسا إلى عدو لها. وعاهد رعاياه الجدد على الوقوف إلى جانبهم في الدفاع عن أوربا السياسية والدينية. وتردد برلمان إنجلترا، مرتاباً في أن وليم معني في الدرجة الأولى بإنقاذ هولندا، وهي أكبر منافس تجاري لإنجلترا، ولكن انتصارات فرنسا قوت من جديد حجة وليم. وكان لوفوا قد استحث لويس على السماح له باكتساح البالاتينات وتخريبها حتى يحرم العدو المقترب من أية معونة محلية، ووافق لويس على كره منه. وفي مارس 1689 أعمل الجيش الفرنسي السلب والنهب وأحرق هيدلبرج ومانهيم ثم سبير، وورمز وأوينهايم وأجزاء من أسقفية ترييه ومنطقة بادن، حتى دمرت كل أراضي الراين الألمانية تقريباً. ووصف فولتير هذه الفظائع حيث استيقظ فيه ضمير "الرجل الأوربي الطيب": كنا في قلب الشتاء. وما كان ينبغي للقواد الفرنسيين إلا أن يمتثلوا وبناء على ذلك أعلنوا لمواطني هذه المدن المزدهرة المنظمة أحس نظام، ولسكان القرى، ولأصحاب أكثر من خمسين قصراً، أن عليهم أن يغادروا مساكنهم التي سيعملون فيها النار والسيف، فأسرع الرجال والنساء والشيوخ والأطفال إلى الرحيل. وهام بعضهم على وجوههم في الريف، والتمس بعضهم مأوى في الأراضي المجاورة، على حين نهب الجنود المنطقة وأحرقوها، وبدءوا بمدينتي هيدلبرج ومانهيم، ومقار الناخبين، ودمرت قصورهم وبيوت المواطنين العاديين على السواء. وللمرة الثانية اجتاحت جيوش لويس الرابع عشر هذه البلاد الجميلة وخربتها, ولكن السنة النيران في المدينتين والعشرين قرية التي أحرقها تورين عندما اجتاح البالاتينات 1674، كانت شيئاً لا يذكر أو شرراً بسيطاً إلى جانب الحرائق في هذه المرة(24).

وتعالت الصيحات تطالب بالانتقام من ملك فرنسا في كل أنحاء ألمانيا والأراضي الوطيئة وإنجلترا ووصم الكتاب الألمان الجنود الفرنسيين بأنهم متوحشون (هون) مجردون من أية مشاعر إنسانية. ونعتوا لويس بأنه مسخ كافر مجدف همجي بالغ الهمجية. وعير المؤرخون الألمان الشعب الفرنسي بأنه تلقى حضارته من الفرنجة (أي الألمان) وأنه نقل جامعاته عن الإمبراطورية الرومانية المقدسة (أي الألمان كذلك)(25). وكان بيير جوريرو، أحد المنفيين في هولندا قد نشر هناك لفوره نقداً ساخراً عنيفاً تحت عنوان "منظر فرنسا المستعبدة"، ودمغ فيه لويس بأنه طاغية شديد التعصب، وأهاب بالشعب الفرنسي أن يطيح به، ويشكل ملكية دستورية. وردت الصحافة الفرنسية بتوجيه النداء إلى المواطنين ليقذفوا بهذه الشتائم فيوجه العدو، ويهبوا إلى إنقاذ مليكهم الشجاع المحبوب المحاصر. وفي 12 مايو 1689 انضمت إنجلترا إلى الإمبراطورية وأسبانيا والمقاطعات المتحدة والدنمرك وسافوي، في الحلف العظم الأول، الذي تعهد بالدفاع عن أي من أعضائه ضد أي عدوان خارجي. وكانت الحرب آنذاك حرب أوربا ضد فرنسا.

فكان جواب لويس على ذلك أنه زاد عدد جنوده إلى أربعمائة وخمسين ألفاً، وبحريته إلى مائة ألف، ولم تشهد أوربا قط من قبل مثل هذه القوات المسلحة. وصهر الملك كل ما لديه من أدوات فضية ليعاون الضرائب على دفع نفقات هذه الحشود الضخمة، وأصدر أوامره إلى كل الأفراد المرموقين وإلى كثير من الكنائس ليفعلوا مثل ما فعل، وأجاز لبوبنتشارتران أن يعيد سك الفضة وينقص قيمة العملة بمقدار 10%. وخلق الوزير مناصب جديدة، وأعاد وظائف قديمة كانت قد ألغيت، وباعها لطلاب الوظائف المفتونين بالألقاب، وقال للملك: "كلما خلقتم جلالتكم وظيفة خلق الله مغفلاً يشتريها(26)".

وأشار سينلي على الملك بأن يأمر أسطوله بسلخ ايرلندا عن إنجلترا. وكان من الجائز أن يتم ذلك، ففي 30 يونيه 1690 هزم أمير البحر تورفيل بخمس وسبعين سفينة، أسطولاً إنجليزياً وهولندياً في بيتشي هيد بالقرب من شاطئ سسكس الغربي. ولكن لويس لم يرسل سوى ألفي جندي لمساندة جيمس الثاني في أيرلندا. وكان من المحتمل أن تكسب قوة أكبر معركة بوين (أول يوليه 1690)، وأن تشغل إنجلترا ومليكها الهولندي في أيرلندا، إلى حد يصعب معه الاشتراك في القتال في القارة. ولكن انتصار وليم الثالث مكنه من الذهاب إلى هولندا ليقود قوات إنجليزية وهولندية ضد الفرنسيين (1691)، وحاول لويس في 1692 غزو إنجلترا، وصدرت الأوامر إلى أسطول في تولون بالإبحار شمالاً لينضم إلى أسطول تحت إمرة تورفيل في برست وكان عليهما أن يقضيا على كل مقاومة من جانب الإنجليز، ويحملا ثلاثين ألف جندي عبر القنال الإنجليزي. ولكن عاصفة في جبل طارق عطلت مسيرة أسطول طولون، فأخفق في اللحاق بتورفيل الذي كان عليه أن يواجه وحده الأسطولين الإنجليزي والهولندي مجتمعين، وهزم في التحام حاسم عند لاهوج بالقرب من شربورج (19 مايو 1692). وتوقف غزو إنجلترا. وظلت إنجلترا سيدة البحار بعد هذه المعركة، ومطلقة اليد في الاستيلاء على مستعمرات فرنسا الواحدة تلو الأخرى. وحمى القنال إنجلترا حتى يومنا هذا.

وتابع الفرنسيون انتصارهم في البر، ولكن بأبهض التكاليف في العتاد والرجال. وفي إبريل 1691 استبد بهم الزهو والغرور إلى حد الجنون أمام مليكهم حين حاصروا واستولوا على هونز الحصينة. وقضى لوفوا نحبه في 7 يوليه، ولكن الملك لم يأسف كثيراً على تخليصه من وزير حربيته الذي كان ينتهج سياسة العدوان، ورأى منذ ذلك الوقت أن يتولى توجيه السياسة العسكرية بنفسه. واتبع تقليداً فرنسياً قديماً حين عهد بمنصب لوفوا إلى ابنه، وكان شاباً لطيفاً سهل الانقياد في الرابعة والعشرين من العمر-مركيز باربيزييه. وفي يونيه 1692 قاد لويس قواته بنفسه للاستيلاء على نامور. ثم ترك القيادة لدوق دي لكسمبرج وعاد ليرشف خمرة المجد والنصر في فرساي. وفاجأ وليم الثلاث الدوق في ستينكرك في يوليه، ودارت الدائرة على الفرنسيين في أول الأمر، ولكنهم أعادوا تنظيم صفوفهم واستعادوا شجاعتهم بفضل توجيه قائدهم الذي كان قدوة حسنة لهم، وكان مريضاً ولكنه كان لا يقهر، فكانت الغلبة للفرنسيين مرة أخرى، ولو لأنهم حققوها بثمن غال، وهناك قاتل في طليعة الجيش فيليب الثاني دي أورليان الوصي على عرش فرنسا في المستقبل، والذي لم يبلغ آنذاك الخامسة عشرة من العمر، فأصيب بجرح ثم عاد فاستأنف القتال. وهناك أظهر لويس الشاب، ودوق دي بوربون كونديه (حفيد كونديه الأكبر) الذي عرك الحرب في ثلاثة حصارات، وفرانسوا لويس دي بوربون وأمير كونتي، ولويس جوزيف دوق فندوم (ابن حفيد هنري الرابع) وكثير غيرهم من نبلاء الفرنسيين-أظهر هؤلاء جميعاً من ضروب البسالة والشجاعة والشهامة ما جعلهم، على الرغم من حياتهم المترفة الخاملة زمن السلم، معبودات في نظر شعبهم زمن الحرب، ونماذج حتى لأعدائهم، حتى لقد تساءل متعجباً أحد أسراهم وهو الكونت سالم: "أية أمة أنتم: أشد الأعداء بأساً ورهبة في الحرب، وأكرم الأصدقاء عند النصر(27)".

وبعد ذلك بعام واحد هزم نفس الجيش تحت إمرة نفس القائد، وليم في نيروندن بالقرب من بروكسل، وهنا أيضاً كان عدد القتلى ضخماً0عشرون ألفاً من الحلفاء وثمانية آلاف من الفرنسيين. ومهما يكن من أمر الهزائم التي مني بها وليم، فإنه ظهر على رأس جيش جديد وتوافرت لديه أموال جديدة. فاسترد نامور في أغسطس 1694، واكتشفت فرنسا أنها بعد خمس سنوات أريقت فيها الدماء، عجزت عن غزو حتى الأراضي الوطيئة الأسبانية. وانتصرت جيوش فرنسية أخرى في أسبانيا، ولكنها وجدت من العسير عليها الاحتفاظ بثمرات انتصاراتها أمام أعداء خرجوا عليها من كل جانب، وقد استكملوا ما ظهر لديهم من نقص في العتاد والرجال، وفي يوليه 1694 أبحر أسطول إنجليزي لمهاجمة برست. وكان بعض الأصدقاء في إنجلترا (من بينهم كما يقال مالبرو نفسه(28)) قد أبلغوا جيمس الثاني عن هذه الخطة سراً، ومن ثم فإن الفرنسيين الذين أنذروا بها من قبل، نصبوا المدافع على الشاطئ عند برست، وصدوا الإنجليز عنها بعد أن تكبدوا خسائر فادحة.

وفي يناير 1695 قضى مارشال دي لوكسمبرج نحبه، فلم يعد مع لويس الرابع عشر إلا قواد من الدرجة الثانية، أن الحلفاء نادراً ما وطئت أقدامهم أرض فرنسا، ولكن فرنسا نفسها كانت تحس بوطأة حرب من نوع جديد، لم يكن يحارب فيها مرتزقة مأجورون، بل أمم بأسرها جندت لينافس بعضها بعضاً في القتل والتنكيل. وحتى في الوقت الذي كان الشعب الفرنسي يهتف لقواده وأبطاله ويهلل لهم ويحي انتصاراتهم، فإنه، وقد أثقلت الضرائب كاهله بشكل لم يسبق له مثيل، قارب حد الاستنزاف جسداً وروحاً. وانضم القحط إلى الفقر والعوز في 1694 فكان ضغثاً على إبالة. وفي أبرشية واحدة مات 450 شخصاً جوعاً(29)وكان الاقتصاد القومي على شفا الانهيار. وعمت الفوضى وسائل النقل، حيث توقف تقريباً إصلاح الجسور والطرق أثناء الحرب. واختنقت التجارة الداخلة نتيجة المكوس التي كانت تجبى في مائة موقع عبر الأنهار أو في البر. وكانت التجارة الخارجية قد شلت حركتها نتيجة لرسوم الصادرات والواردات. وكادت الآن تكون متعذرة تماماً لوجود أساطيل الأعداء والقرصان. وساءت أحوال أولئك الذين كانوا يعتمدون على صيد الأسماك والتجارة على الشواطئ. ونضبت موارد مئات من المدن بما كانت تقدم من معونة ومؤونة للفرق العسكرية التي تنزل بها، وهبط الفقر والقحط والمرض والحرب بعدد سكان فرنسا من نحو 23 مليوناً في 1670 إلى نحو 19 مليوناً في 1700(30). وفقدت محافظة تورين ربع سكانها. ولم يبق من سكان العاصمة تور إلا 33 ألفاً من 80 ألفاً كانوا يقطنونها في عهد كولبير. وهاك نموذجاً من تقارير المحافظين والحكام من مختلف أقاليم فرنسا في أخريات القرن السابع عشر: أن هذه المدينة التي كانت ف يسابق أيامها غنية مزدهرة، باتت الآن بلا صناعة... وكان في هذا الإقليم مصانع كثيرة، ولكنها اليوم هجرت.... وكانت الأرض تدر في سابق الأيام أكثر مما تفعل الآن، ومنذ عشرين عاماً كانت الزراعة أكثر ازدهاراً بشكل غير محدود. وتناقص السكان بمقدار الخمس في السنين الثلاثين الأخيرة(31)...

وفي 1694 وجه فنيلون، الذي سيصبح عما قريب رئيس أساقفة كمبراي، إلى لويس الرابع عشر خطاباً غفلاً من التوقيع، يعد أبلغ تعبير عن الروح الفرنسية:

مولاي، أن هذا الذي يسمح لنفسه أن يكتب إليك هذه الرسالة، ليس له مصلحة دنيوية، ولا يكتب بدافع اليأس ولا الطمع، ولا بدافع الرغبة في التدخل في أمهات المسائل. أنه يحبك دون أن يكون معروفاً لديك، ويرى الله في شخصك.... أنه لا يبالي بأي أذى يحتمله عن طيب خاطر، في سبيل إدراكك للحقائق الضرورية لخلاصك. ولا تدهش إذا وجه إليك حديثاً شديد اللهجة، فما ذاك إلا لأن الحق حر وفوي، ولو أنك لم تألف سماعه. ويخطئ الذين تعودوا الملق والنفاق، فيظنون الحق الصراح الخالص استياءً أو مرارة أو إفراطاً ومبالغاً. وقد يكون خيانة للحق أن نحجبه عنك. والله خير شاهد على أن الذي يحدثك الآن، إنما يفعل ذلك بقلب عامر بالغيرة والحماسة وبالإجلال والثقة والإخلاص، لكل ما فيه مصلحتك الحقيقية...

أن كبار وزرائك، طيلة الثلاثين عاماً الماضية، قلبوا المبادئ الأساسية والقواعد العامة في الدولة، حتى يرفعوا من شأنك ويزيدوا من سلطانك إلى أقصى حد، لأن هذه السلطة كانت في أيديهم. ولم يرتفع صوت بالكلام عن الدولة وقوانينها، بل تحدث الجميع عن الملك ووسائل إرضائه. وزادوا في مواردك وفي نفقاتك بغير حدود، أنهم رفعوك إلى السماءين حتى تمحو، كما يقولوا، آثار عظمة أسلافك مجتمعين. ولكنهم في الواقع أفقروا فرنسا بأسرها، ليمتعوا البلاط بترف رهيب لا شفاء منه. أن هؤلاء الوزراء أرادوا أن يرفعوك على أنقاض كل طبقة في الدولة، وكأنما يمكن أن تكون عظيماً حين تدمر كل رعاياك الذين يعتمد عليهم مجدك وعظمتك. إنك حقاً حريص على الاحتفاظ بسلطانك.. ولكن الواقع أن كل وزير سيد متصرف في نطاق اختصاصه، وكانوا قساة متغطرسين ظالمين غلاظاً ضعيفي الإيمان. ولم يعرفوا في الشئون الداخلية والخارجية إلا مبدأ واحداً، هو التهديد والوعيد، أو القضاء على كل ما يقف في طريقهم وتدميره. لقد عودوك على أن تتلقى دوماً أعظم المدح والثناء، مما يقارب عبادة الأوثان تأليهاً لك، ما كان يجدر بك أن تأباه سخطاً وازدراء، من أجل شرفك وكرامتك أنت. ولقد جعلوا اسمك كريهاً بغيضاً. والأمة الفرنسية بأسرها غير محتملة لدى الشعوب المجاورة. ولم يحتفظوا بأي من حلفائك القدامى، لأنهم لم يريدوا إلا عبيداً أرقاء. وكانوا طيلة عشرين عاماً، سبباً للحروب الدامية-التي لم يكن من دافع لها إلا المجد والانتقام.... أن كل التوسع الذي أتت به الحروب كان غصباً وظلماً. أنك أردت دوماً أن تملي الصلح وتفرض الشروط، بدلاً من تسوية الأمور في شيء من الاعتدال. وهذا هو السبب الذي من أجله لم يدم أي صلح طويلاً. ولم يكن أعداؤك الذين هزمتهم ولطختهم بالعار والخزي، يفكرون إلا في شيء واحد، هو أن ينهضوا من جديد، ويوحدوا أنفسهم ضدك. هل في هذا ما يدهش؟ أنك لم تتمهل قط في نطاق شروط الصلح التي أمليتها في زهو وخيلاء، وفي زمن السلم قمت بحروب وفتوحات هائلة.. ومثل هذا التصرف أثار كل أوربا ووحدها ضدك.

وفي نفس الوقت، فإن شعبك الذي كان يجدر بك أن تحبه حبك لأبنائك، والذي ظل حتى هذه اللحظة مخلصاً لك، يموت جوعاً. لقد تخلوا تقريباً عن زراعة الأرض. وهبط عدد السكان في المدن والريف، وانحطت الصناعة فلم تعد تفي بحاجيات العمال. وانهارت التجارة بأسرها. إنك استنزفت نصف ثروة الأمة وحيويتها للقيام بفتوحات عقيمة في الخارج والدفاع عنها. أن كل فرنسا عبارة عن مستشفى ضخم مقفر بائس تنقصه المؤن. والحكام مرهقون محتقرون، وتتزايد الثورات الشعبية التي لم نعهدها منذ زمن طويل، ولا يستثنى من ذلك باريس القريبة منك جداً. ولزام على موظفيها أن يحتملوا وقاحة العصاة والثائرين. وينثروا عليهم الأموال ليهدئوا من روعهم. لقد انحط بك الحال إلى النتيجة المؤسفة المخزية، وهي التراخي في عقاب الفتن، وبذلك تتفاقم، أو قتل أناسي بلا شفقة ولا رحمة، زرعت أنت في قلوبهم اليأس، حين اختطفت من أفواههم، بفعل ضريبة الحرب، الخبز الذي كدحوا للحصول عليه بعرق الجبين....

لقد كان سيف الله مسلطاً فوق رأسك منذ أمد طويل، ولكنه سبحانه تمهل في أن يهوي به عليك، لأنه يرثي لأمير أحيط طيلة حياته بمتملقين أذلاء، وكذلك لأن أعداءك هم أعداؤه.... أنك لا تحب الله، ولكنك تخافه فقط، خوفاً حقيراً من قبيل التقليد والمحاكاة. ولا تقوم ديانتك إلا على الخرافات، وعلى بعض طقوس تافها سطحية... إنك لا تحب إلا عظمتك ومكاسبك، وترد كل شيء إلى ذاتك، وكأنما أنت إله هذه الأرض، وكأنما خلقت كل الأشياء للتضحية بها من أجلك. ولكن الأمر على النقيض من ذلك، فإن الله قد أقامك في هذه الدنيا من أجل شعبك....

لقد راودنا يا مولاي الأمل في أن يردك مجلسك عن الطريق غير المستقيم. ولكن لم يكن لديه القوة والجرأة. وكان من الجائز أن تستغل مدام دي مينتنون، ومسيو بوفيلييه، على الأقل، الثقة التي أوليتها إياها ليمحضاك النصح دون خداع ولا تضليل، ولكن ضعفهما وجبنهما خزي وعار وسبة لنا أمام العالم أجمع. وربما تساءلت يا مولاي:

ماذا عساهما أن يفعلا.. والجواب بأنه كان عليهما أن يرشداك إلى أن تذل وتخشع بين يدي الله القوي القدير، إذا أردت ألا يفرض عليك سبحانه وتعالى الذلة والهوان، وأنه يجدر بك أن تطلب الصلح، وتكفر بهذا الخشوع والتواضع عن العظمة التي جعلت منها معبوداً لك. وأنه من أجل إنقاذ الدولة ينبغي عليك بأسرع ما يمكن أن ترد إلى أعدائك ما لا يحق لك أن تحتفظ به عدلاً وإنصافاً. مولاي: أن هذا الذي يبسط لك هذه الحقائق، وهو أبعد ما يكون عن الوقوف في وجه مصالحك، مستعد أن يضحي بحياته في سبيل أن يراك كما يريد الله لك أن تكون، ولن يكف عن الدعاء لك والصلاة من أجلك .

ولم يجرؤ فنليون على إرسال هذه الرسالة مباشرة إلى الملك، فرتب أمر تسليمها إلى مدام دي مينتنون، وربما كان يأمل في أنها قد تتأثر بها، حتى ولو لم تطلع لويس عليها، باعتبار أن الرسالة تعكس حالة الشعب، فتستخدم السيدة نفوذها من أجل الصلح والسلام، ولكنها حولتها إلى رئيس الأساقفة دي نواي، مع تعليق منها نصه: "لقد أحسن الكاتب، ولكن مثل هذه الحقائق قد تهيج الملك أو تفت في عضده.... وينبغي علينا أن نوجهه برفق في الطريق الذي يجب أن يسلكه(33)". وكانت قد كتبت في 1692. "أن الملك يدرك ما يعانيه شعبه، وهو يتلمس كل الوسائل للتخفيف عنه(34)"، ومما لا شك فيه أنها كانت تعرف ما كان يمكن أن يرد به الملك على فنيلون: أن مبادئ المسيحية لا يمكن أن تستخدم في إدارة شئون الدول، وأنه يمكن عدلاً التضحية بجيل من الفرنسيين، إذا كان في هذه التضحية تأمين لمستقبل فرنسا، بفضل حدود طبيعية يسهل الدفاع عنها، وأن أية محاولة للوصول إلى الصلح والسلام من أعداء متحالفين متعطشين إلى الانتقام، قد تعرض فرنسا للغزو والتمزيق. وإذ وقعت السيدة مينتنون في صراع بين دين الأخوة وبين فلسفة الحرب، فقد كثر ترددها على سان سير، والتمست في رفقة الراهبات الشابات السعادة التي فقدتها في الجاه والسلطان(35).

وقبيل انتهاء الحرب قدم بييرلي بيزان، حاكم بواجلبرت، وقائد المنطقة المحيطة بروان، إلى وزير المالية بونتشارتران مشروعاً لتخفيف الفوضى الاقتصادية والضائقة العامة: "أصغ إلي في شيء من الصبر، إنك ستحسبني أول الأمر مجنوناً، ثم تتبين فيما بعد أني استحق أن تعيرني انتباهك، وسترضيك آخر الأمر أفكاري". ولكن بونتشارتران سخر منه وطرده. ونشر الحاكم الغاضب مخطوطته المرفوضة بعنوان "مشكلة فرنسا" (1697) واستنكرت هذه الرسالة تعدد الضرائب التي يقع العبء الأكبر فيها على عاتق الفقراء، ولا يصيب الأغنياء منها إلا النزر اليسير، واتهمت الكنيسة بابتزاز الكثير من الأرض والثروة، وأنحى بأشد اللائمة على مديري المال الذين تمتد أصابعهم البغيضة إلى الضرائب التي يجمعونها للملك(36). وأضعف من حجة الرسالة ما جاء بها من مبالغات وإحصاءات غير مدروسة، وآراء خاطئة عن تاريخ الاقتصاد الفرنسي قبل كولبير، ولكن زاد من قيمة الرسالة ما تضمنته من آراء ثاقبة ليست على استعداد لفهمها أي حكومة تعودت تقنين كا شيء وتحديده. وكان بواجلبرت من أوائل من رفضوا تضليل "المركنتلية" (نظام اقتصادي قائم على تنظيم حكومي استغلالي صارم)، بأن المعادن النفيسة تشكل في حد ذاتها ثروة، وأن الغرض من التجارة هو تكديس الذهب. وكان من رأيه أن الثروة هي توافر السلع والقدرة على أنتجاها، وأن الثروة الأساسية هي الأرض، وأن الفلاح عماد الاقتصاد، وأن دمار هذا الفلاح يعني دمار الجميع، حيث أن كل الطبقات في النهاية، مرتبطة بمجتمع ذي مصالح. وكل منتج مستهلك، وأية فائدة يجنيها بوصفه منتجاً لا بد عاجلاً أو آجلاً أن يفقدها نتيجة لما يلحقه من خسارة باعتباره مستهلكاً. وكان نظام كولبير في التقنين والتحديد، نظاماً خاطئاً، لأنه عوق الإنتاج وسد منافذ التجارة. وأحكم أسلوب هو ترك الناس أحراراً ينتجون ويبيعون ويشترون، دون قيود في نطاق الدولة، دعوا الطموح وحب الكسب الطبيعيين في الناس يعملان عملهما بحد أدنى من القيود المشروعة. فإنهم حين يتحررون على هذا النحو، سيبتدعون أساليب ومشروعات واستخدامات وأدوات جديدة، وسيضاعفون من خصوبة الأرض، ومنتجات الصناعة، ومدى التجارة ونشاطها، وهذه الزيادة الناتجة في الثروة ستوفر للدولة دخلاً جديداً. ولا بد أن ينشأ عن هذا بعض المظالم والجور، ولكن العملية الاقتصادية ستعالجها جميعاً. وهنا نجد مرة أخرى "اتركه يعمل" قبل أن تبلغ حرية العمل الرأسمالي ذروتها في عالم الغرب، بقرنين من الزمان.

وقد يغتفر للملك ووزرائه، إذا أحسوا أن الحرب ضد نصف أوربا لم تكن وقتاً ملائماً لمحاولة القيام بانقلاب اقتصادي بعيد المدى، فزادوا من الضرائب بدلاً من إصلاح الاقتصاد. وفي 1695 فرضت ضريبة الرءوس، وكان المفروض أن تكون على كل ذكر في فرنسا، وبررها بأنها مؤقتة، ولكنها استمرت حتى 1789. وكان النبلاء ورجال الدين والحكام خاضعين لها من الوجهة النظرية، ولكن من الوجهة العملية اشترى رجال الدين الإعفاء منها نظير إعانة متواضعة، على حين وجد النبلاء والماليون ثغرات في القانون ينفذون منها إلى الإعفاء. ولجئوا إلى كل وسائل الابتزاز المال من الشعب. ونظم "اليانصيب" وبيعت على عقد قروض للدولة. واحتفى الملك نفس برجل من أصحاب المصارف، هو صمويل برنارد، وتقاضى من الملايين بعد أن بهرته هالة العظمة التي أحاط بها الملك نفسه، وفقد وعيه بسحر الملك وفتنته، وعلى الرغم من كل الضرائب ووسائل الابتزاز، قديمها وجديدها. بلغ مجموع دخل الدولة في 1697، 81 مليوناً من الجنيهات، على حين بلغت المصروفات 219 مليوناً.

واعترف لويس آخر الأمر بأن انتصاراته استنزفت حياة فرنسا، فأصدر أوامره إلى سفرائه ومبعوثيه بمحاولة الوصول إلى تفاهم مع أعدائه. وقد أنقذته براعتهم، إلى حد ما. فأقنعوا دوق سافوي في 1696 بعقد صلح منفرد مع لويس. وسمح بتناثر الأنباء بأنه سيكف عن تأييده لآل ستيوارت، ويعترف بوليم الثالث ملكاً على إنجلترا. وكان وليم نفسه يرى أن المال أغلى من الدماء، وشكا من أن "فقره أمر لا يصدق". واشتدت معارضة البرلمان لاعتماد الأموال اللازمة لقواته. وطالب، تمهيداً لعقد الصلح، بطرد جيمس الثاني من فرنسا، ولكن لويس رفض. إلا أنه عرض أن يعيد تقريباً كل المدن والأراضي التي كسبتها قواته أثناء الحرب. وفي 20 سبتمبر 1697 أنهى صلح ريزويك (بالقرب من لاهاي) "حرب البالاتينات" مع إنجلترا وهولندا وأسبانيا. واحتفظت فرنسا بستراسبورج وفرانش كرمتيه، واستردت بوندشيري في الهند، ونوفاسكوشيا في أمريكا، ولكن الرسوم الجمركية الفرنسية خفضت على تجارة هولندا، وفي 30 أكتوبر وقع صلح تكميلي مع الإمبراطورية. وتوقع الإمبراطور والملك كلاهما قرب وفاة شارل الثاني ملك أسبانيا. وأدرك كا رجال السياسة في أوربا تمام الإدراك أن ما وقع لم يكن إلا مجرد هدنة، استعداداً لحرب أكبر كانت جائزة المنتصر فيها أغنى إمبراطورية في العالم.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المشكلة الإسبانية 1698-1700

دنا أجل شارل الثاني دون عقب، فمن ذا الذي يرث ممتلكاته التي تمتد من الفيليبين عبر إيطاليا وصقلية إلى شمال أمريكا وجنوبها؟. لقد طالب بها لويس، لا باعتبارها ابن كبرى بنات فيليب الثالث ملك أسبانيا فحسب، بل كذلك بمقتضى حق زوجته المتوفاة ماري تريز كبرى بنات فيليب الرابع. والحق كل الحق أن ماري تريز تخلت، عند زواجها، عن أي حق لها في عرش أسبانيا. ولكن هذا التخلي كان مشروطاً بأن تدفع الحكومة الإسبانية لفرنسا صداقاً قدره خمسمائة ألف كراون ذهباً. ولكن أسبانيا لم تدفع شيئاً من هذا الصداق، لأنها كانت مفلسة.

وكان للإمبراطور ليوبولد مزاعم مضادة: فهو ابن ماريا آنا صغرى بنات فيليب الثالث. وكان قد تزوج في 1666 من مرجريت تريزا صغرى بنات فيليب الرابع، ولم تتخل أي من هاتين السيدتين عن حقوقها في احتمال ارتقاء عرش أسبانيا. ولما كان الأتراك يزعجون ليوبولد دائماً بغاراتهم المتكررة، فإنه رغبة منه في الإبقاء على السلام مع فرنسا، عمد إلى حل وسط بالنسبة لمطالبه، بتوقيع معاهدة سرية مع لويس الرابع عشر، (في 19 يناير 1668)، نص فيها على التقسيم النهائي للإمبراطورية الأسبانية. ويقول مؤرخ إنجليزي أنه بمقتضى هذه المعاهدة "سلم فعلاً بقوة الحجة التي تذرع بها لويس الرابع عشر ببطلان تخلى ملكة فرنسا عن حقوقها في عرش أسبانيا(37)" ولما تزوج ليوبولد للمرة الثانية، وأنجب له هذا الزواج ابناً ثانياً، حدد مطالبه، ولكنه عرض أن يتنازل عنها للأرشيدوق كارل الجديد.

ونظرت إنجلترا والمقاطعات المتحدة والولايات الألمانية بعين الفزع إلى احتمال أن تؤول مملكة أسبانيا المترامية الأطراف إلى فرنسا أو إلى النمسا، وفي كلتا الحالتين إخلال بتوازن القوى، فلو أن لويس ربح في هذه الجولة لسيطر على أوربا وعرض البروتستانتية للخطر، ولو أنها كانت من نصيب ليوبولد، لهدد الإمبراطور، بحكم استيلائه على الأراضي الوطيئة الأسبانية، جمهورية هولندا، وزعزع استقلال الولايات الألمانية. وتدخلت المصالح الاقتصادية إلى جانب مصالح الأسرات الحاكمة: فالمصدرون الإنجليز والهولنديون كانوا يزودون معظم أسواق أسبانيا ومستعمراتها بالمنتجات الصناعية، ويحصلون منها في مقابل ذلك على كميات هائلة من الذهب والفضة، فكانوا يكرهون أن تصبح هذه التجارة احتكار لفرنسا. وذكرت الحكومة البريطانية في 1716 "أن الاحتفاظ بالتجارة بين مملكو بريطانيا العظمى وأسبانيا كان من أهم الدوافع التي حفزت ملكينا السابقين إلى دخول الحرب الأخيرة الطويلة الأجل الباهظة التكاليف(38)".

ورغبة من وليم الثالث في إرضاء التجار في موطنه الأول وفي البلاد التي آلت إليه، وفي المحافظة على توازن القوى في القارة، اقترح على لويس أن تتخلى فرنسا عن دعواها، وتتفق مع إنجلترا على ترك أسبانيا الأولى". ورفض ليوبولد هذا المشروع غاضباً. وأملاً في صون أمير بافاريا الناخب، حفيد ليوبولد، وعلى أن يحصل الدوفين ولي عهد فرنسا على ثغور تسكانيا وإيطاليا جنوبي الولايات البابوية. على حين يمكن تسكين من روع الأرشيدوق كارل وإرضاؤه بدوقية ميلان. وقبل لويس الاقتراح، ووقع في 11 أكتوبر 1698 مع وليم "معاهدة تقسيم أسبانيا الأولى". ورفض ليوبولد هذا المشروع غاضباً. وأملاً في صون الإمبراطورية الأسبانية من هذه التجزئة والتفتيت، أعد شارل الثاني في 14 نوفمبر 1698 وصيته التي جعل أمير بافاريا الناخب بمقتضاها وريثه الوحيد. ولكن موت الأمير في 5 فبراير أحدث ارتباكاً وتعقيداً في الموقف.

وعرض لويس إلى وليم تقسيماً جديداً: يحصل ولي عهد فرنسا بمقتضاه على ثغور تسكانيا، وإيطاليا جنوبي الولايات البابوية، ودوقية اللورين، ويعوض دوق اللورين بميلان، ويؤول باقي الإمبراطورية الأسبانية، بما في ذلك أمريكا والأراضي الوطيئة الأسبانية، إلى الأرشيدوق كارل، ووقع لويس ووليم اتفاقية التقسيم الثانية في 11 يونيه 1699، ووافقت عليها المقاطعات المتحدة. ولكن شارل الثاني احتج على أي تفتيت لممتلكاته، كما أن الإمبراطور، أملاً منه في الحصول على كل شيء لابنه، أيد موقف أسبانيا ورفض الموافقة على التقسيم، على أن شارل، باعتباره من آل هبسبرج، كان ميالاً إلى ترك كل شيء للأرشيدوق، وبوصفه أسبانياً، على أية حال، كان يكره النمساويين، وباعتباره لاتينياً كان يؤثر الفرنسيين، ومذ كان شارل كلثوليكياً غيوراً، فإنه التمس النصح والمشورة من البابا. فأجاب إنوسنت الثاني عشر في 27 سبتمبر 1700 بأن خير طريقة هي التوصية بكل الإمبراطورية الأسبانية لأمير بوربوني شريطة تخليه عن أي حق في عرش فرنسا، وبذلك تحتفظ أسبانيا بوحدتها. وواضح أن الدبلوماسيين الفرنسيين كانوا يفوقون النمساويين حيلة ودهاء، وفي مدريد وفي روما على حد سواء. ونفر الرأي العام في أسبانيا من غطرسة مليكتهم الألمانية، فوافق على مشروع البابا، وذكر السفير الإنجليزي في مدريد "أن الاتجاه العام فرنسي تماماً(39)". وفي أول أكتوبر وقع شارل الوصية المشئومة، التي أوصى فيها بكل أسبانيا وممتلكاتها لفيليب ذي السبعة عشر ربيعاً، ودوق أنجو، الابن الثاني للدوفين، شريطة ألا يجتمع تاجا فرنسا وأسبانيا لملك واحد، وقضى شارل نحبه في أول نوفمبر. ولما ترامت أنباء هذه الوصية إلى باريس، سر بها لويس، ولكنه كان متردداً. فقد أدرك أن انتقال أسبانيا من أيدي آل هبسبرج إلى أسرة البوربون، لا بد أن يلقى معارضة شديدة من الإمبراطور، وأن إنجلترا وهولندا لا بد أن تنضما إلى صف المعارضة. وأثنى أحد المؤرخين الألمان على هذه الإلتفاتة من جانب لويس نحو الأهداف السلمية:

قد لا يكون من الإنصاف القول بأن لويس الرابع عقد العزم منذ البداية على نقض معاهدة التقسيم، بمجرد الحصول على وصية ملائمة لأسرته، وحتى وهو على يقين من مثل هذه الوصية، وكان شارل لا يزال على قيد الحياة، أمر لويس سفيره في هولندا، أن يؤكد لحاكمها أنه يعتزم التمسك بالتزاماته، ولا يقبل أية عروض تقدم له. وبالإضافة إلى هذا، واصل مساعيه للحصول على انضمام بلاط فيينا إلى معاهدة التقسيم(40). وفي 6 أكتوبر أرسل لويس نداءاً عاجلاً إلى الإمبراطور ليقبل معاهدة التقسيم الثانية(41). ورفض ليوبولد. ومن ثم اعتبر لويس أن المعاهدة لاغية. وفور وفاة شارل، أوفد مجلس الوصاية الأسباني إلى باريس رسولاً ليبلغ الملك لويس أن حفيده سيكون ملكاً على أسبانيا بمجرد قدومه وتأديته اليمين بمراعاة قوانين المملكة. وصدرت التعليمات إلى السفير الأسباني في باريس بأنه في حالة إي رفض من جانب فرنسا، عليه أن يأمر الرسول بالإسراع إلى فيينا ليقدم نفس العرض إلى الأرشيدوق(42). وينبغي ألا تجزأ الإمبراطورية الأسبانية على أية حال. وفي 9 نوفمبر دعا لويس الأمير ولي العهد، ومستشاره بونتشارتران ودوق دي بوفيلييه ومركيز دي تورسي وزير الخارجية إلى اجتماع في جناح مدام دي مينتنون، وسألهم الرأي والمشورة. ورأى بوفيلييه أن يرفض العرض الأسباني، لأنه يؤدي قطعاً إلى الحرب مع الإمبراطورية وإنجلترا والمقاطعات المتحدة، وذكر الملك بأن فرنسا ليست في ظروف تهيئ لها مواجهة مثل هذا الائتلاف، أما تورسي فقد دافع عن فكرة القبول، حيث اعتقد بأن الحرب لا محالة واقعة على أية حال، ولا بد أن الإمبراطور ليوبولد سيعارض معاهدة التقسيم والوصية كلتيهما. هذا فضلاً عن أنه رفض الملك لويس العرض الأسباني، فإنه من المؤكد أن يرحب به الإمبراطور، وتطوق فرنسا من جديد بنفس النطاق الذي كان مضروباً حولها-أسبانيا، شمال إيطاليا، النمسا، الأراضي الوطيئة الإسبانية والذي كلف فرنسا طيلة المائتي عام الأخيرة كثيراً من الدماء لتحطيمه. خير لنا أن ندخل في حرب بسبب عادل-الوصية-من أن نحاول فرض تقسيم أسبانيا بالقوة ضد رغبة حكومتها وشعبها(43). وبعد ثلاثة أيام قضوها في مزيد من المشاورات والمداولات، أعلن لويس إلى المبعوثين قبوله الوصية. وفي 16 نوفمبر 1700 قدم دوق أنجو إلى الحاشية المجتمعة في فرساي قائلاً: "أيها السادة، إنكم ترون هنا ملك أسبانيا. أن النسب الذي تحدر منه دعاه إلى حمل ذاك التاج، بهذا أمر الملك الراحل في وصيته، وهذا ما رغبت فيه الأمة الأسبانية بأسرها، وتوسلت إليّ توسلاً جدياً أن أقبله. وتلك إرادة الله، حققها في غبطة وسرور، ثم أضاف موجهاً الحديث إلى الملك الشاب "كن أسبانياً" صالحاً-فهذا هو الآن واجبك الأول، ولكن تذكر أنك ولدت فرنسياً، وحافظ على الوحدة بين الأمتين، فهذا هو الطريق لإسعادهما، وللمحافظة على السلام في أوربا(44)" ونادى مجلس الوصاية الأسباني بفيليب ملكاً في مدريد، وأسرعت كل قطاعات أسبانيا وممتلكاتها بإعلان موافقتها، واعترفت الحكومات، الواحدة تلو الأخرى، بالملك الجديد: سافوي، الدنمرك، البرتغال، المقاطعات المتحدة، إنجلترا، وعدة ولايات إيطالية وألمانية، بل أن ناخب بافاريا الذي ظن أن الإمبراطور دس السم لابنه-كان من أول الأمراء الذين قدموا اعترافهم. وبدا أن الأزمة قد تم التغلب عليها، وأن العداوة التي استعر أوارها طيلة قرن من الزمان بين فرنسا وأسبانيا قد خمدت بطريقة سلمية، وجثا السفير الأسباني في فرساي بين يدي مليكه الجديد إجلالاً وولاء، ونطق بعبارته المشهورة "لا برانس بعد اليوم(45)".

الحلف الأعظم 1701 - 1702

وكتب لورد تشستر فيلد "أن أسبانيا استقبلت في هدوء وابتهاج فيليب الخامس الذي استهل عهد البوربون الأسبان، واعترفت به ملكاً معظم الدول التي انضمت فيما بعد في تحالف لخلعه(46)" ولكن الإمبراطور ليوبولد أحس بأن هذا الاتحاد الفعلي بين فرنسا وأسبانيا، لا بد أن يكون، إذا تهيأت له أسباب البقاء والاستمرار، كارثة على أسرة هبسبرج التي ألفت منذ أمد طويل أن تحكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة والإمبراطورية الأسبانية كلتيهما. وعكس الكتاب استياءه فأهاجوا الرأي العام في النمسا وعبروا عنه، مرددين أن شارل الثاني لم يكن في كامل قواه العقلية حين أوصى بأسبانيا لعدوتها القديمة، وزعموا أن تشريح جثة الملك أظهر حقاً أن قلبه ومخه كانا مصابين بشكل خطير، ومن ثم تكون وصيته باطلة لاغية، وتكون ممتلكات أسبانيا تابعة للإمبراطور ليوبولد، بمقتضى حقوق أمه وزوجته التي لم يحدث أي تخل أو تنازل عنها. واستحث ليوبولد حليفيه السابقين هولندا وإنجلترا إلى إنكار أو سحب اعترافهما بفيليب الخامس. حتى ولو كان هذا يعني حرباً.

وكان زعيم المقاطعات المتحدة في هذا الوقت أنطونيوس هينسيوس الذي كان قد اختير حاكماً بعد رحيل وليم إلى إنجلترا، وكان في سابق أيامه مبعوثاً هولندياً إلى فرنسا، وهدده لوفوا بإلقاء القبض عليه، خرقاً للحصانة الدبلوماسية، ولم ينس قط هذه الإساءة، وأقام الآن، وقد بلغ التاسعة والخمسين، في دار متواضعة في لاهاي، وأحب المكتب، وسار يومياً على قدميه إلى مكتبه، واشتغل عشر ساعات في اليوم، وكان بمثابة تحد صارخ من جانب البساطة البرجوازية والحكومية الجمهورية للأرستقراطيين المترفين والملوك المستبدين. وفي نوفمبر 1700، وبتوجيه من الجمعية الوطنية الهولندية، أرسل أنطونيوس هذا إلى الملك لويس الرابع عشر مذكرة يرجوه فيها رفض وصية شارل الثاني باعتبارها ضارة أبلغ الضرر بالإمبراطور، والعودة إلى سياسة التقسيم. ضرورياً حتمياً هو تكرار رفض الإمبراطور لأي مشروع للتقسيم، وتأكد فرنسا من أن الإمبراطور سيقبل العرض الأسباني إذا هي رفضته. وزادت تصرفات لويس من خوف أوربا من قوة فرنسا. ففي أول فبراير 1701 حمل برلمان باريس على تسجيل مرسوم ملكي ينص على المحافظة على الحقوق التي يمكن أن تنشأ لفيليب وأعقابه في تاج فرنسا.

وهذا لا يعني بالضرورة أن لويس تطلع إلى وحدة فرنسا وأسبانيا تحت حكم ملك واحد، وربما قصد به تأمين نظام لارتقاء عرش فرنسا في حالة وفاة الورثة السابقين، ففي مثل الضرورة الطارئة يمكن لفيليب أن يتخلى عن تاج أسبانيا ليرتقي العرش في وطنه الأول، وبذلك يستمر التاج في أسرة البوربون دون انقطاع. ولكن إجراء آخر اتخذه الملك برر أن يفسر عمله تفسيراً غير ودي. ذلك أنه كانت هناك كعاهدة مع أسبانيا تثبت حق الهولنديين في حماية هولندا ضد الغزو، بالاحتفاظ بحاميات مسلحة في بعض "مدن الحدود" في الأراضي الوطيئة الأسبانية. وفي فبراير، بناء على تفاهم بين لويس وناخب بافاريا الذي تولى حكم الأراضي الوطيئة الإسبانية آنذاك، دخلت القوات الفرنسية مدن الحدود هذه، وأمرت الحاميات الهولندية بمغادرتها. وأبلغ السفير الأسباني في لاهاي الجمعية الوطنية بأن هذا العمل تم بناء على رغبة الحكومة الأسبانية. واحتجت الجمعية الوطنية ثم استسلمت، ولكن هينسيوس اتفق مع وليم الثالث على ضرورة تجديد الحلف الأعظم ضد فرنسا.

أن وليم ارتكز في موقفه على أن معاهدة التقسيم الثانية كانت اتفاقاً بينه وبين لويس، وأنها ظلت سارية المفعول شواء وقعها أو لم يوقعها ليوبولد، وأن قبول فرنسا للوصية الإسبانية كان نقضاً لهذا الميثاق القانوني المقدس. وكان البرلمان على أية حال يكره استئناف النزاع الباهظ التكاليف مع فرنسا. وعندما أبلغت الحكومة الفرنسية إنجلترا بنبأ ارتقاء فيليب الخامس عرش أسبانيا، راض وليم نفسه على تهنئة "أخيه العزيز ملك أسبانيا بهذه المناسبة السعيدة، مناسبة ارتقائه العرش(47)". وبهذا قدم اعترافاً رسمياً بنظام الحكم الجديد (17 أبريل 1701(48)). ولكن عندما تجلت النتائج الخطيرة للاتحاد الفرنسي الأسباني للعيان بشكل أوضح، حيث أن احتلال القوات الفرنسية للفلاندرز جعلت لويس قاب قوسين أو أدنى من هولندا، وأن امتلاكه لثغر أنتورب مكنه من التحكم في التجارة الإنجليزية التي تستخدم هذا الثغر-فإن الإنجليز بدءوا يدركون أن المشكلة لم تكن مجرد مشكلة بين البوربون وآل هبسبرج، ولا هي مشكلة كاثوليكية تستعيد نشاطها وبروتستانيتة يتهددها الخطر، ولكنها قضية الصراع بين إنجلترا وفرنسا حول السيادة على البحار، والسيطرة على المستعمرات الأوربية وعلى تجارة العالم، وفي يونيه 1701، ودون إعلان الحرب، تعهد البرلمان بتأييد وليم في أية أحلاف قد يدخل فيها بهدف الحد من سيطرة فرنسا المتزايدة. وتحقيقاً لهذا الهدف أقر تجنيد ثلاثين ألفاً من جنود البحر واعتمد مبلغ مليونين وسبعمائة ألف جنيه. واستجابة لنداء من الجمعية الوطنية الهولندية أمر وليم عشرين سفينة وعشرة آلاف جندي بالإبحار إلى هولندا. وفي يوليه عبر هو نفسه البحر إلى لاهاي. وكان الإمبراطور الذي يطالب بأراضي الإمبراطورية الأسبانية بأسرها، بالفعل في حرب. وفي مايو 1701 أرسل جيشاً مكوناً من ستة آلاف من الفرسان وستة عشر ألفاً من المشاة للاستيلاء على ممتلكات أسبانيا في شمال إيطاليا، وعهد بقيادة هذا الجيش إلى أمير شاب، قدر له أن ينافس مالبرو نفسه باعتباره قائداً-هو ويجين سافوي.

وكان جده شارل أمانويل دوق سافوي، أما والده الأمير يوجين موريس فقد استقر به المقام في فرنسا بلقب كونت دي سواسون. أما والدته فهي أولمب مانسيني إحدى بنات أخي مازاران الفاتنات. وطلب يوجين نفسه في 1683، وهو في سن العشرين، من لويس الرابع عشر أن يويله قيادة فوج من الجنود، فأبى عليه ذلك نظراً لصغر سنه، فهجر فرنسا والتحق بخدمة الإمبراطور، واشترك مع سوبسكي في تخليص فيينا وتعقب الأتراك، وجرح في الاستيلاء على بودا، وجرح ثانية في حصار بلجراد، وقاد القوات الإمبراطورية إلى الانتصار الحاسم على الأتراك في سنتا 1697، وتحلى يوجين بكل المزايا اللهم إلا جمال الوجه والجسم. ووصفه فرنسي عدو له بأنه "هذا الرجل القبيح الضئيل الجسم الذي ينقلب أنفه فوق شفة عالية قصيرة إلى حد أنها لا تغطي أسنانه(49)"، على حين تبين فيه فولتير "صفات البطل في الحرب، ومناقب الرجل العظيم زمن السلم، وذهناً مشرباً بروح العدل والإنصاف والاعتداد بالنفس، وشجاعة لا تلين ولا تهن في قيادة الجيوش(50)". والآن وهو في الثامنة والثلاثين قاد قواته فوق الألب، وتفوق على الكتائب الفرنسية هناك، ومع توالي انتصاراته على كاتينا وفيلروا، كسب الإمبراطور كل دوقية مانتوا تقريباً (سبتمبر 1701)، قبل إعلان حرب الوراثة الأسبانية بزمن طويل.

وفي الوقت عينه كانت الدبلوماسية قد مهدت لعشر سنين من المذابح. ففي أغسطس منحت أسبانيا فرنسا "عقداً" يدر ربحاً وفيراً، لتزويد المستعمرات الأسبانية في أمريكا بالعبيد. وواضح أن فرنسا قصدت أن تستخدم نفوذها الطاغي في أسبانيا، للاستيلاء على تجارة ممتلكاتها في قارات ثلاث. وفي 7 سبتمبر وقع مندوبو إنجلترا والمقاطعات المتحدة والإمبراطورية معاهدة لاهاي بتكوين حلف أعظم ثان. ونصت المادة الثانية منها على أنه من الضروري لإقرار السلام في أوربا أن تراعي حقوق الإمبراطوري في الوراثة الأسبانية، وأن تكون إنجلترا والمقاطعات المتحدة آمنتين في ممتلكاتهما وفي تجولهما في البحار وفي تجارتهما، ووعدت المعاهدة الإمبراطور بممتلكات أسبانيا في شمال إيطاليا والأراضي الوطيئة، ولكنها تركت الباب مفتوحاً أمام احتمال الاعتراف بفيليب الخامس ملكاً على أسبانيا، وتعهدت الأطراف المتعاقدة بعدم القيام بأية مفاوضات منفصلة، أو توقيع أي صلح منفرد، والحيلولة دون توحيد تاجي فرنسا وأسبانيا. واعترض طريق التجارة الفرنسية مع المستعمرات الأسبانية والدفاع عن أية فتوحات تقوم بها إنجلترا والمقاطعات المتحدة في الأنديز الإسبانية والمحافظة عليها(51). ومنحت فرنسا مهلة مدتها شهران للموافقة على هذه الشروط، فإذا لم تتم الموافقة، كان للدول الموقعة أن تعلن الحرب. وقابل لويس هذا التحدي بكبرياء شديدة متميزة، فأعلن أنه مرتبط رباطاً شريفاً بالدفاع عن وصية شارل الثاني وتصميم الشعب الأسباني على عدم تمزيق إمبراطوريته، ولثقته التامة في قوة قضيته وعدالتها، ظهر إلى جان سرير جيمس الثاني الذي كان يعان يمن سكرا الموت، وواسى الملك المحتضر بوعده أنه سيعترف بجيمس الثالث ملكاً على إنجلترا ويسانده. ولما قضى الوالد نحبه حافظ لويس على عهده، ولسنا ندري إذا كان هذا "عملاً جليلاً يتسم بالشهامة"، (كما قال عنه مؤرخ إنجليزي شهم(52)) أو أنه استسلام لتوسلات الأرملة الباكية(53)، أو أن خطة عسكرية لتقسيم إنجلترا إلى معسكرين: فريق يناصر وليم، وفريق يناصر جيمس، ويدعو إلى عودة آل ستيوارت إلى العرش من جديد. وعلى أية حال كانت حرب الوراثة الأسبانية حرباً للوراثة الإنجليزية أيضاً، بل حرب الكيان الإنجليزي كله، فإن عودة ملك من أسرة ستيوارت قد يعني استئناف المحاولة لتحويل إنجلترا إلى الكاثوليكية، وعلى الرغم من أن فرنسا أحست بأن تصرف الحلفاء نقض الاعتراف الذي كانت قد أعلنته كل دولة بفيليب الخامس ملكاً على أسبانيا. فإن معظم إنجلترا أحست بأن لويس قد نقض معاهدة روزيك التي كان قد اعترف فيها بوليم الثالث ملكاً على إنجلترا، واستنكرت الاعتراف بجيمس الثالث على أنه تدخل وقح في شئون إنجلترا. وأضيفت إلى شروط الحلف الأعظم فقرة تلزم الموقعين بألا يعقدوا صلحاً مع فرنسا، حتى يتلقى وليم ترضية عن الإساءة التي ألحقها به التصرف لويس. وفي يناير 1702 جرد البرلمان جيمس الثالث من حقوقه المدنية-أي أعلن أنه خائن خارج عن القانون. وفي نفس الوقت أقر بأغلبية صوت واحد، "قانون القسم" الذي يتطلب من كل إنجليزي أن يبرأ من "المطالب بالعرش" ويقسم يمين الولاء لوليم الثالث وورثته. وفي 8 مارس 1702 توفي وليم الثالث في سن الثانية والخمسين. في وقت مبكر جداً لم يستطع أن يتبين فيه أنه قام بتوثيق عرى تحالف قد يحدد خريطة أوربا لمدة نصف قرن. وفي 15 مايو أعلن الإمبراطور والمقاطعات المتحدة وبرلمان إنجلترا الحرب على فرنسا في وقت واحد.


حرب الوراثة الإسبانية 1702-1713

كانت كل أوربا غربي بولندا والإمبراطورية العثمانية، من الناحية العلمية، مشغولة بهذه الحرب. وانضم إلى التحالف الدنمرك وبروسيا وهانوفر وأسقفية مونستر، وناخباً مينز والبلاتينات وبعض الولايات الألمانية الصغيرة. وانضم إلى هؤلاء في 1703 سافوي والبرتغال، وحشدوا جميعاً 250 ألف جندي، وجمعوا قوة بحرية تفوق كثيراً القوة البحرية الفرنسية عدداً وعتاداً وقيادة. وكان لفرنسا آنئذ مائتا ألف جندي، ولكن هذه القوات كانت موزعة على جبهات مختلفة في إقليم الراين وإيطاليا وأسبانيا. وكان الحلفاء الوحيدون لها أسبانيا وبافاريا وكولون، ثم سافوي لمدة عام واحد. وكانت أسبانيا عبئاً عليها، تريد من الجيوش الفرنسية أن تدافع عنها، كما كانت المستعمرات الأسبانية تحت رحمة الأساطيل الهولندية والإنجليزية.

ويجدر بنا ألا نضل في متاهات اللعبة الملكية، الشطرنج البشري، التي أعقبت ذلك، وكانت لعبة دامية إلى حد لم يسبق له مثيل تقريباً. والآن جاءت حملات مالبرو ويوجين سافوي البارعة المثيرة الملطخة بالدماء. وربما لم تجتمع منذ عهد قيصر عبقرية الحرب وفن الدبلوماسية مثل ما اجتمعا في مالبرو: كان بارعاً في استراتيجية تخطيط العمليات وتحريك الجيوش، وفي أساليب استخدام المشاة والخيالة والمدفعية، مع سرعة في تقدير الموقف واتخاذ القرار، وفق متطلبات المعركة، ومع ذلك فهو أيضاً صبور لبق في التعامل مع الحكومات من ورائه، والشخصيات من حوله، حتى مع العداء اللذين اعتبروه رجل دولة يدرك الحقائق، ذا وزن وقوة ونفوذ. وكان في بعض الأحيان قاسياً لا يرحم، وفي أغلب الأحيان مجرداً من المبادئ الخلقية والإنسانية. وسفك من دماء جنوده أي قدر لازم لتحقيق النجاح، واتصل بجيمس الثاني وجيمس الثالث ليضمن لنفسه نصيراً باسماً مشرقاً إذا عاد آل ستيوارت إلى الحكم. ولكنه كان منظم وصانع النصر.

وحيث أدرك لويس الرابع عشر أن كل عظمة عصره معلقة في كفة الميزان، وأن النزاع حول أسبانيا بات صراعاً من أجل قارات، فإنه هاب بفرنسا أن تبعث إليه بأبنائها وذهبها. وما وافى عام 1704 حتى كان لديه 450 ألف رجل مسلحين-قدر ما لدى أعدائه مجتمعين(54). وأملاً منه في التبكير بحسم هذا الصراع الباهظ التكاليف، أصدر أوامره إلى قواته الرئيسية بالتقدم عبر بافاريا الصديقة، ومهاجمة قلعة العدو الأخيرة، ألا وهي فيينا التي عجزت الحشود التركية نفسها عن الاستيلاء عليها. وانشغلت القوات الإمبراطورية في الشرق بعصيان مسلح وقع في المجر، وتركت عاصمتها مجردة من وسائل الدفاع تقريباً. وعلى حين كان مفروضاً أن يضيق جيش فرنسي بقيادة فيلروا الخناق على مالبرو في الأراضي الوطيئة، فإن القوات الفرنسية بقيادة مارسان وتللارد انضمت إلى قوات ناخب بافاريا، وأسرعت في التقدم إلى النمسا. ومرة أخرى هرب الإمبراطور من فيينا، كما حدث في 1683، إدراكاً منه بأن وقوعه في أيدي الأعداء لا بد أن يكون كارثة على موقف الحلفاء.

وفي هذه الأزمة، وعلى الرغم من توسلات الجمعية الوطنية الهولندية، ولكن بموافقة سرية من جانب هينسيوس، قرر مارلبرو أن يغامر بوقوع هولندا في يد فليروا، ويجد السير ليلاً ونهاراً من بحر الشمال إلى الدانوب (مايو-يونيه 1704) لينقذ فيينا. وتظاهر بأنه يسعى لعبور الموزل، فسار جنوباً في محاذاة النهر، مغرياً فليروا بحركة موازية على الجانب الآخر. وفجأة عند كوبلنز انعطف شرقاً وعبر الراين على جسر عائم، وسار إلى مينز، وعبر المين إلى هيدلبرج، وعبر نهر نكر إلى راستاد، فأحدث الآن نقاط اتصال هامة مع الإمدادات القادمة من هولندا، ومع جيش إمبراطوري بقيادة يوجين سافوي، ومع جيش آخر بقيادة الحاكم العسكري لمنطقة بادن بادن-لويس وليم الأول-ودهش الفرنسيون والبافاريون ليجدوا مالبرو بعيداً عن المواقع التي كان من المتوقع أن يطبق عليه فليروا فيها. وجمع مارسان وتللارد وناخب بافاريا، 35 ألفاً من المشاة و18 ألفاً من الفرسان بين لوتزنجين وبلنهيم، على الضفة اليسرى للدانوب. وهناك في 13 أغسطس 1704 اشتبك معهم مارلبرو ويوجين بثلاثة وثلاثين ألفاً من المشاة وتسعة وعشرين ألفاً من الخيالة فيما تحاول فرنسا أن تنسى فيه معركة هوستاد وما تحتفل به إنجلترا باعتباره النصر في بلنهيم. واخترقت خيالة مارلبرو المتفوقة قلب القوات الفرنسية وساقت جيش تللارد المنهزم إلى بلنهيم، حيث استسلم الأثني عشر ألفاً الباقون منه على قيد الحياة، وأسر تللارد نفسه. ثم أسرع فرسان مارلبرو لنجدة يوجين، وكان في مأزق، إلى اليمين، وعاونوه حتى أجبر مارسان على التقهقر بانتظام، وكانت الخسارة في الأرواح جسيمة، اثني عشر ألفاً من الحلفاء، و14 ألفاً من الفرنسيين والبافاريين. وحطم استسلام سبع وعشرين كتيبة من المشاة واثنتي عشرة سرية من الخيالة سمعة القوات المسلحة الفرنسية. وفر ناخب بافاريا إلى بروكسل. واحتل الجيش الإمبراطوري بافاريا، وأخلى نحو ثلاثمائة ميل مربع تقريباً من الأرض من القوات الفرنسية، وعاد ليوبولد في أمان إلى عاصمته. وفي 4 أغسطس سجل أسطول إنجليزي هولندي يوماً مشهوداً آخر في التاريخ باحتلاله صخرة جبل طارق المقفرة. وقد حولها الإنجليز إلى قلعة ضمنت لهم السيادة على البحر المتوسط لمدة قرنين من الزمان واستمرت الحرب تسع سنوات أخرى، دون أن يفطن أحد إلى أن هذين الإنتصارين قد حددا مصيرها. وفي 9 أكتوبر 1705 استولى أسطول إنجليزي على برشلونة، وساند أحد جيوش الحلفاء ثورة قامت في قطالونيا ضد فيليب الخامس، وأقام الأرشيدوق كارل في مدريد ملكاً تحت اسم شارل الثالث (25 يونيه 1706). ولكن منظر النمساويين والإنجليز يحكمون البلاد أيقظ الأسبان من سباتهم الروحي، بل أن رجال الدين أنفسهم حرضوهم على المقاومة. وسلح الفلاحون أنفسهم بأحسن ما وصلت إليه أيديهم، وقطعوا خط مواصلات الحلفاء بين برشلونة ومدرية. وقاد دوق برويك الإنجليزي، وجيمس فتز جيمس الابن الشرعي لجيمس الثاني قوة فرنسية أسبانية من الغرب. استردت مدريد لفيليب الخامس (22 سبتمبر) وردت الأرشيدوق ومن معه من المهرطقين الإنجليز إلى قطلونيا.

وفي تلك الأثناء، وبعد أن تغلب مالبرو على بعض العقبات السياسية في لندن ولاهاي، جمع هذا القائد جيشاً قوامه ستون ألفاً من الإنجليز والهولنديين والدنمركيين، وتقدم بالجيش الفرنسي الرئيسي المؤلف من 58 ألف جندي بقيادة فليروا عند رامييه بالقرب من نامور. وفي اشتداد وطيس المعركة، ناسياً أنه يجدر بالقواد أن يموتوا في فراشهم، اندفع إلى مقدمة الصفوف، فأسقط عن جواده. وبينما كان الضابط المرافق له يعاونه على امتطاء ظهر الجواد ثانية، اخترقت رأس الضابط قذيفة، واسترد مالبرو عافيته وأعاد تنظيم قواته، وقادها إلى نصر دام آخر. وبلغت الخسائر في جيشه خمسة آلاف رجل، وفي جيش الفرنسيين خمسة عشر ألفاً. وتقدم وسط مقاومة لا تذكر للاستيلاء على أنتورب وبروجز وأوستند. وهناك توفر له خط مواصلات مباشر مع إنجلترا، وكان على مسافة عشرين ميلاً فقط من فرنسا. وآوى فيلروا، وكان آنذاك في الثانية والستين، إلى ضيعته محزوناً، ولكن دون تأنيب من الملك الذي قال له في أسى وأسف "لن يواتينا الحظ بعد ذلك(55)".

وفي كل مكان، باستثناء أسبانيا، كان الفرنسيون الآن في خطر، أو كانوا يتقهقرون. وفي فيينا خلف جوزيف الأول، وكان في السابعة والعشرين، أباه على عرش الإمبراطورية (1705)، وشد من أزر قواده بدرجة كبيرة. ورد يوجين سافوي الفرنسيين عن تورين (1706) وعن إيطاليا (1707). وبمقتضى اتفاق ميلان أصبحت دوقيتا ميلان ومانتوا جزاءاً من إمبراطورية النمسا، وانتهى حكم "جونزاجات مانتوا" الذي كان قد بدأ 1328. أما مملكة نابلي التي كان يحكمها نائب الملك الأسباني منذ عهد طويل، فقد ارتمت بدورها في أحضان النمسا، ولو أنها استمرت من الوجهة الشكلية ولاية بابوية، واحتفظت الولايات البابوية بأوضاعها بإذن من الإمبراطور الذي اخترقتها قواته الألمانية ضد إرادة البابا الذي لا حول له ولا قوة(56). واحتفظت فينيسيا وتسكانيا باستقلال مزعزع الأركان.

وكان لويس الرابع عشر رجلاً قد تغير. وكان غرور السلطان قد زال عنه تقريباً، ولكنه احتفظ بالوقار الهادئ لدولته. وفي 1706 عرض على الحلفاء شروطاً للصلح كان يمكن أن يتقبلوها فرحين مسرورين قبل خمس سنين، وبمقتضاها تترك أسبانيا للأرشيدوق كارل، ويكتفي فيليب بميلان ونابلي وصقلية، وتعاد مد الحدود والحصون إلى السيطرة الهولندية في الأراضي الوطيئة الأسبانية. وكان الهولنديين ميالين إلى التفاوض، ولكن الإنجليز والإمبراطور أبوا. وتولى لويس السأم والضجر، واتجه إلى تجنيد جيوش جديدة وفرض ضرائب جديدة، حتى التعميد والزيجات لا بد أن يدفع عنها ضريبة حتى تصبح قانونية. فلجأ الفرنسيون الذين أضناهم الفقر إلى تعميد أبنائهم وإلى الزواج دون طقوس دينية، ولو أن نتاج مثل هذا القران دمغ بأنه غير شرعي من الوجهة الرسمية(57).

وقامت الثورة في كاهور، وفي كرسي، وفي بريجور. واستولت جموع الفلاحين على الحكم في المدن، وعلى قصور الإقطاعيين. وصاحت الهياكل العظمية الحية أي أهالي الذين يتضورون من الجوع، عند أبواب قصر فرساي، مطالبين بالخبز، فصدهم الحرس السويسري. وظهرت اللافتات على الجدران في باريس منذرة لويس بأنه لا يزال في فرنسا رجال يريدون قتل الملك(58). ومنعت الضرائب الجديدة.

وفي أوائل 1707 نشر مركيز دي فوبان الذي كانت هندسته العسكرية عنصراً أساسياً في الانتصارات الفرنسية في الجيل الماضي، نشر وهو في الرابعة والسبعين، "اقتراحاً بضريبة أعدل". وصف المركيز شقاء فرنسا وبؤسها: "أن عشر السكان تقريباً انحطوا إلى درجة التسول، أما غالبية التسعة الأعشار الباقية منهم فهم أقرب إلى تلقي الصدقات منهم إلى بذلها... يقيناً أن السوء قد بلغ أقصى مداه. فإذا لم يتخذ أي علاج فلسوف يقع الشعب في براثن فقر لا فكاك له منها أبداً". وذكر الملك بأن "الطبقة الدنيا من الشعب هي التي تثري الملك ومملكته بكدها وجدها، وإسهاماتها في الخزانة الملكية" ومع ذلك فإن "هذه الطبقة، نتيجة لمطالب الحرب وفرض الضرائب على مدخراتها، هي التي تعيش الآن في أسمال بالية وأكواخ متداعية، على حين توقفت الزراعة في أراضيها" لتغيب أبنائها الذين جندوا للحرب(59). ولإنقاذ هؤلاء الناس، وهم أعظم الطبقات إنتاجاً، اقتبس فوبان بعض أفكار بواجلبرت، فاقترح إلغاء كل الضرائب القائمة، والاستعاضة عنها بضريبة دخل تصاعدية لا تعفي منها أية طبقة، فيدفع ملاك الأرض ما بين 5 و10% ويدفع العمال ما لا يزيد عن 2slash1 3%. وتحتفظ الدولة باحتكار المح، وتفرض الرسوم الجمركية عند الحدود الوطنية فقط(60). ويصف سان سيمون هذا الكتاب، وكيف استقبله الناس، فيقول:

كان الكتاب زاخراً بالمعلومات والأرقام، مرتبة بأقصى درجة من الوضوح والبساطة والدقة. ولكنه وقع في خطأ جسيم ذلك أن يبسط منهجاً لو اتبع لكان فيه دمار الجيش من الرأسماليين والكتبة والموظفين من كل الأنواع، ولأرغمهم على أن يعيشوا على حسابهم بدلاً من العيش على حساب الشعب، وقوض أساس هذه الثورات الضخمة التي نراها تنمو وتزداد في وقت قصير. وكان هذا شبباً كافياً لسقوط هذا الكتاب.. وتعالت الصيحات من جانب أولئك الذين يهمهم معارضته... ولا عجب إذن، في أن الملك الذي يلتف حوله هؤلاء الناس، أصغى إلى حججهم، واستقبل المارشال فوبان أسوأ استقبال حين قدم إليه كتابه(61).

وأنبه لويس بأنه رجل حالم، قد يقلب مشروعه مالية البلاد رأساً على عقب، وسط أزمة الحرب. وفي 14 فبراير 1707 صدر قرار من المجلس بمصادرة الكتاب وعرضه في مشهرة. وبعد ستة أسابيع مات المارشال العجوز، وقذفت في عضده وأحزانه ما أصاب من خزي وعار. وتفوه الملك ببعض كلمات عن أسف جاء متأخراً "فقدت رجلاً كان يحبني حباً شديداً كما يحب الدولة(62)".

واستمرت الضرائب والحروب. وفي أغسطس 1707 انضم فكتور أماديس الثاني دوق سافوي-الذي كان قد بدأ حليفاً لفرنسا-إلى يوجين سافوي وأسطول إنجليزي في حصار طولون. براً وبحراً، حتى إذا سقطت في أيديهم عمدوا إلى مهاجمة مسيليا، فإذا سقطت هذه أيضاً لأصبحت فرنسا معزولة عن البحر المتوسط. وأعد جيش فرنسي جديد وأرسل ليصد الغزاة، وألح في صدهم، ولكن في هذه الحملة بات معظم أراضي بروفانس خراباً بلقعاً. وفي 1706 حشد الملك جيشاً قوامه ثلاثون ألفاً تحت قيادة مارشال فندوم. ودوق برجندي المحبوب ابن الدوفين. وسيره ليوقف تقدم الحلفاء في الفلاندرز فقابله سارلبرو ويوجين بجيش مماثل في العدد في أودينارد على نهر شلدت (11 يوليه 1708)، ودارت الدائرة على الفرنسيين وخسروا 20 ألفاً بين قتيل وجريح، كما أسر منهم سبعة آلاف. وأراد مارلبرو التقدم إلى باريس، ولكن يوجين أقنعه بمحاصرة ليل أولاً، حتى لا تقطع حاميتها خط مواصلات الحلفاء وإمداداتهم. وسقطت ليل بعد حصار دام شهرين، بخسارة في الأرواح قدرها خمسة عشر ألفاً. وأحس لويس بأن فرنسا لم تعد قادرة على مواصلة القتال. وزاد من بؤس الشعب وشقائه أن شتاء 1708slash1709 كاد أقسى شتاء وعته الذاكرة، وتجمدت النهار طيلة شهرين، بل تجمدت مياه البحر على طول الشواطئ، إلى أن العربات ثقيلة الأحمال كان تسير في أمان فوق جليد المحيطات(63). وهلكت كل المزروعات بما في ذلك أقدر أشجار الفاكهة على احتمال قسوة المناخ، وكل الحبوب في الأرض. كما مات في هذا الفصل القاسي معظم الأطفال الحديثي الولادة(64). باستثناء ابن حفيد الملك، لويس الخامس عشر فيما بعد، الذي ولد لدوق ارجندي في 15 فبراير 1709. وفي أعقاب ذلك جاءت المجاعة في الربيع والصيف، واختزن المحتكرون الخبز واحتفظوا له بسعر عال. ويذكر سان سيمون، وهو عادة لا يحب الملك، أن لويس نفسه كان متهماً باقتسام مغانم الاحتكارات(65). ولكن هنري مارتن يقول "أن التاريخ يروي كثيراً إلى حد أنه لا يسلم بالوصف البغيض الكئيب الذي أورده سان سيمون دون شيء من الريبة"(66). وأنقذ الموقف باستيراد 12 مليون كيلو جرام من الحبوب من دول المغرب العربي وغيرها، وزراعة الشعير بمجرد ذوبان الثلوج وعودة الدفء إلى الأرض(67).

وأحس لويس الرابع عشر بالذلة والهوان بسبب هزائم جيوشه ونكبات شعبه، فأرسل في 22 مايو 1709 المركيز دي تورس إلى لاهاي، يطلب الصلح. وكان دي تورسي مزوداً بالتعليمات ليعرض النزول عن كل الإمبراطورية الأسبانية إلى الحلفاء، وعن نيوفونلند إلى إنجلترا، وإعادة مدن الحدود إلى الهولنديين، والتخلي عن تأييد حق آل ستيورات في العرش. وحاول المركيز أن يرشو مالبرو، فأخفق(68). وفي 28 مايو قدم الحلفاء إلى دي تورسي إنذاراً نهائياً يطالبون فيه، لا بمجرد التنازل عن كل أسبانيا وممتلكاتها للأرشيدوق، بل كذلك يطالبون بانضمام الجيش الفرنسي إلى قوات الحلفاء في طرد فيليب من أسبانيا إذا لم يكن قد غادرها في بحر شهرين، وإلا، (كما قدروا) تركت فرنسا حرة في إعادة تنظيم قواتها الضاربة أثناء انشغالهم في شبه الجزيرة. وأجاب لويس بأنه يعز عليه أن يطلب منه استخدام القوة لطرد حفيده من أسبانيا التي كانت قد هبت من فورها لمساندة فيليب. وقال "إذا كان لا بد من مواصلة القتال، فل أقاتل أعدائي، لا أبنائي(96)".

وأثارت مطالب الحلفاء شعور الاستياء في فرسنا. وانضم الرجال عن طيب خاطر إلى القوات المسلحة، وكان كل همهم أن يجدوا الطعام، وأرسل النبلاء ما لديهم من فضة إلى دار سك العملة، وراوغت السفن الفرنسية الإنجليز الهولنديين، وأحضرت من أمريكا سبائك تقدر قيمتها بثلاثين ملويناً من الفرنكات. وحشد جيش جديد قواته تسعون ألفاً، وضع تحت إمرة فللار الذي لم يتمكن الحلفاء من هزيمته من قبل. وفي الوقت نفسه جمع مالبرو مائة وعشرة آلاف جندي. والتقى الجمعان في مالبلاكيه (على الحدود المواجهة لبلجيكا) في أعنف معركة في القرن الثامن عشر. وفقد مارلبرو 22 ألف رجل في انتصاره الأخير، وخسر الفرنسيون 12 ألفاً، من بينهم فللار الباسل، الذي كان في السادسة والخمسين، واندفع على رأس قواته، ثم حملوه من الميدان وقد بترت إحدى ركبتيه قذيفة مدفع. وتقهقر الفرنسيون بانتظام واتجه الحلفاء للاستيلاء على مونز. وكتب مارلبرو إلى زوجته يقول "الحمد لله والشكر لله، أن في مقدورنا الآن أن نحصل على الصلح الذي نريده(70)".

ويبدو أن الأمر كان كذلك. فمن الواضح أن فرنسا كانت قد بذلت أقصى ما في جعبتها، فمن أين لها بجيش ثان من بين أسراتها المنهوكة التي استنزفت دماء أبنائها، وكيف تطعمه وحقولها مهجورة مقفرة؟. لقد عمت الفوضى الزراعة والصناعة والنقل والتجارة والمالية-لقد أصاب كل هذا المرافق دمار وانحلال، يهيئان للأعداء المتقدمين احتلال فرنسا وتمزيق أوصالها. أن الملك الذي كان يوماً معبود الشعب "الذي بعثه الله إليهم" بدأ يفقد حبهم بل احترامهم له. أنه كان ينأى بنفسه عن باريس، لأنه لن تغب عن ذاكرته جماعة الفروند المعادية، واستاءت المدينة لطول نفوره منها وتباعده عنها، وما أشد ما استهجنت النكات والشتائم والنشرات واللافتات كبرياءه الاستبدادية استهجاناً لاذعاً(71). وتساءل الناس متعجبين، كيف تكتظ قاعات فرساي، وسط إملاق فرنسا وعوزها، برجال الحاشية المقامرين الخاملين المترفين، على حين أن الملك وزوجته قد ركنا إلى شيء من التقوى وكبح جماح النفس. "ولم تخفض نفقات الحاشية ولم ينقص عدد موظفيها حتى النهاية(72)". وأنشد بعض الباريسيين الذين لا يجدون الخبز رواية معدلة من "دعاء الرب"، لم يستثنوا فيها لويس ولا زوجته ولا وزير خارجيته وماليته الجديد: يا إلهنا الذي في فرساي، لم يعد أسمك يقدس، ولم تعد مملكتك عظيمة، ولم تعد مشيئتك تنفذ في البر والبحر، أعطنا الخبز الذي نفتقد في كل مكان، اغفر لأعدائنا الذين قهرونا، لا لقوادك الذين هيئوا لهم لأن يفعلوا ذلك. لا تستسلم لكل إغواءات لامينتنون، ولكن خلصنا من شاميللارد(73).

وقالت مدام مينتنون ترثى لحال الملك: "أنهم يلومونه ويؤنبونه بسبب نفقاته، أنهم يودون الاستغناء عن جياده وكلابه وخدمه.... أنهم يريدون أن يرجموني بالحجارة لأنهم يتصورون أني لا أبلغه شيئاً كريهاً خشية إيلامه(74)".

وكان النبلاء لا يزالون على ولائهم للملك الذي أكرمهم وحماهم، ولكن وطنيتهم تزعزت، حين طالب الملك، كآخر سهم في جعبته، بعشر دخولهم (1710). أن الضريبة العامة التي اقترحها فوبان قبل ذلك بثلاثة أعوام لتحل محل كل الضرائب الأخرى، أضيفت الآن إلى سائر الضرائب. وكان للفقراء بعض العزاء في أن يروا جباة الضرائب الكريهون يدخلون بيوت الأغنياء لفحص حساباتهم. وكره الملك أن يقحم الخزائن السرية الخاصة، ولكن قسيس اعترافه، الأب تلييه، أكد له أن من رأي أساتذة السوربون "أن كل ثروة رعاياه ثروته، فإذا أخذها فكأنما يستولي على شيء يخصه(75)". وبالمثل عانت الطبقات الوسطى العليا شيئاً من الخلخلة في الحماسة العسكرية، حيث أنقطع دفع الفوائد عن السندات الحكومية. وقال سان سيمون: "أن إعادة سك العملة وتخفيض قيمتها: أتاحا للملك بعض الأرباح، ولكنهما جلبا الدمار على أناس بعينهم، كما أديا إلى الخلل في التجارة مما كان فيه توقفها التام(76)". وأعلن كبار رجال المصارف، مثل صمويل برنارد، الإفلاس، فأدى ذلك إلى تعطل كل العمال في ليون. "كان كل شيء ينهار شيئاً فشيئاً، واستنزفت المملكة بأسرها، ولم تدفع للجند رواتبهم، على أن أحداً لم يكن يتصور ماذا فعل بالملايين التي وصل إلى خزائن الملك(77)". وفي مارس 1710 عاد لويس فطلب إلى الحلفاء عقد الصلح، وعرض أن يعترف بالأرشيدوق ملكاً على أسبانيا، وألا يقدم أي عون لفيليب، بل أن يدفع بعض الأموال للعمل على خلعه، وأن يتخلى للحلفاء عن ستراسبورج، وبريزاخ، والالزاس وليل وتورني وايبر ومينن، وفورن ومبرج، ولكنهم لم يعرضوا عليه صلحاً، بل هدنة مدتها شهران، وكان على لويس بقواته الفرنسية وحدها دون أية مساعدة من أي جانب آخر، أن يطرد فيليب من أسبانيا، فإذا عجز عن تحقيق ذلك في فترة شهرين، استأنف الحلفاء القتال(78).


ونشر لويس هذه الشروط على شعبه الذي اتفقت كلمته على أنها شروط يستحيل قبولها. وحشدت فرنسا،بطريقة ما جيوشاً جديدة، وعندما غزا الأرشيدوق أسبانيا مرة ثانية بقوات إنجليزية ونمساوية، وشق طريقه لإخراج فيليب من مدريد مرة أخرى، أرسل لويس لحفيده خمسة وعشرين ألف جندي بقيادة دوق فندوم. واستطاع الدوق بمساعدة المتطوعين الأسبان أن يهزم الغزاة في بريهوجا وفللافيكيوزا (ديسمبر 1710). وبهذا أعاد فيليب بشكل قاطع إلى عرشه، وبقيت أسبانيا تحت حكم البوربون حتى عام 1931. وفي نفس الوقت كانت ريح السياسة تغير اتجاهها في إنجلترا. وكانت الملكة قد كتبت في 1706 "لست أطمع في شيء.. إلا أن أرى صلحاً مشرفاً، حتى إذا اقتضت مشيئة الله أن أفارق الحياة، وجدت كل الارتياح والطمأنينة في أن اترك بلدي المسكين وكل أصدقائي في سلام وهدوء(79)". وكانت الملكة آن تلتزم سياسة الحرب تحت تأثير دوقة مارلبرو العنيفة الملتهبة حماسة، ولكن ضعف هذا التأثير الآن، وعزلت الملكة الدوقة (ساره) من خدمتها (1710)، وانحازت صراحة إلى "المحافظين"، وكان التجار والصناع والرأسماليين قد أفادوا من الحرب(80)، وأيدوا "الأحرار" صانعي الحرب. أما ملاك الأراضي فقد خسروا لأن الحرب أدت إلى زيادة في الضرائب وتضخم غي العملة، ومن ثم شجعوا الملكة في تطلعها إلى السلام. وفي 8 أغسطس عزلت جودولفين، مساعد مارلبرو الأيمن، ورأس هارلي وزارة من المحافظين. ومالت إنجلترا نحو السلام. وفي يناير 1711 أرسلت الحكومة الإنجليزية إلى باريس سراً، قسيساً فرنسياً، هو الأب جولثييه الذي كان قد أقام في لندن زمناً طويلاً، وقصد إلى تورسي في فرساي، وسأله "هل تريد السلام؟ لقد جئتك بوسائل تحقيقه، مستقلاً عن الهولنديين(81)". وتقدمت المفاوضات ببطء، وفجأة، وفي سن مبكرة بشكل يثير الدهشة، سن الثانية والثلاثين توفي جوزيف الأول (17 إبريل 1711) وأصبح الأرشيدوق إمبراطوراً يحمل أسم شارل السادس، ووجد الإنجليز والهولنديين الذين كانوا قد وعدوه بأسبانيا كلها، أنهم يواجهون، نتيجة لانتصاراتهم الباهظة التكاليف، إمبراطورية هبسبرجية مترامية الأطراف، تهدد بالخطر الشعوب البروتستنانتية وحريتها، مثلها في هذا وذاك مثل إمبراطورية شارل الخامس. وهنا عرضت الحكومة الإنجليزية على لويس الاعتراف بفيليب ملكاً على أسبانيا ومستعمراتها الأمريكية، مع بعض شروط معتدلة نسبياً: منها الضمانات ضد اتحاد فرنسا وأسبانيا تحت تاج واحد، وحصون على الحدود لحماية المقاطعات المتحدة وألمانية من غزو فرنسا لها في المستقبل، وإعادة الفتوحات الفرنسية إلى وضعها السابق، والاعتراف بحق ارتقاء الملوك البروتستانت إلى العرش في إنجلترا، وطرد جيمس الثالث من فرنسا وتجريد دنكرك من السلاح، وتثبيت ملكية إنجلترا لجبل طارق ونيوفوندلند ومنطقة خليج هدسن، ونقل حق بيع الرقيق للمستعمرات الأسبانية في أمريكا، من فرنسا إلى إنجلترا. ووافق لويس على هذه الشروط مع تعديلات طفيفة. وأبلغت إنجلترا لاهاي أنها تحبذ عقد الصلح على هذه الأسس. ووافق الهولنديين عليها، أساساً صالحاً للمفاوضات، واتخذت الترتيبات لعقد مؤتمر للسلام في أوترخت. وعزل مارلبرو الذي كان يرى الحرب أكثر ربحاً (31 ديسمبر 1711) وعين مكانه جيمس بتلر، دوق أورمن الثاني، الذي زود بتعليمات تقضي بعدم الاشتباك في أي قتال إلا عند تلقي أوامر جديدة. وعلى حين أنعقد المؤتمر في أوترخت (أول يناير 1712)، واصل القتال يوجين الذي اعتبر الشروط الإنجليزية للصلح خيانة لقضية الإمبراطورية. وتقدم يوماً بعد يوم ليهاجم خط الدفاع الذي أقامه فيللار المجد النشيط. وفي 16 يوليه أبلغت لندن أورمند أن إنجلترا وفرنسا وقعتا هدنة، وأنه يجب بناء على ذلك انسحاب قواته الإنجليزية إلى دنكرك. وامتثلت هذه القوات للأمر، ولكن الكتائب التي كانت تحت إمرة أورمند في القارة، اتهمت الإنجليز بأنهم آبقون هاربون من الجندية، ووضعت نفسها تحت قيادة يوجين. وكان لدى الأمير آنذاك نحو مائة وثلاثين ألفاً، ولدى فللار نحو تسعين ألفاً. ولكن في 24 يوليه انقض المارشال اليقظ على كتيبة قوامها اثني عشر ألفاً من الهولنديين عند دنين (بالقرب من ليل) وأبادها قبل أن يمكن يوجين من القدوم لنجدتها. وتراجع الأمير عبر الشلدت ليعيد تنظيم جيشه الصعب الانقياد، وتقدم فيللار للاستيلاء على دواي ولي كزنوي، وبوشان، وتشجع لويس وفرنسا، لأن هذه كانت الانتصارات الفرنسية الوحيدة على الجبهة الشمالية، ولكنها، بالإضافة إلى انتصارات فندوم في أسبانيا أضفت قوة جديدة على المفاوضين الفرنسيين في أوترخت.

وبعد خمسة عشر شهراً من المراسم والشكليات والمناقشات، وقع أطراف النزاع، فيما عدا الإمبراطور، صلح أوترخت (11 إبريل 1713) وتنازلت فرنسا لبريطانيا عن كل ما وعدت به من قبل في المفاوضات التمهيدية، بما في ذلك احتكار تجارة الرقيق الرائجة، التي تعتبر وصمة عار ذلك العصر. وقدم العدوان القديمان تنازلات متبادلة عن رسوم الواردات، وأعاد الهولنديون لفرنسا ليل واير وبيتون، ولكنهم احتفظوا بالسيادة على كل الأراضي الوطيئة حتى يتم عقد الصلح مع الإمبراطورية، على حين يستولي ناخب بافاريا على شارلروا ولكسمبرج ونامور، وأعيدت نامور إلى دوق سافوي. واحتفظ فيليب الخامس بأسبانيا وأمريكا الأسبانية. ورفض ثم عاد فوافق (13 يوليه) على التخلي عن جبل طارق ومينو رقة لإنجلترا. وواصل يوجين سافوي القتال ضد البريطانيين لشعوره بالمرارة نحوهم لتوقيعهم صلحاً منفرداً. ولكن خزانة الإمبراطورية أصبحت خاوية، ونقص جيشه إلى 40 ألفاً، على حين كان فيللار يتقدم نحوه بمائة وعشرين ألفاً. وأخيراً قبل دعوة لويس الرابع عشر له للقاء فيللار لوضع شروط للصلح. وبمقتضى معاهدة راستات (6 مارس 1714) احتفظت فرنسا بالألزاس وستراسبورج، ولكنها أعادت إلى الإمبراطورية كل الفتوحات الفرنسية على الضفة اليمنى لنهر الراين، واعترفت بحلول النمسا محل أسبانيا في حكم إيطاليا وبلجيكا.

وبذلك حققت معاهدتا أوترخت وراستات أكثر قليلاً مما كان يمكن أن تحققه الدبلوماسية بالوسائل السلمية في 1701. وبعد ثلاثة عشر عاماً من القتل والإبادة والفقر والتخريب. ثبتت هاتان المعاهدتان خريطة أوربا لمدة ستة وعشرين عاماً، كما ثبتتها معاهدات وستفاليا لمدة جيل واحد بعد حرب الثلاثين عاماً. وكانت المهمة في كلتا الحالتين إقامة توازن القوى بين أسرتي هبسبرج والبوربون. وقد تم هذا بالفعل. وقام شبيه لهذا التوازن بين فرنسا وإنجلترا في أمريكا واستمر حتى نشوبحرب السنين السبع (1756-1763).

وأهم الخاسرين في هذا النزاع الدموي حول الوراثة الأسبانية هما هولندا وفرنسا، لقد كسبت الجمهورية الهولندية أرضاً، ولكنها خسرت سيادة البحر، فلم تعد قادرة على مباراة لإنجلترا في حمولة السفن أو في فن الملاحة أو في الموارد أو في الحرب، أن انتصارها استنزفها وأنهكها، فبدأت تضمحل. كذلك ضعفت فرنسا إلى حد يكاد يكون خطيراً. لقد بقت على مرشحها لعرش أسبانيا، ولكنها أخفقت في الإبقاء على إمبراطوريته سليمة لم تمس، ودفعت ثمناً لهذا النصر القاتم الذي فقد بريقه، حياة مليون من أبنائها بالإضافة إلى ضياع سيادتها على البحار، وانهيار حياتها الاقتصادية بصفة مؤقتة. ولم تكن فرنسا لتفيق وتلتقط أنفاسها من عصر لويس الرابع عشر، قبل ظهور نابليون، ولكن لمجرد أن تعيد مأساة لويس.

أما الفائزان في الحرب فهما النمسا داخل القارة، وإنجلترا في كل مكان خارجها. فقد استولت النمسا آنذاك على ميلان ونابلي وصقلية وبلجيكا، وأصبحت أعظم قوة في أوربا حتى ارتقاء فردريك الأكبر العرش (1740). وفكرت إنجلترا في السيادة على البحار أكثر مما فكرت في التوسع في الأرض. وحصلت على نيوفوندلند ونوفا سكوشيا، ولكن كان تحكمها في طرق التجارة أكبر قيمة لديها. وأرغمت فرنسا على تخفيض رسومها الجمركية، وعلى أن تجرد من السلاح قلعة دنكرك وثغرها اللذين كانا يشكلان خطراً على السفن الإنجليزية. ويفضل جبل طارق في أسبانيا، وبورت ماهون في مينورقة استطاعت إنجلترا أن تسيطر على البحر المتوسط. ولم يكن لهذه المكاسب مشهد مثير في 1713، ولكن كان لا بد أن تدون نتائجها في تاريخ القرن الثامن عشر. وفي نفس الوقت أمنت العقيدة البروتستانتية وارتقاء البروتستانت إلى العرش شر العوادي، اللهم إلا نسبة المواليد.

وثمة نتيجة هامة للحرب، تلك هي اشتداد الروح القومية، وروح الكراهية بين الدول، حيث نسيت كل أمة مكاسبها وتذكرت جراحها. فما كان لألمانيا أن تغفر اجتياح البالاتينات وتخريبها مرتين. ولم تكن فرنسا لتنسى بسرعة المذابح التي لم يسبق لها مثيل في انتصارات مارلبرو، وكانت أسبانيا تعاني كل يوم عار وقوع جبل طارق في أيد أجنبية. وباتت كل أمة ترقب أن تحين الفرصة للانتقام.

أن بعض ذوي النفوس الكريمة الذين اعتقدوا أن أوربا قارة المسيحيين راودهم حلم الوصول إلى بديل عن الحرب. وكان شارل كاسل، من رهبان كنيسة القديس بطرس قد رافق الوفد الفرنسي إلى وترخت، فلما عاد نشر خطة لتثبيت دعائم السلام الجديد، وتمنى لو أن أمم أوربا أتيح لها أن تتحد في "عصبة أمم" مع مؤتمر دائم من المندوبين عنها، ومجلس للتحكيم في النزاع، ونظام لقانون دولي، وقوة مسلحة مختلطة للوقوف في وجه أية دولة متمردة، وتخفيض أي جيش وطني إلى ستة آلاف رجل، وإيجاد مقاييس وعملة موحدة تستخدم في كل أنحاء أوربا(82). وقدم الراهب مشروعه إلى ليبنتز، الذي لم يعد يثق بأن هذا أفضل العوالم الممكنة، فذكر الراهب "بأن ثمة قدراً مشئوماً يعترض دوماً طريق الإنسان إلى تحقيق سعادته(83)" فالإنسان حيوان نزاع إلى المنافسة، وخلقه هو قدره.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أفول نجم الإله 1713-1715

أن لويس الرابع عشر، لو حكمنا عليه بمعايير عصره، لم يكن الغول البشع، الذي صوره المؤرخون المعادون، وكل الذي أقترفه هذا الملك هو أنه طبق على نطاق أوسع، ولفترة من الزمن، مع نجاح بغيض، نفس أساليب الحكم المطلق والتوسع الإقليمي، والغزو العسكري التي تميز بها سلوك أعدائه ومطامعهم، بل أن وحشية جيوشه في البالاتينات كانت لها سابقة في أعمال السلب والنهب في مجدبرج (1631)، وخاتمة في مذابح مارلبرو. على حين أن لويس تميز بأنه قد امتد به الأجل حتى تثأر منه في شخصه، لا في أبنائه، "ربات الانتقام" لكل ما جنى عليه غروره وصلفه وسلطانه من آثام. ولم يبخسه التاريخ حقه في شيء من الإعجاب بما أبدى من شجاعة ووقار عند هزيمته، كما استشعر شيئاً من الإشفاق عليه في الكوارث التي دمرت تقريباً أبنائه وجيوشه وأساطيله في وقت معاً. وفي 1711 مات ابنه الشرعي الوحيد "الدوفين الأكبر" لويس، تاركاً وراءه الملك وحفيدين صغيرين لويس دوق برجندي، وشارل دوق بري. وتحلى لويس الأصغر بمناقب عظيمة بفضل رعاية فنليون وسهره على تربيته وتهذيبه، وأصبح عزاء الملك وسلواه في شيخوخته. وفي 1697 تزوج لويس الأصغر من ماري أدليد سافوي، التي ذكر جمالها وذكاؤها ومفاتنها، الملك بمدام هنريتا وشبابه السعيد معها. ولكن في 12 فبراير 1712 أودت الحمى المتقطعة بهذه الروح المرحة في سن السادسة والعشرين. وأبى زوجها المخلص أن يتخلى عن سير مرضها، فانتقلت إليه العدوى، ومات بنفس المرض في 18 فبراير وهو في سن التاسعة والعشرين، بعد وفاة أبيه بعام واحد. وانتقلت العدوى منهما إلى طفليهما، ومات أحدهما في 8 مارس في سن الثامنة، أما الأصغر فقد بقي على قيد الحياة، في حالة من الضعف والهزال لم يكن أحد يحلم معها بأنه سيعيش ليحكم فرنسا حتى 1774 باسم لويس الخامس عشر. ولو أن هذا الصبي الهزيل قضى نحبه لكان وريث العرش شارل دوق بري، ولكن شارل توفي 1714.

وكان ثمة خليفة آخر يمكن أن يوؤل إليــه العرش-هو فيليب الخامس ملك أسبانيا الابن الأصغر للدولفين الأكبر، ولكن نصف أوربا تعهد بالحيلولة بينه وبين الجمع بين التاجين. وكان يليه في ترتيب الوراثة، فيليب دوق أورليان حفيد لويس الثالث عشر، وابن أخي الملك وزوج ابنته. ولكن فيليب هذا كان له معمل واصل فيه تجاربه في الكيمياء. ولذلك تناقل الناس اتهامه بدس السم لدوق ودوقة برجندي وابنهما الأكبر. وقد اختلف الأطباء حول استخدام السم، واستشاط فيليب غضباً لهذه الشبهات، وطلب إلى الملك أن يقدمه لمحاكمة علنية، واعتقد لويس أنه بريء، وأبى تعريضه للمحاكمة والتعذيب حتى تثبت براءته أو إدانته، وأن يلحق به هذا العار.

وكان ثمة ملجأ أو حل أخير، إذا أخفقت فروع الوراثة هذه. وذلك أن الملك كان قد أضفى الشرعية على ابنيه غير الشرعيين دوق مين وكونت وف تولوز. وفي ذاك الوقت (يوليه 1714) أصدر الملك مرسوماً سجله برلمان باريس دون معارضة، ينص على أنه في حالة عدم وجود أمراء يجري في عروقهم الدم الملكي، يكون لهذين الابنين غير الشرعيين سابقاً حق وراثة العرش. وبعد سنة من ذلك، أصدر مرسوماً آخر بمساواتهما في الرتبة من الوجهة القانونية بالأمراء الشرعيين، وكان لهذا القرار وقع الصاعقة على سان سيمون والنبلاء الآخرين(84)، وكانت أمهما مدام دي مونتسبان قد ماتت، ولكن أمهما بالتنشئة، زوجة الملك، أحبتهما مثل أولادها. واستخدمت نفوذها للنهوض بهما في مراقي الشرف والسلطة والجاه.

وفي غمرة هذه المشاكل وفقدان الأولاد، واجه لويس الأزمة الأخيرة في الحرب. وعندما كان يودع فيللار الذي كان في طريقه لملاقاة يوجين الذي كان يتقدم إلى جبهة بلجيكا، انهارت فجأة قوى الملك الذي كان آنذاك في الرابعة والسبعين، وهو يقول "أنت ترى الآن حالي أيها المارشال، ليس ثمة إلا أمثلة قليلة لما أصابني-أفقد في نفس الشهر حفيدي وحفيدتي وابنهما وكانوا جميعاً واعدين مبشرين بحسن المستقبل، وكم كنت أحبهم. أن الله يعاقبني، وأنا استحق العقاب، سيخف عذابي في الدار الآخرة". ولما أفاق استطرد يقول: "فلنطرح جانباً المآسي والنوائب المنزلية، لنرى كيف نتفادى كوارث المملكة. أني أعهد إليك بقوات الدولة وبتخليصها. قد لا يحالفك الحظ، فإذا حلت الكارثة بالجيش الذي تتولى قيادته، فماذا في رأيك هي الخطة التي انتهجها أنا شخصياً؟" ولم ينبس فيللارد ببنت شفة. فقال الملك "لا يدهشني ألا تجيبيني على الفور. وفيما انتظر أن تفصح لي عن رأيك، أبلغك أنا رأيي. أني أعرف تفكير رجال حاشيتي، إنهم جميعاً تقريباً يريدونني أن آوى إلى بلوا (مدينة في أواسط فرنسا على نهر اللوار) إذا حلت الهزيمة بجيشي. أما بالنسبة لي، فأنا أعلم، أن جيوشاً بمثل هذه الضخامة لا يمكن أبداً أن تنهزم إلى الحد الذي لا يستطيع معه الجزء الأكبر منها أن يرتد إلى السوم. وهو نهر من الصعب عبوره، وينبغي أن أذهب إلى بيرون أو سانت كنتان، وأجمع هناك كل ما أستطيع جمعه من قوات، وأبذل معك محاولة أخيرة، فأما هلكنا معاً أو أنقذنا الدولة(85)". وخدع انتصار فيللار في معركة دنين الملك بالأمل في ميتة بطولة. ولكنه بقي على قيد الحياة بعد المعركة بثلاثة أعوام، وبعد الصلح بعامين. وفيما عدا الناصور الشرجي الذي شفي منه منذ فترة طويلة، ظل الملك يتمتع بالصحة إلى حد معقول لمدة سبعين عاماً. ولم يعتدل في مأكله، ولكنه لم يصبح بديناً قط. ولم يسرف في الشراب، ولم يهمل القيام بتمرينات رياضية قوية في الهواء الطلق، إلا لأيام قلائل، حتى في الشتاء القارس 1708-1709. ومن العسير أن نجزم بأنه كان يمكن أن يعمر أطول مما عاش، إذا كان عدد أطبائه أقل مما كان عليه، أو أن الأدوية المسهلة والفصد وامتصاص العرق وغير ذلك مما استخدموا في علاجه، كانت أسوأ أثراً من الأمراض التي قصدوا إلى إنقاذه منها. وفي 1688 أعطاه أحد الأطباء دواء مسهلاً قوياً إلى حد أن مفعوله ظهر إحدى عشرة مرة في ثمان ساعات، أحس بعدها بشيء من التعب، كما قالوا(86). وعندما رسم ريجو في 1701 الصورة المتألقة في اللوفر، فإنه أبرز لويس وكأنه لا يزال متغطرساً مزهواً بالقوة والنصر والغلبة والملابس الرسمية، والشعر الأسود المستعار الذي يخفي المشيب، والوجنات المنتفخة التي تنم على الشهوة، وبعد ذلك بسبع سنين أبرزه كويسفوكس في التمثال الضخم في نوتردام، راكعاً يصلي، ولكن لا يزال أشد شعوراً بالملكية منه بالموت، وربما كساه الفنانون بزهو واعتداد بالنفس أكثر كمما أحس هو به، لأنه كان قد تعلم في سنوات الخيبة والإخفاق والمحن المتفاقمة، أن يتقبل اللوم والعتاب في شيء من التواضع والخضوع، على الأقل من مينتنون(87). وأصبح كالطفل بين يدي يسوعي متعصب هو تلييه الذي كان قد خلف الأب لاشيز "كاهن الاعتراف للملك" في 1709. "أن خليفة شارلمان طلب الصفح عن خطاياه من ابن أحد الفلاحين(88)" وارتفعت إلى السطح المبادئ القوية للكثلكة والتقوى التي كان قد تلقاها من أمه، حين انحسرت الآن الأهواء والعواطف، وفقدت العظمة بريقها. وراجت شائعة بأن الملك في موجة تبتله كان قد انتسب إلى جماعة اليسوعيين في 1705، وأضافت أنه في مرضه الأخير أخذ على نفسه العهد الرابع أن يكون عضواً كامل العضوية في "جماعة يسوع(89)".

وفي يناير 1715 فقد الملك شهيته المعهودة، واشتد توجعه بشكل واضح إلى حد المراهنة في هولندا وإنجلترا على أنه لن يعيش عامه(90)فلما قرأ قصاصات الأنباء عن هذا الرهان سخر منها وظل على منهجه المعتاد في حضور المؤتمرات واستقبال السفراء وعرض الجند والصيد، وكان يختم يومه مع زوجته المخلصة المنهوكة مينتنون، وهي آنذاك في التاسعة والسبعين. وفي 2 أغسطس كتب وصية عين بمقتضاها دوق مين وصياً على لويس الخامس عشر، وعين الدوق رئيساً لمجلس وصاية يتولى حكم فرنسا حتى يبلغ الصبي رشده. وفي 12 أغسطس انتشرت القروح في ساقه وتسممت (أصيبت بالغنغرينا) وأصبحت كريهة الرائحة، وانتابته الحمى ولزم الفراش وفي 25 أغسطس كتب ملحقاً للوصية عين فيه فيليب أورليان رئيساً لمجلس الوصاية. على أن يكون له الصوت المرجح عند انقسام الآراء. وقال لاثنين من القضاة تسلما الوثيقة: "لقد كتبت وصية، أنهم-(ربما كان يقصد مينتون ودوق ودوقة مين وأنصارهم) ألحوا عليّ في كتاباتهم، وكان لزاماً أن اشتري راحتي. ولكن لن يكون لها أية قيمة بمجرد أن ألفظ أنفاسي الأخيرة. أنني أعلم جيداً ماذا كان من أمر وصية والدي(91)". وقدر لهذه الوصية المضطربة أن تكتب فصلاً في التاريخ الفرنسي.

ومات لويس "ملكاً" تكلله كل مظاهر الملكية. وبعد تناول الأسرار المقدسة وجه إلى رجال الدين الذين أحاطوا بسريره، اعترافاً إضافياً لم يقابلوه بالترحيب:

يؤسفني أن أترك شئون الكنيسة في وضعها الراهن. أني أجهل الموضوع جهلاً تاماً كما تعلمون. وأني لأدعوكم لتكونوا شهداء على أني لم أفعل إلا ما أردتم أنتم، وأني فعلت كل ما أردتم، وستقفون أنتم بين يدي الله لتجيبوا عن كل ما تم عمله. أني أحملكم مسئولية هذا أمام الله. أن لي ضميراً نقياً. وما أنا إلا جهول أسلمت نفسي لتوجيهكم(92). ثم وجه الحديث إلى رجال حاشيته: أيها السادة، أسألكم الصفح عن المثل السيئ الذي ضربته لكم. وينبغي أن أقدم لكم أجزل الشكر على الطريقة التي خدمتموني بها، على الإخلاص الذي ظهرتموه دائماً. وأرجوكم أن تقدموا نفس الغيرة والإخلاص اللذين منحتموني إياها لحفيدي، أنه صبي قد يكون أمامه أن يعاني كثيراً. وكل أملي أن تعملوا جميعاً من أجل الاتحاد. فإذا قصر أحد في هذا فعليكم أن تحاولوا رده إلى جادة الصواب والواجب. أني الحظ أني أترك لمشاعري العنان فتستبد بي، أني أسبب لكم شيئاً من الضيق، فاغفروا لي هذا كله. وداعا أيها السادة، أنا واثق أنكم ستذكرونني أحياناً(93). وطلب إلى دوقة فنتادور إحضار حفيده وكان في سن الخامسة، فقال له، طبقاً لرواية الدوقة:- أي بني، انك ستصبح ملكاً عظيماً، لا تتبع مسلكي في البناء أو في الحرب، حاول، على العكس، أن تكون في سلام مع جيرانك. اترك ما لله لله، ووف بالتزاماتك نحو الله، واحمل رعاياك على تقديسه وطاعته، وحاول أن تخفف عن شعبك، وهذا ما لم أفعله أنا، لسوء الحظ. ولدي العزيز، أني أمنحك بركتي من كل قلبي(94).

والتفت إلى اثنين من الخدم رآهما يذرفان الدمع وقال "لماذا تبكيان، هل ظننتما أني مخلد(95)؟. ثم اتجه إلى مدام مينتنون ليعيد إليها شيئاً من الطمأنينة وقال: "لقد ظننت أن الموت أصعب من ذلك. أؤكد لك أنه ليس عملية فظيعة، أنه لا يبدو لي شاقاً مطلقاً(96)". وطلب إليها أن تتركه، وكأنما كان يدرك أنها ستصبح بعد موته نفساً ضائعة وسط الوعي الطبقي السائد بين أفراد حاشيته. فآوت إلى جناحها، ووزعت أثاثها بين مرافقيها وخدمها، ورحلت إلى سان سير التي لم تبرحه حتى وفاتها 1719. وكان الملك يتحدث في ثقة بالغة، ثم قضى ليلة طويلة في كرب شديد يعاني سكرات الموت وهو في النزاع الأخير، حتى وافاه الأجل في أول سبتمبر 1715، ومن سنوات عمره السبع والسبعين، قضى اثنين وسبعين عاماً على العرش، وهذا أطول حكم في تاريخ أوربا. أما رجال الحاشية القلقون على وظائفهم، فإنهم حتى قبل أن تحين اللحظة الأخيرة هجروه ليقدموا ولاءهم وإجلالهم إلى فيليب أورليان ودوق مين. واجتمع بعض اليسوعيين حول جثمانه ليقيموا بالطقوس المعهودة لمن مات من أبناء طائفتهم(97). وتلقى أهالي باريس نبأ موت الملك على أنه خلاص مبارك من حكم طال أكثر مما ينبغي، ورأى عظمته يلطخها البؤس والهزيمة. ولم يوفروا إلا القليل من مظاهر الأبهة والعظمة للجنازة التي سارت بجثمان أشهر ملك في تاريخ فرنسا إلى سان دنيس في 9 سبتمبر. قال فولتير "على طول الطريق رأيت خياماً صغيرة منصوبة يشرب فيها الناس ويغنون ويسمرون(98)" وكان دوكلاس آنذاك في الحادية عشرة، ولكنه تذكر فيما بعد "أن كثيراً من الناس بلغ من حقارتهم أنهم كانوا يصبون اللعنات والشتائم عند مرور النعش بهم(99)".

وفي تلك اللحظة تذكر الباريسيون أخطاء الملك الراحل، وبدت لهم في وضح غطى على ما عداها. وأحسوا أن حبه للجاه والسلطان والعظمة قاد فرنسا إلى حافلة الخراب. وكرهوا غطرسته واعتداده بنفسه اللذين دمرا الحكم الذاتي المحلي، وركزا كل الحكم في إرادة واحدة لا يستطيع أحد أن يتحداها. ورثوا لملايين الفرنكات التي أنفقت وآلاف الأرواح التي أزهقت في تجميل فرساي، وصبوا اللعنات على إهمال الملك شأن عاصمته المشاغبة المتمردة. وأبهجت فئة قليلة لأن اضطهاد الجانسنيين قد يتوقف بعد موته، على أن أغلبية كبيرة ظلت تمتدح طرد الهيجونوت. وفي استرجاع الأحداث الماضية والتأمل فيها، كان واضحاً أن غزو هولندا في 1672، وغزو ألمانيا 1688، والتسرع في الاستيلاء على مدن الحدود في 1701، كانت كلها أخطاء جسيمة جلبت على فرنسا عداوة الكثيرين من كل جانب. ولكن كم من الفرنسيين كانوا قد استنكروا هذه الفتوحات، ونطقوا بكلمة حق في اجتياح البالاتينات؟ لقد كانت الأمة آثمة مدانة قدر إثم مليكها وإدانته، أنها لم تأخذ عليه جرائمه بل هزائمه. أنها، باستثناء بعض القساوسة، لم تشجب فسقه وفجوره وزناه. ولم تظهر تحمساً لإصلاحه الخلقي، أو تقواه أو إخلاصه لزوجته غير المتكافئة معه، ونسيت الآن أنه كان لعدة سنين قد زين سلطانه من اللطف والكياسة والإنسانية(100). وأنه إلى أن ركبه شيطان الحرب، كان يؤيد كولبير في تنمية الصناعة والتجارة في فرنسا، وأنه كان قد حمى موليير من المتعصبين، وراسين من عصابات المتآمرين، وأن إسرافه في الإنفاق لم يكن لحساب ترفه وبذخه فحسب، بل أنه كذلك هيأ به لفرنسا تراثاً ضخماً من الفن.

أن ما اختلج في أعماق الشعب بشكل أوقع وأعدل، هو ما كانوا قد دفعوه من دمائهم وأموالهم، ثمناً لمجد تقوضت أركانه بموت الملك وإفقار فرنسا وخرابها. فندر أن وجدت في الأمة أسرة لم تفقد أحد أبنائها في الحروب، ونقص عدد السكان إلى حد باتت معه الحكومة تقدم جوائز للوالدين الذين لديهم عشرة أبناء. وكانت الضرائب قد خنقت الحافز الاقتصادي، كما سدت الحرب منافذ التجارة، وأغلقت الأسواق الأجنبية في وجه البضائع الفرنسية، ولك تكن الدولة مفلسة فحسب، بل كانت كذلك مدينة بنحو ثلاثة آلاف مليون من الفرنكات(101). وضاع ما كان للنبلاء من نفع وأثر، حين انصرفوا عن الإدارة المحلية إلى التسكع في أروقة البلاط، ولم يتألقوا إلا في ملابسهم الثمينة وبسالتهم العسكرية. وظهرت طبقة جديدة من النبلاء عن طريق بيع الألقاب بالجملة لعامة الناس. وفي سنة واحدة منح الملك لقب النبالة لخمسمائة شخص مقابل ستة آلاف جنيه دفعها كل منهم، وبذلك أصبح أبناء البيوتات العريقة أتباعاً لأبناء رقيق الأرض. وما لم تعد الحرب صراعاً بعيداً بين المرتزقة والمجادلين، بل اختباراً مضنياً مزعجاً للموارد والاقتصاديات ورجل الدين، وازدهر الرأسماليين وسط الاضمحلال العام. ذلك أنك تجد في الدول الحديثة أن الرجال الذين يستطيعون أن يسوسوا الناس، لا يسوسون إلا من يستطيعون أن يدبروا الأمور، وأن يستطيعون تدبير المال يسوسون الجميع. وفي حكمنا على لويس الرابع عشر ينبغي أن نتذكر قولة جوتة المأثورة الإنسانية، بأن رذائل المرء هي من تأثير عصره. على حين أن فضائله نابعة منه، أو كما أوردها الرومان في إيجاز متميز "الرذائل هي رذائل الزمان لا رذائل الإنسان(102)" أن حكمه الاستبدادي المطلق، والتعصب الذي حدا به إلى الاضطهاد والتعذيب، والتلهف على السلطة والميل للحروب، ركبت كلها فيه باعتباره ابناً لعصره ولكنيسته. أما كرمه وسخاؤه وشهامته وكياسته، وتقديره وتشجيعه للأدب والفن، وقدرته على احتمال أعباء حكومة مركزية بعيدة المدى، فهي كلها صفاته الشخصية التي جعلت منه ملكاً بكل معاني الكلمة. وكتب جوتة: أن الطبيعة أبدعت في لويس الرابع عشر نوعاً كاملاً من الطراز الأول للنمط الملكي، وبهذا أنهكت نفسها وحطمت القياس(103). وقال نابليون "كان لويس الرابع عشر ملكاً عظيماً، وهو الذي رفع فرنسا إلى المرتبة الأولى بين الأمم. وأي ملك من ملوك فرنسا منذ عهد شارلمان يمكن أن يقارن به في كل نواحيه؟(104)". ومن رأي لورد أكتون أنه "كان إلى أبعد حد، أقدر من ولد في العصور الحديثة على درجات سلم أي عرش(105)". لقد شن حروباً مدمرة، وسخر كبرياءه في إسراف في البناء والترف، وخنق الفلسفة، وأثقل كاهل شعبه بالضرائب إلى حد الإملاق والعوز، ولكنه هيأ لفرنسا حكومة منظمة، ووحدة وطنية، وعظمة ثقافية، بلغت بها مرتبة الزعامة التي لا نزاع فيها على العالم الغربي. وأصبح علماً على أسمى عهد زاهر لبلاده ورمزاً له. أما فرنسا التي تعيش على المجد والعظمة، فقد تعلمت أن تغفر له تدميره لها في سبيل أن يجعلها عظيمة.