قصة الحضارة - ول ديورانت - م 7 ك 2 ف 14

صفحة رقم : 9908

قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> صراع العقائد على السلطة -> هنري الرابع -> الحب والزواج


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع عشر: هنري الرابع 1553-1610

الحب والزواج

كانت أم هنري في العماد مارجريت أنجوليم، أميرة فالوا ونافار، والأخت التقية الحساسة، المحبوبة، لفرانسيس الأول، الجريء، الأنيق، عاشق النساء. أما أمه فجان دالبير المهرطقة، العنيدة، المتمردة، وأما أبوه أنطوان بوربون حفيد القديس لويس فكان وسيماً، شجاعاً، كيساً، مغروراً، ميالاً إلى التذبذب من مذهب إلى مذهب. ولا بد أن هنري حمل بين جنبيه-وهو يخرج إلى النور (14 ديسمبر 1553) في مدينة بو بإقليم بيارن-كل صفات أسلافه إلا التقوى. وقد أقنع جده السعيد أمه جان وهي في المخاض بأن، ترتل للعذراء ترتيلة، لثقته بأنها ستكون فألا حسناً، ثم دعك شفتي الوليد بالثوم وسقاه النبيذ على سبيل العماد في بيارن. أما البطل فقد استنفد لبن ثماني مرضعات.

لم يستطب التعليم، فقد كره الكتابة، وهرب من النحو، ولكنه تعلم كيف يكتب بأسلوب ساحر. وقرأ بلوتارخ كأنه إنجيل البطولة. وربى أكثر وقته في الخلاء، وبرز في الجري والوثب والمصارعة والركوب والملاكمة، وأكل الخبز الأسود والجبن والبصل، واستمتع بالصيف والشتاء بلذة سخرت من التشاؤم. نشئ هيجونوتيا، ولكنه لم يسمح قط للدين بأن يعطل الحياة. وحين دعي في التاسعة للعيش في البلاط وتعلم آدابه وأخلاقه، اعتنق الكاثوليكية في غير تردد، ولما عاد إلى بيارن في الثالثة عشرة استأنف العقيدة الهيجونوتية كأنه يغير ملابسه وفقاً لتغير المناخ.


وكان ينتقل بيسر أعظم من غرام إلى غرام-فأحب تجنوتفبيل الصغيرة، والآنسة مونتاجو، وأرنودين، ولاجارس (البغي)، وكترين دلوك، وآن دكاميفور. لقد كان يطرح العقائد والخليلات دون أن يعذب ضميره أو يغير هدفه. فأما هدفه فهو أن يتربع على عرش فرنسا. فلما ناهز التاسعة عشرة، أصبح ملكاً على نافار بعد أن مات ابوه، ولكن هذا لم يكن سوى لقمة أثارت شهيته للملكية دون أن تشبعها، وذهب إلى باريس ليزف إلى مارجريت فالوا، فاستقبل استقبال وريث العرش لا يسبقه في خط الوراثة غير دوق أنجو ودوق النسون. وعندما وقعت المذبحة عقب زواجه، تمالك جأشه وأنقذ رأسه بالارتداد المؤقت عن مذهبه.

وأما عروسه »مارجو« فكانت أعظم نساء فرنسا فتنة وألينهن عريكة. فجمالها لا يرقى إليه شك، وقد تغنى به رونسار، ورتل برونتوم قصائد الغزل المشبوب في بشرتها الطرية الناعمة، وشعرها المتموج أو باروكاتها المتنوعة، وعينيها اللتين ترشقان المرح أو الغضب أو الشيطنة، وقوامها الممشوق كقوام محظية من محظيات القصور، المهيب كقوام ملكة، وقدميها الرشيقتين تقودان رقصات البلاط، وفيض حيويتها في جيل كله صراع وكآبة، كل هذه المفاتن اجتذبت العدد الوفير من العشاق إلى مخدعها، واتهمتها الشائعات بالاستسلام اللبق للغرام بل ولعشق المحارم(1) ولم يكن في وسع هنري أن يشكو وهو ذو العين الزائغة بين الحسان، ولكن حين استأنفت مارجو ذبذباتها-وكانت تزوجته على غير إرادتها-بعد انحناءة قصيرة منه لزواج المرأة الوحيدة، بدأ يتساءل من ترى سيكون أباً لأطفاله. واتخذ له خليلة، ثم مرض، فلم تدخر جهداً في تمريضه، وإن عزت علته إلى »إفراطه مع النساء« ولكن سرعان ما باعدت بينهما الشكوك المتبادلة حتى لقد كتبت تقول »لم نعد ننام معاً، ولا يكلم أحدنا الآخر(2)«.


وظل في البلاط ثلاث سنوات على كره منه. وذات ليلة (1575) بينما كان يصيد، رمح بجواده خارج الحدود، ثم هرب متنكراً عبر فرنسا، وشق طريقه وسط الأخطار إلى نيراك، وحكم بيارن وجبيين حكماً تميز بالعدل والذكاء. وهجر الكثلكة، ورد للبروتستنت سلطانهم في بيارن، وحماهم في جيين. وبعد ثلاث سنوات لحقت به مارجو، وأعانها الملك الشاب-في أوقات فراغه من الصيد أو قتال الكاثوليك- على جعل مباهج بلاطها الصغير تغطي على خياناتهما. وفي عام 1582 وبعد أن تعبت من تقديم العون لخليلاته في مخاضهن، عادت إلى باريس، ولكن مغامراتها هناك كانت صارخة بحيث أمرها هنري الثالث بأن تعجل بالعودة إلى زوجها. وبعد أن قضت عامين آخرين في بيارن اعتكفت في آجن. ووافق الملكان-»الهنريان« الآن-على أن تعيش اشبه بالحبيسة في قصر أوسون الريفي، وقررا لها معاشاً طيباً (1587-1605). وحولت سجنها صالوناً، واستقبلت فيه الشعراء والفنانين والعلماء والعشاق، وألفت مذكراتها الحافلة بالقيل والقال. وقد أطرى ريشليو أسلوبها، وأهداها مونتيني بعض مقالاته، وأثنى الوعاظ على برها بالفقراء. وبعد اغراءات لا يستهان بها وافقت على فسخ زواجها، وسمح لها بالعودة إلى باريس والبلاط (1601). فاستأنفت هناك غرامياتها وصالونها، ثم غدت بدينة، وتابت، واتخذت فانسان ديول قسيساً لها، وبنت ديراً، ثم ماتت في سلام وتقوى (1615) بالغة من العمر اثنين وستين عاماً. وهكذا اختتمت حياتها، كما قال معاصر لها، »مرجريت، البقية الباقية من سلالة فالوا، أميرة كلها... نيات طيبة... لم تؤذ أحداً إلا نفسها(3)«.


هنري الثالث 1574-1589

بعد أن تربع الدوق أنجو فترة قصيرة على عرش بولندة عاد في الرابعة والعشرين ليعتلي عرش فرنسا باسم هنري الثالث، آخر ملوك فالو الفرنسيين. وهو يطالعنا في صورة له باللوفر لا يعرف مصورها، فتى طويلاً، نحيلاً، شاحباً، حزيناً، رجلاً ذا نية طيبة، شوشت عليه حياته الوراثة السيئة. كان ضعيف البنية، قلق العاطفة، سريع الإعياء، وكان عليه أن يجتنب الركوب والصيد، ويلزم فراشه أياماً إثر دقائق من الغرام النشيط. وقد شكا حكة في جلده لا سبيل إلى برئها، وصداعاً في رأسه ووجعاً في معدته ونزفاً في أذنه. أبيض شعره وسقطت أسنانه قبل ان يبلغ السادسة والثلاثين. أما غطرسته البادية فلم تكن في حقيقتها سوى جبن، وأما قسوته فخوف، فإذا أرسل نفسه على سجيتها كان لطيفاً حذراً. ولكنه لسوء الحظ كان شديد الولع بارتداء ثياب النساء. ظهر في حفلة رقص مرتدياً ثوباً انخفضت فتحة عنقه وأحاطت برقبته عقد من اللآلئ، وكان يلبس الجواهر في أذنيه والأساور في ذراعيه. وجمع من حوله اثني عشر »غندورا«، شباب جعدوا شعورهم الطويلة وصبغوا وجوههم، وازدانوا بالثياب البهية، وضمخوا أنفسهم بالعطور التي نشرت أريجها حولهم. ومع أشباه الرجال هؤلاء ألف أحياناً-وهو متنكر في ثوب امرأة-أن يعربد في الشوارع ليلاً ويلعب ألاعيبه على المواطنين. وقد أفرغ خزانة بلده المشرف على الإفلاس والفوضى على أحبائه الذكور، فأنفق أحد عشر مليوناً من الفرنكات على زفاف أحدهم، وضاعف ثمن المناصب القضائية ليشتري هدية زواج لآخر. على أنه أنفق بعض مال شعبه في أغراض نافعة-فبني البون نوف وحسَّن اللوفر، وانتشل بعض أجزاء باريس من قذارتها إلى حسن العمارة والنظافة. وأعان الأدب والمسرح. وبذل جهوداً متقطعة للنهوض بالادارة. وتكفيراً عن كل سيئاته حج مرات راجلاً إلى شارتر وكليري، وفي باريس مشى من كنيسة إلى كنيسة-وهو يعبث بمسبحات كبيرة، وجمع في حماسة الكثير من الصلوات الربانية والسلامات المريمية، وسار في مواكب »التائبين الزرق« الليلية الرهيبة وجسده في غرارة بها ثقوب لقدميه وعينيه. ولم يعقب. أما أمه التي حملت إليه بذور الانحلال من أبوين مريضين فكانت تتطلع في أسى إلى تدهور سلالتها وانقراضها الوشيك.

كان في الموقف السياسي من الاضطراب ما لا يرقي إليه إدراك هنري، فهو لم يخلق للحرب. وكانت كاترين تتوق إلى السلام وقد تقدم بها العمر، ولكن الهيجونوت ما زالوا ثائرين، فهم يائسون ولكنهم لم يذلوا. وكان أخوه الدوق ألينسون يتودد إلى ملكة بروتستنتية تجلس على عرش إنجلترا، وإلى ثوار بروتستنت في الأراضي المنخفضة، وإلى هنري نافار في بيارن. وكانت أقلية من زعماء الكاثوليك، ساهم نقادهم بـ »السياسيين«، تعتنق أفكار لوبيتال (الذي مات حزيناً عام 1573)، فاقترحوا التسامح المتبادل بين المذهبين المقتتلين، ودافعوا عن فكرة مكروهة في المعسكرين، وهي أن في استطاعة الأمة أن تحيا دون وحدة في العقيدة الدينية. وقالوا إن على فرنسا إذا حظر البابوات مثل هذا التوفيق بين الفريقين أن تقطع روابطها الدينية مع روما. فلما خاف هنري التعاون بين هؤلاء السياسيين والهيجونوت، وخشي غارات الجنود الألمان القادمين لتعزيز قوة البروتستنتية، أنهى عام 1576 الحرب الدينية الخامسة بتوقيعه »صلح الموسيو« في يوليو، واصداره مرسوم تهدئة-وهو مرسوم يوليو-الذي منح الهيجونوت حرية العبادة في كل مكان بفرنسا، وحق اختبارهم لجميع المناصب، وسمح لهم بثماني مدن يكون لهم فيها كامل السلطة السياسية والعسكرية.

وصدمت هذه التنازلات الممنوحة لفريق ظن الناس أنه تحطم وانتهى معظم الكاثوليك الفرنسيين، لا سيما جماهير باريس الشديدة التمسك بعقيدتها. وكان كردينال اللورين قد اقترح عام 1562 »حلفاً مقدساً« يقسم أعضاؤه على الدفاع عن الكنيسة بكل وسيلة أياُ كانت، وبأي ثمن كائنا ما كان. ونظم هنري جيز مثل هذا الحلف في شميانيا عام 1568. ومن ثم ألفت الآن جماعات كهذه في كثير من الأقاليم. وفي عام 1576 أعلن الدوق جهاراً تأليف »الحلف المقدس« واستعد لنزال يسحق به الهيجونوت سحقاً.

ولا حاجة بنا لتتبع سير الحروب الدينية السادسة والسابعة والثامنة إلا في تأثيرها على مجرى الأفكار في فرنسا. هنا دخلت الفلسفة ساحة الوغى مرة أخرى. ففي عام 1579 أصدر مؤلف غير معروف الاسم- ربما كان فليب دوبليسي- مورنيه- أحد مستشاري نافار-من بازل بياناً مثيراً سماه »دفاع (عن حقوق الشعب) ضد الطغاة«. كتبه باللاتينية، ولكن سرعان ما ترجم إلى اللغات القومية. وقد دام أثره قرناً كاملاً واستخدمه الهيجونوت في فرنسا، والهولنديون ضد فيلب، والبيورتان ضد تشارلز الأول، والوجز تبريرا لعزلهم جيمس الثاني. واتخذت النظرية القديمة، نظرية »العقد الاجتماعي« الضمني المبرم بين الشعب وحاكمه، شكلاً محدداً في هذا الكتاب، وسنشهدها مرة أخرى في هوبز، ولوك، وروسو. فالحكومة أولاً هي ميثاق بين الله، والشعب، والملك، لدعم »الدين الحق« والامتثال له-وهو البروتستنتية في هذه الحالة، وأي ملك يقصر في هذا يحل عزله-والحكومة ثانياً هي ميثاق بين الملك والشعب، الأول ليحكم بالعدل، والثاني ليطيع مسالماً. والملك والشعب على السواء خاضعان للقانون الطبيعي. أي قانون العقل والعدالة الطبيعية، الذي يمثل القانون الأدبي الإلهي، ويعلو على كل قانون »وضعي« (أي من صنع الإنسان). أما وظيفة الملك فصيانة القانون الوضعي والطبيعي والإلهي، فهو اداة القانون لا سيده. »والرعايا... بوصفهم هيئة، يجب اعتبارهم سادة المملكة وأصحابها المطلقين« ولكن من الذي يقرر أن الملك طاغية؟ لا الشعب في جمهوره، »ذلك الوحش الكثير الرؤوس«، بل ليقرر ذلك القضتة، أو مجلس كمجلس الطبقات الفرنسي مثلا. ولا يصح أن يتبع كل فرد خاص ضميره، فقد يحسب هواته ضميره، وهنا تأتي الفوضى، ولكن إذا دعاه القاضي للعصيان المسلح فعليه أن يلبي الدعوة. على أنه يحل قتل الطاغية بيد أي إنسان إذا كان مغتصباً(4).

واشتد صراع القوى والأفكار بعد أن مات دوق ألينسون (1584) واعترف هنري الثالث بهنري نافار وريثاً افتراضياً للعرش. وكف الهيجونوت بين عشية وضحاها عن حديث الطغيان والعزل وأصبحوا المؤيدين المتحمسين للشرعية لما توقعوا من قرب انهيار ملك فالوا المتهافت وتسليمه فرنسا لرجلهم البروتستنتي البوريوني. وإذا القوم يعرضون عن كتاب »الدفاع« الذي كان بالأمس القريب بياناً هيجونوتياً، بل إن أوتمان ذاته صرح بأن مقاومة هنري نافار خطيئة(5). ولكن أكثر فرنسا كان يقشعر فرقاً من فكرة ملك هيجونوتي يتربع على عرشها. فكيف يمكن أن تمسح الكنيسة بالزيت المقدس بروتستنتياً في مدينة رامس؟ وهل يستطيع أحد يغير هذه المسحة أن يكون ملكاً شرعياً لفرنسا؟ أما رجال الاكليروس السنيون، يتزعمهم اليسوعيون المتحمسون، فقد نددوا بالوراثة وأهابوا بجميع الكاثوليك أن ينضموا إلى الحلف. وانضم إليه هنري الثالث بعد أن جرفه هذا التيار، وأمر جميع الهيجونوت بأن يعتنقوا الكثلكة أو يرحلوا عن فرنسا. وناشد هنري نافار أوربا أن تعترف بعدالة قضيته، ولكن البابا سيكستوس الخامس حرمه، وصرح بأنه لا يمكن أن يرث العرش لأنه زنديق سادر في زندقته. وهنا أعلن شارل، كردينال بوربون، نفسه وريثاً افتراضياً للعرش. وعاودت كاترين محاولتها في سبيل السلام، فعرضت أن تؤيد نافار إذا تخلى عن بروتستنتيته، ولكنه أبى، وامتشق الحسام على رأس جيش بعضه كاثوليكي، واستولى على ست مدن في ستة شهور، وهزم جيشاً للحلف يبلغ ضعف جيشه عند كوترا (1587).

وسيطر الهيجونوت الآن وهم لا يتجاوزون جزءاً على اثني عشر من السكان(6) على نصف مدن فرنسا الكبرى(7). ولكن باريس كانت قلب فرنسا وهي مع الحلف قلباً وقالباً. ولم يرض الحلف بالتأييد الفاتر الذي لقبه من هنري الثالث، فأقام في العاصمة حكومة ثورية تتألف من ممثلين للأحياء الستة عشر؛ وتفاوضت حكومة »الستة عشر«، مع أسبانيا لتغزو إنجلترا وفرنسا، وبيتت اعتقال الملك. وأرسل هنري في طلب حرس سويسري، ودعت حكومة الستة عشر دوق جيز إلى تقلد السلطة في باريس، نعته الملك، ولكن الدوق وصل، وهتفت له الجماهير زعيماً لقضية الكثلكة في فرنسا. وفر هنري الثالث إلى شارتر وقد شعر بالهوان وتوعد بالانتقام. ثم فقد أعصابه مرة أخرى؛ فتبرأ من هنري نافار، وعين هنري جيز قائداً أعلى للجيوش الملكية، ودعا مجلس الطبقات للاجتماع في بلوا. فلما اجتمع المندوبون لاحظ الملك في سخط مظاهر التكريم التي حظي بها جيز والتي تقرب مما يحظى به الملوك. وفي يوم تصميم مسعور أقنع بعض أعوانه بقتل الدوق. ودعا إلى لقاء خاص، وبينما النبيل الشاب يقترب من حجرة الملك طعنه تسعة من المهاجمين طعنات أودت بحياته، وفتح الملك الباب وتطلع في رضى يشوبه الانفعال إلى هدفه الذي تحقق (24 ديسمبر 1588). ثم أمر بسجن زعماء الحلف وقتل الكردينال جيز أخي الدوق. وفي فخر ورعب أنهى إلى أمه بطولاته التي ناب فيها عنه غيره، فعصرت يديها في يأس وقالت له »إنك خربت المملكة«.

ولم يمض اثنا عشر يوماً حتى ماتت في التاسعة والستين وقد أضنتها المسئوليات والهموم والدسائس، وربما تبكيت الضمير أيضاً. ولم يكن أحد من الناس يتوقف ليحزن على موتها. ودفنت في مقبرة عامة ببلوا، لأن حكومة الستة عشر أعلنت أنها ستلقى جثثها في السين إذا جئ بها إلى باريس. واتهم نصف فرنسا هنري الثالث بالقتل، وجاب الطلاب الشوارع مطالبين بعزله، اما لاهوتيو السوربون يؤيدهم البابا فقد أحلوا الشعب من ولائه للملك، ودعا القساوسة إلى المقاومة المسلحة له في كل مكان. وقبض على مؤيدي الملك، واحتشد الرجال والنساء داخل الكنائس مخافة أن يحسبوا من أنصار الملك. واعتنق مؤلفو كراريس الحلف الايديولوجية السياسية للهيجونوت، فأعلنوا أن الشعب صاحب السيادة، وله الحق في خلع الطاغية عن طريق البرلمان أو القضاة، وأي ملك في المستقبل ينبغي أن يخضع للقيود الدستورية، وأن يكون واجبه الأول فرض الدين الحق- وهو الكاثوليكية في هذه الحالة(8).

أما هنري الثالث، الموجود الآن في تور مع بعض النبلاء والجنود، فقد وجد نفسه بين نارين. فجيش الحلف يزحف عليه من الشمال بقيادة دوق مايين، وجيش نافار يزحف من الجنوب فاتحاً المدينة تلو المدينة، إذن فإحدى القوتين قابضة عليه لا محالة. واغتنم هنري الهيجونوتي فرصته، فأوفد دوبليس- مورني ليعرض على الملك محالفته وحمايته وتأييده. والتقى الهنريان عند بليسي- لي- تور وتعاهدا بوفاء كل منهما لصاحبه (30 ابريل 1589). وهزم جيشاهما المتضافران مايين وزحفا على باريس.

وفي العاصمة المسعورة استمع راهب دومنيكي يدعى جاك كليمان في حماسة إلى ما تردد من اتهام لهنري الثالث بالاغتيال. وقد أكدوا له أن القيام بعمل عظيم في سبيل قضية مقدسة سيمحو كل تبعة عن أوزاره، وأثار ثائرته حزن كاترين دوقه مونبنسييه، شقيقة الأخوين القتيلين جيز، وحركة جمالها. فاشترى خنجراً، وتسلل إلى معسكر الملك، وطعنه في بطنه، فقتله الحراس، ومات واثقاً من ثواب الجنة. أما هنري فالوا فقد مات غداة طعنة (2 أغسطس 1589) وهو يتوسل إلى اتباعه أن يلزموا هنري نافار. وانتشرت الفوضى في جيش المحاصرين، وتبدد أكثره، وأجل الهجوم المقترح على باريس. أما في داخل الكنيسة فقد بلغت فرحة الحلف وتابعيه حد الهذيان. ووضعت بعض الكنائس صورة الراهب فوق مذبحها(9)، وهلل الأتقياء لاغتيال الملك باعتباره أنبل عمل في سبيل الله تم منذ تجسد المسيح(10). وأستدعيت أم كليمان من الريف، فوعظت في الكنائس، واحتفل القوم بها بترتيل ترنيمة مقدسة: »طوبى للبطن الذي حملك، وللثدي التي أرضعتك«(11).


الطريق إلى باريس (1589-1594)

بلغ هنري نافار الآن نقطة الحسم في حياته. لقد وجد نفسه فجأة، يحكم القانون والتقاليد، ملك فرنسا. ولكن نصف جنده تركوه بمثل هذه السرعة الفجائية تقريباً. أما النبلاء الموالون لهنري الثالث فقد انطلقوا إلى ضياعهم؛ واختفى معظم الكاثوليك الذين كانوا يحاربون في جيشه. ورفض ثلثا فرنسا فكرة الملك البروتستنتي رفضاً باتاً. أما جماعة »السياسيين« فقد أسكنهم الاغتيالان برهة؛ واعترف برلمان باريس بالكردينال بوربون ملكاً على فرنسا؛ ووعد فليب ملك أسبانيا الحف بذهب الأمريكتين ليحتفظ بفرنسا في حظيرة الكاثوليكية. وكان التفسخ الذي أصاب إنتاج فرنسا وتجارتها قد جلب على البلاد من الدمار ما لم يبق لها معه إلا نشوة الحقد والكراهية القاتلة. وهو أمر لم يحزن فليب كثيراً.

كان محالاً على نافار أن يهاجم مدينة كباريس تكن له العداء الشديد، بجيش انفرط عقده وتقلص عدده. ومن ثم فقد عمله في كفاية قيادية، عطلتها خليلاته أكثر مما عطلها العدو، إلى سحب قواته إلى الشمال ليتلقى المعونة من إنجلترا، وتبعه مايين مما أتاحت له بدانته من سرعة. والتقى الجيشان عند آرك جنوبي دبيب مباشرة، وعدة جيش هنري 7.000، وجيش مايين 23.000 (21 سبتمبر 1589). ونستطيع أن نفهم نتيجة المعركة من رسالة هنري إلى رفيقه في السلاح كريون، »أشنق نفسك أيها الشجاع كريون، لقد خضنا المعركة عند آرك، ولم تكن أنت هناك« وشدد الانتصار من عزيمة أعوان هنري السريين في كل مكان. ففتحت عدة مدن أبوابها له مغتبطة، واعترفت به جمهورية البندقية ملكاً؛ أما اليزابث التواقة كالبندقية إلى الحيلولة دون سيطرة أسبانيا على فرنسا، فقد أرسلت له 4000 جندي، و 22.000 جنيه ذهبي، و 70.000 رطل من البارود، وشحنات من الأحذية، والطعام، والنبيذ، والجعة. ورد فليب على هذا بارساله تجريدة من فلاندر إلى مايين. والتقى الجيشان المعززان عند إفري على نهر أور في 14 مارس 1590. ورشق هنري في خوذته ريشة شرف كبيرة بيضاء- لا يكاد المرء يسميها ريشة طائر بيضاء- وقال لجنده »إذا فرقكم وطيس المعركة لحظة فتجمعوا تحت أشجار الكمثري تلك التي ترونها على يميني، وإذا فقدتم أعلامكم فلا تغفلوا عن ريشتي البيضاء- ستجدونها دائما في طريق الشرف، وفي طريق النصر أيضاً كما أرجو«. وقاتل في المقدمة كما كان شأنه دائماً. وورم ذراعه الأيمن وتشوه سيفه من كثرة مقارعة العدو. وقد خدمه اشتهاره بالرأفة، إذ استسلم له الآلاف من الجنود السويسريين الذين كانوا في جيش مايين والذين لم تدفع لهم رواتبهم. وخلف انتصار هنري الحلف بغير جيش، فزحف على باريس دون مقاومة تقريباً ليحاصرها.

ومن مايو إلى سبتمبر 1590 عسكر جنده الجائعون المفلسون حول العاصمة وهم يتحرقون شوقاً لمهاجمتها ونهبها، ولكن صدهم عن هذا رفض هنري الموافقة على مذبحة ربما كانت شراً من مذبحة القديس برتليمو. وبعد شهر من الحصار كان الباريسيون يأكلون لحم الخيل والقطط والكلاب، ويغتذون بالعشب. ورق لهم قلب هنري فسمح للأقوات بأن تدخل المدينة. وجاء دوق بارما، والى فليب على الأراضي المنخفضة، لنجدة باريس بجيش حسن التجهيز من صناديد الاسبان، وتقهقر هنري إلى روان بعد أن غلبته مناورات العدو، وتبعه بارما في صراع الاستراتيجية ولكن المرض أعجز الدوق، وعاد جيش هنري يحاصر العاصمة من جديد.

وواجه الآن هذا السؤال الفاصل: أيستطيع، وهو البروتستنتي، أن يظفر بعرش بلد 90% منه كاثوليك، وأن يحتفظ بهذا العرش؟ لقد كان الكاثوليك كثيرة غالبة حتى في جيشه. ولا ريب في أنه لم يكن من همومه الصغيرة تناقص موارده المالية وعجزه عن دفع رواتب جنده بعد ذلك. ومن ثم دعا معاونيه واعترف لهم بأنه يفكر في اعتناق الكاثوليكية، فوافق بعضهم على الخطة لأنها السبيل الوحيد إلى السلام، وندد آخرون بها باعتبارها تخلياً قاسياً شائناً عن الهيجونوت الذي أعطوه الدم والمال أملاً في أن يكون لهم ملك بروتستنتي. هؤلاء أجابهم هنري بقوله: »لو اتبعت نصيحتكم لما بقى في فرنسا بعد قليل ملك ولا ملكة. أريد أن أمنح السلام لرعاياي والراحة لنفسي. فتشاوروا فيما بينكم ماذا تريدون ضماناً لأمنكم. وأنا على الدوام مستعد لإرضائكم(12)«. ثم قال »ربما لم تكن شقة الخلاف بين المذهبين واسعة إلا لما بين المبشرين بهما من حقد وعداء. وسأعمل يوماً باستعمال سلطتي على أن يستقيم هذا الأمر كله(13). ثم حدد صلب عقيدته بقوله »إن الذين يتبعون ضميرهم دون عوج على ديني، وأنا على دين كل إنسان شجاع طيب(14)«. وهجر دوبليسي- مورنيه، واجريبا دوبنيه، وكثير من زعماء البروتستنت الآخرين الملك، ولكن الدوق صلى، أصدق مستشاري هنري، الذي ظل بروتستانتيا وفيا، وافق على قرار مولاه »أن باريس تستأهل قداساً(15)« .

ففي 18 مايو 1593 أرسل هنري إلى البابا وأكليروس من باريس يبدي رغبته في أن يدرس العقيدة الكاثوليكية. وكان جريجوري الرابع عشر قد جدد حرمه. ولكن الأكليروس الفرنسي الذي لم يذل أبداً لروما تأهب لإعداد التائب الجديد لأن يكون ملكاً تقياً. على أنه لم يكن بالتلميذ السهل القيد. فهو يرفض أي تعهد بأن يشن حرباً على الهرطقة، وهو يأبى أن يوقع أو يؤمن بـ »هراء هو واثق كل الثقة من أن أغلبهم لا يؤمنون به(16)«، ولكنه وافق في سماحة على عقيدة المطهر لأنها »أعظم مصادر دخلكم(17)«. وفي 25 يوليو كتب لخليلته آنذاك »سأقفز القفزة الخطرة« ثم ذهب إلى كنيسة دير سان دنيس، واعترف، ونال الغفران، واستمع إلى القداس. ورماه الآلاف في المعسكرين بالنفاق. وأنكر اليسوعيون كثلكته وواصل زعماء الحلف مقاومتهم. ولكن موت دوق بارما والكردينال بوربون كان قد أوهن قوة الحلف، وفقدت حكومة الستة عشر منزلها في أعين الوطنيين الفرنسيين لتأييدها خطة فليب الرامية إلى جعل ابنته ملكة على فرنسا. ومال كثير من النبلاء إلى هنري بوصفه القائد الحربي الكفيل بكبح جماح فليب، والحاكم الرحيم الذي يستطيع أن يرد العافية إلى وطن استشرت فيه الفوضى حتى كادت تمزق أوصاله. وأعربت مجلة ذكية تدعى »سانتير منيبيه« (1593-94) عن عواطف جماعة »السياسيين« والبورجوازيين، وسخرت في ظرف وتهكم اليسوعيين والحلف، وأعلنت أنه »ما من سلام بلغ من الظلم ما يجعله لا يرجح أكثر الحروب عدلاً(18)«. وطلب الجميع السلام في شوق، حتى باريس المتعصبة. واستمرت الاشتباكات الصغيرة ثمانية شهور أخرى، ولكن في 22 مارس 1594، زحف هنري إلى باريس ودخلها ولم يكد أحد يعترضه، وعظم ترحيب الجماهير به حتى أنه أراد أن يدخل نوتردام لم يكن بد من رفعه فوق الرؤوس. وثبت ملكاً في ذلك اللوفر ذاته، الذي كان فيه قبل اثنين وعشرين عاماً سجيناً قاب قوسين من الموت، واستسلم للبهجة والفرح، فأصدر بطريقته المرحة، عفواً عاماً شمل حتى آل جيز وحكومة الستة عشر. وأكتسب بعض أعدائه بالغفران عنهم دون تردد وبالمجاملة السمحة الكيسة ورشا البعض بمال اقترضه.

على أنه لم يكسب الجميع إلى صفه. ففي ليون اشترى بيير باريير مدية وشحذها ثم شد رحاله إلى باريس معلناً نية اغتيال الملك. فقبض عليه في ميلون وشنق دون إبطاء. وقال هنري »وا أسفاه، لو علمت بالأمر لعفوت عنه.« وأرسل البابا كلمنت الثامن للملك حل الكنيسة، ولكن اليسوعيين واصلوا مهاجمته في مواعظهم. وفي 27 ديسمبر هجم فتى في التاسعة عشرة يدعى جان شاتيل على الملك بخنجر ولكن لم يصبه بأسوأ من قطع في شفته وكسر في سنه. ومرة أخرى رأى هنري العفو عن هذا المتعصب، ولكن رجال السلطة أوقعوا بشاتيل كل أنواع التعذيب التي نص عليها القانون ضد قتلة الملوك. وقد اعترف الرجل في كبرياء برغبته في قتل الملك لأنه زنديق خطر، وأعلن استعداده لبذل محاولة أخرى في سبيل خلاص نفسه. وقال في اعترافه إنه تلميذ لليسوعيين، ولكنه أبى أن يورطهم بأكثر من هذا في مغامرته. وقد رويت عن اليسوعي الأسباني خوان داريانا (الذي سنلتقي به ثانية) عبارات وافق فيها على اغتيال الملوك الفاسدين، لا سيما هنري الثالث، وتبين أن اليسوعي الفرنسي جان جينار كتب يقول إنه كان من الواجب قتل هنري الرابع في مذبحة القديس برتلميو، وإنه يجب التخلص منه الآن »بأي ثمن وبأية طريقة(19)«. وفي بواكير عام 1595 أمر برلمان باريس اليسوعيين بالرحيل عن فرنسا بناء على التماس من الاكليروس العلماني في السوربون.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الملك الخلاق 1594-1600

تبين هنري أن مهمة التعمير أشق من قهر القوة المسلحة. ذلك أن اثنين وثلاثين عاماً من »الحروب« الدينية خلفت في فرنسا من الخراب والفوضى ما خلفته حرب المائة عام في القرن السابق. فبحرية فرنسا التجارية كادت تختفي من البحار، وقد بلغ عدد البيوت التي دمرت ثلاثمائة ألف، وأعلن الحقد تعطيله للفضيلة، وسمم فرنسا بشهوة الانتقام. وأغار الجنود المسرحون على الطرق والقرى سرقة وتقتيلاً وتآمر النبلاء ليفرضوا استرداد سيادتهم الاقطاعية ثمناً لولائهم للملك، وكانت الأقاليم التي طال تركها معتمدة على مواردها تقسم فرنسا إلى دويلات مستقلة ذاتياً، وكان الهيجونوت يطالبون بالاستقلال السياسي والحرية الدينية، والحلف لا يزال يحتفظ بجيش في الميدان؛ واشترى هنري قائده مايين بالمال فارتضى الهدنة ثم الصلح في النهاية (يناير 1596). وبعد أن وقعت الشروط، اصطحب هنري الدوق البدين في مسيرة طويلة جعلته يلهث إعياء، ثم أكد له أن هذا هو انتقامه الوحيد منه(20). ولما تزعم أحد قواده المدعو شارل جونتو، دوق بيرون، مؤامرة ضده، عرض عليه هنري العفو إذا اعترف، ولكنه أبى، فأمر بمحاكمته، وأدين بالجريمة وقطع رأسه (1602). وأدركت فرنسا الآن أن نافار ملك. وسمح له شعب فرنسا الذي أرهقته الفوضى-بل توسلت إليه طبقات رجال الأعمال-أن يجعل ملكية البوربون الجديدة مطلقة السلطان. لقد كانت الاستبدادية الملكية نتيجة للحرب الأهلية في فرنسا بينما كانت في إنجلترا سبباً لها.

وجبى هنري الضرائب لأن حاجة الحكومة الأولى كانت المال. أما مجلس المالية الموجود فقد انبعث منه من نتن الرشوة والفساد قدر أكثر من المألوف. وولى هنري صلى الجريء رئاسة المالية، وأطلق يده في تنقية الهواء واخلاء الطريق بين ما يدفعه الشعب من الضرائب وما يصل منها إلى الخزانة. كان مكسمليان بتون، بارون روزني، دوق صلى، صديق هنري الوفي مدى ربع قرن. قد قاتل جنباً إلى جنب مع هنري خلال أربعة عشر عاماً؛ وهاجم الآن-وهو بعد في السابعة والثلاثين-الموظفين المختلسين عديمي الكفاية بهمة لا تعرف الكلل، حتى أصبح أعظم أعضاء مجلس الملك قيمة وأقلهم شعبية. وصورته التي رسمها له دمونستبيه معروضة في اللوفر، يطالعنا فيها رأس كبير وجبين عريض وعينان مرتبتان حادتان. ها هنا العبقرية العملية التي لا غنى عنها لكبح الروح الرومانسية لملك شغله لعب دور كازانوفا عن لعب دور شارلمان كاملاً. وجعل صلى من نفسه الحارس الرقيب على الإدارة الحكومية. وإذ كان مديراً للمالية والطرق والمواصلات والمباني العامة والتحصينات والمدفعية، ومأموراً للباستيل، ومشرفاً عاماً على باريس، فقد وجد في كل مكان، وأشرف على كل شيء، وأصر على الكفاية والاقتصاد والنزاهة، وقد عكف على العمل خلال كل ساعات يقظته. وعاش عيشة التقشف في حجرة بسيطة على جدرانها صور لوثر وكالفن. ثم رعى مصالح إخوانه الهيجونوت. وثبت العملة، وأعاد تنظيم البيروقراطية وهذبها، وأكره لصوص الموظفين على أن يتقيئوا ما سرقوه. وقد استرد للدولة كل الأملاك والموارد التي تملكها الأفراد خلال الحروب، وألزم 40.000 من المتهربين من الضرائب بدفع ضرائبهم. وجد خزانة الدولة مدينة بمبلغ 296.000.000 جنيه، فسدد هذه الديون، ووازن الميزانية، وجمع فائضاً بلغ 13000.000 جنيه. وحمى وشجع كل نواحي الحياة الاقتصادية، وبنى الطرق والكباري، وخطط للقنوات الكبرى التي أزمعت أن تربط الأطلنطي بالبحر المتوسط، والسين باللوار(21). وأعلن أن جميع الأنهار الصالحة للملاحة جزء من الأملاك الملكية، وحظر وجود العوائق فيها، وأعاد من جديد تدفق السلع داخل البلاد.

واستطاع هنري أن يخلق فرنسا من جديد بمعونة وزراء أحسنَ اختيارهم كوزيره صلى. فرد للمحاكم و »البرلمانات« وظائفها وسلطتها الشرعية، وإذا كان قد سمح للموظفين البيروقراطيين بتوريث مناصبهم لأبنائهم لقاء ثمن يؤدونه فإن الدافع له لم يكن مجرد جمع المال، بل كفالة استقرار الإدارة والنهوض بالطبقات الوسطى- ولا سيما رجال القضاء »نبالة الرداء«- ليكونوا مقابلاً وموازناً للارستقراطية المعادية. وقد درس هذا الملك، الذي كان فيه من الحرص على الحياة والعمل ما لا يسمح له بقراءة كتاب أوليفييه دسير المسمى »مسارح الزراعة« (1600)- درس هذا الكتاب بعناية، وفيه اقتراحات لأساليب زراعية أكثر علمية، وأرسى هذه التحسينات في أراضي التاج لتكون نماذج وحوافز للفلاحين الخاملين. وكان يقول إنه يتوق لرؤية »دجاجة في كل قدر يوم الأحد«(21). وحظر على النبلاء أن يركبوا خيلهم فوق الكروم أو حقول الغلال وهو منطلقون إلى صيدهم، ومنع غارات الجند على أراضي الفلاحين. وألغى عشرين مليون جنيه من متأخرات الضرائب المستحقة على الفلاحين (ربما لأنه عرف أنه لن يستطيع جمعها أبداً). وسبق كوليير بحمايته الصناعات الموجودة بالرسوم الكمركية، وادخال الصناعات الجديدة كصناعة الخزف المصقول والزجاج وتربية دودة القز، وزرع أشجار التوت في حدائق التويلري وفونتنبلو، وأمر بأن يزرع منها عشرة آلاف في كل أسقفية، وأعان ووسع مصانع السجاد المرسوم التي يملكها آل جوبلان. ورغبة في تفادي السياسات المقيدة التي فرضها معلمو الحرف على نقاباتهم، أعاد تنظيم الصناعة الفرنسية على أساس تعاوني-فأصحاب العمل والعمال متحدون في كل حرفة، خاضعون للتنظيم الذي تفرضه الدولة. ولكن الفقر لم يبرح مخيماً على البلاد، من جهة بسبب الحرب والطاعون والضرائب. ومن جهة لأن عدم التكافؤ الطبيعي في القدرات، وسط تساوي الجميع في الجشع، كفيل في كل جيل بأن تستوعب قلة من الناس أكثر السلع. أما الملك فتوخى القصد في عيشه، إلا أن يسرف مع خليلاته. ورغبة في شغل المتعطلين وتنقية الريف من قدامى المحاربين العاطلين النهمين، مول عدداً كبيراً من الأشغال العامة المختلفة: فوسعت الشوارع ورصفت، وشقت القنوات، وغرست الأشجار على الطرق العامة، وفتحت المتنزهات والميادين-كالبلاس رويال (وهو اليوم بلاس دي فوج) والبلاس دوفين-لتتيح لباريس متنفساً. وأنشأ الملك مستشفى الميرة للعجزة. ولم يكتمل نضج هذه الاصلاحات كلها قبل موته المفاجئ، ولكن حينما ختم حكمه كانت البلاد تتمتع برخاء لم تشهده منذ أيام فرنسيس الأول. وأهم من ذلك كله أن هنري أنهى الحروب الدينية، وعلم الكاثوليك والبروتستنت أن يعيشوا بسلام. لا في مودة وصداقة، لأن أحداً من غلاة الكاثوليك لم يكن ليسلم بحق هيجونوتي في الوجود، ولا كان أي هيجونوتي حار الإيمان لينظر إلى العبادة الكاثوليكية إلا على أنها عبادة أصنام. وقد وضع هنري حياته على كفه وأصدر (13 ابريل 1598) مرسوم نانت التاريخي، الذي أباح الممارسة الكاملة للعقيدة البروتستنتية، ومنح الصحافة البروتستنتية حريتها، في جميع مدن فرنسا الثمانمائة إلا سبع عشرة مدينة كانت فيها الكاثوليكية المذهب الغالب (كما في باريس). وثبت مبدأ صلاحية الهيجونوت للمناصب العامة، وكان منهم في مجلس الدولة اثنان فعلا، وتقرر تعيين تورين الهيجونتي مارشالاً لفرنسا. كذلك تقرر أن تدفع الحكومة رواتب القساوسة البروتستنت ونظار المدارس البروتستنتية وأن يقبل الأطفال البروتستنت في جميع المدارس والكليات والجامعات والمستشفيات كالأطفال الكاثوليك سواء بسواء. أما المدن التي كان يسيطر عليها الهيجونوت مثل لاروشيل، ومونبلييه، ومونتوبان-فتظل على حالها وتنفق الدولة على جامعاتها وحصونها على أن الحرية الدينية التي منحت على هذا النحو كانت لا تزال ناقصة، فهي لم تشكل غير الكاثوليك والبروتستنت، ولكنها كانت أكثر ألوان التسامح الديني تقدماً في أوربا. لقد اقتضى تحويل »جلالة الملك المسيحي جداً« إلى مسيحي حقاً، رجلاً ذا عقيدة مشكوك في سلامتها.

وتصايح الكاثوليك في طوال فرنسا وعرضها بالسخط على المرسوم زاعمين أن فيه حنثاً بما توعد به هنري من تأييد لعقيدتهم. وندد به البابا كلمنت الثامن »كألعن ما يمكن تصوره، منحت به حرية الضمير للجميع، وهذا أسوأ شئ في الوجود(23).« وأعلن الكتاب الكاثوليك من جديد بأنه يحل خلع الملك الزنديق أو قتله، أما المؤلفون البروتستنت أمثال أوتمان، الذين دافعوا عن سيادة الشعب إبان حكم هنري الثالث، فقد أطروا فضائل الاستبدادية -في ملك بروتستنتي(24). وأبى برلمان باريس طويلاً أن يختم المرسوم بخاتم التسجيل الرسمي الذي اقتضاه العرف حتى يصبح أي مرسوم ملكي قانوناً مقبولاً. ودعا هنري الأعضاء، وبين لهم أن ما فعله لم يكن عنه غنى للسلام ولتعمير فرنسا. فأذعن البرلمان، وقبل ستة من الهيجونوت بين أعضائه.

وسمح هنري لليسوعيين بأن يعودوا إلى فرنسا (1603) ربما ليسكت المعارضة الكاثوليكية ويسترضي البابا. وعارض صلى بقوة هذه الخطوة، وقال إن اليسوعيين »رجال نابغون، ولكنهم شديدوا الخبث والدهاء«، وإنهم ملتزمون بقضية الهابسبورج، ومن ثم بقضية خصمي فرنسا- أي أسبانيا والنمسا، وانهم متعهدون بالطاعة العمياء للبابا وميالون إليها، وهو ليس إلا سجيناً جغرافياً للهابسبورج وتابعاً مالياً لهم، فهم لا محالة مملون على هنري سياساته إن عاجلاً أو آجلاً فإن أخفقوا فسيقنعون أحد المتعصبين »بأن يقضي عليك بالسم أو بغيره« وأجاب هنري بأن مساندة اليسوعيين سيكون له عوناً كبيرًا على توحيد فرنسا، وأن استمرار نفيهم وعدائهم أشد خطراً على حياته وسياساته من عودتهم إلى فرنسا وقبل اليسوعي بيير كوتون كاهن اعتراف له، ووجده إنساناً لطيفاً وفياً، ثم فرغ بعد ذلك لحكم فرنسا ولزعازع الحب العاتية.


زير النساء

في متحف كونديه بشانتي لوحة شائقة رسمها فرانس بوربي الابن، يبدو فيها هنري في عنفوان قوته وعزته. رشيق البنية، بسيط الملبس في سراويل منفوخة وصدرة وجوارب سوداء، ذراعه اليسرى على خاصرته، وتحت لحيته الشيباء طوق مكشكش، ثم أنف أشم، وفم حازم، وعينان فيهما تيقظ وتشكك ورحمة. ولقد خلعت عليه سنو الحملات الطوال مشية الجندي وخلقه وريحه: فهو قوي نشيط لا يكل، له من شواغله ما يمنعه من الإسراف في النظافة أو من تغيير ملابسه حين يجب تغييرها؛ قال صديق إنه كان أحياناً »تفوح من جسده رائحة خبيثة كأنه الجيفة(25)« كان بعد يوم من السير أو القتال يفاجئ معاونيه بتنظيم رحلة صيد. إنه مضرب المثل في بسالته، ولكن أمعاءه تجنح إلى الاسهال إذا دنت المعركة(26)، وقد عانى في السنين السبع الأخيرة من حياته من الدوزنتاريا وعسر البول والنقرس. أما ذهنه ففي نشاط جسده ومرونته. وهو سريع في تبين الزيف والهراء، يلتقط لب الأمور للتو والساعة، ويكتب الرسائل التي لا تزال تنبض بالحياة، ويشرح بطرفه صدر فرنسا والتاريخ. حين عين لافيوفيل في أحد المناصب قال الرجل متمثلاً بعبارة وردت في الأنجيل »مولاي، لست مستحقاً« أجاب هنري »أعلم ذلك جيداً، ولكن ابن أخي طلب إلي أن أعينك«(27). وذات يوم اعترضه صاحب حاجة وهو في طريقه إلى الغداء وبدأ يقول في لغة طنانة »مولاي الملك، أن أجبيسيلا، ملك لاكيديمون-« وقال هنري وهو يثن »ويحك! لقد بلغني نبوءه، ولكنه كان قد تغدى، أما أنا فلم أفعل«(28). يقول مؤرخ فرنسي »لقد كان أذكى ملك أنجبته فرنسا«. ثم كان أحبهم إلى الناس. لم يكن بعد أكثرهم شعبية، لأن نصف فرنسا مازال يقبله على مضض، ولكن الذين عرفوه معرفة حميمة كانوا لا يترددون في أن يساقوا إلى الموت حرقاً من أجله، وبعضهم يفعل وهو آخذ كل شئ في اعتباره، فهو أقرب الحكام مثال، لا إدعاء فيه ولا غرور، يرسل نفسه على سجيتها، طيب القلب، بطئ الغضب، سريع العفو دائماً. شكت حاشيته من كرهه للظهور في أبهة الملوك, وسمح للشعراء وكتاب المسرحيات بالسخرية منه، وإن أعجبه أكثر أن يمثله ماليرب رباً للفضيلة والحسن. وكان يذهب للتفرج على الهزليات التي تهجوه، ويوهن من شرتها بضحكه. ولم ينتقم ممن عارضوه بالقول أو الفعل »لو أنني شنقت كل من كتبوا أو وعظوا ضدي لما وجدت في كل غابات مملكتي ما يكفيهم من المشانق(30)«. كان له حساسية الشاعر، فهو يحس فقر الشعب برهافة إحساسه بجمال النساء. لم يكن رواقياً، فالتحكم في عواطفه ليس من شيمه؛ كانت له عيوبه الكثيرة، فقد يكون وقحاً دون قصد، أو جلفا في مرح وابتهاج. وكانت تسكنه روح رابليه، فهو يستمتع بالقصص المكشوفة ويرويها بطريقة لا تباري. يسرف في لعب الورق، ويخسر المبالغ الكبيرة، ويغش أحياناً كثيرة، ولكن يرد مكاسبه الحرام دائماً(31). وكان يهمل مطاردة عدو متقهقر ليطارد امرأة متقهقرة.


ولا حاجة بنا لأن نعدد غرامياته كلها. على أن ثلاث نساء على الأخص كن معالم طريقه إلى العرش. إنه يكتب الرسائل الغرامية الملتهبة إلى »كوريساند الجميلة« ويقول في إحداها »إني ألتهم يديك... وأقبل قدميك ملون مرة... أنها لبقعة مقفرة حقاً تلك التي نمل فيها وجودنا معاً(32)«. ولكن لم يأت عام 1589 حتى كان قد ملها، واكتشف استر امبير دبو الامبير. وبعد عام، حين كان في السابعة والثلاثين، ودون أن يعوقه مرض السيلان(33)، وقع في غرام جابرييل دستريه، وكانت يومها فتاة في السابعة عشرة، خلع عليها أحد الشعراء »الشعر الذهبي، وعيون النجوم، ونحر الزنبق، واصابع اللؤلؤ، وثدي المرمر(34)«. وصف حبيبها بلجارد في لحظة طيش مفاتنها للملك فعدا هنري بفرسه اثني عشر ميلا وهو متنكر يشق أرض العدو ليراها. وضحكت على أنفه الطويل، ووقع على قدميها، وانسحب بلجارد. واستسلمت هي لسحر المال والملك، وولدت لهنري ثلاثة أطفال. وكان يأخذها لبلاطه وفي رحلات صيده، ويعانقها علناً، ويفكر في الزواج منها إذا ارتضت مارجو طلاقه. وتظافر الوعاظ الهيجونوت والكاثوليك في التنديد به زانياً، ضالاً، ووبخه صلى الشجاع على تبديده أموال الدولة على محظياته. فطلب المغفرة معتذراً بأنه وقد جاهد هذا الجهاد في الحرب وأحكم، وأخفق هذا الاخفاق في الزواج، فإن له ما لكل جندي من الحق في شيء من الترفيه(35)، وأقام على حب جابرييل ثماني سنين غدت بدينة حريصة على الاقتناء. وراحت تدس لصلى، وتدعوه »التابع«، وقال لها هنري في غيظه إن وزيراً مثله أثمن في نظره من عشر محظيات مثلها. ثم لان وعاد إلى حديث الزواج منها، ولكنها ماتت في 10 أبريل 1599 وهي تلد طفلاً ميتا. وبكاها بكاءً مريراً وكتب يقول: »لقد ماتت نبتة الحب التي في باطني(36)«.

ولكن النبتة انتعشت بعد شهرين حين التقى بهنرييت دنتراج، ابنة ماري توشيه ذاتها التي كانت خليلة شارل التاسع. ونها أبوها وأمها وأخوها لأبيها أن تستسلم إلا لخاتم الزواج، فكتب لها هنري تعهداً بالزواج مشرطاً بأن تنجب له ولداً، ولكن صلى مزقه أمامه، فكتب هنري تعهداً آخر وسلمه لها معه عشرين ألف كراون. وبرئ ضمير السيدة وأصبحت محظية الملك. ورأى بعض دبلوماسييه أنه قد آن له أن يستقر. فأقنعوا مارجو بقبول الطلاق شريطة ألا يتزوج هنري من خليلته. ووافق البابا كليمان الثاني على منح الطلاق بنفس الشروط، واقترح ماريا مديتشي ابنة دوق توسكانيا الكبير عروساً لهنري؛ واقترح المصرفيون والفلورنسيون إلغاء دين فرنسا الضخم لهم إذا جعل هنري ماريا مليكته(37). واحتفل بالزواج غياباً في فلورنسة (5 اكتوبر 1600). وانتزع هنري نفسه من ساحة قتال ليذهب إلى ليون ليحيي زوجته، ووجدها طويلة بدينة متعجرفة وبذل كل مجاملة ملكية، وأنجب منها لويس الثالث عشر ثم عاد إلى الآنسة دنتراج على أنه كان يقوم بواجباته الزوجية بين الحين والحين. وأنجبت له ماري دمديسي (كما كانت تسميها فرنسا) سبعة أطفال في عشر سنين. ورباهم هنري، مع أبنائه من جابرييل وهنرييت، في سان- جرمان- أن- لي.

وقدمت هنرييت إلى الملكة، وأسكنت قصراً بقرب اللوفر، ولكنها بعد أن ولدت الملك أصرت على أنها هي، لا ماري، الملكة الشرعية. وتآمر أبوها وأخوها لأبيها لخطفها هي وابنها إلى أسبانيا ويجعلا فليب الثاني يعترف بالغلام »الدوفين« الشرعي لفرنسا (1604). واكتشفت المغامرة وقبض على الأخ، وأفرج عن الأب حين رد تعهد هنري بالزواج. وواصل هنري مطاردته لهنرييت كأنه الزير الجائع. وكانت تقابل ملاطفاته بالاشمئزاز والكراهية، وتقبل الرشا من فليب الثالث ثمناً لتجسسها لحساب اسبانيا(38).


مصرعه

وسط هذه السخافات التي لا تصدق خطط الملك لكسر الحصار الذي طوق آل هابسبورج فرنسا به-ذلك النطاق الحديدي المؤلف من الأراضي المنخفضة ولكسمبورج، واللورين، وفرانش كونتيه، والنمسا، والممرات الفالتيليه، وسافوي، وإيطاليا، واسبانيا. وزعم صلى في مذكراته أنه أقترح على هنري وجيمس الأول ملك إنجلترا »خطة عظمى« تتحد بمقتضاها فرنسا، وإنجلتره، واسكتلنده، والدنمرك، والسويد، والأقاليم المتحدة (هولنده)، وألمانيا البروتستنتية، والبندقية، ضد الهابوسبرج، وتنتزع أمريكا من أسبانيا، وتحرر ألمانيا من ريقة الإمبراطور، وتطرد الاسبان من الاراضي المنخفضة، ثم يقسم المنتصرون كل أوربا - فيما عدا الروسيا وتركيا وإيطاليا واسبانيا - إلى »جمهورية مسيحية« فدرالية من خمس عشر دولة مستقلة ذاتيا، يتجر بعضها مع البعض دون رسوم جمركية وترفع سياساتها الخارجية إلى مجلس فدرالي مسلح بقوة عسكرية عليا(39). أما هنري فيبدو أن الفكرة الضخمة لم تخطر بباله قط؛ ولعل قصارى ما حلم به أن يمد فرنسا إلى »حدود طبيعية« عند الرين، وجبال الألب، والبرانس، والبحر، وأن يحررها من الخوف من أسبانيا والنمسا. وفي سبيل هذه الأهداف كان يلجأ إلى أي وسيلة متاحة له: فسعى إلى عقد الأحلاف مع الدول البروتستنتية، وساعد الهولنديين في ثورتهم على أسبانيا، ودبر تأييد ثورة يقوم بها المسلمون في بلنسيه، وشجع الترك على مهاجمة النمسا(40).

وأتاح نزاع تافه إشعال شرارة هذا العداء البوربوني-الهابوسبورجي ليصبح حرباً أوربية. ذلك أن الدوق جون وليمن حاكم إمارة ييليش - كليفس-بيرج الثلاثية الصغيرة القريبة من كولونيا، مات في 25 مارس 1609 دون أن يعقب. وأدعى الامبراطور رودلف، بوصفه السيد الاقطاعي الأعلى للإمارة، أن له الحق في تعيين كاثوليكي لهذا العرش الصغير. واحتج هنري بأن المزيد من اخضاع الدوقية للهابوسبورج سيعرض حدود فرنسا الشرقية للخطر. وانضم إلى براندبورج والبالاتينات والأقاليم المتحدة في تصميمها على تعيين خلف بروتستنتي لجون وليم، فلما احتل الارشيدوق ليوبولد النمسوي ييليش بالجيوش الإمبراطورية اتخذ هنري أهبته للحرب. وتوافق غرامه الأخير توافقاً مثيراً مع الدعوة إلى هذه المعركة الفاصلة الكبرى. ذلك أنه برغم بلوغه السادسة والخمسين و ما بدا عليه من اكتمال أحس تدريجا في 1609 بحنين طاغ لشارلوت مورمونسي ذات الستة عشر ربيعاً. وتابت عليه، ولكنها قبلت أمره بأن تتزوج أمير كونديه الجديد. وروى بأن خليلته هنرييت وبخته ساخرة بقولها »ألست شريراً جدا لأنك تريد أن تضاجع زوجة ابنك ؟ فأنت عليم بأنك أخبرتني بأنه (أي الامير) ولدك.« وهرب كونديه بعروسه إلى بروكسل، وتحرق هنري شوقاً إلى مطاردتها، ونظم ماليرب هذا التحرق شعراً. والتمس فيلروا وزير خارجية هنري من الأرشيدوق ألبرت حاكم الأراضي المنخفضة أن يعيد الأميرة إلى باريس، ولكن الأرشيدوق رفض بتشجيع من فليب الثالث ملك أسبانيا. وهدد فيلروا بحرب »قد تشعل ناراً في أربع أركان العالم المسيحي(42)«. وبدا لهنري أن من توفيق العناية أن تقع بروكسل في الطريق إلى ييليش: فهو إذن قاهر هذه السيدة - والأراضي المنخفضة الأسبانية - تمهيداً لتحطيم الإمبراطور وإذلال أسبانيا. واستأجر المرتزقة السويسريين واستعد لجمع جيش عدته ثلاثون ألف مقاتل. ووعده جيمس الأول ملك إنجلترا باربعة آلاف آخرين.

وروعت فرنسا الكاثوليكية، فقد أسرفت في تصديق الشائعات التي تواترت بأن مفاتن الأميرة هي سبب الحرب الحقيقي، وأفزعها أن يكون حلفاء الملك وقواده أكثرهم من البروتستنت، وتساءلت ماذا عساه يكون مصير الكاثوليكية والبابوية في أوربا إذا انهزم جنوبها الكاثوليكي على يد شمالها البروتستنتي، وعلى يد ذلك الملك الذي كان بالأمس القريب هيجونوتياً. وهبطت الضرائب المفروضة لتمويل هذه الحرب المرهوبة بشعبية هنري، وهي أبداً قلقة لا ثبات لها؛ وحتى بلاطه تحول عنه لأنه رأى فيه رجلاً أعماه الحمق عن أن يدرك أنه لم يعد في طاقته أن يجمع بين لوثاريو والاسكندر في شخصه. وأرجفت التنبؤات بأنه مقتول عما قريب - وربما كانت تحريضات مشجعة لمن يتأثرون بها.

وسمع فرانسوا رافاياك بهذه التنبؤات، وكان موطنه انجوليم. وقد اطال التأمل في سجنه الذي أودعه لجريمة لم يقترفها، ورأى الرؤى، ودرس اللاهوت، وقرأ الكتيبات التي تدافع عن قتل الطغاة. وإذ كان قوي الذراع، ضعيف العقل، فقد راح يداعب هذه الفكرة، وهي أن الله اختاره لتحقيق التنبؤات ولإنقاذ فرنسا من مصيرها البروتستنتي. فلما أفرج عنه انطلق إلى باريس (1609)، ونزل عند مدام دسكومان، وهي صديقة لهنرييت دنتراج، وأعترف لها بأنه يفكر في قتل الملك. وأرسل تحذير لهنري، ولكنه كان قد ألف مثل هذه الإنذارات إلفاً جعله لا يعبأ بالتحذير. وبينما كان يخترق الشوارع حاول رافاباك أن يقترب منه، وأوقفه الجند، فقال إنه يريد أن يسأل الملك أصحيح أنه يدبر الحرب على البابا، وأن الهيجونوت يستعدون لذبح الكاثوليك. ثم حاول أن يدخل ديراً وينضم إلى اليسوعيين، ولكن طلبه رفض. فعاد إلى أنجوليم ليقوم بواجبه في الفصح، وتناول القربان، وتسلم من أحد الرهبان حقيبة صغيرة قيل إنها تحتوي على شظية من الصليب الذي مات عليه المسيح. واشترى مدية، ثم عاد إلى باريس. وأرسلت مدام دسكومان تحذيراً إلى صلى فأبلغ الملك به.

وكان هنري يتأهب للحاق بجيشه في شالون. ففي 13 مايو 1610 عين الملكة وصية خلال غيابه. وفي اليوم الرابع عشر رجاه ابنه غير الشرعي، دوق فاندوم، ألا يبرح بيته لأن التنبؤات بمقتله حددت هذا اليوم نهاية لحياته. وفي العصر قرر أن يخرج في نزهة بعربته، وأن يزور صلى المريض، ويستمتع بـ »نسمة هواء«. وتفادياً لانتباه الناس صرف حرسه، ولكن كان يرافقه سبعة من الحاشية. واقتفى رافاياك أثر العربة وكان يراقب اللوفر. وعند نقطة في شارع فيرونيري وقفت العربة لتشابك في المرور. وهنا قفز رافاياك على سلمها وطعن الملك طعنة نجلاء من عنفها أن السلاح اخترق قلبه. فمات هنري للتو تقريباً.

وتحمل رافاياك وزر جريمته كاملاً حين عذب، وأنكر أن له محرضين أو شركاء، وأسف على عنف فعلته، ولكنه صرح بثقته بأن الله غافرها كما يغفر للمذنبين في سبيل قضية مقدسة. ومزقت أربعة جياد أوصاله، وأحرق جذعه في ميدان عام. واتهم الكثير من اليسوعيين بأنهم ألهبوا عقل القاتل، وقيل إن كتاب ماريانا عن الملكية »دي ريجي« »الذي يبرر قتل الطغاة« كان يباع علناً في حوانيت باريس. ورد اليسوعيون بأن هذا الكتاب شجبة صراحة مجمع اليسوعيين عقد بباريس عام 1606. وحكمت السوربون على اليسوعيين بأنهم مسئولون عن التعاليم الخطرة وأحرقت كتاب ماريانا رسمياً(42). أما ماري مديسي فقد حمت اليسوعيين من الأذى بصفتها وصية، وقبلت ارشادهم في الإيمان والسياسة.

وأصاب فرنسا الاضطراب والفرقة لمشروع هنري الأخير وموته المفاجئ. وارتضت قلة هذا الاغتيال على أنه عمل إلهي في سبيل الدفاع عن الكنيسة. ولكن الكثرة العظمى، من الكاثوليك والبروتستنت على السواء، ناجت على ملك رجحت جهوده من أجل شعبه أخطاءه وحماقته وذنوبه رجحاناً كبيراً. ولم يكن قد غاب من ذاكرة الفرنسيين كل ما أورثه مع العرش من فقر وخراب، ومن اضطراب ديني، ومن فساد وعجز حكوميين؛ لقد رأوا الآن أمة نظيفة منظمة، غنية برغم الضرائب المرتفعة، لها من القوة ما يتيح لها أن تتحدى السيادة الأسبانية الطويلة. وذكروا في حنين ما طبع هنري من بساطة في الملبس والمسلك والحديث، وذكروا روحه المرحة وطبيعته الرقيقة، وبسالته المبتهجة في الحرب، وكياسته في الصداقة والدبلوماسية، واغضى تراخيهم الخلقي عن تلك المغامرات التي لم يبد فيها إلا رجلاً على هواهم. لقد وصف نفسه بحق بأنه »ملك وفي، أمين، صادق(44)«، ولكنه كان إلى ذلك أعظم ملوك فرنسا إنسانية ورحمة، ثم إنه كان منقذ فرنسا. ربما بدت خطته في الوصول بفرنسا إلى حدودها الطبيعية أمراً غير عملي، ولكن ريشليو أتبعها بعد عشرين عاماً، ثم حققها لويس الرابع عشر بعد ذلك. ولم يمض طويل زمن على موته حتى أجمعت أوربا على تلقيبه بهنري الأكبر. وفي الثورة الفرنسية أدين جميع الملوك الفرنسيين من خلفائه، إلا هنري الرابع، فقد ظل يتربع المكان الأول في قلب الشعب.