قصة الحضارة - ول ديورانت - م 8 ك 3 ف 15

صفحة رقم : 11131

قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> محيط القارة -> الجنوب المراح -> إيطاليا الكاثوليكية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامس عشر: الجنوب المراح 1648-1715

إيطاليا الكاثوليكية

من حكمة الفلاح الصامتة أن في الإمكان إصلاح التربة التي كاد يرهقها الثمر الوفير بإراحتها فترة، وربما بحرثها دون زرعها. وهكذا استراحت إيطاليا بعد خصوبة النهضة التي أرهقتها. وأبطأ تدفق حيويتها العارمة، وكأنها تستجمع قوتها لمزيد من جلائل الأعمال. فعلينا إذن أن لا نتوقع من إيطاليا هذا العصر والعصر التالي له-بين برنيني وبونابرت-ثماراً كتلك التي تدفقت من معينها الفياض في قرونها الذهبية. إننا نلم بها هنا مرة أخرى، قانعين إذا استطعنا بين الحين والحين أن نسمع في مدنها التي تردد أصداء التاريخ أصواتاً صغيرة تشهد بحياة لم تنطفئ جذوتها.

وكانت لا تزال كاثوليكية بطبيعة الحال، فذلك من صميم روحها، ولا سبيل إلى انتزاعه منها دون انتهاك لروحها. كان فقراؤها يظلمهم الأغنياء، الذين هيمنوا بالطبع على الحكومات وشرعوا القوانين. وعلل الأغنياء هذا الظلم بأن الفقراء سيصبحون مشاغبين وقحين إذا رفعت أجورهم. أما النساء فكان يستغلهن الرجال والشعب، إلا أن يكن في ربيع حسنهن. في هذه الأحوال كانت طبقات الشعب الدنيا، والجنس الأضعف آنذاك، تجد عزاء في خدمة الكنيسة. وكان إيمانها بالعدل الإلهي سنداً يعزيها عن قسوة الإنسان، وكانت خطايا ألسنتهم الحادة وجسدهم الوثني يغتفرها دون تردد القساوسة المتسامحون والرهبان اللطفاء الذين أطعموهم والرجاء يملأ نفوسهم. وكانوا شاكرين لما تخلل أيامهم المثقلة بالأعباء من أعياد ومهرجانات مريحة يحتفلون فيها بذكرى قديسيهم الحامين. وآمنوا بأن قديسيهم، والأم العذراء الرحيمة، سينقذونهم من أحوال الجحيم بتشفعهم أمام عرش الله، وبأن الغفرانات التي توزعها الكنيسة ستقصر مقامهم في المطهر، وأنهم سيدخلون، إن عاجلاً أو آجلاً، فردوسا-يفوق جماله حتى جمال إيطاليا-لن يكدر صفوه ملاك، ولا ضرائب، ولا عشور، ولا حرب، ولا حزن، ولا ألم.

وهكذا احتملوا بصبر، ومرح، وغناء، ابتزازات كهنتهم الذين لم يخل منهم مكان، والذين التهموا على الأقل ثلث إيرادات الأمة. وأحبوا كنائسهم كأنها من جزر السلام وسط حرب الحياة. وتأملوا بهاء كنيسة القديس بطرس وفخامة الفاتيكان في فخر لا يخالطه استيلاء ولا غيظ، فتك حصيلة دراهمهم ونتاج فنانيهم، وهي ملك للفقراء أكثر من الأغنياء، وهي في نظرهم ليست أفخم من أن تكون مثوى لأول الرسل (بطرس)، أو مسكنا لزعيم العالم المسيحي، خادم خدام المسيح. وإذا كان ذلك الأب الأقدس يعاقب الهجمات إلى توجه للكنيسة، فما ذلك إلا ليمنع الحمقى من تدمير صرح الأخلاق القائم على العقيدة الدينية، ليصون ذلك الإيمان الذي جعل من نثر الكد والشقاء ملحمة شعرية.

أما ديوان التفتيش الإيطالي فكان رحيماً نسبياً في هذا العصر. وأشهر ضحاياه قس أسباني يدعى مجويل دي مولينوس. ولد في سرقسطة، وسكن روما. وفي 1675 نشر كتابه "المرشد الروحي" الذي يزعم فيه أنه وإن كان التعبد للمسيح والكنيسة معيناً على بلوغ أسمى الحالات الدينية، إلا أنه يجوز للعابد الذي انقطع للاتصال المباشر بالله أن يتجاهل وهو مطمئن كل الوساطات الكهنوتية والطقوس الكنسية. وفي نبذة أخرى رأى مولينوس أنه لا حرج على العابد الواثق من تحرره من الخطيئة الأخلاقية في أن يتناول القربان دون أن يعترف للكاهن قبل التناول. واجتذب "مرشد" مولينوس النساء على الأخص فالتمست نصيحته المئات-ومنهن الأميرة بورجيزي والملكة كرستينا، وأرسلن له الهدايا. واعتنقت راهبات كثيرات هذه "الهدوئية" الجديدة، ونبذن أورادهن، واستغرقن في صلة فخور بالله. وشكا العديد من الأساقفة الإيطاليين من هذه الحركة التي قللن من شأن الخدمات والتبرعات الكنسية، وناشدوا البابا إنوسنت الحادي عشر أن يقمعها(1). وهاجم اليسوعيين والفرنسيسكان مولينوس لأنه أكد على الإيمان دون "الأعمال" تأكيداً يكاد يكون بروتستنتياً. وبسط عليه البابا حمايته حيناً، ولكن ديوان التفتيش الروماني قبض عليه في 1685، ثم على نحو مائة من أتباعه. وكان قد جمع أربعة آلاف كراون ذهبي (50.000 دولار؟) يفرضه رسما صغيراً على المشورة التي يبذلها لمراسليه، ونستطيع الحكم على عدد هؤلاء المراسلين من تكاليف البريد على الخطابات التي تسلمها في يوم القبض عليه، والتي بلغت ثلاثاً وعشرون دوكاتية (287.50 دولاراً؟)(2).

وبعد أن فحص ديوان التفتيش السجناء وضع قائمة بالتهم الموجهة إليهم، وأهمها أن مولينوس برر تحطيم صور المسيح المصلوب والتماثيل الدينية لأنها تعوق هدوء الاتحاد بالله، وأنه ثبط همم الأشخاص الذين أرادوا نذر أنفسه للدين أو الالتحاق بالطرق الدينية، وأنه قاد تلاميذه إلى الاعتقاد بأن لا شيء يأتونه بعد بلوغهم الاتحاد بالله يمكن أن يكون خطيئة. ولعله اعترف تحت ضغط السجن، أو التعذيب، أو الخوف، بأنه اغتفر تحطيم الصور، وبأنه ثنى الأشخاص الذين رآهم لا يصلحون للرهبنة عن نذر أنفسهم لها، واعترف بأنه ظل سنين كثيرة يمارس "أكثر الأعمال خروجاً على اللياقة مع امرأتين"، وأنه "لم ير ذلك إثماً بل تطهيراً للنفس"، وأنه بذلك " استمتع باتحاد أوثق مع الله"(3). وأدان ديوان التفتيش ثماني وستين دعوى وجدها في كتاب مولينوس أو رسائله أو اعترافاته، وفي 3 سبتمبر 1678 وجه إليه الاتهام في احتفال عام مما يحرق فيه المهرطقون auto-da-f( وحضر جمع كبير، وطالبوا بحرقه، ولكن المحكمة قنعت بالأمر بسجنه مدى الحياة. وقد مات في السجن في 1697.

ولعلنا نتعاطف أكثر مع "المهرطقين" الألبيين الذي بكاهم ملتن في سونيتة سماها "حول المذبحة الأخيرة في بييدمونت". وبيان ذلك أنه كان يسكن الأودية الرابضة بين بييدمونت السافواوية ودوفينه الفرنسية قوم يدعون الفودوا، هم حفدة "الفالدنيز" الذين سبقوا حركة الإصلاح البروتستنتي وعاشوا بعدها، والذين احتفظوا بعقيدتهم البروتستنتية خلال عشرات التقلبات التي طرأت على القانون والحكومة.

وفي 1655 انضم الدوق شارل ايمانويل الثاني أمير سافوي إلى لويس الرابع عشر في تنظيم جيش لإكراه هؤلاء الفودوا على اعتناق الكاثوليكية. وأثارت المذبحة التي أعقبت ذلك سخط كرومويل، فحصل من مازاران على أمر بوقف هذا الاضطهاد. ولكن بع موت حامي الجمهورية (كرومويل) والكردينال (مازاران) تجدد الاضطهاد، فلما ألغي مرسوم نانت استأنفت الدولة الفرنسية جهودها في استئصال شأفة البروتستنتية من الإقليم. وألقى الفودوا السلاح على وعد بالعفو العام، وما لبث ثلاثة آلاف منهم، مجردين من السلاح، وفيهم النساء والأطفال والشيوخ، أن ذبحوا ذبح الأنعام (1686). وسمح للباقين منهم على قيد الحياة، الذين أبوا اعتناق الكاثوليكية، بالهجرة إلى أرباض جنيف. ثم جاء دوق آخر لسافوي يدعى فيكتور أمادبوس، وجد نفسه في مشكال السياسة حليفاً لا لفرنسا بل عليها، فدعا الفودوا للعودة إلى أوديتهم (1696). فعادوا، وقاتلوا تحت لوائه وسمح لهم بعدها بعبادة المجهول على طريقتهم المؤمنة.

أما الفقراء فكانوا في الولايات البابوية يعانون فقر إخوانهم في كل مكان بإيطاليا وكانت الإدارة البابوية (الكوريا)، كأي حكومة، تفرض الضرائب على رعاياها إلى الحد الذي يهبط بعائدها، فلم يتح لها قط من المال ما يكفي لأغراضها وموظفيها. وقد أنذر الكردينال ساكيتي البابا اسكندر السابع (1663) بأن جباة الضرائب يفقرون السكان حتى يشرفوا بهم على حافة اليأس، فقال: "إن أفراد الشعب، الذين لم يعودوا يملكون من الفضة أو النحاس أو الثياب أو الأثاث ما يشبع جشع الجباة، سيضطرون غلى بيع أنفسهم ليلبوا المطالب الثقيلة التي فرضتها عليهم الكاميرا (الغرفة التشريعية للكوريا(4)"). وشكا الكردينال من الرشوة في القضاء البابوي، ومن الأحكام التي تباع وتشرى، والدعاوي التي يطول نظرها سنين عديدة، والعنف والطغيان يعانيهما الخاسرون الذين يجرءون على استئناف الحكم من موظف أدنى إلى آخر أعلى. يقول ساكيتي "إن هذه المظالم أفدح من تلك التي نكب بها بنو إسرائيل في مصر.. .. يعاملون معاملة أكثر وحشية من معاملة العبيد في سوريا أو أفريقيا. فمنذا يستطيع أن يشهد هذه الأشياء دون أن يذرف عليها دموع الحزن والأسى(5)؟" وفي وسط فقر الجماهير كان العديد من السر النبيلة التي تربطها رابطة القرابة بالبابوات أو الكرادلة يتلقى الهبات السخية من إيرادات الكنيسة.

أما بابوات هذا العهد لميكونوا زهاداً كبيوس الخامس، ولا رجال دولة كسيكستوس الخامس، إنما كانوا في العادة قوماً طيبين، أضعف من أن يتغلبوا على الرذائل البشرية المحيطة بهم، أو يراقبوا مئات الثغرات والأركان التي ينفذ من خلالها أو يختبئ فيها الفساد في إدارة الكنيسة. ولعل أي مؤسسة بلغت هذا المبلغ من الاتساع وكثرة الواجبات لا يمكن وقايتها من الأخطاء الملازمة لطبيعة الإنسان. وقد جاهد إنوسنت العاشر، (1644-55)، "النقي الحياة المستقيم المبدأ(6)" ليخفف من ثقل الضرائب، ويكبح استغلال النبلاء الجشعين للإيرادات البابوية، ويصون النظام والعدل في ولاياته. وتبدو عليه-كما صوره فيلاسكويز-كل مظاهر الخلق القوي، ولكنه سمح لغيره بأن يحكموا نيابة عنه، وترك أوليمبيا مايدالكيني، زوجة أخيه الجشعة الطموح، تؤثر في تعييناته وسياساته، فكان الكرادلة والسفراء يتذللون أمامها، وأثرت من هداياهم ثراءً صارخاً، ولكن لما مات إنوسنت زعمت أنها أفقر من أن تنفق على مأتمه(7).

وروي أن كردينالاً قال في مجمع الكرادلة الذي اختار خليفته "يجب أن نبحث عن رجل أمين هذه المرة(8)". وقد وجدوه في شخص فابيو كيجي، الذي أصبح الاسكندر السابع (1655-67). وقد بذل قصاراه ليطهر الإدارة البابوية من الفساد وتعطيل الأعمال، ونفى أبناء أخيه النهمين إلى سيينا، وخفض الدين العام. غير أن الفساد الذي أحاط به كان أوسع وأعم من أن يستطاع قهره. فألقى السلاح، وسمح لأبناء أخيه بالعودة إلى روما، وخلع عليهم المناصب المجزية، فجمع أحدهم بعد قليل ثروة طائلة(9). وانتقلت القوة من يدي الاسكندر المتعبتين إلى الكرادلة، الذين طالبوا بالمزيد من السلطة في حكم الكنيسة. ورحلت أرستقراطية من الأسر تفخر بكرادلتها محل الملكية المطلقة التي ثبتها مجمع ترنت من قبل البابوات.

وجدد كلمنت التاسع (1667-69) الكفاح ضد محاباة الأقرباء. وسمح لأقربائه ببعض الامتيازات المتواضعة ولي ظهره لطلاب المناصب. وأقبل المئات من مسقط رأسه بيستويا، واثقين من أنه سيعينهم على الإثراء، ولكنه ردهم، فهجوه هجواً ساخراً، وهنا أيضاً ندرك أن طبيعة البشر واحدة سواء في الظالم أو المظلوم، وأن الناس هم أس البلاء المحيط بهم. وكان البابا الجديد رجل سلام وعدل. فبينما أصدر سلفه-بتحريض من لويس الرابع عشر-مرسوماً مثيراً للمتاعب ضد الجانسنيين، عرض كلمنت هدنة في ذلك النزاع الشائب داخل الكنيسة. ومن أسف أنه مات ولم يقض في دست الحكم غير عامين. وخلفه كلمنت العاشر (1670-76) وهو في الثمانين، فترك الأمور للكرادلة (كما رتبوا الأمر من قبل)، ولكنه أنهى عهده دون عيب يعيبه. وجاء إنوسنت الحادي عشر (1767-89) وكان-كما قال رانكي البروتستنتي-رجلاً "تفرد بتواضعه... غاية في دماثة الخلق وهدوء الطبع"، مدققاً في مسائل الأخلاق حازماً في شئون الإصلاح(10). وقد أبطل "كلية" الموثقين الرسوليين التي قال مؤرخ كاثوليكي "إن التعيينات فيها كانت تباع وتشترى بانتظام(11)" وألغى الكثير من المناصب والامتيازات، والإعفاءات، (التي لا فائدة منها) ووازن الميزانية البابوية لأول مرة في سنوات كثيرة، وأرسي للنزاهة المالية سمعة مكنت الإدارة البابوية من اقتراض المال بفائدة لا تزيد على 3%. كتب فولتير يقول عنه "كان رجلاً فاضلاً، وحبراً حكيماً، ولاهوتياً ضعيفاً، وأميراً شجاعاً، قوي العزيمة، جليل القدر(12)". وقد حاول عبثاً أن يخفف من تعجل جيمس الثاني في كثلكة إنجلترا، وأدان العنف الذي استعمله لويس الرابع عشر ضد الهيجونوت، وقال، "إن الناس يجب أن يهدوا إلى دور العبادة لا أن يجروا إليها جراً(13)" ولم يجد ما يدعوه لمحبة ذلك الملك المتكبر الذي ادعى لنفسه من السلطة المطلقة على الكنيسة في فرنسا ما يقرب من السلطة التي أكدها هنري الثامن لنفسه في إنجلترا. ولكي يقلل إنوسنت الحادي عشر من الجرائم في روما ألغى حق اللجوء الذي سبق منحه لمساكن السفراء، وأصر لويس على الاحتفاظ بذلك الحق لمبعوثيه،

بل للشوارع المجاورة للسفارة الفرنسية، وفي 1678 دخل سفيره روما بفوج من الفرسان ليفرض بالقوة مطلب الملك. ووبخ البابا السفير، وأوقع حرماً على كنيسة القديس لويس التي كان يصلي فيها السفير في روما. واحتكم لويس إلى مجمع عام، وسجن ممثل البابا في فرنسا، واستولى على إقليم أفنيون الذي كان ملكاً للبابا منذ 1348. ومن هنا نظرة إنوسنت الحادي عشر الهادئة المطمئنة إلى الحملة التي جردها وليم أورنج الثالث، البروتستنتي، لخلع جيمس الثاني الكاثوليكي وإدخال إنجلترا في حلف ضد فرنسا. وقد تعاون البابا مع جهود ليبنتز لإعادة الوحدة بين الكاثوليكية والبروتستنتية، ووافق على تنازلات أعلنت جامعات ألمانيا البروتستنتية رضاءها عنها، وقد وصفه أحد الإنجليز بأنه "بابا بروتستنتي(14)".

وتوفي إنوسنت الحادي عشر قبل أن يشهد انتصار أهدافه، ولكن خلال بابوية الاسكندر الثامن (1689-91) وإنوسنت الثاني عشر (1691-1700) تخلى السفير الفرنسي عن حق اللجوء، وردت أفنيون للبابوية، ونقل الأكليروس الفرنسي ولاءه من الملك غلى البابا وإعادة الحلف الأعظم توازن القوى ضد فرنسا العدوانية. وفي حرب الوراثة الأسبانية وجد كلمنت الحادي عشر (1700-21) نفسه وقد تورط في انقسامات أوربا العنيفة، فكان يلقي بنفوذه متردداً تارة في جانب وتارة في جانب آخر، وفي النهاية اقتسم الملوك الأسلاب دون أن يستشيروه-حتى صقلية وسردانيا، وهما-فنياً-إقطاعتان بابويتان. كذلك كانت معاهدة وستفاليا قد تجاهلت احتجاجات إنوسنت العاشر. لقد استلزم اشتداد النزعة القومية إضعاف البابوية، وأسهمت هذه النزعة مع نمو العلم في تشجيع العلمانية والتهوين من دور الدين في الحياة الأوربية.


الفن الإيطالي

أحس الفن كما أحست السياسة بهذه المنافسة المشتدة بين شئون الدنيا وشئون الدين. كان رجال الكنيسة لا يزالون أغنى رعاة الفن، يوصون بالمباني، والصور والتماثيل، والزخارف، ولكن الأرستقراطية استكثرت الآن من القصور بأسرع من الكنائس، وتوددت إلى الأجيال القادمة بالصور، وأهدتها مجموعات من التحف الفنية. وفي إيطالية القرن السابع عشر جرى تيارا الرعاية هذان جنباً إلى جنب في انحدار بهي من النهضة الأوربية. وكانت تورين تتخذ طريقها إلى الثراء تحت حكم أدواق سافوي. وقد صمم جوارينو جواريني لكتدرائية سان جوفاني باتيستا "كابيل ديل سانتيسيمو سوداريو" أي كنيسة الكفن الأقدس (الذي اعتقد المؤمنون أن يوسف الرامي كفن فيه جسد المسيح). وقد انهارت قبة كنيسة سان فيلييو الكبرى، التي بدأها جواريني، قبيل أن تكتمل، فرممها فيلييو ايوفارا، الذي ولد سنة 1676 قبل موت جواريني بسبع سنوات. ولعلنا نلتقي بايوفارا مرة أخرى. وفي جنوة كان أروع بناء شيد في هذا العهد هو قصر دوراتزو الذي بناه فالكوني وكانتوني في 1650، واشتراه بيت سافوي في 1817، واستخدم بعد ذلك قصراً ملكياً للأسرة. وقد تحطمت قاعة مراياه الشهيرة في الحرب العالمية الثانية، وكانت رائدة لقاعة مرايا فرساي (1678)، فليس صحيحاً إذن أن مارس (إله الحرب) عشق فينوس يوماً ما. أما أبرز المصورين الجنوبيين الآن فكان اليساندرو مانياسكو، وقد نجد أنموذجا من فنه في لوحة "مجمع اليهود" المحفوظة بمعهد الفن بشيكاغو، أو لوحة "الغداء البوهيمي" المحفوظة باللوفر.

وواصلت البندقية إنجابها للأطفال والفنانين. وأي عمل أعظم بطولة من الدفاع عن كانديا ضد ترك؟ فطوال ربع قرن ظل جنود الباب العالي وبحارته يهاجمون كريت، وكانت يومها مستعمرة للبندقية، وهلك في تلك الحملات العنيفة 100.000 تركي(15)، ومع أن جيشاً عدته 50.000 مقاتل استولى على بعض المدن الصغيرة في الجزيرة، فإن العاصمة صمدت للحصار عشرين عاماً، وصدت اثنين وثلاثين هجوماً. وفي 1667 أرسل فرانشسكو موروزيني ليقود الحامية المشرفة على الموت جوعاً. وأخيراً سلمت (1668)، ولكن أحداً لم يعد يتكلم على تدهور البندقية. وفي 1693، عندما تقلد موروزيني إمرة الأسطول البندقي، تقهقر الأتراك حين اقترب منهم وقد روعهم اسمه فقط. وكان لا يزال من ذلك الطراز من الرجال الذي صره تنتوريتو وفيرونيزي-الشجاعة المجسمة التي لا تعرف الرحمة.

وكان بالداساري لونجينا رجلاً آخر من هذا الطراز السبعيني. فقبل سنوات كثيرة (1632) صمم كنيسة "سانتا ماريا ديللا سالوتي"-أميرة البحيرات الجليلة، أما الآن، وبعد سبعة وأربعين عاماً، فقد شاد قصر بيزارو على القناة الكبرى-قصراً متيناً بديعاً بأعمدته المزدوجة وكرانيشه المتعددة، ثم بنى (وهو في السادسة والسبعين) قصر ريتزونيكو، الذي سيموت فيه الشاعر براوننج. وهناك نبت آخر، صلب العود، حمل البذرة البندقية إلى نصف القارة، وهو سبستيانو ريتشي، الذي ولد (1659) بمدينة بللونو في إقليم فنيتسيا، وذهب إلى فلورنسة ليزخرف قصر ماروتشيللي، ثم سار على أقل الدروب ضنكاً-إلى ميلان، وبولونيا، وبياتشينزا، وروما، وفيينا، ولندن. وأنفق عشر سنوات في إنجلترا، ورسم صوراً في مستشفى تشلسي، وبيرلنجتن هاوس، وقصر هامبتن كورت، وكاد يظفر بمهمة زخرفة كنيسة القديس بولس الجديدة. ثم مضي إلى باريس، حيث انتخب عضواً في أكاديمية الفنون الجميلة. ولوحته "ديانا والحوريات(16)" غلمة كلوحات بوشيه، لطيفة كلوحات كوريدجو. وعمر ريتشي حتى 1734، وأسلم مهاراته للقرن الثامن عشر، ومهد الطريق للعصر الذهبي للتصوير البندقي أيام تيبولو.

أما المدرسة البولونية فلم تكن قد استنفدت قوتها تماماً. فاشتهر كارلو تشينياني برسومه الجصية في كتدرائية فرولي. وكشف جوزيبي ماريا كرسبي (لو سبانيولو) في "صورته الذاتية(17)" عن رجل مستغرق في الفن، متناس كل متاعبه إذا أتيح له أن يرسم. وقد صور جوفاني باتيستا سالفي ("الساسوفيراتو") في لوحته "العذراء تصلي(18)" ما في المحبة من إنكار للذات، وأرانا في لوحته "العذراء والطفل(19)" مجرد امرأة بسيطة، سعيدة بوليدها (البامبينو)، كأي امرأة تراها في أي يوم بين فقراء إيطاليا.

وقد حكم فلورنسة وبيزا وسيينا خلال هذه الفترة اثنان من كبار أدواق توسكانيا، فرديناند الثاني وكوزيمو الثالث. وفي 1659 بدأت سيينا مهرجان الباليو (المعطف) المشهور: فكانت أحياؤها العشرة تنظم موكباً بملابس بهية يسير في شوارع زينت بالعمائر، والرايات، والزهور، ونساء مرحات لابسات ثياباً جذابة، ثم يتبارى فرسان الأحياء بجنون في سباق على معطف السيدة العذراء التي كرست المدينة التقية نفسها وحياتها له منذ أمد بعيد. ولم تملك فلورنسة الآن من المصورين إلا الصغار. وواصل كارلو دولتشي، بفن أضعف، صور رينو جيدي العاطفية، المتأملة في السماء، التي رسمها للعذراء والقديسين، والعالم كله يعرف لوحته "القديسة سيسيليا(20)". ورسم يوستوس سوسترمانس، الذي هاجر من فلاندر غلى فلورنسة، لوحات تعد من العجائب التي تشد الانتباه في قاعة بيتي-وليس أقلها رأس جاليليو الرائع الجليل. كذلك كان يبدو موسى وهو يشرع الناموس، لا كما نراه في وحش ميكل أنجيلو ذي القرون.

وكان الفن في روما يفيق من قيود الحركة المعارضة للإصلاح البروتستنتي. فعاد البابوات بقدر أخف إلى روح النهضة، وشجعوا الأدب، والدراما، والعمارة، والنحت، والصوير. ورمم إنوسنت العاشر الكابيتول وكنيسة سان جوفاني في لاتيرانو. وكلف الاسكندر السابع برنيني بأن ينحت نطاقاً رباعياً من حراس مصنوعين من الجرانيت حول ميدان القديس بطرس (1655-67)-فنحت 284 عموداً و88 ركيزة، ووفق في صنعها إلى تحويل الذهب إلى حجر. وفي عهد هذا البابا أعاد بييترو داكورتونا بناء كنيسة سانتا ماريا ديللا باتشي، حيث كانت عرافات رفائيل لا تزال تتأمل القدر. واشترك جيرولامو دينالدي مع ابنه كارلو في تشييد كنيسة سانتاجنيزي الجميلة في ميدان نافونا. واشترك الوالد والولد ثانية في تصميم كنيسة "يسوع ومريم"، وبنى كارلو هيكل سانتا ماريا في كامبيتللي ليضم تمثالاً للعذراء اعتقد الناس أنه أوقف طاعون 1656. وكان الكرادلة والنبلاء يبنون مساكنهم ومدافنهم في فخامة القصور. وارتفع الآن قصر دورياً وبهو قصر كولونا ذو الزخارف الباروكية المسرفة، وفي كنيسة "يسوع ومريم" حفر فرانشسكو كافالليني لأسرة بولونيتي مقبرة لا بد أنها أثارت حسد الأحياء للأموات.

وأقام مصورون كثيرون الدليل على أن فنهم ما زال حياً في روما. وقد خطب أهلها ود كارلو ماراتي، في النصف الثاني من القرن السابع عشر، باعتباره زعيم المصورين في الباروك الحديث. وصورته لكلمنت التاسع(21) كانت مذكرة بصورة فيلاسكويز لإنوسنت العاشر، ولكنها انتهت نهاية طيبة، وصورته "العذراء مع القديسين في الفردوس"(22) تكرار لعشرات مثلها، ولكنها صورة جميلة. وحين أراد كلمنت الحادي عشر ترميم لوحات رفائيل الجصية في الفاتيكان عهد إلى ماراتي بهذه العملية الدقيقة الخطرة على المرمم خطرها على الرسوم، فأداها بكفاية. واختار اليسوعيون جوفاني باتيستا جاوللي (الباتشتشو) ليرسم قبو كنيستهم الأم "الجيزو"، ولكن كان من بين أبناء طريقتهم راهب من أقدر فناني عصره، هو أندريا بوتسو، الذي التحق بالطريقة وهو في الثالثة والعشرين، وصمم في تلك الكنيسة مذبح القديس اجناتيوس-وهو من روائع الباروك. وفي 1692 نشر بوتسو مقالاً عن المنظور في التصوير والعمارة أثار ضجة في عدة لغات. واستهواه موضوعه كما استهوى أوتشيللو موضوعه قبل قرنين، فطور دراساته بلطائف "الخداعية"، كما يرى في صوره الجصية في فراسكاتي. ودعاه الأمير فون ليشتنتشتين إلى فيينا، فأفنى نفسه بكثرة المهام التي اضطلع بها، ومات هناك في 1709 بالغاً من العمر سبعة وستين عاماً.

كان أعظم المصورين الإيطاليين الآن في نابلي. فكل شيء أينع وازدهر هناك-الموسيقى والفن، والأدب، والسياسة، والدراما، والجوع، والقتل، وشيء آخر لا يكف عنه الرجال الهائجون أبداً، وهو مطاردتهم لجسد المرأة ومفاتنه، المطاردة المرحة، العنيفة، الشجية. وتأثر سلفاتور روزا بكل عناصر الحياة هذه. وكان أبوه معمارياً، وعلمه عم له التصوير، وكان زوج أخته تلميذاً لريبيرا، وقد أذن لسلفاتور نفسه في الوقت المناسب بالالتحاق بذلك المرسم الجليل. وعلمه أستاذ آخر تقنية مناظر المعارك الحربية. واشتهر سلفاتور على الأخص بهذه الصور التي ترى في متحف نابلي القومي أو في اللوفر. ومن المعارك انتقل إلى مشاهد الطبيعة، ولكن هنا أيضاً آثرت روحه الوحشية رسم الطبيعة في سوارت غضبها، كما يرى في لوحة باللوفر صور فيها الغيوم الكثيفة والأرض المظلمة يضيئها فجأة برق يحطم الصخور ويطوح الأشجار في طرفة عين. وأقنعه لانفرانكو بالذهاب إلى روما والتودد للكرادلة، فذهب وأثرى هناك، ولكنه هرع قافلاً إلى نابلي 1646 ليشترك في ثورة مازانيللو. فلما فشلت عاد إلى روما، وصور كبار رجال الكنيسة، وكتب هجاءً ساخراً تهكم فيه بالترف الكنسي. ثم قبل دعوة الكردينال جانكارلو دي مديتشي ليذهب ويعيش معه في فلورنسة، وهناك مكث تسع سنوات، يرسم، ويعزف الموسيقى، ويقرض الشعر، ويشارك في التمثيليات. وحين عاد إلى روما ثانية، سكن بيتاً في التل البنسي، حيث عاش بوسان ولوران من قبل. وتقاطر عليه أقطاب الكنيسة، ليصورهم مغضين عن هجائياته، مؤثرين فرشاته على قلمه، وكان أحب الفنانين إلى الناس في إيطاليا طول عشر سنوات. وقد رسم صور القديسين والأساطير المألوفة، ولكنه في محفوراته استسلم لعطفه على الجنود المساكين والفلاحين المعذبين، وهذه المحفورات من أبدع آثاره.

ولم ينافسه في شهرته غير رجل من أهل نابلي، هو لوكا جوردانو. وكان فناناً وهو بعد في الثامنة، ثم رسم في كنيسة سانتا ماريا لانوفا ملاكين بلغ من الجمال والرشاقة مبلغاً جعل الحاكم يأخذه العجب حين رآهما، ويرسل للصبي بعض القطع الذهبية مع توصية لريبيرا. وظل يدرس على يد ذلك الأستاذ الغارق في تأملاته، ويدهش كل إنسان بسرعة نسخه للروائع وتقليده للأساليب. وتاق للذهاب إلى روما وفحص رسوم رفائيل الجصية المشهورة، ولكن أباه عارض في ذهابه، لأنه يرتزق من بيع صور لوكا ورسومه. ففر لوكا سراً، وسرعان ما أخذ ينسخ بحماسة في الفاتيكان، وفي كنيسة القديس بطرس، وفي قصر فارنيزي. وتبعه أبوه، وحصل على قوته هنا أيضاً ببيع صور ابنه العارضة، ويروي أن السر في تقليبه "فا-برستو" هو حث أبيه على السرعة. فلما استوعب فن روما مضي إلى البندقية ورسم على طريقة تيشان وكوريدجو صوراً لا تكاد تختلف عن روائعهما. ولكنه رسم إلى ذلك صوراً أصيلة ظفرت بالاستحسان، وفي وسعنا الحكم عليها من لوحته "إنزال المسيح عن الصليب" المحفوظة بأكاديمية البندقية. ولما عاد إلى نابلي زخرف اثنتي عشرة كنيسة بكفاية وسرعة لم يجد معها منافسوه حيلة إلا أن يتسقطوا له الهنات. ثم دعاه كوزيمو الثالث إلى فلورنسة (1679) حيث ظفر بالاستحسان لصورة الجصية في كنيسة كورسيني.

وأصاب صديقه كارلو دولتشي غم شديد حين رأى ما أحرزه لوكا من نجاح، فمات بعد قليل(23)، وتروي لنا إيطاليا المحبة لفنانيها من الأساطير الكثيرة عنهم قدر ما ترويه عن قديسيها. وفي رواية أخرى أن نائب الملك الأسباني في نابلي أوصي برسم حشوة كبيرة لكنيسة القديس فرانسس زافير، وثار غضبه حين وجد أن شيئاً لم ينجز في هذا التكليف رغم التأجيلات الطويلة، وما راعه بعد يومين إلا أن يجد العمل كاملاً وجميلاً. وقال نائب الملك "إن راسم هذه الصورة أما ملاك وأما شيطان(24)".

وطبقت شهرة الملاك الشيطاني الآفاق حتى بلغت مدريد، وسرعان ما تكاثرت الدعوات على لوكا من شارل الثاني لينضم للبلاط الأسباني. ومع أن الملك كان مشرفاً على الإفلاس فإنه وصل الفنان بألف وخمسمائة دوكاتيه، ووضع سفينة ملكية تحت تصرفه للرحلة. فلما بلغ جوردانو مدريد (1692) استقبلته ست مركبات ملكية على الطريق. وما لبث أن بدأ العمل في الأسكوريال وهو في السابعة والستين. فزين بالصور الجصية سلم الدير الكبير، وعلى قبو الكنيسة رسم "صورة طبق الأصل" من السماوات، ترينا شارل الخامس وفيليب الثاني في الفردوس-وقد غفرت ذنوبهما كلها تحية من الثالوث الأقدس لآل هابسبورج. وفي السنتين التاليتين رسم عدداً كبيراً من الصور الجصية يعدها مؤرخو الفن الأسباني خير ما رسم في الأسكوريال(25). وفي "القصر" بمدريد، وفي بوين ريتيرو، وفي كنائس طليطلة والعاصمة، رسم صوراً بلغت من الكثرة، وأنفق فيها من الجهد، ما جعل منافسيه يعيرونه بأنه يعمل ثماني ساعات في اليوم وفي أيام الأعياد. كذلك ساءهم أنه جمع ثروة بطرق غير لائقة، وأنه يضيق على نفسه ولكنه يشتري الجواهر الغالية استثماراً آمناً لماله لأن كل شيء في هذه الدنيا سيتغير ويتبدل إلا غرور الإنسان. وقد كرمه كل البلاط، ووصفه شارل الثاني في لحظة صفاء بأنه أعظم من ملك.

ومات شارل في 1700، ومكث جوردانو في أسبانيا رغم ما تلا ذلك من حرب الوراثة الأسبانية، ولما ارتقى العرش فيليب الخامس ظل يتلقى تكليفات سخية عسيرة. ثم عاد إلى إيطاليا في 1702، وتخلف في روما ليلثم قدم البابا، ووصل إلى نابلي والغار يكلله. وعلى أسقف التشرتوزا (دير الكرتوزيين) بسان مارينو، المطل على المدينة، رسم في ثمان وأربعين ساعة سلسلة من الصور الجصية أظهرت نشاطاً وحذقاً لا يكادان يصدقان في رجل بلغ الثانية والسبعين (1704). وفاضت روحه بعد ذلك بعام وهو يقول متأوهاً "إيه يا نابلي، يا نسمة حياتي(26)". ولم يعدله شهرة عند وفاته فنان آخر في جيله. ونافس الأعيان الهولنديون الأباطرة والملوك في شراء صوره، وفي إنجلترا النائية تغني مافيو برايور بمديح "جوردان الإلهي" وأعجب عامة الناس بغنى ألوانه، وبأس أشخاصه، وجلال أفكاره، وقوة عرضه. ولكن الفنانين-بعد أن أفاقوا من هذا الخدر العام-بينوا علامات التعجل في إنتاج لوكا فا-برستو، والخلط المتناقض بين الأفكار أو المواضيع الوثنية والمسيحية في المشهد الواحد، والمواقف المفتعلة، والإفراط في الإضاءة الساطعة، والافتقار إلى التناسق والهدوء. ولقد رد لوكا على ناقديه قبل ذلك بزمن طويل، إذ عرف المصور القدير بأنه ذلك الذي يحبه جمهور الشعب(27). ومن العسير تفنيد هذا التعريف ما دمنا نفتقر إلى معيار موضوعي للامتياز أو سلامة الذوق، ولكنا قد نجد أدنى محك ذاتي للعظمة في مبلغ تأثير إنسان ما في الزمان والمكان، وأدنى مقياس ذاتي للشهرة في قدرتها على البقاء. ولقد سعد جوردانو بحياة ناجحة، وهو لا يشعر بأي أذى من جراء شهرته الآفلة.

وكان الفنان فرانشسكو سولمينا يناهز الثامنة والأربعين حين مات فا-برستو، ولكن سني عمره التسعين بلغت بمدرسة الفن النابولية قرابة منتصف القرن الثامن عشر. وكان لوكا قد رسم صحن دير مونتي كاسينو، ورسم فرانشسكو الخورس، وتهدم هذا وذاك في الحرب العالمية الثانية. ولكن المتاحف تحتفظ بفن سولمينا، ففي فيينا "اغتصاب أوريثيا" وهي نشوة بضة من عضلات الذكر ومنعطفات الأنثى، وفي اللوفر نرى صدى وتحدياً لرفائيل في لوحته "هليودوروس" يطرد من الهيكل"، وفي كريمونا صورة "مادونا أدولوراتا" ويصحب العذراء فيها ملاك فيه من العذوبة ما يجعلنا نتقبل فكرة الخلود إذا كان في الجنة الكثير من أمثاله.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أوديسة كرستينا

كانت الفنون الآن مجرد جزء صغير من حياة روما الثقافية. فيها أيضاً مئات من الموسيقيين، والشعراء، والمسرحيين، والعلماء، والمؤرخين. وقد يسرت المتاحف والمكتبات والكليات كنوز الماضي للطلاب، وشجعت الأكاديميات الأدب والعلم. وكانت أوهام ماريني الموشاة ما زالت عدواها تسري في الشعر الإيطالي، ولكنه لذع هجائيات تاسوني، وحرارة نزعة ماريني الحسية، وتدفق مقاطع تاسو الفوار، كل أولئك كان قد أعطى الشعر الإيطالي حافزاً وإلهاماً ما زالت تحس بهما النفوس المترنمة بالشعر.

أما أعظم الشعراء الغنائيين في العصور الحديثة(28)، إذا صدقنا ماكولي، فهو فنتشنزو دا فيليكايا، وقد شدا هذا الشاعر بتلخيص سوبيسكي لفيينا في قصائد كثيرة شاكرة، ورحب بمجيء كرستينا إلى روما في تملق نشوان، ووصف في خزي ساخط إخضاع وطنه للجيوش الدخيلة، يقول: "إيطاليا، إيه يا إيطاليا، يا من كتب عليك أن تلبسي تاج الجمال المهلك، فأصبح سجل الويل والثبور موسوماً على جبينك إلى الأبد! ليت ميراثك كان جمالاً أقل وبأساً أشد! حتى يجدك أولئك الذين يستخفهم الطرب لأن حقدهم أذلك، أكثر إرهاباً أو أقل جمالاً(29)". على أن هنري هالام، الذي طوف لغوياً خبيراً بكل الآداب الأوربية، ذهب إلى أن كارلو اليساندرو جيدي، لا فيليكايا، هو الذي "ارتفع إلى أسمى ذروة بلغها أي شاعر غنائي إيطالي" و.. أن "قصيدته الغنائية في الحظ على الأقل تعدل أي قصيدة غنائية أخرى في الإيطالية(30).، ولا يستطيع أحد لم يتمكن من الإيطالية أن يحسم هذا الخلاف بين ماكولي وهالام ولا بين جيدي وبترارك، ولا بين فيليكايا وبيرون أوشلي أوكيتس.

كان جيدي واحداً من شعراء عدة صدحوا بقوافيهم في صالون كرستينا بروما. وكانت ملكة السويد هذه قد طبقت شهرتها الآفاق لا ملكة على دولة عظمى فحسب، بل راعية ونموذجاً للعلم، والمضيفة الحفية بسالماسيوس وديكارت. وكانت تخليها عن التاج في سبيل المذهب، وتحولها عن البروتستنتية التي مات أبوها من قبل لينقذها، ورحلتها الطويلة مارة بقصور ملوك أوربا وأمرائها لتلثم قدمي البابا-كانت هذه كلها أحداثاً لا تقل عن الحروب والثورات استهواء للذهن الأوربي.

كانت في ربيعها الثامن والعشرين يوم غادرت السويد (1654). وأعطاها ابن عمها شارل العاشر، الذي اختارته ليتبوأ عرشها، خمسين ألف كراون تجمل بها رحلتها، وقرر لها الديت السويدي دخلاً كبيراً، وحقوق ملكة على حاشيتها. فوصلت هامبورج بعد رحلة سريعة في الدنمرك، وهناك صدمت مشاعر الأهالي بنزولها ببيت مالي يهودي كان قد أخلص لها الخدمة وهو يعمل وكيلاً مالياً لها. واجتازت هولندة البروتستنتية متنكرة، ولكنها اتخذت زيها السافر في أنتورب الكاثوليكية. وهناك استقبلها استقبالاً ملكياً الأرشيدوق ليوبولد، وإليزابث ملكو بوهيميا السابقة (وهي ملكة مخلوعة أخرى)، وابنتها الأميرة إليزابث (وهي تلميذة أخرى لديكارت). ثم واصلت رحلتها إلى بروكسل، حيث استقبلت بالألعاب النارية، والصواريخ، وطلقات المدافع، والجموع الهاتفة المصفقة. وأسلمت نفسها حيناً في اغتباط للمراقص ومباريات الفروسية ورحلات الصيد والتمثيليات، وأوفد مازاران فرقة تمثيلية من باريس للترفية عنها، وفي عشية عيد الميلاد ارتدت سراً عن المذهب اللوثري، وأعلنت عزمها على ألا تستمتع إلى مزيد من المواعظ(31)"، ثم أطالت مكثها في فلاندر ريثما تعد الكوريا البابوية بروما العدة لاستقبالها رسمياً في الكنيسة وإيطاليا. وبعد أن غادرت بروكسل اخترقت النمسا في رحلة وئيدة. وفي انزبروك جهرت رسمياً باعتناقها المذهب الكاثوليكي. وكانت رحلتها في إيطاليا قاصدة روما أشبه برحلات القياصرة الظافرين عظمة وجلالاً. فتزينت المدينة تلو المدينة لتحييها، ونظمت المهرجانات والعروض تكريماً لها في مانتوا، وبولونيا، وفاينزا، وريميني، وبيزارو، وأنكونا، وأخيراً (19 ديسمبر 1655) دخلت روما وسط مهرجان من الأضواء هزأ بتنكرها. وفي الغد مضت إلى الفاتيكان حيث رحب بها البابا اسكندر السابع. وبعد أن مكثت بروما ثلاثة أيام غادرتها مصحوبة بحرس الشرف لتدخلها ثانية ذلك الدخول الرسمي الذي رتبه لها كبار رجال الكنيسة، فمرت بقوس نصر، وبالبورتا ديلبوبولو (بابا الشعب)، إلى المدينة ممتطية صهوة جواد أبيض يخطر على مهل، بين صفوف الجند وحشوة الأهالي وكأنما شعرت الكنيسة القديمة أن حركة الإصلاح البروتستنتي بأسرها قد أطاح بها ارتداد امرأة واحدة عن البروتستنتية.

فلما اكتمل هذا مله، سمح لكرستينا بأن تتصرف في وقتها كما تشاء، تستقبل الأساقفة، والحكام، والعلماء، وتزور المتاحف، والمكتبات، والأكاديميات، والأطلال، وتدهش مرشديها بمعلوماتها في تاريخ إيطاليا وآدابها وفنونها. وأغرقتها كبار الأسر بالولائم والهدايا والتحيات، ووقع الكردينال كولونا في غرامها وهو في الخمسين، وعزف لها ألحان حبه، ولم يكن بد من نفيه إنقاذاً لكرامة الكنيسة. وما لبثت أن وجدت نفسها وقد تورطت في منافسات الحزبيين الفرنسي والأسباني في البلاط البابوي. وقطعت السويد دخلها المقرر لها حين وجدت مشقة في تمويل حربها مع بولندة، فرهنت مجوهراتها، وتلقت قرضاً من البابا.

وفي يوليو 1656 خرجت في زيارة لفرنسا. وهناك أيضاً لقيت ما تلقى الملكات من تكريم. ودخلت باريس على جواد أبيض مطهم، وخرج ألف فارس لاستقبالها، وهتفت لها الجموع، وكاد كبار الموظفين يخنقونها بأزهارهم الخطابية، ووصفها دوق جيز ذلك العهد، الذي أوفده مازاران لمرافقتها، بهذه العبارات: "ليست طويلة، ولكن لها خصراً ممتلئاً وشفتين كبيرتين، وذراعين حلوتين، ويداً بضة حسنة التكوين، ولكنها أقرب إلى يد الرجل منها إلى يد المرأة... ووجهها كبير دون أن ينتقص ذلك من مظهره... وأنفها معقوف، وفمها كبير نوعاً ولكنه ليس منفراً... وعيناها بديعتان تشعان ناراً... وعلى رأسها غطاء عجيب جداً... باروكة رجل، كثة عالية... ترتدي حذاء رجل، ولها نبرات صوت الرجل وكل تصرفات الرجل تقريباً، -تتظاهر بلعب دور المرأة المسترجلة (الأمازونة).. وهي غاية في التأدب والمجاملة، وتتكلم ثماني لغات، لا سيما الفرنسية-وكأنها ولدت في باريس، إنها تعرف أكثر مما تعرف أكاديميتنا، مضافاً إليها السوربون، وتفهم التصوير فهماً جديراً بالإعجاب، وكذلك تفهم كل ما عداه. إنها لشخصية غاية في الغرابة(32)". وأنزلت جناح الملك في اللوفر. ثم صحبها دوق جيز بعد ذلك إلى كومبيين، حيث استقبلها لويس الرابع عشر، وكان يومها فتى وسيماً في الثامنة عشرة. والتفت سيدات القصر حولها كالفراشات، ولكن أربكهن استرجالها في اللباس والحديث. وذهبت مدام دموتفيل إلى أنها "تبدو لأول وهلة كأنها إحدى الغجريات سيئات السيرة" ولكن "بعد ذلك... بدأت آلف لباسها.. ولاحظت أن عيناها جميلتان متألقتان، وأن في وجهها رقة، ولطفاً يمتزج بالكبرياء. وأخيراً أدركت في دهشة أنها أرضتني(33)". على أنه يمكن القول عموماً أن النساء اللاتي وشين ما في المجتمع الفرنسي من عادات وأزياء وبهجة وكياسة ورشاقة، هؤلاء ساءهن إهمال كرستينا لملبسها، و "إفراطها في الضحك، وتحررها في حديثها سواء عن الدين أو عن المواضيع التي تتطلب أصول اللياقة عند النساء مزيداً من التحفظ فيها.. وقد جهرت بأنها تحتقر جميع النساء لجهلهن، ووجدت لذة في التحدث إلى الرجال سواء في المواضيع الطيبة أو الخبيثة. وضربت بالقواعد كلها عرض الحائط(34)". ويرى فولتير أن نساء المجتمع الفرنسي قسون في الحكم على هذه الملكة المتمردة لأنها لم تسر على الجادة. قال "لم يكن في البلاط الفرنسي امرأة واحدة وهبت ذكاءها(35)". أما كرستينا فقد حكمت على سيدات البلاط بأنهن شديدات التكلف، وعلى الرجال بأنهم شديدو التخنث، وعلى الفريقين بالافتقار إلى الإخلاص. وفي سنليس، في طريقها عائدة من كومبيين إلى باريس، طلبت أن ترى "آنسة تدعى نينون (دلانكلو)، مشهورة بالرذيلة، والتهتك، والجمال، والذكاء. ولم تبد أي علامة من علامات الاحترام إلا لهذه المرأة وحدها، دون سائر النساء اللائي رأتهن في فرنسا(36)". وقد وجدت نينون حبيسة مؤقتاً في دير للراهبات. وتحدثت إليها كرستينا في مرح، وأقرتها على امتناعها عن الزواج(37). ثم عادت إلى إيطاليا بعد أن زارت مؤسسات فرنسا الثقافية وأهم آثارها الفنية (نوفمبر 1656).

وفي سبتمبر 1657 زارت فرنسا ثانية. ولم تستقبل ذلك الاستقبال الرسمي السابق، ولكنها أنزلت فونتنبلو بما يقرب من الحفاوة بالملوك. وهناك روعت فرنسا بما خالته استعمالاً مشروعاً لحقوقها الملكية على حاشيتها. وتفصيل ذلك أن ياورها المركيز مونالديسكي اشترك في مؤامرة ضدها كشفتها باعتراض رسائله. وزاد الموقف سوءاً باتهامه رجلاً آخر من حاشيتها بالتآمر عليها. فواجهته برسائله التي تثبت التهمة عليه، وأمرت قسيساً أن يسمع اعترافه ويمنحه غفران الكنيسة، ثم أصدرت الأمر لحراسها فأعدموا المركيز. وصعقت فرنسا، وحتى أولئك الذين اعترفوا بما منحها الديت السويدي من حقوق على أتباعها صمهم هذا الاستعمال الفجائي التعسفي لسلطتها في مسكن يملكه ملك فرنسا. وسمح لكرستينا بأن تنفق الشتاء في باريس، وتستمتع بالتمثيليات وحفلات الرقص، ولكن البلاط تنفس الصعداء حين رحلت إلى إيطاليا (مايو 1658).

وقد سبب لها قطع الدخل الذي يأتيها من السويد من الحرج الشديد ما جعلها فيما روي تطلب إلى الإمبراطور ليوبولد الأول جيشاً تقوده ضد شارل العاشر، ولكن ثناها عن هذه المغامرة العسكرية معاش سنوي من اثني عشر ألف سكودي قرره لها البابا الإسكندر السابع. وقد زارت السويد مرتين (1660-1667) لتستعيد دخلها، وربما تاجها. ورد إليها دخلها، ولكنها لم تلق ترحيباً في استوكهولم، واتهمها رجال الدين اللوثريين بأنها تتآمر لتحول الأمة إلى الكاثوليكية، ومنعت من الاستماع إلى القداس في مسكنها. وكانت بعد كل زيارة من هاتين الزيارتين تعتكف في هامبورج. ومنها أرسلت مندوبين إلى وارسو في 1668 ليعرضوا ترشيحها نفسها لعرش بولندة الذي خلا باعتزال يوحنا كازيمير. وعزز البابا كلمنت السابع مطلبها، ولكن الديت البولندي رفضها لأسباب كثيرة، منها رفضها أن تتزوج. وقد قالت إن إمبراطورية العالم بأسرها لن تحملها على الرضا بالزواج(38). ثم عادت إلى إيطاليا في 1668، ومكث بها حتى ماتت.

وكانت تلك السنوات العشرون الأخيرة أجمل سني عمرها. وأصبح جناحها في قصر كورسيني أهم الصالونات في روما، وملتقى الأساقفة، والعلماء، والملحنين، والنبلاء، والدبلوماسيين الأجانب. هناك رحبت بأليساندرو سكارلاتي، وتلقت من أركانجلو كوريللي إهداء أول سوناتاته المنشورة. وزينت حجراتها بالصور والتماثيل وغيرها من التحف المنتقاة بذوق كان مثار إعجاب الخبراء، أما المخطوطات التي جمعتها فقد عدت فيما بعد من خيرة ما ضمنته مكتبة الفاتيكان من مخطوطات. وكانت تثبط الأسلوب المتكلف الذي نما في الشعر الإيطالي، وأثرت على جيدي ليتزعم حركة تعود إلى نقاء اللغة، واستقامة التعبير، اللذين سادا في أيام أسرة مديتشي. وكانت مذكراتها مثالاً للكلام البسيط القوي، و "أقوالها المأثورة". آراء جادة سديدة لامرأة خبيرة بالدنيا، لم تسمح لتقواها بأن تفسد استمتاعها بالحياة. ولم تكن متعصبة، فقد أدانت عنف الكاثوليك الفرنسيين في تنفيذ قانون فسخ مرسوم نانت، وكتبت تقول "إني أنظر إلى فرنسا نظرتي إلى مريضة بتر ذراعاها وساقاها علاجاً لمرض كانت تشفى منه تماماً بممارسة اللطف والصبر(39)". وذهب بيل إلى أن هذه العواطف بقية متخلفة من تربيتها البروتستنتية، فوبخته على هذا التفسير، فكتب إليها معتذراً، فغفرت له شريطة أن يوافيها بكتب جديدة أو غريبة(40).

وماتت عام 1689 بالغة الثالثة والستين، ودفنت في كنيسة القديس بطرس. وبعد موتها بثلاث سنوات أسس جوفاني ماريا كريسكمبيني تخليداً لذكراها "الأكاديمية الأركادية" وأكثر أعضائها الأوائل ممن اجتمعوا تحت جناحها. وواصلوا الصلة القديمة بين الشعر والرعوية، وسموا أنفسهم رعاة، واتخذوا أسماء ريفية، وعقدوا اجتماعاتهم في الحقول. وأنشئوا فروعاً في مدن إيطاليا الرئيسية، ومع احتفاظهم بالحيل البارعة ف بنيان قصائدهم، فإنهم أنهوا تسلط الأوهام على الشعر الإيطالي.


من مونتيفردي إلى سكارلاتي

كانت الموسيقى في ذلك المجتمع المرح، مجتمع إيطاليا القرن السابع عشر، نغمة الحياة ونسيمها. لقد خاض هذا الشعب المشبوب العاطفة الحروب في الأوبرات، وحارب معارك الحب في أغانيه الشعرية، بعد أن ألزمته أسبانيا والبابوية السلام رغم إرادته. واتخذت الآلات الموسيقية عشرات الأشكال. وأصبح الأرغن الآن منفاخاً مزيناً له لوحتا مفاتيح لليدين ولوحة للقدمين، بالإضافة إلى أنابيب متنوعة، وكان هناك بالطبع أراغن متنقلة للشارع. وفي تاريخ مبكر (1598) نسمع بآلة أخرى لها لوحات مفاتيح سميت "البيانو أي فورتي" (أي الخافت والقوي) ورد ذكرها في قائمة الآلات التي يملكها ويعزف عليها الدوق ألفونسو الثاني في مودينا، ولكنا ما زلنا نجهل الفرق بينها وبين "البيلن القيثاري" بنوعيه elavieembalo (الهاربيسكورد) و spinetta. وينقضي قرن قبل أن نسمع بالبيانو فورت الثانية. وفي 1709 عرض بارتولوميو كريستوفوري آلة موسيقية سماها gravicemblo col pianoe forte، وكان صانع الآلات الموسيقية لأمير عاشق للموسيقى يدعى فرديناند دي مديتشي بفلورنسة. وكانت هذه الآلة تختلف اختلافاً هاماً وإن كان طفيفاً عن الهاربسيكورد. فالنغمة تصدرها مطرقة صغيرة ترتفع لتقرع وتراً، وفي الإمكان خفض الصوت أو رفعه بتنويع لمس الأصابع للمفتاح-بينما النغمات في الآلات السابقة ذات لوحات المفاتيح تنبعث بوساطة ريشة (من ريش الطير أو الجلد القاسي) ترتفع لتنقر الوتر، ولا يمكن أحداث تنويع في قوة الصوت . وحل البيانوفورت بالتدريج محل الهاربسيكورد في القرن الثامن عشر، لا لأنه يستطيع أن يعزف الأصوات "الخافتة والعالية" فحسب، بل لأن مطارقه كانت تبلى بسرعة أقل مما يبلى ريش الطير.

أما الكمان فقد تطور من القيثارة (الليرة lyre) في القرن السادس عشر، لا سيما في بريشا . فجلب أندريا أماتي فن صنع الكمان إلى كريمونا، وهناك تفوق حفيده نيكولو على جميع منافسيه في هذه الحرفة، إلى أن تفوق عليه هو ذاته تلميذاه أندريا جارنيري وأنطونيو ستراديفاي. وآل جارنيري مثال آخر من الأسر التي جرى فيها النبوغ في نفس الحرفة، فهناك أندريا وولداه بييترو "دي مانتوا" وجوزيبي الأول، وحفيده بييترو الثاني "دي فينيتسيا" وحفيد أخيه جوزيف الثاني "ديل جيزو"-الذي جعل بأجانيني يؤثر الكمان على سائر الآلات الموسيقية. وأقدم كمان يحمل توقيع ستراديفاري يرجع تاريخه إلى 1666، حين كان في الثانية والعشرين، وقد كتب عليه "أنطونيوس ستراديفاريوس ألومنوس نيكول أماتي فاتشيبات آنو 1666" ويلي هذا شعاره الشخصي-وهو صليب مالطي والحرفان الأولان من اسمه، أ. س، داخل دائرة مزدوجة. وكان يوقع فيما بعد ببساطة يشوبها الفخر "سترافيداريوس". وقد ألف العمل دون انقطاع، والقصد في الطعام، وعاش ثلاثة وتسعين عاماً، وجمع من الثروة بفضل ما تميزت به آلاته من روعة الجمال والبناء والنغم والصقل ما أصبحت معه عبارة "غني مثل ستراديفاري" مرادفاً كريمونياً للثراء العريض. والمعروف أنه صنع 1.116 كماناً، وفيولا، وفيولنسيلو، وبقيت منها على قيد الحياة 540 كماناً، بيع بعضها بعشرة آلاف دولار(41). وقد ضاع سر الطلاء الذي كان يصقل به آلاته.

وشجع هذا التحسن في الآلات تطور الأوركسترا، وتأليف الموسيقى الآلاتية وأداءها. واكتشف المؤلفون والعازفون في الكمان مرونة في الحركة وتنوعاً في النغم يستحيلان على الصوت البشري، إذا كان في استطاعتهم أن يصعدوا ويهبطوا على السلم الموسيقي بيسر يفوق الوصف فعلاً، وأن يبنوا التنويعات ويتلاعبوا بها، وأن يهربوا من روتين اللحن ويقتحموا الجديد من الإيقاعات، والتطويرات، والتجارب. وأمكن بعد الجمع بين الآلات الكثيرة تحرير التأليف من الرقص ومن الأغنية على السواء، واستطاع التأليف أن يحلق على جناحيه هو في الجديد من المتتاليات، والتجميعات، والأشكال. وكان تومازو فيتالي سباقاً بسوناتات الكمان التي لم يعرف لها مثيل من قبل في غنى الابتكار، والتي أعانت على إرساء تعاقب الحركات السريعة والبطيئة والنشيطة. أما أركانجيلو كوريللي، فقد مهد الطريق بوصفه مؤلفاً وعازفاً ماهراً، للموسيقى الحجرية التي شاعت في القرن الثامن عشر بسوناتاته التي وضعها للكمان، وكان له هو وفيتالي في إيطاليا، وكوناو وهينريش فون بيبر في ألمانيا، الفضل في إعطاء السوناتا بناء وشكلاً باعتبارها قطعة "تعزف" بالآلات فقط، مقابل "الكانتاتات" التي هي مؤلفات تغني بالصوت. وكوريللي هو الذي قرر شكل "الكونشرتو جروسو"-كمانان وفيولنتشيللو واحدة تقود أوركسترا وترياً-بألحان بسيطة مشجية مثل "كونشرتو عيد الميلاد" (1712)، ففتح بذلك طريقاً لكونشرتو فيفالدي وهندل ومتتابعات باخ الأوركسترية وقد احتفظت ألحان كوريللي بشعبيتها في القرن الثامن عشر فترة طالت حتى لقد خيل لبيرني وهو يكتب حوالي عام 1780 أن شهرتها ستبقى "ما بقي النظام الحالي للموسيقى مبعث بهجة لآذان البشر(42)".

وكما أصبح كوريللي المؤلف المفضل للكمان، فكذلك هيمن أليساندرو شتراديللا على موسيقى هذا العصر الصوتية، بالأصوات الفردية، والثنائية، والثلاثية، والأوراتوريوات. وكانت حياته ذاتها دراما في الموسيقى، وقد حولت إلى تمثيلية وأوبرا. ذلك أنه أحرز في عمله مدرساً للغناء بالبندقية نجاحاً محزناً. فقد فرت معه لروما إحدى تلميذاته الأرستقراطيات، واسمها أورتنسيا، مع أنها كانت مخطوبة لعضو الشيوخ البندقي ألفيزي كونتاريني. وأرسل عضو الشيوخ فتاكاً ليقتلوه. ولكن حين سمعه هؤلاء القتلة المرهفة الحس يرتل الدور الرئيسي في لحنه "أوراتوريو دي سان جوفاني باتيستا" في كنيسة سان جوفاني باللاتيرانو، تأثروا بالموسيقى (كما تقول القصة) تأثرهم جعلهم يقلعون عن القيام بما كفلوا به، ويحذرونه هو ورفيقته ليلتمسا مخبأً آمناً. وفر العشيقان إلى تورينو، ولكن سرعان ما اشتهر أليساندرو هناك بمؤلفاته وصوته شهرة هددته بالخطر. وأرسل كونتاريني فاتكين لا يهويان الموسيقى ليقتلاه، فهاجماه، وتركاه وهما يحسبانه قد مات. ولكنه أفاق، وتزوج أورتنسيا، ورحل معها إلى جنوه. وهناك عثر عليهما مأجورو عضو الشيوخ، فطعناهما طعنات أودت بحياتهما (1682)(43). وظل الأوراتوريو الذي قيل أنه أنقذ حياته محتفظاً بشعبيته قرناً كاملاً، وقد مهد السبيل أمام هندل.

وغدت الأوبرا الآن هوساً في إيطاليا. فالبندقية وحدها كانت بها ست عشرة داراً للأوبرا في 1699، وقد استمعت إلى قرابة مائة أوبرا مختلفة بين عامي 1662 و 1680(44). كذلك أقبلت نابلي على هذه الفرجة المشجعة بما يقرب من هذا التهافت. أما في روما فقد أصبحت الأوبرا رمزاً على حركة علمنة الموسيقى السائرة قدماً، وقد ألف كلمنت التاسع نفسه بعض الفكاهيات الموسيقية قبل أن يرتقي عرش البابوية(45). وكان هناك اضمحلال مؤقت في جودة الأوبرا الإيطالية بعد مونتفردي ففقد الحبكات بعض وقارها ودلالتها، وازدادت سخفاً وعنفاً. وطور فرانشسكو كافاللي، أحد تلاميذ مونتفردي، اللحن المنفرد باعتباره أحلى جزء من العرض، وسرعان ما طالبت الجماهير بسلسلة من الألحان الدرامية، وكانت تحتمل فترات الاستراحة بصبر نافد. وقام الخصيان من الغلمان أو الرجال بكثير من أدوار السوبرانو أو الكونترالتو، ولكن البريمادونات بدأن الآن ينافسن الملكات. ووجه ملتن أغنيات لاتينية إلى ليونورا باروني، وخرجت نابلي على بكرة أبيها لترحب بأم ليونورا، أدريانا بازيلي، أعظم المغنيات السوبرانو إثارة للأحاسيس في زمانها-ولعل أجهزة المسرح الآلية بلغت في هذا العصر الغاية التي ما بعدها غاية. يقول مولمنتي أن مسرح سان كاسيانو، في بندقية القرن السابع عشر، كان يستطيع عند الطلب أن يعرض قصراً ملكياً، وغابة، ومحيطاً، وجبل أولمب، والجنة، ومرة علقت قاعة رقص كاملة الإضاءة، بكل أثاثها وراقصيها، فوق المسرح الثابت، وكانت تخفض لتستقر عليه أو ترفع لتواري عن الأنظار حسب مقتضيات القصة(46). وحاول ماركانطونيو تشستي أن ينقذ الأوبرا من الأغنية، فأعطى مزيداً من الاتساع والبروز للاستهلال، ومن المنطق والرصانة للرواية، ثم نوع الغناء بالريستاتيف. وكان تشستي وكوريللي كلاهما مبعوثين موسيقيين، حملا الأوبرا الإيطالية الواحد إلى باريس على عهد لويس الرابع عشر، والآخر إلى فيينا على عهد ليوبولد الأول. وهكذا كانت أوربا شمال جبال الألب، في فن الأوبرا، مستعمرة إيطالية(47).

وكان أبرز ملحني الأوبرا الآن أليساندرو سكارلاتي. ولقد طغت شهرة ابنه دومنيكو اليوم على شهرته، ولكن اسم "سكارلاتي" كان إلى عهده القريب يعني أليساندرو، وكان دومنيكو أشبه بتوقيع متعاقب سريع على وتر اسم مشهور. وقد وفد أليساندرو على روما وهو في الثالثة عشرة، ودرس حيناً على كاريسيمي، ولحن للكانتاتات، وحفز همته فن ستراديللا وسيرته، وفي العشرين أخرج أولى أوبراته المعروفة L'errore innocente (الغلطة البريئة) وقد أعجبت الأوبرا كرستينا ملكة السويد، فبسطت جناحها على أليساندرو، وأخرجت أوبراته التالية على مسرحه الخاص. وفي 1684 قبل وظيفة "المايسترو دي كابللا" لنائب الملك الأسباني في نابلي، وظل يشغلها ثمانية عشر عاماً، يخرج الأوبرات في تتابع سريع حتى بلغت عند وفاته على الأقل 114، لا يعيش منها اليوم سوى نصفها، ولعل سوليمينا رسم في هذه الفترة اللوحة الممتازة التي ترى في كونسرفاتوريو نابلي الموسيقى-وجه نحيل، يفيض حساسية، وتركيزاً، وعزيمة.

وجاءت حرب الوراثة الأسبانية فكدرت صفاء نابلي، وتأخر صرف راتب سكارلاتي كثيراً حتى اضطر للرحيل إلى فلورنسة مع زوجته وأسرته، ولحن وأخرج الأوبرات تحت رعاية الأمير فرديناند. وبعد عام انتقل إلى روما رئيساً لفرقة مرتلي الكنيسة للكردينال بييترو أوتوبوني، وكان كنسياً مرحاً مثقفاً، خلف كرستينا قطباً وراعياً للفنون في روما، ووزع طاقاته الدنيوية على الفن والأدب والموسيقى والخليلات(48). وفي 1707 ذهب أليساندرو إلى البندقية حيث أخرج رائعته Mitridate Eupatore وهي أوبرا تتميز بخلوها تماماً من تشويق الحب. في ذلك العام دانت نابلي للحكم النمساوي، فدعا نائب الملك سكارلاتي ليعود إلى سابق وظيفته، فوافق، وأنفق هناك العقد الأخير من حياته، حين بلغ أوج شهرته.

وقد قررت أوبراته أسلوباً دام نصف قرن. جعل الاستهلال مؤلفاً هاماً لا يرتبط بالأوبرا، وقسمه إلى ثلاث حركات ظلت قياسية حتى مجيء موتسارت: الألليجرو، والأداجيو، والألليجرو. أما اللحن (الآربا) فأعطاه سيطرته النموذجية في القرن الثامن عشر وشكله الأعادي da capo، الذي يعيد فيه القسم الثالث الأول، ونفث فيه الحرارة العاطفة، والحنان، والتلوين الرومانسي، وجعله أداة لإبداعات المغنين في العزف والارتجال، ولكن تكراره قطع الوجدان والحركة قطعاً مفتعلاً. وقد قاوم حيناً طلب الجماهير للألحان العاطفية، وأخيراً أذعن، وظلت دراما الموسيقى خمسين عاماً تحظى بألف انتصار دون أن تنتج آثاراً قادرة على مغالية تقلبات الذوق. واضمحلت الأوبرا حين أيقظها جلوك لحياة وشكل جديدين، في فيينا (1762) وباريس، بجمال أوبرا Orfeo ed Euridice المقيم.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البرتغال 1640-1700

حين توج دوق براجانزا ملكاً باسم يوحنا الرابع (1640) بدأت البرتغال حرباً امتدت ثمانية وعشرين عاماً لتدافع عن استقلالها الذي استردته من أسبانيا. وقدمت لها فرنسا يد المعونة حتى 1659، حين وافق مازاران في صلح البرانس على أن يكف عن مساعدة البرتغال. واتجه الفونسو السادس إلى إنجلترا طالباً العون. وأوفدت كاترين أميرة براجانزا إلى لندن عروساً لتشارلز الثاني (1663)، حاملة معها صداقاً هو بومباي، وطنجة، و500.000 جنيه. وأرسلت إنجلترا الجند والسلاح مقابل ذلك. وبهذه المعونة وغيرها، وبجهود البرتغاليين وقيادتهم وحسن نظامهم قبل كل شيء، راحوا يردون جيوش أسبانيا على أعقابها الواحد تلو الآخر، حتى اعترفت أسبانيا رسمياً بمقتضى معاهدة لشبونة (1668) باستقلال البرتغال. وعزز بيدرو الثاني العلاقات مع إنجلترا بمعاهدة ميثوين (1703). فوافقت كل من الأمتين على أن تمنح الأخرى تعريفات تفضيلية، وعلى أن تستورد البرتغال السلع المصنوعة من إنجلترا وتستورد النبيذ والفاكهة من البرتغال. وهكذا شربت إنجلترا القرن الثامن عشر نبيذ البورت من أوبورتو، بدلاً من الكلاريت "الصافي clear" من بوردو. وقد وفر هذا التحالف الاقتصادي للبرتغال ومستعمراتها الباقية حماية دائمة من أسبانيا وفرنسا.

وفي 1693 كشفت مناجم ذهب ميناس جيرايس في البرازيل، وسرعان ما غلت لبيدرو الثاني من سبائك الذهب ما أتاح له أن يحكم بعد 1697 دون حاجة لدعوة الكورتيز (المجلس التشريعي) للموافقة على منحه المال، وأن يحتفظ في لشبونة ببلاط من أفخم البلاطات في أوربا. على أن المذهب الأمريكي تمخض في البرتغال عن نفس النتائج التي تمخض عنها في أسبانيا: فقد استعمل لشراء السلع المصنوعة من الخارج بدلاً من تمويل المشاريع الصناعية في الداخل، وظل الاقتصاد الوطني اقتصاداً زراعياً كسولاً، وحتى الكروم المحيطة بأوبورتو وقعت في قبضة الإنجليز الذين اشتروها بالذهب البرتغالي الذي حصلوا عليه من التجارة الإنجليزية.

وواصل المؤلفون البرتغاليون تنشيط الأدب بالأعمال. من ذلك أن فرانشسكو مانويل دي ميلو اللشبوني التحق بالأفواج الأسبانية الذاهبة إلى فلاندر بعد أن درس في كلية أنتاو اليسوعية، وخاض معارك عدة كتبت له فيها الحياة، وقاتل في صف ملك أسبانيا في التمرد القتلوني وألف تاريخاً له (تاريخ حرب قتلونيا) في كتاب من عيون الأدب الكثيرة التي أسهم بها البرتغاليون في الأدب الأسباني. فلما أعلنت البرتغال تحررها من ربقة أسبانيا عرض خدماته على يوحنا الرابع، ولقي عرضه ترحيباً، وجهز أسطولاً برتغالياً وتولى قيادته، ثم وقع في غرام كونتيسة فيللانوفا الساحرة، فقبض عليه بإيعاز من زوجها، وقضى تسع سنين في السجن. فلما أطلق سراحه شريطة أن ينفى إلى البرازيل، ذهب ليعيش في باهيا (بايا)، حيث كتب Apologos dialogaes. وسمح له بالعودة في 1659. فأصدر في السنين السبع الباقية في أجله مؤلفات في الأخلاق والأدب، وبعض الشعر، وتمثيلية سبق بها موضوع وفكاهة تمثيلية موليير "البورجوازي مدعي النبل". ومع أنه كتب بالأسبانية، فإن البرتغال تحسبه بحق ابناً من ألمع أبنائها.

وكاتب آخر هو أنطونيو فييرا، الذي ولد في لشبونة (1608)، وأخذ في طفولته إلى البرازيل، وتلقى العلم على يد اليسوعيين في باهيا، وانضم إلى طريقتهم، وأدهش الناس جميعاً حين اقترح في مواعظ وكتيبات بليغة على الحكومة أن تمارس المسيحية. فلما بعث في مهمة إلى البرتغال (1641) أثر في يوحنا الرابع بنزاهة خلقه وتنوع مواهبه تأثيراً حدا به إلى تعيينه عضواً في المجلس الملكي، وهناك شارل بنصيب غير صغير في التخطيط للانتصارات التي ردت لوطنه استقلاله. ثم هز الأفكار الراسخة بالمطالبة بإصلاح ديوان التفتيش، وفرض الضرائب على جميع الناس دون اعتبار للطبقة، والسماح لليهود بدخول البرتغال، وإلغاء التمييز بين "المسيحيين القدامى" و "المسيحيين الجدد" (أي اليهود الذين اعتنقوا المسيحية). وكان مثالاً، من أمثلة كبيرة، على حيوية اليسوعيين وتعدد قدراتهم ونزعتهم التحررية المتكررة الظهور.

فلما عاد إلى البرازيل (1652)، أرسل مبعوثاً إلى مارانهاو، ولكن نقده الصارم لهمجية سادة العبيد وأخلاقهم حملهم على السعي حتى نفي إلى البرتغال (1654). ودافع أمام الملك عن قضية الهنود المظلومين، وحصل على شيء من التخفيف عنهم. فلما عاد إلى أمريكا الجنوبية (1655)، أنفق ست سنوات كان فيها "رسول البرازيل"، يقطع مئات الأميال على الأمازون وروافده، ويخاطر بحياته كل يوم بين القبائل المتوحشة وأهوال الطبيعة، ويعلم الوطنيين فنون الحضارة، ويدافع عنهم ضد سادتهم في شجاعة حملت هؤلاء أيضاً على الحصول على أمر بنقله إلى البرتغال (1661). وهناك قبض عليه ديوان التفتيش متهماً إياه بأن كتاباته تحتوي على هرطقات خطرة وتطرفات تستحق الإدانة (1665). وهالته الأحوال في سجون الديوان-إذ رأى خمسة رجال محشورين في زنزانة عرضها تسعة أقدام وطولها أحد عشر، لا يدخلها الضوء الطبيعي إلا من شق في السقف، ولا تغير فيها الأواني إلا مرة في الأسبوع(49). وأطلق سراحه بعد سنتين، ولكنه منع من الكتابة أو الوعظ أو التعليم. فذهب إلى روما (1669)، وهناك رحب به كلمنت العاشر وكرمه، واستهوى الكرادلة والعامة بفصاحته. وعبثاً التمست منه كرستينا ملكة السويد السابقة أن يكون مرشدها الروحي. وقد عرض على البابا اتهاماً مفصلاً لديوان التفتيش باعتباره وصمة على جبين الكنيسة ونكبة على رفاهية البرتغال. وأمر كلمنت بأن تحال إلى روما كل القضايا المعروضة على ديوان التفتيش البرتغالي، وعطل إنوسنت الحادي عشر تلك الهيئة خمس سنوات. وأحس فييرا بوحشة للهنود رغم انتصاراته، فأبحر مرة أخرى إلى البرازيل (1681)، وجاهد هناك معلماً ومرسلاً رسولياً حتى أدركته الوفاة وهو في التاسعة والثمانين. وتحتوي مؤلفاته التي يضمها سبعة وعشرون مجلداً، على الكثير من الألغاز الغيبية، ولكن عظاته التي قورنت بعظات بوسوية، وضعته في صف "فحول اللغة البرتغالية(50)"، وخدماته وطنياً ومصلحاً حملت الشاعر البروتستنتي صدى على أن يسلكه في عداد أعظم ساسة وطنه وزمانه(51).


انهيار أسبانيا 1665-1700

كانت أسبانيا في 1665 لا تزال أعظم الإمبراطوريات في العالم المسيحي. حكمت الأراضي المنخفضة الجنوبية، وسردانيا، وصقلية، ومملكة نابلي، ودوقية ميلان، ومساحات شاسعة في أمريكا الشمالية والجنوبية. ولكنها كانت قد فقدت القوة البحرية والحربية اللازمة للسيطرة على تجارة هذا الملك المبعثر ومصيره. وكانت أساطيلها الثمينة قد دمرها الإنجليز (1588) والهولنديون (1639)، وهزمت جيوشها هزائم فاصلة في روكروا (1643) ولينز (1648)، واعترف دبلوماسيوها في صلح البرانس (1659) بانتصار فرنسا، وكان اقتصادها يعتمد على تدفق الذهب والفضة من أمريكا، وهذا التدفق كان يقطعه المرة بعد المرة الأسطول الهولندي أو الإنجليزي. وتقلصت تجارتها وصناعاتها لاعتمادها على الذهب الأجنبي واحتقار شعبها للمتاجرة. وكان الكثير من التجارة الأسبانية يحمل في سفن أجنبية. ونقص عدد السفن الأسبانية العاملة بين أسبانيا وأمريكا 75% في عام 1700 عنه في عام 1600. وكانت البضائع المصنوعة تستورد من إنجلترا وهولندا، ويدفع ثمن جزء منها فقط بتصدير النبيذ أو الزيت أو الحديد أو الصوف، والباقي يدفع سبائك ذهبية، ومعنى ذلك أن الذهب الأمريكي إنما كان يمر مروراً بأسبانيا والبرتغال في طريقه إلى إنجلترا وفرنسا والأقاليم المتحدة. وكانت قرطبة وبلنسية في حالة اضمحلال واع برم بعد شهرتها الماضية بحرفها. وكان طرد المغاربة قد آذى الزراعة، وغش العملة المرة بعد المرة أربك المالية. وبلغت حال الطرق من السوء وحال النقل من التخلف مبلغاً وجدت معه المدن القريبة من البحر، أو الواقعة على أنهار صالحة للملاحة، أنه أرخص لها أن تستورد البضائع، حتى الغلال، من الخارج عن أن تجلبها من مصادرها في أسبانيا. وحاولت الضرائب الباهظة، بما فيها ضريبة بيع ارتفعت إلى 14%، أن تمول حروب أسبانيا ضد أعداء استعصت هزيمتهم إلى حد لا يصدق، رغم الافتراض بأنهم ملعونون من الله. وهبط مستوى المعيشة هبوطاً حمل أعداداً لا تحصى من الأسبان على هجر مزارعهم ومتاجرهم وأخيراً وطنهم. وارتفعت وفيات الأطفال، ويبدو أنه كان هناك بعض التحديد الماكر لعدد أفراد الأسرة. فقد أصبح آلاف الرجال والنساء رهباناً عقيمين أو راهبات وانطلقت آلاف أخرى للمغامرة في أراض نائية. وفقدت إشبيلية، وطليطلة، وبرجوس، وسقوبية بعض سكانها. وهبط سكان مدريد في القرن السابع عشر من 400.000 إلى 200.000(52) لقد كانت أسبانيا تموت من مرض الذهب.

وفي وسط الفقر المنتشر المتكاتف كدست الطبقات العليا ثروتها وعرضتها على الأنظار. وأمسك النبلاء، الذين طال إثراؤهم باستغلال الأهالي أو بالكنوز المستوردة، عن استثمار ثروتهم في الصناعة أو التجارة، وراحوا يبهرون أبصار بعضهم البعض بالجواهر والمعدن النفيس، وبالملاهي الغالية والأثاث الفخم. من ذلك أن دوق ألفا كان يملك 7.200 من صحاف الفضة و9.600 من الآنية الفضية الأخرى، وأن أمير ستليانو صنع لزوجته محفة من الذهب والمرجان بلغ ثقلها حداً لم يسمح باستعمالها. كذلك احتفظت الكنيسة بغناها، واستكثرت منه(53)، وسط الفاقة المحيطة بها. ورأى رئيس أساقفة سنتياجو أن يبني كنيسة كاملة من الفضة، فلما ثنوه عن ذلك بناها كلها بالرخام(54). لقد كان دم الشعب تربة الثروة ومجد الله.

أما ديوان التفتيش فكان على عهدنا به من شدة البأس، بل أشد بأساً من الحكومة. وقلت الاحتفالات التي يصدر فيها الحكم بالموت على المهرطقين عن ذي قبل، لا لشيء إلا لأن الهرطقة كانت قد أبيدت حرقاً. وكانت القيود التي أعجزت الكاثوليك في إنجلترا لا تقاس بما يلقاه البروتستنت من أخطار في أسبانيا. وعجز كرومويل عن حماية التجار الإنجليز هناك. وقبض ديوان التفتيش في 1691 على الخادم البروتستنتي للسفير الإنجليزي، وفي تلك السنة نبش الشعب جثة القسيس الأنجليكاني الخاص بالسفير ومثل بها تمثيلاً. واستمر حرق اليهود المنتصرين الذين اتهموا بأنهم يضمرون يهوديتهم. وبنى ديوان التفتيش لنفسه في ميورقه قصراً جميلاً من الثروة التي صادرها في تحقيق واحد(55). وكانت الجماهير تؤيد بحرارة هذه المحرقات وإن حاول كثير من النبلاء تثبيطها. فلما أعرب شارل الثاني في 1680 عن رغبته في أن يشهد احتفالاً بحرق المهرطقين، تطوع صناع مدريد بأن يبنوا مدرجاً للمشهد المقدس، وفي أثناء قيامهم بالعمل كانوا يشجعون بعضهم بعضاً على الإسراع والاجتهاد بألوان من الحض الديني، لقد كان حقاً جهداً من جهود المحبة. وحضر شارل وعروسه الشابة في كل أبهة الملك، وحوكم 120 سجيناً، وأحرق واحد وعشرون حتى الموت في مرجل في الميدان الكبير، وكان هذا أعظم وأفخم احتفال بحرق المهرطقين في تاريخ أسبانيا، ونشر كتاب من 308 صفحة يصف الحدث ويخلد ذكراه(56). وفي 1696 عين شارل "هيئة كبرى" لفحص مفاسد ديوان التفتيش، فقدمت تقريراً أماط اللثام عن شرور كثيرة وأدانها، ولكن الرئيس العام للديوان أقنع الملك بأن يلقي بهذا "الاتهام الرهيب" في زوايا النسيان. فلما طلبه فليب الخامس في 1701 لم يعثر على نسخة منه(57). على أن الدين خفف من غلوائه بعد ذلك وقلل من حرائقه.

أما الكنيسة فقد حاولت أن تفتدي ثروتها وتدعم الإيمان بتمويلها للفن. ففي 1677 صمم فرانشسكو دي هيريرا ايلموزو كتدرائية سرقسطة الثانية التي سميت "ديل بيلار" لأنها تفاخر بعمود اعتقد الناس أن العذراء نزلت عليه من السماء. وجاءت العمارة الباروكية الآن إلى أسبانيا، وبين عشية وضحاها تحول المزاج الأسباني من الاكتئاب القوطي إلى الإسراف الزخرفي. وأشهر المعماريين هنا خوزي شوريجويرا، وقد أصبح لفظ "شوريجويريسكا" حيناً علماً على الباروك الأسباني. ولد في سلمنقة عام 1665، وأبدى نشاطاً مفرطاً في العمارة والنحت وصناعة الأثاث والتصوير. فلما وفد على مدريد في الثالثة والعشرين دخل في مسابقة لتصميم نعش لجنازة الملكة ماريا لويزا، ففاز بالجائزة، وتوطدت شهرته بالبراعة الزخرفية العربية بفضل هذا البناء المختلط(58)، المؤلف من أعمدة عجيبة الشكل وكرانيش مكسرة، والمزين بالهياكل العظمية والعظام المتقاطعة والجماجم. ثم عاد غلى سلمنقة حوالي 1690، وظل يكد فيها عشر سنين، يزخرف الكتدرائية، ويبني المذبح العالي في كنيسة القديس أسطفان، والبهو الفخم في مجلس المدينة. وفي مدريد صمم قرب ختام حياته واجهة كنيسة القديس توما، ولما مات (1725) ترك استكمال البناء لولديه جيرونيمو ونيقولا، وفي أثناء اشتغالهما بهذه العمليات سقطت القبة فوق رءوس الكثير من العمال والمصلين فسحقتهم. وهاجر إلى المكسيك لون معتدل نوعاً ما من باروك شوريجويرا، وهناك أثمر بعض المباني التي تعد من أجمل ما شيد في أمريكا الشمالية.

وظل النحت تعبيراً قوياً عن الروح الأسبانية. وكان مصدر هذه القوة أحياناً واقعية شاذة، كما نراها بتفصيل دموي في رأس يوحنا المعمدان أو غيره من القديسين مقطوعي الرءوس. وكان متحف بلد الوليد يحتفظ برأسين من هذا النوع للقديس بولس(59). وظلت حجب المذبح لوناً أثيراً من ألوان الفن، فترى بيدرو رولدان ينحت الحجب الكبرى في كنيسة الأبرشية الملحقة بالكاتدرائية، وفي مستشفى دي لا كاريداد في إشبيلية، وابنته لويزا رولدانا، مثاله أسبانيا الفذة تنحت في كتدرائية قادس مجموعة تماثيل تتركز حول "نوسترا سينورا دي لاس أنجوستياس" (سيدة الأحزان). وهيمن بيدرو دي مينا على العصر بتماثيل عراياه (وما أندرها في الفن الأسباني)، وتماثيل السيدة العذراء، ومقعد المرتلين في كاتدرائية ملقا، ويعد تمثاله" سان فرانسسكو" في كاتدرائية إشبيلية من أروع أمثلة النحت الأسباني. وحوالي نهاية القرن السابع عشر أدرك هذا الفن ما أدرك غيره من تدهور عام. فأثقلت الحشوات بالزخارف، وزودت التماثيل بأجهزة آلية لتحريك الرأس والعينين والفم، وأضيف الشعر والملابس الحقيقية، واللون دائماً، في جهد للوصول إلى أبسط التصور والذوق الجماهيريين.

وولى عصر العمالقة في التصور الأسباني، ولكن بقى الكثير من صغار الأبطال. فكان خوان كارينو دي ميراندا، الذي خلف فيلا سكويز مصوراً للبلاط، محبوباً كسلفه تقريباً-رجلاً متواضعاً لطيفاً، يبلغ به الاستغراق في عمله مبلغاً ينسيه أحياناً هل أكل أو لم يأكل. وقد سرت صوره لشارل الثاني وحاشيته الملك الشاب حتى عرض عليه لقب الفروسية وصليب سنتياجو، ولكن كارينو رفض هذا التشريف لأنه رآه فوق ما يستحق. وفي تلك الأيام ابتهجت مدريد بقصة "الكنتريللو دي مييل" (برطمان العسل). وتفصيل ذلك أن فناناً مغموراً يدعى جريجوريو أوتاندي رسم لوحة للراهبات الكرمليات طلب عليها أجراً مائة دوكاتية، فاستكثرن عليه الأجر، ولكن وافقن على تحكيم كارينو. وقبل أن يسمع كارينو بالأمر، أهداه أوتاندي برطمان عسل، ورجاه في أن يضع اللمسات الأخيرة للوحة. ففعل، وتحسنت الصورة كثيراً. ودهش كارينو حين طلبت إليه الراهبات تقييمها. فرفض، ولكن فناناً ثالثاً قدرها بمائتي دوكاتية، وكتم السر حتى دفع الثمن.

وفي ختام حياته يسر كارينو سبيل النجاح لأحد خلفائه، وهو كلوديو كويللو، الذي ظل يرسم آناء الليل وأطراف النهار دون أن يحقق نتائج ذات بال. فصادقه كارينو، وحصل له على إذن بأن يدرس وينسخ أعمال تتسيانو وروبنز وفانديك في قاعات الفن الملكية. وأعانت هذه التجربة كلوديو على النضج، وفي 1684، وقبل موت كارينو بعام، عين كويللو مصوراً للملك. وقد أحرز الشهرة في وطنه بلوحته "ساجرادا فورما" أي القربانة المقدسة، التي ظهرت فيها هذه القربانة تقدم إلى شارل الثاني لوضعها على مذبح في الأسكوريال. والأسطورة التي من وراء الصورة تعبر عن مزاج أسبانيا. تقول الرواية أنه في أثناء الحرب مع الهولنديين داس بعض الكلفنيين الفجرة قطعة من خبز القربان المقدس تحت أقدامهم، وسالت من القربانة المصابة قطرات من دم، هدت للتو أحد مدنسيها إلى الكاثوليكية، وحملت القربانة التي استنقذت إلى فيينا في احترام وإجلال، وأرسلت هدية إلى فيليب الثاني، ومنذ ذلك التاريخ وهي تعرض دورياً، ملطخة بدم المسيح على العابدين الخاشعين. وصور كويللو الملك وكبار حاشيته راكعين في تعبد أمام الخبز المعجز. وظهر في الصورة نحو خمسين شخصاً، كلهم تقريباً صاحب شخصية متميزة، وقد رتبوا في منظور ذي عمق خداع للبصر بشكل ملحوظ(60). بعد هذا العمل الذي اقتضاه الفراغ منه عامين، أصبح كويللو سيد الفنانين قاطبة في العاصمة غير منازع. وبعد ست سنوات (1692) حجبه بغتة وصول لوكا فاريريستو جوردانو من إيطاليا، وكلف لوكا على الفور بالدور الأول في زخرفة الأسكوريال من جديد. وزاد لوكا الطين بلة بامتداحه صور كلوديو. وأنهى كويللو الصور التي كلف بها، ولكنه ألقى فرشاته جانباً. وبعد عام من وصول جوردانو مات كويللو وهو بعد في الحادية والخمسين، وقيل قهراً وغيرة(61).

وخلال ذلك شهدت إشبيلية ميلاد ووفاة (1630-90) آخر فنان عظيم في التصوير الأسباني قبل جويا، وهو خوان دي فالديس ليال. وكان مثل كويللو برتغالي الأبوين أسباني المولد. وبعد أن أنفق سنوات في قرطبة، رحل إلى إشبيلية ليتحدى تفوق موريللو. وكان فيه من الكبرياء ما لم يسمح له بأن يقدم لرعاته الجمال الناعم لعذارى (مادونات) محتشمات. وقد صور العذراء في صعودها، ولكنه وضع قلبه وقوته في صور أخرى لا تعرف هوادة في الغض من لذات الحياة والإيماء إلى الموت الذي لا مهرب منه. فرسم القديس أنطونيوس يتولى في هلع عن فتنة النساء(62). وصورت لوحته "آن أكتو أوكولي" (أي في طرفة عين) الموت هيكلاً عظمياً يطفئ شمعة الحياة التي يكشف ضوءها القصير الأجل، في فوضى اختلطت على أرض الحجرة، عدة الأطماع الدنيوية ومجد العالم-الكتب، والسلاح، وتاج أسقف، وتاج ملك، وسلسلة لطائفة "الفروة الذهبية". وفي صورة مغايرة تدور حول هذه الفكرة أرانا ليال حفرة مقبرة تبعثرت فيها الجثث والهياكل والجماجم، ومن فوقها كلها يد جميلة تمسك بميزان تحتوي إحدى كفتيه على شعارات فارس، والأخرى على شارات أسقف، والكفة الأولى كتب عليها "نيماس" أي لا أكثر، والثانية "نيمينوس" أي لا أقل-فرجال الدنيا ورجال الدين على السواء وجدوا ناقصين في موازين الله. ورأى موريللو أول الصورتين، فقال لفالديس "إنها أيها الزميل صورة لا يستطيع المرء أن ينظر إليها دون أن يمسك بأنفه(63)"-وهي عبارة يمكن أن تفسر بأنها ثناء على واقعية المصور، أو رد فعل عقل سليم للفن المنحط.

ذلك أن الانحطاط كان سمة للعهد، فلم يشرفه أديب عظيم، ولم تعرض على مسرحه تمثيلية فذة. أما الجامعات فكانت تنزوي وسط الخراب والظلامية السائدين، ففي جامعة سلمنقة هبط عدد الطلاب في هذه الفترة من 7.800 إلى 2.076(64). وجاهد ديوان التفتيش وقائمة الكتب المحرمة بنجاح ليقصيا عن أسبانيا كل أدب يسيء إلى الكنيسة، وظلت أسبانيا طوال قرن توصد أبوابها كأنها صومعة عابد في وجه حركات الذهن الأوربي. وتربع الانحطاط بشخصه على عرش الملك رمزاً للعهد.

وبيان ذلك أن شارل الثاني أصبح ملكاً وهو بعد في الرابعة (1665) وفي سني حداثته كانت أمه الملكة ماريانا تحكم البلاد اسماً، أما حاكمها الفعلي فكان كاهن اعترافها اليسوعي يوهانز ابرهارد نيذارد، ثم عشيقها فرناندو فالنزويلا. وتفاقمت الفوضى، وكانت الوزارة الكفء التي تولاها دون خوان نمساوي آخر، أقصر أجلاً من أن توقف الانحلال. وفي 1677 تقلد الملك ذو الستة عشر عاماً الحكم وجلس عاجزاً على قمة هذا الصرح المنهار. ولعل التزاوج المتصل بين أفراده أسرة هابسبورج أسهم في ضعف بدنه وعقله. وكانت الذقن الهابسبورجية في شارل بارزة بروزاً أعجزه عن مضغ طعامه، ولسانه من الكبر بحيث لم يكد كلامه يفهم. وظل إلى العاشرة يعامل كأنه طفل يحمل بين الذراعين. وكان لا يكاد يستطيع القراءة، ولم يتلق من التعليم إلا القليل، وكان أعز ميراثه خرافات مذهبه وأساطيره. ويصف مؤرخ أسباني كبير بأنه "عليل، أبله شديد التعلق بالخرافات"، وكان "يعتقد أنه ممسوس، وكان ألعوبة لأطماع كل من أحاطوا به(65)". وقد تزوج مرتين، ولكن "كان من المعروف للجميع أنه لا يستطيع توقع الخلف(66)". هذا القصير الأعرج، المصروع، الخرف، المصلع تماماً قبل أن يبلغ الخامسة والثلاثين، كان دائماً على شفا الموت، ولكنه حير العالم المسيحي المرة بعد المرة ببقائه على قيد الحياة.

وأصبح تفكك أوصال أسبانيا الآن مأساة أوربية. فقد ازدادت الحكومة اقتراباً من الإفلاس برغم الضرائب والتضخم واستغلال المناجم الأمريكية حتى عجزت عن دفع فوائد دينها، وحتى المائدة الملكية اضطرت إلى التقتير في خدمة الملك. أما البيروقراطية الإدارية التي قلت رواتبها فكانت فاسدة متراخية. واستبد الفقر بالناس حتى كانوا يقتتلون للحصول على الخبز، وسطت عصابات من الجياع على البيوت لتسرع وتقتل، وكان عشرون ألف شحاذ يجوبون شوارع مدريد. أما رجال الشرطة العاجزون عن الحصول على رواتبهم فقد تشتتوا وانضموا إلى المجرمين.

ووسط الفوضى والقلق والخراب واجه الملك المسكين، الكسيح، نصف المعتوه، الشاعر بدنو أجله، في حيرة وتذبذب، مشكلة الفصل في وراثة عرشه. وإذ كان سلطانه من الناحية النظرية مطلقاً، فإن سطراً واحداً بخطه كان يكفي للتوصية بإمبراطوريته التي تمتد رقعتها في أربع قارات، أما للنمسا وأما لفرنسا. وانتصرت أمه للنمسا، ولكن شارل كان يكره تآمرها كما يكره جشع زوجته الألمانية الخبيث. وذكره السفير الفرنسي بأنه ما دام صداق عروس لويس الرابع عشر الأسبانية لم يدفع بعد، فإن تنازلها عن الوراثة قد بطل، وكان لويس يلح مطالباً بحقوقها، ويملك القوة لفرض مطلبه. فلو أن شارل داس هذه الحقوق لاشتعلت أوربا بنيران الحرب، وربما تمزقت أسبانيا إرباً في هذا الصراع. وانهار شارل تحت وطأة اتخاذ القرار، وبكى واشتكى من أن ساحرة قد ابتلته بخطوب لا قبل له بتحملها. وبينما كان يستمع إلى الحجج التي زادته اختلاطاً حاصر مثيرو الشغب قصره صائحين في طلب الخبز.

وفي سبتمبر 1700 لزم شارل فراش الموت وكسب الحزب الفرنسي، وهو أحد الأحزاب التي أحاطت به، رئيس أساقفة طليطلة-وكان كبير أساقفة أسبانيا-إلى صفه، وقد لازم الملك المحتضر ليل نهار، وذكره بأن لويس الرابع عشر وحده يملك من القوة ما يتيح له الحفاظ على الإمبراطورية الأسبانية سليمة واستخدامها معقلاً للكنيسة الكاثوليكية. ونصح البابا إنوسنت الثاني عشر شارل بتفضيل فرنسا، وذلك تحت إلحاح لويس. وخيراً أذعن شارل، ووقع الوصية المشئومة التي خلف فيها كل ممتلكاته لفيليب دوق أنجو، حفيد ملك فرنسا (3 أكتوبر 1700). وفي أول نوفمبر مات شارل، غير متجاوز التاسعة والثلاثين، وكأنه شيخ في الثمانين. وهكذا كانت خاتمة فرع الهابسبورج الأسباني في غروب شاعت فيه حمرة الحرب الداهمة.