قصة الحضارة - ول ديورانت - م 7 ك 2 ف 15

صفحة رقم : 9939

قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على السلطة -> ريشيليو -> بين ملكين


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامس عشر: ريشليو 1585 - 1642

بين ملكين 1610 - 1624

خلف موت هنري الرابع المفاجئ فرنسا في فوضى متجددة، تأصلت جذورها الكثيرة في صراع النبلاء مع الملكية، والطبقات الوسطى مع الاستقراطية، والكاثوليك مع الهيجونوت، والاكليروس مع الدولة، والملك الصغير لويس الثالث عشر مع أمه، وفرنسا مع النمسا وأسبانيا، أما ذلك العبقري الساحر، الجبار، الذي أحال كل هذه الفوضى نظاماً، وهزم الرجعية الاقطاعية، وهدأ ثورة الهيجونوت، وأخضع الكنيسة للدولة، وأنقذ ألمانيا البروتستنتية من الانهيار، وكسر شوكة الهابسبورج المحدقين بفرنسا، ورفع الملكية الفرنسية إلى سلطانها المطلق في الداخل وإلى أسمى مقام في أوربا- هذا الرجل كان قسيساً كاثوليكياً، وكان أعظم السياسيين في تاريخ فرنسا، وأشدهم دهاء، وأقساهم قلباً. إن بعض مأساة هنري أن وريثه لويس الثالث عشر كان عند موته غلاماً في الثامنة لا حول له ولا قوة. وأن الأرملة التي ترك لها الوصاية عليه كانت امرأة فاقت شجاعتها ذكاءها، على استعداد لتسليم الحكم لمحاسبيها الايطاليين ما دامت تستمتع بلذائذ الحياة في وفرة عامرة، تخلت عن خطة هنري في حرب تشن على الهابسبورج حتى الموت، بل إنها على العكس ألفت بين فرنسا وأسبانيا بتزويج أبنائها من أبناء فليب الثالث- فزوجت ابنها لويس لآن النمسوية، وابنتها اليزابيث للفتى الذي أصبح فيما بعد فليب الرابع- على أن إرادة ريشليو ستكون أقوى من هذا الدم المخلط.

ترك هنري وصلى 41.345.000 جنيه في خزانة الدولة- والتف كونشينو كونشيني، وزوجته ليونورا جاليجالي، ودوق ابيرنون، وغيرهم من أفراد الحاشية المتعطشين للمال، التفوا حول هذا الكنز واستعدوا للإجهاز عليه. وعارض صلى ولكنه غلب على أمره، فاستقال ساخطاً، واعتكف في ضياعه يكتب المذكرات عن مليكه المحبوب. ورأى النبلاء في عجز الحكومة المركزية وفسادها الفرصة لاسترداد سيادتهم الاقطاعية القديمة. فطالبوا بدعوة مجلس الطبقات ظناً بأنه سيكون كما كان من قبل صوتهم وسلاحهم ضد الملكية، وأجيب الطلب. ولكن حين إلتم شمل المجلس بباريس في أكتوبر 1614، أقلقتهم قوة الطبقة الثالثة ومقترحاتهم- هذه الكتلة الشعبية المجردة من النبالة والكهانة، الممثلة يومها كما هي ممثلة اليوم في المحامين، والمعبرة عن قوة الطبقة الوسطى ورغباتها. أما النبلاء والأكليروس الذين وضعوا عراقة الأصل ومسحة الكهانة فوق الثروة والقانون، فقد تحدوا نظام توريث المناصب القضائية الحديث، وهو نظام آذن بخلق نبالة قضائية منافسة. وردت الطبقة الثالثة بطلب التحقيق في المنح والمعاشات العريضة التي تلقاها النبلاء مؤخراً من الحكومة، وطالبت بإصلاح ما فسد في الكنيسة، وعارضت في أن تطبق في فرنسا الأوامر الصارمة التي أصدرها مجمع ترنت، وطالبت بأن يخضع رجال الدين للقوانين والمحاكم التي يخضع لها العلمانيون، وبأن تفرض القيود على اقتناء الكنيسة المعفاة من الضرائب مزيداً من العقارات، وبألا يتقاضى القساوسة أجراً على قيامهم بشعائر العماد والزواج والدفن، وأخيراً دافعت عن سلطة الملك وحقه الإلهي ضد دعاوى النبلاء في حق الهيمنة عليه والبابوات في حق خلعه. كانت تلك ثورة غير متوقعة. فهدئ المندوبون المشاغبون بالوعود وحل المجلس (مارس 1615). ثم نسي أكثر هذه الوعود، واستؤنف الاختلاس وسوء الادارة. ولم يدع مجلس الطبقات مرة أخرى إلا حين انهارت الملكية وطبقتا النبلاء والأكليروس على السواء عام 1789.

على أن الأكليروس من الكاثوليكي الفرنسي اكتسب شرافا باصلاح ذاته اصلاحا مخلصا فعالا. ولم يكن المسئول دائماً عن المفاسد التي أشاعت الفوضى في الكنيسة، لأن كثيراً من المفاسد نجم عن أن الأساقفة ورؤساء الديورة كان يعينهم الملاك أو النبلاء الذين يحيون حياة أشبه بحياة الوثنيين، وأحياناً تساورهم شكوك العقيدة(1). مثال ذلك أن هنري الرابع منح صلى الهيجونوتي أربعة ديورة ليرتزق من دخلها، وعين خليلته "كوريزاند " رئيسة لدير شاتيون- سير- سين. وخلع السادة النبلاء الأسقفيات ورياسات ديورة الرهبان والراهبات على أبنائهم الصغار، وأبنائهم غير الشرعيين، وجنودهم البواسل، ونسائهم الأثيرات. وإذا كانت قرارات الاصلاح الصادرة من مجمع ترنت لم تقبل بعد في فرنسا، فإن عدد الكليات اللاهوتية التي تعد القساوسة كان قليلاً؛ فكل شاب منذور يقرأ نص القداس اللاتيني ويتعلم مبادئ الطقوس يصلح لاختياره للكهنة، وكثير من الأساقفة الذين كانوا رجال دنيا يعيشون على هواهم قبل أن يكافئوا بمنصب الأسقفية عينوا لرعاية الشعب رجالاً حظهم من التعليم قليل ومن التقوى أقل. قال قسيس "لقد أصبح اسم القسيس مرادفا للجهل والفجور(2) ". وقال سان فانسان دبول "أن أعدى أعداء الكنيسة هم كهنتها غير الجديرين بالكهانة "(3).

وقد حاول الأب بوردواز علاج الجانب الخلقي للمشكلة بإنشائه "مجتمع القساوسة " (1610) وهو نظام تطلب من جميع قساوسة الأبرشية أن يعيشوا معاً عيشة البساطة والوفاء بنذورهم. وفي عام 1611 أسس الأب. برول "جماعة المصلى " على غرار مؤسسة شبيهة أقامها القديس فليب نيري في إيطاليا، وقد أصبحت مدرسة لاهوتية لتدريب شباب القساوسة على تعليم وتكريس أفضل وفي عام 1641 نظم الأب جان جاك أولييه الطريقة السلبيسية لاعداد الرجال للكهانة، وفي عام 1646 افتتح مدرسة القديس سلبيس اللاهوتية وكنيستها في باريس وفي عام 1643 ألف الأب جان (القديس يوحنا) أود "جماعة يسوع ومريم " لتأهيل الرجال للكهانة والبعثات التبشيرية. وهكذا أعد أعلام من رجال الأجيال التالية كبوسويه، وبوردالو، ومالبرانش، وأرسى أساس قوة الكنيسة وبهائها في عصر لويس الرابع عشر.

وكشفت طوائف دينية جديدة عن تقوى الشعب ونفخت فيها حياة جديدة. فدخلت الراهبات الأورسوليات فرنسا حوالي عام 1600 واضطلعن بتعليم البنات، ولم ينقض قرن على دخولهن حتى كان لهن 1.000 بيت و 350 جمهوراً من العابدين. ورحبت ماري مديسي بدخول طائفة "أخوة الرحمة " إلى فرنسا، وهي التي أسسها (1540) القديس يوحنا الإلهي في أسبانيا، وسرعان ما أعدت ثلاثين مستشفى. وفي عام 1610 أنشأت بارونة شانتال (القديسة شانتال)، بمساعدة فرانسوا سال، "طائفة السيدة العذراء للافتقاد " لرعاية المرضى والفقراء، وما وافت سنة 1640 حتى كان لها مائة دير، وفي عام 1700 كان لفرع واحد منها أربعمائة دير للنساء. وبلغت جملة الراهبات في فرنسا عام 1600 حوالي ثمانين ألفاً(4).

وهناك رجلان يحتلان مكاناً بارزاً في هذا الإحياء الكاثوليكي الذي حدث في القرن السابع عشر. وأولهما فرانسوا سال الذي اتخذ جزءاً من اسمه من مسقط رأسه القريب من آنسى في سافوا. درس القانون في بادوا وأصبح موظفاً في مجلس شيوخ سافوا. ولكن الدين كان يجري في عروقه، فرسم قسيسا، واضطلع (1594) بمهمة شاقة، هي أن يرد إلى حظيرة الكاثوليكية إقليم شابليه الواقع جنوبي بحيرة جنيف، وكان قد اتبع مذهب كلفن منذ عام 1535. ولم تمض خمس سنوات حتى تمت المهمة، وساعد على ذلك نفي من لم يهتدوا، ولكن أكثر الفضل في إتمامها كان لما أوتي فرانسوا من تقوى وصبر وكياسة مقنعة. فلما رقي أسقفاً كرس نفسه لتعليم الأطفال والكبار وحين زار باريس أحبته نساء الطبقة العليا محبة الإكبار والتبجيل، وأصبحت التقوى هي الزي الفاشي في المجتمع حيناً من الزمن.

أما حياة ثاني الرجلين، وهو فانسان دبول، فقد سلكت مسالك أقل اتباعاً للتقاليد. ذلك أنه بدأ راعي خنازير، ولكنه بطريقة ما وجد سبيله إلى كلية فرانسيسكا بغسقونيا، وإذ كان أبوه- ككل أب كاثوليكي- تواقاً للظفر بثواب الآخرة لأسرته بتكريس أحد ابنائه للكنيسة، فقد باع زوجاً من الثيران ليرسل ولده إلى جامعة تولزو ليدرس اللاهوت، وهناك رسم فانسان قساً (1600). وفي رحلة على بحر المتوسط أسره القراصنة وباعوه عبداً في تونس. ولكن هرب، وذهب إلى باريس، وأصبح قسيساً خاصاً لمارجو طليقة هنري الرابع، ثم أصبح المرشد الروحي لمدام جوندى. وبفضل المال الذي أعانته به هذه السيدة نظم البعثات التبشيرية بين الفلاحين، وبعد كل بعثة تقريباً أسس "ميرة " لإغاثة فقراء الناحية، ورغبة في استمرار هذه المؤسسات نظم "جماعة قساوسة البعث "- ويطلق عليهم أحياناً كثيرة اسم "اللعازريين " نسبة إلى دير القديس لعازر الذي استخدموه مقراً رئيسيا لهم في باريس. ولما كان المسيو جوندي قومتدانا لسفن تشغيل المجرمين الفرنسية فقد اضطلع فانسان بالتبشير للمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة في هذه السفن. وإذ روعته شدائدهم وأمراضهم, فتح لهم المستشفيات في باريس ومرسيليا، وأيقظ ضمير فرنسا لتعامل المسجونين معاملة أفضل. ثم أقنع النساء الميسورات بأن يقمن بالخدمة في المستشفيات بين الحين والحين، وجمع المبالغ الطائلة لتوزيعها على شئون البر؛ ورغبة في التصرف في هذه الأموال، وفي إعانة جماعة "سيدات البر " التي أنشأها، نظم عام 1633 جماعة "أخوات البر " (وكان يفضل أن يدعوهن بنات البر) اللائي يخدمن الآن الانسانية وكنيستهن في أصقاع كثيرة من العالم.

وقد كسب "مسيو فانسان " قلوب كل من عرفوه تقريباً برغم ما افتقر إليه من جاذبية الجسد، وما ارتداه من رث الثياب، وما في طلعته من شبه بمعلم ناموس يهودي ملتح مغضن الوجه، وذلك بفضل جهاده في سبيل الفقراء والمرضى والمجرمين. وقد جمع الأموال الكثيرة، وأنشأ المستشفيات، والملاجئ، والمدارس اللاهوتية، وبيوت الشيوخ، ومعتكفات العلمانيين والقساوسة؛ وقد تضخم حجم الحسابات التي تسجل خيراته. وخلال حرب الفروند التي نشبت بين عامي 1648 و 1653، وأثناء حصار باريس، أشرف على إطعام خمسة عشر الفاً من المعدمين؛ على أن التشبث بالعقيدة هنا غلب نوازع الخير، فقد تطلب اعتراف الشخص بالعقيدة الكاثوليكية شرطاً لنيله الطعام(5). وانضم إلى الحملة على بور- رويال، ولكنه حاول التخفيف من اضطهاد راهباتها(6). فلما مات ناح عليه نصف باريس، وكان شعور الارتياح شاملاً حين سلكته الكنيسة في عداد قديسيها (1737).

وبفضل هذا الرجل، وبفضل فرانسوا سال، وبفضل اليسوعيين الذين لا يتطرق اليأس إلى نفوسهم، وبفضل الخدمة الصادقة التي قدمتها نساء لا حصر لهن، ولدت الكاثوليكية الفرنسية في عهد لويس الرابع عشر ميلاداً جديداً يتميز بالقوة والروع. فعادت الطرق الديرية إلى نظمها، وأصلحت أديار الراهبات نفسها؛ وبدأ الآن بور- رويال وقديسوه الجانسنيون. ووجد التصوف نفراً جديداً من الداعين والممارسين للاستغراق في التأمل المباشر لله. أما الملك الشاب الذي انتقلت إليه حماسة العصر فقد وضع فرنسا في إجلال تحت حماية مريم العذراء، "حتى يكون الفردوس ثواب جميع رعاياه المخلصين... لأن هذه مشيئته الطيبة ومسرة نفسه(7) " على حد قول المرسوم الملكي. واستمر الحراس يوقظون الباريسيين كل صباح كما ألفت فرنسا أيام العصور الوسطى بنداء للصلاة من أجل الموتى الراحلين:

"استيقظوا أيها النائمون

وصلوا لله من أجل الراحلين"

ولكن صراع العقائد واصل طريقه في مرارة. والتزمت ماري مديسي بمرسوم نانت بأمانة على الرغم من تمسكها بعقيدتها، ولكن لا الكاثوليك ولا الهيجونوت كانوا يميلون للتسامح. وندد البابا وسفيره والأكليروس الكاثوليكي بالحكومة لتساهلها مع الهرطقة. وحيث كانت الغلبة للكاثوليك راحوا يشوشون على الخدمات البروتستنتية ويدمرون كنائس البروتستنت وبيوتهم وأحياناً حياتهم(9)، وأخذوا الأطفال عنوة من آبائهم الهيجونوت بحجة أنهم يحولون بينهم وبين تحقيق رغبتهم في اعتناق الكاثوليكية(10). وحيث كان البروتستنت أصحاب الكلمة العليا ردوا على هذا بمثله. فحظروا ترتيل القداس في نحو 250 مدينة خاضعة لهم(11)، وطالبوا بأن تحرم الحكومة المواكب الكاثوليكية في البلاد البروتستنتية، وكانوا يسخرون من هذه المواكب ويشوشون عليها أحياناً يهاجمونها، ومنعوا البروتستنت من حضور شعائر العماد أو الزواج أو المآتم الكاثوليكية، وأعلن رعاتهم أنهم سيمنعون الآباء الذين يتزوج أبناؤهم من الكاثوليك من تناول القربان(12). قال مفكر حر مشهور "بينما كان الكاثوليك نظرياً أكثر تعصباً من البروتستنت، أصبح البروتستنت أكثر تعصباً من الكاثوليك(13) "، ونافس الوعاظ البروتستنت الكهنة الكاثوليك في قمع الهرطقة وتكميم النقد؛ فحرموا جريمي فيرييه (ولكنهم لم يحرقوه) و "أسلموه للشيطان " لأنه هزأ بالمجتمعات الكنسية، وهاجمت كتاباتهم المذهب الكاثوليكي في "كتب قل أن يكون لها نظير في مرارة الشعور، ويستحيل بالتأكيد أن تبزها كتب أخرى(14) " وخشي الهيجونوت إلغاء مرسوم نانت، وساءهم الحلف بين فرنسا وأسبانيا فناضلوا لكي يجعلوا نصيبهم من فرنسا مستقلاً سياسياً، آمناً حربياً، له جيشه وقوانينه الخاصة.

وحين زار لويس الثالث عشر (1620) صدمة ألا يجد كنيسة كاثوليكية واحدة يصلي فيها(15). ونظر الملك الشاب في استياء وفزع إلى مذهب لم يهدد بأن يقسم روح فرنسا فحسب بل جسدها أيضاً. وفتش في لهفة بين حاشيته عن رجل في دمه من الحديد ما يكفل تحويل هذه الفوضى- فوضى العقائد والقوى المفرقة- إلى أمة موحدة.


لويس الثالث عشر

لقد أيقن أنه هو ذاته يفتقر إلى صحة البدن وقوة الذهن التي تتطلبها هذه التحديات. ولد في السنة الثامنة والأربعين لأب ربما أوهن من قواه الافراط الجنسي، لذلك كان يشكو السل، والتهاب الأمعاء، وتعثراً مربكاً في منطقه. وكان في فترات طويلة أضعف من أن يمارس الرياضة، إنه يعزف الموسيقى ويؤلفها، ويزرع البازلاء للسوق، ويسيج أرض الصيد، ويساعد في المطبخ. لم تبق له الوراثة والمرض على أي جمال في القوام أو الوجه، فهو نحيل نحولاً خطراً، ضخم الرأس والأنف، تركت شفته السفلى المتدلية فمه مفتوحاً دائما بعض الانفتاح؛ ينسجم وجهه الطويل الشاحب مع ردائه الكابي عن عمد. ولم تكن معاناته من الطبيعة بأشد من معاناته من أطبائه، فقد فصدوه في سنة واحدة سبعاً وأربعين مرة، وأعطوه 215 حقنة شرجية، وألقموه 212 دواء(16). على أنه احتفظ بالحياة بفضل ممارسته الرياضة حين يستطيع، والصيد، والانضمام إلى جيشه، والنوم في الهواء الطلق، وتناول طعام الجنود البسيط.

كان مدرسوه يضربونه مراراً، لذلك اشتد بغضه للتعلم، ويلوح أنه لم يقرأ قط كتاباً إلا للصلاة. واعتاد أن يتلو صلوات العبادة السبع كل يوم، وقبل في غير تشكك ذلك الايمان الذي لقنه في صباه، وكان ينضم دائماً إلى أي موكب يحمل القربان المقدس ويصاحبه إلى النهاية. وقد أفسدت مزاجه الرقيق بطبعه نزعة مريضة إلى القسوة تنتابه بين الحين والحين.

كان خجولاً، كتمة، مكتئباً، لا يستشعر الحب الشديد لحياة لم تحبه. واعتبرته أمه إنساناً ضعيف العقل، فأهملته، وفضلت عليه في صراحة أخاه الأصغر جاستون، واستجاب لذلك بكرهه إياه وعبادة ذكرى أبيه. ثم اكتسب تدريجاً بغض النساء، وبعد أن تأمل على استحياء جمال الآنسة أو تفور منح الشبان حبه. تزوج من آن النمسوية زواجاً سياسياً، فكان يساق إلى فراشها سوقاً. وحين أسقطت جنينها لم يمسها ثلاثة عشر عاماً. ونصحته بطانته بأن يتخذ له محظية، ولكن كان له ميول أخرى. ثم حاول ثانية وهو في السابعة والثلاثين، مذعناً لمطالبة فرنسا كلها بولي للعهد، وأعطت آن الشاكرة العالم لويس الرابع عشر (01638). وبعد عامين ولدت فليب أورليان الأولى، الذي واصل تقدير أبيه لمفاتن الذكور.

على أن لويس كان له بعض شيم الملوك. من ذلك أنه وهو بعد غلام في السادة عشرة، وقد سئم وقاحة كونشيني واختلاساته المالية، أصدر فجأة أوامره السرية باغتياله (1617)، وحين احتجت الملكة الأم على هذا الختام لحياة محسوبها نفاها إلى بلوا واختار شارل دالبير وزيراً أول له، وكان هو الذي اقترح عليه هذه الضربة، ورقي الآن دوقاً على لون. وتحت إلحاح الدوق والبابا بولس الخامس، أمر لويس الهيجونوت برد كل الأملاك التي أخذوها من الكنيسة. فلما تجاهل إقليم بيارن المرسوم زحف عليه وفرض عليه الطاعة ووضع بيارن ونافار-مملكة أبيه الشخصية فيما مضى-تحت حكم الملك المباشر. ولم يقاوم الهيجونوت من فورهم، ولكن جمعيتهم العامة المجتمعة في لاروشيل أقوى مدنهم، طالبت برد الأملاك المستعادة لأنها ملك للشعب لا للكنيسة؛ ثم قسمت فرنسا ثماني »دوائر« وعينت لكل منها مديراً عاماً ومجلساً لجمع الضرائب والجند. وأعلن لويس أن فرنسا لا يمكن أن تسمح بدولة داخل الدولة. وفي أبريل 1621 قاد جيشاً، وزحف قواده الآخرون بثلاثة جيوش، وجهت كلها ضد القلاع البروتستنتية، فسقط عدد منها، ولكن مونتوبان التي دافع عنها هنري دوق روهان ثبتت للهجوم. وترك القواد غير الأكفاء الحرب تتعثر عاماً ونصف. ومنعت معاهدة الصلح المعقودة في 9 أكتوبر 1622 التجمعات البروتستنتية، ولكنها تركت مونتوبان ولاروشيل في أيدي الهيجونوت وفي خلال هذه الحملات مات لون (1621)، وارتقى ريشليو إلى مركز القوة.


الكردينال والهيجونوت

كيف يشق إنسان طريقه إلى القمة؟ في تلك الأيام كانت تعينه على ذلك عراقة أصله. وكانت أم أرمان جان دبليس دريشليو ابنة محام في برلمان باريس، أما أبوه فهو السنيور دريشليو، المدبر الأكبر لبيت الملك في عهد هنري الرابع وورثت أسرة بواتو العريقة الحق في أن توصي الملك باختيار من ترشح لأسقفية لوسون. وقد عين هنري أرمان بهذه الطريقة (1606) وكان يومها في الحادية والعشرين. وإذ كان أصغر من السن المشترطة للأسقفية بسنتين، فإنه سارع إلى روما، وكذب في أمر سنه، وألقى أمام بولس الخامس خطاباً لاتينياً جميلا حمل البابا على أن يسلم له الأسقفية أما وقد تحقق له »الأمر الواقع«، فقد اعترف ريشليو بكذبته، وطلب المغفرة. وامتثل البابا وهو يقول »إن هذا الفتى سيكون محتالاً كبيراً«(17). وصف الأسقف الشاب أسقفيته بأنها »أفقر وأقذر« الأسقفيات في فرنسا، ولكن كانت الأسرة تملك بعض المال، فما لبث أن امتلك المركبة والآنية الفضية ولم يتخذ وظيفته منصباً شرفياً عاطلاً، بل فرغ لأداء واجباته في اجتهاد ومثابرة، ولكنه وجد الوقت لتملق كل صاحب ذو نفوذ ويسخر كل صاحب قوة. فلما اختار كهنة بواتو مندوباً لمجلس الطبقات (1614) كان أرمان رجلهم، وأعجب كل من كان بالمجلس، لا سيما ماري مديسي، بوجهه الرزين، وقوامه الفارع الممشوق، وقدرته القانونية تقريباً على تفهم الموضوعات تفهماً واضحاً وعرضها عرضاً مقنعاً. وعين سكرتيراً للدولة بنفوذها ونفوذ كونشيني (1616). وبعد عام قتل كونشيني وفقد ريشليو وظيفته. وبعد أن خدم الملكة الأم المنفية في بلوا فترة قصيرة عاد إلى لوسون. وبيتت ماري الهروب؛ واشتبه في اشتراك ريشيليو في المؤامرة، فنفي إلى أفنيون (1618)، وبدا أن مجرى حياته السياسية قد انتهى. ولكن الجميع-حتى خصومه-اعترفوا بقدراته، ولما تدلت ماري ليلاً من إحدى نوافذ قلعتها في بلوا وانضمت إلى قوة من النبلاء المتمردين، استدعى لون الأسقف الشاب وعهد إليه أن يرد الملكة إلى رشدها ويصلح بينها وبين الملك. فأفلح في مهمته، وحصل له لويس على قلنسوة الكردينالية، وعينه في مجلس الدولة. وسرعان ما وضح للعيان تفوق ريشليو عقلاً وإرادة، فأصبح رئيساً للوزراء في أغسطس 1624 وهو في التاسعة والثلاثين.

وقد وجد الملك فيه بالضبط تلك الصفات التي افتقدها في نفسه: الذكاء الموضوعي، والهدف الواضح، وصلابة الغايات، ومرونة الوسائط، وكان للويس من الحصافة ما جعله يتقبل ارشاد الكردينال في المهمة الثلاثية -مهمة اخضاع الهيجونوت، والنبلاء، وأسبانيا، قال ريشليو في مذكراته مقدراً له هذه الخلة »إن قدرة الملك العظيم على أن يسمح بأن يخدم (أي بأن يفوض غيره بالسلطة) ليست من أقل صفات الملك العظيم شأناً(18)«. لم يكن لويس متفقاً مع وزيره في جميع الحالات، وكان أحياناً يوبخه، وكان دائماً يغار منه، وقد فكر بين الحين والحين في طرده. ولكن أبى له أن يرفض رجلاً مطلق السلطة في فرنسا وصاحب الكلمة العليا في أوربا، ويحصل له من الضرائب أكثر حتى مما كان صلى يجمعه؟

وتجلت روح الكردينال أول ما تجلت في موقفه من الدين. فلقد قبل في غير نقاش عقائد الكنيسة، وأضاف إليها بعض الخرافات التي يعجب المرء لأن عقلاً أوتي مثل هذه القوة آمن بها. ولكنه رفض ما ذهب إليه حزب »مؤيدي سيادة البابا المطلقة« من أن للبابوات كامل السيادة على الملوك، وحافظ على »الحريات الغاليَّة« للكنيسة الفرنسية ضد روما، وأخضع الكنيسة للدولة في الأمور الزمنية بنفس المضاء الذي أخضعها به أي إنجليزي، ونفي الأب كوسان، الذي تدخل في السياسة بوصفه كاهن الاعتراف الملكي، ففي رأيه أن أي دين من الأديان يجب ألا يختلط بشئون الدولة. أما التحالفات التي أدخل فيها فرنسا فكانت مع الدول البروتستنتية والكاثوليكية على السواء.

وقد طبق مبادئه في حزم على الهيجونوت المشتغلين بالسياسة، ذلك انهم برغم صلح 1622 جعلوا لاروشيل مدينة صاحبة سيادة من الناحية الفعلية، يشرف عليها تجارها ووزراؤها وقوادها. ومن هذا الميناء الاستراتيجي أرسل التجار تجارتهم مع العالم، وأقلع القراصنة ليقتنصوا أية غنيمة أو مركب، حتى المراكب الفرنسية، وكان في استطاعة أي عدو لفرنسا أن يدخل البلاد من هذا الميناء إذا أذن له الهيجونوت. كذلك انتهك لويس ذاته المعاهدة، فقد وعد بهدم »حصن لويس« الذي كان خطراً دائماً على المدينة، ولكنه بدلاً من أن يهدمه زاده تحصيناً، وحشد أسطولاً صغيراً في ثغر لابلافيه القريب. فأسر بنيامين روهان (أخو هنري)، سيد سوبيز، الذي قاد أسطولاً هيجونوتياً، هذا الأسطول الملكي وقطره ظافراً إلى لاروشيل 01025) لذلك بنى روشيليو أسطولاً آخر، ونظم جيشاً، ورافق الملك في حصاره للقلعة الهيجونوتية.

وأقنع سوبيز دوق بكنجهام بأن يرسل أسطولاً ضخماً قوامه 120 سفينة لحماية المدينة. فحصر الأسطول، ولكنه عانى الويل من مدفعية الحصون الملكية القائمة على جزيرة ري. فاضطر إلى التسلل عوداً إلى إنجلترا وهو يجر أذيال الخزي والعار (1627). وكان ريشليو خلال ذلك قد استولى على جميع الطرق البرية المؤدية إلى لاروشيل (بوصفه قائداً لملكه المريض). ولم يبق إلا حصارها من البحر. فأمر مهندسيه وجنده أن يقيموا تلاً من الحجر طوله 1700 ياردة بعرض مدخل الميناء، تاركين فتحة لحركة المد والجزر. وقد بلغ عنف هذه الحركة، التي ارتفعت فيها المياه وهبطت اثني عشر قدماً، مبلغاً جعل تنفيذ المشروع يبدو مستحيلاً، ففي كل يوم كان الماء يكتسح نصف الأحجار المبنية يومها. وملّ الملك هذه الحرب التي لم تسفك فيها دماء وانطلق إلى باريس، وتوقع كثير من رجال الحاشية أنه طارد ريشليو لعجزه عن أخذ المدينة عنوة. ولكن التل اكتمل بناؤه أخيراً وبدأ مهمته المرسومة. ومات نصف سكان لاروشيل جوعاً. ولم يستطع الحصول على القليل من اللحم غير أغنياء القوم، فكانوا يدفعون خمسة وأربعين جنيهاً ثمناً للقط، وألفي جنيه ثمناً للبقرة. أما جان جيتون عمدة المدينة فقد توعد كل من يجري على لسانه حديث الاستسلام بالقتل بخنجره. ولكن المدينة استسلمت في يأسها بعد ثلاثة عشر شهراً من المجاعة والمرض (30 أكتوبر 1628). ودخلها ريشليو ممتطياً جواده من خلفه الجند يوزعون الخبز رحمة بالناس.

وتصايح نصف فرنسا مطالباً باستئصال شأفة الهيجونوت. ولم يكن في وسعهم-بعد أن أضنتهم الحرب-إلا أن يتوسلوا. ولكن ريشليو فاجأهم بشروط صلح رأى فيها الكاثوليك تساهلاً شائناً. صحيح أن لاروشيل فقدت استقلال بلدتها، وحصونها، وأسوارها، ولكن أشخاص سكانها وأملاكهم لم تمس، وسمح لمن بقي من الجنود الهيجونوت بالرحيل بأسلحتهم، ومنحت حرية العبادة في المدينة للبروتستنت والكاثوليك على السواء، وتلقت مدن هيجونوتية أخرى مثل هذه الشروط بعد استسلامها. ووجب رد الأملاك الكاثوليكية التي انتزعها البروتستنت، ولكن القساوسة الهيجونوت الذين فقدوا مأواهم مؤقتاً عرضوا باعانة من الدولة بلغت 200.000 جنيه، واعفوا من فرضة الرؤوس (آلتاي) شأن الأكليروس الكاثوليك(19). ومنح عفو عام لجميع من شاركوا في التمرد. وثبت مرسوم نانت الذي أصدره هنري الرابع في كل نصوصه الجوهرية، بمرسوم ريشليو المسمى »مرسوم العفو« (28 يونيو 1629) وفتحت وظائف الجيش والبحرية والحكومة أمام الجميع دون نظر للعقيدة. وأذهل أوربا أن ترى الكاثوليك الفرنسيين يتبعون ويبجلون قواداً من البروتستنت كتورين وشومبير وهنري روهان. قال ريشليو »منذ ذلك الحين لم تمنعني قط خلافات الدين عن أداء كل أنواع الخدمات للهيجونوت(20)«. وقد تبين الكردينال العظيم، في حكمة افتقدها لويس الرابع عشر فيما بعد افتقاداً مؤسفاً، قيمة الهيجونوت الاقتصادية الهائلة لفرنسا-كما سيتبينها كولبير. ومن ثم فقد أقلعوا عن الثورة، وانصرفوا في هدوء إلى التجارة والصناعة، وأصابوا من التوفيق والفلاح ما لم يصيبوه في أي وقت مضى.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكردينال والأشراف

بمثل هذا المضاء، وبتساهل أقل، تناول ريشليو النبلاء الذين ما زالوا يرون في فرنسا التعدد لا الوحدة. لم تكن الاقطاعية قد ماتت قط، فلقد حاربت من قبل في الحروب الدينية لتهيمن على الحكومة المركزية. وكان كبار النبلاء يحتفظون بقلاعهم المنيعة، وقواتهم المسلحة، وحروبهم الخاصة، وبطاناتهم، وموظفيهم القانونيين، وبفلاحيهم تحت رحمتهم، ويتقاضون الرسوم المعوقة على التجارة التي تخترق أملاكهم. إن فرنسا لم تكن بعد أمة لأن الاقطاع والدين قطعا أوصالها، بل كانت مجموعة مضطربة قلقة من البارونات المغرورين، أشباه المستقلين، القادرين في أية لحظة على تكدير السلام وتمزيق اقتصاد الدولة. وكان أكثر الأقاليم يحكمه الأدواق أو الكونتات الذين يدعون لأنفسهم حق حكمها مدى الحياة ويورثونها أبناءهم.

ولاح لريشليو أن البديل العملي الوحيد لهذه الفوضى المضعفة هو تركيز النفوذ والسلطة في الملك. ويخيل إلينا أنه ربما أمكنه أن يجاهد ليوازن هذا التركيز برد قسط من الاستقلال للبلديات. ولكنه لم يستطع رد كومون العصر الوسيط الذي اعتمد على نقابات التجار والصناع والاقتصاد المحلي المحمي؛ ذلك أن الانتقال من سوق المدينة إلى سوق الأمة قوض هذه النقابات والكومونات، وتطلب التشريع المركزي لا المحلي . ولعل العقول التي تجمدت في الأوضاع الحاضرة لا ترى في السلطة الملكية المطلقة التي نشرها ريشليو غير استبدادية رجعية؛ أما في رأي التاريخ، وفي رأي الكثرة الغالبة من الفرنسيين في القرن السابع عشر. فإنها كانت تقدماً حرر البلاد من الطغيان الاقطاعي إلى الحكم الموحد. لم تكن فرنسا قد نضجت بعد للديمقراطية، فأكثر سكانها مفتقرون إلى الغذاء الطيب والكساء الجيد، أميون، رانت على عقولهم الخرافة وتوحشت نفوسهم بفعل التعصب للعقيدة. وكانت المدن يهيمن عليها رجال الأعمال الذين لا يستطيعون التفكير إلا في كسبهم او خسارتهم، ولم يكن هؤلاء الرجال، الذين عرقلت الامتيازات الاقطاعية كل خطوة من خطواتهم، ميالين إلى الاتحاد مع صغار النبلاء كما حدث في إنجلترا لإقامة برلمان يقف في وجه السلطة الملكية. ولم تكن »البرلمانات« الفرنسية برلمانات تمثيلية تشريعية، إنما كانت محاكم عليا غذتها السوابق ورسختها، ولم تكن منتخبة من الشعب، وقد غدت قلاعاً للمحافظة. وحبذت الطبقات الوسطى، ومهرة الصناع، والفلاحون، سلطة الملك المطلقة بوصفها الحماية الوحيدة التي يرونها ضد سلطة النبلاء المطلقة.

في عام 1626 أصدر ريشليو باسم الملك مرسوماً طعن في الصميم، فقد أمر بهدم جميع القلاع إلا ما كان منها على الحدود، وحظر تحصين المساكن الخاصة في المستقبل. وفي نفس العام (بعد أن مات أخوه الأكبر منه سناً في مبارزة) اعتبر المبارزة جريمة كبرى، فلما تبارز مونمورنسي بوتفيل والكونت دي شابيل برغم هذا الأمر أعدمهما. وقد اعترف بأنه »يحس كدراً شديداً في روحه« لهذا الاجراء، ولكنه قال لمولاه »إن الأمر خيار بين القضاء على المبارزات أو على أوامر جلالتكم(21)«. وأقسم النبلاء أن ينتقموا من الوزير، وراحوا يتآمرون على اسقاطه.

وقد وجدوا في الملكة الأم حليفاً مشوقاً إلى الانتقام منه. فهذه الأم التي كانت يوماً ما حامية ريشليو باتت تبغضه حين رأته يعارض سياستها، ولما مرض لويس مرضاً خطيراً (يوليو 1630) مرضته هي والملكة حتى استعاد بعض صحته، ثم طلبا إليه رأس الكردينال مكافأة لهما. وكررت ماري مديسي المطلب بالحاح شديد وهي في قصرها-قصر للكسمبورج-ظانة أن ريشليو بعيد جداً، ثم اقترحت ميشيل دمارياك، حامل الأختام، بديلاً راغباً في الحلول محله. ولكن ريشليو الذي أتى بطريق ممر سري، دخل الحجرة في غير إذن وواجه الملكة الأم، واعترفت بأنها أخبرت الملك بأن عليه أن يختار بين أن تذهب هي أو هو-أي ريشليو. وانسحب الملك المرهق، وانطلق راكبا إلى كوخ صيده في فرساي. وتقاطرت الحاشية حول ماري في اغتباط بفوزها المنتظر. ولكن لويس أرسل في طلب ريشليو، وثبته رئيساً للوزارة، وأكد له مساندة الملك له، ووقع أمراً بالقبض على مارياك. وأشاع »يوم المغفلين« هذا في (10نوفمبر 1630) الفوضى والحنق في صفوف النبلاء المتآمرين. وسمح لمارياك بالبقاء حياً، ولكن أخاه الذي كان مرشالاً لفرنسا اتهم بعد ذلك بالاختلاس وأعدم في شيء من العجلة (1632) وأمر لويس أمه أن تعتكف في قصرها الريفي بمولان وأن تنفض يدها من السياسة. ولكنها هربت إلى فلاندر بدلاً من ذلك (1631)، وجمعت لها حاشية في منفاها ببروكسل، وراحت تعمل لاسقاط ريشليو. ولم تقع عيناه قط على الملك بعد ذلك.

أما ولدها الثاني، »مسيو« جاستون، دوق أورليان، فقد حشد جيشاً في اللورين وقاده في تمرد صريح على أخيه (1622). وانضم إليه نبلاء، ومنهم أرفع شريف في فرنسا-هنري، دوق مونمورنسي، وحاكم لانجدوك. وانضوى الآلاف من الطبقة الارستقراطية تحت لواء الثورة. وعلى مقربة من كاستلونداري (أول سبتمبر) اشتبك مونمورنسي، البالغ من العمر سبعة وثلاثين ربيعاً، مع القوات التي جردها عليه ريشليو. وقاتل حتى أسقطه سبعة عشر جريحاً، وتحطم جيشه هو وجاستون تحت وطأة الهجوم، وكان جيشاً غنياً في الألقاب فقيراً في النظام، وأسر مونمورنسي. واستسلم جاستون، ودل على شركائه ثمناً للعفو عنه. وأمر لويس برلمان تولوز بأن يحاكم مونمورنسي بتهمة الخيانة؛ وكان الحكم هو الاعدام. وهكذا مات آخر أدواق مونمورنسي دون خوف أو تذمر وهو يقول »أنني أعد هذا الأمر الذي أصدره قضاء الملك أمراً أصدرته رحمة لله(22)«. وأدان معظم فرنسا الكردينال والملك لهذه الصرامة المجردة من الشعور، وأجاب. لويس »ما أنا بملك لو كان لي شعور الأشخاص العاديين«. أما ريشليو فدافع عن الإعدام بأنه إنذار ضروري للنبلاء بأنهم هم أيضاً خاضعون للقوانين قائلاً »لا شيء يدعم القوانين كعقاب الأشخاص الذين تعظم رتبتهم عظم جريمتهم«(23). بقيت عقبتان أخريان في طريق سياسة ريشليو، ولاة الأقاليم والبرلمانات. لقد ساء الكردينال فقدان إيراد الأقاليم بسبب ما شاب سلوك الولاة النبلاء والقضاة من البورجوازيين أو صغار النبلاء عن فساد ونقص في الكفاية، لذلك أوفد الكردينال لكل قسم »محافظين« للإشراف على إدارة المالية والقضاء وتنفيذ القوانين. واتخذ هؤلاء الموظفون الملكيون مكاناً أعلى من الموظفين المحليين كائنة ما كانت رتبتهم، واضمحل استقلال الأقاليم الذاتي، وانتعشت الكفاية وزادت حصيلة الضرائب. ونظام المحافظين هذا الذي استبق هنري رابع إليه بقدر ما، والذي عطله النبلاء في الفروند، والذي دعمه لويس الرابع عشر، ثم اقتبسه نابليون-هذا النظام أصبح من الملامح البارزة للبيروقراطية المحكومة مركزياً والتي أدارت منذ الآن قوانين فرنسا.

أما برلمان باريس فقد خيل إليه أن الفرصة في ظل ملكية ضعيفة مواتية لتوسيع وظائفه من تسجيل القوانين وتفسيرها إلى دور المجلس الاستشاري للملك. ولكن ريشليو ما كان ليطبق مثل هذه المنافسة لمجلس دولته، فدعا لويس زعماء البرلمان، على الأرجح بتحريض منه، مستعملاً مباراته الحادة، وقال لهم »لقد عينتم لا لشيء إلا لتقضوا بين زيد وعمرو من الناس، فإذا تماديتم أنتم فيه فاني مقلم أظافركم تقليماً حاداً تأسفون له(24)«. وأذعن برلمان باريس، وحذت برلمان الأقاليم حذوه، واختزلت وظائفهم حتى التقليدي منها، فأقام ريشليو »لجاناً فوق العادة« لتنظر في الدعاوى الخاصة. وأصبحت فرنسا دولة بوليسية، وانتشر جواسيس الكردينال في كل مكان حتى في الصالونات، وغدت »الأوامر المختومة« أداة مألوفة في الحكم. وهكذا أصبح ريشليو الآن في حقيقة الأمر وواقعه ملك فرنسا.


الكردينال صاحب الكلمة العليا

أما وقد ملكت يداه هذه السلطة المركزة، فقد فعل كل شيء من أجل فرنسا، ولم يفعل إلا القليل من أجل الشعب. كان يرى فرنسا دولة لا مجموعة من الأفراد الأحياء، أنه لم ينظر إلى الرجل العادي نظرة مثالية، ولعله رأى »العذوبة واللياقة« في أن يموت أمثال هؤلاء الرجال في سبيل وطنهم، فهو راغب في التضحية بهم ليؤمن وطنه المستقل من تطويق الهابسبورج له. وكان يشقى ساعات الليل الطويلة في تصريف شئون الدولة، ولكن همه كان أكثر الوقت سياستها الخارجية. لم تكن لديه متسع من الوقت لتحسين الاقتصاد، إلا أن يكون لتصيد المتهربين من الضرائب وجلب الدخل و »الأنباء« لباريس بقدر أقل من التسرب وهي في الطريق. وفي عام 1627 نظم البريد العام.

وكانت الضرائب ما زال يجمعها رجال المال الذين »أقطعوا« هذه الضرائب، وكانوا يقتضون المثلين، وأحياناً ثلاثة أمثال المبلغ الذي يؤدونه للحكومة. وقد أعفى النبلاء ورجال الدين من الضرائب الهامة، ووجد مهرة رجال الأعمال وثروات الموظفين المختزنة السبيل للتهرب من الجباة أو استرضائهم، أما المدن فكانت تدفع مبلغاً صغيراً لتنجو من فرصة الرؤوس، ووقعت وطأة الضرائب على طبقة الفلاحين التي قصدها ريشليو وحتى الفاقة ليجعل من فرنسا أقوى دوراً في العالم المسيحي. وكان كهنري الرابع يؤثر أن يقهر أعداءه بالمال لا بالدم، وكثير من المعاهدات التي خاض بها الحرب تضمن إعانات مالية للحلفاء ورشا للأعداء المحتملين. وكان أحياناً يقرض الخزانة من جيبه الخاص إذ أعوزه تدبير المال، ومرة أستأجر أحد المشتغلين بالكيمياء القديمة ليصنع الذهب(25). وتضافر نظام الضرائب، والسحرة الحكومية على الطرق، مع الجفاف والمجاعة والطاعون وغارات الجنود، لتدفع الفلاحين إلى حال من اليأس تقرب من الانتحار، حتى لقد قتل عدد منهم أسرهم وأنفسهم، وقتلت الأمهات الجائعات أطفالهن وأكلتهم (1639)(26). وفي عام 1634، في رواية ربما بولغ فيها، كان ربع سكان باريس يتسولون(27). وكان الفقراء ينتفضون في فترات دورية وأوقات متفرقة انتفاضات قمعت في غير رحمة.

واستخدم ريشليو الضرائب لبناء الجيوش والأسطول؛ ذلك أن الحق في رأيه لا يجد إذناً صاغية إلا إذا تكلم بالمدفع. ولما اشترى منصب الأميرال لاكير، قام بواجباته بعزيمة ماضية. فأصلح الموانئ وحصنها، وأنشأ الترسانات ومخازن الذخيرة في الثغور، وبنى خمساً وثمانين سفينة، وأسس مدارس لمرشدي السفن. ودرب أفواج الجنود البحريين. وجند مائة فوج من المشاة، وثلاثمائة جندي من الخيالة؛ ورد النظام إلى الجيش. ولم يخفق غلا في جهوده لاقصاء مومسات الجيش. وبفضل هذه القوات الحربية التي بث فيها الحياة من جديد تصدى لفوضى العلاقات الخارجية التي خلفتها وصاية ماري مديسي، وعاد إلى سياسة هنري الرابع، ووجه كل قواته لهدف واحد-هو تحرير فرنسا من نطاق القوة الهابسبورجية في الأراضي المنخفضة والنمسا وإيطاليا وأسبانيا. كانت ماري قد ألفت بين فرنسا وأسبانيا-أي أنها في رأي ريشليو خضعت للعدو، وأقصت أولئك اللذين اعتمد هنري الرابع على صداقتهم وهم الإنجليز، والهولنديون، وبروتستنت ألمانيا. ورأى ريشليو بعين القائد الاستراتيجية اللماحة أن الممرات الفاتيلية التي تربط النمسا بإيطاليا الأسباينة هي المفتاح لقوة أسبانيا والإمبراطورية الموحدة في تبادل المؤن والجنود. وكافح اثني عشر عاماً لظفر بهذه الممرات، وقد صرفته عن هذا الهدف وهزمته حروبه مع الهيجونوت والنبلاء، ولكنه استرد بالدبلوماسية أكثر كثيراً مما خسر في الحرب. ذلك أنه اكتسب »فرانسوا اوكليرك دوترمبليه« خادماً أميناً، وكان قد اتخذ اسم جوزف حين أصبح راهباً كبوشياً. وأوفد »الأب جوزف« في كل مكان في بعثات دبلوماسية شائكة فأداها بمهارة، وبدأت فرنسا تزاوج بين الراهب الرمادي العباءة الذي لقبته »صاحب القداسة الرمادي«، وبين ريشليو ذي العباءة الحمراء الذي لقبته »صاحب القداسة الأحمر«. أما وقد ظفر الكردينال بهذا المعين، فإنه أقسم أنه »مثبت للعالم أن عصر أسبانيا في سبيل الزوال«، وأن عصر فرنسا قد أقبل(28).

في عام 1629 بدا أن الصراع الطويل في ألمانيا أوشك ان ينتهي بنصر الإمبراطور الهابسبورجي الكاثوليكي نصراً مؤزراً على الأمراء البروتستنت. ولكن ريشليو قلب الأوضاع قلباً كاملاً بالمال. ذلك أنه أبرم مع جوستاف أدولف (1631) معاهدة نصت على أن يغزو ملك السويد المغوار ألمانيا وينقذ الدويلات البروتستنتية، يعينه على ذلك مليون من الجنيهات تدفعها له فرنسا كل عام. وندد أنصار السلطة البابوية المطلقة في فرنسا بالوزير خائناً لدينه، أما هو فكان رده أن الحياد خيانة لفرنسا. فلما مات جوستاف وهو ظافر في لتزن (1632) واستسلم معظم الأمراء الألمان للإمبراطور، دخل ريشليو الحرب فعلاً. وزاد الجيوش الفرنسية من 12.000 في عام 1621 إلى 150.000 في عام 1638. وأعان الثورة التي قام بها القتلونيون في أسبانيا، وبفضل دبلوماسيته سيطر على كوبلنتز، وكولمار، ومانهايم، وبازل، واستولى جنوده على اللورين وشقوا طريقهم عنوة مخترقين سافوا إلى ميلان قلب القوة الأسبانية في شمال إيطاليا.

ثم دار الحظ دورته وبدا أن كل هذه الانتصارات لا معنى لها. ففي يوليو أغسطس 1636 عبرت قوة كبيرة من الجيوش الأسبانية والامبراطورية الأراضي المنخفضة ودخلت فرنسا، واستولت على أكس-لا-شابل (آخن) وكوربي, وزحفت على أميان واجتاحت أودية السوم والواز الخضراء. وكانت جيوش ريشيلو بعيدة جداً، وأصبح الطريق إلى باريس مفتوحاً عديم الدفاع أمام العدو. واغتبطت الملكة الأم في بروكسل، والملكة سان جرمان، وحزبها الموالي لأسبانيا في فرنسا، وراحوا يعدون الايام لسقوط الكردينال المنتظر. وازدحمت الجماهير الغاضبة في باريس في الشوارع منادية بموته - ولكن حين طلع عليهم بادئ الهدوء فوق جواده المهيب لم يجرؤ أحد منهم على أن يمسه، وابتهل الكثيرون لله أن يمنحه القوة لانقاذ فرنسا. وهنا لم تتضح شجاعته فحسب، بل بعد نظره واجتهاده؛ ذلك انه كان قد نظم منذ أمد بعيد مواطني باريس في ميليشيا احتياطية، واختزن السلاح والمؤونة لهم، ومن ثم فقد نفخ الآن فيهم روح الحماسة فاستجابوا لندائه، وأقر برلمان باريس والمجالس البلدية والنقابات الحرفية المال اللازم، ولم تمض أيام حتى كان جيش جديد في طريقه إلى القتال، فحاصر كوربي. وتلكأ جاستون أورليان المتولي قيادة الجيش، فحضر ريشيلو، وتولى القيادة، وأمر بالهجوم. وفي 14 نوفمبر سقطت كوربي، وتقهقرت الجيوش الهابوسبورجية إلى الأراضي المنخفضة.

وفي عام 1638 استولى برنان أمير ساكسي-فيمار الذي قاد جيشاً ألمانياً يموله ريشيلو، على ألزاس، فلما مات بعد سنة أوصى بها لفرنسا، وأصبحت الرأس ولوثرينجن الالزاس واللورين، وبدأت تتحول فرنسية. وفي عام 1640 سقطت أراس. وفي عام 1642 استولت قوة يقودها الملك والكردينال على بربنيان، واقتطع إقليم روسيون المحيط بها من أسبانيا. وهكذا بدا ريشيلو الآن في كل مكان المنظم للنصر.

على أن النبلاء الذين ظلوا على خصومتهم، والحزب الأسباني في البلاط، والنساء النبيلات المغرقات في الدس، كل أولئك بذلوا آخر محاولة لإسقاط الوزير عن كرسيه. ففي سنة 1632 مات المركيز إفيا بعد أن خدم الكردينال طويلاً في الدبلوماسية والحرب تاركاً أرملة وغلاماً وسيماً في الثانية عشرة من عمره يدعى هنري كوافييه دروزيه، مركيز سانك- مارس. وبسط ريشيلو حمايته على الصبي وقدمه للملك، ولعله رأى بهذه اللعبة أن يصرف لويس عن الآنسة أوتفور التي كانت واحدة من »الدساسات«. وهذا ما حدث فقد افتتن الملك بحسن الغلام وظرفه ووقاحته، وعينه مشرفا على خيول الملك ورجاه أن يشارك الملك في فراشه(29). ولكن سانك-مارس، الذي نضج الآن إذ بلغ الحادية والعشرين، آثر المحظية الحسناء ماريون ديلورم، وماري دجونزاج المتعالية، ملكة بولندة المستقبلة، التي كانت الآن من أجمل خصوم الكردينال. ولعل الشاب ألح على لويس أن يدخله عضواً في مجلس الملك ويجعله قائداً في الجيش بإيعاز منها وإثارة من خلواتها الاستراتيجية. فلما لم يرض ريشيلو عن هذه المقترحات التمس سانك - مارس من الملك أن يطرد وزيره. ورفض الملك، فانضم الفتى إلى جاستون أورليان ودوق بويون وغيرهما في مؤامرة لتسليم سيدان إلى الجيش الأسباني، واتفق على أن يدخل المتآمرون باريس وهذا الجيش من خلفهم ويعتقلوا الملك، وتعهد جاستون بأن يدبر اغتيال الكردينال في طريقه إلى بربنيان. والتمس جاك أوجست دتو، صديق سانك - مارس، تعاون الملكة. ولكن آن النمسوية التي توقعت موت لويس القريب ووصولها إلى السلطة بوصفها وصية أرسلت إلى ريشيلة إشارة خفية بالمؤامرة. وتظاهر هذا بأن لديه نسخة من الاتفاق مع أسبانيا، فصدقه جاستون واعترف، ثم دل على شركائه كما هي العادة. وقبض على سانك - مارس، ودتو، وبويون. وأيد بويون اعتراف جاستون ثمناً للعفو عنه. وحوكم الشابان أمام محكمة في ليون، فدينا بالإجماع، وشرفا خيانتهما بموت رابط الجأش. وهرع الملك إلى باريس ليحمي قوته. أما ريشيلو، المريض مرضاً مميتاً، فقد حمل على محفة مخترقاً بلداً يموت من الانتصارات ويصرخ طلباً للسلام.


رثاء

أي رجل كان هذا الكردينال الذي لم يكد يكون مسيحياً، هذا الرجل. العظيم الذي شعر أنه ليس في وسعه أن يكون إنساناً طيبا ً؟ لقد أسلمه فليب دشامبان إلى الأجيال التالية في لوحة من أشهر لوحات اللوفر. قوام فارع تنقذه أثوابه من مظهر السخف، تخلع عليه السلطة عباءة وقبعة حمراوين، يقف كأنه في مرافعة قانونية، يعلن عن نبالته بقسماته الواضحة المحددة ويديه الرقيقتين، ويتحدى أعداءه بعينيه الحادتين، ولكنه شاحب بفعل السنين المضنية، محزون بوعيه بالزمن الذي لا يرحم. هنا دنيوية السلطان يعارضها نسك التكريس.

كان عليه أن يكون قوياً ليمنع عيوبه من أن تهزم مراميه. بدأ سيرته في البلاط بتواضع متملق، انتقم له بعد حين بكبرياء لا تعترف بغير سيد واحد دون غيره. فبينما كانت الملكة تزوره ذات مرة ظل جالساً - وهو خروج عن الأدب لا يؤذن به إلا للملك. كان (كأكثرنا) مغروراً بمظهره، شرهاً للألقاب، كارهاً للنقد، تواقاً إلى الشعبية. كان يغار من كوريني، فاشتهى أن يشتهر هو أيضاً كاتباً مسرحياً وشاعراً، وقد كتب فعلاً النثر الرائع كما تشهد بذلك مذكراته. وقد وفق في غير تردد - كما وفق ولزي - بين أتباع المسيح، والاهتمام بشيطان المال. رفض الرشا ولم يتقاض راتباً، ولكنه استولى على دخل الكثير من الرتب الكنسية، زاعماً أنه في حاجة إلى تمويل سياساته. وشيد لنفسه كما فعل ولزي قصراً بلغ من فخامته أنه رأى من الحكمة قبل موته أن يهديه إلى ولي العهد؛ ولنا أن نفترض أنه مبنى للموظفين الإداريين وللمظهر الدبلوماسي أكثر من الترف الشخصي. لم يكن بخيلاً، وقد أثرى أقرباءه، وكان في وسعه أن يسخو بمال الدولة. وأوصى بنصف ثروته للملك، ونصحه بأن يستعمله »في الظروف التي لا تحتمل بطئ الإجراءات المالية(30)«.

أما ما يبدو لنا قسوة شديدة فيه فكان في رأيه ضرورة من ضرورات الحكم، فمن القضايا المسلمة بها عنده أن الناس - والدول بالتأكيد - لا يمكن أن يساسوا باللطف، بل لا بد من تخويفهم بالصرامة. إنه أحب فرنسا، ولكن الفرنسيين لم يبعثوا فيه حرارة الحب. وقد وافق كوزيمو دي مديتشي على أن الدولة لا يمكن حكمها بالصلوات الربانية، ووافق مكيافللي على أن أخلاقيات المسيح لا يمكن اتباعها بأمان في حكم الأمة أو صيانتها. كتب يقول »إن المسيح لا يسعه الإبطاء في العفو عن الإساءة، ولكن الحاكم لا يسعه الإبطاء في عقابها إذا كانت جريمة ضد الدولة ... ولا بقاء للدول بغير هذه الفضيلة (فضيلة الصرامة) التي تصبح شفقة بقدر ما يمنع عقاب مجرم واحد ألف مجرم من نسيانه(31)«. وريشليو هو الذي روج عبارة »مبرر الدولة«، أي أن القانون الأخلاقي يجب أن يخضع لمبررات الدولة(32). ويبدو أنه لم يخامره قط شك في أن سياساته هي واحتياجات فرنسا شيء واحد، ومن ثم اضطهد أعداءه الشخصيين بنفس الحزم الذي عاقب به أعداء الملك.

على أنه كان داخل قلعته وجبهته الدبلوماسية إنساناً، يهفو إلى الصداقة، ويحس عزلة العظماء ووحشتهم. ويريدنا كتاب تالمان »أقاصيص« المملوء بالقيل والقال أن نصدق أن ريشليو حاول أن يجعل من ماري مديسي خليلة له، وكانت تكبره بعشرين عاما(33)، ولكن هذا بعيد الاحتمال. وهناك أساطير أخرى عن علاقات الكردينال الغرامية السرية، حتى مع نينول دلا نكلو، وما كان لينتهك عرف العصر أن يعزى رجل السياسة المرهق نفسه ببعض الانحرافات. بيد أن كل ما نعرفه عن عواطفه معرفة واضحة هو أنه كان شديد التعلق بابنة أخته ماري-مادلين دكومباليه. فقد أرادت أن تدخل ديراً بعد أن ترملت عقب زواجها، ولكن ريشليو أقنع البابا بمنع هذا، وأبقاها قريبة منه لتدير بيته، واستجابت بالإخلاص له إخلاصاً أشد حرارة من أكثر العلاقات الغرامية. كانت تلبس لباس الراهبة وتخفي شعرها. وسلك ريشليو منها مسلك اللياقة الواجبة كله، ولكن الملكتين رفضتا تبرئتها لفقدان الأدلة الكافية على إدانتها، وسقتا غيرهما إلى حديث الشائعات الذي أضاف وخزة عديدة لقصة الكردينال. إنه لم يحب »رجلاً، ولا امرأة أيضاً« وقد ثأر كلاهما منه.

أما ما كان يملكه فوق كل شيء فهو الارادة. وقليل من الناس في التاريخ كله من اجتمعت لهم هذه الوحدة في الهدف، وهذا المضاء والثبات في السعي إليه، وما كان لقوانين الحركة أن تكون أكثر ثباتاً. ولا بد أن نعجب باخلاصه لواجباته، وافنانه نفسه فيها طوال سنين من الجهد وليالي حرم فيها النوم. وقد كرس هذه الجهود لأولئك الذين يسر لهم النوم دون مخاوف مستظلين برعايته الساهرة. ولا بد أن نعترف له بالشجاعة الفائقة التي تصدت للنبلاء الأقوياء والنساء الدساسات، وقاومتهم وصدتهم، وقضت عليهم في غير خوف ولا رهبة وسط المؤامرات المتكررة على حياته. وقد غامر برأسه المرة بعد المرة بسبب نتائج سياساته. وقلما كان يشعر بالعافية. فقد عرضته الحمى التي أبتلته بها مستنقعات بواتو لصداع متكرر كان أحياناً يلازمه أياماً بطولها. ولعل جهازه العصبي كان ضعيفاً بالوراثة. أو مضروراً بالخلقة، فقد كانت إحدى شقيقاته ضعيفة العقل، وأحد إخوته مجنوناً بعض الوقت، وأرجفت شائعات القصر أن الكردينال ذاته تعتريه نوبات من الصرع وهلوسات جنونية(34). وكان يعاني من البواسير، والبثور، ومرض المثانة، وكانت أزماته السياسية تزداد تعقداً أحيانا بحصر البول كما كان الشأن مع نابليون(35). وقد حملته علته على التفكير غير مرة في الاعتزال، ولكنه وهو حبيس إرادته كان يأخذ الزمام ثانية ويواصل النضال.


ولسنا نستطيع أن ننصفه إلا إذا نظرنا إليه في مجموعة، بما فيه من ملامح تتخذ شكلها ونحن ماضون في الرؤية. لقد كان رائداً للتسامح الديني، رجلاً واسع الثقافة حساسها، ذواقة للموسيقى، وجماعاً خبيراً للفنون، وعاشقاً للدراما والشعر، وصديقاً معيناً لرجال الأدب، ومؤسساً للأكاديمية الفرنسية. ولكن التاريخ يذكر فيه بحق أولاً وقبل كل شيء الرجل الذي حرر فرنسا من تلك السيطرة الأسبانية التي نجمت عن الحروب الدينية والتي جعلت من فرنسا، بمقتضى الحلف، دولة تتلقى من أسبانيا معاشاً، بل تكاد تكون تابعة لها. أنه حقق ما كان فرنسيس الأول وهنري الرابع يصبوان طويلاً إليه وما أخفقا في تحقيقه، فقد كسر »النطاق الخانق« الذي طوقت به دولتا الهابسبورج فرنسا. ولا بد أن تفصل الصفحات التالية تلك الاستراتيجية البعيدة النظر التي حسم بها حرب الثلاثين سنة، وأنقذ البروتستنتية الألمانية باعتبارها حليف فرنسا الكاثوليكية، ويسر لمازران أن يصوغ صلح وستفاليا البناء. أما لفرنسا ذاتها فقد خلق وحدة وقوة على حساب دكتاتورية واستبدادية ملكية ولدت الثورة حين حان وقتها. وإذا كان أول واجبات رجل الدولة أن يجعل شعبه سعيداً حراً، فإن ريشليو كان شديد القصور في تحقيق هذا الهدف. وقد أدانه الكردينال ريتز-وهو قاض ذكي ولكنه لم يتجرد من التحامل-لأنه »أرسى أشنع وأخطر طغيان استرق دولة ربما في التاريخ كله(36)«. ولو سئل ريشليو في هذا لربما أجاب بأن على رجل الدولة أن يأخذ في الاعتبار سعادة وحرية الأجيال القادمة لا جيله فحسب، وأن عليه أن يقوي وطنه ليحميه من الغزو أو السيطرة الأجنبية، وأن له في سبيل هذا الهدف أن يضحي بحق جيلاً حاضراً من أجل أمن الأجيال التالية. وبهذا المعنى رأي فيه أوليفارس، غريم ريشليو الأسباني، »أقدر وزير في العالم المسيحي في الألف السنة الأخيرة(37)«. ورأى فيه تشسترفيلد »أكفأ رجل دولة في عصره وربما في أي عصر آخر(38)«.

وكانت عودته من نصره النهائي في روسيون موكب الجنازة لرجل ما زال على قيد الحياة استقل زورقاً من تاراسكزن إلى ليون على الرون، ومكث في ليون حتى حوكم سانك-مارس ودوتو وأعدما، ثم اضطر لضعفه من ألم تسبب عن ناسور شرجي أن يذهب إلى باريس على محفة حملها أربعة وعشرون من حراسه، واتسعت لسرير الرجل المحتضر، ومائدة، وكرسي، وسكرتير يملي أوامر للجيش ورسائل دبلوماسية. واستغرقت مسيرة الموت هذه ستة اسابيع، وعلى طول الطريق احتشد الناس ليلقوا نظرة خاطفة على الرجل الذي لم يكن في قدرتهم أن يعطوه الحب، بل الخوف، والاحترام، والتبجيل، بوصفه التجسيد المهيب للكنيسة والدولة جميعاً، ونائب الله والملك. فلما بلغ باريس نقل إلى قصره دون أن يبرح محفته. وأرسل استقالته لمولاه الذي رفض قبولها. وحضر لويس إلى فراشه، ومرضه، وأطعمه، وتساءل ماذا عساه أن يفعل إذا توقفت هذه الإرادة المتجسدة عن الحياة. أما كاهن اعتراف الكردينال فقد سأله بعد أن ناوله القربان الأخير هل غفر لأعدائه، فأجاب بأنه لم يكن له قط أعداء إلا أعداء فرنسا. وبعد يوم من الغيبوبة مات في 4 ديسمبر 1642، وهو في السابعة والخمسين. وأمر الملك بأسبوع كامل من مراسم الحداد، ومرت صفوف المشاهدين بجثمانه طوال يوم ونصف. ولكن الناس في كثير من الأقاليم أشعلوا نيران الفرح شكراً لله على موت الكردينال الحديدي(39).

واستمر يحكم فرنسا حيناً. وذلك أنه أوصى بجوليو مازاريني خلفاً له في الوزارة، ووافق لويس. وقد ترك عشرة مجلدات من المذكرات، مسجلاً فيها أعمال الدولة كأنها ليست أعماله بل أعمال الملك. وكان في سنواته الأخيرة قد أهدى لويس »ميثاقاً سياسياً« »ويصلح بعد موتي لإدارة مملكتك وسياستها«. هنا وسط بعض الملاحظات التافهة نجد قواعد دقيقة بليغة للحكم، صيغت في أسلوب زمانه. إنه ينصح الملك بأن يجتنب الحرب، باعتبارها شيئاً لا يصلح له جلالته بطبعه. »إن مصالحة عشرة أعداء أجدى وأدعى للفخر من القضاء على عدو واحد(40)« ثم أسر إليه أن الفرنسيين قوم لم يخلقوا للحرب، ففي بدايتها يكونون الشجاعة كلها والحماسة كلها، ولكن يعوزهم الصبر ورباطة الجأش انتظاراً للحظة المواتية، ويمضي الوقت »يفقدون الاهتمام، ويغدون أضعف حتى من النساء(41)«. ويجب أن يكون الملك، كالقائد شجاعة الرجال القادرة على مقاومة الميول العاطفية؛ وعليه ألا يعطي النساء كلمة في الحكومة، لأنهن يتبعن نزواتهم وأهواءهن أكثر مما يستمعن لصوت العقل(42). على أن »الفكر« في المرأة لا يناسبها »لأني لم أر في حياتي امرأة عالمة لم يفسدها علمها(43)«. والنساء لا يستطعن كتمان السر، » والكتمان روح السياسة(44)«، ورجل الدولة الحصيف قليل الكلام كثير الإصغاء(45)«. وهو يحذر أن يسيء بكلمة غافلة؛ وهو لا يتكلم بشر عن أحد إلا إذا اقتضى ذلك صالح الدولة(46). ومن واجب الملك أن يكون لديه معلومات عامة عن تاريخ جميع الدول ونظامها، لا سيما دولته(47)«. ثم يرجو المؤلف شيئاً من التفهم لوزارته وخلقه »إن عظماء الرجال الذين يعينون لحكم الدولة أشبه بالمحكوم عليهم بالتعذيب، مع فارق واحد، هو أن هؤلاء يتلقون العقاب على سيئاتهم، أما أولئك فعلى حسناتهم(48).

وعاش الملك خمسة أشهر بعد موته، وقد ذكر الناس حكم لويس القصير شاكرين، لأنه أطلق السجناء السياسيين، وسمح بعودة المنفيين، وأتاح لفرنسا أن تتنفس. وكان يشكو من أن الكردينال لم يدعه يتصرف كما يشاء. كانت أمه قد ماتت قبل ريشليو ببضعة شهور، فأمر بجلب جثمانها من كولونيا واحتفل بدفنها رسمياً، وفي لحظاته الأخيرة توسل أن يغفر الله والناس له الخشونة التي عاملها بها.

ورأى نفسه يتهاوى، ولكنه اغتبط بما كان عليه ولده البالغ من العمر أربعة سنين من عافية ووسامة. سأله معابثاً »ما اسمك؟« فأجاب الصبي »لويس الرابع عشر« فقال الملك مبتسماً »ليس بعد يا بني، ليس بعد«. وأمر بطانته بقبول وصاية الملكة حتى يبلغ ابنه سن الرشد، ولما أخبروه أن قد حانت ميتته قال »إذن فأنا راضٍ من كل قلبي يا إلهي(49)« ومات في 14 مايو 1643 وقد بلغ الحادية والأربعين. قال تالمان »ذهب الناس إلى مأتمه كأنهم يذهبون إلى حفل زفاف، وظهروا أمام الملكة كأنهم في مباراة رياضية(50)« وكان الكردينال الرهيب قد أعد كل شيء لمجيء الملك العظيم و »القرن العظيم«.