قصة الحضارة - ول ديورانت - م 8 ك 4 ف 19

صفحة رقم : 11286

قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> المغامرة الفكرية -> إسحاق نيوتن -> الرياضي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل التاسع عشر: إسحاق نيوتن 1642-1727

الرياضي

ولد في مزرعة صغيرة بوولزثورب، في مقاطعة لنكولن، في 25 ديسمبر 1642 (حسب التقويم القديم، أي اليولياني) وهو العام الذي مات فيه جاليليو، وكانت الزعامة الثقافية، كالزعامة الاقتصادية، في سبيلها من الجنوب إلى الشمال. وكان عند ميلاده صغير الحجم جداً بحيث كان في الإمكان وضعه في كوز سعته ربع جالون (كما أخبرته أمه فيما بعد)، وضعيفاً جداً بحيث لم يخطر ببال أحد أنه سيعيش أكثر من أيام(1) معدودات. وكفلته أمه وخاله لأن أباه كان قد مات قبل ولادته بشهور. وحين بلغ الثانية عشرة أرسل إلى المدرسة الخاصة في جرانثام، فلم يحالفه التوفيق فيها. وجاء في التقارير عنه أنه "خامل" و "غير ملتفت"، وأنه يهمل الدراسات المقررة ويقبل على الموضوعات التي تستهويه، وينفق الوقت الكثير على المخترعات الميكانيكية كالمزاول، والسواقي، والساعات البيتية الصنع. وبعد أن قضى عامين في جرانثام أخذ من المدرسة ليساعد أمه في المزرعة. ولكنه عاد إلى إهمال واجباته ليقرأ الكتب ويحل المسائل الرياضية. وتبين خال آخر كفايته، فأعاده إلى المدرسة، وعمل الترتيبات لقبول نيوتن بكلية ترنتي في كمبردج (1661) طالباً يكسب مصروفاته بمختلف الخدمات (subsizar). وحصل على درجته الجامعية بعد أربع سنوات، وبعدها بقليل انتخب زميلاً بالكلية. وخص باهتمامه الرياضة، والبصريات، والفلك، والتنجيم، وقد احتفظ بميله لدراسة التنجيم إلى فترة متأخرة من حياته.

وفي 1669 استقال أستاذه في الرياضة إسحاق بارو، وعين نيوتن خلفاً له بناءً على توصية منه، وصف فيها نيوتن بأنه "عبقري لا نظير له"، وقد احتفظ بكرسيه في ترنتي أربعة وثلاثين عاماً. ولم يكن بالمعلم الناجح. كتب سكرتيره عن ذكريات ذلك العهد يقول "كان الذين يذهبون للاستماع إليه قليلين، والذين يفهمونه أقل، حتى أنه في أحياناً كثيرة وكأنه يقرأ للحيطان بسبب قلة السامعين(2)". وفي بعض المناسبات لم يكن يجد مستمعين إطلاقاً فيعود إلى حجرته كاسف البال. وبنى فيه مختبراً-كان الوحيد في كمبردج آنئذ. وقام بالكثير من التجارب، لا سيما في الخيمياء "وهدفه الأكبر تحويل المعادن(3)"، ولكنه اهتم أيضاً بـ "اكسير الحياة" و "حجر الفلاسفة(4)" وواصل دراساته الخيميائية من 1661 إلى 1692، وحتى وهو يكتب كتابه "المبادئ(5)" ترك مخطوطات عن الخيمياء دون نشر بلغ مجموع كلماتها نيفاً و100.000 "لا قيمة لها إطلاقاً(6)" وكان بويل وغيره من أعضاء الجمعية الملكية مشغولين شغلاً محموماً بهذا البحث نفسه عن صنع الذهب. ولم يكن هدف نيوتن تجارياً بشكل واضح، فهو لم يبد قط أي حرص على المكاسب المادية، ولعله كان يبحث عن قانون أو عملية يمكن أن تفسر بها العناصر على أنها أشكال مغايرة، قابلة للتحويل، لمادة أساسية واحدة. ولا سبيل لنا إلى التأكد من أنه كان مخطئاً.

وكان له حديقة صغيرة خارج مسكنه بكمبردج، يتمشى فيها فترات قصيرة سرعان ما تقطعها فكرة يهرع إلى مكتبه ليسجلها. كان قليل الجلوس، يؤثر أن يذرع حجرته كثيراً (في رواية سكرتيره) "حتى لتخاله... واحداً من جماعة أرسطو" المشائين(7). وكان مقلاً في الطعام، وكثيراً ما فوت وجبة، ونسى أنه فوتها. وكان ضنيناً بالوقت الذي لا بد من إنفاقها في الأكل والنوم. "ونادراً ما ذهب لتناول الطعام في القاعة، فإذا فعل فإنه-ما لم ينبه-يذهب في هيئة زرية، حذاؤه بالي الكعبين، وجواربه بلا رباط... ورأسه غير ممشط إلا فيما ندر(8)". وقد رويت، واخترعت القصص الكثيرة عن شرود ذهنه. ويؤكدون أنه قد يجلس الساعات بعد استيقاظه من النوم على فراشه دون أن يرتدي ثيابه وقد استغرقه الفكر(9). وكان أحياناً إذا جاءه زائرون يختفي في حجرة أخرى، ويخط أفكاراً على عجل، وينسى أصحابه تماماً(10).

لقد كان راهباً من رهبان العلم في هذه السنين الخمس والثلاثين بكمبردج. وقد وضع "قواعد للتفلسف"-أعني الطريقة والبحث العلميين. ورفض القواعد التي وضعها ديكارت في "مقاله" كمبادئ قابلية تستنتج منها كل الحقائق الكبرى بالاستدلال. وحين قال نيوتن "أنا لا أخترع فروضاً(11)" كان يعني أنه لا يقدم نظريات حول أي شيء يتجاوز ملاحظة الظواهر، فهو إذن لا يغامر بأي تخمين عن طبيعة الجاذبية، بل يكتفي بوصف مسلكها وصياغة قوانينها. ولم يزعم أنه يتجنب الفروض باعتبارها مفاتيح للتجارب، فإن مختبره على العكس خصص لاختبار مئات الأفكار والإمكانات، وسجله يزخر بالفروض التي جربت ثم رفضت. كذلك لم يرفض الاستدلال، إنما أصر على أنه يجب أن ينطلق من الوقائع ويفضي إلى المبادئ. وكانت طريقته أن يتصور الحلول الممكنة للمشكلة، ويستنبط متضمناتها الرياضية، ويختبر هذه بالحساب والتجربة. وكتب يقول "يبدو أن مهمة الفلسفة (الطبيعية) كلها تكمن في هذا-البحث من ظواهر الحركات في قوى الطبيعة، ثم إيضاح الظواهر الأخرى من هذه القوى(12)". لقد كان مزيجاً من الرياضة والخيال، ولن يستطيع فهمه إلا من يملكهما جميعاً.

ولكن لنمض في طريقنا رغم هذا. إن لشهرته بؤرتين-حساب التفاضل، والجاذبية. بدأ عمله في حساب التفاضل عام 1665 بإيجاد مماس ونصف قطر الانحناء عند أي نقطة على منحني. ولم يسم طريقته حساب التفاضل بل الفروق المستمرة "Fluxions وفسر هذا المصطلح تفسيراً لا يمكننا أن نصل إلى خير منه:

"إن الخطوط ترسم، وبهذا الرسم تولد، لا بضم الأجزاء بعضها إلى بعض، بل بالتحرك المستمر بالنقط، والسطوح بتحرك الخطوط، والمجسمات بتحرك السطوح، والزوايا بدوران الجوانب، وأجزاء الزمن بالفيض المستمر، وهكذا في غير ذلك من الكميات. وعلى ذلك فبما أن الكميات، التي تزداد في أزمان متساوية، وبالزيادة تولد، أصبحت أكبر أو أقل حسب السرعة الأكبر أو الأقل التي تزداد أو تولد بها، فإنني بحثت عن طريقة لتحديد الكميات من سرعات الحركات أو الزيادات التي تولد بها، وإذا أطلقت على سرعات الحركات أو الزيادات لفظ "الفروق "Fluxions، والكميات المولودة "المتغيرات"، فقد اهتديت شيئاً فشيئاً إلى طريقة الفروق في عامي 1665 و1666(13)"

وقد وصف نيوتن طريقته في خطاب كتبه لبارو عام 1669، وأشار إليها في خطاب لجون كولنز في 1672. ولعله استخدم هذه الطريقة في التوصل إلى بعض النتائج المتضمنة في كتابه "المبادئ" (1687)، ولكن عرضه لها فيه جري على الصيغ الهندسية المقبولة ربما مراعاة لم يناسب قراءه. وقد أسهم ببيان لطريقته في الفروق-ولكن دون أن يخفي اسمه-في كتاب واليس "الجبر" عام 1693. ولم ينشر الوصف الذي اقتبسناه فيما سبق إلا عام 1704، في ملحق لكتابه "البصريات". وكان في طبع نيوتن أن يؤخر نشر نظرياته، وربما أراد أولاً أن يحل الصعوبات التي أوحت بها. وعليه فقد انتظر حتى سنة 1676 لينشر نظرية "ذات الحدين" التي خلص إليها. ولو أنه صاغها على الأرجح في 1665 .

هذه التأجيلات زجت برياضي أوربا في جدل معيب مزق دولية العلم جيلاً بأسره. ذلك أنه في الفترة بين إبلاغ نيوتن نظريته في "الفروق" لأصحابه في 1669 ونشر الطريقة الجديدة في 1704، وضع ليبنتز نظاماً منافساً لها في ماينز وباريس. ففي 1671 أرسل إلى أكاديمية العلوم بحثاً يحوي جرثومة حساب التفاضل(14)، وقابل ليبنتز أولدبورج في زيارة للندن، من يناير إلى مارس 1673، وكان قد تبادل الرسائل معه ومع بويل. وقد ظن أصحاب نيوتن فيما بعد أن لبنتز في رحلته هذه تلقى إلماعاً لفروق نيوتن-ولكن المؤرخين يتشككون في هذا الآن. وفي يونيو 1676، بناء على طلب أولدنبرج وكولنز، كتب نيوتن خطاباً ليبلغ إلى لبنتز، شارحاً فيه طريقته في التحليل. وفي أغسطس رد لبنتز على أولدنبرج، وضمن الرد بعض الأمثلة من شغله في حساب التفاضل، وفي يونيو 1677، في خطاب آخر لأولدنبرج، وصف نوع حساب التفاضيل الذي توصل إليه، وطريقته في التنويت notation أي التدوين بمجموعة من الرموز)، وهما يختلفان عن حساب نيوتن وطريقته. ثم عاد في مجلة Acta Eruditorun عدد أكتوبر 1684 يشرح حساب التفاضل، وفي 1686 نشر طريقته في حساب التكامل. وفي الطبعة الأولى من "المبادئ" (1687) قبل نيوتن بشكل واضح اكتشاف ليبنتز لحساب التفاضل مستقلاً. قال:

"في رسائل تبادلتها مع عالم الهندسة الألمعي ج. و. ليبنتز، قبل عشر سنوات، حين أشرت إلى أنني أعرف طريقة لإيجاد الحدود القصوى والدنيا، ورسم المماسات، وما إلى ذلك... رد السيد المبجل بأنه اهتدى هو أيضاً إلى طريقة من نفس النوع، وأنهى إلى طريقته، التي لم تكد تختلف عن طريقتي... إلا في أشكال ألفاظه ورموزه(16)". وكان خليقاً بهذا الاعتراف المهذب أن يمنع الجدل. ولكن في 1699 أشار رياضي سويسري في رسالة للجمعية الملكية إلى أن لبنتز استعار حساب تفاضله من نيوتن. وفي 1705 ذكر ليبنتز تضميناً، في نقد غفل من التوقيع لكتاب نيوتن "البصريات" أن فروق نيوتن تحوير لحساب التفاضل اللبنتزي. وفي 1712عينت الجمعية الملكية لجنة فحص الوثائق المتصلة بالموضوع. وقبل أن ينصرم العام نشرت الجمعية تقريراً Commercium Epistolicum أكد أسبقية نيوتن، دون أن تخوض في موضع أصالة لبنتز. وفي رسالة كتبها لبنتز بتاريخ 9 أبريل 1716 إلى قسيس إيطالي بلندن اعترض بقوله أن تعليق نيوتن قد حسم الأمر. ومات لبنتز في 14 نوفمبر 1716. وبعد موته بقليل نفى نيوتن أن التعليق" أقر له-أي للبنتز باختراع حساب التفاضل مستقلاً عن اختراعي" وفي الطبعة الثالثة من "المبادئ" (1726) حذف التعليق(17). ولم يكن النزاع مما يليق بالفلاسفة، لأن كلا المدعيين كان يصح أن ينحني احتراماً لفيرما لأنه كان رائداً لهما في هذا المضمار.


الفيزيائي

على أن الرياضة، على ما فيها من عجب، لم تكن سوى أداة لحساب الكميات، فهي لم تزعم أنها تفقه الحقيقة أو تصفها. فلما تحول نيوتن من الأداة إلى البحث الجوهري، عكف أولاً على استكناه سر الضوء. وتناولت محاضراته الأولى في كمبردج الضوء، واللون، والرؤية، وعلى عاداته لم ينشر كتابه "البصريات" إلا بعد خمس وثلاثين سنة، في 1704، فقد كان بريئاً من شهوة النشر.

وفي عام 1666 اشترى منشوراً من سوق ستوربردج وبدأ التجارب وبدأ التجارب في البصريات. وفي عام 1668 فصاعداً صنع سلسلة من التلسكوبات. فصنع بيديه، على أساس النظريات التي شرحها مرسين (1639) وجيمس جريجوري (1662)، تلسكوباً عاكساً ليتفادى بعض العيوب الملازمة للتلسكوب الكاسر، وقدمه للجمعية الملكية بناء على طلبها عام 1671. وفي 11 يناير 1672 انتخب لعضوية الجمعية.

وكان قد توصل (1666) إلى أحد كشوفه الأساسية حتى قبل أن يصنع التلسكوبات-وهو أن الضوء الأبيض، أو ضوء الشمس، ليس بسيطاً أو متجانساً، بل هو مركب من الأحمر، والبرتقالي، والأصفر، والأخضر، والأزرق، والنيلي، والبنفسجي. فلما مرر شعاعاً صغيراً من ضوء الشمس خلال منشور شفاف وجد أن الضوء الذي يبدو أحادي اللون انقسم إلى كل ألوان الطيف هذه، وأن كل لون مكون خرج من المنشور عند زاويته أو درجته أو انكساره الخاص، وأن الألوان نظمت نفسها في صف الحزم، مؤلفه طيفاً مستمراً، في أحد طرفيه اللون الأحمر وفي الآخر البنفسجي. وقد أثبت الباحثون اللاحقون أن المواد المختلفة، إذا جعلت مضيئة بحرقها، تعطي أطيافاً مختلفة. وبمقارنة هذه الأطياف بالطيف الذي يحدثه نجم معين، أصبح في الإمكان تحليل مكونات النجم الكيميائية إلى حد ما. ثم دلت الملاحظات الأدق لطيف النجم على السرعة التقريبية لتحركه نحو الأرض أو بعيداً عنها، ومن هذه الحسابات استنبط نظرياً بعد النجم. وهكذا تمخض كشف نيوتن لتكوين الضوء، وانكساره في الطيف، عن نتائج كونية تقريباً في ميدان الفلك.

ولم تتكشف هذه النتائج لنيوتن في ذلك الحين، ولكنه أحس (كما كتب لأولدنبرج) أنه توصل "إلى أغرب كشف إلى الآن أن لم يكن أهم كشف في عمليات الطبيعة(18)" فأرسل إلى الجمعية الملكية في بواكير عام 1672 بحثاً عنوانه "نظرية جديدة في الضوء واللون". وقرئ البحث على الأعضاء في 8 فبراير، فأثار جدلاً عبر المانش إلى القارة. وكان هوك قد وصف في كتابه "ميكروجرافيا" (1664) تجربة شبيهة بتجربة نيوتن بالمنشور، ولم يكن قد استنتج منها نظرية ناجحة في اللون، ولكنه أحس بأن في أفعال نيوتن لفضله السابق غضاً من قدره، فانضم غلى بعض أعضاء الجمعية في نقد النتائج التي خلص إليها نيوتن، واستمر النزاع ثلاثة أعوام. كتب نيوتن المرهف الحس يقول "إنني مضطهد بالجدل الذي أثارته نظريتي في الضوء اضطهاداً جعلني ألوم حماقتي لأنني ضحيت بنعمة عظمي، نعمة هدوء البال، جرياً وراء سراب(19)" وحدثته نفسه حيناً بأن "أطلق الفلسفة طلاقاً بائناً لا رجعة فيه، إلا ما أفعله إرضاء لذاتي(20)".

وثارت نقطة أخرى من نقط الجدل مع هوك حول ناقل الضوء. وكان هوك قد اعتنق نظرية هويجنز، التي زعم فيها أن الضوء ينتقل على موجات "أثير". ورد نيوتن بأن هذه النظرية لا تفر مسار الضوء في خطوط مستقيمة. واقترح بدلاً منها "نظرية الجسيمات أو الدقائق "corpuscular theory: فالضوء سببه إطلاق الجسم المضيء جزيئات دقيقة لا حصر لا، تسير في خطوط مستقيمة خلال الفضاء بسرعة 190.000 ميل في الثانية. ورفض نظرية الأثير ناقلاً للضوء، ولكنه قبله بعد ذلك وسيطاً لقوة الجاذبية . وجمع نيوتن مناقشاته حول الضوء في كتابه (البصريات Opticks في 1704. ووما له دلالة أنه كتبه بالإنجليزية (في حين كان كتاب المبادئ Psincipia باللاتينية)، ووجهه "إلى القراء الحاضري الذكاء والفهم، الذين لم يتضلعوا بعد في البصريات". وفي نهاية الكتاب وضع قائمة لواحد وثلاثين سؤالاً تتطلب مزيداً من البحث. وكان السؤال الأول إرهاصاً بهذه النبوءة "ألا تؤثر الأجسام في الضوء عن بعد، فتنحني أشعته بهذا التأثير، وألا يكون هذا التأثير على أشده في أدنى الأبعاد ؟" والسؤال الثلاثون "لم لا تغير الطبيعة الأجسام إلى ضوء والضوء إلى أجسام؟".


أصل نظرية الجاذبية

كانت سنة 1666 سنة جنينية لنيوتن. شهدت بداية جهوده في البصريات، ولكنه كذلك يقول عن ذكرياته أن شهر مايو "كان مدخلي إلى الطريقة العكسية للفروق المستمرة، وفي نفس السنة بدأت أفكر في امتداد الجاذبية إلى مدار القمر.. .. بعد أن قارنت بين القوة اللازمة لحفظ القمر في مداره، وقوة الجاذبية على سطح الأرض، ووجدتهما متفقتين تماماً تقريباً... في تلك السنين كانت في ربيع عمري(21)". وفي عام 1666 وصل الطاعون إلى كمبردج، فعاد نيوتن إلى موطنه وولزثورب طلباً للسلامة. وهنا نلتقي بقصة لطيفة. كتب فولتير في كتابه "فلسفة نيوتن" (1738):

"ذات يوم من أيام 1666، حين كان نيوتن معتكفاً في الريف رأى ثمرة تسقط من شجرة كما أخبرتني بنت أخته السيدة كوندويت، فاستغرق في تفكير عميق في السبب الذي يجذب جميع الأجسام في خط إذا مد مر قريباً جداً من مركز الأرض(22)".

وهذا أقدم ما نعرفه من ذكر لقصة التفاحة. وهي لا ترد في كتب مترجمي نيوتن القدامى، ولا في روايته لكيفية اهتدائه لفكرة الجاذبية الكونية، والفكرة السائدة اليوم عن القصة أنها أسطورة. وأرجح منها قصة أخرى رواها فولتير، وهي أن غريباً سأل نيوتن كيف اكتشف قوانين الجاذبية، فأجاب "بإدمان التفكير فيها(23)" ومما لا ريب فيه أنه بحلول عام 1666 كان نيوتن قد حسب قوة الجذب التي تحفظ الكواكب في أفلاكها وانتهى إلى أنها تتناسب تناسباً عكسياً مع مربع بعدها عن الشمس(24). ولكنه لم يستطع إلى ذلك الوقت التوفيق بين النظرية وحساباته الرياضية، فنحاها جانباً، ولم ينشر عنها شيئاً طوال الأعوام الثمانية عشر التالية.

ولم تكن فكرة الجاذبية بين النجوم جديدة قط على نيوتن. فقد ذهب بعض فلكيي القرن الخامس عشر إلى أن السماوات تؤثر في الأرض بقوة تشبه قوة تأثير المغنطيس في الحديد، وما دامت الأرض تنجذب بالتساوي من جميع الاتجاهات فإنها تبقى معلقة في مجموع هذه القوة(25). وقد نبه كتاب جلبرت "المغنطيس" (1600) أذهاناً كثيرة إلى التفكير في التأثيرات المغنطيسية المحيطة بكل إنسان، وقد كتب هو نفسه في كتاب لم ينشر إلا بعد موته بثمانية وأربعين عاماً (1651) يقول:

"إن القوة المنبعثة من القمر تصل إلى الأرض، وبالمثل فإن القوة المغنطيسية للأرض تعم منطقة القمر، وكلتاهما تتجاوب وتتآلف بتأثيرهما المشترك، حسب تناسب الحركات وتطابقها، ولكن تأثير الأرض أكبر نتيجة لكبر كتلتها(26)".

وكان اسماعيلس بوريار قد قر في كتابه "Astronomia Philolacia" (1645) أن جذب الكواكب بعضها لبعض يتناسب تناسباً عكسياً مع مربع المسافة بينهما(27)، وذهب ألفونسو بوريللي في كتابه "نظريات الكواكب المديشية" (1666) إلى أن "كل كوكب وتابع يدور حول كرة كبرى في الكون بوصفها مصدراً للقوة، تجذب الكوكب وتابعه وتمسكهما بحيث لا يمكن إطلاقاً أن ينفصلا عنها، بل يضطران لإتباعهما أينما ذهبت، في دورات ثابتة مستمرة"، وقد فسر مدارات هذه الكواكب والتوابع بأنها نتيجة القوة المركزية الطاردة لدورانها ("كما نجد في العجلة أو الحجر يدوم في مقلاع") تقابلها قوة شمسها الجاذبة(28). وذهب كبلر إلى أن الجاذبية ملازمة لجميع الأجرام السماوية، وقدر في فترة من حياته أن قوتها تتناسب عكسياً مع مربع المسافة بينها، وكان هذا خليقاً بأن يكون سبقاً واضحاً لنيوتن، ولكنه عاد فرفض هذه الصيغة، وافترض أن الجذب يتناقص تناقصاً طردياً مع زيادة المسافة(29). على أن هذه المداخل إلى نظرية في الجاذبية حرفتها عن طريقها نظرية ديكارت في الدوامات التي تكونت في كتلة بدائية، ثم عينت عمل كل جزء ومداره.

وقد فكر كثير من المستفسرين اليقظين في الجمعية الملكية تفكيراًعميقاً في رياضيات الجاذبية. وفي 1674 سبق هوك بكتابه "محاولة لإثبات حركة الأرض السنوية" "إعلان" نيوتن لنظرية الجاذبية بأحد عشر عاماً. قال هوك: "سأشرح نظاماً للكون مختلفاً في تفاصيل كثيرة عن أي نظام عرف إلى الآن، متفقاً في جميع الأشياء مع القواعد الشائعة للحركات الميكانيكية. وهو يعتمد على فروض ثلاثة: (أولها) أن كل الأجرام السماوية أياً كانت ذوات قوة جاذبة إلى مراكزها، لا تجذب بها أجزاءها فحسب وتحفظها من أن تتطاير منها... بل تجذب كذلك سائر الأجرام السماوية الواقعة في مجال نشاطها... (وثانيها) أن جميع الأجسام أياً كانت، التي تحرك حركة طردية وبسيطة، تستمر في الحركة قدماً في خط مستقيم إلى أن تحرفها عن طريقها قوة فعالة أخرى... (وثالثها) أن قوى الجذب هذه يشتد فعلها بقدر قرب الجسم الواقع تحت جاذبيتها من مراكزها"(30).

ولم يحسب هوك في بحثه هذا أن الجذب يتناسب تناسباً عكسياً مع مربع المسافة، ولكنه أنهى هذا المبدأ إلى نيوتن-إذا صدقنا رواية أوبري-بعد أن توصل إليه مستقلاً(31). وفي يناير 1684 شرح هوك صيغة المربعات العكسية لرن وهالي، اللذين كانا قبلاها من قبل. فذكر لهوك أن الحاجة ليست إلى مجرد فرض، بل إلى إيضاح رياضي يثبت أن مبدأ الجاذبية يفسر مسارات الكواكب. وعرض رن على هوك وهالي جائزة قدرها أربعون شلناً (100 دولار) أن أتاه أحدهما ببرهان رياضي على الجاذبية. ولم يأته البرهان على قدر علمنا(32).

وفي أحد أيام أغسطس 1684 ذهب هالي إلى كمبردج وسأل نيوتن ماذا يكون مدار كوكب ما إذا تناسب جذب الشمس له تناسباً عكسياً مع مربع المسافة بينهما. وأجاب نيوتن أنه يكون قطعاً ناقصاً (اهليلجاً)ز ولما كان كبلر قد استخلص من دراسته الرياضية لمشاهدات تيكو براهي أن مدارات الكوكب اهليلجية، فقد بدا أن الفلك الآن تأيد بالرياضة، والعكس بالعكس. وأضاف نيوتن أنه أجرى الحسابات تفصيلاً في 1679، ولكنه نحاها جانباً، من جهة لأنها لم تتفق تماماً مع التقديرات السائدة يومها لقطر الأرض والبعد بين الأرض والقمر، وأرجح من هذا السبب أنه لم يكن واثقاً من أنه يستطيع تناول الشمس، والكواكب، والقمر على أنها نقط مفردة في قياس قوتها الجاذبة. ولكن في عام 1671 أذاع بيكار قياسه الجديد لنصف قطر الأرض ولدرجة من درجات خطوط الطول، التي حسب أخيراً أنها تبلغ 69.1 ميلاً قانونياً إنجليزياً، وفي عام 1672 تمكن بيكار بفضل بعثته إلى سايين من حساب بعد الشمس عن الأرض فقرر أنه 87.000.000 ميل (والرقم الحالي 92.000.000) واتفقت هذه التقديرات الجديدة اتفاقاً طيباً مع رياضة نيوتن في الجاذبية، وأقنعه المزيد من الحسابات في 1685 بأن الكرة تجذب الأجسام وكأن كتلة هذه الكرة كلها تجمعت في مركزها. وشعر الآن بمزيد من الثقة في فرضه. ثم قارن سرعة حجر على الأرض بسرعة سقوط القمر على الأرض إذا نقصت قوة جذب الأرض له بمربع المسافة بينهما. فوجد أن نتائجه تتفق وآخر البيانات الفلكية. فخلص من هذا إلى أن القوة التي تسقط الحجر، والقوة الجاذبة للقمر نحو الأرض رغم قوة طرد القمر المركزية، هما قوة واحدة. وسر الإنجاز الذي حققه هنا كامن في تطبيقه هذه النتيجة التي انتهى إليها على جميع الأجسام التي في الفضاء، وفي تصوره أن جميع الأجرام السماوية مترابطة في شبكة من التأثيرات الجذبية، وفي بيانه كيف أن حساباته الرياضية والميكانيكية تتفق وملاحظات الفلكيين، لا سيما قوانين كبلر الكوكبية .

وبدأ نيوتن إجراء حساباته من جديد، وأنهاها إلى هالي في نوفمبر 1684. وأدرك هالي أهميتها فحثه على تقديمها للجمعية الملكية فوافق، وأرسل إلى الجمعية رسالة في "قضايا الحركة" (فبراير 1685)، لخص فيها آراء في الحركة والجاذبية. وفي مارس 1686 قدم للجمعية مخطوط الكتاب الأول من كتب الحركة، عن المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية. وللتو لفت هوك النظر إلى أنه سبق نيوتن في 1674. ورد نيوتن في رسالة إلى هالي أن هوك أخذ فكرة المربعات العكسية عن بوريللي وبويار. وتفاقم الخلاف حتى أصبح سخطاً من الطرفين، وحاول هالي أن يصلح ذات البين، وهدأ نيوتن ثائرة هوك بتضمين مخطوطته حاشية، تحت القضية الرابعة، أقر فيها بفضل "أصدقائنا رن، وهوك، وهالي"، في أنهم "استنتجوا من قبل" قانون المربعات العكسية. ولكنه ضاق بالنزاع أشد الضيق حتى أنه حين أعلن لهالي (20 يونيو 1678) أن الكتاب الثاني جاهز، أضاف قائلاً "في نيتي الآن أن أوقف الكتاب الثالث. فالفلسفة أشبه بامرأة مشاكسة وقحة تزج بمن يتعامل معها في قضايا أمام المحاكم". وأقنعه هالي بأن يواصل الكتاب. وفي سبتمبر 1687 نشر المؤلف كله برعاية الجمعية الملكية ورئيسها آنئذ، صموئيل بيبيس. ولما كانت الجمعية في ضائقة مالية، فقد أنفق هالي على النشر بأكمله من جيبه الخاص، مع أنه لم يكن بالرجل الميسور. وهكذا، وبعد عشرين عاماً من الإعداد، ظهر أهم كتاب في علم القرن السابع عشر، كتاب لا يضارعه في عظم تأثيره في ذهن أوربا المثقفة سوى كتاب كوبرنيق في الدورات (1543)، وكتاب دارون في أصل الأنواع (1859). هذه الكتب الثلاثة هي أهم الأحداث في تاريخ أوربا الحديثة.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كتاب المبادئ "برنسيبيا" Principia

فسرت عنوان الكتاب مقدمته: "بما أن القدماء (كما يخبرنا بابوس) علقوا أهمية عظمى على علم الميكانيكا في بحثهم في الأشياء الطبيعية، وبما أن المحدثين، بعد أن نحو أشكال المادة (التي قال بها السكولاستيون) والصفات الغيبية، حاولوا إخضاع الظواهر الطبيعية لقوانين الرياضة، فقد طورت الرياضة في هذا البحث على قدر اتصالها بالفلسفة (الطبيعية)... وعليه فإنا نقدم هذا المؤلف على أنه المبادئ الرياضية للفلسفة، ذلك لأن كل معضلة الفلسفة هي في بحث قوى الطبيعة من ظواهر الحركة، ثم توضيح الظواهر الأخرى من هذه القوى".

أما وجهة نظر الكتاب فستكون ميكانيكية خالصة:

"وددت لو استطعنا استخلاص باقي الظواهر الطبيعية بنفس نوع الاستدلال من الأسس الميكانيكية، لأن مبررات كثيرة تحملني على الظن بأنها ربما كانت كلها تتوقف على قوى معينة تدفع بواسطتها جزيئات الأجسام بأسباب مجهولة إلى الآن بعضها نحو البعض، وتتماسك في أشكال منتظمة، أو تصد وتتراجع بعضها عن البعض، وإذ كانت هذه القوى مجهولة، فقد حاول الفلاسفة إلى الآن البحث في الطبيعة عبثاً، ولكني أرجو أن تلقي المبادئ الموضوعية هنا بعض الضوء على تلك الطريقة، أو على طريقة أصح، من طرق الفلسفة".

وبعد أن وضع نيوتن بعض التعاريف والبديهيات، صاغ ثلاثة قوانين للحركة:

1- كل جسم يبقى على حالته من حيث السكون أو الحركة المنتظمة في خط مستقيم ما لم يضطر إلى تغيير تلك الحالة بقوى واقعة عليه. 2- تغيير الحركة يتناسب مع القوة المحركة الواقعة، ويتم في اتجاه الخط المستقيم الذي تقع فيه تلك القوة. 3- كل فعل يقابله دائماً رد فعل مساو له.

أما وقد تسلح نيوتن بهذه القوانين، وبقانون التربيع العكسي فقد تقدم إلى صياغة مبدأ الجاذبية. وصورة المبدأ الحالية، وهي أن كل جزيء من المادة يجذب كل جزيء بقوة تتناسب تناسباً طردياً مع حاصل ضرب كتلتيهما وتناسباً عكسياً مع مربع البعد بينهما، هذه الصورة لا نجدها بهذا النص في أي موضوع في كتاب المبادئ، ولكن نيوتن أعرب عن الفكرة في التعقيب العام الذي ختم به الكتاب الثاني: "إن الجاذبية... تعمل... حسب كمية المادة الجامدة التي تحتويها (الشمس والكواكب)، وتنتشر قوتها على جميع الجهات... متناقضة

أبداً بما يتناسب مع المربع العكسي للمسافات(33)". وقد طبق هذا المبدأ، وقوانينه في الحركة، على مدارات الكواكب، ووجد أن تقديراته الحسابية تتفق والمدارات الاهليلجية التي استنتجتها كبلر. وزعم أن الكواكب تحول عن حركاتها المستقيمة، وتحفظ في مداراتها، بقوة تميل صوب الشمس وتتناسب تناسباً عكسياً مع مربع أبعادها عن مركز الشمس. وعنى أساس مبادئ مماثلة فسر جذب المشتري لتوابعه، والأرض للقمر. وبين أن نظرية ديكارت في الدوامات باعتبارها الشكل الأول للكون لا يمكن التوفيق بينها وبين قوانين كبلر. وحسب كتلة كل كوكب، وقدر كثافة الأرض من خمسة إلى ستة أمثال كثافة الماء. (والرقم الحالي 5.5). وعلل رياضياً تفرطح الأرض عند القطبين، وعزا إنبعاجها عند الاستواء إلى قوة الشمس الجاذبة، ووضع رياضيات المد والجزر باعتبارهما راجعين إلى جذب الشمس والقمر الموحد للبحار، ويمثل هذا الفعل القمري-الشمسي فسر مبادرة نقطتي الاعتدالين، ورد مسارات المذنبات إلى مدارات منتظمة، وبهذا أيد نبوءة هالي. وقد صور كوناً أعظم تعقيداً من الناحية الميكانيكية مما ظن من قبل، لأنه نسب لجميع الكواكب والنجوم صفة الجذب، فأصبح الآن كل كوكب أو نجم بنظر إليه على أنه متأثر بكل كوكب أو نجم آخر. ولكن في هذا الحشد المعقد من الأجرام السماوية وضع نيوتن قانوناً يحكمه: فأبعد النجوم يخضع لذات الميكانيكا والرياضة اللتين يخضع لها أصغر الجزيئات على الأرض. إن رؤية الإنسان للقانون لم تغامر قط بالتحليق في الفضاء إلى مثل هذا البعد، ولا بمثل هذه الجرأة.

ونفدت الطبعة الأولى من "المبادئ" سريعاً، ولكن لم تظهر طبعة ثانية إلا في 1713. وعزت نسخه حتى أن عالماً نسخ الكتاب كله بيده(34). واعترف القراء بأنه عمل فكري من أرفع طراز، ولكن بعض ملاحظات النقد كدرت صفو الثناء عليه. فرفضت فرنسا النظام النيوتني لتشبثها بدوامات ديكارت، إلى أن عرضه فولتير في 1738 عرضاً ملؤه الإعجاب والتبجيل. واعترض كاسيني وفونتنيل بأن الجاذبية ليست سوى قوة أو صفة غيبية تضاف إلى القوى الماضية، وقالا أن نيوتن شرح بعض العلاقات بين الأجرام السماوية، ولكنه لم يكشف عن طبيعة الجاذبية، التي ظلت سراً خفياً كسر الله. وقال ليبنتز بأنه ما لم يستطع نيوتن بيان المكنية التي تستطيع الجاذبية أن تؤثر بها، خلال فضاء يبدو فارغاً، في أجسام تبعد عنها ملايين الأميال، فإنه لا يمكن قبول الجاذبية على أنها شيء أكثر من مجرد كلمة(35).

ولم تحظ النظرية الجديدة بالقبول السريع حتى في إنجلترا. وزعم فولتير أن المرء كان بالجهد يجد عشرين عالماً يرضون عنها بعد أن نشرت لأول مرة بأربعين عاماً. وبينما شكا النقاد في فرنسا من أن النظرية ليست ميكانيكية بالقدر الكافي إذا قيست بدوامات ديكارت البدائية، كانت الاعتراضات عليها في إنجلترة في أغلبها دينية، فأسف جورج باركلي في كتابه "مبادئ المعرفة الإنسانية" (1710) لأن نيوتن يرى الفضاء والزمان والحركة مطلقة، سرمدية فيما يبدو، وموجودة مستقلة عن المساندة الإلهية. فالميكانيكية تطغى على النظام النيوتوني طغياناً لا يترك فيه مكاناً لله.

فلما وافق نيوتن بعد ما عهد فيه من تسويفات على أن يعد طبعه ثانية الكتاب، حاول أن يهدئ من ثائرة نقاده. فأكد لليبنتز والفرنسيين أنه لا يفترض قوة تعمل عن بعد خلال الفضاء الفارغ، وأنه يعتقد بوجود ناقل متخلل، رغم أنه لن يحاول وصفه صم اعترف بصراحة أنه لا يفقه طبيعة الجاذبية. وبهذه المناسبة كتب في الطبعة الثانية كلماته التي كثيراً ما ياء فهمها، وهي أنه "لا يضع فرضاً(36)" وأضاف "يجب أن تتسبب الجاذبية من عامل يعمل بثبات وفق قوانين معينة، ولكني أترك لقرائي النظر في هل هذا العامل مادي أو غير مادي(37)". ورغبة في المزيد من الرد على الاعتراضات الدينية ألحق بالطبعة الثانية تعقيباً عاماً عن دور الله في نسقه. فقصر تفسيراته الميكانيكية على العالم المادي، ورأى حتى في ذلك العالم أدلة على وجود خطة إلهية، فالآلة الكبرى تتطلب مصدراً أول لحركتها، لا بد أن يكون هو الله، ثم إن في النظام الشمسي شذوذات في المسلك يصححها تعالى دورياً كلما ظهرت(38). ولكي يفسح نيوتن مجالاً لهذه التدخلات الخارقة نزل عن مبدأ عدم فناء الطاقة. وافترض الآن أن آلة العالم تفقد بعض طاقتها بمضي الوقت، وستفقدها كلها إن لم يتدخل الله ليرد لها قوتها(39). واختتم بهذه العبارة "إن هذا النظام البديع، نظام الشمس، والكواكب، والمذنبات، لا يمكن أن ينبعث إلا من مشورة كائن ذكي قوي ومن رحابه(40)". وأخيراً تحرك صوب الفلسفة يمكن أن تفسر بمعنى حيوي، أو تفسر بمعنى ميكانيكي قال:

"وقد نضيف الآن شيئاً يتصل بروح غاية في الدقة، روح تنتشر وتختفي في جميع الأجسام الكبيرة، وبقوتها وفعلها تتجاذب جزيئات الأجسام في المسافات القريبة، وتتماسك إذا تجاوزت، وتعمل الأجسام الكهربية إلى أبعاد أعظم، فتصد وتجذب الجزيئات المجاورة، ويرسل الضوء، ويعكس، ويكسر، ويثني، ويسخن الأجسام، وكل إحساس يثار، وتتحرك أعضاء الأجسام الحيوانية بأمر الإرادة، أعني بتموجات هذه الروح، مبثوثة بالتبادل على خيوط الأعصاب المتينة، من أعصاب الحس الخارجة إلى المخ، ومن المخ إلى العضلات. على أن هذه أشياء لا يمكن تفسيرها في بضع كلمات، ثم أننا لم نزود بما يكفي من التجارب التي يتطلبها التقرير والإيضاح الدقيقان للقوانين التي تعمل وفقاً لها هذه الروح الكهربية المرنة(41)".

ترى ماذا كان إيمانه الديني الحقيقي؟ لقد تطلبت أستاذيته في كمبردج الولاء للكنيسة الرسمية، وكان يختلف بانتظام إلى الخدمات الكنسية الأنجليكانية. أما صلواته الخاصة فيقول فيها سكرتيره "لا أستطيع أن أقول عنها شيئاً، وأميل إلى الاعتقاد بأن دراساته المفرطة حرمته من النصيب الأفضل(42)". ومع ذلك فقد درس الكتاب المقدس بنفس الغيرة التي درس بها الكون. وقد أثنى عليه رئيس أساقفة بقوله "إنك تعرف من اللاهوت أكثر مما نعرف كلنا مجتمعين(43)" وقال لوك عن معرفته بالأسفار المقدسة "لست أعرف من أمثاله إلا القليلين(44)" وقد خلف كتابات لاهوتية يفوق حجمها كل مؤلفاته العلمية.

وقادته دراساته إلى نتائج أشبه بالأريوسية، وهي قريبة الشبه بنتائج ملتن، ومجملها أن المسيح وإن كان ابن الله إلا أنه ليس مساوياً لله الآب في الزمن أو القوة(45). وفيما عدا ذلك كان نيوتن، أو أصبح، مستقيم العقيدة تماماً. ويبدو أنه آمن بكل كلمة من كلمات الكتاب المقدس على أنها كلمة الله، وأنه قبل سفري دانيال ورؤيا يوحنا على أنهما الحقيقة بحذافيرها. لقد كان أعظم علماء عصره صوفيا نسخ في شغف فقرات طويلة من يعقوب بومي، وطلب إلى لوك أن يناقش معه معنى "الحصان الأبيض" الوارد في سفر الرؤيا. وقد شجع صديقه جون كريج على كتابه "الأسس الرياضية للاهوت المسيحي" (1699) الذي حاول أن يثبت بالرياضة تاريخ مجيء المسيح الثاني، والنسبة بين أقصى ما يمكن بلوغه من السعادة الأرضية وسعادة المؤمن التي يجزي بها في الفردوس(48). وقد كتب تعليقاً على سفر الرؤيا، وزعم أن المسيح الكاذب المتنبأ به في السفر هو بابا روما. لقد كان ذهن نيوتن مزيجاً جمع بين ميكانيكا جاليليو وقوانين كبلر وبين لاهوت بومي. ولن يطالعنا الزمان بمثله عن قريب.


الأصيل

لقد كان بمعنى آخر مزيجاً شاذاً، رجلاً مستغرقاً بشكل واضح في النظرية الرياضية والصوفية، وهو مع ذلك ذو مقدرة عملية وفطرة سليمة اختارته جامعة كمبردج عام 1687 ليذهب مع آخرين للاحتجاج لدى جيمس الثاني على محاولة هذا الملك أن يفرض على الجامعة أن تمنح راهباً بندكتياً درجة جامعية دون أن يحلف الإيمان العادية التي يستحيل على الكاثوليكية أن يقبلها. وفشلت البعثة في ثني الملك عن قراره، ولكن لا بد أن الجامعة رضيت عن رئاسة نيوتن لها، لأنه اختير عضواً ممثلاً لكمبردج في برلمان 1689. وظل عضواً حتى حل البرلمان عام 1690، ثم أعيد انتخابه عام 1701، ولكنه لم يشارك في السياسة بدور مذكور.

وتخللت حياته العملية عام 1692 سنتان من المرض الجسمي والعقلي. فقد كتب إلى بيبيس ولوك رسائل يشكو فيها من الأرق والسوداء، ويعرب على مخاوف الاضطهاد، ويتحسر على فقده "تماسك ذهنه القديم(47)". وفي 16 سبتمبر 1693 كتب إلى لوك يقول:

سيدي: إن ظني أنك حاولت توريطي في علاقات نسائية وبطرق أخرى أثر في نفسي تأثيراً شديداً، حتى أنني أجبت حين أخبرني أحدهم بأنك مريض ولن تعيش، بأن من الخير أن تموت. وأود أن تغتفر لي هذه القسوة لأنني الآن مقتنع بأن ما فعلته صواب، وأسألك الصفح عن إساءتي الظن بك في هذا الأمر، وعن قولي أنك أصبت الفضيلة في الصميم بمبدأ وضعته في كتاب "الأفكار" الذي ألفته، ونويت أن تواصله في كتابه آخر، وعن أنني حسبتك خطأ من أنصار هوبز. كذلك أسألك الصفح عن قولي أو ظني بأن هناك خطة لبيعي منصباً، أو لتوريطي...


وأني خادمك الخاضع المنكود الحظ وذكر بيبيس في خطاب تاريخه 26 سبتمبر 1693 "اضطراباً في... الرأس أو العقل" تدل عليه رسالة تلقاها من نيوتن. وقد خلف هويجنز عند وفاته (1695) مخطوطة فيها دون فيها تحت يوم 29 مايو 1694 أن "مستر كولين، وهو رجل اسكتلندي، أنبأني أن عالم الهندسة الشهير إسحاق نيوتن أصابه لوثة قبل ثمانية عشر شهراً" ولكنه استعاد صحته فبدأ يفهم كتابه "المبادئ". وأرسل هويجنز التقرير إلى ليبنتز في رسالة مؤرخة 8 يونيو 1694 قال فيها: "إن الرجل الطيب المستر نيوتن أصيب بنوبة من الخبل لازمته ثمانية عشر شهراً، وقيل أن أصحابه شفوه منها بالعقاقير وإبقائه محبوساً(49)" وظن البعض أن هذا الانهيار العصبي صرف نيوتن عن العلم إلى سفر الرؤيا، ولكنا لا نستطيع الجزم بهذا. وقيل "أنه لم يركز قط كما ألف أن يركز، ولم يقم بأي جهد جديد(50)" ومع ذلك ففي 1696 حل على الفور تقريباً مسألة حسابية اقترحها يوهان برنوللي "على أذكى الرياضيين في العالم"، وكذلك فعل بمسألة وضعها ليبنتز عام 1716(51). وقد أرسل رده على برنوللي غفلاً من الاسم بطريق الجمعية الملكية، ولكن برنوللي حزر على الفور أن صاحبه نيوتن، إذ تبين "الأسد من مخلبه" على حد قوله. وفي عام 1700 اكتشف نظرية آلة السدس، ولم يكتشف النقاب عنها إلا بخطاب لهالي، ووجب أن يعاد اختراعها عام 1730. ويبدو أنه شرف المناصب العسيرة التي بادرت الدولة بتعيينه فيها.

وكان لوك، وبيبيس، وغيرهما من أصدقاء نيوتن قد فاوضوا حيناً للحصول له على منصب حكومي يخرجه من سجن حجرته ومختبره في كمبردج. وفي عام 1695 أقنعوا اللورد هاليفاكس بأن يعرض عليه وظيفة أمين دار سك النقود. ولم تكن الوظيفة شرفية ولا صدقة، إذ أرادت الحكومة أن تفيد من علم نيوتن بالكيمياء والمعادن في ضرب عملة جديدة. ففي 1695 انتقل إلى لندن، حيث عاش مع ابنة أخته كاترين بارتون، خليلة هاليفاكس(52). وقد خيل إلى فولتير أن افتتان هاليفاكس ببنت الأخت هذه حمل هاليفاكس وهو وزير للخزانة على أن يعين نيوتن مديراً لدار سك النقود في 1699(53)، ولكن هذه الشائعة لا تكاد تفسر استمرار نيوتن في شغل ذلك المنصب طوال الثمانية والعشرين عاماً الباقية له في أجله، وشغله على نحو حاز الرضاء العام.

وكان خليقاً بشيخوخته أن تكون سعيدة. فقد كرمته الدولة بوصفه أعظم العلماء الأحياء، ولم يحظ رجل من رجال العلم حتى وقتنا هذا بمثل ما حظي به من ثناء عريض. وقد انتخب رئيساً للجمعية الملكية عام 1703، وظل ينتخب سنوياً بعد ذلك حتى وفاته. وفي عام 1705 خلعت عليه الملكة آن لقب الفروسية. وحين ركب عربته مخترقاً شوارع لندن تفرس الناس برهبة في وجهه الوردي، وقد فاض جلالاً وطيبة تحت لمة من الشعر الأبيض. ولم يستطيعوا طوال الوقت أن يلحظوا أنه قد عرض بأكثر مما يتناسب مع طوله المتواضع. وكان يستمتع براتي طيب بلغ 1.200 جنيه في العام، وقد استثمر مدخراته بحكمة حتى أنه خلف عند وفاته 32.000 جنيه(54)، رغم سخائه في الهدايا والصدقات. وقد أفاق من خسارته في انهيار شركة "ساوث سي". على أنه كان منقلب المزاج، وأحياناً سريع الغضب سيئ الظن، كتوماً، ودائماً شديد التهيب رغم كبريائه(55). كان يجب اعتزال الناس ولا يصنع الأدقاء بسهولة. وفي عام 1700 عرض الزواج على أرملة غنية، ولكن العرض لم يسفر عن نتيجة، ولم يتزوج قط. وإذ كان عصبي المزاج. حساساً بشكل مرضي، فقد كان لا يطيق النقد إلا متألماً، ويغتاظ منه غيظاً شديداً، ويرد الصاع صاعين في الجدل. وكان يعرف قدر عمله وكفايته، ولكنه عاش عيشاً متواضعاً إلى أن أتاح له راتبه ومدخراته أن يستخدم ستة خدم ويستمتع بمكان مرموق في المجتمع اللندني.

فلما بلغ التاسعة والسبعين بدأ يرد دينه للطبيعة. فأصابته الأمراض التي لا تقيم للعبقرية وزناً-حصاة المثانة وسلس البول، وحين بلغ الثالثة والثمانين أصيب بالنقرس، وفي الرابعة والثمانين بالبواسير. وفي 19 مارس 1727 اشتدت به آلام الحصاة حتى فقد وعيه. ولم يفق قط، ومات في الغد وقد بلغ الخامسة والثمانين، ودفن في كنيسة وستمنستر بعد أن شيع بجنازة تصدرها رجال الدولة والنبلاء والفلاسفة، وقد سجى في نعش حمله الأدواق والايرلات. وأغرقه الشعراء بمراثيهم، وألف بوب قبرية شهيرة قال فيها: "إن الطبيعة وقوانينها كان يلفها ظلام الليل، وقال الله ليكن نيوتن، فأصبح الكل ضياء" ولم يملك فولتير عواطفه، حتى في شيخوخته، وهو يروي كيف شاهد، أثناء منفاه في إنجلترا، رياضياً يدفن بمظاهر تكريم الملوك(56).

وبلغ صيت نيوتن ذرى أشرفت على السخف. فقد ليبنتز أن إسهامات منافسه في الرياضة تعدل في قيمتها كل المؤلفات السابقة في ذلك العلم(57). وذهب هيوم إلى أن نيوتن "أعظم وأندر عبقري ظهر ليشرف النوع الإنساني ويعلمه(58)" ووافقه فولتير في تواضع(59). ووصف لجرانج كتاب المبادئ بأنه "أعظم إنتاج أنتجه الذهن البشري"، وضمن له لابلاس إلى الأبد "مكان الصدارة على جميع إنتاجات العقل البشري"، وأضاف أن نيوتن أوفر الناس حظاً، لأنه ليس هناك سوى كون واحد، وليس سوى مبدأ مطلق واحد له، وقد اكتشف نيوتن ذلك المبدأ(60). ومثل هذه الأحكام لا ثبات لها، لأن "الحقيقة" حتى في العلم، تذبل كالزهرة.

ولو أننا قسنا عظمة إنسان بأقل المقاييس ذاتية، وهو انتشار تأثيره وطول بقاء هذا التأثير، لما وجدنا لنيوتن نظيراً إلا في مؤسسي الأديان العالمية والفلسفات المحورية. لقد كان تأثيره على الرياضة الإنجليزية-حيناً-تأثيراً ضاراً، لأن "فروقه وتنويتها كانا أقل يسراً من حساب التفاضل والتنويت اللذين هيمن بهما ليبنتز على القارة. ويبدو أن نظريته في جسيمات الضوء عاقت تقدم البصريات قرناً، وإن وجد بعض الطلاب الآن عوناً كبيراً في نظرية نيوتن(61). أما في الميكانيكا فقد أثبت عمله أنه خلاق إلى غير حدود. كتب ارنسنت ماخ يقول: "إن كل ما أنجز في الميكانيكا منذ أيامه لا يعدو أن يكون تطويراً إستنتاجياً، شكلياً، رياضياً... على أساس قوانين نيوتن(62)".

وقد خشي اللاهوتيين لأول وهلة من تأثير كتاب "المبادئ" على الدين، ولكن محاضرات بويل التي ألقاها بنتلي (1692)، بتشجيع من نيوتن، حولت النظرة الجديدة إلى العالم إلى تأييد الإيمان، لأنها أكدت على وحدة الكون ونظامه وعظمته الواضحة أدلة على حكمة الله وقوته وجلاله. على أن هذا النسق النيوتوني ذاته قبله الربوبيون على أنه يدعم إيمانهم، وهو القبول البسيط لإله واحد، أو حتى اعتبار الله واحداً هو والطبيعة وقوانينها، بدلاً من اللاهوت المسيحي. وأغلب الظن أن تأثير نيوتن النهائي في الدين كان ضاراً، فقد افترض أحرار الفكر أنه برغم تأكيداته، وملايين الكلمات التي احتوتها كتاباته اللاهوتية، أنه تصور عالماً قائماً بنفسه، وأنه أدخل الإله فيه فكرة لاحقة معزية. وفي فرنسا على الأخص شجعت كونيات نيوتن، رغم عرض فولتير لها عرضاً ربوبياً، إلحاد الكثيرين من "الفلاسفة" إلحاداً يقوم على ميكانيكية الكون. وفي الفترة بين اضمحلال نظرية ديكارت في نشأة الكون في فرنسا (حوالي 1740) وظهور نظريات النسبية وميكانيكا الكم في القرن العشرين، لم يصادف "نسق العالم" النيوتوني أي تحد خطير، وبدا مؤيداً من كل تقدم أو كشف في الفيزياء أو الفلك. والخلافات الرئيسية بين الفيزيائيين المعاصرين وميكانيكا نيوتن، على قدر ما يستطيع غير المتخصص فهم هذه الألغاز، هي:

1- ذهب نيوتن إلى أن المكان والبعد، والزمان والحركة، أشياء مطفلة-أي أنها لا تختلف كما باختلاف أي شيء خارجها(63). أما أينشتين فقد اعتبرها نسبية-تختلف باختلاف موقع وحركة المشاهد في المكان والزمان.

2- افترض أول قوانين نيوتن للحركة، في وضوح، أن الجسم قد "يستمر في حالة سكون، أو حركة منتظمة في خط مستقيم" ولكن "السكون" نسبي دائماً، كسكون مسافر في طائرة مسرعة، وكل الأشياء تتحرك، ولا تتحرك أبداً في خط مستقيم، لأن كل خط أو حركة أو فعل تحرفه الأجسام المحيطة (كما أدرك نيوتن).

3- كانت فكرة نيوتن عن الكتلة أنها من الثوابت، وفكرة بعض الفيزيائيين المعاصرين عنها أنها تختلف باختلاف السرعة النسبية للمشاهد والشيء.

4- النظرة السائدة الآن إلى "القوة" هي أنها فكرة ميسرة. ولكنها ليست ضرورية في العلم، الذي يهدف إلى الاكتفاء بوصف التتابعات، والعلاقات، والنتائج. فلسنا نعلم، ولا حاجة بنا إلى أن نعلم (كما يقول لنا العلماء) ما هو "هذا" الذي يسري من جسم متحرك إلى آخر يصدمه ذلك الجسم، فالحاجة فقط لتسجيل التتابعات، والعلاقات، والنتائج، وللافتراض (دون أي يقينية مطلقة) بأن هذه ستكون في المستقبل ما بدته في الماضي. والجاذبية وفقاً لهذا الرأي ليست قوة، بل نظام علاقات بين الأحداث في الزمان والمكان.

ومما يعزينا أن نعلم أن هذه وغيرها من التنقيحات الطارئة على ميكانيا نيوتن لا أهمية لها إلا في ميادين (كالظواهر الكهربية-المغنطيسية) لا تبدو الجزيئات فيها تتحرك بسرعة تقرب من سرعة الضوء، وفي غير هذا فالفرق بين الفيزياء القديمة والحديثة يمكن أن نتجاهله مطمئنين. وللفلاسفة-الذي شفاهم التاريخ من اليقينية-أن يحتفظوا بارتيابة متواضعة من نحو الأفكار المعاصرة، بما في ذلك أفكارهم هم، وسوف يحسون نسبية متدفقة في صيغ النسبية، وسوف يذكرون كل المنقبين في الذرات والنجوم بتقدير نيوتن النهائي لإنجازه الخطير: "لست أعلم كيف أبدو للعالم، ولكني أبدو لنفسي وكأنني صبي يلعب على شاطئ البحر، ألهو بين الحين والحين بالعثور على حصاة أملس أو صدفة أجمل من العادة، بينما ينبسط محيط الحقيقة العظيم مغلق الأسرار أمامي(64)".