قصة الحضارة - ول ديورانت - م 8 ك 1 ف 2

صفحة رقم : 10493

قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> فرنسا في أوج عظمتها -> بوتقة الإيمان -> الملك والكنيسة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثاني: بوتقة الإيمان 1643 - 1715

الملك والكنيسة

ينزع المؤرخ-كما ينزع الصحفي-إلى فقدان الخلفية العادية للعصر وسط الواجهة المثيرة للصورة التي يرسمها، لأنه يعلم أن قراءه سيستطيبون الشاذ ويحبون تجسيد العمليات والأحداث. ولكن وراء حكام فرنسا، ووزرائها، وحاشيتها، ومحظياتها، ومقاتليها، كان هناك رجال ونساء يتنافسون على الرزق والرفقاء، يزجرون أبناءهم ويحبونهم، يأثمون ويعترفون بإثمهم، يلهون ويتشاجرون، يذهبون إلى أعمالهم متثاقلين وإلى المواخير متسترين، وإلى الصلاة متواضعين متذللين. وكان طلب الخلاص الأبدي يقطع بين الحين والحين كفاح البقاء اليومي، والحلم بالجنة ينتعش كلما ذبلت شهوة الحياة، وصحن الكنيسة الظليل يربح هنيهة من وطيس الصراع. وكانت أساطير المعجزات شعر الجماهير، والقداس مسرحية خلاصهم المعزية، وسميت الرسالة التي يحملها الكاهن بقلوب الفقراء المهزومين ولو كان هو ذاته رجلاً دنيوياً جشعاً. وظلت الكنيسة المنافس للدولة ركيزة للمجتمع والسلطة، لأنه بالرجاء أذعن الناس في صبر للعمل الشاق، والقانون، والحرب.

وعرف كبار الأكليروس الكاثوليك أهميتهم في معجزة النظام، وشاركوا النبلاء والملك موارد الأمة وبهاء البلاط. وخالط الأساقفة ورؤساء الأساقفة في ألفة مهذبة أعلام القوم من طراز كونديه، ومونبنسييه، وسفينييه، وداعب المئات من الآباء-أنصاف المكرسين، أنصاف المتزوجين-داعبوا النساء والأفكار. على أنه يمكن القول بوجه عام أن عقلية رجال الأكليروس الكاثوليك وأخلاقهم كانت خيراً مما عهدناه خلال قرون قبل ذلك، ربما بحافز من منافسة القساوسة الهيجونوت(1).

لم تكن أديار الراهبات "مراتع الرذيلة" التي صورها جنون خلق الأساطير، المنبعث من الكراهية للدين. فالكثير منها كان صوامع للورع الصادق، الزاهد أحياناً، كدير الكرمليات الذي اعتكفت فيه لويز دلافاليير، وبعضها الآخر ملاذا لشابات الأسر الكريمة اللاتي لم يجد آباؤهن لهن أزواجاً أو مهوراً، أو اللاتي اقترفن إثماً، أو أسأن إلى حاكم أو ملك. في أديار كهذه لم ير نزيلاتها حرجاً في استقبال زائر من العالم الخارجي، أو مراقصة بعضهن البعض، أو في قراءة الأدب الدنيوي، أو في تخفيف سأمهن في لعب البليارد أو الورق. وبإصلاح دير من هذه جعلت جاكلين آرنو دير البور-رويال أشهر دير في تاريخ فرنسا.

على أننا لا نستطيع مثل هذا الحديث المترفق عن الطرق الديرية، فالكثير منها أرخى نظمه، وعاش حياة التبطل، والعبادة الصورية، والإلحاف في التسول. وقد أصلح "أرمان جان درانسيه" دير نوتردام دلا تراب بنورمنديا، وأسس الطريقة الترابية الصارمة التي مازالت حية في صمت. ودخل اليسوعيون دخولاً أنشط في حياة فرنسا وتاريخها. كانوا في بداية القرن السابع عشر موضع توجس وريبة باعتبارهم مدافعين عن قتل الملك، أما في نهاية القرن فقد كانوا كهنة اعتراف ومرشدين للملك-ثم أنهم كانوا خبراء في علم النفس. فحين أسست الراهبة مارجريت ماري ألاكوك بوحي من رؤيا صوفية تراءت لها (1675) جمعية منقطعة للعبادة العلنية لـ"قلب يسوع المقدس"، شجع اليسوعيون الحركة باعتبارها منفذاً وحافزاً لتقوى الجماهير. وفي الوقت نفسه يسروا الدين للخطاة إذ سلموا بأن الخطيئة في طبيعة البشر، ووضعوا علم "الإفتاء" سبيلاً للتخفيف من عسر الوصايا العشر وللتلطيف من عصاب تأنيب الضمير، وما لبث أن اشتد الطلب عليهم آباء اعتراف للخطاة، واكتسبوا سلطة "مرشدي الضمائر"، لا سيما بين النساء اللاتي سدن المجتمع الفرنسي، واللاتي أثرن أحياناً في السياسة القومية للبلاد.

ولم يكن لكلمة "الإفتاء" في القرن السابع عشر ذلك المدلول المهين الذي ألصقته بها رسائل بسكال الإقليمية. فقد كان يفترض في كل قسيس، بوصفه أب اعتراف أو مرشداً روحياً، أن يعرف بالضبط ما الذي يجب أن يعتبر خطيئة مميتة، أو خطيئة هينة، أو لا خطيئة على الإطلاق، وكان عليه أن يستعد لتطبيق علمه، والملاءمة بين حكمه، ونصحه، والعقوبة الكنسية التي يشير بها، وبين الحالة الماثلة أمامه (Casus). وكان معلمو الناموس اليهود قد طوروا هذا الفن، في التمييزات الخلقية، بتفصيل مستفيض في الأجزاء القانونية من التلمود، وحذا حذوهم التشريع والطب النفسي العصريان. وقبل أن تنشأ جماعة اليسوعيون بزمن مديد، وضع اللاهوتيون الكاثوليك الأبحاث الضخمة في الإفتاء لإرشاد الكاهن في أمر المبدأ الخلقي والتطبيق الإعترافي. ففي أي الحالات مثلاً يجوز أن يبدى على حرفية القانون الخلقي روحه أو قصده؟ ومتى يجوز للإنسان أن يكذب أو يسرق أو يقتل، أو يحنث بوعد حنثاً معقولاً، أو ينتهك يميناً، أو حتى ينكر العقيدة؟

وطالب بعض المفتين بتفسير القانون الخلقي تفسيراً صارماً، ورأوا أن الصرامة أجدى في المدى الطويل من التساهل. ولكن غير هؤلاء-ولا سيما اليسوعيين مولينا، وإسكوبار، وتوليدو، وبوزنباوم-حبذوا دستوراً أخلاقياً متسامحاً، وحضوا على ضرورة التماس العذر للطبيعة البشرية، ومؤثرات البيئة، والجهل بالقانون، والمشقة البالغة في الامتثال الحرفي للقانون، وعنف سورات العاطفة عنفاً شبيهاً بالجنون، وسائر الظروف التي تعطل حربة الإرادة. وتيسيراً لهذه الأخلاقيات اللينة، وضع اليسوعيون مبدأ الترجيح-ومؤداه أنه إذا استحسن حجة معروف في اللاهوت الخلقي رأياً بعينه، جاز لكاهن الاعتراف أن يحكم طبقاً لهذا الرأي إذا استصوب ذلك، ولو عارضته كثرة الخبراء. (وكانت كلمة Probabilis تعني في ذلك الوقت المستحسن، أو الذي يسمح بالاستحسان(2)). يضاف إلى هذا، في رأي بعض المفتين اليسوعيين، أنه من المباح أحياناً أن يكذب الإنسان، أو يمسك عن قول الحق بـ"تحفظ عقلي"؛ مثال ذلك أن للمسيحي الأسير، إذا أكره على الخيار بين الإسلام والموت، أن يتظاهر بقبول الإسلام دون أن يحسب ذلك خطيئة عليه. ثم إن أخلاقية عمل ما، في رأي إسكوبار، ليست في الفعل نفسه، الذي في ذاته أخلاقياً أولاً أخلاقي، بل في نية الفاعل الخلقية، فليس هناك خطيئة ما لم يكن هناك خروج واع، مختار، عن القانون الخلقي.

والكثير من إفتاء اليسوعيين كان توفيقاً معقولاً رحيماً بين القواعد التي يغلب عليها زهد العصر الوسيط، وبين مجتمع اكتشفت مشروعية اللذة. ولكن اليسوعيين في فرنسا بصفة خاصة، وفي إيطاليا بدرجة أقل، طوروا الإفتاء حتى بلغوا به من التسامح مع ضعف الطبيعة البشرية مبلغاً حمل رجالاً جادين كبسكال في باريس، وسار بي في البندقية، وكثيراً من اللاهوتيين الكاثوليك، ومنهم عدة يسوعيين(3)-حمل هؤلاء جميعاً على الاحتجاج على ما رأوا فيه استسلاماً من المسيحية للخطيئة. وصدم هذا التراخي اليسوعي مع العالم والجسد مشاعر هيجونوت فرنسا الذين ورثوا دستور كالفن الخلقي الصارم. وقامت حركة قوية داخل الكاثوليكية ذاتها-وهي الجانسنية-فرفعت في دير البور-رويال لواء أخلاقية شبه كالفنية، في حرب مناهضة لليسوعيين أهاجت فرنسا والأب الفرنسي قرناً كاملاً. وجرت هذه الحرب لويس الرابع عشر إلى معركة، لأن كهنة اعترافه كانوا يسوعيين وتطبيقه للدين لم يكن متزمتاً. وفي 1674 اضطلع الأب لاشيز بالإشراف على ضمير الملك، وقد وصفه فولتير بأنه "رجل هادئ الطبع يسهل عنده التوفيق دائماً.(4)" وقد شغل المركز اثنين وثلاثين سنة، غفر خلالها كل شيء وحظي بمحبة كل إنسان. وقد قال لويس عنه "بلغ من طيبته أنني كنت أحياناً ألومه عليها(5)". ولكنه بطريقته الهادئة الصابرة كان له تأثير بالغ على الملك، وأعان على توجيهه إلى الاقتصار على امرأة واحدة آخر المطاف، وإلى طاعة البابا.

ذلك أن لويس لم يكن دائماً "بابوياً" صادقاً. كان متديناً على طريقته الرسمية، وندر أن قصر في حضور القداس اليومي(6). قال لولده في مذكراته:

"...واصلت تدريبات التقوى التي نشأتني عليها أمي، من جهة لأشكر الله على كل الحظ الطيب الذي نلته، ومن جهة لأكسب محبة شعبي...والحق يا بني أننا لا نفتقر إلى عرفان الجميل والإنصاف فحسب، بل إلى الحكمة والفطنة أيضاً، حين نقصر في عبادته تعالى، الذي لسنا إلا نواباً له. وما خضوعنا له إلا القاعدة والمثل للخضوع الذي نستحقه(7)". على أن هذا لم يشمل الخضوع للبابوية. ذلك أن لويس ورث التقليد "الغالي" بمقتضى تفويض بورج البرجماتي (1483) وكونكوردا فرنسوا الأول (1516)-ذلك التقليد الذي اقر حق ملوك فرنسا في تعيين أساقفة فرنسا ورؤساء أديارها، وتحديد دخولهم، والتعيين في جميع الوظائف الكنسية ذات الدخول في الفترة بين موت الأسقف وتنصيب خلفه. وقد آمن لويس أنه خليفة لله أو ممثله في فرنسا، وأن خضوعه للبابا (بوصفه هو أيضاً خليفة لله) يجب أن يقصر على شؤون العقيدة والأخلاق، وأن على رجال الأكليروس الفرنسيين أن يطيعوا الملك في كل أمر يتصل بالدولة الفرنسية.

واستنكر فريق من الأكليروس هذه الدعوى-وهم المناصرون للسيادة البابوية المطلقة-وأيدوا سلطان الباباوات المطلق على الملوك والمجامع وتعيين الأساقفة، ولكن الغالبية-وهو الحزب الغالي-دافعوا عن استقلال الملك الكامل في الأمور الزمنية، وأنكروا عصمة البابا إلا إذا وافق عليها مجمع مسكوني، ورأوا في الروغان من سيطرة روما منفعة للأكليروس الفرنسي. وصرح أمير كونديه أن من رأيه أنه لو طاب للملك أن يتحول إلى المذهب البروتستانتي لكان رجال الأكليروس الفرنسي أول من يتبعه(8). وفي 1663 أصدرت السوربون-وهي كلية اللاهوت في جامعة باريس-ست مواد تؤكد الموقف الغالي. واتخذت "البرلمانات" الفرنسية ذات الموقف، وأيدت لويس في دعواه بحقه في أن يقرر أي المراسيم البابوية ينبغي نشره وقبوله في فرنسا. وفي 1678 احتج البابا أنوسنت السادس على هذه النزعة الغالية، وحرم رئيس أساقفة تولوز لأنه عزل أسقفاً قاوم هذه النزعة. ودعا الملك مجمعاً من الأكليروس، كلهم تقريباً من اختباره. وفي مارس 1682 أعاد المجتمع تأكيد مواد السوربون الست، ووضع لنفسه المواد الأربع الشهيرة، التي كادت تفصل الكنيسة الفرنسية عن روما:

1- للبابا سلطان في الأمور الروحية، وليس له سلطان غزل الأمراء أو حل رعاياهم من طاعتهم. 2- للمجامع المسكونية سلطان فوق سلطان البابا. 3- الحريات التقليدية للكنيسة الفرنسية لا يجوز انتهاكها. 4- لا عصمة للبابا إلا بموافقة مجمع الأساقفة.

وأعلن أنوسنت بطلان قرارات المجمع، ورفض التنصيب القانوني لجميع الأساقفة الجدد الذين وافقوا على المواد. وإذ كان لويس لا يعيين إلا أمثال هؤلاء المرشحين، فقد شغرت في 1688 نحو خمس وثلاثين أسقفية من أساقفتها القانونيين. على أن الشيخوخة ومدام دمانتنون كانا قد ألانا جانب الملك، ثم أراحه الموت من ذلك البابا العنيد. وفي 1693 سمح لويس لمرشحيه أن ينكروا المواد، وأقر البابا أنوسنت الثاني عشر حق الملك في التعيينات الأسقفية، وأصبح لويس من جديد "الملك المسيحي جداً" Rex Christianissimus.


ألبور رويال 1204 - 1626

كانت الحرب القديمة بين الكنيسة والدولة أهون الدرامات الدينية الثلاث التي اضطر بها حكم لويس. فقد فاقها عمقاً ذلك الصراع الذي احتدم بين الكاثوليكية السنية التي دانت بها الدولة والأكليروس، وكاثوليكية الجانسفيين والبور-رويال القريبة من البروتستنتية، وكان أعمق هذه المسرحيات وأشدها فجيعة هو القضاء على الهيجونوت في فرنسا. ولكن ما هو البور-رويال هذا، ولم هذا الضجيج الكثير من حوله في التاريخ الفرنسي؟ لقد كان ديراً لراهبات الطريقة السسترسية Cistercian على نحو ستة عشر ميلاً من باريس وستة أميال من فرساي، في مكان وطيء تكتنفه المستنقعات، وصفته مدام دسفينييه بأنه "واد رهيب، هو بالضبط المكان الذي يجد فيه الإنسان خلاصة(9)". وأسس حوالي 1204، ونجا بشق الأنفس من التقلبات الكثيرة التي تعرض لها في حرب مائة العام والحروب الدينية. وقد اضمحل نظامه وتناقصت راهباته، ولعل الدير كان يختفي عن الأنظار لولا أنه خضع لرآسة جاكلين آرنو، وجرد للدفاع عنه قلم بليز بسكال.

لقد صنع أنطوان آرنو الأول (1560-1619) التاريخ ببلاغته ووفرة ذريته. ففي 1593، بعد أن حاول باريير اغتيال هنري الرابع، وجه آرنو إلى برلمان باريس خطاباً غاضباً طالب فيه بطرد اليسوعيين من فرنسا. ولم يصفحوا عنه بعدها، وكانوا ينظرون بعين نقادة منذرة بالشر إلى ما تقوم به أسرته في البور-رويال. وكان لأربعة على الأقل من بين أبنائه-البالغين نيفاً وعشرين-دور في قصة ذلك الدير. فقد عينت جاكلين آرنو مساعدة لرئيسة دير البور-رويال وهي في السابعة (1598) وبعد عام أصبحت شقيقتها جان، البالغة ستة أعوام، ريسة لدير سان-سير. وكان التعيينات بأمر هنري الرابع، وثبتهما مرسومان بابويان أمكن الحصول عليهما بتزييف عمر الفتاتين(10). ولعل أباهما التمس لابنتيه هاتين الوظيفتين بديلاً عن العثور على زوجين ومهرين لهما.

فلما أصبحت جاكلين، بوصفها الأم آنجليك، رئيسة اسمية للبور-رويال (1602) لم تجد غير أرخى النظم بين راهباته الثلاث عشرة، فقد كانت كل منهن تحتفظ بثروتها، وتكشف شعرها، وتستعمل مستحضرات التجميل، وتتبع أحدث الأزياء. وقل أن تناولن الأسرار المقدسة، ولم يستمعن لأكثر من سبع عظات خلال ثلاثين عاماً(11). فلما ازداد وعي الرئيسة الشابة بالحياة التي ألزمها إياها أبوها، سخطت ونوت الهروب (1607). "فكرت في مغادرة البور-رويال والعودة إلى العالم-دون إحاطة أبي أو أمي بنيتي، لأهرب من هذا النير الذي لا يطاق، ولأتزوج".(12) ومرضت، فحملت إلى بيتها، وهناك مرضتها أمها بكثير من الرعاية الحانية حتى عادت إلى البور-رويال عقب إبلالها وهي مصممة على الوفاء بنذورها الديرية حباً في أمها. على أنها أوصت بمشد من عظم الحوت لتحفظ لقوامها نحافته(13). وظلت تخفي نفورها من الحياة الدينية إلى أن سمعت في عيد القيامة عام 1608 عظة ألقاها راهب كبوشي عن آلام المسيح، وكانت يومها في معية الصبا. قالت تروي الحدث فيما بعد "خلال هذه العظمة لمسني الله لمسة جعلتني منذ تلك اللحظة بأنني أسعد حالاً في حياة الرهبنة...ولا أدري أي شيء كنت أحجم عن فعله لله إذا واصل تعالى هذه الحركة التي منحتني إياها نعمته(14)". ذلك، في لغتها، كان "أول عمل للنعمة" (أي اللطف الإلهي).

وفي أول نوفمبر من ذلك العام ملأنها عظة أخرى-هي "ثاني أعمال النعمة" شعوراً بالخزي من شدة تراخيها وتراخي راهباتها في الوفاء بما نذرن من فقر وعزلة. وإذ كانت ممزقة بين حبها للراهبات ورغبتها في فرض نظام الطريقة السسترسية، فقد رانت عليها الكآبة، ومارست ألواناً من التقشف لم يقو عليها جسدها، فأصابتها الحمى. ولابد أنها كانت لطيفة محببة إلى النفوس، وآية ذلك أنه حين سألها الراهبات عن السر في حزنها، وصارحتهن برغبتها في أن يرجعن إلى التزام رهبتهن بحذافيره، ارتضين حكمها، وجمعن كل ممتلكاتهن الخاصة، وأخذن العهد على أنفسهن بالفقر الدائم.

أما الخطوة الثانية، وهي اعتزال العالم، فكانت أشد إيلاماً. فقد حظرت الأم أنجليك على الراهبات أن يغادرن الدير، أو يستقبلن الزوار-حتى أقرب الأقرباء-دون إذن صريح، فإذا استقبلنهم ففي قاعة الاستقبال دون غيرهما. وشكون مما سيكلفهن هذا من عنت شديد. ولكي تعطيهن القدوة الحسنة المشددة لعزائمهن صممت ألا ترى أبويها في زيارتهما التالية إلا من نافذة ذات شباك أو "شيش" في الباب الفاصل بين قاعة الاستقبال وحجرات الدير. فلما حضر أبواها راعمهما أنها لا تريد التحدث إليهام إلا من خلال هذا الشباك...وأصبح "يوم الشباك" Journee du Guichet (25 سبتمبر 1609) يوماً مشهوراً الدائر حول البور-رويال.

وهدأ غضب الأسرة المقصاة، وتأثر أفرادها بورع الأم أنجليك (التي بلغت الآن الثامنة عشرة) تأثراً حمل الفتاة تلو الفتاة من بيت آرنو على دخول البور-رويال. ففي 1618، أخذت شقيقتها آن أوجني على نفسها عهد الرهبنة. ولحقتها شقيقات أخريات بعد قليل-كاترين، وماري، ومادليز،. وفي 1629، جثت أمهن الأرملة عند قدمي الأم أنجليك ملتمسة قبولها مبتدئة في الرهبنة ثم أخذت العهد في الوقت المناسب، وعاشت في تواضع وسعادة تحت رئاسة أبنتها، وراحت تدعوها منذ الآن بالأم. وقد حمدت الله وهي تحتضر (1641) لأنها قدمت من بناتها للحياة الدينية. ودخلت خمس من حفيداتها البور-رويال في فترة لاحقة. وأصبح ابناه روبير وثلاثة من حفدتها "متوحدين" هناك، وأصبح ألمع أبنائها، وهو انطوان آرنو الثاني، عضو السوربون، فيلسوف البور-رويال ولاهوتيه. وإنا ليأخذنا العجب لهذه الخصوبة، ولا نملك غير الاحترام لمثل هذا العمق في التعبد والولاء والإيمان .

وقادت الأم أنجليك قطيعها خطوة بخطوة عوداً إلى نظام الرهبنة السترسية الكامل فحفظت الراهبات، اللائى بلغ عددهن الآن ستاً وثلاثين، جميع الأصوام بدقة تامة، ومارسن الصمت فترات طويلة، واستيقظن في الثانية صباحاً لترتيل تسبحة الصباح، ووزعن الصدقات على فقراء الجيران من مالهن المشترك. وسرت الإصلاحات من البور-رويال، وأرسلت الراهبات اللائى دربن فيه للأديار في جميع أرجاء فرنسا لحضها على العودة إلى سابق نظمها. من ذلك أن ديرا في موبويسون كان شديد الانحلال، وقد استعمله هنري الرابع من قبل مكان لقاء مع خليلته جابرييل دستريه، وكانت رئيسته محاطة ببناتها غير الشرعيات، وكان الراهبات يغادرون ديرهن دون قيد ليلقين ويراقصن رهبان دير مجاور(16). وفي 1618 طلب رؤساء الأم انجليك إليها أن تحل محل رئيسة دير موبويسون، ومكثت هناك خمس سنوات، فلما عادت إلى البور-رويال تبعتها اثنتان وثلاثون راهبة إلى الدير الأم الذي انبعث منه نور الإصلاح. وفي 1626 ظهر وباء الملاريا في البور-رويال. وإذ نبه بعضهم أنجليك إلى ما في جوالدير الرطب من خطر،فإنها انتقلت مع راهباتها إلى منزل بباريس. وهناك، وتحت تأثير الجانسنيه، دخلن معركتهن التاريخية مع اليسوعيين والملك. ورعان ما احتل "المتوحدون" المباني المهجورة المتهدمة في البور-رويال-دي-شان، وكانوا رجالاً رغبوا في أن يحيوا حياة أقرب إلى الحياة الديرية وإن لم ينذروا أنفسهم للرهينة. ووفد على المكان نفر من آل آرنو-أنطوان الثاني وأخوه روبير آرنودانديي، وأبناء أختيه أنطوان لوميتر وسيمون دسريكور، وحفيده إسحاق للوي ساسي، وأنظم إليهم بعض رجال الكنيسة، وأمثال بيير نيكول وأنطوان ساجلان، لا بل بعض النبلاء أمثال الدوق دلون والبارون دبو نشانو. وراحوا يصرفون معا مياه المستنقعات. ويحفرون الخنادق، ويرممون المباني، ويعنون بالبساتين والحدائق. وكانوا-جماعة أو فرادى-يمارسون ألواناً من الفنون، ويصومون، ويرتلون، ويصلون، ويلبسون لباس الفلاحين، ويمتنعون عن تدفئة غرفهم في البرد القارس. وكانوا يدرسون الكتاب المقدس وكتابات آباء الكنيسة، وقد ألفوا كتباً فيها تعبد وتفقه، وأحد هذه الكتب، واسمه "فن التفكير"، وهو من تأليف نيكول وآرنو الصغير، ظل كتيباً محبباً في المنطق حتى القرن العشرين.

وفي 1638 افتح المتوحدون "مدارس صغيرة" دعوا إليها أطفالاً اختاروهم من سن التاسعة أو العاشرة، وعلموهم الفرنسية، واللاتينية، واليونانية، والنواحي السنية في فلسفة ديكارت. وطلب إليهم أن يجتنبوا الرقص والمسرح (وكلاهما وافق عليه اليسوعيون)، وأن يصلوا كثيراً، ولكن ليس للقديسين، ولم تكن هناك صور في الكنيسة الصغيرة التي يسمعون فيها القداس. وفي البور-رويال-دي-شان، والبور-رويال-د-باري، وأصبح اعتراض تقوى آل آرنو على فساد البلاط، اعتراضاً آخر من اللاهوت والأخلاق الجانسبية الصارمة على تيسير اليسوعية بين للمسيحية حتى توائم الطبيعة البشرية.


الجانسنيون واليسوعيون

كان كورنيليس جانس هولندياً، ولد في ولاية أوترخت لأبوين كاثوليكين، ولكنه تأثر تأثراً عميقاً باللاهوت الأوغسطيني الذي دان به جيرانه الكالفنيون. فلما ألتحق بجامعة لونان الكاثوليكية (1602) وجدها مضطرمة بجدل عنيف بين الحزب اليسوعي أو السكولاستي، وشيعة تتبع الآراء الأوغسطينية التي نادى بها ميخائيل بايوس في الجبرية والنعمة الإلهية. وانحاز جانسن إلى الأوغسطينيين. وفي الفترة بين دراسته السابقة للتخرج وعمله أستاذاً، قبل جانس دعوة وجهها إليه زميل يدعى جان دوفرجييه دهوران ليعيش معه في بايون. وقد درسا القديس بولس والقديس أوغسطين، واتفقا على أن خير سبيل للدفاع عن الكاثوليكية ضد الكالفنيين الهولنديين والهيجونوت الفرنسيين هو الإقتداء بأوغسطين في تشديده على النعمة الإلهية والجبرية، وتأصيل دستور أخلاقي صارم بين الأكليروس والعلمانيين الكاثوليك، يفضح الانحلال المنتشر في البلاط والأديار، كما يفضح أخلاقيات اليسوعيين الهينة اللينة. وفي 1616، بينما كان جانس رئيساً لبيت للطلاب الهولنديين في لوفان، هاجم لاهوت اليسوعيين في حرية الإرادة، وبشر ببيورتانية صوفية قريبة من التقوية التي كانت بسبيل التشكل في هولندا، وإنجلترا، وألمانيا. ثم واصل الحرب أستاذاً لتفسير الكتاب المقدس بلوفان وأسقفا لأيبر. وترك عند موته (1638) رسالة كبيرة-لم ينجزها تماماً-عنوانها "أوغسطينيوس" ما لبثت بعد نشرها في 1640 أن أصبحت البرنامج العقائدي للبور-رويال، ومثار الجدل في اللاهوت الكاثوليكي الفرنسي طوال قرن تقريباً. ومع أن الكتاب أختتم بلفتة خضوع لكنيسة روما، فإن كالفينيي الأراضي المنخفضة رحبوا به بوصفه لب الكالفنية وجوهرها(17). فقد قبل جانس الجبرية قبولاً تاماً كما قبلها أوغسطين ولوثر وكالفن من قبل. فحتى قبل أن يخلق الله العالم، أختار تعالى أولئك الرجال والنساء الذين ينبغي أن يخلصوا، وقرر من ينبغي أن يهلكوا؛ وأعمال البشر الصالحة، وإن تكن ذات قيمة، لا يمكن أن تكسبه الخلاص دون معونة من النعمة الإلهية، وقليلون هم الذين سيخلصون حتى بين القلة الصالحة. أما الكنيسة الكاثوليكية فلم تكن أنكرت صراحة جبرية القديس بولس والقديس أوغسطين، ولكنها تركتها تتوارى في خلفية تعليمها، لصعوبة التوفيق بينها وبين حرية الإرادة، التي بدا أنها شرط لا غنى عنه-منطقياً-للمسئولية الخلقية ولفكرة الخطيئة. ولكن إرادة الإنسان في رأي جانس ليست حرة، فقد فقدت حريتها بخطيئة آدم. وأصبحت طبيعة الإنسان الآن فاسدة فساداً يعجزه عن تخليص نفسه، ولا يمكن أن يخلصه غير نعمة الله التي أكتسبها بموت المسيح. أما دفاع اليسوعيين عن حرية الإرادة فقد بدا لجانس أنه يغالي في دور الأعمال الصالحة في نيل الخلاص، ويجعل موت المسيح، ذلك الموت الذي افتدى الخطاة، أمراً لا ضرورة له تقريباً. ثم نبه إلى أننا يجب ألا نأخذ المنطق مأخذ الجد الشديد، فالعقل ملكة أدنى بكثير من الإيمان الواثق المسلم، كما أن للممارسات الطقسية ضرب من الدين أدنى من اتصال النفس المباشر بالله.

وقد وصلت هذه الأفكار إلى البور-رويال بطريق دوفرجييه، الذي كان أثناء ذلك قد أصبح رئيساً لدير سان-سيران. وقد وفد مسيو دسان-سيران، كما سمي الآن، على باريس وهو يتقد غيرة وتحمساً لإصلاح اللاهوت والأخلاق، وليستبدل التقوى الباطنة بالتدين الظاهر وسرعان ما قبل مرشداً روحياً للراهبات في البور-رويال-دباري، وللمتوحدين في البور-رويال-دي-شان (1636)، وغدت هذه المؤسسة المزدوجة صوت الجانسنية ونموذجها الأمثل في فرنسا. أما ريشليو فقد رأى في هذا المصلح رجلاً متعصباً مثيراً للقلاقل، فاعتقله في فانسين (1638). وفي 1642 أفرج عن سان-سيران، ولكنه مات بالفالج بعد سنة.

وقد ظل يلهم الكثيرين من آل آرنو حتى وهو في سجنه. فنشر آرنو الثاني "آرنو الكبير" 1643 رسالة في "كثرة تناول الأسرار المقدسة" واصلت حرب أبيه مع اليسوعيين. ولم يذكر اسمهم صراحة، ولكنه ندد بفكرة أحس بإن بعض كهنة الاعتراف يتسامحون فيها، وهي أن في قدرة الخاطئ أن يكفر عن خطيئته المتكررة إذا أكثر من الاعتراف وتناول القربان. وشعر اليسوعيون بأنهم المقصودون بهذا الهجوم، وشددوا النكير على آل آرنو. وتوقع أنطوان المتاعب، فرحل عن باريس إلى البور-رويال-دي-شان. وفي 1648 رحلت الراهبات أيضاً عن العاصمة وقد روعتهن حرب الفروند وعدن إلى مقرهن القديم. وأخلى المتوحدون المكان وانتقلوا إلى مزرعة قريبة تدعى ليجرانج.

وكان البابا أوربان الثامن قد أدان (1642) العقيدة العامة التي انطوى عليها كتاب جانس "أوغسطينوس". وفي 1649 طلب أستاذ في السوربون إلى الكلية أن تدين سبع قضايا في الكتاب زعم أنها تحظى برواجٍ شديد. وأحيل الأمر إلى إينوسنت العاشر، وأنتهز اليسوعيون الفرصة ليقنعوا البابا بما تنطوي عليه الجانسنية من الأخطار بوصفها لاهوتاً كالفنياً يتخفى في ثوب كاثوليكي. وأخيراً حملوه على إصدار مرسوم Cum Occasione (31 مايو 1653)، حكم بالهرطقة على خمس قضايا زعم أنها مأخوذة من كتاب "أوغسطينوس".

1- هناك تعاليم إلهية يعجز الصالحون عن طاعتها عجزاً مطلقاً رغم إرادتهم. 2- لا يستطيع إنسان أن يقاوم تأثير النعمة الإلهية. 3- لكي تكون أعمال البشر أهلاً أو غير أهل للمكافأة والتقدير لا يشترط أن تكون خلوا من الضرورة القاهرة، بل يكفي أن تكون بلا ضغط أو كبت. 4- هذه الهرطقة، الشبيهة بهرطقة بيلاجيوس، مؤداها السماح لإرادة الإنسان بأن تمنح قوة مقاومة النعمة، أو الامتثال لتأثيرها. 5- كل من زعم أن المسح مات، أو سفك دمه، للبشر جميعاً، هو شبيه ببلاجيوس(18).

هذه القضايا لم تؤخذ حرفياً من كتاب "أوغسطينيوس"، ولكنها صيغت بقلم أحد اليسوعيين تلخيصاً لتعليم هذا الكتاب. وهي كخلاصة فيها قدر لا بأس به من الإنصاف(19)، ولكن الجانسنيين احتجوا بأن القضايا، بهذا الوصف، لا توجد عند جانس-وإن كان آرنو قد ألمع في خبث إلى أنه يمكن العثور عليها كلها عند القديس أوغسطين. وفي غضون ذلك لم يقرأ الكتاب أحد فيما يبدو.

وكان أنطوان آرنو مقاتلاً بالفطرة. فأقر بعصمة البابا في أمور الإيمان والأخلاق، لا في الأمور المتصلة بالحقيقة الواقعة؛ ومن الحقائق الواقعة أنه أنكر أن جانس قرر هذه القضايا المحكوم بإدانتها. وفي 1655 عاد إلى مقاتلة اليسوعيين في عقر دارهم بنشره "رسائل إلى دوق ونبيل"، وقد هاجم فيها الأساليب التي زعم أنها أساليب اليسوعيين في كرسي الاعتراف ورحبت السوربون باقتراح بطرده. فأعد دفاعه، وقرأه على أصحابه في البور-رويال. فلم يقع في نفوسهم موقعاً ذا بال، وكان أحدهم مريداً جديداً يدعى بليز بسكال. فاتجه إليه آرنو وأهاب به قائلاً: "أنت أبها الشاب، لما لا تكتب شيئاً(20)؟" واعتكف بسكال في حجرته، وكتب أول "رسائله الإقليمية" وهو من عيون الأدب والفلسفة الفرنسيين. وينبغي أن نستمع إلى بسكال في شيء من الإسهاب، لأنه لم يكن أعظم كتاب النثر الفرنسي فحسب، بل ألمع المدافعين عن الدين في عصر العقل بأكمله.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بسكال 1623 - 1662

بسكال الإنسان

كان أبوه إتيبن بسكال رئيساً لمحكمة المعونين بكلير مون- فيران في وسط فرنسا الجنوبي. وماتت أمه بعد مولده بثلاث سنين، مخلفة فضلاً عنه أختاً أكبر منه تدعى جلنبيرت وأخرى أصغر تدعى جاكلين. وانتقلت الأسرة إلى باريس حين بلغ بليز الثامنة. وكان إتيين يدرس الهندسة والفيزياء، وقد أتاح له تفوقه فيهما أن يصادق جاسندي، وميرسين، وديكارت. وكان بليز يسترق السمع لبعض لقاءاتهم، فأصبح في الفترة الأولى من حياته عاشقاً للعلم. فلما بلغ الحادية عشرة ألف رسالة قصيرة عن أصوات الأجسام المتذبذبة. وخيل للأب أن ولع الصبي بالهندسة سيلحق الأذى بدراساته الأخرى، فحظر عليه حيناً أن يمضي في عكوفه على الرياضيات. ولكن حدث يوماً- فيما روي- أن إتيين وجده يكتب على الحائط بقطعة من الفحم البرهان على أن زوايا المثلث الثلاث تساوي زاويتين قائمتين(21)، وبعدها سمح للغلام أن يدرس إقليدس. وقبل أن يبلغ السادسة عشرة كتب بحثاً في القطاعات المخروطية فقد أكثره، ولكن إحدى نظرياته كانت مساهمة خالدة في ذلك العلم، وما زالت تحمل اسمه. وحين عرضت مخطوطة البحث على ديكارت أبى أن يصدق أنه من وضع الابن لا الأب.

في ذلك العام (1639) لعبت أخته الجميلة جاكلين دوراً مثيراً في حياة الأسرة، وكانت آنئذ في الثالثة عشرة. ذلك أن الأب كان قد استثمر بعض المال في السندات البلدية، وخفض نسبة الفائدة التي تؤدي عن هذه السندات، فانتقده إتيين، وهدد الكردينال بالقبض عليه، فاختبأ في أوفرن. ولكن الكردينال كان يحب التمثيليات والبنات، وقامت بعض الفتيات- ومنهن جاكلين- بتمثيل مسرحية سكوديري "الحب الظالم" أمامه، فشرح تمثيلها صدره، واغتنمت هي الفرصة وتوسلت إليه أن يصفح عن أبيها، ففعل، وعينه ناظراً ملكياً في روان عاصمة نورمنديه، وإليها انتقلت الأسرة في 1641.

وهناك أخترع بليز أول آلاته الحاسبة العديدة المحفوظ بعضها إلى الآن في كونسرفتوار الفنون والصنائع بباريس، وكان يومها في التاسعة عشرة. أم المبدأ الذي قامت عليه فهو سلسلة من التروس ينقسم كل منها إلى تسعة أرقام وصفر، ويحرك كل منها عشر دورة نظير كل دورة كاملة للترس الذي إلى يمينه، ويظهر كل منها رقمه الأعلى في ثقب عند القمة. ولم تكن الآلة تستطيع غير الجمع، ولا كانت عملية من الناحية التجارية، ولكنها قربت من بداية اليوم دهشة العالم. وأهدى بسكال إحدى آلاته الحاسبة إلى كرستينا ملكة السويد، مشفوعة بخطاب إطراء بليغ جداً، فدفعه إلى قصرها، ولكنه أحس بأنه أضعف من أن يحتمل ذلك المناخ الرهيب.

وكان العالم الشاب المتحمس الشديد الاهتمام بالتجارب التي نشرها تورتشيللي عن وزن الهواء، وطرأت على خاطر بسكال فكرة كان فيها مستقلاً عن تورشيللي، وكن ربما استوحاها من اقتراح لديكارت(22)، ومؤداها أن الزئبق في أنبوبة تورشيللي يرتفع إلى مستويات مختلفة في أماكن مختلفة، حسب اختلاف الضغط الجوي. فطلب إلى زوج أخته في أوفرن أن يحمل أنبوبة زئبق إلى قمة جبل، ويلاحظ أي فرق- على مختلف المستويات- في ارتفاع الزئبق في الجزء المقفل من أنبوبة فتح طرفها الآخر لضغط الهواء. وفعل فلوران بيرييه كما طلب إليه، ففي 19 سبتمبر 1648 ارتقى مع بعض أصحابه "بوي ددوم"؛ الذي يرتفع خمسة آلاف قدم فوق مدينة كليرمون- فيران، وهناك ارتفع الزئبق إلى ثلاث وعشرين بوصة في الأنبوبة، بينما ارتفع عند سفح الجبل إلى ست وعشرين، وهللت أوربا كلها للتجربة لأنها أثبتت نهائياً مبدأ البارومتر وقيمته.

وتلقى بسكال بفضل شهرته عالماً (1648) نداء مثير من مقامر طلب إليه أن يضع قانوناً لرياضيات الحظ أو الصدفة، فقبل التحدي، واشترك مع فيرمان في وضع حساب الاحتمالات، الذي ينتفع به الآن كثيراً في جداول التأمين من المرض والموت. ولم تبد عليه هذه المرحلة من نموه أي بادرة بأنه سينقل يوماً ما ولاءه من العلم إلى الدين، أو يفقد إيمانه في المنطق والتجريب، وواصل العمل عشر سنين في المعضلات العلمية لا سيما الرياضية منها، وفي تاريخ متأخر (1658) عرض جائزة من مجهول في تربيع الدويري- وهو الخط المنحني الذي تحدثه نقطة دائرة تدحرج على خط مستقيم فوق سطح مستوٍ. وتقدم بالحلول واليس، وهو بجنز، ورن، وغيرهم، ونشر بسكال بعد ذلك حله، تحت اسم مستعار، وأعقب ذلك جدل سلك فيه المتنافسون، ومنهم بسكال، مسلكاً لم يتسم بالكثير من الفلسفة.

وتسلط على حياته خلال ذلك مؤثران أساسيان، المرض والجانسنية. ذلك أنه مذ كان فتى في الثامنة عشرة عانى من علة عصبية قل أن تركته يوماً بغير ألم. وفي 1647 أقعدته بالشلل لم يستطع بسببها المشي إلا توكأ على عكازين. وكان رأسه يصدع، وأمعاؤه تلتهب، وساقاه وقدماه دائمة البرودة والحاجة إلى الوسائط المرهقة لتنشيط دورته الدموية، وكان يلبس الجوارب الطويلة المنقوعة في البراندي التماساً لدفء قدميه.

وكان مما حمله على الانتقال إلى باريس مع جاكلين أن يجد علاجاً طبياً أفضل، وتحسنت صحته، ولكن جهازه العصبي كان قد لحق به أذى مستديم. فأصبح منذ ذلك الحين عرضة لأوهام ازداد عمقها على الأيام حتى أثرت في خلقه وفلسفته، فبات سريع الانفعال، فريسة لنوبات من الغضب المتكبر العاتي، وقل أن أشرق وجهه بابتسامة(23).

وكان أبوه طيلة حياته كاثوليكياً تقياً بل صارماً وسط شواغله العلمية، وقد علم أبناءه أن الإيمان الديني أثمن ما يملكون، وأنه شيء بعيد كل البعد عن متناول أو عن حكم قوى التفكير الضعيفة التي يملكها البشر. وفي روان أصيب الأب بجرح خطير فعالجه طبيب جانسني بنجاح، ومن هذا الاتصال اتخذ إيمان الأسرة مسحة جانسنية، فلما انتقل بليزوجاكلين إلى العاصمة كثر اختلافهما إلى القداس في البور- رويال- د- باري، ورغبت جاكلين في دخول الدير راهبة، ولكن أباها لم يستطع أن يروض نفسه على السماح لها بالخروج من حياته اليومية، ولكنه مات عام 1651، وما لبثت جاكلين أن ترهبت في البور- رويال- دي- شان، بعد أن حاول أخوها عبثاً أن يثنيها عن عزمها.

وتنازعا حيناً على تقسيم ميراثهما، فلما سوي النزاع وجد بليز نفسه رجلاً غنياً حراً- وتلك حال مجافية لحياة التقوى، فاتخذ لنفسه بيتاً فاخر الأثاث، واستكثر من الخدم، وجاب باريس في مركبة تجرها خيول أربعة أو ستة(24). وأعطاه شفاءه المؤقت شعوراً خداعاً بالنشاط والخفة حرفه من التقوى إلى اللذة. وعلينا ألا ننسه على تلك السنوات القليلة التي قضاها "في العالم" (1648- 54)، يستمتع بصحبة ظرفاء باريس وألعابها وحسانها، ويطارد في برهة مثيرة بأوفرن سيدة ذات جمال وثقافة، وصفها بـ"سافو الريف(25)". وحوالي هذه الفترة كتب "أحاديث في آلام الحب" ويلوح أنه فكر في الزواج- الذي سيصفه في تاريخ لاحق بأنه "أحط ظروف الحياة المباحة لمسيحي(26)". وكان بعض أصحابه فجرة جمعوا بين الحريتين، حرية الأخلاق وحرية الفكر، ولعلهم هم الذين أثاروا اهتمام بسكال بمونتيني، الذي تغلغلت الآن "مقالاته" في حياته. وأكبر الظن أن تأثيرها الأول عطفه نحو التشكك الديني. ووبخه جاكلين حين نمى إليها نبأ عبثه الجديد، وصلت لأجل صلاح حاله. وكان من خصائص طبيعته العاطفية أن تستجيب لصلواتها إثر حادث وقع له. ذلك أنه بينما كان ذات يوم يركب عربته فوق البون دنوبي جسر تيللي، جمحت الخيل واندفعت فوق الحاجز إلى نهر السين. وكادت العربة أن تتبع الخيل، ولكن العنان انقطع لحسن الحظ، وتعلقت المركبة بنصفها فوق الحافة. وخرج منها بسكال وأصحابه، ولكن الفيلسوف المرهف الحس أغمي عليه لفرط خوفه من الموت الداهم، وظل برهة غائباً عن رشده. فلما أفاق شعر بأنه رأى الله في رؤيا. وفي نشوة الخوف والندم وعرفان الجميل سجل رؤياه على رق راح يحمله منذ تلك اللحظة مخيطاً في بطانة سترته: "السنة 1654 بعد الميلاد، الاثنين 23 نوفمبر...من نحو السادسة والنصف مساءً إلى النصف بعد منتصف الليل. أن الإله القديم، إله إبراهيم، وإله إسحق، وإله يعقوب، لا إله الفلاسفة والعلماء. اليقين، اليقين، الوجدان، الفرج، السلام. إله يسوع المسيح...لن يجده الإنسان إلا بالطرق التي يعلمها الإنجيل. يا سمو النفس الإنسانية، أيها الأب العادل، أن لعالم لم يعرفك قط، ولكني عرفتك. إنه الفرج، الفرح، دموع الفرح...يا إلهي، هل أنت تاركي؟ يسوع المسيح...لقد فصلت عنه، وهربت منه، وتخليت عنه، وصلبته. ليتني لا أفارقه أبداً، إنها المصلحة الحلوة الكاملة(27)".

وعاود زياراته للبور- رويال ولجاكلين، وشرح صدرها بحالته النفسية الجديدة، حالة التواضع والتوبة. ولتستمع إلى عظات أنطوان سانجلان. وفي ديسمبر 1654 أصبح عضواً في جماعة البور- رويال(28).وفي يناير كان له هناك حديث طويل مع ساسي، الذي آلى على نفسه أن يقنعه بسطحية العلم وعقم الفلسفة. وآنس أرنو ونيكول من العضو الجديد حماسة في الاهتداء وبراعة في التعبير الأدبي وكأنهما أداة وضعتها العناية في أيدي الجماعة للدفاع عن البور- رويال ضد أعدائه.فطلبا إليه أن يخصص قلمه للرد على اليسوعيين الذين كانوا يحاولون تصوير الجانسنية على أنها خطيئة. واستجاب للطلب في ذكاء وقوة بلغا مبلغاً جعل جماعة اليسوعيين تشكو إلى اليوم من وخز بسكال الأليم.


الرسائل الإقليمية

في 23 و26 يناير 1656 نشر بسكال الرسالتين الأولى والثانية مما سماه "رسائل كتبها لوي دمونتالت" (وهو اسم مستعار) "إلى صديق في الإقليم، وإلى الآباء اليسوعيين المبجلين، عن أخلاقياتهم وسياساتهم". وكان إطارها ذكياً، فقد زعم إنها تقرير من باريس إلى صديق في الأقاليم عن المسائل الخلقية واللاهوتية التي كانت يومئذ تثير الأوساط الفكرية والدينية في العاصمة. وقد زود آرنو ونيكول بسكال بالحقائق والمراجع. أما هو فقد أبدع ذلك الأسلوب الأدبي الذي استشرف مستوى جديداً في النثر الفرنسي، فقد توافرت لبسكال حماسة المؤمن الجديد وذكاء رجل الدنيا وتهذيبه.

أما الرسائل الأولى فقد التمست التأييد العام لآراء الجانسنيين في النعمة الإلهية والخلاص، وهي الآراء التي دافع عنها آرنو من قبل، وقد قصد بها أن تؤثر في السوربون لتعارض الاقتراح بطرد آرنو. وقد فشلت في هذا، إذ جرد آرنو رسمياً من لقبه وطرد (31 يناير). وحفز الفشل بسكال وآرنو إلى الهجوم على اليسوعيين لأنهم يقوضون الفضيلة بما يعيب آباء اعترافهم من تحلل، وما يشوب فتاواهم من ثغرات. وقد نقبا في مؤلفات إيسكوبار وغيره عن اليسوعيين ونددا بمبادئ "الاحتمالية" و "التوجيه بالنية" و "التحفظ العقلي"، وحتى بتوفيق المرسلين اليسوعيين بين اللاهوت المسيحي وعبادة الصينيين لأسلافهم(29). وإن لم يتهمها اليسوعيين صراحة بتبرير الوسائط لبلوغ الغايات. وكان هذا المهدي يزداد حماسة كلما توالت الرسائل وكشف له آرنو عن المزيد من فتاوى إيسكوبار. وبعد الرسالة العاشرة أقلع عن أكذوبة الباريسي كاتب الرسائل للإقليمي، وأماط اللثام عن شخصه، ووجه الخطاب إلى اليسوعيين رأساً في بلاغة تضطرم سخطاً، وذكاء يفيض تهكماً. وكان ينفق أحياناً عشرين يوماً في تحرير رسالة واحدة، ثم يهرع بها إلى المطبعة قبل أن يفتر اهتمام الجمهور، وقد اعتذر عن طول الرسالة السادسة عشرة بعذر فريد في بابه، إذ قال "لم يتسع لي الوقت لإحضارها(30)". وفي الرسالة الثامنة عشر والأخيرة (24 مارس 1657) تحدى البابا نفسه. ذلك أن البابا الإسكندر السابع أصدر (16 أكتوبر 1656) تنديداً آخر بالجانسنية، فذكر بسكال قراءه بأن حكم البابا عرضة للخطأ، كما أخطأ في حالة جاليليو(31) (وذلك شعور بسكال). وأدان البابا الرسائل (6 سبتمبر 1657) ولكن فرنسا المثقفة كلها قرأتها.

أكانت الرسائل منصفة لليسوعيين؟ أنقلت المختارات عن الكتاب اليسوعيين نقلاً أميناً؟ قال عقلاني مثقف "صحيح ولا ريب أن بعض العبارات المعدلة حذفت أحياناً دون موجب، وأن عبارات أخرى ترجمت ترجمة خاطئة، وأن ضغط الفقرات الطويلة في جمل قصيرة يشعرك في بعض الحالات بأن هذا إجحافاً بالمؤلف" ثم يقول "ولكن هذه الحالات قليلة وغير هامة نسبياً"(32) وهناك الآن إجماع على أن المختارات دقيقة في جوهرها(33) على أنه لابد من التسليم بأن بسكال انتزع أشد فقرات بعض المفتين إزعاجاً وشبهة من سياقها، وقاد شطراً من الجمهور إلى رأي فيه غلو كثير، مؤداه أن هؤلاء الفقهاء اللاهوتيين يتآمرون على هدم أخلاق العالم المسيحي. وقد أطرى فولتير براعة الرسائل بوصفها أدباً، ولكنه رأى أن "الكتاب كله مبني على أساس زائف. فقد نسب المؤلف في حذق إلى الجماعة اليسوعية كلها الآراء المتطرفة التي قال بها بعض اليسوعيين الأسبان والفلمنك(34)"،الذين خالفهم كثير من اليسوعيين. وأسقف دالمبير لأن بسكال لم يتهكم بالجانسنيين أيضاً، لأن "تعاليم جانسن وسان سيران المروعة كانت تتيح على الأقل مجالاً للسخرية لا يقل عما أتاحته التعاليم الطيعة التي نادى بها موليا وتامبوران وفاسكويز(35)".

وكان تأثر "الرسائل" هائلاً. صحيح أنها لم تخضد لتوها شوكة اليسوعيين- ومن المؤكد أنها لم تنتقص من سلطانهم على الملك- ولكنها فضحت شطط المفتين فضحا حمل الإسكندر السابع نفسه على إدانة "التحلل"، رغم مواصلة معارضة الجانسنية، وعلى الأمر بمراجعة نصوص الفتاوى (1665- 66)(36). و "الرسائل" هي التي أضفت على كلمة الإفتاء الديني "Casuistry" مدلول التشقيقات الخداعة المظهر التي تدافع عن الأفعال أو الأفكار الخاطئة. ثم إنها أضافت آية من آيات الأسلوب إلى ذخيرة الأدب الفرنسي. وكأن فولتير قد عاش قرناً قبل فولتير. فهنا ذكاء فولتير المرح، وتهكمه البتار، وفكاهته الشكاكة، وقدحه العنيف، وفي الرسائل اللاحقة ذلك الاستنكار الحار للظلم، الذي أنقذ فولتير من أن يكون موسوعة سخرية وتهكم. وقد وصف فولتير نفسه الكتاب بأنه "خير ما كتب وظهر في فرنسا إلى الآن"(37)، وكان رأي أنفذ النقاد قاطبة وأكثرهم رهافة وتمييزاً أن بسكال "ابتكر النثر الرائع في فرنسا(38)" وحين سئل بوسويه أي كتاب كان يؤثر أن يؤلف لم يؤلف كتابه قال، إنه رسائل بسكال الإقليمية(39).


في الدفاع عن الإيمان

عاد بسكال إلى باريس في 1956 ليشرف على نشر "الرسائل"، وعاش هناك طوال السنوات الباقية من عمره. على أنه لم يهجر العالم، ففي سنة موته ذاتها شارك في تنظيم خدمة منتظمة بالمركبات في العاصمة- وهي البذرة لشبكة الأمنوبيسات الحالية. ولكن حدثين وقعا له مجدداً تقواه، وحملاه على أن يتوج أعماله بكتاب جديد أسهم به الأدب والدين. ذلك أنه في 15 مارس 1657 حصل اليسوعيون من الملكة الأم على أمير بإغلاق مدارس الموحدين وحظر قبول المزيد من الأعضاء في البور- رويال. وأطيع الأمر في هدوء، وأرسل الأطفال- وكان من بينهم راسين- إلى بيوت الأصدقاء، وتفرق المعلمون محزونين. وبعد تسعة أيام (وهو تاريخ صدور آخر الرسائل الإقليمية) وقع ما بدا معجزة في كنيسة دير الراهبات الذي تكدر صفوه. ذلك أن ابنة أخت بسكال البالغة من العمر تسع سنوات، واسمها مارجريت بيرييه، كانت تشكو من ناسور دمعي مؤلم يرشح صديداً كريهاً من العينين والأنف. وأهدى أهدى أحد أقرباء الأم أنجليك للبور- رويال شوكة زعم هو وغيره أنها أخذت من إكليل الشوك الذي عذب به المسيح. وفي 24 مارس وضعت الراهبات الشوكة على مذبحهن في احتفال مهيب وسط ترتيل المزامير. ولثمت كل منهن الأثر المقدس بدورها، ولما رأت إحداهن مارجريت بين العابدات أخذت الشوكة ولمست بها قرحة الفتاة. وروي أن مارجريت أعربت ذلك المساء عن دهشتها لأن عينها لم تعد تؤلمها، وأدهش أمها ألا ترى أثر للناسور، وقرر طبيب دعي لفحص الفتاة أن الصديد والورم قد اختفيا. وأذاع هو، لا الراهبات، نبأ هذا الذي سماه شفاء معجزاً. ووقع سبعة أطباء آخرون كانوا على سابق بناسور مارجريت بياناً قرروا أن معجزة- في رأيهم- قد حدثت. وبحث موظفو الأسقفية الأمر، وانتهوا إلى نفس النتيجة، وأذنوا بإقامة قداس شكر لله في البو- رويال. وتقاطرت جماهير المؤمنين على الدير ليروا الشوكة ويقبلوها، وهللت باريس الكلثوليكية كلها للمعجزة، وأمرت الملكة الأم بالكف عن كل اضطهاد للراهبات. وعاد المتوحدون إلى ليجرانج. (في عام 1728 أشار البابا بندكت الثالث عشر إلى هذا الحدث على أنه دليل على أن عصر المعجزات لم ينته). أما بسكال فقد صنع لنفسه شعار نبالة كان عبارة عن عين يحيط بها إكليل من الشوك، وقد كتب عليه Scio Cui Credidi- "أعرف من صدقت(40)".

وعكف الآن على كتابة دفاع مفصل عن الإيمان الديني يكون بمثابة وصيته الأخيرة. ولكن قصارى ما وجد في نفسه القدرة عليه، وهو أن يدون في إنجاز خواطر منفصلة يجمع بينها في ترتيب اجتهادي ولكنه قوي. ثم عاودته أوجاعه القديمة (1658)، في شدة أعجزته إلى النهاية عن أن يضفي على هذه المذكرات تسلسلاً متماسكاً أو شكلاً بنائياً. فلما قام صديقه الدوق دروانيه وعلماء البور- رويال بتحرير ونشر هذه المادة وسموها "خواطر المسيو بسكال عن الدين وغيره من المسائل (1670)". وقد خشوا أن يقضي هذه "الخواطر" المبتورة التي خلفها بسكال إلى التشكك لا إلى التقوى، ومن ثم أخفوا الأجزاء المتشككة، وادخلوا تعديلاً على بعض ما بقي مخافة أن يسيء إلى الملك أو الكنيسة لأن اضطهاد البور- رويال كان قد توقف في تلك الفترة، وكره المحررون تجدد الجدل. ولم تنشر "خواطر" بسكال Pens(es في نصها الكامل الموثوق إلا في القرن التاسع عشر.

ولو شئنا أن نغامر بفرض ترتيب عليها لجعلنا نقطة بدايتها فلك كوبرنيق. ونحن نشعر ثانية- إذ نصغي إلى بسكال- يا للطمة الهائلة التي كان فلك كوبرنيق وجاليليو يكيلها للمسيحية التقليدية:

"ليتأمل الإنسان الطبيعية كلها في جلالها الكامل السامي، ليقص عن بصره الأشياء الوضيعة التي تحيط به، ولينظر إلى ذل النور المتوهج الذي وضع كأنه مصباح ابدي ينير العالم، ولتبد الأرض له مجرد نقطة داخل الدائرة الشاسعة التي يرسمها ذلك النجم، وليأخذه العجب من أن هذا المحيط الهائل إنما هو نقطة ضئيلة من زاوية النجوم التي تتحرك في قبة السماء.

فإذا توقف بصرنا عند هذا الحد، فليجاوزه الخيال...فكل هذا العالم المرئي ليس إلا عنصراً لا يدرك في صدر الطبيعة العظيم. ولا يستطيع أي تفكير أن يمتد إلى هذا المدى...إنها كرة لانهائية مركزها في كل مكان، ومحيطها في غير مكان(42). هذا أكثر مظهر قابل للإدراك من مظاهر قدرة الله، حتى أن خيالنا يتوه في هذا الخاطر".

ثم يضيف بسكال في سطر شهير مطبوع بحساسيته الفلسفية، "أن الصمت الأبدي الذي يلف هذا الفضاء اللانهائي يخيفني(43)". ولكن هناك لانهائية أخرى- وتلك هي لانهائية صغر الذرة "التي لا تقبل الانشطار، وقبولها النظري للانقسام قبولاً لا حد له، فمهما كانت ضآلة الحد الأدنى الذي نختزل به أي شيء، فإننا لا نملك إلا الاعتقاد بأنه هو أيضاً له أجزاء أصغر منه. وعقلنا يتذبذب في حيرة وارتياع بين الشاسع غير المحدود، والدقيق غير المحدود.

"إن من يتأمل نفسه على هذا النحو تخيفه نفسه، وإذا أدرك أنه معلق...بين هاويتين اللانهائية والعدم، ارتعد فرقاً...وبات أميل إلى تأمل هذه العجائب في صمت منه إلى ارتيادها بغرور. فما الإنسان في الطبيعة، بعد كل شيء...؟ إنه العدم إذا قيس بغير المحدود، وهو كل شيء إذا قيس بالعدم، إنه وسط العدم والكل. وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين، فنهاية الأشياء وبدايتها أو أصلها، يلقهما سر لا سبيل إلى استكناهه، وهو عاجز على السوء عند رؤية العدم الذي أخذ منه، واللانهائي الذي يغمره(44).

فالعلم إذن ما هو إلا ادعاء غبي. فهو مبني على العقل، المبني على الحواس، التي تخدعنا بعشرات الطرق. وهو محدود بالحدود الضيقة التي تعمل حواسنا داخلها، وبقصر عمر الجسد قصراً قابلاً للفساد. وإذا ترك العقل لذاته لم يستطع أن يفهم- أو يعطي أساساً مكيناً للفضيلة، أو الأسرة، أو الدولة، فكيف بإدراك الطبيعة العالم ونظامه الحقيقيين، فضلاً عن فهمه لله. والعرف، لا بل الخيال والأسطورة، حكمة اكثر مما في العقل و "أحكم العقول يتخذ تلك المبادئ، التي أدخلها خيال الإنسان بتعجل في كل مكان، مبادئ له(46)" وهناك نوعان من الحكمة: حكمة الجماهير البسيطة "الجاهلة"، التي تعيش بحكمة التقاليد الموروثة والخيال (أي الطقوس والأساطير)، وحكمة الحكيم الذي نفذ إلى صميم العلم والفلسفة ليدرك جهله(47). إذن "لاشيء أروح للعقل من أن بنبذ العقل" و "الاستخفاف بالفلسفة ملاك الفيلسوف الأصيل(48)".

ومن ثم رأى بسكال أنه ليس من الحكمة إقامة الدين على العقل، كما حاول حتى بعض الجانسنيين، أن يفعلوا. بالعقل لا يستطيع أن يثبت وجود الله، ولا الخلود، لأن الأدلة في الحالين شديدة التناقض. كذلك لا يصلح الكتاب المقدس أساساً نهائياً الإيمان، لأنه حافل بالفقرات الملتبسة أو الغامضة، وربما كان للنبوءات التي يفسرها الأتقياء على أنها تشير إلى المسيح دلالة مختلفة(49). أضف إلى ذلك أن الله في الكتاب المقدس يتكلم بالأرقام، التي يضللنا مدلولها الحرفي، والتي لا يدرك معناها الحقيقي إلا من وهبوا النعمة الإلهية. "أننا لن نفهم شيئاً من أعمال الله ما لم نؤمن بهذا المبدأ، وهو أنه تعالى يشاء أن يعمي البعض وينير بصائر البعض(50). (وهنا يبدو أن بسكال يقبل حرفياً قصة يهوه وهو يقسي قلب فرعون).

ولو اعتمدنا على العقل لوجدنا غير المفهوم أينما تلفتنا. فمنذا الذي يستطيع أن يفهم، في الإنسان، ذلك الاتحاد والتفاعل بين جسد واضح المادية وذهن واضح اللامادية؟ "فليس هناك شيء أشد استحالة على التصور من أن تعي المادة نفسها(51)". إنهم الفلاسفة الذين ملكوا أهواءهم- "وأي مادة تستطيع أن تفعل هذا(52)؟". وطبيعة الإنسان، التي يمتزج فيها الملاك بالوحش امتزاجاً شديداً(53)، تكرر التناقض بين العقل والجسد، وتذكرنا بالكمير الذي زعمت الأساطير اليونانية أنه عنزة لها رأس أسد وذيل ثعبان. "يا لهذا الإنسان من كمير! ياله من بدعة، ووحش، وفوضى، وتناقض، ومعجزة! هذا الحكم في كل الأشياء، ونموذج الغباء في الأرض؛ مستودع الحق، وبالوعة الظلال والشك؛ مفخرة الكون ونفايته. فمنذا الذي يحل لنا هذا اللغز المعقد(54)؟".

إن الإنسان- من الناحية الخلقية- لغز غامض. فكل ضروب اللؤم تبدو مستترة فيه. "ما الإنسان إلا مخلوق خداع المظهر، كذوب، منافق، مع نفسه ومع غيره(55)". "كل الناس بطبيعتهم يكره بعضهم بعضاً، ولن تجد أربعة أصدقاء في العالم(56)". "ما أفرغ قلب الإنسان وما أحفله بالقذر"(57) ثم يا لغروره الذي لا قرار له ولا شبع، "ما كنا لنركب البحر أبداً لولا حلمنا بأننا سوف نوري قصتنا...أننا نفقد الحياة مغتبطين شريطة أن يتحدث الناس بما فعلنا...وكل الناس، حتى الفلاسفة، يتمنون أن يكون لهم معجبون(58)". ومع ذلك فإن من جوانب عظمة الإنسان أنه من شره، وكرهه، وغروره، أنشأ دستوراً من القوانين والأخلاق ليسيطر على شره، واشتق من شهوته مثلاً أعلى في الحب(59).

وشقاء الإنسان لغز آخر. فلم شقي الكون هذا الشقاء الطويل لينجب نوعاً من الخليقة شديد الهشاشة في سعادته، كثير التعرض للألم في كل عصب، وللحزن في كل حب، وللموت في كل حياة؟ ومع ذلك فإن "جلال الإنسان عظيم في معرفته أنه شقي(60)". "ما الإنسان إلا قصبة، وهي أوهى ما في الطبيعة، ولكنه قصبة مفكرة.

والكون كله لا حاجة به لأن يتسلح لكي يسحقه، فنفخة بخار، أو قطرة ماء، تكفي لقتله- ولكنه، بعد أن يسحقه الكون، لا يزال أنبل من هذا الذي يقتله، لأنه لا يعرف أنه مفارق الحياة، أما الكون فلا يعرف شيئاً عن انتصاره على الإنسان(61)".

وليس من هذه الألغاز لغز يجد في العقل جواباً له. ولو ركنا إلى العقل وحده لحكمنا على أنفسنا بـ"ببروية" تتشكك في كل شيء إلا الألم والموت، والفلسفة لا تستطيع على أحسن الفروض إلا أن تكون تبريراً عقلانياً للهزيمة. ولكننا لا نستطيع أن نؤمن بأن قدر الإنسان هو كما يراه العقل- أن يكافح، ويتعذب، ويموت، بعد أن ينجب آخرين ليكافحوا، ويتعذبوا، ويموتوا، جيلاً بعد جيل، في افتقار للهدف، وغباوة، وحقارة هائلة. فنحن في قرارة نفوسنا نشعر بأن هذا لا يمكن أن يكون صحيحاً، وبأنه تجديف ما بعده تجديف أن نظن أن الحياة والكون بلا معنى. فالله ومعنى الحياة يجب أن يشعر بهما القلب لا العقل."فإن للقلب مبرراته التي لا يعرفها العقل(62)."، وأخيراً نفعل أن أصغينا إلى قلوبنا، وإن "وضعنا إيماننا في الوجدان(63)". ذلك أن كل إيمان، حتى بالأمور العملية، إنما هو ضرب من الإرادة، وتوجيه للانتباه والرغبة (إرادة الإيمان). والتجربة الصوفية أعمق من شهادة الحواس أو حجج العقل.

أي جواب إذن عند الوجدان يجيب به عن الغاز الحياة والفكر؟ الجواب هو الدين. فالدين وحده يستطيع أن يرد للحياة معناها، وللإنسان نبله، وبدونه نتخبط أعمق حتى من تخبطنا الأول في إحباط عقلي وعقم مميت. فالدين يعطينا كتاباً مقدساً، والكتاب ينبئنا بسقوط الإنسان من النعمة، وهو الخطيئة الأصلية هي دون غيرها التي تستطيع أن تفسر ذلك الجمع الغريب في الطبيعة بين الكره والحب، وبين الشر الوحشي واشتياقنا للخلاص ولله. فإذا سمحنا لأنفسنا بأن نؤمن (مهما بدت سخافة هذا الإيمان للفلاسفة) بأن الإنسان بدأ بالنعمة الإلهية، وأنه فقدها بالخطيئة، وأنه لا خلاص له إلا بالنعمة الإلهية عن طريق المسيح المصلوب، وجدنا بعد هذا سلاماً عقلياً لا يوهب الفلاسفة أبداً. والذي لا يستطيع الإيمان ملعون، لأنه يعلن بكفره أن الله لم يشأ أن يمنحه النعمة.

والإيمان رهان حكيم. وهب أن الإيمان لا يمكن إثباته، فأي ضمير إن قامرت على حقيقته ثم اتضح بطلانه؟ "لزام عليك أن تراهن، وليس لك في هذا خيار...فلتوازن بين المكسب والخسارة في الرهان على وجود الله...أنك إن كسبت كل شيء، وإن خسرت لم تخسر شيئاً. فراهن إذن دون تردد على إنه تعالى موجود(64)". فإذا وجدت أول الأمر أن الإيمان صعب عليك فاتبع عادات وطقوس الكنيسة كأنك تؤمن حقاً. "تبرك بالماء المقدس، وأطلب تلاوة القداديس، وهلم جرا، وهذا كفيل بأن يجعلك تؤمن بطريقة بسيطة طبيعية، وبأن يهدئك"- سيهدئ من عقلك المغتر بقدرته النقادة(65). واعترف وتناول القربان، وستجد في هذا راحة قوية(66).

ونحن نظلم هذا الدفاع التاريخي إذا تركناه يختتم على هذه النغمة غير البطولية. فلنا أن نثق بأن بسكال حين آمن لم يؤمن كأنه مقامر بل كنفس حيرتها ودوختها الحياة، وكإنسان أدرك في تواضع أن عقله الذي أذهل ذكاؤه الصديق والعدو، ليس كفواً للكون، ووجد في الإيمان السبيل الوحيد ليضفي على ألمه المعنى والمغفرة. ويقول سانت- بيف "إن بسكال رجل مريض، وعلينا أن نذكر هذا على الدوام ونحن نقرؤه(67)" ولكن بسكال لو ووجه بهذا الرأي لأجاب: ألسنا كلنا مرضى؟ فليرفض الإيمان كل من اكتملت له السعادة. ليرفضه كل من لم يقنع بمعنى الحياة أكثر من أنها مسار عاجز من ميلاد قذر إلى موت أليم.

"تصور نفراً من الناس يرسفون في الأغلال وقد حكم عليهم جميعاً بالموت، وفي كل يوم يشنق بعضهم على مرأى من الباقين، والباقون يتبينون حالهم في حال زملائهم، ويتبادلون نظرات الحسرة واليأس، وينتظر كل منهم دوره. هذه صورة لحالة الإنسان(68)". فكيف السبيل إلى التعويض عن هذه المذبحة البشعة التي نسميها التاريخ إلا بالإيمان بأن الله سيصحح الأخطاء كلها في النهاية، سواء استند هذا الإيمان إلى دليل أو لم يستند؟. وقد تحمس بسكال في محاجته لأنه لم يفق قط إفاقة حقيقية من الشكوك التي أوحى بها إليه موتتيني، وملحدو "السنوات التي قضاها في العالم"، وحياد الطبيعة القاسي بين "الشر" و "الخير". "ذلك ما أراه وما يقض مضجعي. فأينما تلفت لم أجد غير الغموض والإبهام. ولا تقدم لي الطبيعة إلا ما يحتمل الشك والقلق. فلو أنني لم أر علامات على وجود إله لثبت علي الإنكار. ولو رأيت آثار الخالق في كل مكان لسكنت إلى الإيمان في هدوء وسلام. ولكني في حالة يرثى لها أنني أرى أكثر كثيراً مما يبرر إنكار وجوده تعالى، وأقل كثيراً مما يطمئنني على وجوده. ولقد طالما تمنيت أن تعلن الطبيعة عن وجود دون لبس أو غموض ما دام هذا الإله حافظها(69)".

وحالة القلق العميق هذه، والقدرة المعطلة على رؤية الجانبين، هي التي تجعل بسكال يستهوي المؤمنين والشكاكين على السواء. فلقد شعر هذا الرجل بغيظ الملحد من الشر، وبثقة المؤمن في انتصار الخير، ولقد عبر من تدويمات موتتيني وشارون الذهنية إلى التواضع المغتبط الذي أحس به القديسان فرانسيس الأسيسي وتوماس أكمبيس. وهذه الصرخة المنبعثة من أعماق الشك، وهذه الصياغة لإيمان ضد الموت، هما اللذان يجعلان "خواطر" بسكال أبلغ الكتب قاطبة في النثر الفرنسي. لقد أصبحت الفلسفة أدباً للمرة الثالثة في القرن السابع عشر، لا في تركيز بيكون الهادئ، ولا في ألفة ديكارت السارة، بل في القوة العاطفية لشاعر يحس بالفلسفة، ويكتب لقلبه بدمه. في قمة العصر الكلاسيكي علا هذا النداء الرومانسي، وبلغ من القوة ما أتاح له أن يعمر بعد بوالو وفولتير، وأن يسمعه عبر قرن من الزمان روسو وشاتوبريان. فهنا، في صبيحة عصر العقل، وفي عقود هوبز وسبينوزا ذاتها، وجد العقل منازلاً له في رجل محتضر.

روت مدام بيرييه، شقيقة بسكال، أنه كان في سنيه الأخيرة يعاني من "علل مستديمة متفاقمة(70)" وانتهى به الأمر إلى الرأي بأن "المرض هو الحالة الطبيعية للمسيحيين(71)". وكان أحياناً يرحب بآلامه لأنها تصرفه عن المغريات. قال "إن ساعة من الألم تعلم أفضل من كل الفلاسفة مجتمعين(72)". وقد هجر كل اللذات، وعكف على ممارسة النسك، وجلد نفسه بحزام ثبتت فيه مسامير من حديد(73). ووبخ مدام بيرييه لأنها تسمح لأبنائها بعناقها. وعارض في زواج ابنتها قائلاً: "إن حالة الزوجية ليست خيراً من الوثنية في نظر الله(74)". ولم يسمح لإنسان في حضرته أن يتحدث عن جمال المرأة.

وفي عام 1662، آوى أسرة فقيرة في بيته صدقة من صدقاته الكثيرة. فلما أصيب أحد الأطفال بالجدري انتقل بسكال إلى بيت شقيقته بدلاً من أن يطلب إلى الأسرة أن تغادر بيته. ولم يمضِ وقت طويل حتى لزم فراشه وقد حطمته الآلام المعوية. وكتب وصيته، فترك نصف ثروته تقريباً للفقراء، واعترف لكاهن، وتناول القربان الأخير، ثم لفظ أنفاسه إثر تقلصات عنيفة، في 19 أغسطس 1662 وهو لا يجاوز الأربعين. ولما شرحت جثته وجد أن معدته وكبده مريضتان، وأن في أمعائه قرحاً(75). وقال الأطباء أن مخه "ضخم الحجم جداً، وأن مادته جامدة مكثفة" ولكن خطاً واحداً فقط من خطوط الاتصال بين عظام الجمجمة هو الذي كان مقفلاً قفلاً سليماً، ولعل هذا هو السر في نوبات الصداع الرهيبة التي ابتلي بها.

ووجد على لحاء المخ منخفضان "كبيران كأنهما صنعا بأصابع وضعت في الشمع"(76) وقد دفن في كنيسة أبرشيه سانت اتيين- دومون.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ألبور رويال 1656 - 1715

شددت "الرسائل الإقليمية" من عزم اليسوعيين والأساقفة على قمع الجانسنية باعتبارها بروتستنتية مقنعة. فأصدر البابا الإسكندر السابع (16 أكتوبر 1656) استجابة لإلحاح الأساقفة الفرنسيين مرسوماً بابوياً يلزم جميع رجال الكنيسة الفرنسيين بالتوقيع على الصيغة التالية:

"إني أخضع بإخلاص لدستور البابا أنوسنت العاشر، المؤرخ 31 مايو 1653، حسب معناه الحقيقي الذي حدده دستور أبينا الأقدس البابا الإسكندر السابع المؤرخ 6 أكتوبر 1656، وأقر بأنني ملتزم في ضميري بطاعة هذين الدستورين، وأدين بقلبي وفمي التعليم الوارد في قضايا كورنيلس جانسن الخمس المحتواة في كتابه المعنون "أوغسطينوس".

وامتنع مازاران عن فرض التوقيع على هذه الصيغة، ولكن في 13 إبريل 1661، عقب موت مازاران، أذاع لويس الرابع عشر الأمر، وقدم وكيل أسقفية من أصدقاء الجماعة لهذه الصيغة ببيان توفيقي، فوقعها آرنو والمتوحدون في هذه الصورة، ونصحوا راهبات البور-رويال بالحذو حذوهم، ولكن الأم أنجليك-التي كانت طريحة الفراش لإصابتها بالاستسقاء-رفضت التوقيع وثبتت على الرفض إلى أن ماتت في السبعين في 6 أغسطس 1661، وكذلك رفص بسكال وشقيقته جاكلين، التي أصبحت وكيلة الدير. وقالت جاكلين: مادام الأساقفة لا يملكون من الشجاعة إلا شجاعة الفتيات، فلابد أن يكون للفتيات شجاعة الأساقفة(77)" وأخيراً وقعت كل الراهبات الباقيات على قيد الحياة، ولكن جاكلين التي أضنتها مقاومتها الطولية ماتت في 4 أكتوبر وهي لا تجاوز السادسة والثلاثين، وتلاها بسكال بعد عام واحد.

واستنكر الملك خلال ذلك الديباجة الموفقة وأصر على أن يوقع الراهبات الصيغة دون أي إضافة أو تغيير، ونقل القليلات اللاتي وقعن إلى البور-رويال في باريس، ولكن أغلبية الراهبات، تتزعمهن الأم آنييس، صرحن بأنهن ليس في وسعهن التوقيع بضمير خالص على وثيقة تناقض معتقداتهن أشد مناقضة. وفي أغسطس 1665 حرم رئيس الأساقفة الراهبات السبعين وأخواتهن العلمانيات الأربعة عشرة من تناول الأسرار المقدسة، وحظر عليهن أي اتصال بالعالم الخارجي. وخلال السنوات الثلاثة التالية، كان أحد الكهنة المتعاطفين مع الراهبات يتسلق أسوار البور-رويال-دي-شان ليناول الراهبات المحتضرات قربانهن الأخير. وفي 1666 قبض على ساسي، ولوميتر، وثلاثة من المتوحدين بأمر الملك، أما آرنو الذي تنكر وراء شعر مستعار وسيف، فقد آوته لونجفيل، التي كانت تخدمه بنفسها أثناء اختبائه(78). وتبنت هي وغيرها من النبيلات قضية الراهبات، وأقنعن لويس بأن يلين؛ وفي 1668 أصدر البابا كلمنت التاسع مرسوماً جديداً صيغ في لبس حكيم يسمح لجميع الأطراف بقبوله، وأفرج عن السجناء، وردت الراهبات المنشقات إلى البور-رويال-دي شان، وعادت الأجراس تدق في الدير بعد أن صمتت ثلاث سنين. واستقبل الملك آرنو استقبالاً ودياً، وكتعب هذا كتاباً ضد الكلفنين، ولكن نيكولا كتب كتاباً آخر ضد اليسوعيين.

ودام "سلام الكنيسة" أحد عشر عاماً، ثم ماتت مدام لو نجفيل، ومات معها السلام. وإذ بدأ الملك يشيخ، وانقلبت انتصاراته هزائم، واستحال دينه خليطاً من التعصب والخوف، وساءل نفسه، أكان الله يعاقبه على تسامحه مع الهرطقة؟ واتخذ بغضه للجانسنية طابعاً شخصياً، ومن الأمثلة على هذا التحول أن لويس رفض تعيين رجل يدعى فونببرتوي في إحدى الوظائف لشبهته في أنه جانسني، ولكنه وافق على التعيين حين أكدوا له أن الرجل ملحد فقط(79). ولم يستطع قط أن يغتفر للراهبات تحديهن لأمره بالتوقيع على الصيغة المشددة. وضماناً للقضاء على مركز سخطه هذا في وقت مبكر حظر عليه قبول أعضاء جدد. ووجه نداء للبابا كلمنت الحادي عشر لكي يصدر إدانة صريحة للجانسنية. وبعد عامين من الإلحاح أطلق البابا مرسوم Vineam Domini (1705) ولم يكن باقياً على قيد الحياة في البور-رويال آنئذ سوى خمس وعشرين راهبة، أصغرهن في الستين. وترقب الملك موتهن بفارغ الصبر.

وفي عام 1709 خلف الأب اليسوعي ميشيل تيلييه البالغ من العمر ستة وستين عاماً، الأب لاشيز، كاهن اعتراف للملك. فأقر في ذهن لويس-وكان الملك قد بلغ الحادية والسبعين-أن مصير روحه الأبدي رهن بالإبادة الناجزة الكاملة للبور-رويال. وقد احتج كثيرون من الأكليروس العلمانيين على هذه العجلة وفيهم أنطوان دنواي، رئيس أساقفة باريس، ولكن الملك تغلب على معارضتهم. وفي 29 أغسطس 1709 أحاط الجند بالدير، وأطلع الراهبات على رسالة ملكية مختومة تأمر بتفريقهن فوراً، وسمح لهن بخمس عشر دقيقة يجمعن فيها أمتعتهن. ولم يجد بكاؤهن ولا دموعهن. فدفعن داخل مركبات وشتتن في مختلف الأديار الممتثلة التي تبعد من ستين إلى مائة وخمسين ميلاً. وفي 1710 هدمت مباني الدير الشهير وسويت بالتراب.

ولكن الجانسنية عاشت. لقد مات آرنو ونيكول في منفاهما بفلاندر (1694-95)، ولكن كاهناً في مصلى باريس يدعى باسكييه كينيل، دافع عام 1687 عن اللاهوت الجانسني في كتابه "تأملات أخلاقية في العهد الجديد". وقد زج به في السجن (1703). ولكنه هرب إلى أمستردام حيث أسس كنيسة جانسنية. وإذ أكتسب كتابه التأييد الكثير من الأيكروس العلماني الفرنسي، فقد أقنع لويس البابا كامنت الحادي عشر بأن يصدر مرسوم Unigenitus (8 سبتمبر 1713) الذي أدان 104 قضية نسبت إلى كينيل. وقد استاء كثير من الأحبار الفرنسيين من المرسوم لأنه تدخل بابوي في شئون الكنيسة، واتحدت الجانسنية مع أحياء للحركة الغالية. فلما مات لويس الرابع عشر، كان في فرنسا من الجانسنيين أكثر مما كان فيها في أي عهد مضى(80).

ويصعب علينا اليوم أن نفهم لم انقسمت أمة، وثارت ثائرة ملك، حول مشاكل عويصة تتصل بالنعمة الإلهية، والجبرية، وحرية الإرادة، ولكننا ننسى أن الدين كان له يومها ما للسياسة الآن من أهمية وخطر. وكانت الجانسنية الجهد الأخير الذي بذلته النهضة الأوربية في فرنسا، والانتفاضة الأخيرة للعصور الوسطى. ونحن إذا تأملناها في منظور التاريخ بدت لنا رجعية لا تقدماً. بيد أن تأثيرها في عدة نواحٍ كان تقدمياً. فقد كافحت حيناً في سبيل قسط من الحرية-وإن كنا سنجدها في أيام فولتير أشد تعصباً من البابوية(81). وحدت من شطط الإفتاء الديني. وكانت غيرتها على الأخلاق ثقلاً نافعاً أمام سياسة التراخي في أمور الاعتراف، تلك السياسة التي ربما شاركت في تدهور الأخلاق الفرنسية. كذلك كان تأثيرها التعليمي طيباً، وكانت "المدارس الصغيرة" التي أسستها خير المدارس في زمانها. وظهر تأثيرها الأدبي لا في بسكال وحده بل في كورنبي باعتدال، وفي راسين بحيوية، وهو تلميذ البور-رويال ومؤرخه. أما تأثيرها الفلسفي فكان غير مباشر وغير مقصود، ففكرتها عن الله قاضياً بالعذاب الأبدي على الشطر الأكبر من النوع الإنساني-بما فيهم جميع الأطفال غير المعمدين، وجميع المسلمين وجميع اليهود-لعل هذه الفكرة شاركت في دفع رجال كفولتير وديدرو إلى التمرد على اللاهوت المسيحي بأسره.


الملك والهيجونوت 1643 - 1715

لم يكن الملك قد خلص روحه بعد، فقد بقي في فرنسا 1.500.000 من البروتستانت. وكان مازاران قد واصل وطور سياسة ريشليو في حماية حرية الهيجونوت الدينية ما داموا مطيعين سياسياً. أما كولبير فقد أدرك قيمتهم في تجارة فرنسا وصناعتها. وفي 1652 أكد لويس مرسوم نانت (1598) الذي أصدره جده الرابع، وفي 1666 أعرب عن تقديره لولاء الهيجونوت خلال حرب الفروند، ولكن كان يحزنه ألا تتحقق وحدة فرنسا الدينية كما تحققت وحدتها السياسية، وحوالي 1670 كتب في مذكراته فقرة تنذر بالسوء:

"أما عن ذلك العدد الكبير من رعاياي الذين يدينون بما يسمونه المذهب الإصلاحي، وهو شر...أنظر إليه بحزن...فيخيل إلي أن أولئك الذي أرادوا استعمال ضروب عنيفة من العلاج لم يفطنوا إلى طبيعة هذا الشر، الذي نجم بعضه عن حرارة في العقول، والذي يجب أن يترك ليذوي ويموت دون أن يحس به أحد، بدلاً من أثارته من جديد بمثل هذه المقاومات العنيفة...وقد آمنت بأن خير سبيل للخفض من عدد الهيجونت في مملكتي تدريجياً هو أولاً عدم الضغط عليهم إطلاقاً بأي قيد صارم جديد، والأمر بمراعاة ما حصلوا عليه من أسلافي دون منحهم أكثر منه، وحتى قصر تنفيذه داخل أضيق الحدود التي تجيزها العدالة واللياقة(28)".

وفي هذه الفقرة رائحة التعصب المخلص. وهذا رأي ملك مطلق السلطة، أخذ عن بوسويه شعار "ملك واحد، وقانون واحد، وعقيدة واحدة". فلم يعد ذلك التسامح الذي دان به ريشليو الذي كان يعين لمناصب الدولة الرجال الأكفاء أياً كانت عقيدتهم. ويواصل لويس حديثه فيقول إنه لن يعين في هذه المناصب سوى الكاثوليك الصالحين، آملاً بذلك أنه سيشجع المرتدين على الرجوع إلى حظيرة الكاثوليكية.

أما الكنيسة نفسها فلم تكون قد وافقت قط على التسامح الذي نقله مرسوم نانت، ففي 1655 طالب مجمع اكليريكي بتفسير أشد صرامة للمرسوم. وفي 1660 طلب مجمعهم إلى الملك أن يغلق جميع الكليات والمستشفيات الهيجونوتية، وأن يحرم الهيجونت من الوظائف العامة، وفي 1670 أوصى المجمع بأن يعتبر الأطفال الذين بلغوا السابعة من عمرهم قادرين قانونياً على إنكار الهرطقة الهيجونوتية، وأن الذين ينكرونها على هذا النحو ينبغي فصلهم عن آبائهم، وفي 1675 طالب المجمع بأن يعلن بطلان الزيجات المختلطة، وأن يعتبر نسل هذه الزيجات غير شرعي(83). وكان رأي بعض رجال الدين الورعين اللطفاء مثل الكاردينال دبيرول أن استخدام الدولة لوسائل المنع بالإكراه هو السبيل العملي الوحيد في التعامل مع البروتستنتية(84)، وألح الحبر تلو الحبر على الملك بهذه الحجة، وهي أن استقرار حكومته يرتكز على النظام الاجتماعي، الذي يرتكز على الفضيلة، التي تنهار إذا لم يدعمها دين الدولة. وشارك العلمانيون الكاثوليك في هذه الحجة، وأبلغ القضاة الحكومة عن صدمات مكدرة للأمن بين المذهبين المتنافسين في المدن-هجمات كاثوليكية على المدارس والجنازات والبيوت البروتستنتية، وأعمال انتقام بروتستنتية من نفس النوع.

وشيئاً فشيئاً أذعن لويس لهذه الحملة مخالفاً في ذلك فطرته الأميل إلى الخير، وإذ كان على الدوام في حاجة للمال ينفقه على الحرب والأناقة، فقد وجد رجال الدين يقدمون له منحاً كبيرة شريطة أن يقبل آراءهم. ودفعته عوامل أخرى في نفس الاتجاه، فلقد كان يشجع-بل يرشو-تشارلز الثاني لكي يحول إنجلترا إلى الكاثوليكية، فكيف يتأنى في الوقت ذاته أن يسمح بالبروتستنتية في فرنسا؟ ألم يوافق البروتستنت في صلح أوجزبورج (1555) وبعده على المبدأ القائل بأن دين الحاكم يجب أن يفرض على رعاياه؟ وألم ينفِ الحكام البروتستنت في ألمانيا وفي الأقاليم المتحدة الأسر التي رفضت ديانة الأمير؟

وكان لويس، منذ أن بدأ حكمه الفعلي قد أصدر-أو أصدر وزراؤه بموافقته-سلسلة من المراسيم التي اتجهت إلى إلغاء مرسوم التسامح إلغاءً تاماً. ففي 1661 حرم على البروتستنت العبادة في معظم مقاطعة جكس، قرب الحدود السويسرية، بحجة أن جكس ضمت إلى فرنسا بعد صدور المرسوم، وكان يعيش في هذا الإقليم سبعة عشر ألف بروتستنتي، وأربعمائة كاثوليكي فقط(85). وفي 1664 جعلت الترقية إلى طبقة معلمي الحرف في الطوائف الصناعية عسيرة إلا على الكاثوليك(86)، وفي 1665 سمح للصبيان في الرابعة عشر والبنات في الثانية عشر بقبول اعتناق الكاثوليكية وترك آبائهم، الذين يلزمون عندها بأن يدفعوا لهم راتباً سنوياً لإعالتهم(87). وفي 1666 حظر على الهيجونت إنشاء كليات جديدة، أو الاحتفاظ بمعاهد لتعليم أبناء الأشراف، وفي 1669 تقرر اعتبار هجرة الهيجونوت جريمة يعاقب عليها المهاجر بالاعتقال إذا وقع في قبضة السلطات ومصادرة بضائعه(88). وكان كل من ساعد هيجونوتياً على الهجرة عرضة للحكم بتشغيله في سفن الأسرى مدى الحياة(89). وفي 1677 سمح لويس بوقف "صندوق للمهتدين" تصرف منه مبالغ، متوسطها ستة جنيهات للفرد، لكل هيجونوتي يقبل اعتناق الكاثوليكية. وضماناً لثبات المهتدين على الكاثوليكية أصدر مرسوماً (1679) يقضي بنفي جميع المرتدين ومصادرة أملاكهم(90). ثم قطع هذا السبيل من التحريمات احتجاج ناخب براندنبورج وشكاوى كولبير مما تحدثه هذه القوانين بالتجارة من كساد، واشتغال الملك بحملاته الحربية، ولكن تصالحه في 1681 مع الكاثوليكية، الآمرة بالاقتصار على امرأة واحدة، رده من جديد إلى الحرب المقدسة على الهيجونوت؛ فقال أحد مساعديه إنه يشعر "بالتزام لا مناص منه بهداية جميع رعاياه واستئصال شأفة الهرطقة(91)". وفي 1682 أصدر خطاباً-وأمر جميع الرعاة البروتستنت بأن يقرءوه على شعبهم-يهدد فيه الهيجونوت "بويلات لا تقاس بما سبقها هولاً وفتكاً(92)". وخلال السنوات الثلاث التالية أغلقت 570 كنيسة من كنائس الهيجونوت البالغ عددها 815، وهدم الكثير منها، وحين حاول الهيجونوت العبادة على أنقاض كنائسهم المهدمة عوقبوا باعتبارهم عصاة متمردين على الدولة.

وكانت حملات الخيالة Dragonnades قد بدأت خلال هذا، فقد كان من العادات القديمة في فرنسا أن يسكن الجنود في الكومونات أو البيوت وعلى حسابها. واقترح لوفوا وزير الحرب على الملك (11 إبريل 1681) إعفاء معتنقي الكاثوليكية الجدد عامين من هذا الإيواء للجند، فأصدر الملك الأمر، وعلى هذا أمر لوفوا المديرين العسكريين لإقليمي بواتو وليموزان بأن ينزلوا خيالتهم مساكن الهيجونوت، لا سيما الأثرياء منهم. وفي بواتو سمح المرشال مارياك لجنوده بأن يفهموا أنه لم يسوءه أن يعاملوا مضيفيهم البواسل بشيء من الغيرة الرسولية، وراح الجند يسرقون الهيجونوت ويضربونهم ويهتكون أعراضهم، فلما سمع لويس بهذا الشطط وبخ مارياك، ولما استمر طرده من وظيفته(93). وفي 19 مايو أمر بوقف هداية الهيجونوت بطريق إيواء الخيالة، وشجب أعمال العنف التي ارتكبت في بعض الأماكن ضد دعاة الإصلاح البروتستنتي(94). وأبلغ لوفوا المديرين الإقليميين بأن لهم أن يواصلوا حملات الخيالة، ولكنه نبههم إلى ضرورة حجب كل معلومات عن هذا الأمر عن الملك. وانتشرت حملات الخيالة في أرجاء كثيرة من فرنسا، فأدخلت في الكاثوليكية آلافاً من المهتدين. وأنكرت مدن وأقاليم-كمونبيلييه، ونيم، ووبيان-مذهبها الكالفني على بكرة أبيها، وتظاهر أغلب الهيجونوت باعتناق الكاثوليكية بعد أن أرهبهم الأمر، ولكن الألوف هجروا بيوتهم وأملاكهم وهربوا عبر الحدود أو وراء البحر متحدين القوانين. وأبلغ لويس لأنه لم يبق بفرنسا غير قلة قليلة من الهيجونوت، وأن مرسوم نانت أصبح بلا معنى. وفي 1684 التمست الجمعية العامة للاكليروس من الملك إلغاء المرسوم كلية، و"توطيد ملك يسوع المسيح غير منازع من جديد في فرنسا"(95).

وفي 17 أكتوبر 1685 ألغى الملك مرسوم ثابت باعتباره مرسوماً لا لزوم له في فرنسا التي تدين كلها بالكثلكة. فحظر منذ ذلك التاريخ على الهيجونوت إقامة شعائرهم أو فتح مدارسهم، وصدر الأمر بهدم كل أمكنة العبادة الهيجونوتية وتحويلها كنائس كاثوليكية، وأمر رجال الدين الهيجونوت بالرحيل عن فرنسا في ظرف أربعة عشر يوماً، ولكن هجرة غيرهم من الهيجونوت حرمت وإلا كان عقاب المهاجرين تشغيلهم في سفن الأسرى مدى الحياة. ووعد المخبرون بنصف بضائع المهاجرين العلمانيين(96). وقضى بأن يعمد جميع الأطفال المولودين في فرنسا بواسطة القساوسة الكاثوليك وأن يربوا على المذهب الكاثوليكي، ووعدت فقرة أخيرة بالسماح للقلة الباقية من الهيجونوت بأن يسكنوا بعض المد آمنين. ونفذت المادة من باريس وضواحيها، وحمى رئيس الشرطة التجار الهيجونوت هناك وطمأنهم، ولم يكن هناك حملات خيالة في باريس أو قربها، وكان في وسع المراقص أن تمضي في فرساي، وفي وسع الملك أن ينام مطمئناً مرتاح الضمير، ولكن حملات الخيالة استمرت في كثير من الأقاليم بتحريض من لوفوا(97)، وتعرض الهيجونوت المعاندون للنهب والتعذيب. يقول الحجة الفرنسي الأكبر في إلغاء مرسوم نانت:

"لقد أذن للجنود أن يقترفوا كل جريمة إلا القتل. فكانوا يكرهون الهيجونوت على الرقص حتى يدركهم الإعياء، ويقذفون بهم في البطاطين إلى أعلى، ويصبون الماء المغلي في حلوقهم...، ويضربون أقدامهم، وينتفون لحاهم...، ويحرقون أذرع مضيفيهم وسيقانهم بلهيب الشموع...، ويكرهونهم بأن يقبضوا على الجمر الملتهب بأيديهم...، ويحرقون أرجل الكثيرين بإمساكها طويلاً أمام نار كبيرة...ويلزمون النساء بأن يقفن عرايا في الطريق يحتمان هزء المارة وإهاناتهم. وقد أوثقوا مرة أماً مرضعاً إلى عمود سرير وأمسكوا برضيعها بعيداً عنها وهو يصرخ في طلب ثديها، فلما فتحت فاها لتتوسل إليهم بصقوا فيه(98)".

ويرى ميشليه أن إرهاب 1685 المقدس هذا كان أشنع كثيراً من إرهاب عصر الثورة في 1793(99). وقد أكره نحو 4000.000 من "المهتدين" على حضور القداس وتناول القربان، وحكم على الذين بصقوا قطع القربان المكرسة بعد مغادرتهم الكنيسة بالحرق أحياء(100). وزج بالذكور من الهيجونوت المعاندين في سجون تحت الأرض أو زنزانات غير مدفأة. أما نساء الهيجونوت الممعنات في العناد فقد حبسن في الأديار حيث لقين على غير توقع المعاملة الرحيمة من الراهبات(101).

على أن إقليمين قاوما الإرهاب ببسالة ملحوظة. وسنسمع أنباء الفودوا في الدوفينيه الفرنسية وبيدمونت السافووية في مكان لاحق من هذا الكتاب. وفي أودية سلسلة جبال السيفين في اللانجدوك احتفظ الألوف من الهيجونوت "المهتدين" بإيمانهم سراً، مترقبين الوقت والفرصة للتحرر. وقد أكد لهم "أنبياءهم" الذين ادعوا الوحي الإلهي بأن الوقت قد اقترب، فلما بدا أن حرب الوراثة الأسبانية تستوعب الأسلحة الفرنسية، شكل الفلاحون جماعات متمردة من "الكاميزا Camisars" الذين ارتدوا القمصان البيض ليميز بعضهم بعضاً في الليل. وفي إحدى المعارك قتلوا الأب شيلا الذي كان يضطهدهم بغيرة شديدة، ففاجأهم فوج من الجند وذبحهم دون تمييز، وهدم بيوتهم وخرب محاصيلهم (1702). وردت بقية منهم على هذا الهجوم بضراوة، إلى أن أقنعتهم بالصلح وسائل فيلار النوفيقية.

ومن بين الهيجونوت الذين سكنوا فرنسا في 1660 والبالغ عددهم 1.500.000، فرنحو 400.000 في العقد الذي تخلله إلغاء مرسوم نانت عبر الحدود المخفورة مغامرين بحياتهم. وعاشت مئات قصص البطولة قرناً بأكمله بعد تلك السنين اليائسة. ورحبت الدول البروتستنتية بالمهاجرين فأفسحت جنيف مكاناً لأربعة آلاف من الهيجونوت برغم أن سكانها لم يزيدوا على ستة عشر ألفاً. وقدم تشالز الثاني وجيمس الثاني المعونة المادية للهيجونوت على الرغم من كثلكتهما، وسهلا استيعابهم في الحياة السياسية والاقتصادية الإنجليزية. واستقبلهم ناخب براندنبورج استقبالاً ودياً حتى أن أكثر من خمس سكان برلين في 1697 كانوا فرنسيين وفتحت لهم هولندا أبوابها وبنت مئات البيوت لإيواء الوافدين وأقرضتهم المال ليقيموا مصالحهم وكفلت لهم كل حقوق المواطنة، وانظم الكاثوليك الهولنديون إلى البروتستنت واليهود في جمع المال إعانة الهيجونوت. ولم يكتف اللاجئون الشاكرون بإثراء الصناعة والتجارة في الأقاليم المتحدة، بل إنهم تطوعوا في الجيوش الهولندية والإنجليزية التي خاضت القتال ضد فرنسا، ورافق بعضهم وليم الثالث أو تبعه إلى إنجلترا ليساعدوه على جيمس الثاني. أما المرشال شومبيرج الكلفني الفرنسي الذي أحرز انتصارات للويس الرابع عشر من قبل فقاد جيشاً إنجليزياً ضد الفرنسيين ومات وهو يهزمهم في معركة البوين (1960). وفي كل بلد من هذه البلاد المضيافة جلب الهيجونوت مهاراتهم في الحرف والتجارة والمال، وأفادت أوربا البروتستنتية كلها من انتصار الكاثوليكية في فرنسا. وشغل صناع الحرير الفرنسيون حياً بأكمله من أحياء لندن، وأصبح المنفيون الهيوجونوت في إنجلترا شراح الفكر الإنجليزي ومترجميه لفرنسا، فمهدوا بذلك لغزو بيكون ونيوتن ولوك للعقل الفرنسي.

واستنكرت قلة من الكاثوليك الفرنسيين سراً تلك المذابح التي رافقت إلغاء المرسوم، وأمدوا كثيراً من الضحايا بالمعونة وقدوا لهم الملجأ خفية. ولكن الكثرة العظمى هللت للقضاء على الهيجونت باعتباره قمة إنجازات الملك، وقالوا أن فرنسا أصبحت الآن، في النهاية، بلداً كاثوليكياً موحداً. وأثنى كبار الكتاب أمثال بوسيه وفنيلون ولافونتين ولابروبير، حتى الأب الجانسني آرنو، على شجاعة الملك في تنفيذ ما خالوه إرادة الأمة. وكتبت مدام دسفينييه تقول "ليس هناك أبدع ولا أروع. ولم يصنع ملك ولن يصنع شيئاً أخلد من هذا(102)". أما لويس نفسه فأسعده أن يكمل-كما خيل إليه-عملاً ثقيلاً ولكنه مقدس. يقول سان سيمون:

"لقد آمن أنه جدد عهد تبشير الرسل الأولين. وكتب الأساقفة المدائح التي تشيد به، وجعل اليسوعيون المنابر تتغنى بالثناء عليه...ولم يكن يسمع غير الإطراء بينما كان الكاثوليك والأساقفة الأتقياء الصادقون يئنون بالروح إذ يرون الكاثوليك السنيين ينحرفون إلى الخطأ، والمهرطقين يسلكون مسلك الطغاة الخوارج، والوثنيين يحاربون الحق والمؤمنين المجاهدين بإيمانهم والشهداء. ولم يستطيعوا أن يطيقوا هذا السيل من الحنث وتدنيس المقدسات(103)".

وكان سان-سيمون وفوبان من الفرنسيين القلائل الذين أدركوا منذ البداية تلك الخسارة الاقتصادية التي ألحقها بفرنسا نزوح هذا العدد الكبير من المواطنين الكادحين. وفقدت كان صناعة نسيجها، وتور ثلاثة أرباع أنوال الحرير فيها. ومن بين الستين مصنعاً للورق في إقليم أنجوموا لم يبقَ سوى ستة عشر، ومن بين 109 متجراً في مدينة ميزيير لم يبق سوى ثمانية، ومن بين أربعمائة مصبغة في تور لم يبق سوى أربع وخمسين(104). واضمحلت ثغور كمرسيليان لفقدها الأسواق في بلاد أصبحت الآن بفضل جهود الهيجونوت وإرشادهم تنتج ما كانت من قبل تستورده من فرنسا. وقضى جزئياً على حركة التعمير الكبرى التي أدخلها كولبير على الاقتصاد الفرنسي، ونزحت الصناعات التي جاهد في سبيل تنميتها في فرنسا لتغذي منافسيها. ولما هبطت إيرادات الدولة من الصناعة هبوطاً حاداً وقعت الحكومة من جديد في أيدي المرابين الذين أنقذها كولبير من براثنهم. وفقدت البحرية الفرنسية تسعة آلاف بحار، والجيش ستمائة ضابط واثني عشر ألف جندي، ولعل نضوب البحرية والجيش على هذا النحو كان من عوامل الهزائم التي أوشكت أن تحطم فرنسا في حرب الوراثة الأسبانية.

كذلك شددت همجية الاضطهاد الرهيبة واستغاثات المهاجرين من عزيمة أوربا البروتستنتية على الاتحاد ضد فرنسا.

على أن إلغاء المرسوم ربما كان معيناً غير مباشر للفنون والعادات ولطائف الحياة في فرنسا. ذلك أن الروح الكلفنية المتشككة في الزينة الصور المنحوتة والمرح الطائش ثبط الفن والأناقة والظرف. ولو أن فرنسا أصبحت بيوريتانية لكانت شذوذاً وخطأ. ولكن إلغاء المرسوم كان كارثة على الدين الفرنسي. لقد لاحظ بيكون من قبل أن مشهد الحروب الدينية كان خليقاً بأن يجعل لوكرتيوس-لو رآه-"سبعة أضعاف ما كان أبيقورية" وإلحاداً(105). "فماذا تراه كان قائلاً الآن؟ لم تبق نقطة توقف للعقل الغالي بين الكاثوليكية والإلحاد. وبينما أفادت البروتستنتية في سويسرا وألمانيا وهولندا وإنجلترا في الإعراب عن التمرد على الكنيسة، لم يبق في فرنسا أداة استنكار كهذه. فوجدت حركة الانتقاض على الرومانية أنه أيسر لها أن تكون شكاكة خالصة من أن تكون بروتستانتية سافرة. وانتقلت النهضة الفرنسية، غير المعوقة من البروتستنتية، رأساً إلى حركة التنوير بعد موت الملك.


بوسويه 1627 - 1688

بيد أن الكنيسة الفرنسية كانت ظافرة ولو مؤقتاً، وتربعت على عرش بهائها وسلطانها. وكانت رغم ما شاب روحها الجماعية من تعصب، وما عاب سلطتها من قسوة، تضم أرقى نخبة من الرجال في أوربا تعليماً، وكان قديسوها ينافسون طغاتها. وكان من أساقفتها نفر ذوو نزعة إنسانية، عاكفون في إخلاص على الخير العام كما رأوه. ودخل اثنان منهم الأدب الفرنسي دخولاً شارف في سنائه دخول يسكال، وكان في زمانهما أكثر بروزاً. وقلما تجد بين رجال الكنيسة الفرنسيين من ضارع في سمعته بوسيويه، أو فنيلون في شعبيته.

أما جاك بنين بوسويه (واسمه الأوسط B(nigne-أي اللطيف-كان أنسب لفنيلون) فقد ولد في أسرة ثرية لمحام بارز وعضو في برلمان ديجون (1627). نذره أبوه للقسوسية، وجز شعر رأسه في الثامنة، وحين بلغ الثالثة عشرة عين كاهناً في كاتدرائية متز. وفي الخامسة عشرة أرسل إلى كلية نافار بباريس. وفي السادسة عشرة كان قد بلغ من الفصاحة منزلة حملت نساء الأوتيل درامبوبيه المثقفات على إقناعه بأن يلقي عليهن عظة في منتصف سهرة الصالون رغم ما طبع عليه من كبرياء مقترنة بالخجل. وبعد أن تخرج بمرتبة الشرف عاد إلى متز ورسم قسيساً وتقدم بعد قليل لنيل درجة الدكتوراه في اللاهوت. وقد راعه أن يجد أن عشرة آلاف من بين الثلاثين ألف نفس في متز كانوا من البروتستانت الهالكين. ودخل في جدل مهذب مع بول فيري الزعيم الهيجونوتي، وقد سلم له ببعض المفاسد في الممارسات الكاثوليكية، ولكنه زعم أن الانشقاق رغم ذلك شر أعظم. وظل على علاقات ودية مع فيري اثنتي عشر سنة، تماماً كما سنراه في فترة لاحقة يجاهد جهاداً حبياً مع ليبنتز في سبيل إعادة توحيد العالم المسيحي. ولما سمعته آن النمساوية يعظ في متز خيل إليها إنه أرقى من تلك البيئة التي لا تليق بمواهبه، وأقنعت الملك بأن يدعوه إلى باريس، فانتقل إليها في 1659.

ووعظ أول الأمر جماهير بسيطة في دير سان لازار برعاية فانسان دبول. وفي 1660 وعظ جمهوراً عصرياً في كنيسة "لي مينيم" قرب البلاس رويال. وسمعه الملك، فتبين في الخطيب الشاب مزيجاً متوازناً من البلاغة، واستقامة العقيدة، وقوة الخلق. فدعاه لإلقاء عظات الصوم الكبير في 1662 باللوفر، واختلف إلى هذه الخطب في تقوى واضحة، اللهم إلا في ذلك الأحد الذي انطلق فيه على جواده مسرعاً ليسترد لويز دلا فاليير من الدير. وحفز حضور الملك هذه العظات بوسويه على أن ينفي أسلوبه من الجلافات الريفية، والإستشهادات السكولاستية، والحجج الجدلية.

ذلك أن أناقة البلاط انتقلت إلى كبار الأكليروس، فأثمرت عهداً من البلاغة المنبرية ينافس البلاغة القانونية التي أشتهر بها ديموستين وشيشرون. وفي أثناء السنوات الثمانية التالية وفق بوسويه في أن يكون الخطيب المفضل في كنائس القصر، ثم أصبح المرشد الروحي لعدد من كبريات النبيلات مثل هنربيتا "مدام" دورليان؛ ومدام دلونجفيل، ومدموازيل دمونباسيه(106) وكان في بعض عظاته يوجه الخطاب إلى الملك مباشرة، مغالياً في تملقه عادة، ولكنه دعاه مرة بحرارة إلى أن يهجر زناه وفجوره ويعود إلى زوجته. ففقد برهة رضاء الملك، ولكنه استرده حين هدى تورين إلى الكاثوليكية. وفي 1667 اختاره لويس ليؤبن آن النمساوية في مأتمها، وبعد عامين ألقى عظة فوق جثمان هنربيتا ماريا ملكة إنجلترا الأرملة، وفي 1670 أضطلع بواجب أليم هو تأبين هنربيتا الصغرى، تائبته المحبوبة التي فاضت روحها بين ذراعيه في فتنة صباها التي لم يكتب لها بقاء طويل.

والمظتان اللتان أبن بهما تشارلز الثاني ملك إنجلترا وأخته هما أشهر العظات قاطبة في الأدب الفرنسي-لأن خطاب البابا أوربان الثاني الذي ما زال يفوقهما شهرة، والذي استنفر فيه أوربا إلى الحرب الصليبية الأولى (1095)-هذا الخطاب كان باللاتينية وإن ألقي على أرض فرنسية. وأستهل بوسويه أول هذين التأبينين بموضوعه الجريء المفضل ، وهو أن على الملوك أن يتعلموا من دروس التاريخ، وأن الانتقام الإلهي سوف يحل بهم إن لم يستعملوا سلطتهم لخير الشعب، ولكنه بدلاً من أن يرى في تشارلز الأول ملك إنجلترا مثالاً على هذا العقاب، لم يجد فيه عيباً سوى فرط رأفته، ولم يجد عيباً على الإطلاق في زوجته الوفية، فصور الملكة المتوفاة قديسة جاهدت لتهدي زوجها وإنجلترا إلى الكاثوليكية. ثم أستطرد بإسهاب في موضوع آخر محبب إلى نفسه، وهو تكاثر الملل النحل البروتستنتية التي لا حصر لها، وفوضى الأخلاق المنبعثة من اضطراب العقيدة، وقال: إن "التمرد الكبير" كان عقاباُ إلهياً على مروق إنجلترا من كنيسة روما، ولكن ما كان أروع سلوك الملكة بعد إعدام زوجها علة هذا النحو الإجرامي الرهيب! لقد تقبلت أحزانها كفارة وبركة، وحمدت الله عليها وعاشت أحد عشر عاماً في صلاة متواضعة صابرة، وأخيراً أثيبت على تعبها، فرد إلى عرشه، وكان في وسع الملكة الأم أن تسكن القصور من جديد، ولكنها آثرت عليها دبراً في فرنساً، ولم تستعمل ثروتها الجديدة إلا في الاستكثار من أعمال البر.

وكان أشد من هذه تأثيراً وأوثق قرباً للتاريخ وللذكريات الفرنسية تلك العظة التي ألقاها بوسويه بعد عشرة شهور فوق جثمان هنرييتا آن. وكان قد رسم قبيل ذلك أسقفاً لكوندوم في جنوب غربي فرنسا، ومن أجل هذا الخطاب جاء إلى كنيسة دير سان-دنى في كل بهائه الأسقفي، يتقدمه المنادون، وعلى رأسه تاج الأسقفية، وفي إصبعه تتألق الزمردة الكبيرة التي أهدته إياها الأميرة المتوفاة. وفي مثل هذه العظات كان يحد من انفعال الخطيب تفكيره في الموت في صورة عامة، أما الآن فقد كان الموت موت واحدة كانت حتى الأمس القريب مسرة الملك وبهاء البلاط، وأجهش الحبر الجليل بالبكاء وهو يذكر كيف فوجئ القوم مفاجئة أليمة بهذه اللطمة التي جعلت فرنسا كلها تنوح وتتعجب من طرق الله. ثم وصف هنربيتا لا بموضوعية فاترة، بل بتحيز المحبة-"لقد كانت على الدوام لطيفة مسالمة سمحة خيرة(107)"-واكتفى بالإلماع في إيجاز حكيم إلى أن سعادتها لم تتكافأ مع فضائلها. ثم تجاسر حتى هذا الأسقف الأريب ركن السنية الركين وحارسها الأمين-تجاسر لحظة على أن يسأل الله لم يزدهر كل هذا الشر والظلم على الأرض(108). ثم عزى نفسه وجمهوره بذكرى تقوى هنريتا في احتضارها، وبالأسرار المقدسة التي طهرتها من كل علاقاتها الأرضية، غلا ريب إذن أن روحاً رقيقة مطهرة كروحها تستحق الخلاص، بل إنها لتزين الفردوس نفسه!

وبسبب خطأ نادر في الحكم على الأخلاق عين لويس بوسويه (1670) معلماً للدوفان، متأثراً في ذلك ببلاغته تلك-وعهد إليه بتدريب ذلك الصبي المتخلف، المتبلد الحس، على المعرفة والخلق اللازمين لحكم فرنسا. وأنصرف بوسويه مخلصاً لهذه المهمة. فاستقال من أسقفيته ليكون قريباً من تلميذه القاصر ومن البلاط، وكتب للويس الصغير كتيبات جادة في تاريخ العالم والمنطق والإيمان المسيحي والحكم وواجبات المل، مما كان خليقاً بأن يجعل من الصبي هولة من الكمال والقوة.

وفي إحدى هذه المقالات المسماة "السياسة مستقاة من كلام الأسفار المقدسة" (1679-1709) دافع بوسويه عن الملكية المطلقة وحق الملوك الإلهي بغيرة فاقت غيرة الكردينال بيرلارمين في تأييده لسياسة الباباوات. ألم يكتب في العهد القديم أن "الله أعطى لكل شعب حاكمه"(109) وفي العهد الجديد بكل سلطان القديس بولس "إن السلاطين مرتبة من الله(110)"، أجل، ولقد أضاف الرسول قوله "إذن فكل من يقاوم السلطة يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة". واضح إذن أن كل من يقبل الكتاب المقدس كلمة الله يجب أن يكرم الملك باعتباره خليفة لله، أو كما قال أشعيا النبي عن كورش إنه "مسيح الرب(111)". إذن فشخص الملك مقدس، وسلطة الملك مقدسة ومطلقة، والملك لا يسأل إلا أمام الله. ولكن هذه المسئولية تضع على عاتقه التزامات قاسية. فعليه في كل لفظ وعمل أن يطيع قوانين الله، ومن حسن حظ لويس أن إله التوراة كان عطوفاً على تعدد الزوجات.

كذلك كتب بوسويه للدوفان (1679) كتابه الشهير "حديث عن تاريخ العالم". ذلك أنه حين روعه إلماع ديكارت إلى أن جميع الأحداث في العالم الموضوعي-إذا افترضنا لها دفعة مبدئية من الله-يمكن أن تفسر آلياً بأنها منبعثة من قوانين الطبيعة ودستورها، رد عليه بأن كل حدث كبير في التاريخ إنما هو-على النقيض من ذلك-جزء من خطة إلهية، وعمل من أعمال العناية الإلهية أفضى إلى ذبيحة المسيح ونمو المسيحية لتصبح "مدينة متسعة لله". وتناول الكتاب المقدس ثانية باعتباره موحى من الله، فركز التاريخ كله على سيرة يهود العهد القديم والأمم التي أنارتها المسيحية. "لقد أستخدم الله الآشوريين والبابليين ليعاقب شعبه المختار، والفرس ليردهم إلى وطنهم، والإسكندر ليحميهم، وأنطيوخس ليمتحنهم، والرومان ليصونوا حرية اليهود ضد ملوك سوريا". فإذا بدا لنا من هذا الرأي حماقة، فإن علينا أن نذكر أنه كان أيضاً رأى كتاب التوراة الذين وحد بوسويه بينهم وبين الله في ثقة. ومن ثم فقد بدأ بخلاصة لتاريخ العهد القديم، وقام بهذه المهمة بما عرف عنه من ولع بالنظام والإيجاز وقوة البلاغة. واعتمد ترتيبه الزمني على تقويم أوشير رئيس الأساقفة، فأرخَ الخليقة بسنة 4004 ومر بوسويه مرور الكرام بتلك الأمم التي لم يشر إليها الكتاب المقدس، ولكنه وصفها وصفاً مجملاً ينم على بصيرة وقوة ملحوظتين، وأبدا فهماً عطوفاً للفضائل والإنجازات الوثنية. وقد رأى بعض التقدم خلال مشاكل الإمبراطوريات الصاعدة الساقطة؛ واتخذت فكرة التقدم جسداً ولحماً في كتاباته، وكذلك في كتابات شارل بيرو وغيره من المدافعين المعاصرين عن المحدثين ضد القدامى، ومهدت الطريق من بعيد لطورجو وكوندرسيه. وخلق الكتاب رغم كل عيوبه الفلسفة الحديثة للتاريخ وحسب رجل واحد أن يحقق إنجازاً كهذا.

على أن الأمير تلميذ بوسويه لم يقدر شرف تأليف الكتب العظيمة لتعليمه. فقد كان في روح بوسويه من الجد والصرامة ما لا يجعله المعلم اللطيف المرضي. وكان أنسب لطبيعته أن يرشد في رفق لويز دلافاليير لتهرب من حياة الونا إلى الدير، وقد ألقى العظة حين قطعت على نفسها عهد الرهبنة. وفي ذلك العام (1675) جاهر ثانية بلوم الملك الزير، واستمع إليه لويس في صبر نافذ، ولكنه أعاده لمنصب الأسقفية وعينه أسقفاً على مو (1681) على قرب من فرساي يتيح له أن يتذوق فخامة البلاط وبهائه. وكان طوال ذلك الجيل المتكبر، والشارح والقائد العمدة للأكليروس الفرنسي. وقد وضع لأجلهم "المواد الأربع" التي أكدت من جديد "الحريات الغالية" للكنيسة الفرنسية إزاء السيطرة البابوية. ولقد أفقده عملة هذا قبعة الكردينالية، ولكنه أصبح بابا فرنسا. ولم يكن بالبابا السيئ. فهو مع إصراره على كرامة الأسقفية ورعاية مراسمها ظل رحيماً لطيفاً، وبسط عباءته فوق ألواناً كثيرة من المعتقد الكاثوليكي. وقد وافق بسكال على إدانة الشطط الذي تورط فيه الإفتاء الديني دون أن يغتفر له السخط والاحتقار اللذين ألهبا رسائله الإقليمية. ففي 1700 أقنع جمعية الأكليروس العامة باستنكار 127 قضية أخذت من فتاوى المفتين اليسوعيين، وقد ظل على علاقات ودية مع آرنو وغيره من الجانسنيين. وذاع عنه أنه كان متسامحاً في كرسي الاعتراف، وأنه أستنكر مظاهر التقشف في العلمانيين، ولكنه أطرى بحرارة نسك رانسيه، وكان يختلف بين الحين والحين إلى خلوة في التراب، ويتمنا أحياناً أن يظفر بسلام صومعة الراهب. ولكن بريق البلاط غلب طموحه للقداسة، ولوث لاهوته بأطماع الارتقاء في مراتب الكنيسة والدولة. وقد توسل مرة إلى رئيسة الدير في مو قائلاً: "صلي لأجلي لكي لا أحب العالم(112)". وقد أصبح أشد صرامة في أخريات أيامه. وعلينا أن نغتفر له تنديده بالمسرحية وبموليير في كتابه "حقائق عامة عن الملهاة" (1694) لأن موليير لم يعرض الدين إلا في صورته المتزمتة المنافقة، ولم ينصف رجالاً مثل فانسان ديول.

كان بوسويه أشد تعصباً نظرياً منه عملياً. فقد رأى أن من السخف أن يظن أي ذهن فردي مهما عظم ذكاؤه أنه يستطيع أن يكتسب في عمر واحد من المعرفة والحكمة ما يؤهله للجلوس في كرسي القضاء ليحكم على تقاليد ومعتقدات الأسرة والمجتمع والدولة والكنيسة. فالحس المشترك "Sens Commun" أجدر بالثقة من التفكير الفردي، ولا يعني الحس أو الإدراك المشترك فكر الأشخاص العاديين، بل الذكاء الجماعي لأجيال علمتها قرون من الخبرة، الذكاء الذي يتمثل في أعراف النوع الإنساني ومعتقداته. فمنذا الذي يستطيع أن يزعم أنه يعرف خيراً من هؤلاء جميعاً حاجات النفس البشرية والإجابات عن الأسئلة التي لا تستطيع المعرفة وحدها أن تجيب عنها؟ ويترتب على هذا أن الذهن البشري في حاجة إلى سلطة تعطيه السلام، والتفكير الحر لا يستطيع إلا أن يدمر ذلك السلام، والمجتمع البشري في حاجة إلى سلطة تعطيه الأخلاق، ولكن التفكير الحر بتشككه في المصدر الإلهي للقانون الخلقي إنما يهدم النظام الأخلاقي برمته. فالهرطقة إذن خيانة للمجتمع والدولة كما أنها خيانة للكنيسة، و"الذين يؤمنون بأن الملك ينبغي ألا يستعمل القوة في أمور الدين...يرتكبون خطأ مجانباً للتقوى(113)" ولقد آثر الأسقف الإقناع على الإكراه في هداية المهرطقين، ولكنه دافع عن الإكراه باعتباره الملاذ الأخير، ورحب بإلغاء مرسوم نانت لأنه "المرسوم الورع الذي سيكيل للهرطقة الضربة القاضية، ونفذ القانون في إقليمه بكثير من التسامح، حتى لقد كتب الناظر الملكي يقول "ليس في الإمكان عمل شيء في أسقفية مو، لأن ضعف الأسقف يقف عقبة في سبيل هداية الهيجونوت(114)". وقد ثبت معظم الهيجونوت في تلك المنطقة على مذهبهم.

وكان إلى النهاية يعلل نفسه بأن الحجة قادرة أن تكسب حتى هولندا وألمانيا وإنجلترا وتردها للإيمان القديم. وسنراه يفاوض لايبنتز سنوات عديدة على خطة الفيلسوف التي اقترحها لإعادة توحيد القطاعات المنشقة من المسيحية. وفي 1688 كتب رائعته "تاريخ ملل الكنائس البروتستنتية"-وهو الذي قال "بكل" إنه "ربما كان أخطر كتاب وجه ضد البروتستنتية(115). وقد تميزت مجلداته الأربعة بالدراسة الشاقة، وكانت كل صفحة فيها تدعم بالمراجع، وهو لون من الأمانة كان بدأ يتجسد.

وبذل الأسقف في كتابه محاولة ليكون منصفاً. فسلم بمفاسد الكنيسة التي تمرد عليها لوثر، ورأى الكثير مما يستحق الإعجاب في خلق لوثر، ولكنه لم يستطع أن يسيغ الفظاظة المبتهجة التي اختاطت في لوثر بالبسالة الوطنية والتقوى الرجولية. ثم صور ملانكتون بصورة تكاد تكون صورة الحب. غير أنه كان يأمل في تفكيك ولا أتباع هؤلاء المصلحين لهم بإظهار مواطن ضعفهم الشخصي وخلافاتهم اللاهوتية وقد هزأ بالفكرة التي زعمت أن لكل إنسان الحرية في تفسير الكتاب المقدس لنفسه وتأسيس دين جديد على قراءة جديدة له، فكل من خبر الطبيعة البشرية يستطيع أن يتنبأ بأنه لو ترك لهؤلاء الحبل على الغارب لأسفر هذا عن تفتيت المسيحية إلى متاهة من الملل والنحل، وتفتيت الأخلاق إلى فردية لا تستطيع أن يكبح جماح غرائز الغاب فيها سوى الاستكثار من الشرطة استكثاراً لانهاية له. فمن لوثر إلى كلفن إلى سوكينوس-من رفض البابوية، إلى رفض سر القربان إلى رفض المسيح-ثم من التوحيد (رفض التثليث) إلى الإلحاد، تلك هي الدرجات الهابطة شيئاً فشيئاً إلى انحلال الإيمان. ومن الثورة الدينية إلى الثورة الاجتماعية، ومن رسائل لوثر إلى حرب الفلاحين، ومن كلفن إلى كرمويل "المسوين" إلى قتل الملك؛ تلك درجات منزلقة فتحلل النظام الاجتماعي والسلام. ولا يستطيع سوى دين ذي سلطان أن يعطي الوازع للأخلاق، ويمنح الاستقرار للدولة، ويسلح الروح البشرية بالقوة التي تواجه الحيرة وفقد الأحباء والموت.

لقد كان الكتاب حجة قوية، شديدة التأثير بما حوت من ثقافة وبلاغة، محتوية على صفحات لا ضريب لها في نثر ذلك العصر الفرنسي إلا في جدليات بسكال العنيفة و"خواطره" ولولا أن التجاءه للعقل قد أحبطه التجاءه للقوة في فظاعات إلغاء المرسوم نجاحاً أعظم. فقد ظهرت في الدول البروتستنتية عشرات الردود المفندة لحجج الكتاب تشجب بقوة ذلك التظاهر بالاحتكام إلى العقل في رجل حبذ النهب والسلب والنفي والمصادرة والاسترقاق في سفن تشغيل الأسرى للدفاع عن المسيحية الكاثوليكية. وتساءل أصحاب الردود ألم يكن هناك ملل مختلفة في الكاثوليكية أيضاً؟ وأي قرن خلا من الانقسامات في الكنيسة-من الكاثوليك الرومان، والكاثوليك اليونان، والكاثوليك الأرمن، والكاثوليك الشرقيين؟ وألم يكن جانسنيو البور-رويال في تلك اللحظة يقتتلون مع إخوانهم من الكاثوليك أعضاء جماعة يسوع؟ وألم يكن الأكليروس الغالي بزعامة بوسويه نفسه في نزاع مر مع دعاة سلطان البابوية المطلق كاد يبلغ حد الانشقاق على روما؟ ألم يكن بوسويه يقاتل فنيلون؟


فنيلون 1651 - 1715

كان فرانسوا دسالنيك دلا موت-فنيلون، النبيل المولد، الثلاثي الاسم، كبوسويه سنياً طموحاً، أسقفاً ورجل بلاط، ومعلماً لأمير من البيت المالك، وكتاباً من فحول النثر. ولكنه في غير ذلك كان بينه وبين بوسويه ما بين السماء والأرض من تباين. كتب سان-سيمون معرباً عن إعجابه بالرجل يقول:

"رجل فارع القوام نحيل الجسد قوي البنية شاحب الوجه كبير الأنف له عينان تقدحان الشرر والذكاء. في سحنته ما يوحي بأنها تتألف من متناقضات، ومع ذلك فإن هذه المتناقضات على نحو ما لا تؤدي الناظر. فوجهه أنيق وقور، رزين مرح، يطالعك منه اللاهوتي والأسقف والنبيل على السواء، وفي هيئته كما في شخصه يرى الناظر قبل كل شيء رقة وتواضعاً وقدراً فائقاً من رفعة الذهن. لقد كان عسيراً على الناظر إليه أن يحول عينيه عن وجهه(116)".

وعند مييشليه أن "فيه شيئاً من الشيخوخة منذ ولادته(117)"- لأنه كان ثمرة الازدهار الأخير لإقطاعي مكتهل في بيريجوز تزوج آنسة نبيلة رغم فقرها. ضارباً صفحاً عن تذمر أبنائه الكبار، وأقصى الابن الجديد عن المال بنذره للكنيسة. وربته أمه، فشب على أناقة في الحديث ورهافة في الحس أشبه بأناقة حديث النساء ورهافة حسنهن. وقد أحسن تثقيفه في الآداب القديمة على يد معلم خاص ويسوعي باريس، فأصبح أديباً لا قسيساً فحسب. وكان في استطاعته أن يباري أي مهرطق في الاستشهاد بأقوال الوثنيين، ويكتب الفرنسية بأسلوب حساس مرهف مهذب هو نقيض أسلوب بوسويه الخطابي، والفحل، الجزل.

رسم كاهناً في الرابعة والعشرين (1675)، وسرعان ما رقي رئيساً لدير "الكاثوليك الجدد". وهنا أضطلع بمهمة شاقة هي رد الشابات اللاتي أبعدن عن البروتستنتية حديثاً إلى حظيرة الإيمان الكاثوليكي. وقد استمعن إليه أول الأمر على مضض، ثم في استسلام، ثم في محبة، لأنه كان يسيراً على المرء أن يقع في غرام فنيلون، ثم أنه الرجل الوحيد المتاح لهن. وفي 1686 أرسل إلى إقليم لاروشل ليعاون على هداية الهيجونوت. وقد حبذ مرسوم الإلغاء، ولكنه استنكر العنف، وأنذر وزراء الملك بأن هداية الناس بالإكراه لن تكون إلا سطحية ومؤقتة. ولما عاد إلى الدير بباريس نشر (1687) "رسالة في تعليم البنات" تكاد تستشف فيها روح روسو في دفاعها عن الوسائل اللينة في التربية. ولما عين الملك الدوق دبوفيلييه مربياً لحفيده دوق برجنديه، البالغ من العمر ثمانية أعوام، طلب إلى فنيلون أن يتولى تعليم الصبي (1689).

أما الدوق الصغير فكان متكبراً عنيداً مشبوب العاطفة، في طبعه أحياناً شراسة وقسوة، ولكنه أوتي ذهناً متألقاً وذكاء متوقداً. وأحس فنيلون أن الدين وحده هو الكفيل بترويضه، فأشربه مخافة الله ومحبته معاً، واكتسب في الوقت نفسه احترام تلميذه بأخذه بنظام حازم خفف من شدته فهم عطوف لدور المراهقة. وقد راودته الأحلام بإصلاح فرنسا عن طريق تربية ملكها المستقبل. فعلم الغلام سخافة الحرب، وضرورة النهوض بالزراعة بدلاً من تثبيط همم الفلاحين بالضرائب تجبى لبناء المدن الباذخة ولتمويل الحروب العدوانية. وفي كتابه "حوارات الموتى" الذي ألفه لتلميذه، وسم بالهمجية "تلك الحكومة التي لا قوانين فيها غير إرادة رجل واحد...فالحاكم ينبغي أولاً وقبل كل شيء أن يكون مطيعاً للقانون، فإذا ابتعد عن القانون لم يعد لشخصه قيمة". وكل الحروب حروب أهلية، لأن الناس جميعاً أخوة، يدين كل منهم للنوع الإنساني-وهو الدولة الكبرى-بدين أعظم كثيراً من دينه للبلد الذي ول فيه(118)". أما الملك، الذي لم يكن ضالعاً في هذا التعليم الذي لا تفهمه غير القلة، والذي رأى تحسناً عجيباً في خلق حفيده، فقد كافأ فنيلون برئاسة أسقفية كامبريه (1695). وأخجل فنيلون أحباراً كثيرين بإقامته تسعة أشهر من كل عام في مقر رئاسته الدينية. أما الشهور الباقية فكان ينفقها في البلاط تواقاً للتأثير في السياسة، مواصلاً أحياناً تعليم الدوق.

وخلال ذلك كان قد التقى بالمرأة التي قدر لها أن تكون "المرأة القاضية عليه" بمعنى الكلمة. هذه المرأة، واسمها مدام جان ماري دلاموت-جويون، التي تزوجت في السادسة عشرة، وترملت في الثامنة والعشرين وهي جميلة غنية، تهافت الخطاب على طلب يدها، ولكنها كانت قد تلقت تدريباً دينياً مكثفاً ليحصنها ضد الرجال الطامعين، ولم تجد لتقواها منصرفاً كافياً في المراعاة الصورية لشعائر العبادة الكاثوليكية، فاستمعت في تجاوب لمتصوفة زمانها الذين وعدوا بسلام النفس-لا بالاعتراف والتناول والقداس بقدر ما هو بالاستغراق في تأمل إله كلي الوجود، وفي استسلام النفس لله استسلاماً كاملاً محباً. في مثل المحبة الإلهية لم يعد لأمور الدنيا وزن، وفي مثل هذا التسامي الروحي يجوز للمرء أن يهمل كل الطقوس الدينية ومع ذلك يرقى إلى السماء، لا بعد الموت فحسب بل في الحياة أيضاً. وكانت محكمة التفتيش قد أدانت القس الأسباني ميجويل دي مولينوس (1687) لأنه بشر بـ"هدوئية" كهذه في إيطاليا، ولكن الحركة كانت تنتشر في جميع أرجاء أوربا-في "تقوية" ألمانيا والأراضي المنخفضة، وبين الكويكرز وأفلاطوني كمبردج بإنجلترا، وبين "المنذورين" في فرنسا.

وقد بسطت مدام جويون آراءها في عدة كتب ببلاغة مؤثرة. فزعمت أن النفوس أشبه بالسيول التي انبثقت من عند الله وأنها لن تجد الراحة حتى تفني نفسها فيه تعالى كأنها الأنهار يبتلعها البحر، فإذا الفردية تتلاشى،وإذا الوعي بالذات أو بالعالم، بل الوعي كله، ينتهي ولا يبقى غير الاندماج في الله. في مثل هذه الحال تكون النفس معصومة، لا ينال منها خير ولا شر، ولا فضيلة ولا خطيئة. فمهما فعلت ففعلها صواب، ولا تستطيع قوة أن تؤذيها. وقالت مدام جويون لبوسويه "أنها لا تستطيع أن تطلب المغفرة على ذنوبها، لأنه لا ذنوب في عالم الوجد الصوفي الذي تعيش فيه(119)". ورأت بعض نساء الطبقة الأرستقراطية في هذه الصوفية لوناً رفيعاً من التقوى. وكان من بين مريدتها السيدات بوفيلييه، وشوفروز، وبورتمار، بل-إلى حد ما-مدام دمانتنون. واستهوى فنيلون نفسه هذا المزيج الساحر من التقوى والثراء والحسن. وكان خلقه هو ذاته مزيجاً معقداً من الصوفية والطموح والعاطفة الرقيقة. فأقنع مدام دمانتنون بأن تسمح لمدام جويون بالتدريس في المدرسة التي أسستها زوجة الملك السرية في سان سير، وطلبت مانتنون إلى الكاهن اعترافها أن ينصحها في أمر مدام جوريون، فاستشار بوسويه، ودعا بوسويه المتصوفة لتشرح له تعاليمها، ففعلت. وتوجس الأسقف الحذر فيها خطراً يتهدد لاهوت الكنيسة وممارساتها، لأنها لم تستغن عن الأسرار المقدسة والكاهن فحسب، بل عن الأناجيل والمسيح أيضاً، فوبخها، وناولها القربان، وطلب إليها أن ترحل عن باريس وتكف عن التعاليم. فوافقت أول الأمر، ولكنها عدلت بع ذلك. واستطاع بوسويه أن يحمل السلطات على حبسها في دير ثمانية أعوام (1695-1703) أفرج عنها بعدها شريطة أن تعيش في هدوء على ضيعة ابنها قرب بلوا، وهناك ماتت عام 1717.

وأراد بوسويه أن يرسم الحدود للتصوف المباح، فألف كتاباً سماه "تعليم عن حالات الصلاة" (1696) وأطلع فنيلون على نسخة من المخطوطة وطلب إليه أن يوافق عليها. وتردد فنيلون، وكتب كتاباً معارضاً سماه "تفسير أقوال القديسين المأثورة عن الحياة الباطنة" (1697). وأصبح الكتابان اللذان نشرا في وقت واحد تقريباً مثار نقاش واسع، احتدم احتدام النقاش حول البور-رويال. أما الملك الذي كان يضع ثقته في بوسويه فقد عزل فنيلون من وظيفة معلماً لدوق برجنديه، وأمره بأن يلزم أسقفيته في كامبري. وطلب وليس إلى البابا بتحريض من بوسويه أن يشجب كتاب فنيلون. ولكن إنوسنت الثاني عشر تردد، فهو لم ينس نزعة بوسويه الغالية، ودفاع فنيلون عن سلطة البابا المطلقة. وضغط لويس على البابا، فأذعن، ولكنه توخى غاية الاعتدال في إدانته لكتاب " الأقوال المأثورة" (مارس 1699). وأذعن فنيلون للحكم في هدوء.

ثم راح يؤدي واجباته في كامبري بإخلاص وضمير أكسباه احترام فرنسا، ولعلهما كانا خليقين باسترضاء بوسويه والملك لولا أن طابعاً نشر (إبريل 1699) برضى فنيلون رواية كان ألفها لتلميذه الأمير ووضع لها عنواناً بريئاً في ظاهرة "تتمة لأوديسة هوميروس" وهي معروفة لنا باسم (مغامرات تيليماك بن أوليس). هنا، وفي أسلوب يفيض رشاقة ونعومة ورقة أنثوية تقريباً، شرح المعلم مرة أخرى فلسفته السياسية المثالية. فترى لسان حاله (منتور) يحذر الملوك بعد أن أقنعهم بسياسة السلام قائلاً:

"منذ الآن تكونون كلكم شعباً واحداً تحت أسماء شتى ورؤساء مختلفين...فما النوع الإنساني كله غير أسرة واحدة...وكل الشعوب أخوة...وما أتعس القوم الفجار الذين ينشدون المجد القاسي في دماء إخوانهم المسفوكة...إن الحرب ضرورية أحياناً، ولكنها معرة الإنسانية. فلا تزعموا لي أيها الملوك إن على المرء أن يبتغي الحرب إن أراد المجد...فكل من يؤثر مجده على مشاعر الإنسانية ليس إنساناً بل هو وحش تملؤه الكبرياء، ولن يكسب غير المجد الزائف، لأن المجد الحقيقي لا يكون إلا في الاعتدال والصلاح... ويجب ألا يرى الناس فيه رأياً طيباً، لأنه لم يقم لهم وزناً في فكره، وأراق دماءهم في سفه ليرضي غروراً وحشياً(120)". وقد سلم فنيلون بحق الملوك الإلهي، ولكن بوصفه قوة منحتهم إياها العناية الإلهية ليسعدوا الناس، وحقاً تحده القوانين: "إن السلطة المطلقة تهوي بالرعية جميعاً إلى درك العبودية. فهم يتملقون الطاغية إلى حد العبادة. وكلهم يرتعدون فرقاً لنظرة منه، ولكن ما إن تهب أضعف نسمة من نسمات التمرد عليه حتى ينهار هذا السلطان القبيح نتيجة شططه. ذلك أنه لم يستمد أي قوة من محبة الشعب(121)".

في هذه الأسطر رأى لويس الرابع عش نفسه موصوفاً، وحروبه مدانة. وبادر أصدقاء فنيلون بالاختفاء من البلاط، وقبض على طابع "تيليماك"، وأبلغت الشرطة بمصادرة جميع نسخه. ولكنه طبعه ثانية في هولندا، وسرعان ما تداولته الأيدي في جميع أرجاء العالم القارئ للفرنسية، وظل أوسع الكتب الفرنسية قراءة وأحبها إلى القراء طوال قرن من الزمان(122) وأكد فنيلون أن لويس لم يكن في ذهنه في هذه الفقرات الناقدة، ولكن أحداً لم يصدقه. وانقضت سنتان قبل أن يجرؤ دوق برجنديا على الكتابة لمعلمه الأسبق. ثم لانت قناة الملك، وسمح له بأن يزور فنيلون في كامبري.

وعاش رئيس الأساقفة يعلل نفسه بأن تلميذه سيرث العرش عما قليل، وعنها يدعوه ليكون وزيره كما كان ريشليو وزيراً للويس الثالث عشر. ولكن الحفيد مات قبل أن يموت الجد بثلاث سنين، ثم سبق فنيلون نفسه لويس إلى القبر بتسعة أشهر (7 يناير 1715). أما بوسويه فكان قد سبقهما بزمان. لقد كان تعساً في أخريات أيامه، حقاً إنه انتصر على فنيلون، وعلى دعاة السلطة البابوية المطلقة، وعلى المتصوفة، ورأى الكنيسة منتصرة على الهيجونوت، ولكن هذه الانتصارات كلها لم تيسر له قذف الحصى من مثانته. وقد برح به الألم تبريحاً جعل من العسير عليه أن يحتمل الجلوس في المكان الذي أولع بالجلوس فيه في احتفالات البلاط، وتساءل الساخرون القساة، لم لا يستطيع أن يذهب إلى مو ويموت في هدوء. وقد رأى من حوله ظهور الإرتيابية، ونقد الكتاب الكمقدس، والجدليات الروتستنتية العنيفة التي صوبت في غير تقوى إلى رأسه. فها هو على سبيل المثال ذلك الهيجونوتي المنفي جوريو يخبر العالم بأنه هو، بوسويه، أسقف الأساقفة، والصورة المجسمة للفضيلة والاستقامة، كذاب أشر يعاشر المحظيات(122). وقد بدأ تأليف كتب جديدة للرد على هؤلاء الخصوم السفهاء، ولكن الحياة كانت تنحسر عنه وهو يكتب، وفي 12 إبريل 1704 وضع الموت حداً لآلامه.

ويبدوا لأول وهلة أن بوسويه يعين أوج الكاثوليكية في فرنسا الحديثة. فقد لاح أن المذهب القديم قد استرد كل الأرض التي استولى عليها لوثر وكالفن. وكان الرجال الأكليروس يصلحون من أخلاقهم، وراسين يخصص مسرحياته الأخيرة للدين. وكان بسكال قد أدار دوائر الإرتيابية على المرتابين، والدولة جعلت نفسها وكيلاً مطيعاً للكنيسة، والملك أوشك أن يكون يسوعياً.

ومع ذلك لم يكن الموقف بالغ الكمال. فاليسوعيون لم ينقشع من فوق رءوسهم بعد ذلك الغبار الذي أثارته عليهم رسائل بسكال الإقليمية، والجانسنية مازالت بخير، واللاجئون الهيجونوت يؤلبون نصف أوربا على الملك الورع، والناس يقرؤون مونتيني أكثر مما يقرؤون بسكال، وهويز وسبينوزا وبيل يكيلون اللطمات الهائلة لصرح الإيمان. يقول القديس فانسان دبول (1648)، "يشكو عدة رعاة من أن عدد من يتناولون القربان قد تقلص، ففي سان-سولبيس نقص العدد 3000، ووجد راعي سان-نيكولا-دو-شاردونيه أن 1.500 من رعايا أبرشيته تخلفوا عن قربان القيامة(124)". وقال بيل في 1686 "إن العصر الذي نعيش فيه يحفل بأحرار الفكر والربوبيين، ويدهش الناس لكثرة عددهم(125)" "ويسود عدم المبالاة الرهيب بالدين في كل مكان(126)" وقد عزا هذا إلى حروب العالم المسيحي وجدلياته. وقال نيكولا: "ليكن معلوماً أن الهرطقة الكبرى في العالم ليست الكالفنية ولا اللوثرية، بل الإلحاد(127)". وقالت الأميرة بالاتين في 1699 "قل أن يجد المرء الآن شاباً لا يشتهي أن يكون ملحداً(128)" وروى لايبنتز أن في باريس (1703) "تفشت بدعة من يسمونهم العقول القوية، ويسخر الناس هناك من التقوى...وتحت حكم ملك تقي صارم مطلق السلطة، تجاوزت فوضى الدين كل الحدود التي شهدناها من قبل في العالم المسيحي(129)". وبين ذوي العقول القوية-وهي قوية إلى درجة تكفي للتشكك في كل شيء تقريباً-نجد سان إفريمون، ونينون دلانكاو، ورنييه ملخص فلسفة جاسندي، ودوقي نيفير وبوبون. وأصبح "التآميل" الذي كان يوماً مقراً لفرسان المعبد (الداوية) في باريس، مركزاً لجماعة صغيرة من أحرار الفكر-شولييه وسيرفيان، ولافاز، الخ-الذين أسلموا تهكمهم بالدين إلى عهد الوصاية. أما فونتنيل، الذي قارب المائة وتحدى الفناء وأفسح له في الأجل حتى تبادل النكت مع الموسوعيين، فكان في 1687 ينشر كتابه (تاريخ النبؤات) ويقوض في خبث أساس المسيحية المعجز. وهكذا مهد لويس في نشوة تقواه وورعه الطريق لفولتير.