قصة الحضارة - ول ديورانت - م 8 ك 2 ف 6

صفحة رقم : 10690

قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> مأساة في الأراضي المنخفضة -> مقدمة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السادِس: مأساة في الأراضي المنخفضة 1649 - 1715

شهد القرن الممتد من 1555 إلى 1648 الدفاع البطولي الذي قامت به الأراضي المنخفضة ضد إمبراطورية أسبانيا العالمية، أما الفترة من 1648 إلى 1715 فقد شهدت دفاع الجمهورية الهولندية الرائع ضد بحرية إنجلترا وجيوش فرنسا التي لم يسبق لها مثيل. وفي كلتا الحالتين صمدت هذه الدولة الصغيرة بشجاعة ونجاح من حقهما أن يتبوأا مكاناً مرموقاً في التاريخ. وقد واصلت وسط هذه الأعباء والهجمات تطويرها للتجارة والعلوم والفنون، وكانت مدنها ملاذاً للفكر المضطهد، وتحدت نظمها الجمهورية الملكيات القوية المحدقة بها تحدياً ملهماً.


الأراضي المنخفضة الأسبانية

ظلت الأراضي المنخفضة الجنوبية، أو الأسبانية، حتى 1713 خاضعة للحكم الأسباني وكانت شعوبها المختلفة سلالياً يدين معظمها بالكاثوليكية وقد آثرت أن تخضع لأسبانيا النائية التي حل بها الضعف، عن أن تخضع للبروتستانت الذين في شمالها، أو لجارتها فرنسا التي هددت بابتلاعها في أي لحظة. وقد أعطى صلح البرانس (1659) معظم أرتوا لفرنسا، وأعطاها صلح إكس لاشابل (1668) دويه وتورنيه، وصلح نيميجن (1678) فالنسين وموبوج وكمبري وسانت أومير وابير. ولم تكن الجمهورية الهولندية أقل قسوة من الملكية الفرنسية. وبمقتضى معاهدة وستفاليا (1648) لم تكتف أسبانيا، في حرصها على إطلاق يد جيوشها لتفرغ للحرب المتصلة مع فرنسا- لم تكتف بأن تنزل للأقاليم المتحدة عن المناطق التي استولت عليها في فلاندر، وليمبورج، وبرابانت، ولكنها وافقت كذلك على قفل نهر الشلت في وجه التجارة الأجنبية. فأصاب هذا الإذلال الخانق أنتورب وكل اقتصاد الأراضي المنخفضة الأسبانية بالشلل. "إن السياسة لا قلب لها" كما يقولون.

وفي داخل هذه الأسوار المعادية اعتزت هذه البلاد التي نعرفها اليوم باسم بلجيكا بثقافتها المتوارثة، ورحبت باليسوعيين، وتبعت قيادة لوفان الفكرية. ولما قصف الفرنسيون بروكسل بمدافعهم (1695) تحول قسم كبير من المدينة أطلالاً، ودمر كل المعمار البديع الذي ازدان به الميدان الكبير، اللهم إلا قاعة للحرفيين والأوتيل دفيل البديع، وقد أعيد بناء "الميزون دورا" (الذي كان يقرأ فيه الخطاب الملكي على مجلس الطبقات) بطراز قوطي كثير الزخرف (1696)، وهو والأوتيل دفيل من أجمل العمائر في أوربا اليوم. وقد أفاض النحاتون من فنهم على تجميل واجهات الكنائس والمباني المدنية، والمنابر، ومقاصير الاعتراف، والمقابر التي بداخل الكنائس. وواصلت بروكسل صنع النسيج المرسوم البديع(1). واضمحل التصوير الفلمنكي اضمحلالاً حاداً بعد روبنز وفانديك، وكأن حياة هذين الفنانين قد استنفدت العبقرية التصويرية لقرن كامل. واجتذب نهوض الفن في فرنسا وازدياد ثرائها الكثير من الرسامين الفلمنك أمثال فيليب دشامبين. ولكن فناناً أعظم منه، وهو دافيد تنييه الابن، مكث في بلده. وكان أبوه قد تولى تعليمه، فأصبح "معلماً" في طائفة القديس لوقا الحرفية حيث بلغ الثالثة والعشرين، وبعد أربع سنوات (1627) ضمن نجاحه بالزواج من آن بنت جان روجن "المخملي"، والقاصر الموضوعة تحت وصاية روبنز ذاته. وفي 1651 دعاه الأرشيدوق ليوبولد وليم من أنتوب إلى بروكسل ليكون مصور البلاط وأمين المتحف الملكي، وترينا إحدى لوحات تنييه الأرشيدوق والمصور بين صور هذا المتحف(2). وقد صور في براعة مترددة موضوعات قديمة كالابن الضال(3) وتجربة القديس أنطونيوس(4). ولكنه كمعاصريه الهولنديين آثر أن يلتقط داخل إطارات صغيرة حياة الفلاحين، لا هابطاً بهم إلى درك الأنعام كما فعل بيتر بروجن، بل مشاركاً إياهم في رباضتهم وأعيادهم. وأظهرت لوحته "داخل كاباريه" إلمامه بتفاصيل موضوعه(5)، لكنه كان يستطيع أيضاً أن يرسم المناظر الطبيعية الريفية التي تغير هيئتها سماء لا تكف عن التغير. وقد أحب الضوء كما أحب رمبرانت الظل، والتقطه على فرشاته برقة حساسة لم تفها رقة.

الجمهورية الهولندية

كانت الأقاليم الهولندية السبعة قد توحدت الآن في جمهورية عزيزة ظافرة أثار غناها وتوسعها عجب جيرانها وحسدهم. فهنا أمة شذت على العرف، إذ لم يكن لها ملك، وكانت كل مدينة يحكمها في استقلال تقريباً مجلس من أعيانها، وكل مجلس بلدي يوفد مندوبين لمجلس إقليمي، وكل مجلس إقليمي يوفد ممثلين للمجلس التشريعي الذي يهيمن على ما بين الأقاليم من علاقات وعلى شؤونها الخارجية. وكانت إلى ذلك الحد حكومة مثالية لأقطاب التجارة الذين كانت ثرواتهم تتضخم بنمو التجارة الهولندية. ولكن قوة أرستقراطية واحدة وقفت أمام أولجركية التجار هذه: ذرية وليم الأول (والصامت) أمير أورنج وناسو، الذي قاد البلاد في أحلك أيام كفاحها ضد أسبانيا، وكان المجلس التشريعي قد كافأه بلقب رئيس الدولة وبقيادة جيوشها، واستطاع أن يورث ذريته ذلك اللقب وتلك القيادة، وكانت الهيمنة على رجال الجيش قوة لا تفتأ تهدد بتحويل الجمهورية الأولجركية إلى ملكية أرستقراطية. وفي يوليو 1650 حاول وليم الثالث أمير أورنج، بوصفه رئيساً للدولة وقائداً عاماً أن يبسط سلطانه المطلق على جميع الأقاليم المتحدة بانقلاب. فقاومه عدة زعماء إقليميين، وأودع وليم وجنده ستة منهم في السجون، ومنهم يعقوب دي ويت عمدة دوردريشت. ولكن الجدري هزم وليم في انتصاره، فمات في 6 نوفمر 1650 غير متجاوز الرابعة والعشرين: وبعد أسبوع ولدت أرملته ماري ستيوارت (ابنة حفيدة آخر ملكة للأسكتلنديين) الطفل وليم أورنج الثالث، الذي قدر له أن يحقق فوق ما حلم به أبوه، أي أصبح ملكاً على إنجلترا.

أما الزراع وصيادو الأسماك الأدنى من هذه الطبقات الحاكمة المتنافسة، هؤلاء الذين كانوا يطعمون الشعب، فلن يشاركوا إلا في فضلات ثرائها التي لم يعبأ بالتهامها التجار ورجال الصناعة وملاك الأرض. وإذا صدقنا الرسامين الهولنديين تبين لنا أن الحرب والاستغلال قد طحنا الفلاحين بفقر كاد يقربهم من حياة البهائم، فقر خففت منه الأعياد وخدره الشراب. وكان الحرفيون في حوانيتهم، والعمال في مصانع أمستردام وهارلم وليدن، أعلى أجوراً من نظرائهم في إنجلترا(6)، ولكنهم قاموا بإضراب عنيف في 1672. وأثرى المهاجمون الهيجونوت الوافدون من فرنسا الصناعة الهولندية بمدخراتهم ومهاراتهم. فلم تأتِ سنة 1700 حتى حلت الأقاليم المتحدة محل فرنسا بوصفها الأمة الصناعية القائدة في العالم.

أما أعظم الثروات فجادت بها التجارة مع أقطار ما وراء البحار وتطويرها. ففي 1652 استوطن الهولنديين أول مستعمرة لهم في رأس الرجاء الصالح وأسسوا مدينة الكاب. وكانت شركة الهند الشرقية الهولندية تدفع أرباحاً لمساهميها بلغت نسبتها في الموسط 18% طوال 198 عاماً(7). وكان الوطنيون في المستعمرات الهولندية يباعون أو يشتغلون عبيداً، أما المستثمرون في أرض الوطن فلم يسمعوا بهذا إلا قليلاً، وأخذوا أرباح أسهمهم بهدوء هولندي. وظلت التجارة الخارجية الهولندية حتى 1740 تفوق تجارة أي أمة أخرى(8)، ومن بين عشرين ألف سفينة كانت تنقل تجارة أوربا في 1665، كانت خمسة عشر ألف هولندية(9). وأجمع الناس على أن تجار هولندا ومالييها أكفأ من أنجبه ذلك العصر. وكان بنك امستردام قد استنبط عملياً كل تقنيات المالية العصرية، وقدرت ودائعه بما يعادل الآن مائة مليون دولار(10)، وكان في الإمكان أن تسوى في حسابات تصل إلى الملايين في ساعة واحدة، وبلغت الثقة بقدرة الهولنديين المالية وإمكان الاعتماد عليهم مبلغاً يسر للجمهورية الهولندية أن تقترض المال بفائدة أقل من أي حكومة أخرى، وقد تهبط الفائدة أحياناً إلى 4%(11). ولعل امستردام كانت أكثر مدن أوربا في هذا العصر جمالاً وتحضراً. وقد رأينا ثناء ديكارت عليها. وكذلك تحدث عنها سبينوزا(12). ويمثل هذه الحماسة تحدثت بيبيس عن لاهاي "مدينة غاية في النظافة من جميع الوجوه، بيوتها أنظف ما يستطاع في كل أماكنها ومحتوياتها(13)".

ولولا طبيعة البشر لكانت هذه الأقاليم الرخية جنة في الأرض ذلك أن ثراءها أغرى إنجلترا وفرنسا بالهجوم عليها، وقد أفضى الصراع على السلطة في الداخل إلى مأساة جان دي ويت، ومزقت المنافسة بين العقائد الدينية شعباً لطيفاً في غير هذا، وبعثت الخصومات العنيفة. ومنع الكلفنيون الغالبون ممارسة الشعائر الكاثوليكية حيثما استطاعوا منعها. وفي 1682، وضع مجمع دورت (الدوردريشت) اعترافاً بالكلفنية القديمة-ربما انتقاماً من إلغاء مرسوم نانت وألزم كل راع بالتوقيع عليه والاطراد، وعين بيير جورجيو وهو هيجونوتي فرنسي سابق-ليرأس محكمة تفتيش كلفنية، واستدعى المهرطقين، وحاكمهم، وحرمهم، وأهاب بـ"الدراع الدنيوية" (السلطة الزمنية) أن تزج بهم السجون. ولكن هرطقة أرمينيوس نمت رغم ذلك، واجترأ الشجعان من الرجال على الاعتقاد بأن الله لم يقدر على الكثرة من بني البشر الهلاك في النار الأبدية، ووجدت المذاهب المنشقة-مينونيين، وكليين (ممن آووا سبينوزا) ولو سيائييس، وتقويين، حتى التوحيديين-هؤلاء جميعاً وجدوا أن في إمكانهم العيش في هولندا بين ثغرات القانون وغفواته. وكان السوسينيون قد التمسوا الأقاليم المتحدة ملاذاً من الاضطهاد في هولندا، ولكن عبادة التوحيديين حرمت بقانون هولندا في 1653. ونشر دانيال زفيكر بأمستردام في 1658 رسالة تشككت في ألوهية المسيح، وأخضعت الكتاب المقدس لــ"عقل البشرية العام"، ومع ذلك استطاع أن يموت في هدوء وسلام كما يموت الجنرالات. على أن رجلاً يدعى كيرباد حكم عليه 1668 بالسجن عشر سنوات لأنه أفصح عن أفكار كهذه، ومات في سجنه. وقد سجن أوريان بيفرلاند لإعلامه إلى أن خطيئة آدم وحواء الأصلية كانت الاتصال الجنسي ولم تمت للتفاح بسبب.

وازداد التسامح الدين قرب ختام القرن السابع عشر. ذلك أن الهولنديين الذين كانوا يتعاملون مع دول كثيرة ذات ثقافات مختلفة، ويفتحون موانيهم وسوقهم المالية لتجار يدينون بديانات كثيرة أولاً يدينون بأي دين، هؤلاء الهولنديين وجدوا من الأنفع لهم أن يمارسوا ضرباً من التسامح كان، رغم ما شابه من نقص، أرحب بكثير منه في أي بلد مسيحي. ومع أن الكلفنيين كانوا الغالبين سياسياً، إلا أن الكاثوليك بلغوا من الكثرة مبلغاً جعل فمعهم أمراً غير ممكن عملياً. أضف إلى ذلك أن السيطرة الاجتماعية والسياسية التي كانت تتمتع بها الطبقات التجارية والصناعية جعلت الإكليروس-كما قال السير وليم تمبل-أقل نفوذاً بكثير من الاكليروس في الدول الأخرى. وطالب المهاجرون من أقطار أخرى، الذين أسهموا بقسط في الاقتصاد أو الثقافة، بقدر محدود من الحرية الدينية وظفروا به. وحين استولى كرومويل على السلطة في إنجلترا التمس أنصار الملكية فيها السلامة في هولندا؛ ولما رد تشارلز الثاني إلى العرش، التجأ الجمهوريون الإنجليز إلى الجمهورية الهولندية. ولما اضطهد لويس الرابع عشر الهيجونت فر بعضهم إلى الأقاليم المتحدة، ولما خشي لوك وكولنز وبيل الاضطهاد في إنجلترا أو فرنسا، وجدوا الملاذ في هولندا؛ ولما حرم مجمع أمستردام البرتغالي (اليهودي) سبينوزا، رحب به العلماء الهولنديون وقدموا له العون، ورتب له جان دي ويت معاشاً. وأصبحت هولندا الصغيرة "مدرسة أوربا(15)"في التجارة والمال والعلم والفلسفة.

ولولا ما أتيح لهذه الحضارة من حرية دينية، ومن علم وأدب وفن، لأصبحت حضارة مادية إلى حد محزن. وسنلتقي في فصل لاحق بهويجنس وغيره من العلماء الهولنديين. وكان هناك شعراء ومسرحيون ومؤرخون هولنديون، ولكن لغتهم حدت من شهرتهم. وقد حلفت المدن الهولندية بالكتب والناشرين. وبينما لم يكن في إنجلترا سوى مركزين اثنين للنشر هما لندن وأكسفورد، وفي فرنسا باريس وليون، وكان في الأقاليم المتحدة مركزاً في أمستردام وروتردام وليدن وأوترخت ولاهاي، تطبع الكتب باللاتينية واليونانية والألمانية والإنجليزية والفرنسية والعبرية كما تطبعها بالهولندية. وكانت أمستردام وحدها تملك أربعمائة دار تطبع الكتب وتنشرها وتبيعها(16).

ونافس الولع بالفن الغرام بالمال والمساومة على الخلاص الأبدي. وخلع ساكنو المدن الهولنديون، الذين عروا كنائسهم البروتستنتية من الزخرف، خلعوا 'لى نسائهم وبيوتهم الزينة انتزعوها من بيوت الرب. فاسترضوا زوجاتهم بالمخمل والحرير والجواهر، ونشروا على موائدهم صحاف الذهب والفضة، وزينوا بالنسيج المرسوم، ورفوفهم أو صواوينهم بالخزف أو الزجاج المحفور. وفي ديلفت كان الخزافون الهولنديون بعد عام 1650، الذين استوحوا الخزف الصيني والياباني، يصنعون فخاراً مزججاً، أكثره أزرق على قاعدة بيضاء، أضفى الجمال المشرق على بيوت كانت من قبل عارية عرى التزمت الصارم. وقل أن وجدت أسرة هولندية لم تملك على الأقل واحدة من تلك الصور الصغيرة التي جعلت حلم المسكن الهادئ النظيف، وبهجة الأشجار والأزهار والجداول، فريبي المنال على جدران البيوت.


ازدهار صور الحياة اليومية

كان العصر البطولي للتصوير الهولندي قد ولى. فالزبائن الجدد أكثر نفراً ولكنهم أقل مالاً، لذلك طلبوا صوراً صغيرة تتيح لهم أن يشهدوا حياتهم اليومية في خلاصة مقطرة مهذبة، منفولة بواقعية تبعث لذة التعرف، أو ملموسة بعاطفة رقيقة ولكنها مألوفة، أو مغرية للنفس باستشراف مشهد محرر من مشاهد الطبيعة. وقد لبى المصورون الهولنديون هذا الطلب في رهافة خط وضوء ولون حشدت الصنعة الشديدة التدقيق في حيز صغير. وهؤلاء الفنانون معروفون في جميع أرجاء أوربا وأمريكا، لأن التنافس اليائس فيما بينهم حملهم على أن يطلقوا سيلاً متدفقاً سريعاً من الصور الصغيرة بثمن رخيص، وهي صور لا تخلوا اليوم منها جدران متحف. ونحن إذ نترك الشهادة على وفرة هؤلاء الرسامين لهامش سريع ، نراه لزاماً أن ننظر نظرة أكثر تريثاً إلى جان ستين، المرح رغم حظه العاثر، وإلى أعظم مصوري الحياة اليومية جان فرمير، وإلى أعظم مصوري الطبيعة الهولنديين، ياكوب فان رويسدان.

أما ستين فكان ابن صانع جعة في ليدن؛ واشتغل في لاهاي، وديلفت، وهارلم، وأصبح آخر المطاف صاحب حانة في ليدن، وخلال هذه الفترات استطاع أن يجعل من نفسه أفضل مصور للأشخاص في الفن الهولندي باستثناء رمبرانت. وحين بلغ الثالثة والعشرين (1649) تزوج مارجريت ابنة المصور جان فان جوين؛ ولم تملك من المهر غير وجهها وقوامها، ولكنها أفاده بعض الوقت نموذجين ملهمين. وكان ينقد أجراً حقيراً على صوره حتى أن صيدلياً حجز (1670) على كل الصور التي استطاع أن يجدها في بيت ستين وباعها في المزاد وفاء لدين قدره عشرة جولدينات. وصوره الأولى تسجل لذات السكر أو عقوباته. وصورته "الحياة المنحلة(17)"، وهي مثال ممتاز من صوره، فيها امرأة نعسانة وأخرى نائمة من الشراب، وطفل ينتهز الفرصة فيسرق من صوان، وكلب يأكل من المائدة، وراهبة تنطلق بعد دخولها الحانة في عظة عن خطيئة شرب الروم، وكل شيء في الصورة مكون ومرسوم بنظام الفن وانسجامه رغم أنه يصور الفوضى. وموضوع أجمل من هذا يبعث الحياة في صورة أخرى أسيئت تسميتها بــ"معرض الوحوش(18)"، يرى فيها فتاة صغيرة تطعم حملاً باللبن، ودجاج الحديقة يثب هنا وهناك، وطاووس يدلي ذيله من شجرة ذابلة، والحمام يحط في أعلاها، ويمامة تحلق قادمة من الطريق. هذا كله لحن رعوي يجعل جميع معضلات الفلسفة تبدو تافهة لا معنى لها. أنه الحياة، وكل جزء له مبرره الكافي الذي يتجاهل المطلقات. وبعد أن تجاوز ستين فترة الحانة رسم مشاهد مشرقة للحضارة الهولندية: باطن بيوت مبهجة، ودروس موسيقى، وحفلات موسيقى، ومهرجانات، وأسر سعيدة، وفنان نفسه، يدخن في "الصحبة المرحة(19)"، أو يعزف على العود(20). فلما فتت في عضده الأجور البخسة التي نقدها على عمله، عاد إلى بيع الجعة، وراح يشرب لينسى، ثم مات في الثالثة والخمسين مخلفاً أربعمائة صورة بائرة.

ونظرة إلى صورة واحدة رسمها جان فرميرا وسمها "رأس فتاة"(21) تكشف عن عالم وفن يكادان يناقضان عالم ستين وفنه. وهذه اللؤلؤة التي يفوق ثمنها اللآلئ بيعت في المزاد عام 1882 بجولدنين ونصف، ويقدر ناقد قدير في أيامنا هذه أنها "واحدة من اثنتي عشرة صورة هي أروع صور العالم(22)" وواضح أن الفتاة من بيت طيب وأسرة كريمة، عيناها خاليتان من الخوف، لا يخشاهما حتى دهش الشباب الطبيعي، فهي سعيدة في هدوء، متيقظة لموسيقى الحياة؛ وقد قدمها الفنان لنا بصنعة دقيقة في اللون والخط والضوء تجعل من الفرشاة أداة مدهشة للفهم والتعاطف.

وقد ولد فرمير في ديلفت عام 1632؛ وعاش هناك على قدر علمنا طوال حياته ومات فيها (1675) بالغاً الثالثة والأربعين، وكاد يكون معاصراً لسبينوزا تماماً (1632-77). تزوج في العشرين، وأنجب ثمانية أطفال، وكان يتقاضى ثمناً طيباً على صوره، ولكنه عكف عليها في عناية مستنفدة للوقت، وأنفق المال الكثير على شراء الصور، حتى أنه مات مديناً، واضطرت أرملته إلى التماس المعونة من محكمة التفاليس. غير أن الأربع والثلاثين صورة التي بقيت من صوره توحي بجو من رفاهية الطبقة الوسطى. وتظهره إحداها(23) في مرسمه لابساً طاقية رقيقة خفيفة، "وجركينة" متعددة الألوان، وجوارب طويلة متجعدة ولكنها حريرية، وقد انتفخ ردفاه من النعمة. ولا ريب في أنه سكن حياً راقياً في ديلفت، ربما في مشارفها حيث استطاع أن يلقي "نظرة على ديلفت(24)" وفي هذه الصورة الشهيرة نحس بحبه الجم بموطنه. ويبدو أنه راض نفسه على البقاء في بيته بقناعة أكثر مما نلحظه في مصوري زماننا. فحب البيت يتجلى في أكثر التصوير الهولندي، ولكن البيت في فن فرمير يصبح معبداً صغيراً، والزوجة معتزة بالخدمات التي تؤديها. وفي لوحته "المسيح مع مريم ومرثا"(25) تشارك مرثا مريم في الجلوس على المنصة. ولم تعد نساؤه تلك الحزم الثقيلة من اللحم التي نراها أحياناً في الفن الهولندي، ففيهن شيء من التهذيب والحساسية. بل لقد تجدهن-كما ترى في السيدة الجالسة في صورة "السيدة والخادمة"(26)-غاليات اللباس، رقيقات القسمات، مصففات الشعر في عناية، أو غنيات بالحرير وآلات الموسيقى، كما في صورة "السيدة الجالسة إلى العذراوية"(27) (آلة موسيقية). إن فرمير يصنع من الحياة العائلية ملحمة، أو قصيدة غنائية ذات لحظات عائلية بسيطة طبيعية؛ لا مشاهد جماعية ذات نشاط مختلط متعدد، بل-في أفضل ما رسم من لوحات-امرأة واحدة فقط، تقرأ رسالة في هدوء(28)، أو تكب على خياطتها(29) أو تتحلى بقلادة، أو تنام على خياطتها(30)، أو مجرد صبية وابتسامتها(31). لقد سجل فرمير بفن كامل شكرانه لامرأة طيبة وبيت سعيد. ولكنه أوشك أن يكون نسياً منسياً في القرن الثامن عشر، ونسبت روائعه الصغير إلى دي هوخ، أو تير بورخ، أو رمبرانت، ولم يبعث من مثواه إلا في 1858. واليوم لا يعلو على اسمه غير اسم رمبرانت وهالس في التصوير الهولندي.

بقي شيء واحد تفتقده في هؤلاء المصورين للحياة اليومية-هو حياة الطبيعة التي أحاطت بالمدن المتطفلة عليها. فإيطاليا، وبوسان في إيطاليا، كانا قد التقطا شيئاً من الهواء النقي والحقول الطلقة، وستكتشفها إنجلترا في القرن التالي، أما المصورون الهولنديون فقد تركوا الآن برهة بيوتهم وباطنها النظيف أو المرح، ووضعوا حواملهم ليقتنصوا سحر الغدران المترقرقة، وطواحين الهواء الساكنة الوادعة، والمزارع المزهرة، والأشجار التي تخجل تعجلنا المحموم، والمراكب الغريبة تتهادى في الثغور المزدحمة، والسحب التي تلون السماء بشتى الأشكال. والعالم كله يعرف لوحة "طريق ميدلهارنس" التي رسمها ماينديرت هوبيما-وهي منظور يتلاشى في فضاء لا نهاية له، ولكن أجمل منها بكثير لوحته "طاحونة الماء ذات السقف الأحمر الكبير(32)". وقد وجد ألبرت كوين الإلهام في الأبقار السمينة تخوض المستنقعات الوافرة الخضرة(33)، والخيل تقف ظامئة عن خان، وقلوع المراكب تختفي فوق البحر(34). تعجب سليمان فان رويسدال من ارتعاش المياه التي تعكس وتقلب صورة الزوارق والأشجار (القناة والمعدية)(35)، وعلم ابن أخيه أن يتفوق عليه.

أما ابن أخيه هذا، واسمه يعقوب فان روسدال، فقد ترعرع في هارلم، وترك لنا "منظر الهارلم(36)" لا يقل وقعاً في نفس الناظر عن لوحة فرمير "ديلفت"، ويفضلها نقلاً تعقد المدينة الكبيرة بما فيه من اتساع وزحمة. ثم انتقل إلى أمستردام وأصبح عضواً في الإخوان المينونيين، ولعل تصوفهم أعان فقره على إشعاره بالجانب المأساوي للطبيعة التي أحب أن يفنى بها. وعرف أن تلك الحقول والغابات، والسماوات التي تعد بالسلام، تستطيع كذلك أن تدمر، وأن للطبيعة نزوات من الغضب قد تقلع فيها الرياح المجنونة حتى اعتى الأشجار وأصلبها وتمزقها من جذورها، وأن الشقوق المهلكة قد تتكون في الأرض الطيبة، وأن البرق قد ينفث ناره القتالة على كل شكل من أشكال الحياة في لا مبالاة عابثة. فصورته "مسقط الماء على الجرف(37)" ليست أنشودة رعوية إنما هي ثورة البحر الغاضبة على صخور أقسم أن يحطمها ويغرقها أو يبر بها، ولوحة "العاصفة(38)" هي البحر يلطم عدوه اليابس في غضب، ولوحة "الشاطئ(39)" لا تصور شاطئاً للهو بل ساحلاً كدرته أمواج عالية تحت سماء مكفهرة، ولوحة "الشتاء(40)" لا تعرض مرح التزحلق، بل كوخاً حقيراً يرتجف تحت غيوم منذرة، وحفره الرائع "أشجار البلوط" يجردها من وقارها ليرى أغصانها شعثاء أو عارية وسيقانها وقد أتخنها الزمن القاسي بالجروح وشوه شكلها. ولوحة "جبانة اليهود(41)" هي ذاتها صورة للموت-أسوار متهدمة، وشجرة تموت، ومياه فيضان تجري فوق القبور. وليس مرد هذا كله أن رويسدال كان دائماً مكتئباً، ففي لوحة "حقل القمح(42)" نقل بإحساس عميق هدوء طريق ريفي، وبركة المحاصيل الوفيرة، وفرحة الفضاء المترامي. ويبدو أن الهولنديين أحسوا أن أرضهم ومناخهم قد افترت عليهما صور رويسدال، فلم ينقدوه عليها إلا أجراً بخساً، وتركوا صاحبها يموت في ملجأ للفقراء. واليوم يضعه بعضهم في مكان لا يفضله فيه غير بوسان بين مصوري الطبيعة في جميع العصور(43).

ثروة لا حد لها في حجرة صغيرة-رمبرانت وهالس، فرمير ورويسدال، سبينوزا وهويجنز، ترومب ودرويتر، جالن دي ويت ووليم الثالث، كلهم في زمن واحد داخل حدود ضيقة، يكدحون غير آمنين خلف الكثبان، يصونون فنون السلم وسط نذر الحرب. تلك هي هولندا في القرن السابع عشر. و"ليست العبرة بكبر الحجم".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

جان دي ويت 1625-1672

بعد أن ظفرت الأقاليم المتحدة باستقلالها عكفت عقب معاهدة وستفاليا على طلب المال واللهو والحرب. كان أهلها أقل أمم الأرض اكتفاءً بأنفسهم، فمحاصيل أرضها لا تقيم أكثر من ثمن سكانها، وحياة البلاد تعتمد على التجارة الخارجية واستغلال المستعمرات، وهذان يعتمدان على بحرية قادرة على حماية السفن والمستوطنات الهولندية. وكان تفوق أسبانيا البحري قد ولى بهزيمة الأرمادا الأسبانية، ونشرت البحرية الإنجليزية التي ازدهاها النصر قلوعها فوق أرجاء مترامية من المحيط. وما لبث التوسع التجاري الإنجليزي أن اصطدم بالسفن الهولندية والمستوطنات الهولندية في الهند وجزر الهند الشرقية، وأفريقيا، وحتى في "امستردام الجديدة" التي ستصبح نيويورك. وأحس بعض الإنجليز، الذين لم تهدأ فيهم بعد حمية هوكنز ودريك، أن هؤلاء الهولنديين الجبابرة ينبغي أن يحل محلهم بريطانيون جبابرة، وأن هذا ميسور بنصر أو نصرين بحريين. وقد ذكر إيرل كلارندون في تقرير له "أن التجار ألفوا الحديث عن الفائدة الكبرى التي يجنونها من حرب سافرة مع الهولنديين، وعن سهولة قهرهم، وعن حجم التجارة التي يمكن أن ينقلها الإنجليز بعد ذلك"(44) وراقت كرومويل الفكرة.

ففي 1651 أقر البرلمان الإنجليزي قانوناً للملاحة يحظر على السفن الأجنبية أن تجلب لإنجلترا أي بضاعة إلا ما ينتجه بلدها. وكان الهولنديون يشحنون إلى إنجلترا حاصلات مستعمراتهم، فتوقفت الآن هذه التجارة الرابحة. وأرسلوا بعثة إلى لندن للحصول على بعض التعديل في القانون، فلم يكتفِ الإنجليز برفض الطلب، بل طالبوا بأن تخفض المراكب الهولندية أعلامها إذا التقت بالمراكب الإنجليزية في "المياه الإنجليزية" (أي جميع المياه بين إنجلترا وفرنسا والأراضي المنخفضة) اعترافاً بسيادة الإنجليز على تلك البحار. وعاد المبعوثون الهولنديون بخفي حنين إلى لاهاي. وفي فبراير 1652 استولى الإنجليز على سبعين سفينة تجارية هولندية وجدوها في "المياه الإنجليزية". وفي 19 مايو التقى أسطول إنجليزي بقيادة روبرت بليك بأسطول هولندي بقيادة مارتن ترومب، ورفض ترمب خفض علمه، فهاجمه بليك، وانسحب ترومب. وهكذا بدأت "الحرب الهولندية الأولى".

وأوشكت انفصالية الأقاليم، المفروض أنها متحدة، أن تجر عليها الدمار. ذلك أن الزعامة الحربية الموحدة التي أتاحها لها من قبل أمراء أورنج كانت قد انقطعت، وأصبح المجلس التشريعي للولايات جمعية للمناقشة والجدل بدلاً من أن يصبح دولة. أما الإنجليز فكانوا يملكون حكومة قوية ممركزة يرأسها رجل شديد البأس هو كرومويل، وكان لهم بحرية أفضل، وقد أوتوا جميع الميزات التي حبتهم بها الجغرافيا والرياح الغربية السائدة. فدمروا أساطيل الصيد الهولندية، واستولوا على المراكب التجارية الهولندية، وهزموا أمير البحر الهولندي درويتر تجاه ساحل كنت. وانتصر ترومب على بليك تجاه دنجينيس (30 نوفمبر 1652)، ولكنه مات في المعركة في يوليو التالي. وكانت نتيجة سنة واحدة من الحرب إثبات تفوق إنجلترا بالبرهان الدامغ. وكاد حصار الإنجليز للساحل الهولندي يشل الحياة الاقتصادية في الأقاليم المتحدة. وأشرف الألوف من سكانها على الهلاك جوعاً وهددوا بالتمرد.

في هذه المرحلة الحاسمة التعسة اضطلع جان دي ويت بزعامة البلاد، وكان ينتمي إلى أسرة بعيدة العهد بالتفوق في التجارة والسياسة الهولنديتين. وقد انتخب أبوه يعقوب دي ويت عمدة على درودشت ست مرات. أما جان فقد تلقى كل التعليم الميسور، وجاب أرجاء فرنسا مع أخيه الأكبر كورنيليس، والتقى بكرومويل في إنجلترا، ثم استقر في لاهاي محامياً (1647). وبعد ثلاث سنوات كان أبوه واحداً من الزعماء الجمهوريين الذين أودعهم السجن وليم الثاني أمير أورنج، رئيس الدولة، رغبة في توطيد سلطته السياسية والحربية على جميع الأقاليم. فلما مات وليم الثاني (1650) رفض المجلس التشريعي قبول ابنه الذي ولد عقب وفاته خلفاً له، ربما متأثراً في ذلك بإقامة إنجلترا حكومة جمهورية فيها (1649) بصورة بدا أن التوفيق حالفها، وألغى منصب رئيس الدولة. وأصبحت المسرحية الداخلية للأقاليم المتحدة صراعاً بين الروح التجارية الجمهورية المسالمة التي يمثلها دي ويت، والروح الأرستقراطية العسكرية التي أزمع أن يحييها بعد قليل الشاب المتحمس وليم الثالث.

وفي 21 ديسمبر 1650، انتخب جان دي ويت-وهو لا يزال في الخامسة والعشرين-كبيراً لولاة درودرشت، وممثلاً لها في المجلس التشريعي للأقاليم المتحدة. وفي فبراير 1653 عينه المجلس حاكماً أعلى للجمهورية، وناط به مهمة عسيرة هي مفاوضة إنجلترا المنتصرة على الصلح. وكان كرومويل قاسياً لا يرحم، فطالب بأن يعترف الهولنديون بالسيادة الإنجليزية ويحيوا العلم الإنجليزي في القنال الإنجليزي، وبأن يسلموا بحق القباطنة الإنجليز في تفتيش السفن الهولندية في البحر، وبأن يؤدوا رسوماً نظير امتياز الصيد في المياه الإنجليزية، وبأن يدفعوا تعويضاً عن قتل الهولنديين للإنجليز في أمبوبنا عام 1623، وبأن ينحوا بصفة دائمة عن الوظائف أو السلطة جميع أفراد بيت أورنج-الذي قطع على نفسه عهداً بأن يرد أسرة ستيوارت إلى عرش إنجلترا لما بينه وبينها من مصاهرة. وحذف دي ويت هذا البند الأخير من المعاهدة كما قدمت للمجلس التشريعي وكما تصدق عليها منه (22 إبريل 1654)، ثم أقنع المجلس التشريعي لإقليم واحد-هو إقليم هولندا-بقبول المعاهدة بما فيها هذا البند. ولم يغتفر له وليم الثالث فعلته هذه قط.

ثم وطد دي ويت مركزه بالزواج من وينديلا بيكر الغنية، وأصبح عن طرقها صهراً لأمراء التجارة في امستردام، وبتأييدهم شغل أهم المناصب في هولندا هو وأبوه، وأخوه، وبنو عمومته، وأصدقاؤه؛ وسرعان ما قبض على زمام الحكم كله في الإقليم. وقبلت أقاليم أخرى زعامته على مضض، لأن هولندا التي أغنتها موانيها كانت تدفع سبعة وخمسين في المائة من نفقات الاتحاد، وتقدم معظم الأسطول الهولندي، ولم يكن محبوباً من جماهير الشعب. ولكن حكمه كان مستنيراً وكفؤاً. فقد حد من النفقات الباهظة، وخفض الفائدة على الدين الفدرالي، وأجرى فحصاً شاملاً للأسطول، وبنى سفناً أفضل، ودرب عاملين جدداً في البحرية. وإذ كان يعكس مشاعر التجار، فإنه كافح في سبيل السلام ولكنه استعد للحرب. وفي 1658، ثم في 1663، أعيد انتخابه حاكماً أعلى للأقاليم المتحدة. وقد وقع من نفوس المراقبين بإخلاصه لمهام الحكم، وببساطة مسلكه وتواضعه، وبنقاء حياته العائلية. ويسرت له ثروة زوجته العيش في منزل فخم يستطيع أن يستقبل فيه المبعوثين الأجانب في جو مهيب، ولكن ذلك المنزل كان مركزاً للثقافة الهولندية أكثر منه مركزاً للمظهر المترف، فقد امتزج فيه الشعر بالسياسة، ونوقش العلم والفلسفة ربما بحرية لا يطيقها ناخبو دي ويت الكلفنيون. وحتى سبينوزا، ذلك المهرطق المرهوب، وجد صديقاً وفياً وحامياً له في الحاكم الأعلى.

لقد كانت مأساته دائماً أنه أحب السلام أكثر من الحرب، بينما كان جيران الجمهورية الغنية يكتلون قواهم للقضاء عليها. وفي 1660 رد [[تشارلز الثاني]ي إلى عرش إنجلترا، فأوصى جان دي ويت مشدداً بأن يرضى عن ابن أخته وليم أورنج الثالث، وبعد قليل طالب بإلغاء "قانون الإبعاد" الذي أقصى بمقتضاه وليم عن المناصب، ووافق دي ويت وهكذا مهد الملك الاستيوارتي لسقوط أسرة ستيوارت على غير قصد منه. وفي اكتوبر 1664، استولت حملة إنجليزية على مستعمرة نيو امستردام الهولندية، وأطلقت عليها اسماً آخر هو نيويورك تكريماً لدوق يورك (جيمس الثاني مستقبلاً) وكان يومها قائد البحرية الإنجليزية. واحتج المجلس التشريعي للأقاليم المتحدة، ولم تعبأ إنجلترا بالاحتجاج، وفي مارس 1665 بدأت الحرب الهولندية الثانية.

وقد برر الموقف ما سبق أن اتخذه دي ويت من استعدادات. ذلك أن ضعف القيادة قد أنتقل من المجلس التشريعي إلى حكومة تشارلز الثاني الغافلة العاجزة، وبينما كان الملك المرح يراقص خليلته، ظفر دي ويت بالثناء حتى من أعدائه على الهمة والإخلاص اللذين بذلهما لكل نواحي التنظيم الحربي وتفاصيله. فقد أبحر غير مرة مع الأسطول، وعرض نفسه لكل مخاطر المعركة، وألهم الملاحين بشجاعته وغيرته. ولم تكن البحرية الهولندية إلى ذلك الحين كفؤاً للبحرية الإنجليزية في السفن أو الرجال أو النظام، فأوقعت البحرية الإنجليزية بقيادة دوق يورك هزيمة حاسمة بالبحرية الهولندية في أول لقاء كبير في الحرب (لوفستوفت، 13 يونيو 1665). على أن المواطنين الهولنديين الصابرين أعادوا بناء أسطولهم وولا عليه رجلاً من أقدر وأجرأ أمراء البحر الذين عرفهم التاريخ. وفي ينويو 1667 قاد هذا الرجل، وهو ميشيل أدريانسزون درويتر، ستاً وستين سفينة إلى نهر التيمز، واستولى على قلعة شيرنيس (على نحو أربعين ميلاً شرقي في لندن)، وحطم الحواجز التي تعترض الدخول في نهر ميدواي (الذي يصب في التيمز عند شيرنس) وأخذ، أو حرق، أو أغرق ست عشرة سفينة حربية كانت راسية هناك دون تأهب لمثل هذا الزائر الوقح (12 يونيو 1667). وإذ لم يكن بتشارلز الثاني ولع بالحرب، فقد أمر دبلوماسييه أن يعرضوا على الهولنديين صالحاً مقبولاً. وفي 21 يوليو 1667 وقعت الدولتان معاهدة بريدا، وبمقتضاها نزل الهولنديون لإنجلترا عن نيويورك التي خالوها غير هامة، ووافقوا على أن يحيوا العلم الإنجليزي في المياه الإنجليزية، ونزلت إنجلترا للهولنديين عن مستعمرة سورينام (جيانا الهولندية في أمريكا الجنوبية) وعدلت قانون الملاحة لصالح التجارة الهولندية. وكانت المعاهدة نصراً معتدلاً لدى وبث وبلغت به قمة نجاحه.

غير أنه ارتكب الآن سلسلة من الأخطاء القاتلة، فقد زاد من تنفير مؤيدي وليم الثالث بأن أجاز في المجلس الإقليمي لهولندا (5 أغسطس 1667) "مرسوماً دائماً" يمنع أي حاكم لأي إقليم من تولى قيادة الجيش أو البحرية العليا للاتحاد. فاستقال على إثر ذلك أتباع الأمير الشاب من الجيش وتركوه خلواً من القواد المحنكين. ولسوء الحظ وقع هذا الحدث، الناجم عن المنافسة بين أسرتين، بينما كانت فرنسا تغزو الأراضي المنخفضة الأسبانية، فهددت بذلك المصالح الحيوية الأقاليم المتحدة. فلو أن فرنسا هيمنت على الأقاليم الجنونية لأسرعت بفتح الشلت للتجارة الأجنبية من جديد، فإذا انتعشت بذلك تحدت السيادة التجارية لأمستردام، وأصبح اقتصاد الأقاليم الشمالية كله في خطر. ثم كم من الزمن سيقف لويس الرابع عشر عند الحدود الهولندية لا يتجاوزها؟ لو أن رأيه استقر على أن يلتهم الأقاليم المتحدة، ويستولي على مصاب الراين، لما بقي للبلد في الواقع وجود، ولقضي على البروتستنتية الهولندية قضاءً مبرماً.

وعرض دي ويت على الملك المتعدي سلسلة من الحلول الوسط، ولكنه رفضها. فاتفق مع إنجلترا (23 يناير 1668)، ثم مع السويد، على حلف ثلاثي للدفاع المشترك ضد التوسع الفرنسي. ووافق لويس في لباقة على إنهاء "حرب الأيلولة" (الوراثة الأسبانية) شريطة أن يستبقي نطاقاً من المدن والحصون التي استولى عليها في فلاندر وإينو. وارتضت هذه الشروط إنجلترا والسويد، ثم الأقاليم المتحدة، في معاهدة إكس-لا-شلبل (2 مايو 1668). وبدا أن دبلوماسية دي ويت جنبت البلاد الخطر، وفي يوليو انتخب للمرة الرابعة ليشغل منصب الحاكم الأعلى للجمهورية فترة خمس سنوات أخرى.

ولكنه أخطأ استقراء سياسات ملكي فرنسا وإنجلترا. ذلك أن لويس لم يغتفر للهولنديين قط في غزوه الأراضي المنخفضة الأسبانية. فأقسم أنه "إن ضايقته هولندا كما ضايقت الأسبان فسيرسل رجاله بالمجارف والمعاول ليقذفوا بها في البحر(45)"، ربما بفتح الجسور البحرية عليها. كانت تغيظه الجمهورية، وكان يطمع في الراين، فعقد النية على تدمير تلك، والسيطرة على هذا. وزادت الصراع شدة حرب التعريفات الجمركية التي نشبت بين الخصمين؛ فقد فرض مولبير رسوماً مانعة على البضائع الهولندية التي تدخل فرنسا، ورد الهولنديون عليها بمثلها. ولكن الذخيرة الحربية استثنيت استثناءً بارعاً من هذه القيود؛ ذلك أن لوفوا، وزير الحربية الفرنسي، أقنع رجال الصناعة الهولنديين بأن يبيعوه مقادير هائلة من العتاد الحربي(46)، وفي الوقت نفسه امتنع رجال الأعمال الهولنديون عن الموافقة على الضرائب التي أراد دي ويت فرضها لتزويد الجيش بالإمداد والمؤن. وأثبت السلك الدبلوماسي الفرنسي حذقه، أو ثراءه، بعزلة إنجلترا والسويد عن تحالفهما مع الأقاليم المتحدة. فوافق تشارلز الثاني في معاهدة دوفر السرية (1 يونيو 1670) على التخلي عن الحلف الثلاثي والانضمام إلى لويس في حربه مع الهولنديين. أما السويد فقد انسحبت من الحلف في 1672 لحاجتها للمعونة الفرنسية ضد الدنمرك وألمانيا، ووعدت أسبانيا، والإمبراطورية، وبراندنبورج، الجمهورية بالمساعدة، ولكن ما كان تحت تصرفها من قوات كان أضأل أو أبعد من أن يكون له كبير وزن أمام القوات المجندة الضخمة التي أطلقت الآن على الأقاليم المتحدة براً وبحراً. وعاد دي ويت يعرض التنازلات والحلول الوسط، فرفضها لويس.

وفي 23 مارس 1672 بدأت إنجلترا الهجوم على الجمهورية الهولندية، وفي 6 إبريل أعلنت فرنسا عليها الحرب. وسرعان ما زحف نحو 130.000 مقاتل على الدولة الصغيرة يقودهم تورين، وكونديه، ولكسمبور، وفوبان، ولويس نفسه. يقول فولتير "لم يشهد الناس من قبل جيشاً فخماً كهذا الجيش(74)"، واخترقت القوة الفرنسية الرئيسية، باستراتيجية بارعة وغير متوقعه، الأراضي الألمانية-مهدئة ثائرة القرى بــ"الهدايا"-لتهاجم النقط الأضعف تحصيناً. وفي 12 يونيو، وتحت نيران الهولنديين وبصر الملك، عبر الفرنسيون الراين، وهم يسبحون عرض الأقدام الستين التي لم يسمح لهم عمقها أن يخوضوها؛ وأصبح هذا حدثاً محبباً تتناوله الصور والأيقونات الملكية. وزحفت الجيوش الملكية شمالاً إلى قلب الأقاليم المتحدة، فاستولت بسهولة على المدينة تلو المدينة. واستسلمت أوترخت دون مقاومة. وأذعن إقليما أوفريسيل وجلدر لاند، ولم يبق بعد قليل غير أمستردام ولاهاي. ولم تجد كثيراً تلك الهزيمة التي أوقعها درويتر في 6 يونيو بالأسطولين الإنجليزي والفرنسي مجتمعين في خليج ساوثوولد. وطلب دي ويت الصلح، فطالب لويس بتعويض ضخم، وبسيطرة الفرنسيين على جميع الطرق الهولندية البرية والبحرية، وبرد الكاثوليك إلى جميع أرجاء الجمهورية. ورفض الهولنديون هذه الشروط لأنها لا تفضل العبودية، فلجئوا إلى دفاعهم الأخير: وفتحوا الجسور، وأدخلوا البحر عدوهم القديم صديقاً منقذاً، وما لبثت المياه أن تدفقت على اليابس، وتقهقر الفرنسيون عاجزين أما هذا الفيضان الذي أخذهم على غرة.

ومع هذا فقد حربت البلاد، فكانت جيوش أسقف مونستر وناخب كولونيا، المتحالفين مع لويس، تزحف دون عائق على إقليم أوفريسيل، والسفن الفرنسية والإنجليزية تغير على التجارة الهولندية رغم أنف درويتر، وأشرفت الحياة الاقتصادية للدولة المحاصرة على الانهيار. أما دي ويت فقد كافح خلال هذه الشهور القاسية كما لم يكافح أي رجل قبله في تاريخ هولندا-فجمع الأموال، وجهز الأسطول وزوده، ووقف إلى جوار درويتر في معركة خليج ساوثوولد، وحاول بالبعثة تلو البعثة أن يفاوض على صلح ينقذ وطنه. وفي يونيو 1672 عرض لويس أن ينزل له عن ماسترشت وأجزاء من برابانت الهولندية، وأن يدفع كل نفقات الحرب. ولكن لويس أزدرى هذا العرض أيضاً، ولما سمع مواطنوه بأمر العرض نددوا به رجلاً يبيت استسلام الخيانة للويس(48). وألقى عليه الشعب الآن كل تبعة ما أصابهم من نكبات. واتهموه بالنقه الساذجة المستهترة في وعود تشارلز الثاني ولويس الرابع عشر، ورموه بتعيين أقاربه في أكثر من عشر وظائف مجزية، وفوق هذا كله لم يستطيعوا أن يغتفروا له حرمان بيت أورنج من امتيازاته الحربية والسياسية التي حفظت على الأقاليم الهولندية حريتها طوال قرن من الزمان. ثم لاموه على عجز قواده البورجوازيين وجبنهم. ورماء القساوسة الكلفنيون بأنه ملحد مقنع، وتابع لديكارت وصديق لسبينوزا(49). وحتى طبقات التجار التي كانت من قبل سنده الأكبر انقلبت عليه الآن واتهمته بأنه منظم الهزيمة.

وشاركه أخوه كورنيليس في تلقي بعض الجماهير وشتائمها، وهو الذي قاسمه من قبل مكافآت المنصب وأعباء الحرب ومخاطرها. وفي 21 يونيو 1672 بدلت محاولة فاشلة لاغتيال جان، وبعد يومين تلتها محاولة أخرى لقتل كورنيليس. وفي 24 يوليو قبض موظفو لاهاي على كورنيليس بتهمة التآمر على أمير أورنج. وفي 4 أغسطس استقال جان من منصبه حاكماً أعلى. وفي 19 أوغسطس عذب كورنيليس وحكم عليه بالنفي. وشق جان طريقه خلال المدينة المادية إلى سجن الجيفانجينبورن ليرى أخاه رغم أنه حذر بأنه يعرض حياته للخطر. وما لبث جمع من الغوغاء أن احتشد خارج السجن يحرضه رئيس شرطة وصائغ وحلاق. وكان هناك حارس مدني كلف برد الغوغاء ولكنه شاركهم حقدهم على الأخوين دي ويت، فلم يبد أي مقاومة حين حطموا أبواب السجن واندفعوا إلى داخله. وقبضوا على جان وكورنيليس، وجروهما إلى الميدان، وضربوهما حتى الموت، وعلقوا جثتميهما على عمود نور ورأساهما منكسان (20 أغسطس 1672). وماتت الجمهورية الهولندية بموتها، وعاد بيت أورنج إلى السلطة من جديد.


وليام أورنج الثالث

نشأت ماري ستيوارت ولدها على لون مكتئب من ضبط النفس يترقب في صمت فرصته حتى يأتي التجلد بالنصر، وذلك بعد أن حطم روحها إعدام أبيها تشارلز الأول (1649)، وموت زوجها الشاب وليم أورنج الثاني (1650)، وإلغاء منصب رئاسة الدولة، وإقصاء بيت أورنج عن الوظائف. هذا الصبي الهزيل الجسد، الذي أحدق به في نموه الأعداء المكلفون بحراسته، والذي ورث رغم ذلك عن وليم أورنج الأول شعاره "سأقاوم"-نقول إنه شب فتى عليلاً يخفي وراء وجهه الجامد ناراً مستعرة من العزيمة والثأر. وإذ كان صارماً، مؤدباً، مجاملاً في برود، فقد زهد في اللهو والمرح، ومارس الرياضات الخلوية علاجاً لصداعه المتكرر ولتعرضه لنوبات الإغماء. لقد كان إناء ضعيفاً لتلك الروح التي ستستولي على عرش إنجلترا وتؤدب ملك فرنسا. وذهبت أمه إلى إنجلترا في 1660 لبتهاجاً يتتويج أخيها، وماتت هناك بالجدري في ليلة عيد الميلاد. وفي 1666 أعلنت حكومة إقليم هولندا الأمير ذا الستة عشر عاماً قاصراً تحت وصاية الدولة، واستبدل جان دي ويت بأوصيائه ومعلميه المحبوبين أشخاصاً أكثر استجابة لسياسة المجلس الإقليمي(50). وكان كره وليم لدي ويت يزداد على الأيام. وفي قمة سلطان جان، أفلت الأمير من رقابة أوصيائه الجدد وركب جواده من لاهاي إلى بيرجن أوب-زوم (1668)، ثم استقل زورقاً إلى زيلنده، وكانت أكثر الأقاليم ولاء لأجداده. وحياه سكان عاصمته مدلبورج بمظاهرات كبيرة تفيض حباً وإخلاصاً. فتولى دون تردد أو مقاومة رئاسة المجلس الإقليمي لزيلندة. فلما عاد إلى لاهاي أعلن أنه بلغ الآن رشده في عيد ميلاده الثامن عشر (4 نوفمبر 1668)، وأنه من الآن سيستغني عن الأوصياء الذين عينهم له مجلس هولندا، ولكن المجلس رفض سحبهم، فطردهم، ولكنهم بقوا. وترقب وليام فرصته.

وقد واتته حين اكتسحت الجيوش الفرنسية والألمانية الأقاليم الهولندية، واستسلمت الجيوش الهولندية بلداً بعد بلد، وبدا أن لاهاي ذاتها عاجزة عن الدفاع عن نفسها، وعين المجلس التشريعي وليم قائداً عاماً للاتحاد (25 فبراير 1672)، مذعناً لمطالب العسكريين، مؤملاً أن تعود إلى الأمة وحدتها ومعنوياتها برد بيت أورنج إلى مكان القيادة. وفي 2 يوليو انتخب مجلس زيلندة وليم حاكماً لأقاليمهم، ضارباً بالمرسوم الدائم عرض الحائط، وفي 4 يوليو حذا مجلس هولندا حذوه، وفي 8 يوليو عين قائداً أعلى لقوات الاتحاد المسلحة في البر والبحر. وقد ظهر معدنه حين عرض ملك فرنسا الصلح نظير تعويض بلغ ستة عشر مليون فلورين، والنزول عن مساحات كبيرة لفرنسا، ومنستر، وكولونيا، وقدم عرض سري بالاعتراف بوليم ملكاً على الباقي. واتجه إليه مجلس هولندا يطلب النصيحة فأجاب، "خير لنا أن نقطع إرباً من أن نقبل هذه الشروط(51)". وحين حضر دوق بكنجهام الثاني من إنجلترا ليحث وليم على الصلح وقال له "ألا ترى أن وطنك قد ضاع؟" أجاب "إن وطني في خطر عظيم، ولكن هناك سبيل مؤكد لمنعه من الضياع، وهو الموت في آخر خندق(52)". ومع ذلك ففي حكمة تستغرب من فتى في الثانية والعشرين، أشار بالمفاوضات الصابرة المجاملة مع الإنجليز، ولعله رأى آنئذ أن في التعاون بيت الإنجليز والهولنديين الأمل الوحيد لكبح اعتداءات فرنسا. واتخذ من التدابير ما يكفل الروابط بين الأقاليم المتحدة، والإمبراطورية، وبراند نبورج. وكانت الخطوط العريضة للحلف الأعظم تتشكل في ذهنه.

ومضى إلى المقر الرئيسي للجيش، لذلك كان غائباً عن لاهاي حين قتل الأخوان دي ويت. والظاهر أنه لم يكن ضالعاً في تدبير هذه الفعلة، التي ربما لم يدبرها أحد، ولكنه لم يخف ارتياحه حين سمع بنبئها؛ وحمى الرجال الذين قادوا الغوغاء ورتب له معاشاً(53). ثم حاول الآن أن يكون قائداً كفؤاً، فلم يوفق قط في محاولته، غير أن المقاتلين المحنكين الذي انضووا تحت لوائه في حماسة أعادوا تنظيم الجيش والبحرية، وبدأت الانتصارات ترجح الهزائم، وتفوق درويتر وكورنيليس ترومب (بن مارتن) على الأسطولين الإنجليزي والفرنسي في شونفيلت وكيكدون (1673)، وصد الغزاة الألمان عند جروننجن، واستولى وليم على فاردن، وطهرت أقاليم جلدرلاند وأوترخت، واوفريسل، من العدو. وراح الفرنسيون يتقهقرون في كل مكان تقريباً، وأنقذت الأقاليم المتحدة، مؤقتاً على الأقل، فهللت لوليم منقذاً لها.

ثم أضاف إلى هذه الانتصارات انتصارات دبلوماسية. ففي 19 فبراير 1674 أقنع إنجلترا بأن تبرم معه صلحاً منفرداً إذ وافق على أن يدفع لها تعويضات حربية قدرها مليونا فلورين؛ وفي 22 إبريل و11 مايو وقع معاهدتين مع مونستر وكولين، ثم أكد التحالف القائم بين الأقاليم المتحدة، وأسبانيا، وبران نبورج، الدنمرك، والإمبراطورية، ضد فرنسا التي أصبحت الآن معزولة. وكانت الضربة الأخيرة ظفره بيد ماري، كبرى بنات جيمس دوق يورك وشقيق ملك إنجلترا. وتقاربت الآن الدولتان البروتستانتيتان الكبريان، وراحت الشبكة تحكم خيوطها حول فرنسا، ولم يكن أمراً هيناً أن يكون لماري حق في وراثة العرش الإنجليزي لا يتقدم عليه غير حق أبيها فيه.وندر في التاريخ أن دبر حاكم صغير السن كوليم مثل هذه الخطط البعيدة النظر، ولا حقق لها نجاحاً كهذا النجاح.

على أن الفرنسيين جددوا هجومهم خلال ذلك، فاستولوا على إيبر وغنت، وزحفوا نحو الحدود الهولندية. وهزم أسطول فرنسي درويتر تجاه شاطئ صقلية (22 إبريل 1676)، وبعد أسبوع مات درويتر متأثراً بجراحه. وعرض لويس الصلح على الأقاليم المتحدة بشروط مغرية: أن يرد كل الأراضي الهولندية التي استولى عليها الفرنسيون، شريطة أن توافق الأقاليم المتحدة على احتفاظه بفرانش-كونتيه واللورين. واحتج الإمبراطور، وبراندنبورج، والدنمرك على هذا الصلح، وأيدهم وليم، ولكن المجلس التشريعي الذي غلبت عليه المصالح التجارية تغلب على رأيه، وتخلى عن حلفائه، ووقع مع فرنسا صلح نيميجن المنفصل (10 أغسطس 1667).

أما وليم فقد نظر إلى الصلح على أنه مجرد هدنة، وكافح طوال السنوات العشر التالية ليعيد بناء الحلف وكبح التجار الهولنديون طبعه العسكري، محتجين بأن الأقاليم المنهكة في حاجة لأن تستريح من النضال، وأن الرخاء في طريقه إليها. على أن حدثين وقعا عام 1685 فاستغلهما وليم ذلك أن لويس ألغى مرسوم نانت، فاحتشد الهيجونوت المضطهدون في الأقاليم المتحدة، وتزعموا دعوة نشيطة لتوحيد الدول البروتستانتية ضد فرنسا. وفي إنجلترا كشف جيمس الثاني، بعد أن تولى عرشها، عن أمله غي رد الأمة إلى الكثلكة، فدبر البروتستانت الإنجليز عزلهم، وبذلك يحل حق ماري زوجة وليم في العرش. وكان وليم قد عشق اليزابيث فيلييه، صديقة ماري(54) الحميمة، ولكن ماري غفرت له، ووافقت على طاعة زوجها بوصفه ملكاً أن هي أصبحت ملكة على إنجلترا وفي 1686 أفلح وليام في تنظيم حلف مع الإمبراطورية، وبراندنبورج، وأسبانيا، والسويد، للدفاع المشترك. وفي 30 يونيو 1688 دعا الزعماء البروتستانت الإنجليز وليم وماري إلى دخول إنجلترا بقوات مسلحة ومساعدتهم على خلع ملكهم الكاثوليكي. وتردد وليام، لأن لويس الرابع عشر كان تحت يده جيش عرمرم ينتظر قرار الملك ليهاجم الأراضي المنخفضة أو الإمبراطورية. وأرسل لويس الأمر للجيش بأن يزحف على ألمانيا، فأطلق بذلك يد وليم. وفي 1 نوفمبر 1688 أبحر بأربعة عشر ألف رجل ليكسب عرش إنجلترا.