قصة الحضارة - ول ديورانت - م 8 ك 3 ف 13

صفحة رقم : 11077

قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> محيط القارة -> بطرس الأكبر -> الهمجي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث عشر: بطرس الأكبر 1689-1725

1- الهمجي

أراد فولتير "ما الخطوات التي انتقل بها الناس من الهمجية إلى المدنية(1)" فلا عجب إذن إن أثار بطرس اهتمامه، لأنه كان يجسد على الأقل ذلك الجهد، إن لم يكن تلك العملية، في بدنه وروحه وشعبه. أو استمع إلى ملك "أكبر" آخر، هو فردريك الثاني ملك بروسيا، يكتب إلى فولتير عن بطرس في شيء من الخلط: "لقد كان الملك الوحيد المتعلم حقاً. وإن لم يكن مشرع وطنه فحسب، بل كان يفهم جميع العلوم البحرية فهماً تاماً. وكان معمارياً، ومشرحاً، وجراحاً... وجندياً خبيراً، واقتصادياً بارعاً.. .. ولم يعوزه إلا تعليم أقل همجية وضراوة(2) ليكون المثل لجميع الملوك".

ولقد لاحظنا ذلك التعليم الهمجي الضاري، وما اكتنف طفولة بطرس من عنف وسفك للدماء، مما هز جهازه العصبي وعوده الشراسة. وكان حتى في شبابه يعاني من تقلص عصبي لا إرادي في عضلاته ربما استفحل بعد ذلك بالإفراط في الخمر وبالمرض السري(3). كتب بيرنيت بعد أن زاره بإنجلترة في 1698(4) يقول: "إنه عرضة لتشنجات تصيب بدنه كله". وقال روسي من أهل القرن الثامن عشر "من المشهور أن هذا الملك... كان عرضة لنوبات مخية قصيرة متكررة من نوع عنيف بعض الشيء. وكان ضرب من التشنج يعتريه، يحدث به في فترة قد تمتد ساعات حالة من الاكتئاب تجعله لا يطيق النظر إلى إنسان ولو كان أقرب إلى أصحابه. وكان يسبق هذه النوبة دائماً التواء شديد في العنق نحو الجانب الأيسر، وتقلص عنيف في عضلات الوجه(5)". ومع ذلك كان متين البناء قوي البدن. وروي أنه حين التقى بأوغسطس الثاني تباريا في ثني الأطباق الفضية في أيديهما. وقد صوره نيلر عام 1698 شاباً يتقلد السلاح وشعارات الملك، غاية في اللطف والبراءة، بعد ذلك نجده مصوراً تصويراً أكثر واقعية، فهو عملاق محدودب، طوله ستة أقدام وثماني بوصات ونصف، ذو وجه تام الاستدارة، وعينين واسعتين وأنف كبير، وشعر بني يتساقط في خصل لا تقص إلا نادراً. ولا تكاد نظرته الآمرة الناهية تنسجم وثوبه المهمل المهوش، وجواربه الخشنة المرفوة، وحذاءه المرقع ترقيعاً بدائياً. ومع أنه نظم أمة بأسرها إلا أنه كان يترك محيطة المباشر في فوضى أينما ذهب. ذلك أن الجهود الكبيرة استغرقته استغراقاً ضن معه على التوافه بأي وقت.

وأما عادته فكانت كلباسه لا تعمل فيها ولا تأنق حتى لتحسبه فلاحاً لا ملكاً-لولا أنه كان خلواً من صبر الفلاحين الروس المتلبد. بل لقد كانت عاداته أحياناً أسوأ من عادات الفلاحين لأنه لم يكبحه خوف من سيد أو خشية من قانون. مرة رأى تمثالاً لآلة الذكر في مجموعة عاديات ببرلين، فأمر زوجته أن تقبله، فلما رفضت كاترين هددها بضرب عنقها، ولكنها أصرت على الرفض، ولم يهدئ من ثائرته إلا تقديم التحفة هدية له ليزين بها حجرته الخاصة(6). وكان في أحاديثه ورسائله يبيح لنفسه استعمال أنكر الألفاظ وأفحشها. وكثيراً ما كان يعنف أخص أصدقائه بضربات من قبضته الهائلة، ومرة ضرب منشيكوف على أنفه فأسال دمه، ومرة ركل ليفور. وكان ولعه بـ "المقالب" يتخذ أحياناً صوراً قاسية، من ذلك أنه ألزم أحد مساعديه بأن يأكل السلاحف، وآخر بأن يشرب قارورة كاملة من الخل، وفتيات صغيرات بأن يبتلعن حصة جندي من البراندي. وكان يجد لذة شاذة في تطبيب الإنسان، وكان على المقربين منه أن يحذروا من أن تبدر منهم أقل شكوى من ألم في أسنانهم، فكلابته دائماً في متناوله. ولما شكا إليه تابعه من أن زوجته تحتج بألم مزعوم في ضرسها لتحرمه من متع الزواج، أرسل في طلبها، وخلع لها ضرساً سليماً، وقال لها أن تنتظر المزيد إذا ظلت عزباء(7).

ولقد جاوزت قسوته الفاجرة النقطة التي يمكن أن يعتذر عنها بأنها طبيعية أو ضرورية في زمانه أو مكانه. حقاً لقد ألف الروس القسوة، ولعلهم كانوا أقل حساسية للألم من ذوي الأعصاب الأكثر رهافة، وربما كانوا في حاجة إلى تأديب صارم، بيد أن قيام بطرس شخصياً تقريباً بذبح حامية موسكو يوحي بلذة سادية بالقسوة، وشبق للدماء، وما كان هناك ضرورة من ضرورات الدولة تقتضي تقطيع اثنين من المتآمرين شرائح حتى يموتا(8). لقد كان في بطرس مناعة ضد الرحمة أو الحنان، وأعوزه ذلك الإحساس بالعدالة الذي كبح نزوات لويس الرابع عشر أو فردريك الأكبر. أما انتهاكاته لوعوده القاطعة فكانت تنسجم تماماً وسنة العصر.

وكان يرى ككل فلاح روسي أن السكر استعفاء معقول من واقع الحياة. فلقد اضطلع بكل أعباء الدولة، وبمهمة أخطر بكثير هي مهمة تحويل شعب شرقي إلى الحضارة الغربية، ومن ثم بدا الشراب والقصف مع أصحابه تخففاً يستحقه. وكان يتقبل من كل قلبه حكمة الفلاحين التي تزعم أن الشراب فرحة الروسي. وكان مما يقيس به قدر الرجل قدرته على احتمال الشراب. وحين كان في باريس راهن على أن كاهن اعترافه يستطيع أن يشرب أكثر، ويظل أثبت جناناً، من الكاهن أمين سر الوزارة الفرنسية، ومضت المباراة ساعة، فلما تدحرج الأب الفرنسي تحت المائدة ضم بطرس كاهنه إليه لأنه "أنقذ شرف روسيا(9)". وحوالي عام 1690 ألف بطرس وخلصاؤه فرقة سموها "جماعة المخمورين من الحمقى والمهرجين"" (السوبور). وانتخب الأمير فيودور رومودانوفسكي قيصراً للسوبور، وقبل بطرس منصباً أدنى (كما فعل في الجيش والبحرية)، وكثيراً ما كان في الحياة الواقعية يتظاهر بأن رومودانوفسكي هو قيصر روسيا. وكان "سوبور" السكارى هذا مكرساً رسمياً لعبادة باخوس وفينوس، وكانت له شعائر معقدة، تقلد في سوقية وفحش شعائر الكنيستين الأرثوذكسية الروسية والكاثوليكية الرومانية، والكثير من هذه الشعائر الساخرة كان من وضع بطرس نفسه. وشارك السوبور في كثير من احتفالات الدولة الرسمية. فلما تزوج بطريركه الهزلي نيكيتا زاتوف، البالغ من العمر أربعة وثمانين عاماً، عروساً في الستين، صمم بطرس وأدار احتفالاً بذيئاً مزيناً (1715)، يشارك فيه نبلاء البلاط ونبيلاته جنباً إلى جنب مع الدببة والغزلان والتيوس، ويعزف السفراء على الناي أو الأرغن اليدوي، ويدق بطرس على الطبل(10).

كان حبه للفكاهة صخاباً لا يعرف القيود، وكثيراً ما أسف حتى استحال تهريجاً. وكان بلاطه يعج بالمهرجين والأقزام الذين كانوا عنصراً لا غنى عنه لكل احتفال. وذات مرة ركب القيصر، الذي ناهز سبعة أقدام طولاً وراح يلعب دور جليفر أمام الليليبوتيين، في موكب على رأس أربعة وعشرين قزماً راكبين. وكان يقتني في فترة من الفترات اثنين وسبعين قزماً في بلاطه، ويقدم بعضهم على المائدة في فطائر هائلة الحجم. كذلك كان عنده عمالقة، ولكن أكثرهم أرسلوا هدية لفردريك وليم ملك بروسيا لينخرطوا في جيش عمالقته "المسلات". وقد أهدى إلى بطرس عدة زنوج وكان يقدرهم تقديراً كبيراً، وبعث بعضهم إلى باريس ليتعلموا، وأصبح أحدهم قائداً روسياً، وهو الجد الأكبر للشاعر بوشكين.

إلى الآن صورنا بطرس رجلاً ما زالت تغلب عليه الفطرة الهمجية، رجلاً من طراز ايفان الرهيب ولكنه مرح، تواقاً إلى التحضر ولكنه يحسد الغرب-لا على لطائفة وفنونه بل على جيوشه وأساطيله، وعلى تجارته وصناعته وثروته. وكانت فضائله موجهة إلى هذه الغايات باعتبارها مقومات الحضارة. ومن هنا فضوله الذي لا يشيع. فهو يريد أن يعرف عن كل شيء كيف يسير، ثم كيف السبيل إلى تسييره سيراً أفضل. وقد أضنى مساعديه أثناء رحلاته بالجري هنا وهناك ليرى هذا وذاك حتى أثناء الليل. كان في غمرة من أفكاره، فأذهب بذلك ليبنتز، الذي كان في غمرة أخرى من أفكاره، ولكن أفكار بطرس كانت نفعية لا خفاء فيها. فقد كان له عقل مفتوح لأي شيء قد يعين وطنه على اللحاق بالغرب. وفي وسط أمة متدينة تديناً عابساً، معادية بتعصب للعقائد الغربية ولأساليب الحياة الدخيلة، كان مبرأ من التحيز كأنه الطفل أو الحكيم، يجرب الكاثوليكية، والبروتستنتية، وحتى الإلحاد. كان مقلداً أكثر منه مبتكراً، نقل الأفكار المجلوبة أكثر مما تصورها، ولكن في محاولته لرفع أمه إلى مستوى المنافسة مع الغرب، كان من الأحكم أن تستوعب هذه الأمة خير ما يستطيع الغرب تعليمه أولاً، ثم تحاول التفوق عليه. إن المحاكاة لم تكن قط بمثل هذه الأصالة.

وقد رفعه تفانيه الدءوب في سبيل هذا الهدف من الهمجية إلى العظمة. وإذا كان قد سخر وأفنى ملايين الروس لتحقيق غاياته فإنه أفنى نفسه أيضاً في محاولته إعطاء روسيا جيشاً عصرياً، وحكومة أكفأ، وصناعات أكثر تنوعاً وإنتاجاً، وتجارة أوسع، وثغور تستطيع أن تتصل بالعالم. كان يتوخى القصد في كل شيء إلا الحياة البشرية، التي كانت السلعة الوحيدة التي تزخر بها روسيا. وكان أول إجراء له تقريباً حين تقلد زمام الحكم أنه طرد جيش الخدم وموظفي القصر الذين غص بهم البيت المالك، وباع ثلاثة آلاف جواد من المرابط الملكية، وأطاح بثلاثمائة من الطهاة وصبيانهم، وخفض عدد الجالسين إلى مائدة الملك حتى في الأعياد إلى ستة عشر على الأكثر، واستغنى عن الاستقبالات والمراقص الرسمية، وحول إلى الدولة المبالغ التي كانت إلى ذلك الحين مخصصة لهذه الكماليات. وكان أبوه ألكسيس قد خلف له من الممتلكات الشخصية 10.734 ديسياتيناً (28.982 فداناً) من الأرض المزروعة وخمسين ألف بيت، تغل ريعاً قدره 200.000 روبل في العام. فنزل بطرس عن هذا كله تقريباً لخزانة الدولة، ولم يحتفظ لنفسه إلا بالميراث القديم لأسرة رومانوف-وهو ثمانمائة "نفس" في إقليم نوفجورود. وعلى عكس لويس الرابع عشر، خفض أعظم قيصر تبوأ عرش روسيا حاشيته في الواقع إلى بضعة أصدقاء، مع احتفال بين الحين والحين، غير رسمي وأحياناً صاخب، ليضفي بعض الحيوية على جو موسكو الرتيب. وكثيراً ما استحال اقتصاده شحاً شديداً. فكان يبخس موظفي قصره أجورهم، ويقتر في حساب نفقة القصر اليومية من الطعام، ولا يدعو أصدقاءه لغداء أو عشاء بل لرحلات خلوية يدفع فيها كل منهم نصيبه، ولما اشتكت البغايا اللاتي يرفهن عنه من ضآلة أتعابهن أجاب بأنه ينقدهن قدر ما ينقد رامي القنابل اليدوية، وهو رجل تفوق خدماته خدماتهن قيمة.

أما النساء فكن أحداثاً عارضة قليلة الخطر في حياته باستثناء واحد. ذلك أنه لم يكن مرهف الحس بالجمال. نعم كانت له حاجات جنسية، ولكنه أشبعها دون احتفال. ولم يكن يحب أن ينام وحيداً، ولكن لا شأن لهذا بالجنس، وكان أحد الخدم يقاسمه فراشه عادة، ولعله كان يحتاج إلى شخص قريب منه إذا دهمته تشنجاته في الليل. وحين بلغ السابعة عشرة، ورغبة في تهدئة أمه، تزوج يودوكسيا لوبوخينا، التي وصفت بأنها "جميلة غبية"، فلما وجد إحدى الصفتين أكثر دواماً من الأخرى أهملها، وعاد غلى أصحابه ومراكبه. واتخذ سلسلة من الخليلات العابرات، كن في الكثير الغالب وضيعات الأصل رقيقات الحال. ومرة كان فردريك الثاني ملك الدنمرك يمزح معه في أمر اتخاذه محظية فأجابه بطرس "يا أخي، إن عاهراتي لا يكلفنني الكثير، أما عاهراتك فيكلفنك آلاف الكراونات التي لا تستطيع أن تنفقها في وجوه أفضل(11)". وقد عمل ليفور ومينشيكوف قوادين له، ونزل مينشيكوف عن خليلته لتكون زوجة بطرس الثانية. ولا بد أن هذه المرأة أوتيت قدرة فذة رفعتها-كما رفعت تيودورا خليلة جستنيان من قبل-إلى عرش الإمبراطورية بعد أن كانت مومساً.

أمام هذه المرأة، التي ستصبح كاترين الأولى، فقد ولدت حوالي 1685 بليفونياً من أسرة وضيعة. ولما تيتمت رباها الراعي اللوثري جلوك خادمة في مارينبورج، وعلمها مبادئ المسيحية ولكنه لم يعلمها الأبجدية، ولم تتعلم القراءة قط. وفي 1702 حاصر جيش روسي يقوده شيريميتيف مارينبورج. فلما يئس قائد الحامية من الدفاع قرر أن ينسف القلعة وهو فيها. ونمى غلى القس جلوك ما نوى القائد، فأخذ أسرته وخادمته وفر إلى المعسكر الروسي. فأرسل إلى موسكو، ولكن كاترين أبقيت لترفه عن الجنود. وارتقت منهم إلى شيريميتيف، فمينشيكوف، فبطرس. في تلك الحروب والأخطار كان على المرأة الفقيرة أن تتلطف لتأكل. ويبدو أن كاترين ظلت حيناً تخدم كلاً من مينشيكوف والقيصر. وقد أحباها لأنها كانت نظيفة، بشوشة، لطيفة، متفهمة، فهي مثلاً لم تصر على أن تكون الخليلة الوحيدة، ووجد بطرس فيها ترفيهاً مرحاً بعد ضجيج السياسة أو الحرب وغضبات المحظيات الغيورات. ورافقته في حملاته، وعاشت عيشة الجنود، وقصت شعرها، وافترشت الأرض، ولم تجفل حين رأت الرجال يصرعهم الرصاص إلى جوارها. فإذا دهمت بطرس إحدى نوبات تشنجه وخاف الجميع أن يلمسوه، كانت تتحدث إليه ملاطفة، وتربته، وتهدئ روعه، وتدعه ينام ورأسه على صدرها. وإذا افترقا كتب إلى "كاترينوشكا" حبيبته رسائل تفيض حناناً معابثاً ولكنه مخلص. ثم غدت ضرورة لا غنى له عنها. ولم يحل عام 1710 حتى كانت زوجته في كل شيء إلا شرعاً. وولدت له عدة أطفال. وفي 1711 عاونت على إنقاذه في البروث. وفي 1712 اعترف بها زوجة له علانية. وفي 1722 توجها إمبراطورة.

وكان تأثيرها عليه طبيباً من نواح كثيرة. فهذه الصبية الفلاحة هذبت من طباع ذلك الملك الفظ. لقد حدت من ولعه بالمسكر، وفي عدة مناسبات كانت تدخل الحجرة التي يعاقر فيها الخمر ويقصف مع أصحابه وتأمره بهدوء قائلة: "عد إلى البيت أيها الأب الصغير" فيطيعها. وكانت تغض عن مغازلاته بعد الزواج. ولم تبذل محاولة للتأثير عليه في مجرى السياسة، ولكنها حرصت على أن يدبر القيصر أمر مستقبلها، ومستقبل أقربائها، وأصدقائها. وتغلبت على الاستياء العام من جراء رفعها من أصلها الوضيع بسلوكها مسلك ملاك الرحمة، ففي حالات عديدة أنقذت أشخاصاً من العقوبات التي أراد بطرس أن ينزلها بهم، فإذا أصر على الصرامة كان عليه أن يخفي الأمر عنها. وقد استغلت سلطانها عليه ببيع وساطتها، وبهذه الطريقة جمعت ثروة في الخفاء، استثمرت بعضها بحكم تحت أسماء مستعارة في همبورج أو أمستردام. فهل نلومها لأنها نشدت شيئاً من الضمان في زمن كل شيء في رهن بنزوة رجل واحد، وكل روسيا فيه في تقلب وتغير؟.


2- الثورة البطرسية

ورث بطرس السلطة المطلقة، وتقبلها قضية مسلمة، ولم يتطرق إليه شك في ضرورتها. فالحكم بمجلس تشريعي (دوماً) من النبلاء (البويار) سيعيد الانفصالية الإقطاعية والفوضى القومية أو الركود، والحكم بمجلس ديمقراطي مستحيل في بلد ما زال بدائياً من الناحيتين الفكرية والخلقية، ووافق بطرس كرومويل ولويس الرابع عشر على أن تركيز السلطة والمسئولية هو وحدة القادر على تنظيم الخليط البشري المتنافر ليؤلف منه دولة لها من القوة ما يمكنها من السيطرة على أهواء الشعب وصد هجمات الأعداء المتعطشين للأرض. ولم ينظر إلى نفسه نظرته إلى حكم مستبد بل إلى خادم للأمة ومستقبلها، وكان هذا إلى حد كبير غيماناً مخلصاً، نصف صادق على الأقل.

ولقد عمل بهمة لا تقل عن همة أبسط الفلاحين في مملكته، فكان عادة يستيقظ في الخامسة صباحاً ويكد أربع عشرة ساعة في اليوم. لا ينام أكثر من ست ساعات في الليل، ولكنه يتقيل. ومثل هذا البرنامج لم يكن بالأمر غير العملي في صيف سانت بطرسبورج، حيث النهار يبزغ في الثالثة صباحاً ويستمر إلى العاشرة مساء، أما في الشتاء فكان لا بد من مواصلة الكثير من هذا البرنامج أثناء الليل الذي يبدأ حوالي الثالثة عصراً ويستمر إلى التاسعة من صباح الغد.

وكانت سانت بطرسبورج الرمز ونقطة الارتكاز الأرخميدية لثورة لم تكن موقعاً مثالياً لعاصمة دولة نظراً لشدة قربها من الساحل، ولكنها من هذا كانت تبعد خمسة وعشرين ميلاً من البحر، في نقطة يتفرع فيها نهر نيفا إلى فرعين، وكان بطرس يأمل أن يحميها بقلعة كرونستاد التي شادها (710) على جزيرة في مدخل الخليج. أما المدينة نفسها فقد أسست في 1703 على غرار أمستردام. وإذ كان الكثير من هذا الموقع تغمره المستنقعات (وكلمة نيفا باللغة السويدية معناها الوحل) فقد بنيت سانت بطرسبورج على دعامات-أو في عبارة روسية حزينة، على عظام آلاف العمال الذين جندوا قسر لإرساء هذه الأسس وتشييد المدينة. ففي 1708 أرسل نحو 40.000 رجلاً للقيام بهذا العمل، وفي 1709 أرسل 40.000 آخرون، وفي 1711 أرسل 46.000، وفي 1713 أرسل 40.000 فوق ما سبق. وكانوا ينقدون نصف روبل في الشهر، لم يكن بد من أن يستكملوه بالتسول أو السرقة. وكان أسرى الحرب السويديون الذين استخدموا في البناء يموتون بالآلاف. وإذ لم يكن هناك عجلات يدوية، فقد كان الرجال ينقلون المواد في قفاطينهم المرفوعة. كذلك صودر الحجر، فحرم مرسوم صدر في 1714 تشييد بيوت بالحجر في أي مكان بروسيا إلا في سانت بطرسبورج، أما في المدينة نفسها فقد أمر كل شريف في البلاد بأن يبني له مسكناً من الحجر. وفعل الأشراف محتجين، إذ كرهوا مناخ المدينة ولم يشاركوا بطرس عشقة للبحر. أما بطرس فكلف بعض مهرة الصناع الهولنديين بأن يقيموا له كوخاً كالأكواخ التي رآها في زاندم، يحيطان من جذوع الشجر، وسقف من الحصباء، وحجرات صغيرة. وكان يكره القصور، ولكنه سمح ببناء ثلاثة منها للمناسبات الرسمية في بيترهوف (وهي الآن بترودفوريتس) على المشارف الجنوبية لمدينة. وقد دمر هذا "القصر الصيفي" في الحرب العالمية الثانية. وفي ضاحية قريبة تدعى تسارسكو سيلو (وهي الآن بوشكين)، شاد كوخاً صيفياً لحبيبته كاتيرينوشكا.

ولم يكن قصده أول الأمر أن يجعل سانت بطرسبورج عاصمة بالإضافة إلى كونها ميناء، فقد كانت شديدة القرب إلى عدوته السويد.

ولكنه قرر إجراء هذا التغيير بعد انتصاره على شارك الثاني عشر في بلطاوه. وكان تواقاً إلى الهرب من جو موسكو الكنسي القاتم وروحها القومية الضيقة، وأراد أن يشعر النبلاء المحافظون برياح التقدم تهب عليهم من الغرب. وعليه فقد جعلها عاصمة له في 1712. وحزن أهل موسكو، وتنبئو بأن الله مدمر عما قريب تلك المدينة نصف الوثنية. كتب بوشكين يقول: "أن موسكو أحنت رأسها أمام العاصمة الجديدة، كما تنحني أرملة الإمبراطور أمام إمبراطورة شابة(12)". لقد كان في بطرس من شدة الشوق إلى تغريب روسيا ما دفعه إلى تحويلها صوب البلطيق وكأنه يجرها إليه جراً، ثم أمرها أن تتطلع من خلال نافذته على الغرب ". وفي سبيل هذا الهدف، وفي سبيل توفير قاعدة لأسطوله وميناء للتجارة الخارجية، ضحى بكل الاعتبارات الأخرى. صحيح أن الميناء سيحيط بها الجليد خمسة أشهر في السنة، ولكنها ستواجه الغرب وتلمس البحر. وكما أن الدنيبر جعل روسيا بيزنطية، والفولجا جعلها آسيوية، فكذلك سيغريها النيفا بأن تكون أوربية(14).

وكانت الخطوة التالية بناء بحرية تحرس مسالك التجارة الروسية خلال البلطيق إلى الغرب. وحقق بطرس هذه الغاية فترة ببناء ألف سفينة كبيرة خلال حكمه، ولكنها كانت مبنية على عجل بناء سيئاً، فتلفت أخشابها، وتحطمت صواريها في الريح، وبعد موته استسلمت روسيا لقضائها الذي حكمت عليه به الجغرافيا، وهي أن تكون بلداً حبيساً في اليابس مغلقاً دون الأطلنطي، منتظراً غزو الفضاء ليقفز متجاوزاً حواجزه إلى العالم. وبهذا المعنى كانت موسكو على حق: فقوة روسيا ودفاعها كان يجب أن يكونا على اليابس، بجيوشه ورقعته الواسعة. وعليه فقد ثأرت موسكو لنفسها في 1917 وأصبحت العاصمة من جديد.

أما أعظم إصلاحات بطرس دواماً فهو إعادته تنظيم الجيش.

وكان قبله يعتمد على قوات مجندة من الفلاحين يقودهم سادتهم الإقطاعيون الذين لهم عليهم حق الولاء أولاً، وكانوا يفتقرون إلى النظام، ويعوزهم السلاح الجديد. وقد قوض بطرس سلطان النبلاء حين أنشأ جيشاً دائماً مدده من التجنيد الإجباري، وعتاده من أحدث أسلحة الغرب، وضباطه رجال ارتقوا من تحت السلاح ودربوا على الهدف الجديد، هدف خدمة روسيا في فخر لا خدمة إقليم ضيق وإقطاعي بغيض. والضرورة الحربية هي التي أملت على بطرس ثورته، فما كان من استطاعته تطوير روسيا دون أن يفتح لها طريقاً إلى البلطيق أو البحر المتوسط، وما كان في استطاعته أن يفعل هذا بغير جيش عصري، ولا أن يحتفظ بجيش كهذا دون أن يغير اقتصاد روسيا وحكومتها، ولا أن يغير هذين دون أن يعيد صنع الشعب الروسي من حيث عاداته وأهدافه وروحه. لقد كان عملاً ينوء بحمله رجل واحد أو جيل واحد.وقد استهله على طريقاه المندفعة الهوائية بلحي الرجال المحيطين به وزيهم. ففي 1698، عقب عودته من الغرب، حلق لحيته الخفيفة، وأمر كل الذين يريدون الاحتفاظ برضائه أن يحذوا حذوه، باستثناء بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية، وبعد قليل أرسل مرسوم إلى جميع أرجاء روسيا يقضي بأن يحلق جميع العلمانيين لحاهم، ولهم أن يبقوا على شواربهم. وكانت اللحية أشبه برمز ديني في روسيا، أطلقها الأنبياء والرسل من قبل، وقبل ثمانية أعوام فقط شجب البطريرك أوريان الجالس على كرسي البطريركية آنذاك حلق اللحي بوصفه عملاً مهرطقاً خارجاً على الدين. وقبل بطرس التحدي: فحلق اللحية سيكون رمزاً على الحداثة، وعلى الرغبة في دخول الحضارة الغربية. وأباح للعلمانيين الذين يشعرون بالحاجة الماسة إلى الاحتفاظ بعوارضهم أن يحتفظوا بها لقاء ضريبة سنوية تبدأ من كوبك واحد للفلاح حتى تبلغ مائة روبل للتاجر الغني. يقول كتاب تاريخ قديم "كان الكثير من شيوخ الروس يحرصون على شعر لحاهم أشد الحرص بعد حلقه ليوضع في نعوشهم مخافة ألا يسمح لهم بدخول الجنة بدونه(15)". وبعد اللحي جاء دور الزي الروسي. هنا أيضاً شعر بطرس أن المقاومة الداخلية للتغريب ستخف بارتداء الزي الغربي. فقطع بنفسه الأكمام الطويلة التي يلبسها من يمثل أمامه من ضباط الجيش. وقال لأحدهم "انظر، هذه الأشياء تعوق حركتك. فلا أمان لك في أي مكان ما دمت تلبسها. تارة تقلب كوباً، وتارة أخرى تغمسها سهواً في الصلصة. أو بصنع غطاء لحذاءك منها(16). وعليه صدر أمر (يناير 1700) يقضي على جميع رجال الحاشية والموظفين في روسيا باتخاذ الزي الغربي. وكان الوافدين على موسكو أو الراحلين عنها أن يختاروا بين قص قفاطينهم عند الركبة-وكانوا يرسلونها إلى الكاحل-وبين دفع غرامة. كذلك حثت النساء على ارتداء الزي الغربي، وكانت مقاومتهن أقل من مقاومة الرجال، فالنساء في عالم الأزياء دعاة للثورة في كل عام.

وقضى بطرس على حجاب المرأة السورية بقدوة أسرته أكثر مما قضي عليه بالقوانين. وكان أبوه ألكسيس وأمه ناتاليا سباقين في هذا الطريق، ثم وسعته أخته لأبيه صوفيا. أما بطرس فقد دعا النساء للقاءات اجتماعية وشجعهن على أن ينزعن براقعهن، ويرقصن، ويعزفن، ويطلبن العلم ولو على يد المعلمين الخصوصيين. ثم أصدر المراسيم التي تحظر على الآباء تزويج بنيهم وبناتهم على غير إرادتهم، وتشترط مضي ستة أسابيع بين الخطبة والزواج، وفي هذه الفترة ينبغي السماح للخطيبين باللقاء المتكرر، وبفسخ الخطبة إن أرادا. وابتهجت النساء بالخروج من الحريم "التيريم" وبدأن سباقاً في اتخاذ الأزياء الجديدة، وكان بعض الزيادة في ولادة الأطفال غير الشرعيين حجة تذرع بها رجال الدين ليقاوموا ثورة بطرس.

ولقد كانت مقاومة الدين له العقبة الكؤود في سبيله. ذلك أن رجال الأكليروس أدركوا أن إصلاحاته ستنتقص من مكانتهم وسلطتهم. فناحوا وولولوا على تسامحه مع المذاهب الغربية في روسيا، وخامرتهم الظنون في إيمانه بأي عقيدة دينية. وسمعوا في اشمئزاز شديد بالتقليدات الساخرة التي كان هو وخلصاؤه يهزأون فيها بالطقوس الأرثوذكسية. وكان بطرس من ناحيته يغيظه تحويل القوى البشرية إلى الأديار الشاسعة التي لا حصر لها، ويشتهي الموارد الهائلة التي تتمتع بها هذه المؤسسات. فلما مات البطريرك أوريان (أكتوبر 1700)، امتنع بطرس عمداً عن تعيين خلف له، وأصبح هو نفسه رئيساً للكنيسة على نحو ما فعل هنري الثامن في إنجلترا، وتزعم حركة إصلاح ديني في روسيا. وظل منصب البطريرك شاغراً إحدى وعشرين سنة، فحرمت الكنيسة الأرثوذكسية زعيماً يتصدى لإصلاحات بطرس. وفي 1721 ألغى المنصب كله، وأحل مكانه "مجمعاً مقدساً" من رجال الكنيسة يعينه القيصر ويخضع لوكيل علماني. وفي 1701 نقل إدارة الممتلكات الكنسية إلى إحدى مصالح الحكومة، واختزل اختصاص المحاكم الكنسية، وأخضع تعيين الأساقفة لتصديق الحكومة. ومنعت مراسيم أخرى رسامة المتصوفين أو المتعصبين، وحدت من عدد مراكز صنع المعجزات. وقضي على الرجال ألا يقطعوا على أنفسهم نذور الرهبنة قبل الثلاثين، وعلى النساء ألا ينذرن أنفسهن نهائياً للرهبنة قبل الخمسين(17). وتقرر إلزام الراهبان بالقيام بعمل نافع. وأجرت الحكومة تعداداً للممتلكات والإيرادات الديرية، وترك بعض الإيراد للأديار، وخصص الباقي لإنشاء المدارس والمستشفيات(18).

واستسلم معظم الأكليروس لحركة الإصلاح الديني الروسي هذه، وهو إصلاح لم يمس العقيدة كما لم يمسها هنري الثامن. وندد بعض المخالفين ببطرس عدواً للمسيح، وأهابوا بالشعب أن يرفضوا طاعته ودفع الضرائب له. فأمر بالقبض على زعماء هذا التمرد، وتصرف معهم بطريقته العادية. فجلد البعض ونفوا إلى سيبيريا، وسجن البعض مدى الحياة، ومات أحدهم من التعذيب، وأحرق اثنان منهم حرقاً بطيئاً حتى الموت(19). وفي غير هذا كان بطرس متمشياً مع الغرب في التسامح الديني. فحمى المخالفين من الاضطهاد ما داموا بعيدين عن السياسة. وفي سانت بطرسبورج، وبهدف تشجيع التجارة، سمح ببناء الكنائس الكلفنية واللوثرية والكاثوليكية على "النيفسكي بروسبكت"، أصبح يلقب "مكان التسامح(20)" وحمى الرهبان الكبوشيين الذين دخلوا روسيا، ولكنه نفى اليسوعيين (1710) لمثابرتهم الشديدة على الدعوة لكنيسة روما. وكانت إصلاحات بطرس الدينية بوجه عام أبقى إصلاحاته كلها، فقد أنهت العصور الوسطى في روسيا.

ثم غيرت عملية ضخمة من العلمنة حياة روسيا وروحها، من تحكم الكهنة وملاك الأراضي إلى حكم الدولة الذي كاد يصل إلى حد التنظيم العسكري الصارم. فقد أخضع بطرس النبلاء لإرادته، وأكرههم على خدمة الشعب، وأعاد تنظيم مراتب المجتمع حسب أهمية الخدمة الاجتماعية التي تؤدى. فنبتت أرستقراطية جديدة، تتألف من موظفي الجيش والبحرية ودواوين الدولة. ورأس الحكومة مجلس شيوخ من تسعة رجال (زيدوا بعد ذلك إلى عشرين) يعينهم القيصر، وكان يديرها تسع هيئات أو "كليات" تختص بالضرائب والدخل، والمصروفات، والحسابات، والرقابة، والتجارة، والصناعة، والعلاقات الخارجية، والحرب، والبحرية، والقضاء، وكان حكم الأقاليم الأثنا عشر، أو "الجوبيرنييا" والمجالس التي تحكم المدن، مسئولين أمام مجلس الشيوخ. وقسم سكان كل مدينة إلى طبقات ثلاث: التجار الأغنياء والمهنيين، والمدرسين والحرفيين، والأجراء والعمال، والطبقة الأولى وحدها هي التي يجوز انتخابها للمجلس البلدي (الماجسترا)، والطبقتان الأوليتان وحدهما لهما حق التصويت، ولكن لكل دافعي الضرائب الذكور الحق في الاشتراك في اجتماعات المدينة. وظهر "المير" أو مجتمع القرية، لا بوصفه مؤسسة ديمقراطية، بل هيئة مسئولة بجملتها عن ضريبة الرءوس التي أدخلت في 1719. وحد الإشراف المركزي من الاستقلال المحلي، ولم يكن هناك أي تفكير في النظم الديمقراطية، لأن التغيير السريع الذي اختطه بطرس لا سبيل إلى تحقيقه-إن كان هناك سبيل على الإطلاق-إلا بالسلطة الدكتاتورية.

ووجب أن يشمل ذلك التغيير الاقتصاد كما شمل السياسة، لأن مجتمعاً زراعياً خالصاً لا يمكن أن يحتفظ باستقلاله طويلاً أمام دول أغنتها الصناعة وزودتها بالسلاح. وقد أورد اقتصاد ألماني عاصر ذلك العهد رأياً سيثبت صوابه القرنان التاليان له-وهو أن الأمة التي لا تصدر في الأكثر غير الخامات والحاصلات الزراعية لن تلبث أن تخضع للدول المنتجة والمصدرة للسلع المصنوعة أولاً(21). وعلى ذلك لم يوجه بطرس للزراعة إلا القليل من اهتمامه. وبدلاً من أن يخفف من رق الأرض طبقة على الصناعة. وقد علم الفلاحين بقدوته الشخصية كيف يحصدون غلتهم وأمر بأن يستبدل بالمناجل ذات المقبض القصير sickles مناجل ذات مقبضين seuthes. وقد ألف الروس حرق أراضي الغابات للحصول على رماد مخصب للتربة، فحظر بطرس هذا العمل، لأنه احتاج ألواح الخشب لسفنه، وللأشجار لصواريه. وأدخل زراعة التبغ، والتوت، والكروم، وافتتح تربية الخيل والغنم في روسيا.

على أن هدفه الأهم كان التصنيع السريع. وكانت أولى مشاكله توفير الخامات. فشجع نشر التعدين، ومنح المكافآت الحافزة لرجال مثل نيكيتا ديميدوف والكسندر ستروجانوف أبدوا الجرأة والمهارة في التعدين وتشغيل المعادن، وحث ملاك الأراضي على أن يشجعوا أو يسمحوا باستخراج المعادن من أراضيهم، فإن قصروا في هذا فلغيرهم أن يستخرجوها لقاء رسم اسمي فقد يؤدونه لهم. فما وافى عام 1710 حتى كفت روسيا عن استيراد الحديد، وقبل موت بطرس كانت تصدره(22).

ثم استقدم مهرة الصناع ومديري الصناعة الأجانب، وحض الروس من جميع الطبقات على تعلم الفنون الصناعية. وافتتح إنجليزي بموسكو مصنعاً لدبغ الجلود وصنع الأحذية، وأمر بطرس كل مدينة في روسيا بأن تبعث وفداً من الحذاءين إلى موسكو لتعلم أحدث طرق صناعة الأحذية بنوعيها الواطئ والعالي، وهدد المتمسكين بالأساليب العتيقة في هذه الصناعة بتشغيلهم في سفن العبيد. ورغبة في تشجيع صناعة النسيج الروسية لم يلبس غير المنسوجات الوطنية بعد أن نشطت صناعتها، وحظر على المسكوفيين شراء الجوارب المستوردة. وما لبث الروس أن صنعوا المنسوجات الجيدة. وروع أميرال بحري أصحاب التقاليد، وأبهج القيصر، بصنعه المقصبات الحريرية. وصنع فلاح طلاء (لاكيه) يفوق أي نظير له في "أوربا" باستثناء الطلاء البندقي وقبل أن ينتهي حكم بطرس كان في روسيا 223 مصنعاً، بعضها لا يستهان بحجمه، واستخدمت صناعة الحرير بموسكو 1.162 عاملاً، واستخدم أحد مصانع النسيج 742 رجلاً، وآخر 730، ووظفت مؤسسة للتعدين 683 شخصاً(23). نعم كان في روسيا مصانع قبل بطرس، ولكن ليس على هذا النطاق. وكثير من المصانع الجديدة بدأته الحكومة ثم سلم للأهالي ليديروه، ولكنهم مع هذا كانوا يتلقون إعانات من الدولة، ويخضعون لإشراف دقيق من الحكومة. وكانت الرسوم الجمركية المرتفعة الحامية درعاً يقي الصناعة الوليدة من المنافسة الأجنبية.

ولجأ بطرس إلى تجنيد الرجال قسراً ليزود بهم المصانع ولم يتوفر من العمال إلا القليل، فحول الفلاحين صناعاً طوعاً أو كرهاً. وخول لرجال الصناعة أن يشتروا الأقنان من ملاك الأراضي ويشغلوهم في المصانع. وزودت المشاريع الكبرى بفلاحين منقولين من أراضي الدولة ومزارعها(24). وحدث ما يحدث في معظم المحاولات الحكومية للتصنيع السريع، إذ لم يستطع القادة الانتظار ريثما تغلب غريزة التملك على العادات والتقاليد، وتقود العمال من ميادين وأساليب عتيقة إلى أعمال وأنظمة جديدة. فطورت قنية صناعية، على كره من بطرس بوجه عام، ومن عمد من خلفائه. واعتذر بطرس عنها في مرسوم 1723، فقال: "ألا يصنع كل شيء (أول الأمر) بالإكراه؟ أما أن الراغبين في الاشتغال بالصناعة قلة فصحيح، لأن شعبنا أشبه بالأطفال، يأبون البدء بتعلم الأبجدية ما لم يكرهها عليهم معلموهم. ويبدو لهم هذا التعلم غاية في الصعوبة أول الأمر، ولكنهم ما إن يتعلموها حتى يحمدوا لمعلميهم صنيعهم، ونحن نسمع الكثير من آيات الحمد والشكر على الإصلاحات التي أتت أكلها فعلاً... فعلينا في مسائل الصناعة أن نعمل ونلزم، ونعين بالتعليم(25)".

ولكن الصناعة لا تتطور إلا بتجارة تبيع منتجاتها. ولكي يشجع بطرس التجارة رفع المكانة الاجتماعية لطبقة التجار. وفرض نمو صناعة كبيرة لبناء السفن في أركانجل وسانت بطرسبورج. وحاول إنشاء بحرية تجارية تحمل السلع الروسية في سفن روسية ولكنه أخفق لأن الفلاح الروسي الذي ضربت جذوره في الأرض وانغلق فيها لم يقبل على البحر برغبة أو كفاية. وفي داخل روسيا نفسها كانت المسافات الشاسعة والطرق الوعرة تعوق التجارة. ولكن الأنهار كانت وفيرة، تغذيها ثلوج الشمال وأمطار الجنوب، فإذا تجمدت الأنهار ففي صلابة تتحمل بفضلها الأثقال شأنها شأن الطرق المتجمدة. وكانت الحاجة ماسة لربط هذه الأنهار بقنوات-تصل النيفا والدوينا بالفولجا، والفولجا بالدون، فيرتبط البلطيق بالبحر الأبيض بالبحر الأسود وبحر قزوين. وأرسس بطرس الأساس لهذه المجموعة الكبيرة، وافتتح في 1708 القناة الموصلة بين النيفا والفولجا، ولكن كان لا بد أن تنقضي عهود ملكية عديدة قبل أن تكتمل هذه الشبكة، وقد لقي الألوف من العمال حتفهم في هذه المحاولة.

وأكرهت الحرب والمشروعات المتنوعة بطرس على جمع رأس المال بمقادير لم يسبق لها نظير في روسيا. وقد حصل على بعضه بإعطاء الحكومة احتكار إنتاج وبيع الملح، والتبغ، والقار، والدهون، والبوتاس، والراتنج، والغراء، والراوند، والكافيار، وحتى التوابيت المصنوعة من البلوط. وكانت هذه التوابيت تباع بربح بلغ أربعمائة في المائة، أما الملح فتواضع ربحه إلى مائة في المائة، ولكن القيصر أدرك أن الاحتكارات تعوق الصناعة والتجارة، فبعد أن أبرم الصلح مع السويد ألغاها بجرة قلم وأطلق التجارة الداخلية من عقالها. وبقيت التجارة الخارجية خاضعة لرسوم التوريد والتصدير، ولكنها كادت تبلغ عشرة أضعافها بين 1700 ومرت بطرس في 1725. وكان أكثرها تنقله سفن أجنبية، وما بقي منها ما أيد روسية كانت تعرقله الرشوة التي استشرت بحيث لم تجد فيها حتى عقوبات بطرس الوحشية.

أما نظام الضرائب فكان شاملاً. فقد كلفت هيئة خاصة عينتها الحكومة بوضع نظام لضرائب جديدة وإدارته. ففرضت الضرائب على القبعات والأحذية، وخلايا النحل، والحجرات، وأقبار الخمور والمؤن، والمداخن، والمواليد، والزيجات، واللحي. أما الضريبة على الأسر فقد عطلتها الهجرات الجماعية غير المنظمة، فاستبدل بها بطرس ضريبة على "الأنفس" أينما وجدت، ولم تطبق هذه الضريبة على النبلاء أو الأكليروس. وارتفعت إيرادات الدولة من 1.400.000 روبل في 1680 إلى 8.500.000 في 1724-خصص خمسة وسبعون في المائة منها للجيش والبحرية. ونصف هذه الزيادة كانت غير واقعية بسبب انخفاض قيمة العملة بمقدار النصف في عهد بطرس، لأنه لم يستطع مقاومة إغراء الربح المؤقت بغش العملة.

وكان افتقار الجميع-من الملك إلى الفلاح-للنزاهة معطلاً لسير الاقتصاد، وجمع الضرائب، وأحكام القضاء، وتنفيذ القوانين. وقد قرر بطرس الحكم بالإعدام على جميع الموظفين الذين يقبلون "الهدايا" ولكن أحد مساعديه نبهه إلى أنه إن نفذ هذا القانون فلن يجد بعد حين غير موظفين أمواتاً. ومع ذلك قتل بعضهم. من ذلك أن الأمير ماتفي جاجارين، حاكم سيبيريا، أثري ثراءً خاصاً، فزين تمثاله المصنوع للعذراء بمجوهرات بلغت قيمتها 130.000 روبل، وأراد بطرس أن يعرف كيف حصلت عليها العذراء، فلما عرف شنق جاجارين. وفي 1714 قبض على عدد من كبار الموظفين بتهمة سرقة الحكومة والشعب، وكان من بينهم نائب حاكم سانت بطرسبورج، ورئيس تموين الدولة، ورئيس الأميرالية، وحاكما نارفا وريفيل، وعدد من أعضاء السناتو. وشنق بعضهم، وحكم على بعضهم بالسجن مدى الحياة، وجدعت أنوف البعض، وجلد البعض بالعصي. ولما أمر بطرس بوقف الجلد توسل إليه الجنود الذين كانوا يقومون به قائلين "اسمح لنا يا أبتاه أن نجلدهم أكثر قليلاً لأن هؤلاء اللصوص سرقوا كل شيء حتى خبزنا(26)". واستشرى الفساد، وزعم مثل روسي أن المسيح نفسه كان من الجائز أن يسرق لولا أن يديه شدتا إلى الصليب.

وفي وسط هذا النضال، نضال إرادة واحدة تريد تغيير الحياة الاقتصادية والسياسية لنصف قارة، وجد بطرس وقتاً حاول فيه إحداث ثورة ثقافية أيضاً. لقد كان يكره الخرافة، ويتوق إلى أن يحل محلها التعليم والعلم. وكان الروس إلى عهده يؤرخون من خلق العالم كما افترضوه، ويبدأون السنين بشهر سبتمبر. ففي 1699 جعل بطرس التقويم الروسي يتفق مع التقويم اليولياني، كما تستعمله الدول البروتستنتية، فتقرر أن تبدأ السنة بعد ذلك بيناير، وتؤرخ من مولد المسيح. وتذمر الشعب، فكيف يختار الله منتصف الشتاء زماناً للخليقة؟ وأنفذ بطرس ما أراد، ولكنه لم يجرؤ على تطبيق التقويم الجريجوري، الذي قبلته أوربا الكاثوليكية في 1582، فحذف عشرة أيام كما اقتضته تلك "الحيلة البابوية" كان يسلب عدة قديسين أرثوذكس أعيادهم المقدسة.

ووفق القيصر الذي لم يهدأ له بال في مشروع آخر لا يقل عنتاً، هو إصلاح الأبجدية. ذلك أن الكنيسة الأرثوذكسية كانت تستعمل الأبجدية السلافونية القديمة، ولكن الطبقات الصناعية والتجارية اقتبست أبجدية أساسها الحروف اليونانية. فأمر بطرس بأن تطبع بها كل الكتب غير الدينية. واستورد المطابع واستقدم الطباعين من الأراضي المنخفضة، وبدأ (1703) أول جريدة روسية، وهي "جازيتة سانت بطرسبورج"، وأمر بنشر كتب في التكنولوجيا والعلوم، ومول النشر، وأسس مكتبة سانت بطرسبورج، وأنشأ المحفوظات الروسية بأن جمع في المكتبة مخطوطات الأديار وسجلاتها وأخبارها. وفتح عدة معاهد تقنية وأمر بأن يلتحق بها أبناء الطبقة الأرستقراطية. وحاول أن ينشئ في كل إقليم "مدرسة للرياضيات"، وفي موسكو أنشأ مدرسة ثانوية "جمنازيوم" على غرار المدارس الألمانية لتعليم اللغات والأدب، والفلسفة، ولكن هذه المدارس لم يكتب لها طول البقاء. وفي 1724 نظم أكاديمية سانت بطرسبورج، وجلب إليها علماء أفذاذاً كجوزيف دليل ليعلم الفلك، ودانيال برنوللي ليعلم الرياضيات. وبالحال من ليبنتز كلف (1724) فيتوس بيرنج، الملاح الدنمركي، بأن يرأس بعثة إلى كمتشكا ليتبين هل آسيا وأمريكا متصلتان طبيعياً. وقد أقلع بيرنج بعد وفاة بطرس.

أما المسرح الروسي فكان على عهد ألكسيس لا يقدم غير الحفلات الخاصة. فرخص بطرس مسرحاً على الميدان الأحمر وفتحه للجمهور، واستقدم الممثلين الألمان، فمثلوا خمس عشرة مأساة وملهاة، منها بعض ملاهي موليير. وجلب الموسيقيين الأجانب لتأليف الأوركسترات. وأدخلت فيه روسيا السوناتا والكونشرتو، واتخذت الموسيقى العلمانية الروسية أشكالاً أوربية من تآلف الألحان وامتزاجها. وأوصي بطرس بشراء اللوحات والتماثيل، ولا سيما الإيطالية منها، وجمعها هي وغيرها من الآثار الفنية في متحف للفن في سانت بطرسبورج فتحه لجميع الزوارمجاناً، وأمر بتقديم المشروبات الخفيفة لهم(27). ووفد المصورون الأجانب ليرسموا لوحات الأشخاص بأسلوب الغرب. وبنيت بعض الكنائس أيام ألكسيس، ولكن قل منها ما بني أيام بطرس. ووجد المعماريون الآن أنه أربح لهم أن يبنوا القصور.

ولم يزدهر أدب عظيم خلال هذه الثورة التي اقتلعت القديم من جذوره، فلا بد من انقضاء وقت حتى يمكن الإحساس بدفعة بطرس في الشعر. وقد صدر كتاب جريء قبل وفاته بعد عام، وهو "كتاب الفقر والغنى" بقلم إيفان بوسوشكوف الذي وبخ الروس على همجيتهم وأميتهم، وظاهر بقوة إصلاحات القيصر. وقد جاء في الكتاب "من سوء الحظ أن مليكنا العظيم يكاد يقف وحده، ومعه عشرة أشخاص، في محاولة رفع الأمة في حين يحاول الملايين خفضها(28)". وندد ايفان بظلم الفلاحين، وطالب بقضاء نزيه تجريه محاكم متحررة من السيطرة الطبقية، وصدم القيصر بأن طلب جمع ممثلين لجميع الطبقات ليكتبوا دستوراً جديداً ومدونة قوانين لروسيا. وقبض على بوسوشكوف بعد موت بطرس ببضعة شهور، ومات في السجن في 1726.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- العقابيل

ازدادت المقاومة لإصلاحات بطرس من سنة إلى سنة. ذلك أن الروس ألفوا الفقر، والعذاب، والاستبداد، ولكنهم لم يسبق لهم قط- حتى تحت حكم ايفان الرهيب- أن أثقلوا بمثل هذه الأعباء، أو دفعوا مثل هذه الضرائب، أو ماتوا بمثل هذه الكثرة لا في ساحة القتال فحسب بل في أشغال السخرة جوعاً وبرداً وأعياءً مرضاً. كتب ليفور صديق بطرس المحبوب في 1723 يقول "إن الشقاء يشتد من يوم إلى يوم، والشوارع تمتلئ بناس يحاولون بيع أطفالهم... والحكومة لا تدفع مالاً للجنود، ولا لرجال البحرية، ولا لموظفي الإدارات الحكومية، ولا لأحد(29)". وحير القيصر ازدياد الفقر وسط إصلاحاته، فجعل التسول أو التصدق على المتسولين جريمة، وأقام ستين منظمة لتوزيع الصدقات.

ولكن التسول استمر، والجريمة انتشرت. وكاد يسيطر على الطرق الأقنان الآبقون من الرق، والجنود والعمال المسخرون الذين هجروا معسكراتهم معرضين أنفسهم للموت. ونظموا أنفسهم أحياناً أفواجاً عدتها مئات حاصرن المدن واستولت عليها. ذكر قائد في 1718 "إن موسكو مباءة للسطو، وكل شيء فيها خرب، وعدد الخارجين على القانون يتضاعف، وإعدام المذنبين لا يتوقف أبداً". وأقام المواطنون المتاريس في بعض شوارع موسكو، وأحاطوا بعض البيوت بأسوار عالية اتقاء اللصوص. وحاول بطرس منع السرقة بالعقاب الصارم، فأمر بأن يشنق قطاع الطرق الذين يقبض عليهم، وأن تجدع أنوف الساطين على المنازل، الخ. ولكن هذه العقوبات لم تردع المجرمين. فقد شقت الحياة على الفقراء حتى لم يصبح هناك فرق يذكر في نظرهم بين عقوبة الإعدام وبين السجن المؤبد الذي يقضونه راسفين في أغلال القنية أو السخرة، واحتملوا أبشع ضروب العذاب بتجلد من ماتت أعصابهم.

واشتد كره الناس لبطرس حتى لقد أعجب الكثيرون أن أحداً لم يقتله. كرهه النبلاء لأنه أرغمهم على خدمة الدولة، ولأنه رفع الطبقات الصناعية والتجارية مقاماً وثراءً، وكرهه الفلاحون لأنه سخره في عمل اقتلعهم من أوطانهم، ومن أسرهم في كثير من الحالات، وكرهه رجال الكنيسة لأنه الوحش الوارد ذكره في سفر الرؤيا، والذي جعل المسيح ذاته خادماً للحكومة، وارتاب فيه كل الروس تقريباً لاختلاطه بالأجانب واستيراده الأفكار "الوثنية"، وخافت روسيا كلها بأسه لعنفه ولعقوباتها الوحشية. إن روسيا لم ترد هذا التغريب، إنها تمقت الغرب مقتاً شديداً، والاحتفاظ بروحها القومية كان يقتضيها أن تكون "سلافية الميول" ونشبت حركات تمرد يائسة بموسكو 1698، وبأستراخان في 1705، وعلى طول الفولجا في 1707، وفي أوقات متفرقة في أرجاء الإمبراطورية وخلال العهد كله.

أما بطرس فقد رمز إلى الصراع وزاده حدة بالعودة إلى الغرب مرتين. ففي خريف 1711 ذهب إلى ألمانيا ليرأس في تورجو مراسيم زواج ابنه. وهناك استقبل ليبنتز، الذي اقترح عليه إنشاء أكاديمية روسية كان يرجو الفيلسوف المتعدد المواهب أن يرأسها. وعاد القيصر إلى سانت بطرسبورج في يناير 1712، ولكنه في أكتوبر، وسط حملة شنها إلى السويد، استشفى بمياه كرلسبارد، وزار فتنبرج. وأخذه بعض القساوسة اللوثريين إلى البيت الذي قذف فيه لوثر محبرة على الشيطان، وأروه الحبر على الحائط، وطلبوا إليه أن يكتب تعليقاً عليه، فكتب "إن الحبر جديد تماماً، فواضح إذن أن القصة غير صحيحة(30)". وعاد بطرس إلى عاصمته الجديدة في أبريل 1713. وفي فبراير 1716 انطلق إلى الغرب مرة أخرى، فزار ألمانيا وهولندة، وفي مايو 1717 بلغ باريس آملاً أن يزوج ابنته اليزابيث للويس الخامس عشر. ولما التقى بطرس بالملك الصبي ذي السبعة الأعوام، رفعه ليقبله، وبعد أيام، حين كان لويس يستقبله أمام القصر الملكي، رفعه بطرس كأنه طفل وحمله صاعداً السلم مما جعل أفراد الحاشية يرتعدون. وأنفق في باريس ستة أسابيع متفرجاً، مستوعباً كل جوانب الحياة في المدينة- السياسية، والاقتصادية، والثقافية. وصوره الرسامان ريجو وناتييه. وزار مدام دمانتنون العجوز في سان- سير. ومن باريس ذهب إلى سبا، وظل خمسة أسابيع يشرب المياه هناك، لأنه كان إذ ذاك يشكو عللاً كثيرة- ولحقت به زوجته كاترين في برلين. واكتشفت أن له خليلة، ولكنها اغتفرت ذلك جرياً على أرقى تقاليد البيوت المالكة الأوربية. فلما وصل إلى سانت بطرسبورج (20 أكتوبر 1716) واجه أزمة من أسوأ الأزمات في حياته.

ذلك أن ابنه ألكسيس، الذي كان يرجو أن يورثه ملكه ويترك له المضي قدماً في إصلاحاته، انتهى إلى كره الكثير من تلك البدع، وكره الأساليب التي كانت تفرض بها فرضاً. وكان في بدنه وعقله ابن يودوكسيا أكثر منه ابن بطرس. وكان ضئيل الجسم، هياباً، ضعيفاً، ولوعاً بالكتب، مخلصاً للكنيسة الأرثوذكسية، لأنه ربي على التقوى بينما كان بطرس منطلقاً إلى الحرب والغرب. وحين بلغ ألكسيس التاسعة رأى أمه تقصي إلى الدير (1699)، فلما بلغ الحادية عشرة سمع الكهنة يتحسرون على صهر أجراس الكنيسة لصنع المدافع، وسأل أباه لم يذهب الروس خارج روسيا للقتال في سبيل مدينة نائية كنازفا، واشمئز بطرس حين وجد أن وريثه لا يستطيب سفك الدماء.

وبينما كان بطرس مشغولاً ببناء سانت بطرسبورج، مكث ألكسيس بموسكو، وأحب كنائسها وأساليب حياتها القديمة. وقد كره تمزيق البطريركية ومصادرة الدولة للممتلكات الديرية. وعلمه كاهن اعترافه أن يدافع عن الكنيسة دائماً أياً كان الثمن. وغدا ألكسيس المعبود ومعقد الآمال للجماعات الكنسية والأرستقراطية التي أبغضت علمنة بطرس لروسيا وتغريبها، وانتظرت بفارغ الصبر الوقت الذي يجلس فيه على العرش ذلك الفتى المتدين المطواع. وكان بطرس لا يراه إلا لماماً، فإذا رآه وبخه عادة، وضربه أحياناً، كما فعل حين اكتشف القيصر أن الصبي زار أمه خفية في ديرها. وأوشك استياء الفتى أن يكون كرهاً. واعتراف لكاهنه اجناتيف أنه يتمنى لو مات أبوه. ولم ير اجناتيف في هذا إثماً، فقال لألكسيس "إن الله سيغفر لك فكلنا نتمنى موته، لأنه حمل الشعب أحمالاً ثقيلة(31)".

وفي 1708 بعث بطرس ابنه إلى درسدن ليدرس الهندسة وفن التحصين. وفي 1711 تزوج ألكسيس بمدينة تورجو شارلوت كرستينا صوفيا، أميرة برونزيك- فولنفبوتل. ولم يستطع أن يغتفر لها رفضها التخلي عن مذهبها اللوثري واعتناق المذهب الأرثوذكسي الروسي. واتخذ الخليلات حتى من المواخير، وأفرط في الشراب. وعقب أن ولدت له شارلوت طفلاً زارها بصحبة مومس(32). وبعد عام ماتت زوجته وهي تلد (1715). واستدعاه بطرس إلى سانت بطرسبورج بخطاب غاضب حوى عبارات تنذر بالويل والثبور "إنني لا أضن بحياتي، ولا بحياة أحد من رعاياي، ولن أستثنيك من هذه القاعدة. فعليك أن تصلح من حالك، وأن تجعل نفسك نافعاً للدولة، فإن لم تفعل حرمتك من الميراث(33)". وحاول ألكسيس تهدئة ثائرة أبيه بالتخلي عن حقوقه في العرش، وقال إنه سيقنع بالعيش عيشة هادئة في الريف. وشعر بطرس بأن هذا ليس حلاً. ففي 30 يناير 1716 كتب إلى ألكسيس يقول:

"لا أستطيع تصديق يمينك... لقد قال داود إن كل البشر كذابون، فحتى لو شئت الوفاء بها لثناك عن ذلك ذو اللحي الطويلة.. .. فكل الناس يعرفون أنك تكره أعمالي التي أعملها في سبيل هذه الأمة، غير ضنين بصحتي، وأنك بعد موتي ستقضي عليها، ولهذا السبب فإن بقاءك كما تريد أن تبقى، بغير وجهة محددة، ضرب من المحال. وعليه فأما أن تغير من خلقك، وتصبح دون نفاق خلفي الكفء، أو تصبح راهباً. فأجبني فوراً.. .. فإن لم تفعل عاملتك كما أعامل المجرمين(34)".

وأشار عليه أصدقاؤه بالرهبانية، وقال أحدهم، "إن قلنسوة الراهب لا تسمر فوق إنسان، ففي الإمكان خلعها" وكتب ألكسيس لأبيه بأنه راغب في الرهبانية. ولانت قناة بطرس، وأمهله نصف سنة ليستقر على رأي. ووصل القيصر إلى الغرب (فبراير 1716). وفي 29 يونيو نصحت ناتاليا، أخت بطرس، ألكسيس بأن يرحل عن روسيا ويضع نفسه في حمى الإمبراطور. وفي سبتمبر كتب بطرس لابنه من كوبنهاجن يقول أن نصف العام قد انتهى، وإن على ألكسيس أن يدخل الدير فوراً، أو يلحق بأبيه في الدنمرك مستعداً للخدمة العسكرية. وتظاهر ألكسيس بأنه ذاهب إلى أبيه، وحصل على المال من منشيكوف ومجلس الشيوخ، ثم انطلق لا إلى كوبنهاجن بل إلى فيينا (10 نوفمبر). وهناك التمس من نائب المستشار الإمبراطوري أن يحصل له على حماية الإمبراطور شارل السادس قائلاً "إن أبي غضوب محب للثأر إلى حد لا يصدق، وهو لا يرحم أحداً، ولو ردني الإمبراطور إلى أبي لكان هذا في حتفي(35)". وأرسله نائب المستشار إلى قلعة ايرنبيرج بالتيرول. وهناك ظل مختبئاً متنكراً، تحت الرقابة ولكنه مزود بكل أسباب الراحة، وسمح له بالاحتفاظ بخليلته أفروسينيا مرتدية ثياب الوصيف. وتعقبه جواسيس بطرس إلى مخبئه، وأنذر ألكسيس ففي إلى نابلي حيث كان تحت الحراسة في "كاستيل سانتيلمو". وعثر عليه عملاء بطرس وألحوا عليه في العودة إلى روسيا واثقاً من رأفة أبيه به. فقبل شريطة أن يأذن له بطرس بالعيش مع أفروسينا معتزلاً في الريف. ووعد بطرس بهذا في خطاب بتاريخ 28 نوفمبر 1717. ورتب ألكسيس أن تظل أفروسينا بإيطاليا حتى تضع مولودها. وكان أثناء رحلته الطويلة إلى روسيا يبعث لها بأرق الرسائل.

ووصل موسكو في آخر يناير. وفي 3 فبراير استقبله بطرس في اجتماع مهيب ضم كبار رجال الدولة والكنيسة. والتمس ألكسيس العفو من أبيه وهو جاث ودموعه تسيل. ومنحه بطرس العفو، ولكنه حرمه من وراثة العرش، وأعلن ابن كاترين، بطرس بتروفتش، البالغ من العمر ثلاث سنين، وريثاً للعرش. وأقسم ألكسيس يمين الولاء لولي العهد الجديد. وعلق بطرس عفوه الآن على شرط، هو اعتراف ألكسيس بشركائه في مقاومة إصلاحات أبيه. وورط ألكسيس الكثيرين، فقبض عليهم وعذبوا لانتزاع المزيد من التفاصيل منهم، ونفى عديدون إلى سيبيريا، وأعدم البعض بعد أن عذبوا أبشع تعذيب. أما ألكسيس، الذي ترك حراً في الظاهر، فقد أسكن بيتاً قريباً من قصر القيصر في سانت بطرسبورج، ومنح معاشاً سنوياً قدره أربعون ألف روبل. وكتب إلى افروسينيا يقول أن أباه يحسن معاملته وأنه دعاه إلى مائدته، وكان يتطلع إلى مجيئها، وإلى الحياة السعيدة معها في هدوء الريف.

ووصلت في أبريل، فقبض عليها فوراً، ولم تعذب ولكنها امتحنت امتحاناً صارماً، فانهارت، واعترفت بأن ألكسيس اغتبط لنبأ حركات التمرد على أبيه، وأنه أعرب عن نيته يعتلي العرش في هجران سانت بطرسبورج والبحرية، وخفض عدد الجيش إلى ضرورات الدفاع. ولم يكن هذا شراً مما كان بطرس يعلمه من قبل، فترك ألكسيس طليقاً شهرين آخرين. ثم أثارته مفاجآن جديدة لا علم لنا بها، فأعلن أنه سحب عفوه عن ألكسيس، لأن هذا العفو افترض اعترافه الكامل، وقد توافر لديه الدليل الآن على أن الاعتراف كان غير مخلص وغير كامل. وفي 14 يونيو قبض على ألكسيس وسجن في قلعة القديسين بطرس وبولس.

وفي 19 يونيو 1718، وبعد أن فحصته محكمة القضاء العليا، عذب لأول مرة، فجلد خمساً وعشرين جلدة. واعترف بأنه تمنى موت أبيه، وبأن كاهنه قال له "إننا جميعاً نتمنى موته". ثم ووجه بأفروسينيا، التي أعادت ما قالته للقيصر من قبل، ومع ذلك أقسم أنه سيحبها حتى الموت. وقال معترفاً "شيئاً فشيئاً أصبح شخص أبى ذاته، لا كل شيء عنه فحسب، بغيضاً في عيني" واعترف بأنه لو اقتضاه الأمر لاستعان بالإمبراطور "في قهر التاج بالقوة(36)". وفي 24 يونيو عذب مرة أخرى بجلده خمس عشرة جلدة لم تنتزع منه مزيداً من الاعترافات. وقضت المحكمة العليا بأنه مذنب بالخيانة وحكمت عليه بالإعدام. والتمس ألكسيس السماح له بمعانقة خليلته قبل إعدامه، ولا علم لنا هل أجيب إلى طلبه. ولم يوقع بطرس على الحكم. ثم أعيد استجواب ألكسيس مرتين (25 و26 يونيو) وهو يعذب، وفي المرة الثانية بحضور القيصر والحاشية، وقال ليفور فيما بعد "أكدوا لي أن أباه جلده الجلدات الأولى بنفسه، وإن كنت غير واثق من صدق هذا القول(37)". في ذلك المساء مات ألكسيس في سجنه، والظاهر أن موته كان من آثار تعذيبه. وزعمت رواية أن كاترين أمرت الأطباء بأن يقطعوا أوردته، ولا نستطيع الحكم على هذا العمل، أهو من أعمال الرأفة به أم الطمع في سبيل مصلحة ولدها. أما أفروسينيا فنالت نصيباً من ثروة ألكسيس، وتزوجت ضابطاً في الحرس، وعاشت حياة مريحة ثلاثين سنة أخرى في سانت بطرسبورج.

وكان بطرس يأمل أن يربي ابنه من كاترين ليخلفه، ولكن الصبي مات في 1719. وأنجبت كاترين ولدين آخرين، بطرس وبولس، ولكنهما ماتا قبل القيصر. وعزى نفسه بالألقاب الفخمة التي خلعت عليه بعد صلحه مع السويد. وفي ذلك العام، (1721)، خلع مجلس الشيوخ والمجمع المقدس لقب الإمبراطورة على كاترين. وبعد أن أمهل بطرس روسيا سنة سلامها الوحيدة منذ بداية حكمه النشيط، وجه قواته شطر فارس. وكان يرجو أن يستخلص طريق قوافل إلى وسط آسيا، وأخيراً إلى الهند، ويسيطر عليه، وأخبره مبلغوه أن في الإمكان العثور على الذهب في الطريق، وكان سباقاً إلى توقع الإمكانات الصناعية لزيت القوقاز والشرق الأوسط(38). وفي 1722 جرد أسطولاً على قزوين لمهاجمة فارس، فاستولى على باكو وبعض سواحل قزوين الفارسية، غير أن العواصف دمرت معظم سفنه، وأتى المرض على جزء من جيشه، وعاد بطرس من حملة 1724 مرهقاً، متشائماً، مشرفاً على الموت.

ذلك أنه كان يشكو مرض الزهري سنوات طويلة(39)، ويعاني من العقاقير التي تعاطاها للعلاج منه. وزاد إدمانه السكر الطين بلة، واجتمعت عليه انفعالات الحرب، والثورة، وحركات التمرد، وعنف الإرهاب، لتنهك جسمه العملاق في النهاية. وفي نوفمبر 1724 قفز إلى النيفا المتجمد ليساعد على إنقاذ ملاحين على سفينة جانحة. وظل يعمل طوال الليل في مياه غمرته حتى خصره. وفي الغد أصيب بحمى، ولكنه شفي منها، واستأنف برنامجاً حافلاً بألوان النشاط. وفي 25 يناير لزم فراشه أثر التهاب مؤلم في المثانة. وأبى أن يسلم بأن منيته دنت حتى 2 فبراير، فاعترف ببعض ذنوبه، وتناول الأسرار المقدسة. وفي السادس من الشهر وقع إعلاناً بتحرير جميع السجناء فيما خلا المحكوم عليهم لجرائم القتل أو لجرائم ضد الدولة. وقد روع أتباعه بصرخات الألم. وطلب لوحاً يكتب عليه وصيته، ولكن ما إن كتب هاتين الكلمتين "أعطوا جميع" حتى وقع القلم من يده. وسرعان ما انتابته غيبوبة دامت ستاً وثلاثين ساعة، ولم يفق منها قط. وأذيع نبأ موته في 8 فبراير 1725، وكان يومها في الثانية والخمسين.

وتنفست روسيا الصعداء كأن كابوساً طويلاً رهيباً قد أنجب عن صدرها آخر الأمر. وابتهج ملكا السويد وبولندة، وتوقعا أن تتردى روسيا في مهاوي الفوضى، وتكف عن أن تكون خطراً يهدد الغرب. ورفعت روسيا القديمة، روسيا العصور الوسطى، عقيرتها وطلبت عوداً إلى الماضي. لقد دفعت الأمة دفعاً مفرطاً في العنف، وأؤذيت في روحها وكبريائها بهذا التقليد الأعمى للغرب. وانتشرت الرجعية انتشاراً واسعاً وانتصرت، وترك الكثير من الإصلاحات ليموت من افتقاره إلى التأييد. واختزلت البيروقراطية الإدارية، ولكن إطارها احتفظ بحياته حتى 1917، واستعاد النبلاء الكثير من سلطانهم القديم، واستردوا حقوقهم فيما تحويه وأراضيه من أخشاب ومعادن. أما الطبقة الصناعية والتجارية التي طفر بها بطرس فقد عادت إلى خضوعها الماضي. وأنهار الكثير من الصناعات الجديدة بسبب النقص في الآلات، أو العجز في العمال أو الإدارة. واضمحلت الرأسمالية الوليدة، وظلت روسيا الاقتصادية مائتي عام أخرى كما كانت أساساً قبل الثورة البطرسية. أما الإصلاحات التجارية فكانت أوفر حظاً، فاستمرت التجارة مع الغرب في ازدياد مطرد، وأثمرت الاتصالات بأوربا شيئاً من التهذيب في السلوك، ولكن الأزياء الوطنية القديمة عادت في عهد كاترين الثانية (1762- 96)، وعاد الناس يطلقون لحاهم في عهد الاسكندر الثاني (1855- 81). واستمر الفساد، ولم يبد على الأخلاق أنها جنت شيئاً من وراء العهد، ولعل ما ضربه بطرس لشعبه من مثال في السكر، والإباحية، والتوحش، خلف الشعب أسوأ خلقاً من ذي قبل. ولم يبق من التغييرات إلا ما ضرب جذوره في الزمن.

لقد كان بطرس أحد شخصيات التاريخ الحديث الأقل ظفراً بحب الناس، ومع ذلك كان إنجازه هائلاً. واخفاقاته تنهض شاهداً على قيود العبقرية وحدودها عاملاً من العوامل المؤثرة في التاريخ، ولكن في البصمة التي تركها على روسيا ما يشيد بقوة الشخصية. فلقد أعطى روسيا جيشاً وبحرية، وفتح الثغور التي أتاحت لها الاتجاه مع الغرب في السلع والأفكار، وأرسي صناعة التعدين وتشغيل المعادن، وأنشأ للمدارس وأسس أكاديمية. وبجذبة وحشية واحدة انتزع روسيا من براثن آسيا وأدخلها أوربا، وجعلها عاملاً مؤثراً في الشئون الأوربية. فمنذ الآن ستضطر أوربا لأن تحسب حساباً أكثر فأكثر لقلب القارة الشاسع ذاك، ولتلك الجماهير الصلبة، الصابرة، المتجلدة، ومصيرها المحتوم.