قصة الحضارة - ول ديورانت - م 8 ك 2 ف 9

صفحة رقم : 10830

قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> إنجلترا -> عودة الملكية -> الملك السعيد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل التاسع: عودة الملكية 1660-1685

1- الملك السعيد

دخل الملك شارل الثاني لندن في اليوم التاسع والعشرين من مايو 1660، أي بعد ثلاثين سنة كاملة من مولده، وسط مظاهر فرح وابتهاج، تفوق كل ما تعيه ذاكرة إنجلترا من مثلها، يواكبه عشرون ألفاً من حرس المدينة، ترفرف أعلامهم اعتزازاً وزهواً، ويلوحون بأسيافهم وسط شوارع انتشرت فيها الأزهار، تتدلى فيها البسط المزدانة بالرسوم والصور، تدوي فيها الطبول والنواقيس وهتافات الترحيب، وتكتظ بنصف سكان المدينة. وكتب ايفلين: "وقفت على الشاطئ، ورأيت هذا المشهد وحمدت الله(1)". وهو مشهد كشف عن مزاج إنجلترا، وخيبة البيوريتانيين وإخفاقهم، فقد اقتضى خلع شارل الأول ست سنوات من الحروب والاضطرابات، على حين لم ترق نقطة دم واحدة في سبيل عودة ابنه إلى العرش. وتقاطر الإنجليز على قصر هويتهول لتحية الملك، طوال هذا الصيف الذي غمرته البهجة. وقال أحد شهود العيان: "كان تلهف الرجال والنساء والأطفال على رؤية جلالته وتقبيل يده، شديد إلى حد أنه لم يكد يجد فسحة من الوقت لتناول الطعام لعدة أيام ... ولما كان الملك راغباً كل الرغبة في إرضاء نفوسهم، فإنه لم يرد عنه أحداً، ولم يغلق الأبواب من دون أي من الناس(2)" وصرح بأنه يريد أن يكون كل شعبه سعيداً مثله.

ولو أن الملك أخذ أي مشكلة مأخذ الجد في أيام الظفر هذه، لجللت الشدائد والمصاعب التي ورثها شهر العسل بالسواد والقتام. فقد بلغ رصيد الخزانة 11 جنيهاً و28 شلناً و10 بنسات، وكانت الحكومة مدينة بمليوني جنيه. ولم تسدد رواتب الجيش والبحرية لعدة سنوات، وكانت إنجلترا في حرب مع أسبانيا. وأخذت مينا دنكرك، بشكل غير مستقر، لقاء مائة ألف جنيه سنوياً، وطالب بالتعويض آلاف من الفرسان الذين حاربوا من قبل في صفوف شارل فسلبهم كرومول أموالهم. ثم أن عشرات الآلاف من الرجال الوطنيين قدموا ظلامات يلتمسون فيها إلحاقهم بالوظائف ذوات الرواتب الكبيرة والعمل اليسير، وأجاب شارل على كل هذا بالإيجاب، في غير اكتراث، تراوده الثقة في أن يوفر البرلمان الاعتمادات.

وكان البرلمان، بدوره سعيداً، سيطرت عليه للوهلة الأولى، نزعة الامتثال الموسوم بالابتهاج للملك العائد: إننا وأبناءنا من بعدنا نضع أنفسنا تحت تصرف جلالتكم ونلتزم بطاعتكم إلى الأبد(3) "وقرر مجلس العموم "أن أعضاءه أنفسهم وشعب إنجلترا بأسره لن يبرءوا من الجريمة البشعة، جريمة الثورة الأخيرة غير الطبيعية، ولن ينجوا من العقوبات المترتبة على هذا الجريمة إلا إذا حظوا بصفح صاحب الجلالة وعفوه وبناءاً على ذلك قصد إليه البرلمان بكامل هيئته وجثوا أمام الملك الضاحك المبتهج، لينالوا غفرانه(4). وأحس مجلس العموم بمزيد من الإثم لأنه اجتمع دون دعوة من الملك، أو دون موافقته، ولذلك أطلق المجلس على نفسه تواضعاً أسم "اجتماع أو مؤتمر"، حتى تطيب نفس الملك، فيعلن أنه برلمان شرعي(5). وبعد انتهاء هذه المراسم، ألغي البرلمان كل التشريعات التي أصدرها البرلمان ولم يكن قد وافق عليها شارل الأول، ولكنه أكد على الامتيازات التي كان ذلك المجلس قد منحها للبرلمان، بما في ذلك سيادة البرلمان في كل ما يتعلق بالضرائب، وثبت شارل الثاني هذه الامتيازات. وشارك البرلمان الملك الانتصار الحاسم الذي أحرزته السلطة المدنية على السلطة العسكرية، فدفعت الرواتب المتأخرة للجيش الذي حكم إنجلترا لمدة عقدين من السنين، وسرح الجنود البالغ عددهم أربعين ألفاً، وانصرفوا إلى بيوتهم.

وكان شارل قد وافق على الصفح عن كل أعدائه، فيما عدا من يستثنيهم البرلمان من العفو العام. وقضى البرلمان عدة أسابيع في جدل حول من يسلمهم إلى يد الجلاد، ومن يبقي على حياتهم. وفي 27 يوليو 1660، شخص الملك إلى مجلس اللوردات، مناشداً إياهم أن يصدروا قراراً سريعاً حكيماً:

"أيها اللوردات، إنكم إذا لم تشاركوني في القضاء على الخوف الذي استولى على قلوب الناس وأرقهم، ... فإنكم بذلك تحولون بيني وبين الوفاء بالوعد الذي قطعنه على نفسي، وأنا مقتنع بأنه لما كنا، لا أنا ولا أنتم هنا الآن ... ولقد أدركت جيداً أن هناك أناساً لا يمكن أن يغفروا لأنفسهم ما اقترفوه، ولا أن نغفر لهم نحن ذلك .. وإني لأشكر لكم عدالتكم مع هؤلاء -القتلة المباشرون لوالدي-، ولكني- وسأكون صادقاً معكم- لم أفكر قط في استثناء أحد غيرهم في العفو العام. أن هذه الرحمة، وهذا التسامح هما خير وسيلة تجعل الناس يستشعرون خالص الندم. وتجهلهم رعايا صالحين مخلصين، كما تجعلهم أصدقاء وجيراناً صالحين لكم أنتم(6)".

ورغب البرلمان في التوسع في عملية الانتقام، ولكن شارل أصر على ألا يستثني من العفو إلا من وقعوا الحكم بإعدام والده(7). وكان ثلث هؤلاء قد فارقوا الحياة، كما لاذ الثلث الثاني بالهروب، وقبض على 28 وحوكموا، وحكم على 15 بالسجن مدى الحياة، وشنق 13 ثم مزقوا أرباً (13، 17 أكتوبر 1660). ويقول شاهد العيان بيبز: أن توماس هاريسون، وهو أول من نفذ فيه الحكم، "كان يبدو مرحاً، كما يمكن أن يفعل أي رجل في مثل هذا الموقف" وتحدث بشجاعة من فوق المشنقة قائلاً أن دوره في الاقتراع على إعدام شارل الأول أملاه الله عليه(8). ويضيف بيبز: وفي الحال مزق أرباً، وعرض رأسه وقلبه على الجمهور، فتعالت صيحات الفرح(9) وفي 8 ديسمبر أصدر البرلمان أمراً بإخراج جثث كرمول وأيرتون وجون برادشو من كنيسة وستمنستر، وتعليقها على أعواد المشانق. وتم ذلك بالفعل غي 30 يناير 1661، وكأنما كان هذا لوناً من الاحتفال بذكرى موت شارل الأول، وعرضت رؤوسهم طيلة يوم كامل في أعلى قاعة وستمنستر (حيث اجتمع البرلمان). ودفنت الأشلاء في حفرة مشنقة تبيرن، كل أولئك جعل جون ايفلين يبتهج ويهلل "لحكم الله، وهو حكم هائل تحار فيه الألباب(10)". وثمة ضحية أخرى، هاري فين، الذي كان يوماً محافظاً لمستعمرة خليج ماساشوست، فقد شنق في 1662، لأنه كان أداة فعالة في تدبير إعدام سترافورد. وفي هذه القضية أغمضت رحمة الله جفونها، فقد وعد من قبل بالإبقاء على "سير هاري" الرجل الشعبي المحبوب، ولكن جراءة السجين وشجاعته أثناء المحاكمة أوغرت صدر الملك فتحجر قلبه.

وفي 29 ديسمبر 1660 حل "المؤتمر" (البرلمان) نفسه، حتى يمهد الطريق لانتخاب أعضاء أكثر تمثيلاً للشعب، وفي غضون ذلك واجهت الحكومة أول مظاهرة عدائية تنازع في شعبيتها العاصمة. أن هذه الحكومة لم تفعل شيئاً لإسكات الشيع الدينية التي ظلت تأمل في نظام جمهوري: فكان المشيخيون وأنصار تجديد العماد والمستقلون وأصحاب مذهب الملكية الخامسة يخطبون ضد الملكية، وتنبأوا بأن الانتقام الإلهي سيحل بها سريعاً، فيرسل الزلازل والذم والضفادع تنقض على بيوت موظفي الملك. وفي 6 يناير 1661، وبينما كان الملك في تورتسموث يودع أخته الحبيبة هنريتا في طريقها إلى فرنسا، نادي بالتمرد والعصيان أحد المشتغلين بصناعة دنان النبيذ في مجمع "لقديسي الملكية الخامسة"، وعندئذ سلح سامعوه المهتاجون أنفسهم، وأسرعوا إلى الشوارع يرددون أن المسيح وحده هو الذي ينبغي أن يكون ملكاً، ويعملون القتل في كل من أعترض سبيلهم، وعاشت المدينة في ظل الإرهاب طيلة نهارين وليلتين، وانتشر "القديسون" في كل مكان يقتلون الناس في حماسة بالغة، حتى تمكنت آخر الأمر فرقة صغيرة من الحرس كانت الحكومة الواثقة من نفسها تعتمد عليها في حفظ الأمن، من تطويق المشاغبين واقتيادهم إلى حبل المشنقة. وعاد شارل مسرعاً إلى العاصمة، ونظم فرقاً جديدة من الشرطة للمحافظة على الأمن فيها.

وفي 23 أبريل، في يوم عيد سانت جورج راعي إنجلترا وحاميها، توج الملك السعيد في كنيسة وستمنستر، في كل مظاهر العظمة والجلال، ذات القيمة الكبرى لدى الملوك والتي يعتز بها الشعب، وحرص رجال الكنيسة الأنجليكانية التي استعادت مكانتها، وهم يمسحون الملك الداعر بالزيت المقدس، على التوكيد على تعهد الملك والتزامه بالدفاع عن العقيدة وعن الكنيسة. وفي مايو اجتمع "برلمان الفرسان" الذي سمي كذلك لأن غالبية أعضائه كانوا ملكيين أكثر من الملك، متلهفين على الانتقام من البيوريتانيين. ووجد شارل مشقة في أن يثنيهم عن الاسترسال في إعدام أعداء والده، واسترد البرلمان، من الوجهة النظرية، كثيراً من الامتيازات التي كان قد فقدها شارل الأول: من ذلك أنه لا يصبح أي تشريع نافذ المفعول إلا بعد أن يوافق عليه المجلسان كلاهما، والملك. وكانت للملك السلطة العليا على القوات الإنجليزية المسلحة في البر والبحر، وأعاد البرلمان تنظيم مجلس اللوردات، وأعاد إليه أساقفة الكنيسة الرسمية، ولكنه رفض تجديد قاعة النجم أو محكمة اللجنة العليا وأبقى على حق التحقق في قانونية القبض على المسجونين بغير محاكمة، وأعيدت إلى الفرسان أملاكهم التي صادروها كرومول من قبل، مع تعويض ضئيل لمن اشتروها، واسترجعت الأرستقراطية القديمة ثراءها ونفوذها. وانقلبت الأسرات التي جردت من أملاكها على ملوك آل ستيوارت، وانضمت فيما بعد إلى صغار النبلاء وأبناء الطبقات الوسطى ليشكلوا "الأحرار" ضد "المحافظين" .. إن شارل في النصف الأول من حكمه بلغ من الضعف والوهن حداً لم يستطع معه أن يفرض أي قدر من السلطة المطلقة، من ذلك أنه أجاز "لبرلمان الفرسان" أن يستمر لمدة سبعة عشر عاماً، على الرغم من حقه الشرعي في حله. أنه كان من الناحية العملية ملكاً دستورياً. فإن النتيجة الجوهرية لثورة 1642-1649، وانتقال السلطة العليا من يد الملك إلى البرلمان، ثم من مجلس اللوردات إلى مجلس العموم، كل أولئك عاش بعد عودة الملكية، على الرغم من قيام الملكية المطلقة من الوجهة النظرية.

وكان من حسن حظ البرلمان أن شارل كان عزوفاً عن الحكم، وكأنه بعد أربعة عشر عاماً من التشرد والشقاء، قد منحته العناية الإلهية الحق في السعادة والهناءة، وأدخل جنات عدن التي وعد بها المسلمون. وكان الملك أحياناً ينهمك بجد وكد في شؤون الدولة، وقد بولغ في إهماله لها(11). وقبيل نهاية حكمه دهشت الأمة إذ رأته يأخذ كل شيء على عاتقه، وينصرف بكليته إلى إدارة شئون البلاد في كفاية وعزيمة صادقة. ولكنه في أعوام العسل كان قد فوض إلى إرل كلارندون في 1661، إدارة دفة الحكم، بل تقرير السياسة.

وتسربت شخصية الملك، بشكل مؤثر على عادات العصر وأخلاقه وسياسته وغلب الطابع الفرنسي على أصله وتعليمه. فأمه فرنسية، وأبوه ابن حفيدة ماري جيز أو اللورين، أضف إلى هذا جداً اسكتلندياً ودنمركياً وإيطالياً، ومن ذلك نجد خليطاً ضافياً ولكنه غير راسخ. أنه عاش من سن السادسة إلى سن الثلاثين في القارة، حيث تعلم الأساليب الفرنسية ثم رآها في أبهى صورها في أخته هنريتا آن. وكان عره الأسود وجلده الأسمر يذكران بجدته الإيطالية ماري دي مديتشي، وكان مزاجه لاتينياً مثل والدة جدته لأمه ماري ملكة إسكتلندة، وربما ورث عن جده الغسقوني هنري نافار، شفتيه الشهوانيتين وعينيه البارقتين وأنفه المتطفل، بل وربما ميله إلى النساء كذلك.

أما فيما يتعلق بالناحية الجنسية، فقد كان شارل الثاني أخزى قادة زمانه، وأسوأهم، فإن تصرفاته كانت أسوأ مثال تحتذيه حاشيته والمجتمع الإنجليزي والمسرح بعد عودة الملكية، فانفلت الزمام للفجور والخلاعة في هذه كلها، وآن لنعرف أسماء ثلاث عشرة من خليلاته، أنه وهو في الثامنة عشرة، حين جاء كمن هولندا إلى إنجلترا ليقاتل من أجل والده، وجد فسحة من الوقت لينجب من "السمراء الجميلة الجريئة" لوسي وولتر، واداً كبر وترعرع تحت أسم جيمس سكوت، أعترف شارل ببنوته فيما بعد، وعينه دوق موغوث. ولحقت لوسي بشارل في القارة، وخدمته بإخلاص، والواضح أنه كان معها مساعدون آخرون لا نعرف الآن أسماؤهم. وفور أن أستقر به المقام في القصر الملكي، دعا بربارا بالمر لتسري عنه همومه وتخفف عنه متاعبه. وكانت بربارا هذه -مثل بربارا فلييرز- قد أقامت لندن وأقعدتها بجمالها. وفي سن الثامنة عشر (1659) تزوجت من روجر بالمر الذي أصبح إرل كاسلمين. وفي سن التاسعة عشر وجدت طريقها إلى مخدع الملك، ومن ثم سيطرت على روحه الوادعة، إلى حد أنه خصص لها جناحاً في قصر هويتهول، وأنفق عليها أموالاً طائلة وأجاز لها بيع المناصب السياسية، والتحكم في مصائر الوزراء. وولدت له ثلاث أبناء وابنتين أعترف ببنوتهم جميعاً، وساورته الشكوك على أية حال، لأنها وسط حبها الشديد للملك، لم تتورع عن الاتصال برجال آخرين(12)، وازدادت تفوهاً بازدياد علاقاتها غي المشروعة. وفي 1663 - أعلنت تحولها إلى الكاثوليكية. وألتمس أقاربها من الملك أن يثنيها عن عزمها، فأجابهم بأنه لم يتدخل قط في "نفوس" السيدات(13).

وفي 1661 فكر شارل في أنه قد حان الوقت للزواج، ومن بين المرشحات أختار كاترين براجنزا ابنة جون الرابع ملك البرتغال التي قدمت إليه مع صداق هيأته الإلهية ليفي بحاجات ملك مبذر ودولة تاجرة:

000ر500 جنيه نقدا"، وميناء طنجة، وجزيرة (والمدينة الصغيرة فيما بعد) بومباي، وحرية الاتجار مع كل ممتلكات البرتغال في آسيا وأمريكا وتعهدت إنجلترا في مقابل ذلك، بمساعدة البرتغال في المحافظة على استقلالها ولما وصلت الأميرة العروس الغالية إلى بورتسموث كان شارل في استقبالها للترحيب بها، وتزوجا في 21 مايو وفقاً للطقوس الكاثوليكية أولاً ثم الأنجليكانية، وكتب شارل إلى والدتها يقول أنه "أسعد إنسان في العالم" وأحسن معاملة حاشيتها من السيدات ذوات "التنورات" الواسعة المطوقة، ومن الرهبان الوقورين، ووقعت الأميرة في غرامه لأول نظرة، وسارت الأمور سيراً حسناً لعدة أسابيع، ولكن في يوليو وضعت كاسلمين ولداً شهد شارل تعميده على أنه "العراب" (أبوه في العماد) -وتلك مناسبة أخرى يستخدم فيها أسم الله عبثاً ولغواً. ومنذ هجرت باربارا زوجها، أصبحت الآن تعتمد كل الاعتماد على الملك، وتوسلت إليه ألا يتخلى عنها، فاستسلم لرجائها، وسرعان ما استأنف علاقته بها، وفي إخلاص موصوم بأشد الخسة والعار. ونسي الملك قواعد السلوك القويمة المألوفة، فقدم باربارا علانية إلى زوجته. فنزفت أنف كاترين دماً وانتابها إغماءه، من فرط الشعور بالمهانة والإذلال، وحُملت إلى خارج القاعة وبناء على إلحاح من الملك، أوضح لها كلارندون أن عملية الزنى امتياز ملكي معترف به للملوك في أعرق أسرات أوربا، وبمرور الوقت كيفت الملكة نفسها مع أساليب زجها الشرقية، ولمنها كانت تزوره ذات يوم، فوقعت عيناها على "شبشب" صغير بجوار سريره، فانسحبت في رفق وتلطف "حتى لا تصاب الحمقاء الجميلة الصغيرة المختفية وراء الستائر بالبرد(14)"، وكانت هذه المرة الممثلة -هول دافيز. هذا في الوقت الذي حاولت فيه كاترين كثيراً أن تنجب لشارل طفلاً، ولكنها -مثل كاترين أراجون مع ملك سابق- أجهضت عدة مرات. وفي 1670 أقر البرلمان قانوناً بالتوسع في أحكام الطلاق. وأشار بعض رجال البلاط المتلهفين على وريث بروتستانتي، على شارل بأن يطلق كاترين، ولكنه أبى، حيث كان قد عرف آنذاك كيف يحبها حباً عميقاً على طريقته الخاصة.

ويصف بيبز البلاط في 27 يوليو 1667 فيقول:

"يقص على فن Fenn أن الملك وسيدتي كاسلمين قد حدثت بينهما فجوة شديدة، وأنها ستفارقه، ولكن بين جنبيها جنين، إن الملك لابد معترف ببنوته، وغلا فإنها ستحمل الوليد إلى قصر هويتهول، وتهشم رأسه أمام عيني الملك. ثم يضيف أن الملك والحاشية لم يكونوا في أي زمان في العالم بأسره أسوأ منهم الآن، بسبب اللهو والدعارة والفجور والسكر والعربدة، وغيرها من أحط الرذائل البغيضة، مما لم ير العالم مثيلها، وهذا أمر يجر الهلاك والدمار على الجميع، لا محالة(15)".

وضاق شارل ذرعاً بغضبات كاسلمين، وفي إحدى زياراته الأخيرة لها، فاجأ عندها جون تشرشل -دوق مالبرو فيما بعد-، الذي قفز من النافذة حتى يتجنب لقاء الملك(16)، كما يروي الأسقف بيرت. على أن شارل خلع على كاسلمين لقب دوقة كليلند، ورتب لها مخصصات من الأموال العامة مدى الحياة.

وقد يشوقنا أن نقص كيف أن امرأة واحدة بعينها خيبت علانية أمل الملك المغرور المختال وصدته: تلك هي فرانسيس ستيوارت التي قيل إنها ربما كانت أجمل وجه وقعت عليه العين(17) ويقول أنطواني هاملتون "يندر أن يتيسر العثور على امرأة أقل ذكاء أو أكثر جمالاً(18)". وظل الملك يلحف في الوصول إليها حتى بعد زواجها من دوق وتشموند ويصف بيبز الملك وهو يجدف وحده في الليل إلى قصر سومرست، "وهناك حيث وجد باب الحديقة موصداً تسلق الجدران ليزور هذه المرأة وتلك فضيحة مخزية فظيعة(19)".

وفي 1668 رأى شارل "نل جوين" وهي تمثل في "مسرح دروري لين"، وهي التي نشأت في فقر مدقع، وكانت تسلي رواد الحانة بأغنياتها، وتبيع البرتقال في المسرح، وتقوم بالأدوار الصغرى أو الأدوار الرئيسية في الروايات الهزلية، واحتفظت طوال عملها، تلقائياً بروح طيبة وإرادة طبية، مما سحر لب الملك الذي لا يبالي بشيء، والذي سئم اللذات، ولم تقم الممثلة أية عقبات في سبيل أن تكون عشيقة لجلالته. واستنزفت مبالغ طائلة من كيسه الذي يشكو خلو الوفاض، ولكنها أنفقت القدر الأكبر منها في أعمال البر والإحسان. ولكن سرعان ما كان عليها أن تنافس امرأة مغوية خطر موفدة من فرنسا (1671) لتثبت شارل على العقيدة الكاثوليكية والتقاليد الفرنسية، تلك هي لويز كيرووال التي قلدت نل مظاهرها الأرستقراطية تقليداً ساخراً شيطانياً. وكل العالم يعرف، كيف أنه، حيث حسب سكان لندن خطأ أن نل هي منافستها الكاثوليكية، فسخروا منها، أخرجت رأسها الصغير من نافذة العربة وصاحت بهم "صه أيها الشعب الطيب، أنا البغي البروتستانتية(20)" وظلت تحظى بعطف شارل إلى آخر حياته، ولم تبرح مخيلته حتى ساعة احتضاره. أما كيرووال التي عينت على الفور دوقة بورتسموث، فقد أثارت حفيظة لندن، حيث نظروا إليها هناك على أنها عميلة فرنسية باهظة التكاليف تبتز من الملك كل عام 40 ألف جنيه، لتقتني المجوهرات وتعيش في ترف باذخ اهاج معدة جون ايفلين(21) وتقلص ظل سلطانها في 1676 حين اكتشف شارل هورتنس مانسيني ابنة شقيق الكاردينال مازاران المرحة المفعمة بالحيوية والنشاط.

وكان لشارل سقطات أخرى، أنه في أيام شبابه التعس فقد كل الثقة في البشر، وحكم على الرجال والنساء جميعاً بأنهم كما وصفهم "لاروشفو كول" ومن ثم فإنه قلما استطاع أن يكون مخلصاً لأحد -اللهم إلا أخته- وضيع نفسه في أهوائه وغرامياته، ولم تكن ثمة ود خالص مقيم يلقى ضياء حقيقياً على البريق الأجوف في حياته. وباع بلاده بنفس اليسر الذي اشترى به النساء. وضرب لحاشيته أكبر المثل في المقامرة بمبالغ طائلة. وعلى الرغم من الجمال الطائش في سلوكه وعاداته، فانه أبدى في بعض الأحيان افتقاره إلى الرقة والكياسة اللتين كان من العسير التماسهما عند والده. من ذلك، على سبيل المثال، أنه لفت نظر جرامونت إلى خدمه يؤدون عملهم وهم راكعون(22). ولم يكن كثير الإدمان على الخمر في أغلب الأحيان، ولكنه أدمن بشكل مخيف لعدة أيام عقب صدور قانون ضد تعاطي المسكرات(23). وكان عادة يتقبل النقد بصدر رحب، ولكن حين جاوز سيرجون كوفنتري حده، وتساءل في البرلمان علانية "هل يجد الملك متعة بين الرجال أو بين النساء؟". أمر شارل رجال حرسه أن "يجعلوا منه عبرة" فكمنوا له وهاجموه وهشموا أنفه(24). على أن فئة قليلة من الناس كانوا لا يملكون إلا أن يحيوه، ومنذ شباب هنري الثامن لم يوجد في إنجلترا ملك في مثل شعبية شارل بين حاشيته، وكانت حيويته الجسمية تبعث على الرضا والسرور، ولم يكن به شح أو بخل، بل كان يرعى الحقوق، عطوفاً كريماً. بعد أن ينقد رجال حاشيته رواتبهم، كان يجد الوسيلة للبر والإحسان والصدقات. وجعل من المتنزه الخاص به مرتعاً لمختلف الحيوانات، ولم يلحقها أي أذى. وكانت كلبته المدللة تنام، ويفترسها رفيقها وتلد وترضع صغارها في حجرة نوم الملك(25). وكان شارل بعيداً عن التكلف، أنيساً، حلو المعاشرة، يسهل الوصول إليه أو التحدث معه، سرعان ما يهدى من روع محدثيه ويطمئن بالهم. وذكر كل الذين تحدثوا عن شارل -فيما عدا كوفنتري، أنه "ملك ودود طلق المحيا(26)"، وعده جرامونت "من ألطف الرجال وأرقهم وأكثرهم وداعة(27)"، وقال عنه أوبري "إنه نموذج فذ في المجاملة(28)" وكان شارل قد صقل عاداته وسلوكه في فرنسا، وكان، مثل لويس الرابع عشر يرفع قبعته لأية سيدة، حتى ولو كانت من أحط الطبقات وكان يفضل شعبه بكثير في التسامح مع أية آراء أو مذاهب دينية معارضة إلى حد أنه شرب نخب خصومة السياسيين، وسر كثيراً بالهجاء حتى ولو كان موجهاً إلى شخصه. وكان حُسن التقدير فيه، مبعث ابتهاج لدى حاشيته. ووصفه بيبز بأنه كان يقود الحلقة في رقصة ريفية قديمة cuckold All Awry. وما كان يقطع عليه مرحه ولهوه الصاخب -لفترات قصار، إلا أنباء الطاعون أو الحريق أو الإفلاس أو الحرب.

ولم يكن الملك شارل الثاني عميق التفكير، ولكنه لم يتعلق بتوافه الأمور إلى حد كبير، وتخلص يوماً من رجل زعم أنه يتنبأ بالطالع، بأن أخذه إلى سباق الخيل، ولحظ أنه يخسر ثلاثة أشواط متتالية. وأولع ولعاً شديداً بالعلوم، وأجرى التجارب، وأصدر براءة تشكيل "الجمعية الملكية" وأغدق عليها الهبات والمنح، وشهد كثيراً من اجتماعاتها. ولم يهتم كثيراً بالأدب، ولكنه أولى الفنون عناية كبيرة، واعتز برافائيل وتيشيان وهولبين وجمع أعمالهم. وتجلى في حديثه كثير من الحيوية والتنوع اللذين تميزت بهما الجماعات المثقفة في فرنسا. فتحدث جيداً عن الشعر مع دريدن، وعن الموسيقى مع بورسل (الملحن)، وعن هندسة العمارة مع رن. وكان حامياً ونصيراً حسن التمييز في كل هذه المجالات، ولابد أنه كان ثمة قدر كبير من مناقب ومآثر حميدة محببة تحلى بها رجل قالت عنه أخته وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة "إني أحببته أكثر من حبي للحياة نفسها. وليس ثمة شيء آسف عليه في موتي، إلا إني أفارقه"(29).


2- مرجل الدين

هل تمسك الملك بأية عقيدة دينية؟ أن حياته من هذه الناحية توحي بنفس النزعة التي سادت كثيراً من الفرنسيين المعاصرين الذين عاشوا ملحدين وماتوا كاثوليكيين. ويبدو أن هذا يسر الفوز بمتاع الدنيا والآخرة معاً، كما أنه كان أفضل كثيراً من "رهبان" بسكال. ويقول بيرنت "أن إحساسه الديني كان ضعيفاً، إلى درجة أنه لم يكثر من التظاهر ولكن بسلوكه الموصوم بالتهاون في الصلوات وفي الأسرار المقدسة، كان لأي إنسان يراه أن يدرك كيف وقر في ذهن الملك أنه لا علاقة له بهذه الأمور(30). وقال أحد الوعاظ مرة لنبيل غلبه النعاس وهو جالس بين جماعة المصلين "سيدي: إنك تغط في نومك بصوت عال، وقد توقظ الملك(31)". وقال عنه سانت إيفر موند الذي كان يعرفه حق المعرفة أنه كان "روبوياً(32)"-وهو الذي كان يؤمن بوجود كائن أسمي غير مجسم تقريباً، ويفسر بقية المذاهب الدينية بأنها شعر شعبي. واتفق أرل بكنجهام ومركيز هاليفا كسي مع سانت إيفر موند في هذا الرأي(33) ويروي بيرمنت "قال لي الملك ذات مرة، أنه ليس ملحداً، ولكنه لا يظن أن الله يعذب الإنسان لأخذه بشيء من أسباب المتعة واللذة عرضاً أو خطأ(34)". ورحب الملك بصداقة هوبز الذي يدين بالمادية، وتولى حمايته من رجال اللاهوت الذين طالبوا بتقديمه للقضاء بتهمة الهرطقة. ويرى فولتير أن "لامبالاة الملك المطلقة" بكل الصراعات الدينية التي تفرق بين الناس عادةً، أسهمت بدرجة غير يسيرة، في حكمه السلمي(35).

ويحتمل أن شارل كان متشككاً، مع شيء من الانعطاف نحو الكثلكة، بمعنى أنه كان يشك في اللاهوتيات، ويؤثر الكاثوليكية، لطقوسها النابضة بالحياة، وتعلقها بالفنون، وتساهلها مع الجسد، وتأييدها للملكية. وربما غاب عن ذاكرته أن العصبة الكاثوليكية وبعض الآباء اليسوعيين قد أقروا من قبل قتل الملك. ولكنه تذكر أن الكاثوليك الإنجليز دافعوا عن أبيه، وأن ثلث النبلاء الذين ماتوا في سبيل النضال عن شارل الأول كانوا من الكاثوليك(36)، وأن الكاثوليك الأيرلنديين بقوا على ولائهم لأسرة ستيوارت، وأن حكومة كاثوليكية كانت تمد له يد العون في منقاة الطويل الأمد -إن روح التعاطف التي تملكته بصفة عامة، جنحة به إلى الرغبة في التخفيف بعض الشيء من القوانين التي صدرت في إنجلترا ضد الكاثوليك، وهي في تقدير "هللام" قوانين "صارمة غاية الصرامة، بل هي في بعض الأحيان، دموية أو متعطشة للدم(37). ولم يشارك الملك البروتستانت الإنجليز فيما علق بأذهانهم من ذكرى "مؤامرة البارود "160"، أو الخوف من محاكم التفتيش أو البابا في رومه. ولم يغضب لالتزام أخيه العلني بالمذهب الكاثوليكي -والمفروض أنه وريث العرش. وقد يجوز لنا أن نحكم، من تحوله إلى الكثلكة وهو على فراش الموت، أنه كان من الجائز أن يعترف هو أيضاً بها، لو أن الاعتراف بها كان أمراً عملياً من الوجهة السياسية.

وهكذا فإن شارل، وهو السياسي اللطيف الودود، قبل الكنيسة الأنجليكانية ودعمها إنها قد دانت بالولاء لوالده، وفنيت بالدفاع عنه، وعانت ما عانت في أيام كرومول، وكافحت كفاحاً شديداً في سبيل عودة الملكية. واعتبر شارل أنه من القضايا المسلم بها أن تكون هناك عقيدة دينية تحظى بموافقة الدولة ومعونتها، على أنها وسيلة لنشر التعليم وإقرار النظام الاجتماعي. إنه، أساساً، كانت تزعجه البيوريتانية، فوق أنها أتيحت لها من قبل فرصة الحكم، فكانت صارمة بغيضة إلى حد بالغ. ولم ينسى قط أن البرسبتيريانز سجنوا أباه وأن البيوريتانز أطاحوا برأسه، وأنه هو نفسه أرغم على قبول مذهبهم والاعتذار عن أخطاء آبائه. ووقع القانون الذي أصدره "البرلمان المؤتمر"، بإعادة الكهنة الأنجليكانيين إلى أبرشياتهم، التي كانت "الجمهورية" قد جردتهم منها، وكان وجه العدالة والإنصاف واضع في هذا القانون. وعلى الرغم من ذلك، كان قد وعد "بالحرية لذوي الضمائر الواهنة"، وألا يضار أي إنسان بسب الخلافات الدينية مادامت مسالمة. واقترح شارل في أكتوبر 1660 تسامحاً شاملاً مع كل الفرق المسيحية، بل كذلك تخفيف القوانين المعادية للكاثوليكية. ولكن البرسبتيريانز والبيوريتانز الذين خشوا مغبة هذا التراخي، انضموا إلى الأنجليكانيين في رفض هذا المشروع. ورغبة في المصالحة بين البرسبتيريانز والأنجليكانيين عرض الملك طقوساً تكون حلاً وسطاً بين الطائفتين ونظاماً أسقفياً محدوداً يتولى بمقتضاه بعض المشايخ المنتخبين تقديم العون والمشورة للأساقفة. ولكن البرلمان عارض هذه الفكرة. وأبلغ "مؤتمر سافوي" المكون من أثنى عشر أسقفاً، ومثلهم من المشايخ -أبلغ الملك "أنهم لم يستطيعوا الوصول إلى اتفاق(38)".

وتلك الفرصة ضُيعت، لأن البرلمان الجديد كان أنجليكانياً بأغلبية ساحقة. فنكأ الجراح القديمة بإعادة النظام الأسقفي في اسكتلندا وأيرلندا، وأعاد المحاكم الكنسية للمعاقبة على "التجديف"، والتخلف عن دفع العشور للكنيسة الأنجليكانية، وجعل "كتاب الصلوات العامة الأنجليكاني" إلزامياً على جميع الإنجليز، وبمقتضى "قانون التوحيد" (20 نوفمبر 1661) حرمت المناصب العامة على كل الأشخاص اللذين لم يتلقوا الأسرار المقدسة وفقاً للطقوس الأنجليكانية قبل الانتخابات، وبمقتضى "مرسوم التنسيق" (19 مايو 1662) طلب إلى كل رجال الدين والمعلمين أن يقسموا اليمين على ألا يقاوموا الملك، وأن يعلنوا موافقتهم التامة على كتاب الصلوات العامة. وكان على رجال الدين الذين رفضوا هذه الشروط أن يتخلوا عن مراكزهم في موعد غايته 24 أغسطس ورفضها نحو 1200 منهم فطردوا. وهؤلاء بالإضافة إلى 1800 آخرين أخرجوا عند عودة الأنجليكانيين، انضموا جميعاً، مع مجموعة كبيرة من المجامع، إلى العدد المتزايد من "الشيع" أو "المنشقين"، الذين أرغموا أولى الأمر في النهاية على إصدار قانون التسامح 1689.

وحاول شارل أن يعدل من "مرسوم التنسيق" فطلب من البرلمان أن يستثني من العزل أولئك القساوسة الذين لم يعترضوا إلا على ارتداء اللباس الكهنوتي الأبيض، أو استخدام الصليب في التعميد، فوافق اللوردات ورفض النواب. وسعى الملك من أثر اللطمة، بتأجيل تنفيذ المرسوم لمدة ثلاثة أشهر، ولكن أحبطت هذه المساعي كذلك. فأصدر في 26 ديسمبر 1662 بياناً أعلن فيه عن عزمه على أن يستثني من العقوبات التي نص عليها القانون الأشخاص المسالمين الذين أبت عليهم ضمائرهم أداء القسم المطلوب، ولكن البرلمان، ارتاب في هذا الأجراء ورفضه، باعتبار أنه ينطوي ضمناً على سلطة الملك في الإعفاء من إطاعة القوانين. وعبر الملك عن مشاعره بالإفراج عن الكويكرز المعتقلين (22 أغسطس 1662) وبالتوكيد على التسامح الديني في المواثيق التي منحها لجزيرة رود وكارولينا، وفي التعليمات التي وجهها إلى حاكمي جمايكا وفرجينيا.

وأحس البرلمان أنه ليس ثمة متسع لهذا التسامح في إنجلترا. ولكي يمنع اجتماعات الكويكرز السرية للعبادة، قال أنها تضم أكثر من خمسة أشخاص بالإضافة إلى أفراد البيت، وحكم 1662 على كل شخص يحضرها بدفع غرامة قدرها خمسة جنيهات، أو بالحبس لمدة ثلاثة أشهر، للمخالفة الأولى، ومضاعفة العقوبة (10 جنيهات غرامة أو ستة أشهر في السجن) للثانية، والنفي إلى مستعمرات المجرمين، للثالثة، أما المخالفون الذين يعجزون عن دفع نفقات انتقالهم إلى المستعمرات فكان عليهم أن يخدموا لمدة خمسة سنوات، عمالاً لا بعقود خاصة. أما المدانون أو المخالفون المرحلون الذين يهربون أو يعودون إلى إنجلترا قبل انقضاء، المدة المحكوم بها، فتكون عقوبتهم الإعدام، وفي 1664 امتدت هذه الإجراءات إلى البرسبتيريانز والمستقلين. وحظر "قانون الأميال الخمسة" (1665) على القساوسة الذين امتنعوا على حلف اليمين، أن يقيموا في نطاق خمسة أميال في أي مدينة ذات مجلس بلدي، أو يقوموا بالتدريس، في أية مدرسة خاصة أو عامة. وأطلق على هذه القوانين "تشريع كلارندون" لأن الذي فرضها هو كبير وزراء الملك ضد إرادة الملك أو رغباته الصريحة، وقبل شارل هذه التشريعات الصارمة لأنه كان يناشد البرلمان إقرار الاعتمادات التي طلبها. ولكنه لم يغفر قط لكلارندون، كما فقد ثقته بالأساقفة وقل احترامه لهم، لأنهم ما لبثوا أن أعيدوا حتى بدءوا ينتقمون أشد الانتقام، ويقبضون أيديهم عن البر والإحسان. وانتهى شارل إلى "أن المشيخة ليست مذهباً يليق بالرجل الماجد المهذب، وأن الأنجليكانية ليست مذهباً يليق بالرجل المسيحي(39)".

وإذ أدركت الكنيسة الأنجليكانية اعتمادها على الملكية، فإنها أكدت من جديد، وبشكل أكثر إيجابية عن ذي قبل "حق الملم الإلهي" والإثم العظيم الذي يؤدي إلى الهلاك، في مناهضة حكومة ملكية قائمة. وفي 1680 نشر كتاب سير روبرت فلمر "سلطة الملوك الطبيعية المعترف بها" بعد موت المؤلف بسبعة وعشرين عاماً، وأصبح الدفاع القياسي عن النظرية. وفي كتاب أكسفورد "القضاء والقانون" (1683) أعلن زعماء الكنيسة الأنجليكانية أنه "زيف وتحريض على الفتنة، بل هو هرطقة وتجديف "ومن ثم جريمة عقوبتها الإعدام" "أن يتمسك امرؤ" بأن السلطة مستمدة من الشعب، وأن الحكام الشرعيين يفقدوا الحق في الحكم إذا أصبحوا طغاة، وأن الملك ليس له الحق إلا حق مناظر لحق السلطتين الأخرين: مجلس اللوردات ومجلس العموم. وأضاف الكتاب "أن الطاعة العمياء هي سمة كنيسة إنجلترا وخصيصتها(40)". وتلك نظرية كانت تثير القلق والمتاعب، عندما حاول جيمس الثاني، بعد عامين منة هذا التاريخ، أن يجول إنجلترا إلى الكاثوليكية.

إن الكنيسة الأنجليكانية، التي استعادت مكانتها، على الرغم من تعصبها، تجلت في صفات تدعوا إلى الإعجاب، فقد أباحت آفاقاً رحبة للتفكير اللاهوتي بين أعضائها، ابتداء من "اللودبين" (الذين عرفوا فيما بعد بأنهم الذين يؤكدون على الطقوس التقليدية High Churchmen) الذين اقتربوا من المذهب والطقوس الكاثوليكية، إلى "المتحررين المتسامحين" (الذين عرفوا فيما بعد باسم ذوي الأفق الواسع - Brood Churchmen) وهم الذين جنحوا إلى لاهوت متحرر، وأكدوا على الجانب الأخلاقي، لا على الجانب المذهبي أو العقائدي، في المسيحية، ووقفوا في وجه الاضطهاد، وسعوا إلى المصالحة وتسوية الخلاف بين البيوريتانيين والمشيخيين والأنجليكانيين. وساعد شارل هؤلاء المتحررين المتسامحين وقدر لهم الإيجاز النسبي في عظاتهم(41). وكان أعظم هؤلاء المتحررين، جون تللوتسون، الذي عينه شارل قسيس القصر، ثم عينه وليم الثالث رئيس أساقفة كنتربري (1691). وكان رجلاً "راجح العقل حلو الشمائل(42)"، ناهض "البابوية" والإلحاد والاضطهاد بنفس القدر من الحماسة والغيرة، وتجاسر فبنى المسيحية على العقل. وكان يقول "لسنا في حاجة إلى دليل على خطأ إنسان أقوى من أن نسمعه يتهم العقل ويحط من قيمته، ومن ثم يرى أن العقل ضده(43) ومال صغار رجال الدين الأنجليكانيين "الكهنة" إلى أن بكون الخدم الروحيين للوردات المحليين، بل حتى لبعض مالكي الأرض، حتى قاربوا أن ينحدروا إلى وضع العامة . ولكن في المدن والمناصب الكنسية ذوات الرواتب الأكبر، أشتهر كثير من رجال الدين الأنجليكانيين بسعة الإطلاع والمقدرة الأدبية حتى أنهم أخرجوا فيما بعد بعض من أفضل كتب التاريخ الرسمي في أوربا. وبصفة عامة سادت روح الإعتدال المذهبي في الكنيسة الأنجليكانية، أكثر منها بين المنشقين الذين زاد الاضطهاد من تعصبهم لمذهبهم وتزمتهم.

ولم يعان البيوريتانيون آنذاك من الاضطهاد السياسي وحده، بل أنهم كذلك كانوا موضع سخرية وازدراء من أولئك الذين أحسوا بالضيق والانزعاج أيام الحكم البيوريتاني بسبب أخلاقياتهم الهينة اللينة الخالية من التزمت. ولكن البيوريتانيين احتملوا في جلد وشجاعة دوران عجلة الزمن. وهاجر بعضهم إلى أمريكا، وأدى كثير منهم القسم المطلوب. وكان ريتشارد باكستر ألمع شخصية بينهم في ذاك العصر، وكان رجلاً ذا اتجاه معقول، مستعد لقبول أية تسوية لا تخل بلاهوته المتقدم. فإنه على الرغم من إخلاصه الشديد البيوريتاني حتى النهاية، أستنكر إعدام شارل الأول، وحكم كرومول حكماً استبدادياً مطلقاً، وحبذ عودة الملكية. ومنع عام 1662 من الوعظ، وأعتقل مراراً وتكراراً لمخالفته أمر الحظر. وكان من أكثر البيورتانيين استنارة، ولكنه مع ذلك أستحسن إحراق السحرة في سالم ومساشوست، وفكر في ربه على أساس جعل "مولوخ" (اله سامي كان يعبد عن طريق تضحية الأطفال على مذبحه) بجانبه ودوداً لطيفاً من هم الذين كتب لهم الخلاص؟ ويجيب باكستر: "إنهم فئة قليلة من البشر الضائع، فدر لهم الله منذ الأزل هذه الراحة(44). وأكد في عظاته على عذاب الجحيم التي "أوجدها الرب بنفسه".. إن تعذيب الملعونين المحكوم عليهم بالهلاك ينبغي أن يكون شديداً، لأنه مظهر الانتقام الإلهي .. إن العقاب رهيب، ولكن الانتقام أمر لا سبيل إلى التخفيف منه(45)" وحرم باكستر الاتصال الجنسي إلا بقصد الإنجاب مع حليلة شرعية. ومنذ رأى أن هذا التقليد يتطلب ضبط النفس على طريقة الرواقيين، لأنه أوصى بالحمام البارد والتغذي على الخضراوات، لتخفيف من الشهوة الجنسية(46) وقد نغتفر له لاهوته إذا رأيناه، وهو في السبعين من العمر (1685) واقفاً في قفص الاتهام أمام القاضي الوحشي الغليظ القلب "جفري"، لأنه تفوه ببضع كلمات ضد مزاعم الأنجليكانيين ولم تتح له أية فرصة للدفاع عن نفسه أو تفسير آرائه، وحكم عليه بدفع غرامة قدرها 500 جنيه، أو السجن حتى يدفع المبلغ كاملاً(47). وأفرج عنه بعد 18 شهراً، ولكنه لم يسترد عافيته بعد ذلك قط.

وظل الكويكرز يعانون الاعتقال ومصادرة الممتلكات لرفضهم تأدية القسم أو لتخلفهم عن الصلوات الأنجليكانية، أو عقد الاجتماعات الغير مشروعة. وفي 1662 كان في السجون الإنجليزية أكثر من 4200 منهم: "وحشر بعضهم في السجن حشراً لا يدع مجالاً للجلوس وحرموا من فرش القش ليرقدوا عليها، وكثيراً ما منع عنهم الطعام(48). ولكن جلدهم ومثابرتهم وتشبثهم أكسبهم آخر الأمر، وخفت حدة الاضطهاد عملياً، إن لم يكن قانونياً، وفي 1672 أطلق شارل سراح 1200 رجل منهم(49)، وفي 1682 منح أخوه جيمس دوق يورك براءة مقاطعة جرسي الشرقية في أمريكا، إلى روبرت باركلي وهو كويكري اسكتلندي، و"الصاخب" الكويكري الغني ليم بن، وبعض زملائهم الآخرين.

وكان بن وهو ابن أمير البحر وليم بن الذي استولى على جاميكا لإنجلترا. قد مر وهو صبي في الثانية عشرة بأطوار مختلفة من الانفعال الديني الذي فوجئ في أثنائه لفوره براحة في أعماق نفسه، وبهالة متألقة في الغرفة، إلى حد أنه قال عدة مرات بأنه منذ تلك اللحظة ختم بخاتم القداسة والخلود. "الإيمان الراسخ" بأن هناك إلهاً وأن نفس الإنسان يمكن أن تنعم بهذا الاتصال الإلهي(50). وفي 1661 طرد من أكسفورد وحكم عليه بدفع غرامة لأنه رفض حضور الصلوات الأنجليكانية. ولما عاد ال أبيه أوسعه ضرباً بالسياط، وطرده من المنزل لإعلانه اعتناق مذهب الكويكرز. ثم رق قلب الوالد فبعث بابنه إلى فرنسا ليتعلم "المرح الباريسي"، وربما أكتسب من هناك بعض الكياسة والأساليب المصقولة التي تحلى بها، وفي 1666 ارتضى لنفسه الخدمة في الجيش الإنجليزي الذي يعمل في ايرلندا، ولكن بعد عام واحد شهد اجتماعاً للكويكرز في كورك، والتهب حماسه من جديد، فطرد جندياً ضايقه بكثرة الأسئلة فاقتيد إلى السجن، ومنه كتب إلى حاكم مونستر يلتمس إباحة حرية العبادة. وبعد عودته إلى إنجلترا أحرق مراكبه من خلفه، وأصبح واعظاً كويكرياً، وقبض عليه مرة بعد المرة، ولعبت محاكمته 1669 دوراً في تاريخ القانون الإنجليزي. ذلك أن هيئة المحلفين برأته، فحكم القاضي على المحلفين بالسجن والغرامة بتهمة إهانة المحكمة وازدرائها. فاستأنف المحلفون أمام المحكمة الدعاوى المشتركة، التي أعلنت عدم شرعية القبض عليهم، وكان في هذا تثبيت لحق هيئة المحلفين وسلطتهم في إنجلترا. ولكن بن أودع السجن، على أية حال، لأنه رفض أن يخلع قبعته في المحكمة. وأخلي سبيله في الوقت المناسب ليحضر وفاة أبيه (1670)، وقد ترك له دخلاً يقدر بألف وخمسمائة جنيه في العام. وديناً على التاج قدره 16 ألفاً من الجنيهات أقرضه أبوه لشارل الثاني وأعيد إلى السجن لقيامه بإلقاء العظات، وفيه كُتب أبلغ دفاع عن التسامح تحت عنوان "القضية الكبرى لحرية الضمير"، (1671)، وفي إحدى الفترات التي تمتع فيها بالحرية تزوج من امرأة ثرية، واشترى حصة من النصف الغربي لما يعرف الآن بولاية نيوجرسي. وصاغ لهذه المستعمرة دستوراً يؤكد فيه على التسامح الديني وسلطة المحلفين في التحقيق والحكومة الشعبية، ولكن الزمام أفلت من يده، ولم تطبق مواد هذا الدستور.

وفي 1667 عبر بن وجورج فوكس وروبرت باركلي وجورج كيث القنال الإنجليزي ليبشروا بمذهب الكويكرز في القارة، وأسس جماعة من "كرهم" ممن حولهم بن إلى مذهبه، مدينة "جرمان تون"، في بنسلفانيا، وكانوا أول من أعلن أنه من الخطأ أن يكون للمسيحين رقيق. ورجع بن إلى إنجلترا، وأخذ زمام المبادرة في منع الكويكرز من الانضمام إلى حركة اضطهاد الكاثوليك" من أجل ما يسمى "بالمؤامرة البابوية". وكان "خطابه إلى البروتستانت من جميع المذاهب" (1679) نداءاً قوياً للتسامح الديني في أكمل صورة. وفي 1681 قبل التاج اقتراح بن التنازل عن حقه في المطالبة بالدين، لفاء منحه ما يعرف الآن باسم بنسلفانيا.أن بن اقترح اسم "سلفانيا" للجزء المترامي الأطراف الكثيف الأحراش، فألحق شارل الثاني مقطع "بن" بهذه اللفظة، تخليداً لذكرى أمير البحر. وعلى الرغم من الخضوع التام للملك، فإن حكومة المستعمرة الجديدة كانت ديموقراطية، وكانت العلاقة مع الهنود ودية قائمة على العدل والإنصاف، كما أطلق الكويكرز، وهم يشكلون غالبية المستوطنين، الحرية الدينية. وعمل بن في هذه المستعمرة بجد لمدة عامين، ولكنه في 1684 سمع بنبأ اضطهاد جديد عنيف تتعرض له طائفته. فأسرع بالعودة إلى لندن. وهناك بعد عام واحد أصبح صديقه، دوق يورك ملكاً على إنجلترا، وهو جيمس الثاني، كما صار بن من ذوي النفوذ والمكانة في الحكومة. ولنا معه لقاء آخر.

أن طريقة المقاومة السلبية الذي انتهجه الكويكرز ضد الاضطهاد كان أكبر قوة فعالة ساعدت على التسامح الديني في عصر التعصب، وقدر أحد المنشقين أنه كان هناك ستون ألف حالة اعتقال بسبب الخلاف الديني بين عامي 1660، 1688، وأن خمسة آلاف ممن اعتقلوا قضوا نحبهم في السجن(51). وكان تعصب البرلمان أسوأ من فجور البلاط والمسرح. وذكر مؤرخ كتب التاريخ مثل ما صنعه تقريباً "في هذه الفترة الدقيقة الحرجة" كاد الملك أن يكون الصوت الوحيد الرحيم الذي ينادي بآراء عصرية حديثة ودأب طوال حكمه على النضال من أجل التسامح(52) وفي 1669 عندما صدر الحكم على ثلاثة أشخاص بدفع غرامة كبيرة للتاج، بناء على قانون قديم صدر في عهد الملكة اليزابيث، لتخلفهم عن حضور الصلوات الأنجليكانية، أعفاهم شارل من دفعها، وأعلن أنه لن يسمح بتطبيق هذا القانون بعد اليوم "لأنه من رأيه وقناعته الخاصة أنه لا يجوز أن يضار أحد بسبب تفكيره وما يمليه عليه ضميره(53)".

وكان من المحتمل أن يقرر وجهة نظر الملك في تسامح عدد متزايد من الإنجليز، لولا أنهم كانوا يرتابون في رغبته في التخفيف من ويلات الكاثوليك في إنجلترا التي كانت لا تزال تخشى سيطرة البابا، ومحاكم التفتيش الأسبانية وحكومة القساوسة، إلى حد أن البرسبتيريانز والبيوريتانيين آثروا تحريم عبادتهم على السماح بالعبادة الكاثوليكية في إنجلترا. وكان الإنجليز الكاثوليك يشكلون آنذاك نحو 5% من السكان(54). وكانوا من الناحية السياسية ضعافاً عاجزين. ولكن الملكة كانت كاثوليكية، كما أن شقيق الملك لم يبذل إلا أيسر الجهد في إخفاء تحوله إلى الكثلكة (1668) وكان في إنجلترا حينذاك 266 من اليوسعيين. كان أحدهم ابناً غير شرعي للملك، وبدءوا يظهرون علناً في جرأة وثقة. على الرغم من القوانين البالغة التشدد. وكانت المدارس الكاثوليكية تقام في الدور الخاصة.

وأرهقت إنجلترا، وأقام البروتستانت في كل عام تظاهروا فيه ضد البابوية، وحملوا إلى "سميفيلد" تماثيل للبابا والكرادلة، أحرقوها هناك. إنهم لن ينسوا "جي فوكس". ولكن الكاثوليك صبروا وصابروا ولم يفقدوا الأمل، فمن الجائز الآن أن يرقى كاثوليكي عرش إنجلترا في أية لحظة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- الاقتصاد الإنجليزي 1660-1702

قدر عدد سكان إنجلترا وويلز غي 1660 بنحو خمسة ملايين نسمة (55) ربما ازداد إلى خمسة ملايين ونصف المليون في 1700(56)، أي أنه لا يكاد يبلغ ربع عدد سكان فرنسا وألمانيا، وأقل من ربع سكان إيطاليا أو أسبانيا(57). وكان سبع السكان من طائفة "اليومن"، أي صغار مالكي الأرض الأحرار الذين يملكون الأرض التي يفلحونها، وشكل المزارعون المستأجرون الذين يعملون في الأراضي النبلاء وذوي احسب والنسب، نحو سبع آخر من السكان. أما بقية السكان فكانوا يقيمون في المدن.

وبازدياد السكان قل نصيب الأسرة من الخشب، وتزايد استخدام الفحم في البيوت والحوانيت، وتطور على المعادن واستخراجها من المناجم وأصبحت شفيلد مركزاً لصناعة الحديد. وسرت في إنجلترا حمى الإنتاج وجمع الثروات. وتوسل أصحاب المصانع إلى البرلمان أن يصدر تشريعات ترغم العاطلين الكسالى على مزاولة العمل. وتزايد تشغيل الأولاد في الصناعات المحلية، وبخاصة النسيج. وتهلل وابتهج ديفو لأنه في" كولشستر وتونتون": "لم يكن ولد فوق الخامسة من العمر، في المدينة أو فيما حولها من القرى، أهمله والده أو لم يتلق تعليماً، الا واستطاع أن يكسب قوته" وبالمثل حول "وست رايدنج": "لا يكاد يوجد ولد جاوز الرابعة إلا كفته يداه مؤونة العيش(58)".

وكان معظم الصناعة يتم في البيت أو في حوانيت الأسرة. وحدث توسع في نظام المصانع في النسيج والحديد. وتذكر نشرة ظهرت في 1685 كيف أن "أصحاب المصانع يشيدون بتكاليف باهظة، دوراً ضخمة تضم كل القائمين بعمليات صناعة الصوف، من فرز وتمشيط وغزل ونسج وكبس بل وصباغة، في صعيد واحد". وقيل أنه كان هناك مصنع من هذا القبيل يعمل فيه 340 شخصاً. وكان في جلاسجو في 1700 مصنع نسيج يضم 1400 عامل(59). وكان تقسيم العمل والتخصص فيه آخذين في التقدم، وكتب سير وليم بتي في 1683 "في صناعة الساعة"، إذا قام فرد بعمل التروس، وآخر بصنع الزنبرك، فثمة ثالث يحفر القرص المدرج، ورابع يتولى صناعة الأغلفة ومن ثم تخرج الساعة أحسن وأرخص مما لو كلف بالعمل كله فرد واحد(60).

وظلت أجور الأعمال الزراعية يحددها الحكام المحليون وفقاً لقانون الغلمان المهنيين "الذي صدر في 1585 في عهد اليزابيث، فإذا دفع رب العمل، أو أخذ العامل، أكثر من الأجر المحدد، تعرض كلاهما للعقاب. وتراوحت أجور العمال الزراعية في تلك الفترة بين خمسة وسبعة شلنات في الأسبوع مع الإقامة والطعام(61). أما الصناعة فكانت الأجور فيها أعلى قليلاً. فكان الأجر اليومي شلناً في المتوسط، وربما كان هذا، من حيث القيمة الشرائية، يعادل، دولارين ونصف دولار في 1960. أما أجور المساكن فكانت منخفضة نسبياً، حيث كان إيجار البيت المتوسط في لندن يبلغ نحو 30 جنيهاً في السنة(62). وكانت البيرة رخيصة الثمن، أما السكر والملح والفحم والصابون والأحذية والملابس، فكانت أثمانها في 1685 تعادل أثمانها في 1848(63). وازدادت أسعار الحبوب إلى خمسة أمثالها بين عامي 1500 و1700(64). وأكلت طبقات العمال خبز الجاودار والشعير والشوفان، أما خبز القمح فكان ترفاً ينعم به ذو اليسار، ونادراً ما ذاق الفقراء اللحم. واعتبر الفقر الذي كان عليه جمهور الشعب أمراً عادياً, وربما كان أشد منه في أخريات العصور الوسطى(65). ويقول ثورولد روجرز:

"سعى مالكو الأرض طوال القرن السابع أن يحصلوا من مستأجري الأرض على أكبر ما يستطيعون من إيجار، وبأقصى ما يمكن من قوة فرضوا على العمال أجور تؤدي بهم إلى الجوع والعوز، وبذلوا قصارى جهدهم في استغلال التشريع ليحصلوا من المستهلك على أسعار عالية تقرب الناس من حافة المجاعة والقحط. والتاريخ زاهر بالشواهد الكثيرة على تفاقم الحال يوماً بعد يوم(66)".

وفي 1696 قدر جريجوري كنج أن ربع سكان إنجلترا كان يعيش على الصدقات، وأن الأموال التي تجمع لإعانة الفقراء كانت تعادل ربع تجارة الصادرات(67). وقهر الأغنياء الفقراء وغلبوهم على أمرهم إلى حد بات معه الأُجراء والفلاحون أضعف من أن يثوروا ويتمردوا، ولمدة نصف قرن خمد صراع الطبقات في إنجلترا(68).

أما الكنيسة الأنجليكانية التي كانت قد تجاسرت أيام شارل الأول على أن تدفع عن الفقراء من وقت لآخر، فقد خلصت الآن، نتيجة للثورة البيوريتانية، إلى أن مصالحها تحقق على أحسن وجه، إذا ربطتها بمصالح طبقات الملاك ربطاً تاماً(69). وكان البرلمان من ائتلاف بين مالكي الأرض وأصحاب المصانع والتجار والرأسماليين. ومن ثم أصغى، بحكم شعور الزمالة المتبادل، إلى صيحات طبقة أرباب العمل ليخلصهم من القوانين التي تعوق انطلاق القوى الاقتصادية للعمل دون قيود. وقبل نهاية القرن السابع عشر، وقبل ظهور آدم سميث بزمن طويل، سمعت إنجلترا بصيحة رب العمل"أتركه يعمل" (سياسة عدم التدخل) من أجل الحرية الاقتصادية، وتخلص أرباب العمل من العوائق الاقتصادية والإقطاعية والنقابية، في تشغيل العمال والإنتاج والتجارة(70)، وتجاوزوا القيود النقابية وانهارت النظم المهنية، وبطل العمل بتحديد الأجور عن طريق الحكام المحليين، بفعل القوة النسبية للمساومة بين أرباب العمل الأثرياء والعمال الجياع(71). إن الأيديولوجية الحديثة للحرية، بدأت هنا الآن، حين طالب المقاولون والملتزمون المغامرون، في صخب وغضب، بالتحرر من القيود القانونية والأخلاقية.

وباتت التجارة الآن عنصراً هاماً فعالاً في الاقتصاد الإنجليزي، وعاملاً حيوياً في حصول البرلمان على الاعتمادات التي يقررها، إلى حد أنها، أي التجارة، شقت طريقها لتفعل ما تشاء مع الحكومة يسيطر عليها مالكو الأرض. وأصبح التشريع الإنجليزي في التجارة، يحابي الإنجليز لا على حساب الهولنديين وحدهم، بل على حساب الايرلنديين والاسكتلنديين كذلك، وحرم اتيراد الماشية والأغنام والخنازير من ايرلندا واستبعد الغلال الاسكتلندي، وفرضت ضرائب ثقيلة على واردات اسكتلندا، إن الرغبة في التوسع في التجارة الإنجليزية وتفير الحماية العسكرية لها، هي التي حثت على التحالف مع البرتغال، وزواج شارل الثاني من كاترين براجانزا، وعلى تجدد الحرب مع المقاطعات المتحدة، والتصميم على الاحتفاظ بجبل طارق. وتضاعف حجم تجارة إنجلترا بين عامي 1660 و1688، بسبب الانتصار على الهولنديين، إلى جانب أسباب أخرى(72)، وكتب شارل الثاني إلى أخته يقول: "إن أقرب شيء إلى قلب هذه الأمة هو التجارة وكل ما يتعلق بها(73)". وبات ثراء التجارة ينافس الآن اقتناء الأراضي الواسعة الطيبة.

ومدت المشروعات المغامرة الإنجليزية أذرعها في كل اتجاه، فاتسعت للمشروعات الجديدة في نيويورك ونيوجرسي ومنسلفانيا وكارولينا وكندا، ومُنحت شركة الهند الشرقية كل الحقوق فيما تستطيع أن تضع يدها عليه في الهند، وكان لهذه الشركة أسطولها وجيشها وحصونها وعملتها وقوانينها، وكانت تعلن الحرب وتفاوض لعقد الصلح، وتم الاستيلاء على بومباي بالمصاهرة في 1661، وعلى منهاتن (في نيويورك) بحق الفتح في 1664. وفي العام نفسه استولى الإنجليز على الممتلكات الهولندية على الساحل الغربي لأفريقية. ومن أجل تزويد هذه المستعمرات بالأيدي العاملة نشأت عادة "الإكراه" وهي إغراء الشبان الإنجليز بالعمل في هذه "المزارع" بتقديم الخمر لهم أو ضربهم حتى يفقدوا وعيهم، وعندئذ يحملونهم إلى ظهر سفينة على وشك الإقلاع، ثم يوضحون لهم أنهم كانوا قد وقعوا عقداً للعمل(74). إن القانون قد حرم هذا الإجراء، ولكنه لم ينفذ. وكان موقف البرلمان واضحاً، فإنه على حين انتهت ثورتا 1642-1649 و1688- 1689 إلى تغلب البرلمان على الملك، حدثت في نفس الوقت ثورة اقتصادية متزامنة انتهت بسيطرة التجارة والصناعة والمال على البرلمان.

وكان في إنجلترا في تلك الأيام مئات من "الصائغين أصحاب المصارف" (مقرضو النقود) الذين يدفعوا 6% أرباحاً على الودائع، ويتقاضون 8% على القروض(75). وكان شارل الثاني يلتمس أي منفذ لتجنب سلطة البرلمان على الخزانة، فلجأ إلى الإستدانه كثيراً من أصحاب المصارف هؤلاء، حتى بلغت ديونه منهم في 2 يناير 1672، 1328526 جنيهاً(76)، وفي هذا التاريخ كان مجلس الملك على وشك أن يشن الحرب على المقاطعات المتحدة فأحدث في مجتمع المال هزة عنيفة "بإغلاق خزانة الدولة" أي منع تسديد فوائد ديون الدولة لمدة عام. فساد الذعر، ورفض أصحاب المصارف الوفاء بالتزاماتهم تجاه أصحاب الودائع، أو تنفيذ اتفاقاتهم مع التجار، وعمل المجلس بوعود قاطعة باستئناف الدفع في نهاية العام. واستأنف الدفع في 1674، وسدد رأس المال عن طريق تعهدات والتزامات حكومة جديدة. والواقع أنه في 2 يناير 1672 تحددت بداية الدين الوطني في إنجلترا، وتلك حيلة جديدة في تمويل الدولة.

ومذ باتت لندن موطن أصحاب المصارف وأمراء التجارة ومركز الثورة المجموعة عن طريق نظام الأسعار، من منتجي الطعام والسلع، فإنها كانت الآن أكثر مدن أوربا اكتظاظاً بالسكان، فنافست قصور الرجال الأعمال الأرستقراطية في البذخ والترف، إن لم يكن في الذوق. وكانت فيها مجموعة من المخازن بشعاراتها الفاتنة ولافتاتها المزخرفة ونوافذها ذات الأعمدة الحجرية، تعرض منتجات العالم أمام أنظار الأقلية، ورصفت الشوارع الرئيسية وحدها بالحصى عادةً وحوالي 1684 أضيئت بنور ضعيف حتى منتصف الليل في الليالي غير المقمرة بقناديل يعلق الواحد منها كل عشرة أبواب. ولم يكن للشوارع أرصفة للمشاة، وكانت نهاراً تعج بالحركة الصاخبة من الباعة المتجولين الذين يعرضون بضاعتهم في سلاسل أو عربات يد، أو عجلات يد، وبالمنادين الذين يعرضزن القيام بخدمات منزلية مثل "قتل الفئران والجرذان(27)". وكان هناك المتسولون واللصوص في كل شارع، كما وجد أيضاً المغنون الذين يرفعون عقيرتهم بالأغنيات من أجل الحصول على بنس. وكان حي الأعمال يسمى "السيتي". وكان يحكمه العمدة وهيئة البلدية ومجلس أرباب البيوت في الأحياء أعضاءه. والى القرب من هذا الحي، كان يقع "الحي السياسي" وستمنستر، وفيه الكنيسة والقصر اللذان يحملان هذا الاسم (وكان القصر مقر البرلمان)، وفيه القصران الملكيان هويتهول وسان جيمس، وخارج هذين القسمين من المدينة كانت أحياء الأكواخ التي تعج بالفقراء الكثيري التناسل. ولم تكن الشوارع فيها مرصوفة فكانت العربات ترش، مزهوة، ماء المطر أو الوحل على المشاة، وهي تصطدم بالجدران في الأزقة الضيقة. وكانت المنازل ضيقة جداً بعضها من بعض، والأدوار العليا متلاصقة متقابلة، مما لا يدع مجالاً لضوء الشمس المتقطع أن ينفذ إليها. ولم يكن نظام المجاري الحالي معروفاً في لندن آنذاك، بل كانت مراحيض خارجية وبالوعات، وكانت العربات تحمل الفضلات وتقذف بها خارج حدود المدينة، أو في نهر التيمز بطريق خفيفة غير مشروعة.

وكان تلوث الهواء آنذاك بالفعل مشكلة وبناء على طلب الملك أعد جون افلين ونشر 1661 خطة لتبديد الدخان الذي علق بسماء لندن، قال:

"إن الإسراف في استخدام الفحم يعرض لندن لأسوأ الإزعاج والخزي والعار، وليس هذا ناشئاً من نيران المطابخ التي لا يكاد يرى لها أثر، بل من بعض مداخن معينة في مصانع البيرة ومحال الصباغة وإحراق الجير، ومصانع الملح وغلي الصابون وبعض مصانع أخرى، تكفي فوهة إحدى المداخن فيها، وحدها وبشكل واضح، لتلويث الهواء وإزعاج لندن أكثر مما تفعل مداخل المدينة مجتمعة ... إن لندن تكون أقرب شبهاً ببركان اتنه أو بضواحي جهنم، منها بمجتمع تعيش فيه مخلوقات عالقة، حين تفتح هذه المداخن أفواهها وتنفث القتام والسخام ... أن السائح المنهوك سرعان ما يشم، من مسافة عدة أميال، رائحة المدينة التي يقصد إليها، قبل أن يراها ... أن هذا الدخان الأسود الكريه ... يقرح الرئتين، وهذا داء لا شفاء منه، إلى حد أنه يقضي على أعداد كبيرة من الناس، نتيجة السل المنهك الخطير، كما ينبئ بذلك نشرات الوفيات الأسبوعية(78)".

وأعد ايفلين مشروع قانون للبرلمان الذي كان أقرب منالاً لرجال الصناعة الأثرياء منه للجمهور الذي يعوزه التنظيم، ومن ثم لم يحرك هذا البرلمان ساكناً. وبعد ثلاثة عشر عاماً سوياً رفع سير توماس براون صوت الطب عالياً، يحذر من:- "الروائح الكريهة التي تنفثها البالوعات العامة، والأماكن المنتنة وفضلات المواد المغلية التي تستخدمها المصانع القذرة غير الصحية كما أن الضباب والسديم يعوقان دخان الفحم من أن يهبط ويتبدد، ومن ثم يمتزج بالسديم ويتنفسه الناس، ولكل هذا آثار سيئة، حيث يلوث الدم ويعرض السكان إلى النزلات الشعبية والسعال(79)".

إن الهواء الفاسد، وضعف الرعاية الصحية وسوء التغذية كان يهدد بانتشار الأوبئة في كل عام وما أن تجيء فترة تتجمع فيها ظروف غير مواتية، حتى تنزل كارثة الطاعون. وفي 31 أكتوبر 1663 دون بيبز في مذكراته: "أن الطاعون منتشر في أمستردام، ونحن في فزع منه هنا". وكانت السفن القادمة من هولندا تخضع للحجر الصحي، وفي ديسمبر 1664 مات شخص واحد بالطاعون في لندن، واثنان في أبريل 1665، وفي مايو 43 شخصاً، وهكذا تفاقم الحال حتى حل الصيف الحار مع مطر قليل يساعد على تنظيف الشوارع، فكان ضغثاً على إبالة، وأيقنت لندن التي ملأها الفزع والجزع، أنها تواجه شيئاً شبيهاً بالموت الأسود 1348 الذي لا تزال ذكراه عالقة بالأذهان. وكان ديفو آنذاك صبياً في السادسة، ولكنه استطاع أن يعي قدراً كبيراً مما تردد في هاتيك الأيام عن الطاعون، فكتب قطعة خيالية بعنوان "صحيفة عام الطاعون" تكاد نتكون في منزلة التاريخ(80):

"منذ الأسبوع الأول من يونيو انتشرت العدوى بصورة الرهيبة، وارتفعت أرقام الوفيات، وعمد الناس إلى إخفاء قلقهم قدر الطاقة، حتى يحولون دون ابتعاد جيرانهم عنهم، أو دون إغلاق الحكومة لبيوتهم. وفي يونيو تزاحم الأغنياء على مغادرة المدينة، وفي هويتشا بل ما كان يمكن أن ترى إلا العربات، وعربات اليد تحمل البضائع والنسوة والأطفال وغيرهم، بالإضافة إلى عدد لا يحصى من الرجال على ظهور الخيل .. وهو منظر رهيب وكئيب(81)".

وزادت النذر والتنبؤات عن المصير المشئوم من الرعب، وأغلقت المسارح وحلبات الرقص والمدارس ودور المحاكم. وانتقل الملك وحاشيته في يونيو إلى أكسفورد "حتى يحوطهم الله برعايته إن شاء" دون أن يمسهم سوء، ولو أن صيحات التأنيب تعالت ضدهم لأنهم هم الذين جلبوا هذا البلاء، عقاباً من عند الله، على فسادهم وفجورهم، وبقي رئيس أساقفة كنتربري في مقره في لامبث، ينفق في كل أسبوع عدة مئات من الجنيهات عوناً للمرضى والأموات. وبقي موظفوا المدينة فيها يقومون بأعمال بطولية. وأرسل الملك ألف جنيه ورجال الأعمال في "السيتي" ستمائة جنيه أسبوعياً، وهرب كثير من الأطباء ورجال الدين، وبقي آخرون وقضى كثيرون نحبهم متأثرين بالعدوى. وجرب الناس الأدوية والعلاجات على أختلاف أنواعها، فلما أخفقت لجأوا إلى التمائم والتعاويذ التي قد تصنع المعجزات. وفي 31 أغسطس 1665 قال بيبز "في هذا الأسبوع مات 7496 شخصاً منهم 1602 بالطاعون". وكان حفارو القبور يحملون من يموتون في الشوارع على عربات اليد، ويدفنونهم في مقابر عامة. وبلغت جملة من ماتوا بالطاعون من أهالي لندن 1665، نحو سبعين ألفاً، وهذا سبع السكان. وخف الوباء في ديسمبر، وعاد الناس لمزاولة أعمالهم شيئاً فشيئاً. وفي فبراير 1666 عادت الحاشية إلى العاصمة.

وما كاد السكان الباقون على قيد الحياة يروضون أنفسهم على احتمال ما كلفهم الطاعون من خسائر حتى داهمت المدينة كارثة أخرى. وكانت كارثة حقاً، ذلك أنه في يونيو 1666 أبحر الهولنديون في جرأة إلى التيمز ودمروا المراكب الإنجليزية فيه بمدافع سمع صوتها في لندن. ولكن في الساعة الثالثة من صباح الأحد 3 سبتمبر، في حانوت خباز في بودنج لين، شب حريق، أتى في ثلاثة أيام على معظم الجزء من لندن الواقع شمال النهر، ومرة أخرى تآمرت الظروف وتجمعت المصائب: صيف جاف، وبيوت كلها تقريباً مبنية من الخشب، متلاصقة، كثير منها خال من السكان الذين يقضون عطلة نهاية الأسبوع في الريف، مخازن ملآى بالزيت والقار والقنب والكتان والخمور وغيرها من المواد القابلة للاحتراق في الحال، ثم هبت رياح عاصفة حملت النار من بيت إلى بيت، ومن شارع إلى شارع، أضف إلى ذلك سوء التنظيم وعدم الاستعداد لمواجهة مثل هذا الحريق في مثل هذا الوقت من الليل. ومن حسن حظ ايفلين أنه كان في سوثوارك، فأسرع إلى شاطئ النهر.

"حيث شهدنا المدينة بأسرها وقد أندلع فيها اللهب الرهيب بالقرب من الماء، في كل الدور من جسر لندن، وفي شارع التيمز، صعداً نحو تشيسيد ... وامتدت النيران في كل مكان، وعرت الدهشة الناس، إلى حد أننا لم ندر منذ البداية، ماذا تولاهم من قنوط وجزع حتى أنهم بشق النفس تحركوا لإخمادها، فلم نكن نسمع أ نرى إلا الصرخات والعويل والنواح وهم يجرون هنا وهناك، ذاهلين مخبولين، كذلك أحرقت النار الكنائس والقطاعات العامة، وسوق الأوراق المالية والمستشفيات والآثار والزخارف والبيوت والأثاث كما أنها أتلفت كل شيء ..‍‍‍."

وهنا رأينا النهر مغطى بالبضائع الطافية فوق الماء والزوارق والقوارب محملة بالضائع التي وجد بعض الناس فسحة من الوقت وأوتوا شيئاً من الشجاعة لإنقاذها. كما كان هناك على الجانب الآخر العربات وغيرها، تنقل إلى الحقول، التي انتشرت لعدة أميال كل من كل نوع ... كما نصبت الخيام ليأوى إليها الناس وما استطاعوا أن يستخلصوه من بضاعة ومتاع. يا لهول المنظر الأليم المفجع الذي لم تصادف الدنيا مثله منذ بدء الخليقة. وغطت ألسنة النيران وجه السماء، فبدت وكأنها أتون ملتهب ... إني أرجو الله ألا يقع عيناي ثانية على مثل هذا المنظر، منظر أكثر من عشرة آلاف بيت تحترق كلها في لحظة واحدة وكان صوت اللهب المندلع وفرقعته ورعده، وصراخ النساء والأطفال، وهرولة الناس، وسقوط الأبراج والمنازل والكنائس، أشبه شيء بعاصفة هوجاء، وكان الهواء ساخناً إلى حد أن الناس اضطروا إلى الوقوف جامدين، تاركين النار يشتد أوارها، وتمتد ألسنتها لمسافة تقرب من ميلين طولاً وميل عرضاً(82)". وأبلى الملم وأخوه المكروه جيمس، كلاهما، بلاء حسناً في هذه الأزمة، وجدوا في العمل بأيدهم مع مكافحي النيران، وأشرفوا على أعمال الإغاثة ومولها وهيئوا المأوى والطعام لمن يأتوا بلا مأوى، وأصروا، برغم المعارضة الشديدة، على هدم البيوت ليحولوا دون امتداد الحريق، مما كان له الأثر في إنقاذ جزء من المدينة في شمال التيمز(83) وكاد الحي التجاري أن يمحى عن آخره، أما حي السياسة "وستمنستر"، فقد أنقذ، ودمر ثلثا مدينة لندن، بما في ذلك 13200 منزل، 89 كنيسة بما فيها كنيسة سانت بول العتيقة، ولقي ستة أشخاص فقط مصرعهم، ولكن مائتي ألف شخص فقدوا مساكنهم(84). ودمرت معظم المكتبات واحترق من الكتب ما قيمته 150 ألف جنيه. وقدر مجوع الخسائر والأضرار بنحو 10730000 جنيه(85)، وهو ما ربما يعادل اليوم 500 مليون دولار.

وبعد الكارثة نظم المجلس البلدي في لندن إدارة للمطافئ، وركبت خراطيم الماء في أنابيب الماء الرئيسية. وكان على كل شركة أن تعين بعض أعضائها ليكونوا على أهبة الاستعداد لتشغيلها لدى سماع أي إنذار، وكان على كل العمال أن يذوهم إذا استدعاهم عمدة المدينة. وأعيد بناء لندن في شيء من التمهل، على طراز أمتن وأقوى، وإن لم يكن أجمل من ذي قبل. وبأمر من الملك حول الطوب والحجر محل الخشب، واختفت الطوابق العليا الناتئة، وأصبحت الشوارع أوسع وأكثر استقامة، ورصفت بالحجر السلس الأملس، وخصصت الطوارات للمشاة. وتحسنت الرعاية الصحية. وقضت النيران على كثير من الأقذار والفئران والجراثيم فتخلصت لندن من الطاعون، وجدد المهندس المعماري "رن" بناء كنيسة سانت بول.

4- الفن والموسيقى 1660-1702

ولد كرستوفر رن Wren في أحضان الدين، ورضع لبان العلم، وتوجه بالفن. كان أبوه كبير كهنة وندرسون، وعمه أسقف الي Ely، والتحق بمدرسة وستمنستر، ثم كلية وادهام في "أكسفورد" وفي 1653 حصل وهو في الحادية والعشرين على منحة لمتابعة الدراسة في كلية "جميع النفوس". ثم أصبح في سن الخامسة والعشرين أستاذاً للفلك في كلية جريشام في لندن، وفي سن التاسعة والعشرين شغل "كرسي" "سافيل" للفلك في أكسفورد. وبدا أنه وهب نفسه للعلم، فقد سحرت لبه الرياضيات والميكانيكا والبصريات والأرصاد الجوية والفلك. فقوم السيكلويد (وجد أن الخط المستقيم مكافئ لانحناء السيكلويد). وشرح قوانين التصادم، ونسب إليه نيوتن كثيراً من التجارب التي أدت إلى وضع قوانين الحركة الثلاثة(86). وعمل بجد على تحسين التلسكوب وصقل العدسات وبحث في دوائر زحل. وابتكر طريقة إلى تحويل الماء المالح إلى ماء عذب، وأدى من أجل بويل أول عملية حقن سائل في مجرى الدم في الحيوان. وأثبت أن الحيوان يمكن أن يعيش بسهولة بعد إزالة طحاله. واشترك مع توماس ولس Willis في تشريح المخ. وأعد الرسوم اللازمة "لتشريح ولس المشهور" وكان من أوائل أعضاء "الجمعية الملكية" وهو الذي كتب مقدمة ميثاقها. وما كان لأحد أن يعلم أنه سيخلد في التاريخ على أنه أعظم مهندس معماري لإنجليزي.

إن الظروف قد تغير مجرى الحياة. وربما كانت مهارة رن في الرسم هي التي حدت بشارل الثاني إلى تعينه مساعد لسير جون دنهام (1661) رئيس المساحة في الأشغال العامة. وسرعان ما وجد في العمارة ذلك التزاوج بين العلم والفن، أي إضفاء الجمال على الحقيقة، وهذا هو ما كان يشغل كل تفكيره. وكتب يقول: "هناك لونان من الجمال: الجمال الطبيعي والجمال المألوف أو العادي المتعارف عليه. والجمال الطبيعي تأتي لنا به الهندسة، أما الثاني، الجمال المألوف، فإنه يأتي من ترويض حواسنا على الأشياء التي تبعث السرور والبهجة عادة ... في نفوسنا ولكن المعيار الحقيقي دائماً هو الجمال الطبيعي أو الجمال الهندسي(87)". فالشيء الصحيح هندسياً، كما يرى رن، يسرنا هو نفسه، ويكون جميلاً (أحد الجسور الكبرى في العالم مثلاً). ومن هذه الزاوية أثر العمارة الكلاسيكية على العمارة الموطية. وفي تصميماته الأولى ترسم خطى اينجو جونز.

وفب 1663 وضع تصميم مسرح شلدون في أكسفورد للأسقف جلبرت شلدون، وهنا منذ البداية، أتبع مبادئ كلاسيكية. فرفع الصرح الدائري الضخم، على نفس الطراز الذي وضعه فتروفيوس في قديم الزمان وفينولا في عصر النهضة. وساعدت إقامته الطويلة في فرنسا 1664-1666 على ترسيخ ميوله الكلاسيكية. ولكن إعجابه بكنيسة فرنسوا مانسارت في فال-دي-جراس، جنح به إلى إضافة شيء من زخارف الباروك إلى واجهات مبانيه.كما انه قد تذكر قبة فال-دي-جراس، وهو يعيد بناء كنيسة سانت بول.

وعاد رن إلى لندن في مارس 1666. وفي أبريل، بناء على طلب الأسقف شلدون وضع خطة لإصلاح الكاتدرائية المتداعية، التي شاخت من العمر آنذاك نحو 600 عام وفي أغسطس وافقت لجنة إصلاح كنيسة سانت بول على مشروع رن. ولم يمض على ذلك أسبوعان حتى دمر حريق لندن التاريخي الكنيسة، وجرى الرصاص الذي أذابته النيران من سقفها الشوارع. إن هذا الحريق الذي أتى على ثلثي العاصمة هيأ للعمارة فرصة لم تتح لها منذ حريق رومه. وكانت النيران لا تزال كامنة تنفث الدخان حين عرض رن على شارل الثاني مشروعه الرائع إعادة بناء المدينة. وقبل الملك المشروع، ولكن أعوزه المال اللازم له، كما أن المشروع تعارض مع حقوق الملكية القوية. وشغل رن نفسه بمشروعات أخرى، وأعد في 1673 تصميماً لكنيسة سانت بول جديدة. ولكن رجال الكاتدرائية اعترضوا بأن التصميم عليه سيماء معبد وثني، وحثوا رن على التزام الطراز القوطي في الكنيسة العتيقة، ووافق كارهاً على حل وسط، بحيث يكون الداخل عبارة عن أقواس وجناح من الكنيسة ومكان خاص بالمرتلين، وكلها على الطراز القوطي، على أن تكون الواجهة من طراز عصر النهضة: مدخل ذو رواق معمد وقوصرة كلاسيكية وبرجان من طراز الباروك. وكانت النتيجة خليط كريه المنظر من الطراز، ولو أن رن أصلح منه بعض الشيء بتتويج الجزء الداخلي بقبة تنافس قبة برونلسكي في فلورنسة وميكل أنجلو في رومه وستظل سانت بول أروع كنيسة شادها البروتستانت.

وعل حين مضى هذا المشروع في طريق التنفيذ لمدة خمسة وثلاثين عاماً، فإن رن الذي خلف دنهام في تولي شؤون المساحة العامة، وضع تصميماً، لثلاث وخمسين كنيسة أخرى. أشتهر كثير منها بأبراجها وقممها المستدقة التي جمعت بين حاسة الجمال وبين نزعته الرياضية. أضف إلى هذا دار الجمارك في لندن، والمستشفى في كل من جرينتش وشلس، والكنائس الصغيرة في كلية بمبورك في كمبردج وترنيتي كولدج في أوكسفورد، ومكتبة ترنيتي كولدج في كمبردج والجناح الشرقي الكلاسيكي في قصر مبتون كورت، وستاً وثلاثين داراً نقابية، وعدداً من الدور الخاصة بل يبدو أنه في الأربعين عاماً الأخيرة من القرن السابع عشر. لم يشيد مبنى له قيمته وأهميته، إلا كان رن هو المهندس الذي تولاه(88). واحتفظ رن بمنصبه في المساحة طوال حكم شارل الثاني، وجيمس الثاني، ووليم وماري، وآن. وتقاعد عن العمل في سن السادسة والثمانين، ولكنه ظل لخمسة سنوات أخرى يشرف على العمل في كنيسة وستمنستر، وينسب بعضهم إليه الفضل إقامة أبراجها، وفارق الحياة في سن الحادية والتسعين، ودفن في كنيسة سانت بول.

وكان فن النحت لا يزال يتيماً في إنجلترا. ولكن الحفر على الخشب كان فناً رفيعاً. وكان جرنلنج جيبونز معاوناً له قيمته للمهندس رن، قام بحفر المقاعد في المكان المخصص للمرتلين وصندوق الأرغن الفخم في كنيسة سانت بول، والزخارف في قصر وندرسون وقصر كنسنجتن وهامبتون كورت.

واستمر فن الرسم في إنجلترا على أن يستقدم الأساتذة ويثبط من همم بنيه. وعلى الرغم من ذلك، كان بعضهم يعد جون ريلي أعظم رسام لصور الأشخاص في فترة عودة الكنيسة الملكية وأدرك جون أن الوجه المدروس الذي يرسم في رؤية، هو في ذاته سيرة حياة، فاستطاع أن يقرأ خطوطه، وفي بصيرة نافذة كشف في ثناياه عن خفاياه وأسراره وأبرزها في شجاعة غير مريحة. وكاد تعليق شارل الثاني على صورة رسمها له ريلي يكون سبباً في انهيار الفنان ودماره، حين قال الملك: "أهذه صورتي؟ يا لخيبة الأمل، اذن أنا رجل قبيح المنظر" ومضى زمن طويل قبل أن تدرك الحاشية أن هذا كان مجرد تحية عفوية لأمانة الفنان. وبنفس الدقة والأمانة أخرج ريلي صور الملك الأحمق جيمس الثاني، وادموند ولإلر الشاعر المرتد، وارل آروندل الأرستقراطي التافه المختال. ولكنه حين رسم كرستوفر رن وروبرت بويل، وقع على العبقرية ووضع يده على إمارتها في الوجه، وبريقها في العينين. قال هوراس وولبول "ربما كان في مقدور ريلي، بربع غرور سير جودفري نللر، أن يقنع العالم بتفوقه وسموه(89). وفارق الحياة 1691 وهو في سن الخامسة والأربعين. وكان للي الهولندي ونللي الألماني فارسي الحلبة المرموقين في الرسم الأشخاص في عصر أل ستيوارت الثاني. وكان والد للي جندياً هولندياً اسمه فان درفاس. واشتق لقبه هذا (للي) من زنبقة كانت مرسومة على داره. وانحدر اللقب إلى الابن. ولد بيتر في وستفاليا 1618، ودرس الفن في هارلم، وعبر البحر إلى إنجلترا (1641) حين سمع أن شارل الأول أوتي الذوق والمال، ووفق في أن يختلف فانديك بوصفه مصور الأشخاص الذي يبتغيه الناس، وظل محتفظاً بمكانته هذه على عهد كرومول وشارل الثاني، وأقتبس للي أسلوب فانديك في إضفاء الأناقة والرشاقة على الجالسين أمامه (لرسمهم). ولو في اللباس فقط. وحاصرته ربات الجمال في الحاشية، من ذلك أننا نرى في قاعة المتحف الوطني لوحة نل جون ريانة فاتنة الدعارة. وكونتس شروزبري التي ساءت سمعتها، بمغامراتها الغرامية كما كما نرى على جدران قصر هامبتون كورت ليدي كاسلمين ولويزدي كيرووال، تزدهيان بحلمات أثدائهما. وأجمل من ذلك جون تشرشل وهو طفل مع أخته (89) أزابللا(90) ومن الذي كان يتوقع أن يصبح هذا الطفل الملائكي والطفلة الملائكية دون مالبرو القوى الجبار، والعشيقة التي تصعب زحزحتها لجيمس دوق يورك؟. وعن طريق مثل هذه اللوحات حصل للي على لقب فارس، وجمع ثورة، فقد جلس أمامه شارل الثاني وسة من الأدواق لرسمهم. ورأى بيبز أنه جبار معتد بنفسه .. يحظى بمنزلة رفيعة(91)، وكان يعيش "عيشة مترفة باذخة(92)" وحدد له موعداً للقائه بعد ثلاثة أسابيع.

وفي 1674، أي قبل وفاة للي بست سنوات، قدم إلى لندن رجل ألماني عقد العزم على لن يخلف سير بيتر (للي) في رسم الأشخاص وفي كسب المال وفي الفروسية، وحقق الرجل برنامجه وكان الرجل، وهو جوتفريد فون نللر، آنذاك في الثامنة والعشرين، وعينه شارل الثاني "مصور البلاط" واحتفظ نللر بهذا المنصب في عهد جيمس الثاني ووليم الثالث الذي منحه لقب فارس، ورسم سير جودفري لوحات لثلاثة وأربعين من أعضاء "نادي كيت كات" ذي المكانة السياسية البارزة(93) ولعشر من النساء الخطيرات المغويات في بلاط وليم(94). وغطى على شهرة ديدرن ولوك. ومثلما يتلهف أي إنسان على الخلود، حول نللر مرسمه الفخم إلى مصنع ينتج بالجملة، بهيئة لم يسبق لها مثيل من المساعدين، يختص كل منهم في شيء معين: الأيدي، الثياب الأشرطة والخطوط الملونة. وفي بعض الأحيان جلس أمامه أربعة عشر شخصاً في يوم واحد. وشيد قصراً في الريف، وتنقل بينه وبين بيته في المدينة في عربة تجرها ستة جياد. واحتفظ بحياته في كل التقلبات السياسية. وفاضت روحه وهو في فراشه معززاً مكرماً في سن السابعة والسبعين (1723) وفي تلك السنة ولد ربنولدز، وكان هو جارت في السادسة والعشرين من العمر، وبدأ الرسم الوطني يترعرع ويشق طريقه.

وقضى البيوريتانيون تقريباً على الفن، ولكنهم لم يخرسوا الموسيقى. ولم يَخلُ من الآلات الموسيقية إلا أحقر البيوت، ولحظ بيبز وجود العذراوية (آلة تشبه البيان الصغير بدون قوائم) في كل قارب من ثلاثة القوارب التي تحمل المنقذة في التيمز أثناء الحريق(95)، وكتب يقول: "لا بد أن أُفسح المجال للموسيقى والنساء مهما كنت مشغولاً".


وكان يورد ذكر صفارته ومزهره وعوده وقيثارته. قدر ما يذكر أسلحته(96) وكل إنسان ورد ذكره في مذكراته، كان يعزف ويغني. وكان من القضايا المسلم بها عنده أن أصدقاءه كان في مقدورهم أن يشاركوا في الغناء(97)، وأنه هو وزوجته وخادمتهما كانوا يغنون في حديقته غناءً متناغماً، بشكل مقبول إلى حد أن جيرانهم كانوا يفتحون النوافذ ليستمعوا إليهم.

وفي الابتهاج بعودة الملكية صدحت الموسيقى من كل شكل ولون. واستقدم شارل الموسيقيين من فرنسا. وسرعان ما جعل الناس يدركون أنه كان يحبذ الألحان الرخيمة المبهجة الواضحة التي لا تحسب الرياضيات تناسقاً أو تناغماً. ووضعت آلات الأرغن من جديد ولعلعت في الكنائس الرسمية. وكان الأرغن الذي صمم لكنيسة سانت جورج في وندسور، وللكتدرائية في أكستر، من بين عجائب الدنيا التي أحدثت دوياً في ذاك العصر. ولكن حتى في جماعة المنشدين في الكنيسة حل محل الوقار والرهبة، عروض مسرحية من فناني والآلات المنشدين المنفردين. وأمر شارل الثاني وجيمس الثاني بإعداد الموسيقى للشعر الغنائي وحلبات الرقص التي تقام احتفالاً بالمناسبات الملكية. واستخدمت الكنائس الموسيقى لقاء أجر، وجازفت المسارح بالأوبرا، وبدأ الملحنون والعازفون الإنجليز يرتزقون من جديد.

وفي 1656 أقنع سير وليم دافنانت حكومة الحماية لترخص له في إعادة افتتاح مسرح، على أساس أنه سيخرج أوبرا، لا رواية وفي "حفلة الأيام الأولى" التي مثلها لم يكن هناك أوبرا بقدر ما كان هناك سلسلة من الحوارات سبقتها وتخللتها وأعقبتها الموسيقى. ولكن في العام نفسهعرض دافنانت في مسرحه الخاص "رتلند هاوس" أول أوبرا لإنجليزية "حصار رودس(98)" ولكن إغلاق المسارح بسبب الطاعون والحريق، عوق هذه التجارب. على أنه في 1667 عرض دافنانت المغامر، في صورة موسيقية معدلة "العاصفة"التي زعم أنها من عمل أبيه. وحددت أوبرا بورسل "ديدو وإينياس" بداية الأوبرا الكاملة في إنجلترا.

وكما هو الحال غالباً في تاريخ الموسيقى، فإن عبقرية هنري بورسل كانت في معظمها نتاج وراثة اجتماعية -أي بيئة سن المراهقة. فكان أبوه رئيس المرتلين في وستمنستر، وكان عمه يشغل وظيفة "ملحن القيثارات لصاحب الجلالة". وكان أخوه ملحناً وكاتباً مسرحياً. وتابع أبنه وحفيده عمله في العزف على الأرغن في الكنيسة. أما هو فلم يمتد به الأجل لأكثر من سبعة وثلاثين عاماً (1658-1695)، وتولى الترتيل في الكنيسة الملكية وهو لا يزال صبياً، حتى ضعف صوته. وألف في شبابه ترانيم دينيه ظلت تسمع في الكاتدرائيات الإنجليزية على مدى قرن من الزمان: وألحنه الإثنى عشر من نوع السوناته (1683) لقيثارتين أو لأرغن وبيان قيثاري، هي التي جلبت شكل السوناته من إيطاليا إلى إنجلترا، ويقول بيرني أن أغانيه وترانيمه والكانتاتا (قصة تنشدها المجموعة على أنغام الموسيقى من غير تمثيل) وموسيقى الفرقة التي ألفها "فاقت إلى حد بعيد كل ما أنتجته أو استوردته بلادنا من قبل، إلى حد يبدو أن سائر الألحان الموسيقية باءت بالاحتقار أو لاذت بزوايا النسيان(99)".

ولما كان بروسل منهمكاً في عمله، عازفاً على الأرغن وملحناً، فإنه لم يتيسر له أن يخرج "ديدو وإينياس قبل 1689، لنخبه مختارة من المتفرجين، في إحدى مدارس البنات في لندن. وتبدو الموسيقى لنا الآن، حتى الاستهلال المشهور، هزيلة نحيلة، ولكن يجب أن نتذكر أن الأوبرا كانت في المهد، وأن جمهور المستمعين آنذاك لم يولع بالضوضاء والصخب مثلنا اليوم أما اللحن الأخير -عويل ديدو ونواحها: "عندما أتوسد الثرى" فإنه من أكثر ما يهز المشاعر ويؤثر في النفوس، من ألحان في تاريخ الأوبرا بأسره".

أما "الملك آرثر" (1691) التي كتب كلماتها دريدن ووضع موسيقاها بورسل، فليست أوبرا بالمعنى الكامل، حيث يبدو أن الموسيقى لم تكن مرتبطة إلا ارتباطاً يسيراً بجو الرواية أو أحداثها، مثلما أن الرواية بم يكن صلة وثيقة بعصر آرثر كما نراه في مالوري وتنيسون. وبعد ذلك بعم واحد، أحرز بورسل تقدماً أكثر في موسيقى ثانوية لرواية "فيري كوين: الملكة الجنية"، وتكييف مجهول الاسم "لحلم ليلة منتصف الصيف". ولم يمتد به الأجل ليشهد إخراجه، وضاعت الألحان، ولم تكتشف إلا في 1901 وهي الآن تعد من أحسن ما أنتج بورسل.

وفي 1693 وضع أكثر قصائده الغنائية الكثيرة، أحكاماً واتقاناً، في الاحتفال بيوم سانت سيسيليا. ولكن أرق هذه القصائد هي "تسبيحه الشكر والابتهاج" المرحة 1694. وكانت تعزف سنوياً في الاحتفال "بأبناء رجال الكنيسة" حتى 1713، حتى اشتركت في هذا الشرف مع مقطوعة هاندل "تسبيحه الشكر من أوترخت"، فكانت تعزفان بالتبادل سنوياً حتى 1743. من أجل جنازة الملكة ماري 1695، ألف بورسل ترتيلة مشهورة "يا ربنا: أنت أعلم بخفايا قلوبنا". وفي سنواته الأخيرة اسهم في الموسيقى الثانوية لرواية دريدن "الملكة الهولندية" ومن الواضح أنه مرض قبل أن يتمها لأن موسيقى الخاتمة وضعها أخوه دانيل. وحانت منيته، ربما بسبب السل، في 21 نوفمبر 1695.

وعلى الرغم مما امتلأت به فترة عودة الملكية من حيوية ونشاط، فإن الموسيقى الإنجليزية لم تكن قد أفاقت بعد من نكستها على يد البيوريتانيين بعد عهد اليزابيث. وبدلاً من ترسيخ جذورها ثانية في التربة الإنجليزية، حذت حذو الملك، فانحنت إجلالاً وإكباراً أمام الأساليب الفرنسية والآلات الإيطالية. وبعد أوبرا "ديدو واينياس" غزت الأوبرا الإيطالية مسرح الأوبرا الإنجليزية، يقدمها مغنون إيطاليون. كتب بورسل في 1690 "أن الموسيقى الإنجليزية لم تبلغ بعد سن الرشد إنها طفل تواق إلى طموح يبشر بما يمكن أن يكون عليه في المستقبل ... إذا وجد أساتذته مزيداً من التشجيع(100)".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

5- الأخلاق

فلنبدأ لفورنا هنا بالتفريق بين عامة الشعب وأبناء الطبقات العليا، فالاستهتار الجنسي الذي ساد فترة عودة الملكية، سرى عن طريق الحاشية إلى الطبقة الوسطى العليا وسكان المدن وما حولها الذين ترددوا على المسارح وربما كانت أخلاق العامة المغمورين أفضل منها في عصر اليزابيث، لأن النظام الاقتصادي أبقاهم على اعتدالهم وبعدهم عن السرف، فلم يكونوا يملكون الوسائل التي يتردون بها إلى مهاوي الرذيلة والشر، وطلوا يحسون بوازع من عقيدتهم البيوريتانية. في الحاشية الملكية، فإن التحلل من القيود البيوريتانية ورد الفعل النتاج عن ذلك، أديا إلى اتصال جنسي غير مشروع ومرح صاخب غير بريء. أما الشباب الأرستقراطي الذي خلع من أرض الوطن وأطلق لنفسه العنان في فرنسا، فقد ترك أخلاقه وراءه في المنفى، وأتى معه لدى عودته بضروب من الفوضى الموسومة بالرشاقة والظرف، وانتقاماً منهم للسنوات التي عانوا فيها عنت الظلم والحرمان والسلب والنهب، شنوا بكل ما أتوا من قوة وذكاء، الحرب على زي البيوريتانيين وحديثهم ولاهوتهم ومبادئ الأخلاق عندهم، إلى حد لم يجرؤ معه أحد من أبناء طبقتهم أن ينبس ببنت شفه من أجل الحشمة والوقار. وباتت الفضيلة والتقوى والأمانة الزوجية كلها ألواناً من البراءة أو السذاجة الريفية وأصبح الزاني الذي يوافق كل التوفيق غي هذه الرذيلة، هو بطل عصره وفريد زمانه، (كما هو الحال في رواية وتشر لي: الزوجة الريفية) والواقع أن الديانة فقدت مكانتها واعتبارها بين الناس، ولم يبق لها شيء من هذا إلا عند الحرفيين والفلاحين، وصار الواعظ موضع احتقار والازدراء على أنهم منافقون كئيبون أغبياء مزعجون مملون ثقال الظل. وأصبحت الديانة الوحيدة الصالحة للسيد الماجد هي الأنجليكانية المهذبة التي يحضر فيها المولى (رب العمل أو مالك الأرض) صلاة الأحد لتدعيم مركز القسيس الذي زرع الخوف من نار الجحيم في نفوس القرويين، ويسبح بالحمد والشكر، وفي إيجاز مناسب، من جانب المنصة التي يجلس إليها المولى أو سيد القرية. وأصبح أقرب إلى طابع العصر أن يكون المرء مادياً على مذهب هوبز، لا مسيحياً مثل ملتون، الأحمق العجوز الأعمى الذي نظر إلى سفر التكوين على أنه تاريخ، وفقدت نار الجحيم التي بولغ فيها في العشرين سنة الماضية، رهبتها وهيبتها لدى طبقات المالكين. أما الجنة في رأيهم، فهي مائلة دوماً في مجتمع متحرر من الثورة الاجتماعية والكبت الخلقي في ظل حاشية وملك ضرب المثل وتقدما الركب في الفسق والفجور والميسر واللهو والعبث.

وكان ثمة عدة رجال أفاضل ونساء فضليات بين أفراد البلاط الملكي، وكان كلاردند مثلاً رجلاً ذا المبادئ وسلوك قديم حتى سارت ابنته في طريق الغاوية فاهتاج وفقد صوابه، وأوصى بقتلها وتحلى أرل سوثمبتون الرابع ودوق أورمند الرابع بالحشمة والوقار، وكان من بين رجال الدين الأنجليكانيين نفر من المخلصين الأتقياء، حتى من الأساقفة أو ذوي المراتب الكنيسة العالية. وصدقت عزيمة الملكة وليدي فانشو والآنسة هملتون، والسيدة جودولفين فيما بعد، في التمسك بأهداب الفضيلة. ويقيناً كان هناك أفراد غير هؤلاء وهؤلاء، ضاعت ذكراهم في ثنايا التاريخ لأن الفضيلة لا تعلن عن نفسها.

وكلما علت المكانة انحطت الأخلاق. فهناك جيمس، دوق يورك، شقيق الملك، الذي يبدوا أنه بز الملك في حصته من الخليلات العشيقات(101). وبينما هو في المنفى تسلل إلى مخدع آن هايد ابنة قاضي القضاة، فلما حملت منه توسلت أن يتزوجها ولكنه كان يماطل، وأخيراً وقبل أن تضع وليدها بسبعة أيام (22 أكتوبر 1660) أتخذ منها زوجة شرعية سراً. وعندما سمع أبوها (كلارندون) بنبأ هذا الزواج، كما تروي سيرة حياته(102) احتج لدى الملك بأنه لم يعلم شيئاً عن هذا الاتفاق، وأنه "كان يؤثر أن تكون ابنة خليله الدوق لا زوجته، وأنهما إذا حقاً كان قد تزوجا "فينبغي على الملك أن يزج بالمرأة في السجن فوراً"، وأن يصدر في الحال قرار من البرلمان بقطع رأسها، وأنه لن يوافق على هذا القرار فحسب، بل سيكون عن طيب خاطر أول من يقترحه". وهز الملك كتفيه استهجاناً للموضوع على أنه هراء لا غناء فيه، وكان يسمع جعجعة ولا يرى طحناً، وربما أدرك قاض القضاة أن الملك لن يلزمه بكلمته. وتحدث في صراحة وتجهم، على الطريقة الرومانية، ليعوض عما أثار من ريبة من أنه رتب أمر الزواج من قبل، ليجعل من أبنته ملكة على أن أبنته آن ماتت بالسرطان في 1671، في سن الرابعة والثلاثين.

واتخذ جيمس، بينما كانت زوجته (آن) تعاني من مشاكل الأمومة، من أرابللا عشيقة له، وهي التي أرتضى أخوها هذا الوضع حتى يحظى بالترف في مناصب الجيش. ورغبة في معاونة آن وأرابللا والتخفيف عنهما اتخذ الدوق بضع خليلات لمضاجعته واستاء إيفلين بصفة خاصة من سلوكه الشائن مع ليدي دنهام (1666)(103). ولم يغير تحول جيمس إلى الكثلكة من خلقه شيئاً. فكان كلما كتب بيرنت "دائم التنقل من غرام إلى غرام دون أن يحسن الاختيار، حتى قال الملك يوماً أنه يعتقد أن القساوسة هم الذين يقدمون له العشيقات عقوبة يكفر بها عن ذنوبه(104)" ودامت علاقته بأرابللا نغمة عذبة من الأرغن، وسط هذا التنقل بين مطارح الهوى، وبقيت بعد موت آن، وبعد زواج جيمس (1673) من ماري مودينا.

وينبغي علينا أن نضيف إلى ما ذكرنا، أن دوق يورك نفسه كان يتحلى بمناقب تدعو إلى الإعجاب، فإنه- وهو أمير البحر (1660-1673)، بذل أقصى الجهد في التغلب على سوء النظام والفساد في البحرية، نتيجة لضآلة الأجور والمؤن التي تصرف لرجال البحر وتدريبهم الهزيل، وأبدى مهارة وشجاعة في اشتباكاته مع الهولنديين. ونهض بمهام الإدارة في مقدرة وإخلاص. ولم تشب أية شائبة قط إخلاصه العميق لأخيه الملك، بل أنتظر صابراً طيلة ربع قرن من الزمان قبل أن يخلفه على العرش. وكان صريحاً مخلصاً يسهل الوصول إليه، ولكنه كان شديد التكلف بمكانته وسلطانه إلى حد لم يكن معه شعبياً، وكان صديقاً يقيم على الود، وعدواً عنيداً لا يغتفر الإساءة. وكان ذا جلد على العمل الشاق و لكنه لم يكن متوقد الذكاء. وكان يأنبى النصح والمشورة أيما إباء.

وكان يحتل المركز الثاني في البلاط، جورج فليبر دوق بكنجهام الثاني. وكان ابن محظية جيمس الأول التي لقيت حتفها، ومن ثم قاتل إلى جانب شارل الأول في الحرب الأهلية، ومع شارل الثاني في وورسستر، وعينه الملك الذي أسترد العرش عضوا في مجلسه الخاص وكان بارعاً ذكياً أنيساً كريماً، ولذلك سيطر في البلاط بسحره وفتنته لبعض الوقت، وكتب "ملهاة" رائعة. "التجربة"، وتلهى بالكيمياء القديمة والعزف على القيثارة إلى حد ما. ولكن وجهه وثراءه جلب عليه الدمار. أنه تنقل من امرأة إلى أخرى، وانغمس في عبث مخز شائن. وبدد ضيعته الهائلة. وكان يتوق إلى الظفر بكونتيس شروزبري، فتحدى زوجها لمبارزته، وتنكرت هي في زي خادم، وأمسكت بجواد بكنجهام أثناء المبارزة، وصرع بكنجهام الكونت، وعانقت الأرملة السعيدة الدوق المنتصر الذي كان لا يزال مضجراً بدم زوجها، وعادا ظافرين إلى قصر الفريسة(105). وعزل بكنجهام عن منصبه(1674)، وانصرف إلى اللهو والعبث، ومات فقيراً معدماً يجلله الخزي والعار. وكان ينافس بكنجهام في المكانة والذكاء والقصف والعربدة والانحلال جون ولموت أرل روشستر الثاني، حصل جون على درجة الأستاذية من أكسفور في سن الرابعة عشر (1661) وهو أمر لا يصدق، والتحق بالبلاط في سن السابعة عشر. وأصبح المشرف على حجرة الملك. وكان في حاجة إلى المال وهو في سن التاسعة عشرة، فتودد إلى وريثة ثرية تباطأت في تحقيق بغيته، فاختطفها، ومن أجل ذلك زج به في السجن، فرق قلبها له، ثم حظي بالزواج منها، ثم بثروتها، وكم من مرة أبعده شارل عن الحاشية وأعاده إليها، مستسيغاً فطنته وذكاءه. وكان روشستر - مثل بكنجهام- خبيراً في التقيد والمحاكاة، وكان يسر بالتنكر في زي حمال أو متسول أو تاجر أو طبيب ألماني، وكان يوفق في هذا التمثيل والمحاكاة إلى حد ضلل أو خدع معه أوثق أصدقاء صلة به. وزعم بوصفه طبيباً أنه يبرئ من الأدواء المستعصية عن طريق علمه بالتنجيم. وجذب إليه مئات من المرضى، وشفى عدداً منهم، وسرعان ما قصدت إليه سيدات البلاط لعلاجهن، وعجز أولئك الذين عرفوه حق المعرفة، عن التعرف عليه(106) وفي كل هذه التكرات تقريباً كان يطارد السيدات، دون أي اعتبار إلى مكانتهم. وكن هن يتعقبنه كذلك. وتسلى جون بكتابة قطع من الهجاء البذيء الداعر. وقضى على حياته بالخمر والفجور. وكان يفخر بأنه كان ثملاً مخموراً لمدة خمسة سنوات بلا انقطاع -ومات فقيراً نادماً في السن الثالثة والثلاثين.

وكان في الحاشية رجال كثيرون من أمثال ولموت، حتى أن بيبز نفسه، وهو غيرها وللزنى تسائل: "ماذا تكون نهاية كل هذا الشراب وهذا السباب وهذه العلاقات الغرامية الفاجرة(107)" وعبر بوب عن هذه الحالة في "بحث في النقد"، ولكنه لم ينصف الملك كل الإنصاف، فهو يقول:

"إذا كانت المهمة الهينة اللينة للملك عي العشق والغرام، فقلما نراه في مجلس الحكم، ولا نراه أبداً في ساحة الوغى، فإن الدولة يحكمها النساء الحانثات بالعهد اللائى ينتقلن من حب إلى حب، أما رجال الدولة والسياسة فيكتبون المسرحيات الهزلية والساخرة ولا ستفاد بذوي المواهب، واللوردات الشبان اليافعون خلو من الذكاء والفطنة، .... ولم تعد المروحة المتواضعة المتحشمة ترفع، وعلت الابتسامة وجوه العذارى لما كانت وجناتهن تحمر له حياء وخجلاً من قبل(108).

وكان من الأمور المسلم بها أن الزوجات -مثل الأزواج- تعوزهن الأمانة والإخلاص، فإن الرجال لم يطلبوا الأمانة والإخلاص إلا في عشيقاتهم(109). إن مذكرات كونت فيليبرت دي جرامونت التي دونها بالفرنسية أخو زوجته، أنطوني هملتون، كانت، أحياناً، عبارة عن قائمة بالمغرورين المختالين، أو سلسلة من الديوثين الذين لا يغارون على زوجاتهم وهم يعملون أنهن يأتين الفاحشة، كما رآهم الكونت في منفاه السعيد في بلاط شارل الثاني.

وكم كانت الساعات تقضى وتخصص للرقص وسباقات الخيل وصراع الديكة ولعب البليارد والورق والشطرنج، والألعاب الرياضية والحفلات التنكرية المرحة، ثم كما يقول بيرنت "يطوف الملك والملكة وكل أفراد البلاط، وهم جميعاً متنكرون، بالبيوت الغير معروفة، حيث يرقصون ويلعبون ويلهون في صخب فاجر(110)" وكانت المراهنات على مبالغ طائلة. يقول ايفلين "في هذه الليلة، افتتح جلالة الملك الحلبة، كما هي العادة، فألقى "الزهر" بنفسه في القاعة الخاصة، ... وخمس مائة جنيه. (وكان قد كسب في العام الماضي 1500 جنيه). وأقبلت السيدات على اللعب إقبالاً شديداً(111) "وحذت الطبقات العليا حذو الحاشية في القمار والدعارة. وتحدث ايفلين عن شباب إنجلترا الفاسق الفاجر الذي فاقت إلى حد كبير دعارته سائر الأمم المتحضرة مهما كانت(112). وانتشر اللواط، وبخاصة في الجيش. وكتب روشستر رواية عنوانها "سودومي" (نسبة إلى سودوم قرية قوم لوط) مثلت أمام الحاشية، والظاهر أنه كان في إنجلترا عدداً من المواخير لهذا الاختلاط الجنسي الشاذ(113).

وكان عدد الزيجات القائمة على الحب يتزايد، وهناك أمثلة رائعة، منها زواج دوروتي أو زيورن من وليم تمبل، الذي ثبت أنه زواج سعيد، ولو أن دوروتي كتبت تقول: "ليس الزواج القائم على الحب تصرفاً معيباً ملوماً، إذ كنا لم نر من بين ألف من الزوجين الحبيبين الذين يقدمون عليه، زواجاً واحد يمكن أن يتخذ مثلاً على أن يكون إتمامه دون ندم عليه في المستقبل(114)". وكتب سويفت إلى سيدة شابة في موضوع زواجها فتحدث عن الشخص الذي اختاره أبوها ليكون زوجا لها. وأضاف "أن زواجك كان قائماً على الحكمة والحصافة والتدبير والشعور والطيب المتبادل، خالياً من عوائق الانفعال السخيف في حب الرومانتيك(115)". ويذكر كلارندون: "إن رغبتي الأولى في الزواج لم تتعلق إلا بضيعة ملائمة مريحة(116)".

ومن الناحية النظرية كان للزوج كل السيطرة على زوجته، كما يتحكم حتى في الصداق الذي أتت به إليه. وفي كل الطبقات كانت مشيئة الزوج قانوناً. وفي الطبقات الدنيا أستعمل الزوج حقوقه المشروعة في ضرب زوجته، ولكن القانون حرم عليه استعمال عصا يجاوز سُمكها سُمك إبهامه(117). وكان انضباط الأسرة أو نظامها انضباطاً قوياً، اللهم إلا في الطبقات العليا في لندن، حيث شكا كلارندون من أن الوالدين ليس لهما لأي سلطان على الأبناء، كما أن هؤلاء لا يذعنون للآباء ولا يطيعونهم. بل "أن كل إنسان يتصرف كما يحلو له"(118). وكان الطلاق نادراً، ولكن يمكن إجازته بقرار من البرلمان. ورأى الأسقف بيرنت -مثل لوثر وملتون- أنه يمكن السماح يتعدد الزوجات في حالات معينة، وعرض هذه الفكرة على شارل الثاني، بسبب عقم الملكة، ولكن الملك رفضها، تحاشياً للتمادي في إذلال زوجته(119).

وهددت الجريمة الأرواح والممتلكات بشكل مستمر. وكان اللصوص والنشالون يجتمعون في عصابات ويسطون في جنح الليل، وكانت المبارزة محرمة بحكم القانون، ولكنها بقيت امتيازاً للسادة الاماجد، فإذا صرع مبارز غريمة وفقاً للقواعد، نجا المنتصر عادةً بسجن قصير مريح. وسعى القانون جاهداً ليكافح الجريمة عن طريق ما يبدو الآن من عقوبات وحشية. ولكن ربما كانت الإجراءات الصارمة لازمة لغزو العقول المتحجرة أو المتبلدة. وكان التعذيب والموت عقوبة الخيانة العظمى. وكان الشنق عقوبة القتل أو الجناية أو تزييف العملة، وكانت الزوجة التي تقتل زوجها تحرق حية. أما السرقات الخفيفة فكانت عقوبتها الجلد، أو قطع إحدى الأذنين، وضرب أي فرد من حاشية الملك يعاقب بقطع اليد اليمنى. أما التزوير والخداع وغش الموازيين والمقاييس فكانت عقوبتها التعذيب في المشهرة، أحياناً مع دق الأذنين كلتيهما بالمسامير في آلة التعذيب، أو ثقب اللسان بقضيب من الحديد المحمي(120). وكان الناس عادة يستمتعون بمشاهدة مثل هذه العقوبات(121)، ويحتشدون، وكأنهم في يوم عطلة، ليشهدوا سجيناً على حبل المشنقة. وضمت السجون في عهد الملك السعيد عشرة آلاف سجين من أجل الديون، وكانت السجون قذرة، ولكن كان من الممكن أن يقدم الحراس بعض التيسيرات مقابل رشوة. كانت العقوبة أشد صرامة وقسوة منها في فرنسا المعاصرة، ولكن القانون كان أكثر تحرراً. ولم تكن في إنجلترا "أوامر مختومة" (لا لقاء أي شخص في السجن دون محاكمته)، بل كان فيها نظام التحقيق في قانونية الاعتقال. إلى جانب نظام المحلفين.

وشاركت الأخلاقيات الاجتماعية في الانحلال العام. وتزايدت أعمال البر. ولكن ربما كان الواحد والأربعون ملجأ في إنجلترا مجرد وجه آخر لجشع الأقوياء، وكان كل فرد تقريباً يعمد إلى الغش أثناء لعب الورق (122) ودب الفساد في كل الطبقات بمعدل أكبر من المستوى العادي. ومن مذكرات بيز تفوح رائحة الفساد في مختلف الأعمال، في السياسة وفي البحرية وفي بيبز نفسه. من ذلك أن المؤسسات والمصانع زادت في أسهمها دون زيادة مقابلة في رأس المال، وزورت في حساباتها، وتقاضت من الحكومة أثماناً فادحة(123). وكانت الاعتمادات التي يقرها البرلمان للجيوش أو الأسطول يتحول جزء منها إلى جيوب الموظفين ورجال البلاط. وباع موظفي الدولة -حتى ولو كانت رواتبهم كافية تدفع بانتظام- الألقاب والعقود والبراءات والتعيينات وأوامر العفو، إلى حد بات معه الراتب الأصلي يشكل الجزء الأصغر مما يدخل إلى جيوبهم(124)". وأثري كبار رجال الحكومة مثل كلارندون ودانبي وسندرلند -أثروا في سنوات قليلة واشتروا أو بنوا ضياعاً لا تتناسب قط مع رواتبهم. وباع أعضاء البرلمان أصواتهم للوزراء، بل حتى للحكومات الأجنبية(125) وفي القرارات انتزع مائتا عضو من صفوف المعارضة، نتيجة لأن الوزراء اشتروا أصواتهم(126). وفي 1675 قدر أن ثلثي أعضاء مجلس العموم كانوا مأجورين من قبل شارل الثاني، والثلث الباقي من قبل لويس الرابع عشر(127) حيث وجد العاهل الفرنسي أنه من الميسور أن يرشوا الأعضاء ليصوتوا ضد شارل إذا حاد بشكل مزعج عن سياسة البوربون. أما شارل نفسه فكم من مرة تسلم أموال طائلة من لويس، حتى يلتزم الدوران في فلك فرنسا في السياسة أو الدين أو الحرب، وهكذا كان المجتمع الإنجليزي أكثر المجتمعات استهتاراً وفساداً في التاريخ.


6- العادات

حاولت العادات أو أساليب الحياة هنا أن تعوض عن النقص في الآداب -كما في فرنسا-، وأن تضفي كياسة متكلفة على الملابس المزركشة الأنيقة والأدب الفاجر، والحديث الدنس. وكان شارل نفسه مثلاً لأسلوب الحياة وتسرب إلى الطبقات العليا ما تجمل به الملك من ظرف ولطف ومجاملة وسحر وفتنة، وترك كل أولئك بصماته على الحياة في إنجلترا. فتبادل الرجال القبلات عند اللقاء. وقبلوا يد المرأة إذا قدموا إليها. وفي لندن -كما كان في باريس- استقبلت السيدات الرجال في الفراش، فكان هناك صراحة منعشة واحتقار في الأدب وفي المسرح وفي البلاط. ولكن الصراحة أطلقت فيضاً من الخشونة عل المسرح وفي الحديث اليومي. وكانت البذاءة في إنجلترا بغير مثال. وفي هذا كان شارل من بين الشواذ الخارجين على القاعدة، حيث كان لا يتجاوز في السباب "عبارته المفضلة Odds Fish" وكان البيوريتانيون الباقون ينأون بأنفسهم عن فحش القول إلا إذا هاجموا خصومهم وسخروا منهم. أما الكويكرز فامتنعوا عن الحلف. وبز الرجال النساء في الملابس الغربية، من الشعر المستعار المضمخ بالمساحيق لأجل التبرج، إلى الجوارب الحريرية والأحذية ذات "الإبزيم" وكان الشعر المستعار بدعه أخرى مستوردة من فرنسا. وكان الفرسان والمختالون وغيرهم، ممن كان شعرهم قصيراً، أو ممن يخافون أن يخطئهم الناس على أنهم من البيوريتانيين ذوي الرؤوس المستديرة الذين كانوا يقصون شعورهم قصاً قصيراً جداً، نقول أن هؤلاء وهؤلاء كانوا يغطون قص شعرهم بشعور أجنبية مستعارة. أما الرجال الذين أبيض شعرهم أو مال إلى الشيب فقد وجدوا في الشعر المستعار وسيلة ناجحة لإخفاء أعمارهم. وكان كل الرجال تقريباً يحلقون اللحى آنذاك. وكان هذا الشعر المستعار يصلح من شأن بشرة الملك الأسبانية وأنفه الضخم. وجعل بيبز من أول شعر مستعار وضعه مسألة خطيرة، وربى لشعره المحبب إليه الذي كان لزماً أن يقص ليفسح الطريق "الباروكة -الشعر المستعار" ويزود بالشعر رأس إنسان آخر(128)، وكان لزماً أن يتم تنظيف شعره المستعار من القمل في أوقات منتظمة(129) -واختفى الآن طوق الرقية المكشكش المتيبس الذي كان سائداً في عهد اليزابيث وجيمس الأول. كما اختفت السترة الضيقة والعباءة الطويلة ليحل محلها الصدرية والمعطف. ووصلت الصدرية على أية حال إلى ربلة الساق. وكانت تشد إلى الجسم بحزام. وتوقفت "بنطلونات" الركوب عند الركبتين وتدلت السيوف إلى جوانب الأرستقراطيين أو الأغنياء. وساعد المخملات والمخرمات والأشرطة، والأهداب وكشكشة الثياب على استكمال الظرف والكياسة، وربما أستخدم الناس لتدفئة اليدين في الشتاء، "الموقه" وهي غطاء أنبوبي طويل مكسو بالفراء، بعلق في العنق.

أما نساء الطبقات العليا الأنيقات (طبقا لآخر طراز) فكن يضمخن شعورهن بالمساحيق والعطور، ويمشطنها في خصلات فوق جباههن، وزدن عليهن خصلات مستعارة مرفوعة على أسلاك خفية، وكسون قبعاتهن بالريش النادر، ووضعن على خدودهن أو جباههن أو أذقانهن "لصوقات تجميلية" (وهي قطع صغيرة جداً من الحرير الأسود يلصقها النساء كوسيلة لإخفاء العيوب أو التبرج)، زيادة في إغراء الرجال بمطاردتهن. وكشف عن أكتافهن وعن أجزاء كبيرة من نهودهن، لويز كيروول أمام الرسام للي ليصورها وأحد نهديها عار تماماً، وبزتها نل جوين في ذلك. وكانت النساء تحجبن سيقانهن بشكل مغر. وتزايد الطلب على أدوات التجميل الأنيقة. فكانت المرأة بالفعل شيئاً معقداً أستخدم الإنسان براعته في تشكيله وتصنعه، حتى صورتها إحدى الروايات في فترة عودة الملكية، في شيء من المغالاة والإغراق في الوصف.

"صنعت أسنانها عند ناظم اللالي (في بارك فرايرز)، وحواجبها من خيوط وأسلاك مجدولة (في استراند)، وشعرها في شارع "الفضة"، فإذا أوت إلى الفراش نزعت عن نفسها كل ما عليها لتضعه في عشرين صندوقاً، حتى إذا نهضت من نومها في اليوم التالي، رَكَبت كل شيء في مكانه على جسمها من جديد. وكأنها ساعة حائط ألمانية ضخمة(130)".

وكان التبذير واجباً حتمياً، لقد أصبحت الحياة وظهرية متكلفة من جديد، ومن ثم اقتضت تجهيزات معقدة مفصلة. وكان لازماً استئجار عدد كبير من الخدم. فكان منهم لدى والد ايفلين نحو خمسين وكان لدى بيبز طباخ ومديرة ووصيفة وخادمة، وكانت واجبات الطعام مروعة أنظر إلى غداء بيبز في 26 يناير 1660 قبل أيام الطيش والغرارة بزمن طويل: "أعدت زوجتي غداءً شهياً جداً: من "عظام النخاع"، وفخذ من الضأن، وقطعة من لحم العجل، وصحناً من الطيور، وثلاث دجاجات، واثني عشر زوجاً من القنبر في طبق واحد، وكعكة ضخمة محشوة بالمربى والفاكهة المطبوخة (تورتة)، ولسان بقرة، وطبقاً من السمك الغير "الأنشوجة"، وطبقاً من القريدس (الجمبري) والجبن".

وكانوا يتناولون الوجبة الرئيسية في الساعة الواحدة. وكان المطبخ إنجليزياً. وعندما أوضح شارل الثاني لجرامونت أن الخدم كانوا يقدمون الطعام للملك، وهم ركوع، رمزاً للاحترام والإجلال، قال جرامونت (أو روي أنه قال): "أشكر لجلالتكم هذا الإيضاح، فقد ذهب تفكيري إنما كانوا يلتمسون المغفرة لتقديمهم طعاماً رديئاً(131)".

ولم يكن تناول المشروبات الروحية نجرد مظهر اجتماعي. فقلما كان الناس، حتى الأطفال، يشربون الماء(132)، وكانت "البيرة" أيسر منالاً من الماء الصالح للشرب. ومن ثم تناول مختلف الناس من مختلف الأسنان، البيرة، وأضاف الموسرون إليها الويسكي ا استوردوا النبيذ. وتردد معظم الناس على الحانات مرة واحة في اليوم، وتناول كل الأفراد من جميع الطبقات الخمر من حين إلى آخر.

ودخل البن من تركيا حوالي 1650. وحتى 1700 كان معظم البن يستورد من إقليم مخا في اليمن. وفي القرن الثامن عشر نقل الهولنديون زراعته إلى جاوة والبرتغاليون إلى سيلان والبرازيل، والإنجليز إلى جاميكا. وساعد استخدام القهوة في التغلب على الخمول والكسل وفي شحذ الذهن، على انتشارها وإقبال الناس عليها. وافتتحت لند أول مقهى فيها في 1652، وما أوفى عام 1700 حتى كان بها 3000 مقهى(133) واتخذ كل فرد مهما كانت مكانته، أحد المقاهي محلاً مختاراً لمقابلاته بانتظام، حيث يلتقي بأصدقائه ويستمع إلى آخر الأنباء والمخازي. وحاول شارل الثاني أن يحد من انتشار المقاهي ومن نشاطها باعتبارها مركز لإهاجة المشاعر السياسية والمؤامرات، لكن شهوة الحديث والشراب والاستمتاع برائحة التبغ أحبطت مساعيه. ومن به\عض المقاهي نشأت الأندية التي لعبت دوراً في سياسية القرن الثامن عشر،ثم أصبحت آنذاك ملاذاً ومهرباً من أحادية الزواج، واختلفت المقاهي الأندية التي ظهرت متأخرة عنها، لا لمجرد أن القهوة كانت المشروب المفضل فيها، بل لأن الحديث كان يلقي تشجيعاً فيها. كما أن مشاهير الأدباء مثل دريدرن وأديسون وسيفت وجدوا فيها منابرهم (في المقاهي). كما أن حرية الكلام في إنجلترا انتعشت وازدهرت هناك.

وجاء الشاي إلى إنجلترا من الصين حوالي 1650، ولكنه كان غالي الثمن. إلى حد أنه لم يحل محل البن في الحياة الإنجليزية إلا بعد قرن من الزمان. وحسب بيبز أنه إنما كان يقوم بمغامرة حين تناول أول فنجان من الشاي(134). وفي نفس الوقت استورد حب الكاكاو من المكسيك وأمريكا الوسطى. وحوالي 1658 أستحدث شراب جديد بإضافة "الفانيليا" والسكر إلى الكاكاو. وأصبحت "الشوكولاته" الناتجة عن هذا المزيج شراباً محبباً مألوفاً في فترة عودة الملكية. وكان يقدم في كثير من المقاهي.

وفي تلك الآونة دخنت التبغ كل الطبقات، بما في ذلك كثير من النساء وبعض الأولاد، في أنابيب طويلة دوماً. وظنت النساء أن لهذا التبغ بعض الفائدة في التطهير والوقاية من الطاعون. وربما نشأت عن هذه الفكرة عادة "السعوط" في تلك الأيام، أي نشوق التبغ المسحوق.

والآن وقد تخلص الناس من كابوس البيوريتانية، فقد ازدهرت الألعاب وأسباب التسلية والسيرك وصراع الديكة ومطاردة الدببة والثيران، وألعاب البهلوان على الحبال والمصارعة، والشعوذة والملاكمة والسحر، وانغمس الموسرون في الصيد بنوعيه: صيد النساء وصيد الحيوان. وظل شارل الثاني يمارس لعبة التنس حتى بلغ الثالثة والخمسين. أما ايفلين فقد أحب لعبة البولنج على الأرض الخضراء، التي لا تزال منظراً محبباً لدى الإنجليز حتى اليوم. وكانت لعبة الكريكت قد بدأت تكون ذو وسيلة لقضاء وقت الفراغ في الأمة بأسرها ولأول مرة في 1661 يرد ذكر قطعة من الأرض مخصصة لهذه اللعبة، ففي تلك السنة خططت حدائق فوكسهول على الضفة الجنوبية للتيمز، وسرعان ما أصبحت منتجعاً أنيقاً على أحدث طراز. وافتتح شارل الثاني للجمهور منتزه سان جيمس، وأقيمت آنذاك حدائق هايد براك حيث يقصد إليها في الأمسيات الظريفة، علية القوم وعلى رأسهم الملك والملكة. إن "المجتمع" بدأ آنذاك يستشفي من مياه باث المعدنية.

وتنقل الناس -فيما خلا أفقر الطبقات- في عربات تجرها الجياد، التي كانت قد بدأت تؤدي خدمة بريدية منتظمة لقاء بنس في 1657، ثم استخدمت لنقل الركاب في مواعيد منتظمة في 1658، وكانت هذه العربات قد استخدمت لنقل السلع والتجارة داخل المدينة منذ 1625. وتنقل كبار الأغنياء في عربات تجرها ستة جياد. وكانوا يصطحبون ثلاث فرق من الجياد، لا لمجرد العرض وحب الظهور، ولكن لتجر العربة في الطريق الموحلة. وكانت الماشية المحلية في بعض الأحيان تربط أمام الجياد لتشد العربة وتسحبها في المستنقعات العميقة. لقد كانت الطرقات مغطاة بالأتربة أو الأوحال. إن الحانات والإنزال على جانبي الطريق، بالخليط العجيب من نزلائها من سائقي العربات والمسافرين والممثلين والبائعين واللصوص والبغايا، كانت تهيء السبيل أمام هؤلاء للإسهام في الأدب في إنجلترا وهكذا كانت تشكل إنجلترا الخشنة المحببة إلى النفس والمفعمة بالحيوية، التي عرفها دكنز في شبابه.


7- الدين والسياسة

استمر النزاع بين المذاهب الدينية، وتجدد النزاع القديم بين الملك والبرلمان، وسط تفتح الناس وتوافر أسباب الحياة لديهم وتكاثرهم. وأحزن الملك المبتهج أن يرى مجلس العموم، بعدما ظهر في إذعان وامتثال في شهر العسل، يغار من سلطة الملك وقوته، ويقبض عنه الاعتمادات. لقد كان الملك رقيق القلب ولكنه حازم صلب العود. فولى وجهه شطر ملك فرنسا ليحصل منه على قروض خاصة، ووعد، وواضح أنه رغب -في التخفيف من ويلات الكاثوليك الإنجليز، كما وعد بتأييد لويس الرابع عشر ضد الأراضي الوطيئة، وبيع ثغر دنغر دنكرك على القنال الإنجليزي لفرنسا، وكان جنود كرومول قد استولى عليه. والحق أن الدفاع عنه كان بكلف أموالاً طائلة، وكان شوكة في جنب فرنسا. فتخلى شارل عن دنكرك (1662) مقابل خمسة ملايين فرانك بالإضافة إلى إعانات سرية من البوربون، استطاع بها لبعض الوقت أن يتجاهل أوليجاركية الأرض والمال التي تحكمت في البرلمان آنذاك.

إن هؤلاء الأوليجاركيين، على أية حال، رأوا أن أموال الحكومة ينبغي أن تستخدم في شن حرب مربحة أخرى ضد الهولنديين. إن نفس المنافسة على التجارة ومصايد الأسماك التي أدت إلى الحرب الهولندية الأولى من قبل في 1652 هي التي عززت فكرة الحرب الثانية 1664. وقاوم شارل هذا الاتجاه إلى الحرب، لأطول مدة ممكنة، لأنه آثر المحبة والمودة أيما إيثار. وكتب لأخته يقول: لم أر قط مثل هذه الشهوة الجامحة للحرب في الريف والحضر كليهما، وبخاصة لدى رجال البرلمان. إني أجد أنني الرجل الوحيد الذي لا يريد الحرب في مملكتي(135)".

لقد ساءت الأحوال. وحارب الأسطول الإنجليزي ببسالة عل الرغم من سوء تغذيته وضآلة ملابسه وذخائره، ولكنه خسر بقدر ما انتصر، وفي الوقت الذي حمى فيه وطيس الحرب، ترك الطاعون والحريق لندن موحشة مقفرة، كما ترك إنجلترا مفلسة، وفي أخريات عام 1666 فتح الهولنديون باب المنازعات لعقد الصلح وسر الملك بقرب التوصل إلى تفاهم، فأرسل مندوبين إلى بريدا. ووثوقاً منه بأن الاتفاق كان وشيكاً، ومذ رأى أن أمواله على وشك النفاذ، فإنه تحيى جانباً من أسطوله في "مدواي"، وسمح للبحارة بالاشتغال في السفن التجارية. فما كان من "دي رويتر" إلا أن قاد أسطولاً هولندياً إلى التيمز ومداوي ودمر معظم السفن الإنجليزية التي خلت من الرجال. ويقول بيبز أنه في تلك الليلة "كان الملك يتناول العشاء مع الليدي كاسلمين عند دوقة مونموث، وقد شغل الجميع إلى حد الجنون باصطياد فراشة مسكينة(163)" وعندما وصلت أنباء الهجوم على لندن، دعا كل رجل مفتول العضلات إلى حمل السلاح. ولكن الهولنديين كذلك رغبوا في الصلح، لأن الفرنسيين كانوا قد أغاروا على إقليم فلاندرز. وأنهت معاهدة بريدا في 21 يوليو 1667، الحرب الهولندية الثانية بشروط لم يرتح لها الجميع.

وأضعف هذا الإخفاق التام الكوارث التي توالت على لندن، مركز الملك إلى حد أن بعض الإنجليز فكروا في خلعه.وطالب البرلمان بفرض رقابة برلمانية على المصروفات الحكومة. وأذعن الملك، لأنه كان خالي الوفاض، ولأن خطوة أخرى فد اتخذت نحو سيادة البرلمان الذي طالب كذلك بعزل كلارندون، لسوء معالجته للشؤون الخارجية. ولم يكن شار يكره عزله، لأن مستشاره كان يعارض تحركه في اتجاه التسامح الديني، وينتقد انغماسه مع الخليلات، ولم يكتف مجلس العموم باستقالة كلارندون، فقدم اقتراحاً بمحاكمته بتهمة خضوعه الذليل لفرنسا. فاستمع كلارندون لنصيحة الملك، ولاذ بالفرار إلى القارة. وكانت خاتمة محزنة قاسية لرجل حفل سجل حياته بالخدمات. وكرم الشيخ الهرم منفاه بتدوين أجمل مؤلف تاريخي أخرجه الأدب الإنجليزي حتى ذاك اليوم. ووافته المنية في روان (على السين في شمال فرنسا) في 1674، وهو في الخامسة والستين.

وعين الملك شارل (1668) خمسة رجال ليحلوا محل كلارندون: توماس كليفورد، إرل آرلنجتون، ودوق بكنجهام، ولورد آشلي (الذي أصبح على الفور إرل شافتسبري الأول) وإرل لودرديل. وكونت الحروف الأولى من أسمائهم لفظة " كابال Cabal" التي سميت بها الوزراة الجديدة. وكان كليفورد يعلن عن كثلكة، وكان آرلنجتون ميالاً إلى هذا المذهب، وكان بكنجهام خليعاً فاسقاً، وكان شافتسبري متسامحاً شكاكاً، أما لودرديل فكان من "رجال المواثيق" السابقين، وهو الذي فرض النظام الأسقفي بالنار والسيف، على مواطنيه الاسكتلنديين. واستمع شارل إلى آرائهم أو مشوراتهم المتعارضة. ولكن تزايد، على مر الأيام اعتماده على نفسه والتزامه برأيه الخاص.

وكان للملك هدفان أساسيان: تجديد الملكية المطلقة وإقامة الكاثوليكية ورفع شأنها في إنجلترا. ونظر بعين الأمل إلى أن الذي سيخلفه هو أخوه الكاثوليكي جيمس، وتبادل الرسائل مع زعيم اليسوعيين في روما، وأستقبل سراً مندوباً بابوياً قدم إلى لندن من بروكسل(137). وفي يناير 1669 أبلغ أخاه وكليفورد وآرلنجتون ولورد آرندل أنه يرغب في المصالحة مع كنيسة رومه،وفي إعادة كل الإنجليز إلى المذهب القديم(138). أن أخته هنريتا لم تكف يوماً على أن تحضه على أن يعلن في جرأة وشجاعة ارتداده إلى الكثلكة.

وفي مايو 1670 أرسل لويس الرابع عشر هنريتا إلى إنجلترا وفي معييتها عدد من الدبلوماسيين الدُهاة، ليعاونوها على ربط شارل بسياسة فرنسية كاثوليكية. وفي أول يونيو 1670 وقع كليفورد وآروندل وآرانجتون باسم إنجلترا معاهدة دوفر السرية. ووافق ملك فرنسا على أن يدفعوا لشارل 150 ألف فرنك عند الإعلان ارتداده إلى الكثلكة. وتزويده، عند الاقتضاء، بستة آلاف جندي تتولى فرنسا الأنفاق عليهم، وكان على شارل أن يدخل الحرب إلى جانب فرنسا ضد المقاطعات المتحدة عندما يطلب إليه ذلك. على أن يتسلم من فرنس 225 ألف جنيه طيلة قيام الحرب، وكان لشارل أن يستولي على بعض الجزر الهولندية وأن يحتفظ بها، كما كان عليه أن يؤيد مطالب لويس الرابع عشر في أن يرث أسبانيا(139). وإمعاناً في خداع البرلمان والشعب في إنجلترا، بعث شارل بدوق بكنجهام إلى باريس ليصوغ معاهدة صورية زائفة وقعت في 21 ديسمبر 1670 ونشرت على الملأ، تعهدت فيها إنجلترا بالاشتراك في الحرب ضد الهولنديين، ولكن لم يرد ذكر العقيدة الدينية.

وتلكأ شارل نحو خمسة عشر عاماً في إعلان تحوله إلى الكثلكة. ولو أن أخاه أعلن تحوله إليها صراحة في 1670، ولكن آرل أنجلوت نفسه، وهو الذي يؤيد الكاثوليكية ويميل إليها، حذر الملك من إعلانه التحول إلى هذا المذهب -كما فعل أخوه- قد يعجل بقيام بثورة. ومهما يكن من أمر، فان شارل قد تحرك نحو هدفه بأن أصدره في 15 مارس 1652، إعلان التسامح الثاني، "لذوي الضمائر الرقيقة "يوقف فيه العمل" بكل القوانين العقوبات، أيا كانت في الأمور الكنسية، ضد المنشقين أو المتمردين أو المخالفين وفي الوقت نفسه أخلي سبيل كل من كانوا أودعوا السجن بسبب مخالفتهم لتشريعات البرلمان في المسائل الدينية. وبذلك أطلق سراح مئات من المنشقين، من الكويكرز. وأرسل زعماؤهم وفداً عنهم لتقديم الشكر للملك. وصعق المشيخيون والبيويتانيون حين رأوا أن الحرية الجديدة التي منحت لهم أمتد نطاقها لتشمل الكاثوليك وأنصار تجديد العماد، كما فزع الأنجليكانيون من "أن البابويين والفرق الدينية ذوات المذاهب المختلفة" يجتمعون علناً في لندن. ولمدة عام كامل نعمت إنجلترا بالتسامح الديني أو شقيت به. وفي 17 مارس 1672 شنت إنجلترا الحرب الهولندية الثالثة. وتلك مسألة كان الملك والبرلمان كلاهما على اتفاق فيها. وأعتمد البرلمان 1250000 جنيه للحرب. على أن يسلم هذا المبلغ للحكومة على أقساط كان من الواضح أنها تعتمد على استرضاء الملك للبرلمان وموافقته على تشريعات الدينية وأعلن مجلس العموم "أن قوانين العقوبات في المسائل الديني لا يمكن إبطال العمل بها إلا بقانون يسنه البرلمان. وطلب إلى الملك طلباً بسحب إعلان التسامح ومذ كان لويس الرابع عشر يتوق إلى أن يرى إنجلترا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، تأييداً للحرب ضد الهولنديين، فإنه نصح الملك شارل بإلغاء إعلان التسامح حتى تنتهي الحرب على الفور، وأذعن شارل، والغي الإعلان في 8 مارس 1673. ومن المحتمل أنه في هذا الوقت، ترامت إلى زعماء البروتستانت أنباء معاهدة دوفر السرية أو اشتموا رائحتها والرغبة في الحيلولة دون تحول الملك إلى الكثلكة، سن المجلسان كلاهما "قانون الاختبار" الذي ينص على أنه يجب على كل أصحاب الوظائف المدنية والعسكرية في إنجلترا أن يقسموا علناً على تخليهم عن النظرية الكاثوليكية التي تقوم ينحول خبز القربان والخمر إلى جسد المسيح ودمه وأن يتناولوا الأسرار المقدسة طبقاً للطقوس الأنجليكانية وكافح كليفورد هذا المشروع بضراوة، وبعد إقراره استقال من الحكومة، وآوى إلى ضيعته، وما لبث حتى مات انتحراً كما يظن ايفلين. أما شافتسبري فقد عضده بكل قوة، وعزل من الوزارة، فجعل من نفسه زعيماً" لحزب الريف" الذي ناهض، بعنف يقارب الثورة، "حزب البلاط" الذي كان يؤيد الملك. وبذلك قضي على الوزارة "الكابال" (1673). وأصبح آرل دنبي كبير الوزراء.

واعتزل جيمس كل مناصبه الحكومية. وخفف من حدة المعارضة ضده بعض الشيء، أنه على الرغم من أن زوجنه الأولى ارتضت الكثلكة مذهباً من قبل، فإن ابنتيها- الملكة ماري والملكة آن فيما بعد -نشأتا على المذهب البروتستانتي. لكن زواجه آنذاك (30 سبتمبر 1663) من أميرة كاثوليكية أثار ضده حملة من أقسى الاتهامات. تلك هي الأميرة ماري مودينا التي دمغت بأنها "كبرى بنات البابا"، والمفروض أنها لا بد أن تنشأ أولادها على الكاثوليكية. وفي الحال قدمت إلى البرلمان مشروعات قوانين تقضي بتنشئة أبناء الأسرة الملكة على المذهب البروتستانتي.

إن تطور الأحداث على هذا النحو أثار سخط إنجلترا على الحزب ضد القطاعات المتحدة وجعلها تحس بالمرارة، فلو أن ملك إنجلترا كان كاثوليكياً لأنحاز إن آجلاً أو عاجلاً إلى جانب فرنسا في تدمير الجمهورية الهولندية تدميراً، تلك الجمهورية التي لم تبد الآن منافساً تجارياً، بل بدت معقل البروتستانتية في القارة، فإذا سقط هذا الحصن الحصين فكيف يتسنى للبروتستنتية الإنجليزية أن تثبت وأن تقاوم؟ وفوض شارل عن طيب خاطر، سير وليم تمبل في توقيع صلح منفرد مع الهولنديين. وفي 6 فبراير 1674 وقعت معاهدة وستمنستر التي أنهت الحرب الهولندية الثالثة.

8- المؤامرة البابوية

وأعقبت هذه الأحداث فترة كادت أن تتسم بالصفاء والتعقل. وحيث تسلم شارل من لويس الرابع عشر مبلغا إضافياً قدره 500 ألف كراون، فإنه عطل البرلمان المتعب من أجل، وعاد إلى عشيقاته. ولكن السياسة لم تتوقف. فان شافتسبري وغير من زعماء المعرضة أسسوا في 1675 "نادي الوشاح الأخضر". ومن هذا المركز نشر "حزب الريف" دعايته دفاعاً عن البرلمان والبروتستانتية ضد ملك يتآمر على فرنسا الكاثوليكية، ووريثه الذي زف علنا زوجة كاثوليكية. وفي 1680 أطلق على رجال حزب الريف اسم Whigs ، وعلى المدافعين عن سلطة الملك Tories وبدا الملك شارل أن شافتسبري "أضعف الرجال وأخبثهم(141)". وقال عنه بيرنت "أن علمه سطحي هزيل، وأن غروره سخيف، وأن عقليته تافهة(142)" ولكن جون لوك الذي عاش مع شافتسبري لمدة خمسة عشر عاماً رأى أنه مناضل باسل جرئ عن الحرية المدنية والدينية والفكرية ا الفلسفية. وقال عنه بيرنت أنه يدين بالربوبية (مذهب طبيعي يقوم على العقل لا على الوحي) وقد يحق لنا أن نرتاب في ديانته من قوله هو نفسه "ليس للعقلاء من الرجال إلا دين واحد"، فلما سألته إحدى السيدات، وما هو، كان جوابه "أن عقلاء الرجال لا يفصحون عنه قط"(143).

وخفت حدة التوتر الديني بعض الشيء في 1667، حين تزوج وليم أورنج من ماري البروتستانتية كبرى بنات دوق يورك. فإذا ظل جيمس دون عقب ذكر، فان ماري سوف تخلفه، في وراثة العرش، ومن ثم ترتبط إنجلترا بهولندا البروتستانتية بحكم المصاهرة، ولكن في 28 أغسطس 1686 مثل تيتس أوتس أمام الملك وأعلن أنه أكتشف "مؤامرة بابوية: ذلك أن البابا وملك فرنسا ورئيس أساقفة أرماج واليوسوعيون في إنجلترا وأيرلندا وأسبانيا كانوا يدبرون قتل شارل وخلع أخيه، وفرض الكاثوليكية في إنجلترا بحد السيف، وأن ثلاثة آلاف سفاح سيتولون ذبح زعماء البروتستانت في لندن، وأن لندن نفسها -قلعة البروتستانتية- كانوا يدبرون إحراقها عن آخرها.

كان أوتس، وهو آنذاك في التاسعة والعشرين من العمر، ابن أحد أنصار تجديد العماد. وكان قد أصبح قسيساً أنجليكانياً، ولكنه فصل من وظيفته الكنيسة \لسوء سلوكه(144). ثم قبل -أو تظاهر بقبول- التحول إلى الكثلكة. وكان قد درس في الكليات اليوسوعية في بلد الوليد (أسبانيا) وسانت أومر حيث فصل أيضاً. آخر الأمر(145)، وفي نفس الوقت، زعم الآن أنه كان قد اطلع على خطط الجوزيت السرية لغزوا إنجلترا. واعترف أنه شهد في 24 أبريل 1678 مؤتمراً يسوعياً في لندن، نوقشت فيه وسائل قتل الملك. وعدة أسماء خمسة من النبلاء الكاثوليك، على أنهم مشتركون في المؤامرة هم: أروندل، بويس، بتر، ستافورد، بللاسيس. وعندما أضاف أوتس بللاسيس هذا كان سيمين قائداً عاماً لجيش البابا، ضحك شارل ساخراً، حيث كان بلاسيس طريح الفراش بداء النقرس. وخلص الملك إلى أن أوتس لفق القصة كلها أملاً في الحصول على مكافأة، وصرفه من حضرته.

ولكن المجلس المخصوص ارتأى أنه من الحكمة أن يفترض بعض الصدق في الاتهامات، واستدعى أوتس ليمثل أمامه في 28 سبتمبر. وخشي أوتس أن يزج به السجن، فقصد إلى قاضي الصلح سيراد موند بري جودفري وأدعه اعترافاً خطياً مقروناً بقسم، فصل فيه المؤامرة تفصيلاً. وأصدر المجلس، متأنراً بهذه الأدلة، أوامر بالقبض على عدد من أنصار البابوية الذين تضمنهم اعتراف أوتس. وكان من بينهم أدوارد كزلمان الذي كان لعدة سنوات (حتى عزل بأمر من الملك) سكرتير دوقة يورك. وأحرق كولمان بعض أوراقه قبل القبض عليه، ولكن الأوراق التي لم يكن لديه متسع من الوقت لإحراقها أوضحت أن كولمان والأب لاشيز لويس الرابع عشر، تبادلا من الرسائل ما يعبر عن أمل الطرفين (شارل ولويس) في أن تصبح إنجلترا كاثوليكية في أسرع وقت وفي هذه الرسائل أقترح كولمان أن يرسل إليه "لويس الرابع عشر أموالاً ليكسب بها أعضاء البرلمان إلى جانب قضية الكثلكة، ثم أضاف "أن نجاحنا سوف يكون ضربة شديدة للعقيدة البروتستانتية، لم تتلق مثلها منذ نشأتها .... تلك هي تحول ثلاثة ممالك. ون ثم، فربما كان في هذا القضاء التام على هذه الهرطقة الوبيلة(146) إن إعدام كولمان لمعظم أوراقه حدا بالمجلس إلى الاعتقاد بأن كولمان على علم بالمؤامرة التي وصفها أوتس، وربما كان شريكاً فيها. واستنتج شارل نفسه من تلك الرسائل، وجود مؤامرة حقيقية بشكل ما.

وفي 12 أكتوبر اختفى القاضي جودفري، وبعد خمسة أيام وجدت جثته في أحد الحقول في الضواحي. وبات من الواضح أنه قتل. بيد عملاء مجهولين، ولأسباب غير معروفة حتى الآن، ولكن البروتستانت نسبوا القتل إلى الكاثوليك الذين كانوا يأملون في الحيلولة دون نشر اعترافات أوتس. ويبدو أن هذا الحادث أكد الاتهامات. وفي هذا الجو الذي سادته الريبة وعدم الثقة، الذي خلقته معاهدة دوفر السرية، والخوف من اعتلاء جيمس عرش إنجلترا، كان طبيعياً أن تصدق إنجلترا البروتستانتية آنذاك كل ما جاء على لسان أوتس من اتهامات، وأن يعتريها نوبة من الجنون بدمعها أن حماية البروتستانت تتطلب اعتقال كل فرد من أورد أوتس ذكرهم في المؤامرة، إن لم يكن إعدامهم.

وبدأت فترة من حكم من حكم الإرهاب امتدت لنحو أربع سنوات. وفر جيمس إلى الأراضي الوطيئة وتسلح أهالي لندن استعداد لمقاومة أي غزو متوقع. ونصبت المدافع في هويتهول. واتخذ الحراس أماكنهم في الأقبية والسراديب تحت مبنى البرلمان بمجلسية ليحولوا دون "مشروع بارود" آخر لنسف المبني. وأقر البرلمان قانوناً لطرد الكاثوليك من مجلس اللوردات، وكرم أوتس بوصفه "مخلص الأمة" وكافأه بتخصيص معاش سنوي له قدره 1200 جنيه لمدى الحياة ومنحه مسكناً في قصر هويتهول. وسرعان ما ازدحمت السجون باليسوعيين والكهنة غير المنتسبين إلى رهبنات، والكاثوليك العلمانيين الذين أورد ذكرهم أوتس أو وليم بدلو الذي ظهر، مدعياً العلم لأشياء تؤكد صحة اتهامات أوتس.

وفي 24 نوفمبر وضع أوتس أمام اتهاماً جديداً مروعاً، ذلك أنه كان قد سمع الملكة تبدي موافقتها على قتل زوجها بالسم، بيد طبيبها الخاص. وهنا أخذه شارل بهذه الكذبة الصارخة. وفقد ثقته في أقواله كلها، وأمر بالقبض عليه. ولكن مجلس العموم أمر بالإفراج عنه، وبالقبض على ثلاثة من خدم الملكة. واقترع على إصدار بيان يطالب بعزلها. وقصد الملك إلى مجلس اللوردات ودافع عن إخلاص زوجته وولائها، وأقنع اللوردات بالامتناع عن الموافقة على بيان النواب. وفي 27 نوفمبر حوكم كولمان وكاثوليكي علماني آخر،وثبتت إدانتهما وأعداما. وفي 17 ديسمبر أعدم ستة من اليسوعيين وثلاثة من الكهنة المنتسبين إلى رهينات. وفي 5 فبراير 1679 شنق ثلاثة رجال بتهمة قتل جودفري. وثبت فيما بعد براءة هؤلاء الاثني عشر.

وتزايدت الحملات اقتراباً من الملك، ففي 19 ديسمبر 1678 تلقى البرلمان من باريس أنباء تفيد أن دانبي كان قد تسلم من لويس الرابع عشر مبالغ طائلة من المال. ورفض لوزير إيضاح أنها كانت إعانات فرنسية للملك. ووجه مجلس العموم الاتهام إلى الوزير. وخشي الملك الحكم على مستشاره قد التأم بالإعدام، فحل، وفي 24 يناير 1679 "برلمان الفرسان" الذي كان قد التأم على فترات متقطعة، ولمدة ثمانية عشر عاماً، أي أنه كان أطول من "البرلمان الطويل". ولكن برلمان "الهويج" الذي اجتمع في 6 مارس، كان في عدائه للكاثوليكية وللملك، أشد اندفاعاً وتحمساً من البرلمان السابق. واتهم مجلس العموم دانبي بالخيانة العظمى، ولكن اللوردات أنقذوه بزجه في سجن لندن، حيث قضى فيه، في هدوء وقلق، السنوات الخمس المضطربة التالية. وبناء على نصيحة سير وليم ثمبل، عين شارل مجلساً جديداً من ثلاثين عضواً، بينهم-رغبة في تخفيف حدة المعارضة-زعيماً حزب الهويج: شافتسبري رئيساً للمجلس. وسعياً وراء المزيد من تهدئة لعاصفة، عرض الملك على البرلمان تسوية بديلة لاستبعاد أخيه عن العرش: ألا يسمح لأي كاثوليكي بمقعد في البرلمان أو بتولي منصب قيادي يتطلب الثقة، وألا يكون للملك حق التعيين في المناصب الدينية، وأن يخضع تعيين القضاء لموافقة البرلمان. وأن يكون للبرلمان حق الرقابة والإشراف على القوات البرية والبحرية(147). ولكن البرلمان أحس بشيء من الارتياب وعدم الثقة في موافقة جيمس على مثل هذه الاتفاقية. وفي 11 مايو قدم شافتسبري نفسه أول مشروع قانون لاستبعاده (جيمس) في عبارة واضحة جلية لا لبس فيها "إسقاط حق دوق يورك في وراثة التاج الإمبراطوري لهذه المملكة".وكان موضع فخر وشرف للبرلمان أنه في 26 مايو توسع في حق التحقيق في قانونية الاعتقال: بمعنى أنه يمكن الإفراج بكفالة عن أي سجين، فيما عدا المتهمين بالخيانة أو بجناية، وفي مثل هذه الحالة ينبغي أن يحاكم المتهم في الدورة التالية للمحكمة، وألا أطلق للمحكمة، وألا أطلق سراحه.وكان ينبغي أن يحاكم أن تنتظر 110 سنوات حتى تنعم بضمانات مماثلة ضد الاعتقالات التعسفية.وفي 27 مايو خشي الملك إقرار "مشروع قانون الاستبعاد" فحل البرلمان.

ولم يكن حق التحقيق في قانونية الاعتقال مجدياً بالنسبة لأنصار البابوية الذين اتهمهم أوتس، لأنهم حوكموا مع شيء من التباطؤ، حتى إذا أدينوا بالخيانة أعدموا في سرعة غاضبة، وحشد الكثير منهم إلى المقصلة أو ساحة الإعدام طيلة عام 1679، وكانت محاكمتهم سريعة جداً لأن القضاة الذين روعتهم صيحات الجموع المتعطشة للدماء خارج المحكمة، أدانوا كثيراً من المدعي عليهم دون تمحيص الأدلة أو مواجهة الشهود بعضهم بعض. وهب الشهود المزيفون الذين أغراهم ما أغدق على اوتس من مكافأة،وكأنما هبوا من مرقدهم، وأقسموا بأغلظ الإيمان على ما يقولون: فروي أحدهم أن جيشاً من ثلاثين ألفاً كان قادماً من أسبانيا، وقال آخر أنهم وعدوه بخمسمائة جنيه وبضمه إلى قائمة القديسين إذا هو أطاح برأس الملك، وذكر شاهد مزيف ثالث بأنه كان قد سمع أحد رجال المصارف الكاثوليك الأثرياء يأخذ على نفسه عهد بأن يقوم بمثل هذا العمل(148). ولم يسمح للمتهم بأي محام أو مستشار قانوني. ولم يبلغ بما نسب إليه إلا في يوم المحاكمة.وكان يفترض أنه مذهب حتى يستطيع أن يثبت براءته(149). وحتى تسهل الإدانة أحيوا قانوناً قديماً كان معمولاً به في عهد اليزابيث: وهو أن وجود أي كاهن في إنجلترا جريمة عقوبتها الإعدام. وكانت الجموع المحتشدة حول مبنى المحكمة تصرخ وتولول في وجوه شهود الدفاع استهجاناً، وتقذفهم بالحجارة، ويهتفون ويهللون فرحاً عند إعلان الحكم بالإدانة(150).

فتوكل هذا في عضد شارل،وكان امتحاناً قاسياً للملك الذي غمرته يوماً البهجة والفرح، والذي رأى الآن كل آماله تنهار، وسلطاته تنتقص،وزوجته تعاني الإذلال، وأخاه يبوء بالاحتقار والازدراء وينحى. وفي ذروة العاصفة خر شارل مريضاً مرضاً خطيراً حتى توقعوا موته بين ساعة وأخرى, واستدعى هاليفاكس جيمس من بروكسل، ولكن زعماء الهويج أمروا الجيش بالحيلولة دون عودته. واتفق شافتسبري ومونمورث ولورد رسل ولورد جراي على أنهم-في حالة وفاة شارل-، سيتزعمون عصياناً مسلحاً لمنع أخيه من ارتقاء العرش(151). وتظاهر شارل بأنه أبل من مرضه، وابتسم للمخاوف التي ساورت جني أعداءه الذين توقعوا موته.والحق أنه لم يبرأ من علته قط.

وبقي العداء للكاثوليك على أشده حتى تخبط أوتس أثناء محاكمة سير جورج ويكمان طبيب الملكة. ففي شهادته أمام المجلس كان قد برأ الطبيب، ولكنه في المحاكمة اتهمه بتدبير دس السم للملك. واكتشف هذا التناقض في الأقوال قاضي سكرجوز الذي سبق له أن تولى محاكمة الكاثوليك بمنتهى الشدة.وصدر الحكم ببراءة ويكمان، ومن ثم سارت شهادة أوتس تسمع في مزيد من التدقيق، وامتنع الشهود المزيفون الذين كانوا يعززون أقواله، عن مساندته. وكان إعدام أوليفر بلنكت رئيس أساقفة آرماج الكاثوليكي،آخر إجراءاتكم في حركة الإرهاب التي قامت ضد الكاثوليك (1 يوليو 1681). ولما خفت وطأة الرعب والانفعال تأكد لدى بعض عقلاء الرجال أن أوتس، عن طريق الريب التي لا تستند إلى أساس من ناحية ومن ناحية أخرى عن الأكاذيب، عجل بإرسال كثير من الأبرياء إلى الموت قبل الأوان. وانتهوا إلى أنه لم يسكن ثمة تدبير لقتل الملك أو ذبح البروتستانت أو إحراق لندن. ولكنهم أحسوا بأنه كانت هناك مؤامرة حقيقية، كاثوليكية، وأن لم تكن "بابوية": تلك هي أن أركان الحكومة دبروا، أو راودهم الأمل، بمساعدة أموال (أو جنود إذا لزم الأمر) من فرنسا، أن يقضوا على عجز الكاثوليك وعدم أهليتهم الشرعية في إنجلترا، ويحولوا الملك إلى الكاثوليكية، ويثبتوا حق أخيه الذي تحول فعلاً في ارتقاء العرش، ويستخدموا أن كل هذا تضمنته معاهدة دوفر السرية التي وقعت من قبل في 1670 وكان شارل قد تراجع عن هذه الاتفاقية. ولكن رغباته لم تتبدل ولم يتخل عنها قط،وظل مصمماً على أن يعتلي أخوه عرش إنجلترا ويكون ملكاً عليها.


9- خاتمة الملهاة

أما شافتسبري فقد وطد العزم على نقيض ما يبتغيه الملك. لقد اعترف كولمان أثناء محاكمته بأن جيمس علم أمر المراسلات المتبادلة بينه وبين الأب لاشيز، وأقرها(152). وأحس شافتسبري بأن ارتقاء جيمس عرش إنجلترا لا بد أن يحقق المرحلة الأولى من "المؤامرة البابوية" وعرض أن يساند شارل ويقف إلى جانبه إذا هو طلق الملكة العقيم وتزوج من بروتستانتية قد ينجب منها ابناً بروتستانتياً. وأبى شارل أن يدع كاترين دي براجانزا تكرر الدور الذي لعبته كاترين أوف أراجون. فولى شافتسبري وجهه شطر دوق مونمورث الابن غير الشرعي للملك، الذي لم يغفر قط أبيه خداعه وإبعاده عن العرش بتقصيره في الزواج من أمه. ونشر شافتسبري فكرة أن شارل كان بالفعل قد تزوج من لوسي والتر، وأن دوق مونمورث هو الوريث الشرعي للعرش. فما كان من شارل إلا أن كذب هذا بإعلانه أنه لم يتزوج قط إلا من كاترين أوف براجانزا، وإذ وجد أن شافتسبري خصم عنيد، فإنه أقصاه عن مجلس المخصوص (13 أكتوبر 1679).

وأثناء توالي الأزمات ولمحن على هذا النحو كاد شارل أن يبدل من خلقه ومن شخصيته، فودع حياة البهجة والدعة. وباع أسطبلاته، وانصرف بكليته إلى الإدارة والسياسة، وحارب أعداءه بتراجع محكم التدبير،حتى جاوزوا حدودهم فانتهوا إلى الفشل إن الملك في سنواته الخمس الخيرة أبدى من قوة العزيمة والمقدرة ما أدهش حتى الأصدقاء.وإذ عاودته الطمأنينة والثقة فقد دعا برلمانه الرابع. واجتمع البرلمان في 21 أكتوبر 1680.وأقر مجلس العموم في شهر نوفمبر "مشروع قانون الاستبعاد" الثاني، وقدم إلى مجلس اللوردات. وهنا تحول هاليفاكس الذي كان يصوت حتى تلك اللحظة إلى جانب "حزب الهوبج" نقول تحول الآن إلى جانب الملك، وبدأ يحظى بقلب "القلب الحول" ويزهو ويختال به. إنه كان يبغض جيمس ويرتاب في الكاثوليكية، ولكنه اتفق مع شارل في ضرورة الإبقاء على مبدأ الملكية الوراثية. كما خشي أن يقود شافتسيرى إنجلترا إلى حرب أهلية ثانية(153). ومن ثم فإنه بفصاحته ومنطقه في المناقشة الطويلة التي جرت بشأن "مشروع قانون الاستبعاد" أقنع اللوردات برفض المشروع. ورد مجلس العموم على هذا، برفض الموافقة على أية اعتمادات مالية للملك، وحظر على التجار والمصارف إقراضه أية أموال، وحاكم هالي فاكس وسكروجز وفيكونت ستافورك وهو أحد اللوردات الخمسة المعتقلين في سجن لندن. وحكم على ستافورك بالإعدام بناءً على شهادة أوتس، وضرب عنقه في 7 ديسمبر. وفض الملك البرلمان في 18 يناير 1681.

وبدلاً من أن يضحي شارل بأخيه بسبب حاجته إلى المال، اعتزم شارل أن يمول الحكومة بأن يصبح من جديد أسيراً للملك الفرنسي لويس الرابع عشر. وارتضى أن ينظر في شيء من التجلد ورباطة الجأش إلى سياسة فرنسا العدوانية، مقابل 700 ألف جنية(154)- وهو مبلغ يغنيه لمدة سنوات عن إعانات البرلمان وإعتماداته. فلما أحس بالقوة دعا برلمانه الخامس. ولكي يحرمه من تأييد جمهور لندن وقوات الطوارئ فيها، فإنه، أي الملك أمر باجتماعه في أكسفورد.وهناك التقى الجمعان مدججين بالسلاح: شارل مع عدد كبير من حرسه، وزعماء الهويج مع أتباعهم حاملين السيوف والمسدسات رافعين أعلاماً كتب عليها "لا بابوية ولا عبودية" وأقر مجلس العموم في الحال "مشروع قانون الاستبعاد" الثالث، ولكن قبل أن يصل المشروع إلى مجلس اللوردات حل شارل البرلمان (28 مارس 1681).

وتوقع كثير من الناس أن يلجأ شافتسبري الآن إلى الحرب الأهلية. أما الرأي العام الذي استرجع في ذاكرته أحداث 1642-1660 فقد تحول عنه وانحاز إلى صف الملك. ودافع رجال الكنيسة الأنجليكانية دفاعاً مجيداً عن حق جيمس الكاثوليكي في ارتقاء العرش. وعندما حاول شافتسبري أن يعيد تنظيم صفوف النواب المشتتين في ميثاق ثوري(155)، أمر شارل باعتقاله، ولكن هيئة المحلفين برأته (24 نوفمبر) وعلى الرغم من أنه كان آنذاك مريضاً بدرجة لا يكاد معها يقوى على المشي، فإنه انضم إلى دوق مونموث في ثورة علنية(156). وأمر الملك باعتقالهما كليهما وهرب شافتسبري من سجن لندن، وفر إلى هولندا، وهناك وافته منيته (21 يناير 1683) بعد أن أنهكته الأحداث، ولكنه خلف وراءه صديقة لوك، ليتابع في مجال الفلسفة، المعركة التي لم يكتب لها لبعض الوقت التوفيق في ميدان السياسة. وصفح شارل عن مونموث، ولكنه لم يغتفر قط للمحلفين في لندن تبرئتهم لشافتسبري. والآن وقد تحول الملك النشوان إلى شخص آخر، وكان متطرفاً في تحوله هذا، فإنه عقد العزم على تحطيم استقلال المدن التي ترعرعت فيها فكرة الهويج (الأحرار) بل الفكرة الثورية، فأمر بمراجعة المواثيق والعهود القوانين التي هيأت للأجهزة البلدية الخروج على الإرادة الملكية، ووجد بالفعل في هذه بعض النقص والخلل من الوجهة التشريعية، فأعلن إلغاؤها جميعاً، وصدرت عهود وقوانين جديدة تنص على أن يكون للملك حق الاعتراض وحق عزل كل الموظفين الذي ينتخبون لهذه الهيئات البلدية (1683). وخضعت الآن حرية الكلام وحرية الصحافة لقيود جديدة، وبدأت موجة اضطهاد المنشقين - لا الكاثوليك: لأن معظم المنشقين كانوا من الأحرار (الهوبج). وفي إسكتلندة قاد جيمس حملة التعذيب بنفسه، وبدا أن انتصار حقوق الملك على إصلاحيات البرلمان بات انتصاراً ساحقاً كاملاً، وأن إنجازات الثورة الكبرى كان واضحاً أنه ينبغي التضحية بها في نكسة أو رد فعل تؤيده أمة تخشى تجدد الحرب الأهلية. وعكس هاليفاكس شعور البلاد حين تخلى عن شافتسبري، وإنجاز بحكمته المعتدلة البعيدة عن التطرف إلى جانب الملك ليكون في خدمته (1682-1685) فكان حامل الأختام الملكية.

وقام أتباع شافتسبري بمحاولة أخيرة. ففي يناير 1687، اجتمع دوق مونموث وإرل اسكس وإرل كارليل، ووليم لورد رسل وألجرنون سدني في دار جون همدن (حفيد بطل الحرب الأهلية) ورسموا الخطط لتطويق جيمس والتغلب عليه، وقتل شارل إذا لزم الأمر وراود سدني أمل التقديم إلى خطوة أبعد، وهي إعادة إقامة الجمهورية الإنجليزية. وكان حفيد أحد أخوة سير فيليب سدني (رئيس الفروسية)، وحارب في صف البرلمان أثناء الحرب الأهلية وجرح في مارستن مور. وعين عضواً في اللجنة التي شكلت المحاكمة شارل الأول، ولكنه رفض العمل بها على اعتبار أن الشعب لم يمنح اللجنة سلطة محاكمة الملك. وألقى نفسه في القارة حين عادت الملكية، فظل بها، مشغولاً بدراساته وأبحاثه، وتدبير المؤامرات ضد شارل الثاني وفي الحرب الهولندية الثانية حرض الهولنديين في غزو إنجلترا، وعرض خدماته على الحكومة الفرنسية ليشعل نار الثورة في إنجلترا إذا أمدته الحكومة الفرنسية بمائة ألف كراون(157). وفي 1677 سمح له شارل بالعودة ليشهد وفاة والده، وبقي في إنجلترا وانضم إلى "حزب الريف" (الأحرار، الهويج). وفي كتابه "مقالات عن الحكومة" (الذي كتب 1681 ولم ينشر إلا في 1688) دافع سدني عن المبادئ شبه الجمهورية، واستبق لوك في مهاجمته دفاع فلمر عن حقوق الملوك الإلهية، وأكد حق الشعب في محاكمة الملوك وخلعهم. ومن الواضح أن سدني ورسل، كليهما تسلما أموالاً من الحكومة الفرنسية التي كان يهمها أن يظل شارل مشغولاً بمشاكله الداخلية(158).

وصح عزم "مجلس الستة" على أسر الملك. وكان معروفاً أنه سيشهد سباق الخيل في شهر مارس في نيوماركت. وكان لابد له، لدى عودته إلى لندن من أن يمر "براي هاوس" في هودزدون في شمال المدينة، فتقرر أن تسد عربة محملة بالحشائش الجافة الطريق في هذا المكان، ومن ثم يمكن أسر الملك وربما أسر أخيه معه كذلك، حيين أو ميتين. ولكن في 22 مارس شب حريق في ميدان السباق، وانتهت المسابقات قبل موعدها المقرر بأسبوع، وعاد الملك سالماً إلى لندن قبل أن يعد المتآمرون عدتهم. وخشي أحدهم افتضاح الأمر وراوده الأمل في العفو، فأفضى بسر المؤامرة إلى الحكومة (12 يونيه). وقبض على كارليل فأكد الاعتراف وعفوا عنه. واحتج مونموث بأنه برئ، وعلى الرغم من أن شارل على علم اليقين أن ابنه كاذب فيما يقول، فإنه ألغى أمر اعتقاله. أما رسل فحوكم وثبتت إدانته وأعدم (21 يوليه 1683). وانتحر اسكس في السجن. وعندئذ قال الملك "ما كان له أن يقنط من الرحمة، فإني مدين له بحياة(159)" فقد مات أبوه من قبل من أجل شارل الأول. وشنق عدد من صغار المشتركين في "مؤامرة راي هاوس" وأخذ سدني بجرم لم يقم عليه دليل كاف من الناحية القانونية، ودافع عن نفسه دفاعاً مجيداً، وقابل الموت بصدر رحب (7 ديسمبر). وكان شعاره "يدي هذه هي عدوة الطغاة".ولكنه كان قد اختار سيفاً ذا حدين. ونطق وهو على المشنقة بكلمات تستحق الذكر: "إن الله ترك للشعوب حرية إقامة الحكومات كما تشاء(106)". ورفض أية طقوس دينية قائلاً أنه سلام مع الله فعلاً.

لقد انتصر شارل ولكنه كان مشرفاً على النهاية، ونعم، مع جهد مضن، بشعبية جديدة، وكانت اقتصاديات إنجلترا قد ازدهرت في عهده، أما الآن، والبلاد تتطلع إلى هدوء سياسي، فقد ركنت إلى ملك كان يمثل بقاء الأمة ونظامها، ولو كان معنى هذا لفترة من الزمن "ملكاً كاثوليكياً". وغفرت إنجلترا لشارل أخطاءه، حين رأته ينهار ويذبل قبل الأوان. واتفقت معه، بعض الشيء، على أن الحكومة الانتخابية - لا الملكية الوراثية - مدعاة للاضطراب والهرج اللذين يصاحبان انتخاب الحاكم عندما يحين موعده. واحترمت فيه إخلاصه لأخيه، حتى في الوقت الذي حزنت فيه لنتيجة هذا الإخلاص، ورأت جيمس منتصراً، ورأته ثانية قائداً أعلى للأسطول، يتعقب أعداءه ليثأر منهم. وفي يناير 1685 رفع جيمس دعوى مدنية ضد تيتس أوتس يطالبه فيها بتعويض قدره مائة ألف جنيه. وكسب جيمس القضية. ولما كان أوتس عاجزاً عن الدفع فقد أودع السجن. وقال شارل في حزن بالغ "لست أدري ماذا سيفعل أخي عندما ينتهي الأجل وأفارق الحياة. أخشى ما أخشاه أنه عندما يأتي ليضع تاج الملك على رأسه، أن يرغم على العودة من حيث أتى. على أني سأعني العناية كلها بأن أترك له مملكة يسودها السلام، وكل أملي أن يحتفظ لها بهذا السلام لأمد طويل. ولكن هذا يثير كل مخاوفي، ولست أؤمل فيه كثيراً، بل لا يكاد أمل يدور بخلدي أنه سيتحقق(161)". ولما اعترض جيمس على تجول شارل حول لندن راكباً عربته دون حرس، أمره شارل أن يهدئ من روعه: "لن يقتلني أحد ليجلسك أنت على العرش(162)".

ولا بد أنه اعترض على الأطباء. فإنه في 2 فبراير 1685 أصيب بحالة تشنج واضطراب شديدة، شوهت وجهه، وجعلت فمه، يرغى، وأجرى له دكتور كنج عملية فصد بشق أحد الأوردة. وكان لهذا نتيجة طيبة. ولكن مرافقي الملك استدعوا ثمانية عشر طبيباً آخرين ليشخصوا الداء ويصفوا الدواء. وطيلة خمسة أيام في عذاب اليم، استسلم الملك للحملة التي جردوها عليه مجتمعين. فبزلوا أوردته، ووضعوا كؤوس الحجام إلى كتفيه. وقصوا شعره ليزيلوا البثور والقروح من جلدة رأسه، ووضعوا على باطن قدميه لصوقاً من القاروروث الحمام. وقال مؤرخ طبيب "ولكي يزيلوا النزوات من مخه نفخوا في أعلى خياشيمه الخريق (وهو عشب جميل الزهر) ثم جعلوه يعطس. ولكي يتقيأ صبوا في حلقه الأنتيمون وسلفات الزنك. ولتنظيف أمعائه أعطوه مطهرات قوية، وعدداً من الحقن الشرجية في تعاقب سريع(163).

ونادى الملك الذي يحتضر زوجته التي عاشت في شقاء عقيم، ولم يدرك أنها جاثية في أسفل الفراش تدلك قدميه. في 4 فبراير قدم له بعض الأساقفة الأسرار الدينية الأخيرة وفقاً للطقوس الأنجليكانية، ولكنه رجاهم أن يكفوا، ولما سأله أخوه، هل يريد كاهناً كاثوليكياً أجاب "نعم، نعم، من كل قلبي(164)" فأرسلوا في طلب الأب جون هدلزتون الذي كان قد أنقذ حياة شارل في معركة وورسيستر، كما أن شارل كان قد أنقذ حياة الأب جون أيام "الإرهاب البابوي" وأعلن شارل اعتناقه للمذهب الكاثوليكي، واعترف بذنوبه وخطاياه، وعفا عن أعدائه وطلب المغفرة من الجميع. ومسحوه مسحاً تاماً بالزيت المقدس، وتلقى الأسرار المقدسة. وطلب الصفح والعفو، بخاصة من زوجته، ولكنه كذلك أوصى أخاه خيراً بالسيدة لويز كيرووال وأبنائه (منها) طلا تترك تلك المسكينة تتضور جوعاً(165)" واعتذر لمن حوله عن أنه قضى مثل هذا الوقت الطويل بشكل غير معقول، وهو يعاني سكرات الموت(166).

وعندما ظهر اليوم السادس من فبراير، كان دوق يورك ملكاً.