قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 4 ف 37

صفحة رقم : 9151

قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> العلم في عصر كوبرنيق -> الإيمان بالمستور والسحر والتنجيم وما إليهما


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السابع والثلاثون: العلم في عصر كوبرنيق 1517-1565

1- الإيمان بالمستور (السحر والتنجيم وما إليهما)

من الحقائق الجديرة بالملاحظة أن هذا العهد الذي استغرقه اللاهوت والثقافة المدرسية قد أنجب رجلين لهما أرفع مقام في تاريخ العلم-كوبرنيق وفيزاليوس، ومن العجيب أن الكتب التي احتوت عصارة حياتهما قد ظهرت في سنة واحدة، هي "سنة العجائب" 1543. لقد وكان بعض الظروف مواتيا للعلم. فاكتشاف أمريكا وارتياد آسيا، ومطالب الصناعة واتساع التجارة-كل هذا أثمر معرفة كثيراً ما ناقضت المعتقدات المتوارثة وشجعت التفكير الأصيل. وكان للترجمات من اليونانية والعربية، ولطبع كتاب أبوللونيوس "الأشكال المخروطية" (1537) والنص اليوناني لأرخميدس (1544)، الفضل في حفز العلوم الرياضية والفيزيائية. غير أن كثيراً من الرحالة كانوا كاذبين أو مهملين، ونشرت الطباعة العراء على نطاق أوسع من نشرها للمعرفة، وكانت الأدوات العلمية بدائية برغم تعددها. فالمكروسكوب والتلسكوب والترمومتر والبارومتر والمكرومتر والمكركرنومتر كلها كانت في ضمير الغيب. أما النهضة فقد ولعت بالأدب والأسلوب، واهتمت بالفلسفة اهتماماً مؤدباً، ولم تكد تكترث للعلم. حقيقة أن بابوات النهضة لم يقفوا موقف العداء من العلم. فقد استمع ليو العاشر وكلمنت السابع إلى أفكار كوبرنيق بذهنين مفتوحين، وتقبل بولس الثالث في غير خوف إهداء كوبرنيق كتابه له، "كتاب الدورات" الذي زلزل العالم. ولكن رد الفعل الذي جاء في عهد بولس الرابع، وتطور محكمة التفتيش في إيطاليا، وقرارات مجمع ترنت القطعية، كل هذا جعل الدراسات العلمية شاقة خطرة بصورة متزايدة بعد عام 1555.

ولم تستطع البروتستنتية أن تؤيد العلم، لأنها أسست صرحها على كتاب مقدس معصوم. ورفض لوثر فلك كوبرنيق لأن التوراة ذكرت أن يشوع أمر الشمس-لا الأرض-أن تقف. أما ملانكتون فكان ميالاً للعلم، فدرس الرياضيات، والفيزياء، والفلك، والطب، وحاضر في تاريخ الرياضيات في العصور القديمة، ولكن روحه السمحة غلبتها طبيعة أستاذه القوية وطغيان لوثرية ضيقة الأفق بعد موت لوثر. أما كالفن فلم يكن به كبير تقدم للعلم، وأما نوكس فلا تقدير على الإطلاق.

وظل مناخ مثبط من الإيمان بالمستور يحدق بعلماء الغد ويشوش أذهانهم بل يهدد سلامة عقولهم أحياناً كما حدث لكاردن وبارسيلسوس. فالسحر والكيمياء القديمة من مصر، والفيثاغورية والأفلاطونية الجديدة الصوفيتان من اليونان، والقبلانية من اليهودية، كلها حيرت مئات العقول المتلمسة طريقها. وغزت القصص الأسطورية وقصص المعجزات كتابة التاريخ الرسمي، وروى الرحالة حكايات عن تنانين تنفث اللهب وفقراء يتسلقون الحبال. وكاد يفسر كل حدث شاذ في الحياة العامة أو الخاصة بأنه ليس إلا تدبيراً من الله أو الشيطان لإنذار الإنسان أو تهذيبه، لفتنته أو تدميره. وآمن الكثيرون بأن المذنبات والنيازك إن هي إلا كرات من النار يقذف بها إله غاضب(1)، ودخلت الكتب الرخيصة كل بيت قارئ، مؤكدة إمكان تحويل المعادن الخسيسة ذهباً. وكما ذكرت رواية معاصرة، كان "كل الخياطين والحذائين والخدم والخادمات الذين يسمعون ويقرأون عن هذه الأشياء يعطون كل ما يوفرون من نقود... للجائلين والمحتالين" من المشتغلين بهذه الخدع(2). وقد ذكر مشعوذ يدعى وليم وتشرلي في محاكمته بإنجلترا عام 1549 أن في الجزيرة خمسمائة مشعوذ مثله(3). وكان الطلاب المتجولون في ألمانيا يبيعون الأحجبة الواقية من الساحرات والشياطين. وأقبل الجند على التعاويذ والطلاسم التي تكفل تحويل رصاص البنادق عن هدفه(4). وكثيراً ما كان القداس يستعمل رقية لجلب المطر أو ضوء الشمس أو النصر في الحرب. وشاعت إقامة الصلوات استدراراً للمطر، وكانت أحياناً تبدو موفقة فوق ما يطلب، فتقرع أجراس الكنائس لتنبيه السماء إلى الكف عن المطر(5). وفي 1526-31 كان رهبان تروا يوقعون حرماً رسمياً على الديدان التي ابتليت بها المحاصيل، ولكنهم يضيفون إلى هذا أن الحرم لا يجدي إلا في الأطيان التي يدفع زراعها عشورهم للكنيسة(6).

ولعل الأحداث التي نسبت إلى الشيطان كانت أكثر من تلك التي نسبت إلى الله. يقول كاتب بروتستنتي في عام 1563 متفجعاً: "ندر أن تمر سنة دون أن نسمع بأبشع الأنباء من الإمارات والمدن والقرى عن الأساليب الفاجرة الرهيبة التي يحاول بها ملك الجحيم، بظهوره جسدياً أو في شتى الصور والأشكال، أن يطفئ النور الجديد الساطع، نور الإنجيل المقدس"(7). وشارك لوثر عامة الناس في نسبة معظم الأمراض إلى الأرواح الشريرة التي تدخل الجسد-وهي فكرة لا تتناقض على أية حال تناقضاً تاماً مع نظريتنا الشائعة الآن. وكان الكثيرون يؤمنون بأن الأمراض تنجم عن العين الشريرة أو غيرها من أعمال السحر، وأن في الإمكان شفائها بالجرعات السحرية-وهذا أيضاً لا يبعد كثيراً عن عاداتنا في هذه الأيام، وكان أكثر العلاج يعطى حسب موقع الكواكب، ومن هنا دراسة طلبة الطب للتنجيم.

وقد اقترب التنجيم من العلم لأنه افترض حكم القانون في الكون ولأنه اعتمد إلى حد كبير على التجربة. صحيح أن الاعتقاد بأن حركات النجوم ومواقعها هي التي تقرر الأحداث البشرية لم يكن شاملاً كما كان من قبل، ومع ذلك فقد كان في باريس 30.000 منجم في القرن السادس عشر، (8) كلهم على استعداد لكشف الطالع لقاء قطعة من النقود. وراجت التقاويم الحاوية لتنبؤات المنجمين رواجاً كبيراً. وقد قلدها رابليه ساخراً في "التنبؤات البنتاجرويلية" للسيد ألكوفريباس. ووافقه في هذه النقطة اللوثر والسوربون، فنددا بالتنجيم في جميع صوره. واستنكرت الكنيسة رسمياً تنبؤات المنجمين لأنها تتضمن معنى الحتمية وخضوع الكنيسة للنجوم؛ومع ذلك فإن البابا بولس الثالث، وهو من أعظم مفكري ذلك العصر، كان على حد قول سفير في القصر البابوي، "يأبى أن يدعو لأي اجتماع هام لمجمع الكرادلة، وأن يخرج في أي رحلة، دون تخير للأيام الملائمة ورصد لحركات الأبراج". (9) وكان فرانسوا الأول، وكاترين دمديتشي، وشارل التاسع، ويوليوس الثاني، وليو العاشر، وأدريان السادس- كانوا كلهم يستشيرون المنجمين(10). وقد غير ملانكتون تاريخ مولد لوثر ليهيئ له طالعاً أسعد، (11) وتوسل إليه ألا يسافر والقمر هلال بعد(12). وما زال أحد منجمي هذه الفترة مشهوراً، فالمنجم نوستراداموس كان بالفرنسية ميشيل دنوتردام. وقد زعم أنه طبيب وفلكي، وارتضته كاترين دمديتشي منجماً شبه رسمي، وبنت له مرصداً في ليزال، وفي عام 1564 تنبأ لشارل التاسع بأنه سيعمر إلى التسعين(13)، ولكنه مات بعد عشر سنوات في الرابعة والعشرين. وقد ترك هذا المنجم عند موته (1566) كتاب تنبؤات صاغها بحكمة بحيث تحتمل معنيين. وبحيث يمكن أن تصدق بعض سطور الكتاب على أي حدث تقريباً في التاريخ اللاحق.

كان مسيحيو القرن السادس عشر يؤمنون بإمكان نيل قوى خارقة من الشياطين، وكان الخوف من الشياطين يغرس فيهم منذ نعومة أظفارهم، لذلك شعروا بأنهم ملتزمون بحرق الساحرات. وأيد لوثر وكالفن البابا إنوسنت الثامن في الحث على محاكمتهن. يقول لوثر "إني لأرفض العطف على هؤلاء الساحرات، وبودي لو أحرقتهن على بكرة أبيهن"(14). وقد أحرق أربعة منهن في فتنبرج في 19 يونيو 1540، وأربعة وثلاثون في جنيف عام 1545(15). وكان لدى دعاة الإصلاح البروتستنتي بطبيعة الحال مبرر من الكتاب المقدس لهذا الحرق، وأضاف استناد البروتستنتية إلى الكتاب إلحاحاً جديداً على إتباع ما ورد في الآية الثالثة عشرة من الإصحاح الثاني والعشرين من سفر الخروج، وشجعت عادة إخراج الشياطين الكاثوليكية الإيمان بالسحر، لأنها افترضت أن قوة الشياطين تسكن في البشر. وزعم لوثر أن خصمه الليبزجي يوهان إيك قد وقع ميثاقاً مع الشيطان، ورد يوهان كوخلايوس بأن لوثر نتاج جانبي لعبث الشيطان مع مارجريت لوثر(16).

وكان الناس يلجئون أحياناً إلى اتهام أعدائهم بالسحر للتخلص منهم. وكان للمتهمة الخيار في أن يوقع بها تعذيب طويل الأمد لاستخلاص اعتراف منها، أو أن تموت نتيجة للاعتراف. وقد نظم تعذيب المتهمين بالسحر في أوربة القرن السادس عشر "بوحشية هادئة لم تعهد... في الأمم الوثنية"(17). ويبدو أن كثيراً من الضحايا آمن بذنبهن-بأن لهن مع الشياطين معاملات وصلات، جنسية أحيانا(18). وكان بعض المتهمات ينتحرن، وقد دون قاضٍ فرنسي خمس عشرة حالة انتحار في سنة واحدة(19). وكثيراً ما بز القضاة العلمانيون رجال الكنيسة في التحمس لهذا الاضطهاد. وقد نصت قوانين هنري الثامن (1541) على عقوبة الإعدام لأي من عدة أفعال نسبت إلى الساحرات(20)، ولكن محكمة التفتيش الأسبانية دمغت قصص السحر والاعترافات بالسحر بأنها أوهام العقول الضعيفة، ونهبت مندوبيها (1538) إلى تجاهل طلب الجماهير لحرق الساحرات(21).

كانت الأصوات التي ارتفعت لحماية الساحرات أقل من تلك التي ارتفعت للدفاع عن المهرطقين، وكان المهرطقون أنفسهم يؤمنون بالساحرات. ولكن حدث في عام 1563 أن أصدر طبيب في كليفز يدعى يوهان فير بحثاً سماه "في الخدع الشيطانية" جرؤ في استيحاء وتردد على التخفيف من هذا الجنون. ولم يتشكك الطبيب في وجود الشياطين، ولكنه ألمع إلى أن الساحرات هن الضحايا الأبرياء لمس الشياطين، وأن الشياطين يخدعهن ليصدقن السخافات التي يعترفن بها. وفي رأيه أن النساء والأشخاص المصابين بعلة في البدن أو العقل يتعرضون أكثر من غيرهم لمس الشياطين، وخلص من هذا إلى أن السحر ليس جريمة بل هو مرض، ثم ناشد ملوك وأمراء أوربا أن يقفوا إعدام هؤلاء النسوة العاجزات. وبعد بضع سنوات عدل فير وضعه ليتلاءم مع جيله، فكتب وصفاً مفصلاً للجحيم وزبانيتها، ونظامها، وعملها.

وعبرت روح العصر عن ذاتها في قصة فاوست. وأول سماعنا بجيورج فاوست كان في خطاب كتبه يوهان تريتيميوس عام 1507، وهو يصفه بالمشعوذ، ثم في 1513 إذا يذكره موتيانوس روفوس بوصف ليس بأرق من هذا. وقد كتب فيليب بيجاردي، أحد أطباء فورمز في 1539 يقول: "في السنوات الأخيرة كان رجل عجيب يجوب كل إقليم وإمارة ومملكة تقريباً... ويفاخر ببراعته الفائقة لا في الطب فحسب بل في قراءة الكف، والفراسة، والعرافة بالتحديق في الكرة البلورية، وما شابه ذلك من فنون... ولم ينكر أن اسمه فاوستوس"(22) (ومعناه المحظوظ). ويبدو أن فاوست التاريخي مات في 1539- ويقول ملانكتون إن الشيطان لوى عنقه. وبعد موته بأربع سنوات ظهرت أسطورة فاوست حليف الشيطان في كتاب "عظات مرحة" بقلم قسيس بروتستنتي في بال يدعى يوهان جاست. وقد تضافرت فكرتان قديمتان على تحويل الدجال التاريخي إلى شخصية بارزة أو علم سواء في الأسطورة والمسرحية والفن: أولاهما أن الإنسان قد يكتسب قدرات سحرية بتحالفه الوثيق مع الشيطان، والأخرى أن العلم اللاديني إنما هو غرور وقح قد يؤدي بصاحبه إلى الجحيم. وفي فترة ظن الناس أن الأسطورة كاريكاتور كاثوليكي يسخر من لوثر، ولكن نظرة أعمق للأسطورة رأت أنها تعبير عن استنكار الدين للعلم "الدنيوي" الذي يناقض تقبل الكتاب المقدس في تواضع، لأن فيه الكفاية من العلم والحقيقة. أما جوته فقد استنكر هذا الاستنكار، وسمح لتعطش الإنسان للعلم بأن يطهر ذاته باستخدامه للصالح العام. وتجسدت أسطورة فاوست تجسداً مراً في شخص هنري كورنيليوس أجريبا. وقد ولد من أسرة طيبة بكولونيا (1547) ثم شق طريقه إلى باريس، وهناك التقى مصادفة بنفر من المتصوفة أو الدجاجلة الذين ادعوا الحكمة الخفية. وإذ كان متعطشاً للمعرفة والشهرة، فقد احترف الكيمياء القديمة، ودرس القبلانية، واقتنع بأن هناك عالماً من الاستنارة بعيد المنال على الإدراك أو التفكير العادي. وأرسل إلى الناشر تريتميوس مخطوطاً في فلسفة السحر De occulta philosophia مشفوعاً بالخطاب الشخصي التالي:-

"لقد أخذني العجب الشديد، لا بل السخط، لأن أحداً لم ينبر إلى اليوم ليبرئ دراسة في مثل هذا السمو والقدسية من تهمة الضلال. وهكذا استثيرت روحي... وشعرت أنا أيضاً بالرغبة في التفلسف، معتقداً أنني سأخرج كتاباً يستحق الثناء... إذا استطعت أن أدافع عن... ذلك السحر القديم، الذي درسه جميع الحكماء، مطهراً ومنقي من عيوب الضلال، ومزوداً بنسقه المعقول"(23).

ورد عليه تربتميوس مسدياً إليه هذا النصح الجميل. "تكلم على الأشياء العامة للعامة، ولا تتكلم على الأشياء السامية والخفية إلا لأسمى وأخص أصحابك. إن الثور يطعم الدريس، والببغاء يطعم السكر. ففسر هذا القول تفسيراً صحيحاً وإلا أصابك ما أصاب غيرك وداستك الثيران"(34).

وسواء كان الدافع لأجريبا هو الحذر أم الافتقار إلى ناشر، فانه أمسك عشرين عاماً عن دفع كتابه إلى المطبعة. ودعاه الإمبراطور مكسمليان للقتال في إيطاليا، فأبلي في المعركة بلاءً حسناً، ولكنه انتهز الفرصة ليحاضر عن أفلاطون في جامعة بيزا، ولينال درجات في القانون والطب من بافيا. ثم عين محامي مدينة في ميتز (1518)، ولكن سرعان ما فقد ذلك المنصب نتيجة تدخله في محاكمة شابة متهمة بالسحر، وقد حصل على أمر بإطلاق سراحها من محكمة التفتيش، ولكنه رأى من الحكمة بعد ذلك أن يغير موطنه (1519). وأنفق عامين طبيباً للويز أميرة سافوا، غير أن تورط في خلافات كثيرة حملتها على قطع راتبه، فانتقل إلى أنتورب مع زوجته الثانية وأبنائه، وعيّن مؤرخاً رسمياً وأمين مكتبة لبلاط مرجريت الوصية على عرش النمسا، ووفق في كسب قوته بطريقة منتظمة. وعكف الآن على تأليف أهم كتبه "في عدم يقينية العلوم وغرورها". وقد نشره عام 1530، ثم نشر كتاب "فلسفة السحر" الذي ألفه في شبابه-ونشره الآن مما يثير العجب، وصدره بمقدمة تنصل فيها من استمرار إيمانه بالتعاويذ والمعميات الصوفية المفصلة فيه. وتأذى الراسخون في العلم من الكتابين جميعاً.

أما كتابه "فلسفة السحر" فقد أكد أن "روح الكون" تسود العالم وتحكمه كما أن روح الإنسان تسود الجسد وتحكمه، وأن هذا المستودع العظيم لقوة الروح يمكن أن يستمد منه العقل إذا طهر خلقياً ودرب في صبر على الأساليب المجوسية. ومتى اكتسب العقل هذه القوة، استطاع أن يكشف الخصائص الخفية للأشياء والأعداد والحروف والكلمات، وأن ينفذ إلى أسرار النجوم، وأن يسيطر على قوى الأرض وشياطين الهواء. وراج الكتاب رواجاً كبيراً، وأفضى تعدد طبعاته بعد موت أجريبا إلى قصص أسطورية حول تحالفه الوثيق مع شيطان كان يرافقه متنكراً في صورة كلبه(25)، ويمكنه من الطيران فوق الكرة الأرضية والنوم في القمر(26). وقد خففت صروف الدهر من مزاعم أجريبا عن التجربة التي ترق فوق الحس، فتعلم أنه ليس في مقدور أي سحر أو كيمياء (قديمة) إطعام أسرته أو حمايته من السجن بسبب الدين. وانقلب في خيبة أمل غاضبة على البحث عن المعرفة، فكتب في عامه التاسع والثلاثين أكثر كتب القرن السادس عشر تشككاً قبل مونتيني "في عدم يقينية العلوم وغرورها". وقال في تصديره للكتاب "إنني أدرك جيداً أي معركة دامية على أن أخوضها... أولاً سيثير النحويون القذرون ضجة، وكذلك... الشعراء المتبرمون، والمؤرخون الكاسدة بضاعتهم، والخطباء المتفيهقون، والمناطقة العنيدون... والمنجمون المنحوسون، والسحرة البشعون... والفلاسفة المجادلون". فالمعرفة كلها غير يقينية، والعلم كله عبث، و "أسعد الناس من لا يعرف شيئاً". المعرفة هي التي قضت على سعادة آدم وحواء، واعتراف سقراط بالجهل هو الذي أكسبه القناعة والشهرة. "ليست العلوم كلها إلا قوانين الناس وآرائهم، وهي تستوي ضرراً ونفعاً، وأذى وفائدة، وشراً وخيراً، هي بعيدة كل البعد عن الكمال، مشكوك فيها، حافلة بالخطأ والخلاف"(27).

ويبدأ أجريبا هجومه المدمر بالأبجدية، فيأخذ عليها تناقضات النطق المحيرة. ويسخر من النحويين الذين تفوق شواذهم قواعدهم، والذين تتغلب عليهم أصوات الشعب المرة بعد المرة. أما الشعراء فمجانين، فما من إنسان "مالك لصوابه" يستطيع أن يكتب شعراً. والتاريخ أكثره حديث خرافة. لا "خرافة متواضع عليها"، كما سيصفه فولتير خطأ، بل خرافة دائمة التبديل، يغيرها كل مؤرخ وجيل من جديد. أما الخطابة فهي إفساد البلاغة للعقول. وأما السحر فخدعة؛ وينبه أجريبا قراءه الآن إلى أن كتابه في السحر كان "زائفاً، أو كاذباً إن شئتم". وإذا كان قد مارس في ماضيه التنجيم والسحر والعرافة والكيمياء القديمة وغيرها من "الجهالات" فإنما كان أكثر ذلك استجابة لفرط إلحاح مشجعيه القادرين على إجزال العطاء له في طلب المعرفة السرية. أما القبلانية فما هي إلا "عقيدة خرافية وبيلة". وأما الفلاسفة فإن اختلاف آرائهم خلافاً يبطلها كفيل بإبقائهم خارج هذه المحكمة؛ فلنتركهم إذن يدحضون آراء بعضهم بعضاً. وما دامت الفلسفة تسعى إلى استنباط الفضيلة من العقل، فسيحبطها التناقض اللاعقلي للأخلاق في الزمان والمكان، إذ يحدث من جراء هذا التناقض أن ما كان في زمن ما رذيلة، يعد في زمن آخر فضيلة، وما هو في مكان ما فضيلة، هو رذيلة في مكان آخر". أما الفنون والمهن قد أفسدها كما أفسد العلوم الكذب والغرور. وكل بلاط "مدرسة للعادات الفاسدة، ومأوى للشر الكريه". والتجارة غدر وخيانة. والأمناء على الأموال لصوص لصقت بأيديهم الفخاخ وفي أناملهم الخطاطيف. والحرب مذبحة للكثرة تلهو بها القلة. والطب "فن من فنون القتل الخطأ" وكثيراً ما يكون "في الطبيب والدواء من الخطر ما يفوق خطر المرض نفسه".

فما نتيجة هذا كله؟ وإذ كان العلم هو الرأي العابر السريع الزوال، والفلسفة هي التأمل المغرور في طبيعة اللانهائي من عقول حقيرة كالديدان، فبمَ يحيا الإنسان؟ بكلمة الله وحدها معلنة في الكتاب المقدس. وفي هذا الرأي رنين تبشيري، والواقع أننا نلتقي بتأكيدات عديدة لآراء أجريبا "الإنجيلية" مبعثرة وسط شكوكه. فهو يرفض سلطان البابوات الزمني، بل سلطانهم الروحي إذا خالف الكتاب المقدس. وهو يرمي محكمة التفتيش بأنها لا تقنع الناس بالمنطق والكتب المقدسة بل "بالنار والحطب"، وهو يود لو قل إنفاق الكنيسة على الكاتدرائيات وزاد على أعمال البر، ولكنه يتجاوز رجال الإصلاح الديني حين يعترف بأن كتاب العهدين القديم والجديد كانوا عرضة للخطأ. فالمسيح وحده هو المصيب والصادق دائماً، وهو وحده الذي يجب أن نثق به، وفيه الملاذ الأخير للعقل والروح.

وقد استمتع أجريبا بما أحدثته ثورته هذه من غضب، ولكنه دفع ثمن هذه المتعة غالياً خلال ما بقي له من عمر. طالبه شارل الخامس بسحب نقده للكنيسة، فلما رفض قطع راتبه. ولما سجن بسبب دينه ألقى التبعة على الإمبراطور لتخلفه في دفع راتب مؤرخ بلاطه الرسمي. وأطلق سراحه بشفاعة الكردينال كامبيجيو وأسقف لييج، ولكن شارل نفاه من إمبراطوريته (1531). وانتقل أجريبا إلى ليون حيث سجن ثانية بسبب الدين كما تقول رواية غير مؤكدة. ولما أفرج عنه انتقل إلى جرينوبل، وهناك مات بالغاً من العمر ثمانية وأربعين عاماً. ولعل له بعض الفضل في تكوين نزعة مونتيني الشكاكة، ولكن كتابه الرائج الوحيد كان في السحر الذي تنكر له. وظلت الأفكار والعادات المتصلة بالسحر مزدهرة إلى نهاية القرن.


2- الثورة الكوبرنيقية

كان للخطوات التي خطتها العلوم الرياضية، والتي تبدو لنا اليوم تافهة، الفضل في شحذ أدوات الحساب في العصر الذي نحن بصدده. فأدخل كتاب مايكل ستايفل Arithmetica integra (1544) علامات الزائد والناقص، وكان كتاب روبرت ريكورد Whetstone of Wit (1577) أول الكتب المطبوعة التي استعملت علامة "يساوي". أما كتب الحساب التي ألفها آدم ريزي، والتي كانت في زمانها ذائعة الصيت، فقد أقنعت ألمانيا بالانتقال من الحساب بالفيشات إلى الحساب التحريري. ونشر يوهان فرنر (1522) أول بحث حديث عن المخاريط، وواصل جيورج ريتيكوس عمل ريجيو مونتانوس في حساب المثلثات، فضلاً عن أنه ساعد كوبرنيق على نشر نظريته.

أما الفلك فقد أتيح له من الحسابات خير مما أتيح من الآلات. وعلى أساس هذه الحسابات تنبأ بعض المنجمين بطوفان ثان يقع في "فبراير 1524" حين يلتقي المشتري وزحل في برج الحوت، مما حمل مدينة تولوز على بناء فلك للاحتماء به، والأسر الشديدة الحيطة على خزن الطعام في قمم الجبال(28). وكان أكثر الآلات الفلكية من مخلفات العصر الوسيط: كرات سماوية وأرضية، وعصا يعقوب، وإسطرلاب، وكرة ذات حَلَق، وربعيات واسطوانات، وساعات كبيرة، وبوصلات، وعدة أدوات أخرى ليس من بينها التلسكوب ولا الفوتوغرافيا. بهذا الجهاز استطاع كوبرنيق أن يزلزل الدنيا.

وميكولاي كوبرنيك هذا كما تدعوه بولندة، أو نيكلاس كوبرنيج كما تدعوه ألمانيا، أو نيكولاوس كوبرنيكوس كما يدعوه العلماء، ولد في 1473 بمدينة تورن على نهر فستولا في بروسيا الغربية، وكان الفرسان التيوتون قد نزلوا عنها لبولندة قبل ذلك بسبع سنوات. وأمه من أسرة بروسية غنية، أما أبوه فقدم من كراكاو وأقام في تورن واشتغل بتجارة النحاس. ولما مات الأب (1483) كفل أبناءه شقيق الأم، لوكاس فاتزيلرودي، أسقف إيرملاند وأميرها. وأرسل نيكولاس إلى جامعة كراكاو حين بلغ الثامنة عشرة ليعد نفسه للقسوسية. على أنه أقنع خاله بأن يسمح له بالدراسة في إيطاليا لأنه لم يحب الفلسفة الكلامية التي حظرت الدراسات الإنسانية. فعين بنفوذ خاله كاهناً في كاتدرائية فراونبورج ببروسيا الشرقية البولندية، ثم منحه أجازة ثلاث سنوات.

وفي جامعة بولونيا (1497-1500) درس كوبرنيق الرياضيات، والفيزياء، والفلك. وكان من بين معلميه أستاذ اسمه دومنيكو دي نوفارا، تتلمذ من قبل على ريجيو مونتانوس، وانتقد ما في نظرية الفلكي بطليموس من تعقيد سخيف، وعرف تلاميذه بقدامى الفلكيين اليونان الذين تشككوا في ثبات الأرض ووضعها المركزي. فقد كان من رأي فيلولاوس البيثاجوري، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، أن الأرض وسائر الكواكب تدور حول هستيا، وهي نار مركزية لا نراها لأن كل أجزاء الأرض المعروفة تحول بعيداً عنها. وقد روى شيشرون أن هيكيتاس السيراكيوزي، وهو من فلكي القرن الخامس ق. م. أيضاً، كان يعتقد أن الشمس والقمر والنجوم ثابتة، وأن حركتها الظاهرية مرجعها دوران الأرض حول محورها. وذكر أرخميدس وبلوتارخ أن أريستارخوس الساموسي (310-230 ق. م.) رأى أن الأرض تدور حول الشمس، وأنه اتهم بالضلال، وأنه عدل عن رأيه، ويقول بلوتارخ أن سلوقس البابلي أحيا الفكرة في القرن الثاني قبل الميلاد. وكان من الجائز أن ينتصر هذا القول بوضع الشمس المركزي في العصور القديمة، لولا أن كلوديوس بطليموس الإسكندري أكد من جديد، في القرن الثاني بعد الميلاد، نظرية وضع الأرض المركزي، وأكدها بقوة وعلم كبيرين بحيث قل من جرؤ بعده على تحديها. وكان بطليموس نفسه قد قرر أن على العلم وهو يحاول شرح الظواهر الطبيعية أن يتبنى أبسط ما يمكن من فروض متفقة مع الشاهدات المسلم بها. ومع ذلك فإن بطليموس، كهيبارخوس من قبله، حين أراد تفسير حركة الكواكب الظاهرية، اضطرته نظرية وضع الأرض المركزي إلى افتراض مجموعات معقدة تعقيداً محيراً من الدوائر الصغيرة (epicycles) والدوائر مختلفة المركز (eccentrics) . فهل من سبيل إلى فرض أبسط؟ نيكولي أوريسمى (1330-82) ونيكولاس الكوزاوي (1410-64) فجددا فكرة دوران الأرض، وكتب ليوناردو دافنشي (1452-1519) قبيل ذلك يقول: "إن الشمس لا تتحرك... وليست الأرض في مركز دائرة الشمس، ولا هي في مركز الكون"(30).

وأحس كوبرنيق أن نظرية مركزية الشمس تستطيع أن "تنقذ المظاهر"-بشرحها الظواهر الطبيعية المشاهدة-بإحكام أشد من الرأي البطلمي. ففي سنة 1500 ذهب إلى روما وقد بلغ السابعة والعشرين، ربما لحضور اليوبيل، وألقى هناك محاضرات تقول رواية إنه شرح فيها نظرية دوران الأرض على سبيل التجربة. وكانت أجازته قد انتهت، فعاد للقيام بواجباته الدينية كاهناً في فراونبورج. ولكن رياضيات مركزية الأرض كانت تشوش صلواته. فطلب الإذن باستئناف دراساته في إيطاليا، مقترحاً الآن أن يدرس الطب والقانون الكنسي- وهو ما بدا لرؤسائه أدخل في مهنته من الفلك. وقبل ختام القرن الخامس عشر كان قد عاد إلى إيطاليا. ونال درجة القانون في فرارا (1503)، ولم ينل درجة في الطب فيما يبدو، ثم ارتضى الرجوع ثانية إلى فراونبورج. وما لبث خاله أن عينه سكرتيراً وطبيباً (1506)، ربما ليتيح له متسعاً من الوقت للاستزادة من الدرس. وعاش كوبرنيق ست سنوات في قلعة الأسقفية بهايلسبرج وهناك وضع الرياضيات الأساسية لنظريته، ثم دونها في مخطوط.

فلما مات الأسقف الكريم عاد كوبرنيق إلى مكانه في فراونبورج. وواصل ممارسة الطب، وكان يعالج الفقراء مجاناً(31). وقد مثل كهنة الكاتدرائية في مهام دبلوماسية وأعد لسجسموند الأول ملك بولندة خطة لإصلاح العملة البولندية. وفي مقال من مقالاته الكثيرة عن المالية ذكر هذه العبارة التي عرفت فيما بعد بقانون جريشام: العملة الرديئة... تطرد العملة القديمة الأحسن منها(32). وهو يعني أنه إذا أصدرت حكومة ما عملة منحطة اختزنت العملة الجيدة أو أصدرت وامتنع تداولها، ودفعت الضرائب بالعملة الرديئة، و "نقذ الملك من عملته". بيد أن كوبرنيق واصل أبحاثه الفلكية وسط هذه المشاغل المتنوعة. ولم يكن وضعه الجغرافي مواتياً لأبحاثه هذه، ففراونبورج قريبة من البلطي. يلفها الضباب أو السحاب نصف الوقت. وكان يحسد كلوديوس بطليموس، الذي كانت "سماؤه أبهج، حيث لا ينفث النيل الضباب الذي ينفثه نهر نافستولا. لقد حرمتنا الطبيعة تلك الراحة وذلك الهواء الهادئ"(33). لا عجب إذن أن يعبد كوبرنيق الشمس أو يكاد. ولم تكن أرصاده الفلكية كثيرة ولا دقيقة. ولكنها لم تكن ذات أهمية حيوية لهدفه. وكان في أغلب أحيانه ينتفع بالبيانات الفلكية التي خلفها له بطليموس، واعتزم أن يثبت في كل ما وصل إليه من مشاهدات يتفق خير اتفاق مع نظرية مركزية الشمس. وحوالي عام 1514 لخص ما انتهى إليه من استنتاجات في "تعقيب موجز". ولم يطبع الكتاب في حياته، ولكنه وزع بعض نسخ مخطوطة على سبيل جس النبض. وقد قرر فيه استنتاجاته ببساطة واقعية، وكأنها لم تكن أعظم ثورة في التاريخ المسيحي. قال:

  1. ليس هناك مركز واحد لميع الكرات السماوية.
  2. إن مركز الأرض ليس مركز الكون، بل هو نقطة مركز الجاذبية والكرة القمرية.
  3. كل الكرات (الكواكب) تدور حول الشمس بوصفها نقطتها الوسطى، وإذن فالشمس مركز الكون.
  4. نسبة المسافة بين الأرض والشمس إلى ارتفاع قبة السماء أصغر بكثير من نسبة نصف قطر الأرض إلى بعدها عن الشمس بحيث أن المسافة من الأرض إلى الشمس لا تدرك لضآلتها بالقياس إلى ارتفاع قبة السماء.
  5. إن الحركة التي تظهر في قبة السماء لا تنشأ عن أي حركة في قبة السماء بل عن تحرك الأرض. والأرض هي وعناصرها المحيطة بها تدور دورة كاملة حول قطبيها الثابتين في حركة يومية، في حين تظل القبة الزرقاء والسماوات العليا ثابتة لا تتغير.
  6. إن ما يبدو لنا حركات للشمس لا ينشأ عن تحركها بل عن تحرك كوكبنا الأرضي، الذي يجعلنا ندور حول الشمس كأي كوكب آخر.
  7. أن ما يبدو من تراجع الكواكب وحركتها المباشرة لا ينشأ عن حركتها بل عن حركة الأرض. إذن فحركة الأرض وحدها تكفي لتفسير الكثير من المفارقات البادية في السماوات(34).

ولم يلق الفلكيون القلائل الذين قرأوا كتاب التعقيب كبير بال إليه. وأيدي البابا ليو العاشر اهتماماً لا تحيز فيه بالنظرية حين أحيط بها علماً وطلب إلى أحد الكرادلة أن يكتب إلى كوبرنيق طالباً إيضاح فكرته. وحظي الفرض برضى كبير في البلاط البابوي المستنير دام بعض الوقت(35). أما لوثر فقد رفض النظرية حوالي عام 1530 قائلاً: "إن الناس يستمعون إلى منجم محدث حاول التدليل على أن الأرض تدور، لا السموات ولا القبة الزرقاء، ولا الشمس ولا القمر... فهذا الأحمق يريد أن يقلب نظام الفلك كله رأساً على عقب. ولكن الكتاب المقدس ينبئنا بأن يشوع أمر الشمس لا الأرض أن تقف"(36). وأما كالفن فقد أجاب كوبرنيق بآية من المزمور الثالث والتسعين "أيضاً تثبتت المسكونة، لا تتزعزع" ثم تساءل: "فمن يجرؤ على ترجيح شهادة كوبرنيق على شهادة الروح القدس؟(37)". هذه الاستجابة لكتاب "التعقيب" فتت في عضد كوبرنيق حتى أنه أبعد أن أكمل كتابه الكبير حوالي عام 1530 قرر أن يحبسه عن النشر. وواصل القيام بواجباته في هدوء، وحاول الاشتغال قليلاً بالسياسة، وفي ستيناته اتهم بأن له خليلة(38).

ولكن في عام 1539 اندفع إلى قلب هذه الشيخوخة المستسلمة رياضي شاب متحمس يدعى جيورج ريتيكوس. كان فتى في الخامسة والعشرين، بروتستنتياً، يحظى برعاية ملانكتون، ويعمل أستاذاً في جامعة فتنبرج. وكان قد قرأ "التعقيب" واقتنع بصدقه وتاقت نفسه لمساعدة الفلكي العجوز الذي كان يعيش بعيداً في بلدة مغمورة على البلطي كأنها مخفر أمامي على حدود الحضارة، منتظراً في صبر أن يرى الآخرون معه دورة الأرض غير المرئية حول نفسها وحول الشمس. وأحب الفتى كوبرنيق حباً جماً، ووصفه بأنه "خير الرجال وأعظمهم" وتأثر تأثراً عميقاً بإخلاصه للعلم. وظل ريتيكوس عشرة أسابيع مكباً على دراسة المخطوط الكبير. ثم حث كوبرنيق على نشره، ولكنه أبى، غير أنه وافق على أن يقوم ريتيكوس بنشر تحليل مبسط لفصوله الأربعة الأولى. وعليه فقد أصدر العالم الشاب في عام 1540، في مدينة دانتزج، كتابه "أول تقرير عن كتاب دورات الأجرام السماوية". وأرسل نسخة منه إلى ملانكتون والأمل يراوده، ولكن اللاهوتي الكريم لم يقتنع. ولما عاد ريتيكوس إلى فتنبرج (في مطلع 1540) وأثنى على نظرية كوبرنيق في فصله، "أمر"-كما روي-أن يحاضر بدلاً من ذلك عن كتاب يوهان دي ساكروبوسكو Sphaera(39). وفي 16 أكتوبر 1541 كتب ملانكتون إلى صديق له يقول: "يظن البعض أن من الإنجازات البارزة أن يؤلف إنسان نظرية مجنونة كذلك الفلكي البروسي الذي يحرك الأرض ويثبت الشمس. حقاً إن واجب الحكام العقلاء أن يروضوا من جموح العقول"(40). وفي صيف عام 1540 عاد ريتيكوس إلى فراونبورج ومكث بها حتى سبتمبر 1541. ورجا أستاذه المرة بعد المرة أن ينشر على العالم مخطوطه. فلما انضم إليه في هذا الرجاء رجلان بارزان من رجال الدين، استجاب كوبرنيق، ربما لاطمئنانه إلى أنه يضع الآن إحدى قدميه في القبر. وأدخل على المخطوط إضافات نهائية، ثم أذن لريتيكوس أن يبعث به غلى ناشر في نورمبرج تكفل بجميع النفقات والتبعات (1542). وإذ كان ريتيكوس قد رحل عن فتنبرج ليدرس في ليبزج فقد وكل إلى صديقه أندرياس أوزياندر، وكان قسيساً لوثرياً في نورمبرج، مهمة الإشراف على طبع الكتاب.

كان أوزياندر قد كتب إلى كوبرنيق (20 أكتوبر 1541) مقترحاً تقديم الرأي الجديد على أنه فرض لا حقيقة ثابتة، وذكر في خطاب بنفس التاريخ أرسله إلى ريتيكوس أنه بهذه الطريقة "سيهدئ الأرسطاطاليون واللاهوتيون من روعهم في غير مشقة"(41). وكان كوبرنيق نفسه قد وصف نظرياته غير مرة بأنها فروض، لا في تعقيبه الموجز فحسب، بل في كتابه المطول(42)، وفي الوقت ذاته زعم في الإهداء أنه دعم آراءه "بأعظم الأدلة وضوحاً". ولا علم لنا بم ردّ على أوزياندر. على أية حال قدم أوزياندر للكتاب على نحو التالي دون أن يوقع باسمه:

"إلى القارئ، حول فروض هذا الكتاب. نظراً إلى ما ذاع من سمعة هذه الفروض الجديدة، فإن علماء كثيرين ستصدهم ولا ريب نظريات هذا الكتاب صدمة قوية... على أن... فروض الأستاذ ليست بالضرورة الصحيحة، ولا حتى مرجحة. ويكفي جداً أن تؤدي إلى حساب يتفق والمشاهدات الفلكية... وسيبادر الفلكي بإتباع أسهل الفروض فهماً. أما الفيلسوف فربما طالب بترجيح أكثر، ولكن لا هذا ولا ذاك سيستطيع اكتشاف أي شيء يقيني... ما لم يكشف له عنه بالوحي الإلهي. فلنسلم إذن بأن الفروض الجديدة التالية ستتخذ لها مكاناً إلى جوار الفروض القديمة التي ليست أكثر منها رجحاناً. وعلاوة على ذلك فإن هذه الفروض جديرة بالإعجاب وسهلة الفهم حقاً، وفضلاً على هذا فإننا واجدون هنا كنزاً من المشاهدات الدالة على علم واسع. أما فيما عدا هذا فلا يتوقعن أحد من الفلك اليقينية فيما يتصل بالفروض. فهو لا يستطيع أن يعطي هذه اليقينية. ومن يأخذ كل شيء وضع لأغراض أخرى مأخذ الحقيقة سيترك هذا العلم في أغلب الظن أجهل مما كان حين بدأ فيه"(43).

وكثيراً ما ندد الناس بهذه المقدمة باعتبارها عنصراً مقحماً وقحاً(44). ولعل كوبرنيق قد استنكرها، ذلك أن هذا الشيخ بعد أن عايش نظريته ثلاثين عاماً أصبح يشعر بأنه بضعة من حياته ودمه، وبأنها وصف لحقائق الكون الفعلية. ولكن مقدمة أوزياندر كان فيها حصافة وإنصاف، فقد خففت من المقاومة الطبيعية التي تقاوم بها عقول كثيرة فكرة قلقة وثورية، وهي ما زالت مذكراً طيباً لنا بأن أوصافنا للكون إن هي إلا آراء عرضة للخطأ صادرة من قطرات ماء عن البحر، وأنها تحتمل هي الأخرى الرفض أو التصحيح. وظهر الكتاب أخيراً في ربيع 1543 يحمل هذا العنوان: "الجزء الأول من كتاب نيكولاي كوبرنيقي عن الدورات"، وعرف الكتاب بعد ذلك بهذا الاسم: "في دورات الأجرام السماوية"، ووصلت إحدى نسخ الكتاب الأولى إلى يد كوبرنيق في 24 مايو 1543. وكان على فراش الموت، فقرأ صفحة العنوان، وابتسم، ثم مات في نفس الساعة.

وكان إهداء الكتاب إلى البابا بولس الثالث في ذاته جعداً لنزع السلاح من يد المقاومة لنظريته تناقض حرفية الكتاب المقدس، كما أيقن كوبرنيق، مناقضة صريحة. وقد بدأ بتأكيدات وروعة فقال: "ما زلت أومن أن علينا أن نتجنب النظريات البعيدة كل البعد عن سلامة العقيدة". وذكر أنه تردد طويلاً في نشر الكتاب متسائلاً" أليس الأفضل أن أحذو حذو الفيثاغوريين... الذين درجوا على توصيل أسرار الفلسفة بالفم لا بالكتابة، ولأقربائهم وأصدقائهم دون سواهم". ولكن رجلين من رجال الكنيسة المثقفين وهما نيقولا شونبرج كردينال كبوا، وتدمان جيزي أسقف كولم-كانا قد ألحا في توصيته بنشر كشوفه. (وقد وجد كوبرنيق أن من الحكمة عدم ذكر اللوثري ريتيكوس). ثم اعترف بفضل الفلكيين اليونان عليه، ولكنه في زلة قلم أغفل اسم أرستارخوس. وقال إنه يعتقد إن الفلكيين في حاجة إلى نظرية أفضل من النظرية البطلمية، لأنهم يجدون الآن صعوبات كثيرة في الرأي القائل بمركزية الأرض، ولا يستطيعون على هذا الأساس أن يحسبوا طول السنة حساباً دقيقاً. ثم إنه لجأ إلى البابا بوصفه رجلاً "عظيماً... في محبته للعلوم جمعها حتى الرياضيات". لكي يحميه من "لدغ المفترين" الذين سيدعون لأنفسهم الحق في الحكم على هذه الأشياء. أو "سيهاجمون نظريتي محتجين بفقرة من الكتاب المقدس"(45)، وذلك دون إلمام كاف بالرياضيات.

ويبدأ العرض بهذه المسلمات، أولاً أن الكون كروي، ثانياً، أن الأرض كروية-لأن المادة إذا تركت وشأنها تنجذب نحو مركز، ومن ثم تكيف نفسها في شكل كروي، ثالثاً، أن حركات الأجرام السماوية حركات دائرية متماثلة، أو مكونة من هذه الحركات-لأن الدائرة هي "أكثر الأشكال كمالاً" ولأن "العقل يقشعر رعباً" من الفرض القائل بأن الحركات السماوية ليست متماثلة. (والصواب في التفكير محال ما لم يكن هناك صواب في سلوك موضوعات التفكير).

ويلاحظ كوبرنيق نسبية الحركة: "كل تغير يرى في الوضع مرجعه الحركة سواء حركة المشاهد أو حركة الشيء الذي يشاهده، أو مرجعه التغيرات الطارئة على وضع الاثنين بشرط أن يكونا مختلفين. لأنه إذا حركت الأشياء بنسبة متساوية إلى نفس الأشياء، لم تلحظ أية حركة بين الشيء المرئي وبين المشاهد"(46). إذن فدوران الكواكب اليومي الظاهري حول الأرض يمكن تعليله بدوران الأرض يومياً حول محورها، وحركة الشمس السنوية الظاهرية حول الأرض يمكن تعليلها إذا افترضنا أن الأرض تدور سنوياً حول الشمس. ويتوقع كوبرنيق الاعتراضات على نظريته. فقد زعم بطليموس أن السحب والأجسام الموجودة على سطح أرض دائرة تتطاير بعيداً عنها وتترك وراءها. ويرد كوبرنيق بأن هذا الاعتراض أحرى أن يعترض به على دوران الكواكب الكبرى حول الأرض، لأن مسافاتها الشاسعة تعني أن لها أجراماً هائلة وسرعات عظيمة. كذلك زعم بطليموس أن الجسم المدفوع مباشرة إلى أعلى من أرض دائرة لا يعود في سقوطه إلى نقطته الأصلية. ويرد كوبرنيق بأن هذه الأجسام، شأنها شأن السحب، هي "أجزاء من الأرض" وأنها تحمل معها في سيرها. أما الاعتراض بأن دوران الأرض سنوياً حول الشمس لو صح "لتجلي في تحرك النجوم "الثابتة" (وهي النجوم الواقعة وراء مجموعتنا الكوكبية) كما تشاهد في طرفين متقابلين لمدار الأرض، فيرد عليه كوبرنيق بأن هذا التحرك موجود فعلاً، ولكن البعد الشاسع للنجوم ("القبة السماوية") لا يتيح لنا رؤيته. (ويمكن اليوم رصد درجة معتدلة من هذه الحركة).

ثم يجمل نظريته في فقرة جامعة مانعة:

"أولاً وقبل كل شيء هناك مجال النجوم الثابتة، الذي يحتوي ذاته وكل الأشياء، وهو لهذا السبب عينه ثابت... أم الأجسام المتحركة (الكواكب) فأولها زحل الذي يتم دورته في ثلاثين سنة. ثم يأتي المشتري الذي يتمها في اثنتي عشرة سنة، ثم المريخ الذي يدور كل عامين. ويلي هذا في الترتيب دورة رابعة تقع كل سنة... وهي تحتوي الأرض ومعها مدار القمر كدائرة صغيرة يدور مركزها على محيط دائرة أكبر. أما الكوكب الخامس فهو الزهرة التي تدور حول الشمس في تسعة شهور. ثم يشغل عطارد المكان السادس، وهو يدور دورته في ثمانين يوماً. وفي وسط هذه الكواكب جميعها تقوم الشمس... ولم يخطئ البعض إذ وصفوها بمصباح الكون، ووصفها غيرهم بعقل الكون، وغيره بسيده الحاكم... والقول صواب لأن الشمس وهي متربعة على عرشها الملكي تحكم أسرة النجوم المحيطة بها.... وهكذا نجد بفضل هذا التنسيق تماثلاً عجيباً في الكون، وعلاقة انسجام محددة في حركة الأجرام السماوية وضخامتها وهي علاقة من نوع يستحيل تحقيقه بأي طريقة أخرى "(47).

ويمكن القول بوجه عام إن أي تقدم يحرزه الإنسان في نظرية ما يحمل معه الكثير من مخلفات النظرية القديمة المتروكة. فقد أقام كوبرنيق تصوراته على مشاهدات موروثة من بطلميوس، واحتفظ بالكثير من تفاصيل الجهاز السماوي البطلمي، كالدوائر، والدوائر الصغيرة التي تدور مراكزها على محيط دائرة أكبر، والدوائر المنحرفة عن المسار الدائري، أما رفض هذه التفاصيل فسوف يتم على يد كبلر. وكان أغرب الأشياء حساب كوبرنيق أن الشمس ليست بالضبط في وسط مدار الأرض. فقد حسب أن مركز الكون "يبعد عن الشمس بمقدار ثلاثة أمثال قطر الشمس"، وأن مراكز أفلاك السيارات هي كذلك خارج الشمس، وأنها ليست واحدة على الإطلاق. وقد نقل كوبرنيق من الأرض إلى الشمس فكرتين يرفضهما العلم اليوم، أولاهما: أن الشمس هي المركز التقريبي للكون، والأخرى أنها ساكنة. وحسب أن الأرض ليست لها دورة حول محورها وأخرى حول فلكها فحسب، بل حركة ثالثة ظنها ضرورية لتفسير ميل محور الأرض ومبادرة الإعتدالين.

وعلى ذلك يجب ألا نبتسم-ونحن ندرك الموقف بعد هذه القرون-سخرية من أولئك الذين تأخروا طويلاً في اعتناق نظرية كوبرنيق. ذلك أنه لم يطلب إليهم مجرد تصور الأرض وهي تدور وتندفع في الفضاء بسرعة رهيبة على عكس ما تشهد به حواسهم شهادة مباشرة، بل أكثر من ذلك أن يسلموا بعمليات حسابية تتوه فيها العقول ولا تقل في تحييرها للإفهام عن حسابات بطليموس إلا بقدر طفيف. ولم تبد النظرية الجديدة متفوقة على القديمة بصورة واضحة إلا بعد أن صاغ كبلر وجاليليو ونيوتن جهازها ليحقق بساطة ودقة أعظم، وحتى بعد هذا يجب أن نقول عن الشمس تلك الكلمات التي ربما قالها جاليليو عن الأرض "ومع ذلك فهي تدور". هذا وقد رفض تيكو براهي فرض مركزية الشمس بحجة أن كوبرنيق لم يرد على اعتراضات بطليموس رداً مقنعاً. وأعجب من هذا الرفض تلك السرعة النسبية التي قبل بها النظرية الجديدة فلكيون كريتيكوس، وأوزياندر، وجون فيلد، وتومس ديجيز، وإرزمس رينهولد-الذي بنى "جداوله البروتنية" (1551) للحركات السماوية على نظرية كوبرنيق إلى حد كبير. ولم تبد الكنيسة الكاثوليكية اعتراضاً على النظرية الجديدة ما دامت تعرض ذاتها على أنها فرض، ولكن محكمة التفتيش لم تعرف رحمة في العقاب حين اعتبر جوردانو برونو الفرض حقيقة مؤكدة، وبينت في وضوح نتائجها على الدين. وفي 1616 حرمت "لجنة الفهرس" قراءة كتاب "الدورات" إلى أن يصحح، وفي 1620 أذن للكاثوليك أن يقرءوا طبعات حذفت منها تسع عبارات تمثل النظرية على أنها حقيقة. ثم اختفى الكتاب من فهرس 1758 المراجع، ولكن الحظر لم يلغ صراحة إلا في 1828.

كانت نظرية مركزية الأرض تلائم بصورة معقولة لاهوتاً يفرض أن كل الأشياء خلقت لمنفعة البشر. أما الآن فقد شعر هؤلاء البشر أنهم يترنحون فوق كوكب صغير اختزل تاريخه إلى "مجرد فقرة محلية في أخبار الكون". (48) فماذا يمكن أن تعنيه كلمة "السماء" إذا كانت كلمتا "فوق" و "تحت" قد فقدتا كل معنى لهما، وإذا كانت إحداهما تنقلب فتصبح الأخرى في نصف يوم؟ كتب جيمس وولف إلى تيكو براهي في 1575 يقول: "ما من هجوم على المسيحية أشد خطراً من القول بضخامة السماوات وعمقها اللانهائيين"-مع أن كوبرنيق لم يقل بلا نهائية الكون. فلا بد أن الناس حين توقفوا للتأمل في المعاني التي تتضمنها النظرية الجديدة راحوا يتساءلون عن صواب القول بأن خالق هذا الكون الهائل المنظم قد أرسل ابنه ليموت على هذا الكوكب المتوسط الحجم. وبدا أن كل شعر المسيحية الجميل، "يتصاعد دخاناً" (كما قال جوته فيما بعد) تحت لمسة هذا الكاهن البولندي. وأجبر الفلك القائل بمركزية الشمس الناس على أن يتصوروا الخالق من جديد في صورة أقل ضيقاً في الأفق وأقل تجسداً، وواجه اللاهوت أقوى تحد في تاريخ الدين. ومن ثم كانت الثورة الكوبرنيقية أشد عمقاً من حركة الإصلاح البروتستنتي، فقد جعلت الفروق بين العقائد الكاثوليكية والبروتستنتية تبدو تافهة، وتخطت حركة الإصلاح البروتستنتي إلى حركة التنوبر، من أرزمس ولوثر إلى فولتير، وحتى إلى ما بعد فولتير، إلى لا أدريه القرن التاسع عشر المتشائمة، هذا القرن الذي سيضيف الكارثة الداروينية إلى الكارثة الكوبرنيقية. ولم يكن هناك سوى واق واحد من أمثال هؤلاء الرجال، وهو أن قلة قليلة فقط في أي جيل هي التي ستدرك ما ينطوي عليه فكرهم من معان. فسوف "تشرق" الشمس و "تغرب" حين كوبرنيق قد طوى في زوايا النسيان.

في عام 1581 أقام الأسقف كرومر نصباً تذكارياً لكوبرنيق على السور الداخلي لكاتدرائية فراونبورج بجوار قبر الكاهن. وفي عام 1746 أزيل النصب ليفسح مكاناً لتمثال للأسقف زمبك. فمن هو هذا الأسقف؟ من يدري؟.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- ماجلان وكشف الأرض

تقدم ارتياد الأرض بخطى أسرع من رسم خريطة السماء، وكان لهذا التقدم تقريباً نفس التأثيرات المزعجة على الدين والفلسفة. أما الجيولوجيا فكانت أقل من غيرها تقدماً، لأن نظرية الخلق كما وردت في الكتاب المقدس أصبحت في مأمن من الشك بفضل الإيمان بمصدرها الإلهي. قال المصلح الإيطالي-الإنجليزي بيتر مارتر فرميلي "لو شاع بين الناس رأي خاطئ عن الخليقة كما وردت في سفر التكوين لبطلت كل وعود المسيح وفقد ديننا حياته كلها"(49). وأهم كتب الجيولوجيا التي صدرت في النصف الأول من القرن السادس عشر كتاب ألفه جروج أجريكولا (هذا فضلاً عن آراء ليوناردو المبعثرة هنا وهناك). تأمل هذه الفقرة من كتابه De ortu et causis subterranoerum (بال 1546) عن منشأ الجبال: "تتكون التلال والجبال بفعل قوتين، إحداهما قوة المياه، والأخرى قوة الرياح، ويجب أن نضيف إليهما النار التي في باطن الأرض... ذلك أن السيول تجرف أولاً التربة اللينة، ثم تحمل التربة الأكثر صلابة، ثم تدحرج الصخور، وهكذا تحفر السهول أو السفوح في بضع سنوات و... ونتيجة لهذا الحفر في عصور كثيرة يتكون مرتفع ضخم... هو الأنهار... والأنهار تحدث نفس النتيجة باندفاعها وجرفها، ولذا كثيراً ما ترى جارية بين جبال شامخة كونتها هذه الأنهار، أو بقرب الساحل الذي يحفها... وتكون الرياح تلالاً وجبالاً بطريقتين... إما بتحريك الرمال وإثارتها بعنف، وإما بكفاحها للخروج بقوة.... بعد أن تكون قد دفعت إلى شقوق الأرض الخفية"(50).

أما كتاب أجريكولا De natura fossilium، (1546) فأول بحث منسق عن علم المعادن، ويحتوي مقاله De metallica على أول بحث نسقي عن علم الطبقات، وفيه كما رأينا أول تعليل للرواسب المعدنية. أما الأثنوغرافيا (علم نشوء الأعراق) فقد أتحفتنا بكتابين كبيرين: أولهما Cosmographia universalis (1544)، لسباستيان مونستر، وثانيهما Descriptio Africa، (1550) لليو الأفريقي Leo Africanus. كان الحسن بن محمد الوزان مسلماً من غرناطة، وقد تنقل في أرجاء أفريقيا ووصل جنوباً إلى السودان يحدوه ولع شديد بالأسفار كولع ابن بطوطة. وقد أسره القراصنة المسيحيين وبعثوا به إلى روما هدية للبابا ليو العاشر الذي أعتقه ورتب له معاشاً بعد أن أعجب بما حصله من علم وثقافة. واستجاب لهذا العطف باعتناقه المسيحية واتخاذ "ليو" اسماً له. ثم أنفق الثلاثين السنة التالية في تأليف كتابه هذا بالعربية أولاً ثم بالإيطالية. وقبل الفراغ من طبعه الكتاب عاد إلى تونس، وهناك مات عام 1552 على دين آبائه فيما يبدو.(51)

وكان العصر مثيراً بالنسبة للجغرافيا. فقد جاءت الأنباء والتقارير تتري، من المبشرين والفاتحين الأسبان والملاحين والرحالة، مضيفة إضافات هائلة إلى معرفة أوربا بالكرة الأرضية. وكان الأسبان الذين فتحوا المكسيك وكاليفورنيا وأمريكا الوسطى وبيرو في هذه الفترة مغامرين وطلاب ثراء أولاً، سئموا الفقر والحياة الرتيبة في وطنهم، واقتحموا المخاطر في تلك الأقطار النائية الغريبة. وفي غمرة الشدائد التي عانوها في مغامراتهم المستهترة نسوا قيود الحضارة، واعتنقوا بصراحة أخلاقيات المدافع المتفوقة، واقترنوا عملاً من أعمال السطو والغدر والقتل لا يغتفر، إلا أن يرى طرف ذو مصلحة أن نتيجته النهائية كانت كسباً للحضارة. ومع ذلك فما من شك في أن المغلوبين كانوا في ذلك الوقت أعظم تحضراً من الغالبين الفعليين. وحسبك أن تتأمل حضارة ألمانيا التي وجدها هرنانديز القرطبي في يوكاتان (1517)، وإمبراطورية المونتزوميين الأزتيكية التي غزاها هرناندو كورتيز (1521)، وحضارة الإنكا الاشتراكية التي دمرت إبان فتح فرانشسكو بيزارو لبيرو (1526-32). ولا ندري أي صور نبيلة أو خسيسة كانت هذه الحضارات متطورة إليها لو أتيح لها سلاح تدافع به عن نفسها.


ومضى الكشف الجغرافي المثير قدماً. فارتاد سبستيان كابوت تحت الراية الأسبانية الأرجنتين وأورجواي وبراجواي. واخترق دي سوتو فلوريدا وولايات الخليج حتى بلغ أوكلاهوما. واكتشف بدرو دي الفرادو إمبراطورية تكساس، واخترق فرانشسكو دي كورنادو أريزونا وأوكلاهوما حتى بلغ كانزاس. وبدأت مناجم بوتوزي في بوليفيا تبعث بفضتها إلى أسبانيا (1545)، وكانت خريطة العالم الجديد ترسم سنة بعد سنة بالذهب والفضة والدم. وتخلف الإنجليز والفرنسيون في هذه القارة الكبرى لأن أرجاء أمريكا الشمالية التي تركها لهم الأسبان والبرتغال كانت فقيرة في معادنها النفيسة، وعرة في غاباتها. وأبحر جوت رت بحذاء ساحل نيوفوندلند ومين. وبعث فرانسوا الأول بجوفاني دا فيرانانو ليبحث عن مسلك شمالي غربي إلى آسيا، فرساً على كارولينا الشمالية، ودخل ميناء نيويورك (التي تذكره بتمثال عند بطاريتها)، ودار حول رأس كود حتى وصل مين. وأبحر جاك كارتييه وهو يرفع على فرنسا مصعداً في السانت لورنس حتى بلغ مونتريال، مدعماً بذلك دعوى فرنسا بحقها في امتلاك كندا.

على أن أعظم المغامرات إثارة في هذا الجيل الثاني من أجيال الارتياد فيما وراء المحيط هي الدوران حول الكرة الأرضية. كان فرناو دي ماجالايس برتغالياً قد شارك بنشاط في كثير من الرحلات والغزوات البرتغالية، ولكنه انتقل إلى خدمة أسبانيا بعد أن غضبت عليه حكومته، وفي عام 1518 أقنع شارل الأول (الخامس) بأن يمول بعثة تبحث عن ممر جنوبي غربي آسيا. ولم يكن الملك الشاب قد أصاب يومها ما أصاب من ثراء بعد هذا، لذلك كانت السفن الخمس التي أعطاها لماجلان عتيقة بالية حتى أن أحد القباطنة حكم بعد صلاحيتها للملاحة. وكانت حمولة أكبرها 120 وطناً، وأصغرها 75 طناً. وعاف الملاحون الخبيرون بالبحر التطوع بين بحارة هذه المراكب، واقتضى الأمر اختيار معظم بحارتها من بين حثالة أهل الساحل. وفي 20 سبتمبر 1519 أقلع الأسطول من نهر الوادي الكبير عند سان لوكار. وكان يتمتع بميزة الإبحار من الصيف في الأطلنطي الشمالي إلى الصيف في الأطلنطي الجنوبي، ولكن الشتاء أدركه في مارس 1520، فألقت المراكب مراسيها، وأنفق الملاحون خمسة شهور مملة في بتاجونيا. أما الوطنيون العمالقة الذين زاد طول الواحد منهم في المتوسط على ستة أقدام فقد أبدوا نحو الأسبان القصار القامة بالقياس لهم وداً فيه تلطف وتنازل، ولكن كثرة المشاق واستمرارها حملا بحارة ثلاث من السفن الخمس على التمرد، وأكره ماجلان على مقاتلة رجاله ليجبرهم على المضي في هذه المغامرة. على أن سفينة منها تسللت عائدة إلى أسبانيا، وتحطمت أخرى على حاجز صخري. وفي أغسطس 1520 استؤنفت الرحلة، وكان ماجلان يستطلع كل خليج يمر به عسى أن يكون مصباً لطريق مائي وراء المحيط. وفي 28 نوفمبر تكلل البحث بالنجاح، ودخل الأسطول الذي تناقص عدد سفنه المضايق التي تحمل اسم ماجلان. وهكذا استغرقت رحلة 320 ميلاً من البحر إلى البحر ثلاثة وثمانين يوماً.

ثم بدأ الأسطول عبوراً كئيباً موحشاً للمحيط الهادي الذي لم تبد له نهاية. ولم يقع نظر الملاحين خلال ثمانية وتسعين يوماً إلا على جزيرتين صغيرتين. وتناقصت المؤن بشكل خطر، وأصيب الملاحون بالإسقربوط. وفي 6 مارس 1521 مست السفن ساحل جوام، ولكن عداء الوطنيين حمل ماجلان ورجاله على مواصلة الإبحار. وفي 6 أبريل وصلوا إلى الفلبين، وفي اليوم السابع رسوا على جزيرة كيبو. ورغبة في ضمان الحصول على المؤن من الجزيرة اتفق ماجلان مع الحاكم المحلي على أن يساعده في حربه مع أعدائه المجاورين. فشارك في حملة على جزيرة ماكتان، وقتل في المعركة التي دارت هناك في 27 أبريل 1521. وهكذا لم يدر ماجلان حول الأرض، ولكنه كان أول من حقق حلم كولومبس في الوصول إلى آسيا بالإبحار غرباً(52).

كان عدد الملاحين قد هبط الآن بعد موت من مات منهم بحيث لم يكف إلا لتزويد سفينتين فقط بالرجال. أما إحدى السفينتين فقد قفلت عائدة عبر المحيط الهادي، ربما سعياً وراء الذهب الأمريكي. ولم يبق من سفن الأسطول غير "فكتوريا". واضطلع بقيادتها جوان سبستيان ديلكانو، فقاد السفينة الصغيرة التي لم تزد حمولتها على خمسة وثمانين طناً مخترقاً جزر البهار، عابراً المحيط الهندي، دائراً حول رأس الرجاء الصالح، مصعداً في ساحل أفريقيا الغربي. وأرسى الملاحون السفينة تجاه إحدى جزر الرأس الأخضر وهم يتحرقون شوقاً للزاد والمئونة، ولكن البرتغاليين هاجموهم، وأودع السجن نصفهم. وأفلح الباقون وعددهم اثنان وعشرون في الهروب. وفي 8 سبتمبر 1522 بلغت السفينة فكتوريا إشبيلية وهي لا تحمل سوى ثمانية عشر رجلاً (والباقون من أهل الملايو) هم كل من بقي من 280 رجلاً أقلعوا من أسبانيا قبل ثلاث سنوات تقريباً. وسجلت يومية السفينة هذا التاريخ باعتباره 7 سبتمبر. وعلل الكاردينال جاسبارو كونتاريني الفرق باتجاه الرحلة الغربي. لقد كانت المغامرة من أجرأ المغامرات في التاريخ، ومن أحفلها بالثمار للجغرافيا.

وبقي على الجغرافيين واجب اللحاق بالرواد. وقد يسر لهم جيامياتستا راموزيو- وهو ها كلويت الإيطالي- هذه المهمة بجمعه خلال ثلاثين عاماً القصص والأخبار التي جلبها الرحالة وغيرهم من المسافرين، وقد ترجمها وعلق عليها، ثم نشرت في ثلاثة مجلدات (1550-59) بعد موته بثلاثة عشر عاماً. ويظهر التقدم الذي حققه الجغرافيون في عشر سنوات إذا قارنا بين الكرة الأرضية كما رسمت عام 1520، المحفوظة بالمتحف القومي الألماني في نورمبرج، والتي تبدو فيها جزر الهند الغربية دون أثر لقارة أمريكية، ثم تقفز هذه الجزر فوق محيط ضيق إلى آسيا، وبين ثلاث خرائط رسمها (1527-29) ديوجو ريبيرو، وقد ظهرت فيها شواطئ أوربا وأفريقيا وجنوب آسيا مرسومة بدقة عظيمة، والساحل الشرقي للأمريكتين من نيوفوندلند حتى مضايق ماجلان، والساحل الغربي من بيرو إلى المكسيك، ولعل "خريطة راموزيو" (البندقية 1534) البديعة للأمريكتين، المحفوظة بمكتبة نيويورك العامة، منقولة عن ريبيرو هذا. وفي نفس "المكتبة الأم" خريطة قديمة وخاطئة رسمها جرهادوس مركاتور (1538) أطلق فيها على أمريكا الشمالية والجنوبية اسمها هذا لأول مرة. (أما "خريطة نركاثور البارزة" فترجع إلى عام 1569). وأضاف بيتر أبيان (1524) إلى علم الجغرافيا بمحاولته إخضاع المسافات الجغرافية لمقاييس مضبوطة.

وقد ظهرت آثار هذه الارتيادات في كل منحى من مناحي الحياة الأوربية. فرحلات 1420-1560 زادت وجه الكرة المعروفة للبشر أربعة أضعاف تقريباً. وكان للجديد من الحيوان والنبات، والأحجار الكريمة والمعادن، والأطعمة والعقاقير، الفضل في إثراء نبات أوربا وحيوانها وجيولوجيتها وموائدها وعقاقيرها. وتساءل الناس كيف وجد ممثلو الأنواع الجديدة كلها مكاناً في فلك نوح. وتغير الأدب، فأخلت قصص الفروسية القديمة مكانها لقصص الأسفار أو المغامرات في القطار النائية، وحل البحث عن الذهب محل البحث عن الكأس المقدسة في رمزية لا شعورية للمزاج الجديد. وفتحت أعظم ثورة تجارية في التاريخ (قبل أن تبلغ الطائرة مرحلة النضج) المحيط الأطلنطي وغيره من المحيطات للتجارة الأوربية، وخلفت البحر المتوسط في حالة ركود تجاري، ومن ثم ركود ثقافي تبعه بعد قليل. وانتقلت النهضة من إيطاليا إلى دول الأطلنطي. وراحت أوربا، التي كانت تملك سفناً ومدافع أفضل وسكاناً أصلب وأشد رغبة في التملك والمغامرة، راحت تفتح-وأحياناً تستعمر-البلد تلو البلد من الأقطار المكتشفة. وأكره السكان الوطنيون على العمل المتصل الشاق الذي لم يتعودوه لإنتاج السلع لأوربا، وأصبح الرق نظاماً راسخاً. وغدت أصغر القارات تقريباً أعظمها ثراءً. وبدأت حركة صبغ الكرة الأرضية بالطابع الأوربي، وهي الحركة التي قلبت قلباً حاداً في عصرنا. ووجد عقل الرجل الغربي حافزاً قوياً في بعد الشقة بينه وبين الأقطار الجديدة وفي ضخامتها وتنوعها. وربما كان لبعض تشكك مونتيني جذور في سحر الدخيل المجلوب من العادات والعقائد. واتخذت العوائد والأخلاق نسبية جغرافية أوهنت القديم من العقائد القطعية واليقينية. وكان لزاماً أن ينظر إلى المسيحية ذاتها في منظور جديد بوصفها دين قارة صغيرة تقوم وسط عالم من العقائد المنافسة. وكما أن المذهب الإنساني كشف عالماً قبل المسيح، وكما أن كوبرنيق أماط اللثام عن ضآلة الأرض الفلكية، كذلك كشف ارتياد الأراضي الجديدة وما تلاه من تجارة عن أقطار شاسعة تقوم وراء المسيحية دون اكتراث لوجودها. وتزعزعت مكانة أرسطو وغيره من اليونان حين ظهرت قلة ما عرفوا عن هذا الكوكب. واضمحل إعجاب النهضة الأعمى باليونان، واستعد الإنسان، التياه بكشوفه الجديدة تيه أهل النهضة، لنسيان حجمه الفلكي المتناقص أمام اتساع معارفه وتجارته. وظهر العلم والفلسفة العصريان، واضطلعا بمهمة خطيرة، مهمة تصور العالم من جديد.


4- بعث علم الأحياء

بعثت الآن من جديد علوم الأحياء التي لم تكد تحرز أي تقدم منذ عصر الإغريق. فكافح علم النبات ليتحرر من قبضة الصيدلة ويقف على قدميه، ونجح في هذا الكفاح، ولكن لم يكن بد من أن يظل المهيمنون عليه من رجال الطب. وبدأ الحركة أوتو برونفيلز، الطبيب المدني في برن، بكتاب "صور حية للنبات" (1530-36)، وقد سرق معظم نصه من ثيوفراستوس، وديوسقوريدس، وغيرهما من السلف، ولكنه أضاف أيضاً وصفاً للنباتات الألمانية الموطن، وكانت رسومه المحفورة على الخشب وعددها 135 نماذج من الأمانة. وأنشأ يوريكيوس كوردوس، طبيب مدينة بريمن، أول حديقة نباتية (1530) شمال جبال الألب، وحاول كتابة خلاصة مستقلة لعلم النبات الوليد في كتابه Botanilogicon (1534) ثم عاد إلى مجال الطب في كتابه Liber de urinis. وقام ابنه فاليريوس كوردوس بجولات مستهترة في سبيل درس النبات، وقد قلى حتفه أثناءها وهو في التاسعة والعشرين (1544)، ولكنه ترك من بعده للنشر كتابه "تاريخ النبات"، وفيه وصف حي دقيق لخمسمائة نوع من النبات. وقد بدأ ليونارد فوكس، أستاذ الطب بتوبنجن، بدراسة النبات سبيلاً إلى الأقرباذين، ثم انتهى بدراسته لذاته ولما فيه من متعة. وكان كتابه Historia stripium، (1542) مثالاً للتفاني في العلم، وقد حوى 343 فصلاً حللت 343 جنساً وشرحتها في 515 رسماً محفوراً على الخشب يشغل كل منها صفحة كبيرة كاملة. وأعد للطبع كتاباً أشمل حتى من سابقه، وبه 1.500 لوحة، ولكن أحداً من أصحاب المطابع لم يقبل أن يتكفل بنفقات نشره. أما أثره الحي الباقي فهو جنس "الفوشيا".

وربما كانت أهم فكرة مفردة أسهم بها في علم الأحياء في هذه الفترة هي شرح بيير بيلون في كتابه Histoire.... Des oyseaux، (1555) لذلك التقابل المدهش بين عظام الإنسان والطير. ولكن أعظم أبطال "العلم الطبيعي" في هذا العصر هو كونراد جسنر، الذي شمل إنتاجه وعلمه ميداناً بلغ من الاتساع مبلغاً حمل كوفييه على أن يطلق عليه اسم بليني ألمانيا، بل كان يحق له أن يسميه أرسطو ألمانيا أيضاً. وقد ولد في أسرة فقيرة بزيورخ (1516)، وأبدى من الاستعداد والدأب على الدرس ما جعل المدينة تتعاون مع رعاته الخاصين على تمويل تعليمه العالي في ستراسبورج وبورج وباريس وبال. وقد وضع أو جمع 1.500 رسم توضيحي لكتابه "تاريخ النبات"، ولكن تبين أن تكاليف طبع الكتاب ستكون باهظة، فظل مخطوطاً ولم يطبع إلا عام 1751، وقد تأخر نشر تصنيفه البارع لأجناس النبات حسب بنياتها التناسلية بحيث لم يستطع ليناوس الاستعانة به. وقد نشر في حياته أربعة مجلدات (1551-58)، وخلف مجلداً خامساً، من كتاب ضخم في "تاريخ الحيوان" أورد فيه كل نوع من أنواع الحيوان تحت اسمه اللاتيني، ووصف شكله، وأصله، وموطنه، وعاداته، وأمراضه، وصفاته العقلية والعاطفية، وفوائده الطبيعية والمنزلية، ومكانه في الأدب، وكان التصنيف أبجدياً لا علمياً، ولكن تكديسه الموسوعي للمعلومات أعان علم الأحياء على أن يتخذ له شكلاً محدداً. على أن هذه الجهود لم تُنضب معين جسنر، فبدأ موسوعته "المكتبة العالمية" في واحد وعشرين مجلداً عكف فيها على وضع فهارس بجميع الكتابات اليونانية واللاتينية والعبرية المعروفة، وأكمل منها عشرين مجلداً، واستحق بذلك لقب "أبي الببليوغرافيا". وفي قسم جانبي يسمى "متريداتيس" (1555) حاول تصنيف 130 لغة من لغات العالم. ويبدو أن كتابه Descriptio Montis Pilati، (1541) كان أول دراسة منشورة للجبال بوصفها إحدى صور الجمال، وعرفت سويسرة الآن أنها بلد جليل رائع. وكل هذه المؤلفات أنجزت بين عامي 1541 و1565. وفي هذه السنة مات كونراد جسنر، روح الدراسة المتجسد.

وفي غضون ذلك كان لكتاب جوان فيف Deanima et vita (1538) معظم الفضل في خلق علم النفس التجريبي الحديث. وكأن فيف أراد أن يتحاشى التشكك، الذي كان هيوم مزمعاً أن يبسطه بعد قرنين، حول وجود "عقل" بالإضافة إلى العمليات العقلية، فنصح الطالب ألا يسأل ما هو العقل أو ما هي النفس، لأننا (كما أحس) لن نعرف هذا أبداً، إنما يجب أن نسأل ماذا "يفعل" العقل؛ وعلى السيكولوجيا ألا تكون غيبيات نظرية، وأن تصبح علماً مبنياً على مشاهدات محددة ومتجمعة، في هذا سبق فيف فرانسس بيكون بقرن من الزمان في توكيده للاستقراء. ودرس بالتفصيل ترابط الأفكار، وعمل الذاكرة وتحسينها، وعملية المعرفة، ودور الشعور والعاطفة، ونحن نشهد في كتابه هذا علم النفس منبعثاً في ألم، انبعاث كثير من العلوم قبله، ومن بطن أم واحدة للجميع، هي الفلسفة.


5- فيساليوس

في عام 1543 نشر أندرياس فيساليوس كتاباً قال عنه السر وليم أوسلر إنه أعظم ما كتب في الطب قاطبة(53). كان أبوه أندرياس فيسل صيدلياً غنياً في بروكسل، وجده طبيباً لماري البرجندية ثم لزوجها مكسمليان الأول، أما جده الأكبر-وكان طبيباً-فقد كتب تعليقاً على كتاب ابن سينا "القانون". هنا نجد حالة من الوراثة الاجتماعية تفوق حالة أسرة باخ. وما لبث فيساليوس أن أغرم بالتشريح بعد أن درب عليه منذ نعومة أظفاره. "فلم ينج من مبضعه حيوان. فهو يشرح الكلاب والقطط والجرذان والفيران والخلدان تشريحاً غاية في الدقة(54)" غير أنه لم يهمل الدراسات الأخرى. ففي الثانية والعشرين من عمره حاضر في اللاتينية، وكان يقرأ اليونانية في يسر. ثم درس التشريح في باريس (1533-36) على جاك دويوا الذي أطلق على كثير من العضلات والأوعية الدموية أسماءها التي ما زالت تحملها إلى اليوم. وظل فيساليوس طويلاً، كأساتذته، يؤمن بجالينوس إنجيلاً له، ولم يفقد احترامه له قط، ولكنه كان يحترم سلطان المشاهدة والمناقشة أكثر كثيراً. وقام هو وبعض زملائه الطلبة برحلات كثيرة إلى مستودعات جثث الموتى حيث جمعت العظام المستخرجة من جبانة الأطفال، وهناك ألفوا منظر أجزاء الهيكل البشرى ألفة أتاحت لهم كما روي "أن نجرؤ أحياناً، حتى ونحن معصوبو الأعين، على مراهنة رفاقنا، وخلال نصف ساعة لم تكن تقدم لنا عظمة... إلا وعرفناها باللمس(55)". وحدث غير مرة في محاضرات دوبوا أن كان المشرح الشاب الجريء يزيح "الحلاقين الصحيين" الذين كان الأستاذ الطبيب يكل إليهم عادة مهمة التشريح الفعلي، ويقوم هو بعرض الأعضاء موضوع المحاضرة عرض خبير(56).

واعتكف فيساليوس في لوفان حين غزا مليكه شارل الخامس فرنسا عام 1536. وقد عطل نشاطه هناك نقص الجثث، فخطف جثة من الهواء هو وصديق له يدعى جيما فريزيوس (الذي اشتهر فيما بعد رياضياً). وتكشف روايته للحادث عن ولعه بالتشريح. يقول:

بينما كنا نتمشى ونبحث عن عظام في المكان الذي يوضع فيه عادة من أعدموا، على الطريق الريفية، وقعت على جثة متيبسة... وكانت العظام مجردة من اللحم كلية ولا يمسكها غير الأربطة. وتسلقت الخازوق بمساعدة جيما وجذبت عظم الفخذ، وأتبعته العظم الكتفي والذراعين واليدين... وبعد أن حملت الساقين والذراعين إلى البيت خفية وفي رحلات متتالية... تركت نفسي حبيساً خارج المدينة في المساء حتى آتى بالصدر، وكان مربوطاً ربطاً وثيقاً بسلسة، وكنت أتحرق شوقاً إلى إتمام مهمتي... وفي الغد نقلت العظام جزءاً فجزءاً خلال بوابة أخرى من بوابات المدينة".(57)

وأدرك عمدة المدينة الأمر، ومن بعدها كان يعطي فصول التشريح ما أمكن الإفراج عنه من الجثث. يقول فيساليوس "وكان هو نفسه يحضر بانتظام كلما قمت بالتشريح(58)".

وما كان في استطاعة رجل كهذا "يتحرق شوقاً" أن يحتفظ بطبعه هادئاً. فلما لبث أن اشتبك في نزاع حاد مع مدرس حول طرائق شق الوريد، ورحل عن لوفان (1537) وركب هابطاً الرين عابراً جبال الألب إلى إيطاليا. وكان قد بلغ من الكفاية مبلغاً أتاح له الحصول قبل نهاية تلك السنة على درجة الطب في بادوا "بأقصى خفض" في الرسوم، لأنه كلما علا تقدير الطالب انخفضت رسوم تخرجه. وفي اليوم التالي نفسه (6 ديسمبر 1537) عينه مجلس شيوخ البندقية أستاذاً للجراحة والتشريح بجامعة بادوا. وكان يومها في الثالثة والعشرين.

وقام في الأعوام الستة التالية بالتدريس في بادوا وبولونيا وبيزا، وشرح مئات الجثث بيديه، وأصدر بعض الكتب الصغيرة. وقد رسم تلميذه لتيشان يدعى جان ستيفان فان كالكار، تحت إشرافه، ست لوحات نشرت عام 1538 بعنوان Tabulae anatomicae sex وبعد عام أيد فيساليوس في رسالته عن "شق الأوردة" بيير بريسو الباريسي في طرق الفصد. وفي معرض مناقشته للموضوع كشف عن بعض نتائج تشريحه للجهاز الوريدي، وقد أعانت ملاحظاته هذه على كشف الدورة الدموية. وفي 1541-42 اشترك مع علماء آخرين في نشر طبعة جديدة من النص اليوناني لجالينوس. وقد أدهشته أخطاء ندت عن جالينوس وكانت خليقة بأن يدحضها أبسط تشريح لجسم الإنسان كقوله مثلاً: إن الفك السفلي قسمان، وإن القص سبع عظام متميزة، والكبد عدة فصوص. وما كان ممكناً تعليل هذه الأخطاء واغتفارها إلا على فرض أن جالينوس لم يشرح قط آدميين بل حيوانات. وشعر فيساليوس أنه قد حان الوقت لمراجعة علم تشريح الإنسان بتشريح الآدميين. وهكذا أعد أعظم كتبه. وحين طبع يوهان أوبورينوس عام 1543 بمدينة بازل كتابه هذا المسمى "بنية جسم الإنسان" في 663 صفحة من القطع الكبير، لا بد أن الشيء الذي أدهش القارئ لتوه كان صفحة الغلاف-وكانت حفراً جديراً بالفنان دورو، يمثل فيساليوس يشرح تشريح ذراع مفتوحة، ومن حوله خمسون طالباً يرقبونه. ثم الرسوم التوضيحية: 277 رسماً مطبوعاً من كليشيهات خشبية ذات دقة تشريحية لم يسبق لها نظير وبراعة فنية عظيمة، معظمها من صنع فان كالكار، وخلف الأشكال مناظر لا تتصل علمياً بالموضوع ولكنها جذابة من الناحية الفنية-فترى مثلاً هيكلاً عظيماً عند مقعد للقراءة. وكانت هذه الرسوم المطبوعة من الجمال بحيث خالها بعضهم مصممة في مرسم تيشان ربما بإشرافه؛ ولا بد أن نضيف إلى هذا أن فيساليوس رسم عدة رسوم منها بيده. وقد رافق الكليشيهات الخشبية ساهراً على سلامتها في الرحلة على ظهر بغل من البندقية إلى بال عبر جبال الألب. وحين تم طبع الكتاب حفظت الكليشيهات بعناية، وفي تاريخ لاحق اشتريت، ثم تبودلت، ثم فقدت، وفي عام 1891 عثر عليها مخبأة في مكتبة جامعة ميونيخ، وقد دمرتها القنابل في الحرب العالمية الثانية.

أما الذي كان ينبغي أن يثير في النفس دهشة أعظم مما أثارته هذه الرسوم فهو النص-وهو نصر طباعي ولكنه غلى ذلك ثورة علمية-كان من صنع فتى لم يتجاوز التاسعة والعشرين. وهو ثورة لأنه أنهى سلطان جالينوس على التشريح، وراجع العلم كله بلغة التشريح، وبهذا أرسى دعائم الأساس الفيزيائي للطب الحديث، الذي يبدأ بهذا الكتاب. فهنا وصف لأول مرة سير الأوردة الصحيح وتشريح القلب؛ وهنا ورد ذلك القول الخطير، وهو أن التشريح البالغ الدقة لم يظهر أياً من تلك المسام التي افترض جالينوس أن الدم يمر عن طريقها من بطين إلى آخر؛ وبهذا أصح الطريق معبداً لسرفيتوس وكولومبو هارفي. وقد صححت أخطاء جالينوس المرة بعد المرة-فيما يتصل بالكبد، والقنوات المرارية، والفكين، والرحم. وقد ارتكب فيساليوس هو أيضاً أخطاء، حتى في المشاهدة، وأخفق في أن يقفز القفزة الكبرى من تشريح القلب إلى دورة الدم. ولكن هنا أوصاف صادقة لعشرات من الأعضاء لم تحظ قط بمثل هذا الوصف الدقيق من قبل، وفتح كل جزء من أجزاء الجسم للعلم بيد واثقة قديرة.

على أن فيساليوس عانى من عيوب فضائله. ذلك أن الكبرياء التي سندته طوال دراسته الموفقة جعلته سريع الغضب، بطيئاً في الاعتراف بمنجزات سابقيه وتقدير حساسية منافسيه. وبلغ ولعه بذلك "الإنجيل الصادق... ألا وهو جسم الإنسان وطبيعة الإنسان"(9) مبلغاً جعله يؤذي شعور عدد كبير من أقطاب اللاهوتيين. وكان يشير في تهكم إلى رجال الكنيسة الذين يشتد إقبالهم على غرفة محاضراته حين يكون موضوع الدرس والعرض هو الأعضاء التناسلية(60). وقد أثار عداء الكثيرين، ومع أن جسنر وفالوبيو رحبا بكتابه، فإن أكثر الأساتذة القدامى، ومنهم أستاذه السابق دوبوا، نددوا بالمؤلف بوصفه محدثاً وقحاً، وجدوا في تسقط العيوب في كتابه. وقال دوبوا إن جالينوس لم يخطئ، ولكن جسم الإنسان عراه تغير منذ عهد جالينوس، وعلى ذلك فعظام الفخذين الواضحة الاستقامة، والتي ليست مقوسة كما وصفها جالينوس، إنما هي في رأيه نتيجة لارتداء أورُبيّي عصر النهضة سراويل ضيقة(61).

وفي عاصفة من خيبة الأمل في موقف هؤلاء الرجال أحرق فيساليوس مجلداً ضخماً من كتاب "التعليقات" Annotationes وتفسيراً للأجزاء العشرة التي يتألف منها كتاب الرازي "كتاب المنصوري"-وهو موسوعة في الطب(62). وفي عام 1544 رحل عن إيطاليا ليصبح طبيباً ثانياً بين أطباء شارل الخامس الذي سبق أن أهداه في حصافة كتابه "فابريكا" Fabrica. ومات أبوه في نفس العالم تاركاً له ثروة طيبة. فتزوج وبنى بيتاً جميلاً في بروكسل. وصدرت طبعة ثانية لكتابه "فابريكا" عام 1555، مزيدة ومنقحة. وقد بين الكتاب أن التنفس الصناعي يمكن أن يبقي على حياة الحيوان رغم شق صدره، وأن القلب الذي توقف نبضه يمكن أحياناً رد الحياة إليه باستعمال منفاخ. بعد هذا لم يضف فيساليوس جديداً إلى التشريح. فقد استغرق في العناية بمرضاه من أسرة الإمبراطور ومن دونهم، وفي ممارسة الجراحة ودراستها. وأصبح فيساليوس طبيباً ثانياً لفيليب الثاني بعد أن اعتزل شارل الملك. وفي يوليو 1559 أوفده الملك ليساعد أمبرواز باريه في محاولة لإنقاذ حياة هنري الثاني الجريح، ولجأ فيساليوس إلى اختبارات إكلينيكية أظهرت استحالة شفائه. وفي تاريخ لاحق من هذه السنة رافق هو وأسرته فيليب إلى أسبانيا.

في غضون ذلك أضاف آخرون جديداً إلى التشريح. فلاحظ جيامباتستا كانو صمامات الأوردة (1547)، وشرح سرفيتوس دورة الدم في الرئتين (1553)، ووصل ريالدو كولومبو إلى هذا الكشف ذاته (1558)، وأثبته بإجراء تجربة على القلب الحي. ولكن سبعين سنة أخرى انقضت قبل أن يأتي هارفي بوصفه الخطير لسير الدم من القلب إلى الرئتين، فإلى القلب، فإلى الشرايين، فإلى الأوردة، ثم إلى القلب. وكان الطبيب العربي ابن النفيس قد سبق سرفيتوس عام 1285(63)، وربما انحدرت الرواية المتواترة بنظريته إلى أسبانيا في شباب سرفيتوس.

وبقيت لفيساليوس بضع مغامرات. من ذلك أن الأطباء الوطنيين في البلاط الأسباني كانوا يصرون على إهمال تشخيصه باعتبار هذا موقفاً يحتمه الشرف. فلما شكا ابن فيليب الوحيد، الدون كارلوس، من ارتجاج في المخ إثر سقطة (1562)، أشار فيساليوس بإجراء تربنة له. ولكن النصيحة رفضت، وأشرف الفتى على الهلاك. ووضعت على الجرح التمائم وآثار القديسين، وجلد الأتقياء أنفسهم توسلاً إلى السماء أن تشفيه بمعجزة، ولكن هذا كله لم يجد فتيلاً. وأخيراً أصر فيساليوس على فتح الجمجمة، ففتحت، وسحبت منها كمية كبيرة من الصديد. وما لبث الأمير أن تماثل للشفاء، وبعد إجراء العملية بثمانية أيام سار فيليب في موكب مهيب لتقديم الشكر لله(64).

وبعد عامين رحل فيساليوس عن أسبانيا لأسباب ما زالت محل خلاف. وقد روي أمبرواز باريه قصة مشرح أثار عليه غضب أسبانيا بأسرها لأنه فتح بطن امرأة كان الظن أنها ماتت من "اختناق الرحم"، قال باريه أن ضربة أخرى من مبضع الجراح ردت المرأة فجأة إلى الحياة، "الأمر الذي بعث في قلوب جميع أصدقائها من الإعجاب والرعب... ما جعلهم ينظرون إلى الطبيب- الذي كان من قبل واسع الشهرة طيب السمعة- نظرتهم إلى رجل مجرم بغيض"(65)، ولا عجب فالأقرباء لا يقدرون دائماً مثل هذا الشفاء غير المتوقع. وواصل الجراح الهيجونوتي روايته فقال "لذلك لم ير سبيلاً أمامه إلا مغادرة البلاد إن ابتغى لنفسه السلامة". وروى هيجونوتي آخر يدعى لوبير لانجيه قصة كهذه (حوالي 1579)، وذكر أن الطبيب هو فيساليوس، وزعم أن فيساليوس وقع تحت طائلة محكمة التفتيش لأنه شرح شخصاً حياً، وقد نجا من المحاكمة حين أخذ على نفسه عهداً بالحج إلى فلسطين تكفيراً عن خطيئته. والحادثة لم ترد في أي مصدر معاصر، والمؤرخون الكاثوليك يرفضونها لأنها في رأيهم قصة خرافية(66). ولعل السبب لا يعدو أن فيساليوس مل البقاء في أسبانيا. وعاد إلى إيطاليا، وأبحر من البندقية (أبريل 1564)، ويبدو أنه بلغ أورشليم. وفي رحلة العودة تحطمت سفينته، ومات من التعرض للجو، نائياً عن أصدقائه، على جزيرة زنطة تجاه ساحل اليوناني الغربي (15 أكتوبر 1564)، وكان يومها في عامة الخمسين. وفي هذا العام ذاته مات ميكل أنجيلو، وولد شكسبير. لقد كان البهاء الذي سطعت شمسه قرناً في سماء إيطاليا ينتقل إلى الشمال.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

6- نهضة الجراحة

ظل علم الطب وفنه يسيران في ركاب أئمة الطب من اليونان والعرب، على الرغم مما أحرزه التشريح من تقدم. ولم يكن لشهادة الحواس كبير وزن أمام كلمة جالينوس أو ابن سينا، لا بل إن فيساليوس نفسه قال حين ناقض تشريحه رأي جالينوس "لم أكد أصدق عيني". وكانت طبعات أو ترجمات جالينوس أو أبقراط تنشر المعلومات القديمة وتثبط القيام بالتجارب الجديدة-بالضبط كما كانت الجهود التي بذلها بترارك ورونسار لكتابة ملاحم فرجيلية تؤذي نبوغهما الفطري وتحرف مجراه. وحين أسس ليناكر كلية الطب التي أطلق عليها فيما بعد كلية الأطباء الملكية (1518)، كانت كتبها الرئيسية هي ترجماته لجالينوس.

وقد أفاد علاج الأمراض من العقاقير الجديدة المجلوبة إلى أوربا كالكينا، وعرق الذهب، والرواند، المجلوبة من أمريكا، والزنجبيل ولبان الجاوي من سومطرة، والقرنفل من جزر ملقا، والصبر من كوتشين الصينية، والكافور والزنجفر من الصين، ووسع هذا التطور استعمال النباتات الوطنية. وصنف فاليريوس كوردوس أول فارما كوبيا ألمانية (1546)، وشاع علاج الزهري بنقيع خشب الغويقم المجلوب من جزر الهند الغربية، حتى أن آل فوجير جمعوا ثروة ثانية بحصولهم على احتكار بيعه في أملاك شارل الخامس الذي كان مديناً لهم. على أن فقر جماهير الناس وقذارتهم كانا سبباً في تخلف الدواء عن المرض دائماً. وكانت أكوام القمامة أو روث البهائم تسمم الهواء، وتنتشر هنا وهناك في الشوارع أحياناً. وكان لباريس شبكة مجار أراد هنري الثاني إفراغها في نهر السين لولا أن ثناه رجال البلدية عن هذه الفعلة بتبصيره بأن النهر هو مورد مياه الشرب الوحيد لنصف السكان(67). وأنشئت في إنجلترا لجان للمجاري في عام 1532، ولكن لم يكن فيها حتى عام 1844 سوى مدينتين اثنتين تنقل فيهما القمامة من الأحياء الفقيرة على حساب الدولة.

أما الأوبئة فكانت أقل فتكاً منها في العصور الوسطى، ولكنها كفت- هي ووفيات النفساوات والأطفال- لتثبيت السكان عند حد لا يكادون يتجاوزونه. وقد اكتسحت الطواعين ألمانيا وفرنسا المرة تلو المرة بين عامي 1500 و1568. وانتشرت حمى التيفوس في إنجلترا في أعوام 1422، و1577 و1586 نتيجة لهجرات القمل. واجتاح إنجلترا "المرض المعرق"- ولعله ضرب من الأنفلونزة-في أعوام 1528 و1529 و1551 و1578؛ وألمانيا في 1543-45، وفرنسا في 1550-51. وقيل إن هذا المرض فتك بألف شخص في بضعة أيام في كل من هامبورج وآخن(68). وكان الناس يعزون الأنفلونزة إلى "تأثيرات" influences سماوية، ومنها اشتقت اسمها. وعاد الطاعون الدبلي إلى الظهور في ألمانيا في عام 1562، ففتك بتسعة آلاف من بين سكان نورمبرج البالغ عددهم أربعين ألفاً(69)- وإن جاز لنا أن نفترض المبالغة في جميع الإحصاءات الخاصة بالطاعون. أما جوانب الصورة الأكثر إشراقاً فهي تضاؤل الإصابة بالجذام وبعض الاضطرابات العقلية كرقصة سانت فيتوس.

وكان سير التطبيب أبطأ من سير المعرفة الطبية. فما زال دجاجلة الطب يملأون الأرض؛ وكان من اليسير الاشتغال بالطب دون الحصول على درجة جامعية برغم القوانين المقيدة. وكان أكثر الأطفال يخرجون إلى النور على أيدي القابلات. أما التخصص فلم يكد يبدأ. فطب الأسنان مثلاً لا يفصل عن الطب أو الجراحة، وكان الحلاقون الصحيون يخلعون الأسنان ويستبدلون بها أسناناً من العاج. وترك جميع الأطباء تقريباً-وفيساليوس أحد القلائل الذين شذوا-مهمة الجراحة للحلاقين الصحيين، الذين يجب على أي حال ألا ننظر إليهم على أنهم حلاقون، لأن كثيراً منهم كانوا رجالاً ذوي دربة ومهارة.

فأمبرواز باريه بدأ حياته صبياً لحلاق، ثم ارتقى حتى أصبح جراحاً للملوك.وقد ولد في بورج-إرسان في مين (1517)، ثم شق طريقه إلى باريس، وفتح كشك حلاقته في ميدان سان ميشيل. وخلال حرب 1546 اشتغل جراحاً لفرقة من فرق الجيش. وكان في علاجه بالجنود يسلم بالنظرية السائدة التي زعمت أن جروح الرصاص سامة، ودرج (كما درج فيساليوس) على كيها بزيت البلسان المغلي، فكان الكي يحيل الألم عذاباً. وذات ليلة فرغ الزيت، فضمد باريه الجروح بمرهم من مح البيض، وزيت الورد، والتربنتينا. وفي الغد كتب يقول: " أرقني بالأمس طول التفكير في المصابين الذين لم أستطع كي جروحهم. وتوقعت أن أجدهم جميعاً أمواتاً في الصباح. وبهذه الفكرة قمت مبكراً لأتفقدهم، فما راعني إلا أن أجد من عالجتهم بالمرهم لا يشكون غير ألم بسيط جداً في جروحهم دون أي التهاب... وقد قضوا ليلتهم في نوم مريح. أما الباقون الذين عولجت جروحهم بزيت البلسان المغلي فقد ارتفعت حرارتهم والتهبت جروحهم... وآلمتهم ألماً حاداً. وعلى ذلك صممت على ألا أعود ثانية إلى كي هؤلاء التعساء بمثل هذه الطريقة القاسية"(70).

ولم يحظ باريه بتعليم يذكر، ولم ينشر كتيبه عن "طريقة علاج الجروح"- وهو اليوم كتاب مشهور في علام الطب- إلا في عام 1545. وفي حرب 1552 أثبت أن ربط الشريان أجدى من الكي في وقف النزف الذي تسبب عمليات البتر. وقد وفق بفضل عملياته الجراحية في حمل العدو على الإفراج عنه بعد أسره. ولما عاد إلى باريس عين كبيراً للجراحين بكلية سان كلوم، الأمر الذي أثار فزع السوربون التي تنظر إلى أستاذ جاهل باللاتينية كأنه هولة بيولوجية. وعلى الرغم من هذا أصبح جراحاً للملك هنري الثاني، ثم لفرانسوا الثاني، ثم لشارل التاسع، ومع أنه كان يجهر ببروتستنتيته، فقد أبقي أمر ملكي على حياته في مذبحة سان بارتلميو. ولم يضف مؤلفه "كتابان في الجراحة" (1573) لنظرية الجراحة إلا قليلاً، ولكنه أضاف الكثير للتطبيق. فقد اخترع أدوات جديدة، وأدخل الأطراف الصناعية، وأشاع استعمال الحزام في الفتق، وحسن من تعديل وضع الجنين في الولادة، وأجرى أول إعادة لمفصل الكوع، ووصف التسمم بأول أوكسيد الكربون، وقرر أن الذباب حامل للمرض. ومن الأقوال المشهورة في حوليات الطب اعتراضه على ما تلقى من تهانئ لنجاحه في علاج حالة مستعصية، "أنا عالجته، والله شفاه". وقد مات عام 1590 بالغاً الثالثة والسبعين بعد أن رفع كثيراً من مكانة الجراحين وكفايتهم، ومنح فرنسا زعامة في الجراحة احتفظت بها قروناً من بعده.


7- باراسيلسوس والأطباء

في كل جيل يظهر رجال ينكرون على الأطباء محافظتهم المشوبة بالحيطة، ويدعون الوصول إلى أنواع ممتازة من العلاج بوسائل خارجة على التقاليد الطبية، ويرمون رجال المهنة بالتخلف الوحشي، ويأتون بالأعاجيب حيناً، ثم يتبددون في ضباب الغلو والعزلة اليائسين. ومن الخير أن يظهر ذباب الخيل هذا بين الحين والحين لينبه الفكر الطبي، ومن الخير أن يكبح الطب جماح البدع المتعجلة في تعامله مع الحياة البشرية. ففي هذا الميدان، كما في ميداني السياسة والفلسفة، يتعاون الشباب المتطرف، والشيخوخة المحافظة، على غير إرادتهما، ليحدثا توازناً بين الاختلاف والوراثة، ذلك التوازن الذي تتخذه الطبيعة أداة للتطور. كان فيليبوس ثيوفراستوس بومباستوس فون هوهنايم يتخذ له اسم أوريولوس رمزاً لنبوغه، واسم باراسيلسوس-وهو على الأرجح ترجمة لاتينية للقب هوهنايم(71). وكان أبوه فلهلم بومباست فون هوهنايم ابناً غير شرعي لنبيل سوابي حاد الطبع. ولما ترك فلهلم ليدبر شئونه بنفسه، مارس الطب بين فقراء القرويين قرب أينزيدلن في سويسرة، وتزوج من إلزا أوخسنر، وكانت بنت صاحب حانة وممرضة مساعدة، وقد أصيبت بعد قليل بحالة اكتئاب جنوني. وربما كان تضارب هذا النسب سبباً في ميل فيليب إلى عدم الاستقرار، وإلى إحساس ساخط بقدرات لم ترعها ببيئته رعاية كافية. وقد ولدفي 1493 وشب وسط مرضى أبيه، وربما في ألفة في الحانات غير صالحة له، تلك الحانات التي ظلت حياتها الطليقة تستهويه على الدوام. وتزعم قصة غير مؤكدة أن الصبي خصاه خنزير بري أو جنود مخمورون.

ولم يعرف أن امرأة ظهرت في حياته بعد البلوغ. وحين كان في التاسعة أغرقت أمه نفسها، ولعل هذا هو السبب في رحيل الوالد والولد إلى فيلاخ بالتيرول. وتقول رواية متواترة أن فلهلم كان يقوم بالتدريس هناك في مدرسة للمناجم ويشتغل بالكيمياء القديمة على سبيل الهواية. ولا بد أنه كان مناجم بقرب المدينة ومصنع لصهر المعادن، ومن المحتمل أن يكون فيليب قد تعلم هناك طرفاً من الكيمياء التي سيحدث فيها ثورة في دنيا العلاج.

ولما بلغ الرابعة عشرة قصد هايدلبرج للدراسة. وتكشف طبعه القلق في انتقاله السريع من جامعة لأخرى-فرايبورج، وإنجولشتات، وكولونيا، وتوبنجن، وفينا، وأرفورت، وأخيراً (1513-15) فيرارا-ولو أن هذا التنقل بين دور العلم كان مألوفاً في العصور الوسطى. وفي عام 1515، التحق فيليب-وقد سمى نفسه الآن باراسيلسوس-حلاقاً صحياً في جيش شارل الأول ملك أسبانيا، دون أن يحصل على درجة جامعية. فلما انتهت الحملة عاد إلى حياة الترحل. وهو يزعم أنه مارس الطب في غرناطة، ولشبونة، وإنجلترا، والدنمرك، وبروسيا وبولندة، ولتوانيا، والمجر، و "غيرها من الأقطار"(72) وكان في سالزبورج إبان حرب الفلاحين عام 1525، وعالج جروحهم وتعاطف مع أهدافهم. وقد ولع حيناً بالاشتراكية، فهو يندد بالمال، والفائدة، والتجار، ويدعو للشيوعية في الأرض والتجارة، وللمساواة بين الناس في الأجور(73). وفي كتابه الأول المسمى "Archidoxa" (أي الحكمة العظمى-1524) رفض اللاهوت وامتدح التجربة العلمية(74). ولما قبض عليه بعد إخفاق ثورة الفلاحين، أنقذته من حبل المشنقة شهادة بأنه لم يحمل سلاحاً قط، ولكنه نفي من سالزبورج، فغادرها على عجل.

وفي عام 1527 كان في ستراسبورج يمارس الجراحة ويحاضر الحلاقين الصحيين، وكان تعليمه لهم مزيجاً مهوشاً من المعقول وغير المعقول، ومن السحر والطب-ولو أن الله وحده يعلم كيف سيصف المستقبل بقينياتنا الحاضرة. وقد رفض التنجيم، ثم سلم به، وكان يأبى أن يحقن مريضاً بحقنة شرجية ما لم يكن القمر في تربيعه الصحيح. وكان يسخر من عصا الكهانة، ولكنه زعم أنه أحال المعادن ذهباً(75). وإذ كان-كأجريبا في شبابه-يحدوه تعطش للمعرفة فقد بحث في شوق عن "حجر الفلاسفة"-أي عن صيغة عامة تفسر الكون. وكتب في سذاجة المصدق عن الأقزام الخرافية، وسلامندر الأسبستوس، و "الإرشادات"، وهي علاج الأعضاء المريضة بعقاقير شبيهة بها لوناً وشكلاً. ولم يستنكف من استخدام التعاويذ والتمائم السحرية علاجاً(76)-ربما بوصفها طباً إيحائياً. ولكن هذا الرجل نفسه، الذي ينضح بأوهام جيله، أدخل تحسينات جريئة على استخدام الكيمياء في الطب. وكان يتحدث أحياناً حديث الماديين "إن الإنسان مشتق من المادة، والمادة هي الكون كله"(77). والإنسان بالنسبة للكون كالعالم الصغير (الميكروكوزم) بالنسبة للعالم الكبير (الماكروكوزم)" وكلاهما من نفس العناصر-وأساسهما الأملاح، والكبريت، والزئبق؛ والمعادن والأملاح المعدنية التي تبدو عديمة الحياة هي في الواقع مفعمة بالحياة(78). والعلاج الكيمياوي هو استخدام العالم الكبير لشفاء العالم الصغير. والإنسان من حيث بدنه مركب كيميائي، والمرض تنافر، لا في "الأمزجة" كما زعم جالينوس، بل في مكونات البدن الكيميائية؛ وهذه أول نظرية حديثة للأيض أو التمثيل الغذائي. وكان العلاج في ذلك العهد يعتمد في عقاقيره إلى حد كبير على عالم النبات والحيوان، أما باراسيلسوس، الغارق في كيميائه القديمة، فقد أكد ما للمواد غير العضوية من قدرات علاجية. وجعل الزئبق، والرصاص، والكبريت، والحديد، والزرنيخ، وكبريتات النحاس، وكبريتات البوتاسيوم، أجزاء من أقرباذينه، وأشاع استعمال الصبغات والخلاصات الكيميائية، وكان أول من صنع "صبغة الأفيون" التي نسميها اللودنوم. وقد شجع استعمال الحمامات المعدنية، وشرح خواصها وآثارها المتنوعة.

ولاحظ بارسيلسوس العوامل المهنية والجغرافية المؤثرة في المرض، ودرس السل الرئوي المتليف في المعدنين، وكان من أول من ربط بين القماءة والغوطر المتوطن. وأدخل تحسينات على فهم الصرع، وعزا الشلل واضطرابات النطق إلى إصابات الرأس. ومع أن الفكرة المسلم بها عموماً في ذلك العصر عن النقرس والتهاب المفاصل هي أنهما رفيقان للشيخوخة لا شفاء منهما، فإن بارسيلسوس رأى أنهما قابلان للشفاء إذ شخصا على نتيجة لأحماض تكونها بقايا الطعام التي استغرقت طويلاً في القولون. قال "كل الأمراض يمكن ردها إلى تخثر المادة غير المهضومة في الأمعاء"(79). وقد أطلق على هذه الأحماض الناشئة عن التعفن المعوي اسم "الطرطير" لأن رواسبها في المفاصل، والعضلات، والكلى، والمثانة "تحرق كالجحيم، وطرطروس هي الجحيم"(80). "إن الأطباء يفاخرون بمعرفتهم بالتشريح، ولكنهم عاجزون عن رؤية "الطرطير" اللاصق بأسنانهم"(81). وعلق هذا المعنى بالكلمة الجديدة. واقترح وقف تكون هذه الرواسب في الجسم بالغذاء الصحي، والمقويات، وتحسين الإخراج، وحاول "تليين" الرواسب باستعمال زيت الغار ومركبات الراتنج، أما الحالات الشديدة فقد دعا فيها إلى الجراحة حتى يسمح للرواسب الملتصقة بالهروب أو تتاح إزالتها. وقد زعم أنه شفى كثيراً من حالات النقرس بهذه الوسائل، ويعتقد بعض الأطباء في عصرنا هذا أنهم شفوا مرضى بإتباع تشخيص باراسيلسوس.

ووصلت إلى بال أنباء طرق العلاج التي توصل إليها بارسيلسوس في ستراسبورج. وكان المصور الشهير فروبن يشكو هناك ألماً حاداً في قدمه اليمنى، فأشار الأطباء ببتر القدم. ودعا فروبن باراسيلسوس إلى بال ليشخص الحالة. وجاء باراسيلسوس، ووفق في علاجها دون الالتجاء إلى السلاح. واستشار أرزمس باراسيلسوس، وكان يومها يعيش مع فروبن ويشكو أوجاعاً كثيرة، فوصف له علاجاً لا ندري مدى توفيقه فيه. على أية حال أضاف هؤلاء المرضى المشهورون شهرة جديدة إلى شهرة الطبيب الشاب، وقربه خليط غريب من الظروف من منصب الأستاذ الجامعي الذي كانت تهفو إليه نفسه.

كان البروتستنت فيتلك الحقبة أغلبية في مجلس مدينة بال، ففصلوا الدكتور فونيكر طبيب المدينة على الرغم من اعتراضات أرزمس والأقلية الكاثوليكية، بحجة أنه "تفوه بعبارات جديدة ضد الإصلاح البروتستنتي"(82) وعينوا باراسيلسوس مكانه وافترض المجلس وباراسيلسوس أن هذا التعيين يتضمن حقه في التدريس في الجامعة، ولكن الكلية استنكرت التعيين واقترحت عقد امتحان علني لباراسيلسوس في التشريح وهي على بينة من ضعفه فيه. فتهرب من الاختبار، وبدأ يمارس مهنته طبيباً بالمدينة، ويحاضر في قاعة خاصة دون موافقة الجامعة (1527). وقد جمع إليه الطلاب بدعوة مميزة لخلقه هذا نصها:-

"من ثيوفراستوس بومباست فون هونهايم، الدكتور في فرعي الطب، والأستاذ، تحيات لطلبة الطب. إن الطب وحده دون جميع العلوم... هو المعترف به صناعة مقدسة. ومع ذلك فإن قلة من الأطباء يمارسونه اليوم بنجاح، ومن ثم فقد حان الوقت لرده إلى مكانه المرموق السابق، ولتنقيته من خميرة الهمج، وتطهيره من أخطائهم. وسنقوم بهذه المهمة، لا بالتزام قواعد الأقدمين، بل بشيء واحد دون سواه هو دراسة الطبيعة واستخدام الخبرة التي اكتسبناها خلال سنوات طويلة من الاشتغال بالطب. ومن ذا الذي يهل أن معظم الأطباء المعاصرين يفشلون لأنهم استعبدوا أنفسهم لتعاليم ابن سينا وجالينوس وأبقراط؟... وقد يفضي بهم هذا الطريق إلى ألقاب فخمة، ولكنه لا يكوّن طبيباً بمعنى الكلمة... فليس الطبيب في حاجة إلى الفصاحة أو الإلمام باللغة أو الكتب.... بل إلى المعرفة العميقة بالطبيعة وأعمالها...

ولقد اعتزمت، بفضل المنحة السخية التي قدمها سادة بال لهذا الغرض، أن أشرح الكتب الدراسية التي ألفتها في الجراحة وعلم الأمراض، مخصصاً لذلك ساعتين في كل يوم، على سبيل التمهيد لطرق الشفاء التي أمارسها. وأنا لا أصنف هذه الكتب من مختارات أنقلها عن أبقراط أو جالينوس. ولكنني بطول الكد والكدح خلقتها من جديد على أسس من الخبرة، التي هي أسمي معلم لجميع الأشياء. فإذا شئت إثبات شيء ما أفعل هذا بالنقل عن هؤلاء القدامى، بل بالتجربة والتفكير المبني عليها. فإن شعرت أيها القارئ العزيز بدافع يدفعك إلى إستكناه هذه الخفايا المقدسة، وإن شئت أن تسبر أغوار الطب في زمن وجيز، فأقبل إلى في بال... بال في 5 يونيو 1527"(83).

وسجل ثلاثون طالباً أسماءهم في هذه الدراسة. وفي يوم الافتتاح طلع بارسيلسوس في الرداء الجامعي المألوف، ولكنه خلعه عنه لتوه، ووقف في ثوب الكيميائي الخشن ومئزرته الجلدية المتسخة بالسناج. وقد أقلى محاضرته في الطب مكتوبة بلاتينية أعدها له سكرتيره أوبورينوس (الذي طبع في تاريخ لاحق كتاب فيساليوس "فابريكا"، أما محاضرات الجراحة فألقاها بالألمانية. وكانت هذه صدمة جديدة للأطباء التقليديين، ولكنها لم تزعجهم بقدر ما أزعجهم رأي باراسيلوس وهو "أنه يجب ألا يؤدي الصيدلي عمله متواطئاً مع أي طبيب"(84). وكأنه أراد أن يعلن على الملأ ازدراءه للطب التقليدي، فقذف في النار وهو مبتهج بنص طبي حديث لعله Summa Jacobii-وكان الطلاب قد أوقدوا النار احتفالاً بعيد القديس يوحنا (24 يونيو 1527)، ثم قال "لقد ألقيت في نار القديس يوحنا "بخلاصة" الكتب، حتى تصعد جميع المحن والبلايا في الهواء مع الدخان. وهكذا طهرت مملكة الطب من أدرانها". وقارن الناس بين هذه الحركة وبين إحراق لوثر لمرسوم أصدره البابا.

أما حياة باراسيلسوس في بال فكانت خارجة على العرف خروج محاضراته. يقول أوبورينوس "لقد أنفق العامين اللذين صحبته خلالهما في السكر والشره ليل نهار... وكان متلافاً، تأتي عليه أوقات لا يجد في جيبه فيها فلساً... وكان في كل شهر يوصي بصنع سترة جديدة، ويعطي القديمة لأول قادم، ولكنها كانت من القذارة بحيث لم أتمن قط سترة منها لنفسي(86)" وقد ترك لنا هنريش بولينجر وصفاً لباراسيلسوس مماثلاً لهذا، فهو مدمن للخمر، "ورجل في منتهى القذارة(87)" ولكن أوبورينوس يشهد بحالات عجيبة من الشفاء حققها أستاذه، "في علاج القرح أتى بما يقرب من المعجزات في حالات يئس منها غيره"(88).

أما رجال الطب فقد برئوا منه دجالاً عاطلاً من الدرجة الجامعية، مجرباً مستهتراً، عاجزاً عن تشريح الجثث، جاهلاً بعلم التشريح. أما هو فقد عارض التشريح بحجة أن الأعضاء لا يمكن فهمها إلا وهي تؤدي وظيفتها في الجسم الحي أداءً متحداً طبيعياً. ورد على احتقار الأطباء له بلغة سوقية غاية في المرح. فسخر من وصفاتهم الوحشية، وقمصانهم الحريرية، وخواتمهم، وقفازاتهم الناعمة، ومشيتهم المتغطرسة، وتحداهم أن يخرجوا من حجرات الدرس إلى المعمل الكيميائي، وأن يرتدوا المآزر، ويوسخوا أيديهم بالعناصر الكيميائية وينحنوا فوق الأفران ليتعلموا أسرار الطبيعة بالتجربة وعرق الجبين. وقد عوض عن افتقاره إلى الدرجة الجامعة باتخاذ ألقاب مثل "أمير الفلسفة والطب" و "دكتور في فرعي الطب" (أي طبيب وجراح)، و "ناشر الفلسفة"، وداوى جراح غروره بالثقة في دعاواه. كتب يقول "سيتبعني الجميع، وستكون مملكة الطب مملكتي... كل الجامعات وكل الكتاب القدامى مجتمعين أقل مواهب من..."(89). وإذ ألفى نفسه مرفوضاً من الغير، فقد اتخذ لنفسه هذه الحكمة شعاراً "لا يملكنك أحد إذا استطعت أن تملك نفسك"(90). أما التاريخ فقد وبخ تفاخره، إذ جعل لقب أسرته "بومباست" اسماً نكرة (بمعنى الفشر).

وحدث أن ظريفاً مجهول الاسم في بال-متواطئاً مع كلية الجامعة، أو في تمرد عفوي من الطلبة على مدرس دجماطي-كتب قصيدة هجائية لاذعة وعرضها في مكان ظاهر، والقصيدة باللاتينية الرديئة، توهم أن جالينوس نفسه هو الذي كتبها من "الجحيم" يرد بها على منتقص قدره، وقد سماه كاكوفراستوس-خطيب الروث. وهزأت الأبيات هزءاً شديداً بمصطلحات باراسيلسوس الغيبية، ونعتته بالجنون، وأشارت عليه بأن يشنق نفسه. وحاول باراسيلسوس أن يعثر على الجاني ففشل، لذلك طلب إلى مجلس المدينة أن يستجوب الطلاب واحداً واحداً ويعاقب المذنب. ولكن المجلس تجاهل الطلب. وحوالي هذه الفترة عرض قسيس في كاتدرائية بال أن يدفع مائة "جلدر" لمن يشفيه من مرضه، وشفاه باراسيلسوس في ثلاثة أيام، ودفع له القسيس ستة جلدرات، وأبى أن يدفع الباقي بحجة أن العلاج لم يسغرق سوى وقت قصير جداً. فقاضاه باراسيلسوس، ولكنه خسر دعواه، وخسر معها هدوء طبعه، فرمى نقاده بأنهم "غشاشون حكاكون للظهور"، ونشر نبذة غفلاً من اسم الكتاب رمى فيها رجال الدين والقضاء بالفساد؛ وأمر المجلس بالقبض عليه، ولكنه أجل تنفيذ الأمر حتى الصباح. وهرب باراسيلسوس تحت جنح الظلام (1518)، بعد أن قضى في بال ثمانية شهور.

وفي نورمبرج أعاد باختصار تجربته في بال. وكل إليه آباء المدينة مستشفى سجن، فاستخدم ألواناً من العلاج أثارت الإعجاب. ولكنه ندد بحساده من أطباء المدينة لافتقارهم إلى الذمة، ولثرائهم، ولبدانة نسائهم. ثم دافع عن الكاثوليكية حين لاحظ أن أغلب أعضاء المجلس من البروتستنت. وانزعج آل فوجير الذين يبيعون الغويقم حين زعم أن هذا "الخشب المقدس" عديم الجدوى في علاج الزهري. وفي عام 1530 أغرى طباعاً مغموراً بأن ينشر "ثلاثة فصول عن المرض النفسي" عنف فيها الأطباء تعنيفاً أثار عليه عاصفة من المعارضة أكرهته على أن يعود إلى تجواله من جديد. وأراد أن ينشر كتاباً أكبر في الموضوع ذاته، ولكن مجلس المدينة منع طبعه. ودافع باراسيلسوس في خطاب كتبه إلى المجلس عن حرية الطبع بفصاحة لم تغنه فتيلاً، ولم ير الكتاب النور قط في حياته. وكان يحتوي على أفضل وصف إكلينيكي كتب عن مرض الزهري، وقد أشار باستعمال جرعات باطنية من الزئبق دون الاستعمالات الظاهرة له. وأصبح هذا المرض ساحة احتدمت فيها المعركة بين العلاج النباتي والعلاج الكيميائي.

وانتقل باراسيلسوس إلى سان- جال، وسكن نصف عام منزل أحد مرضاه. وهناك وفي فترة لاحقة ألف كتبه "العمل العجيب جداً" و "معارضة الطبيعة؟" و "الجراحة الكبرى"، وكلها بالألمانية الدارجة. وهي أكوام من الخامات الخشنة التي تعثر أحياناً على حجر كريم في ثناياها. وفي عام 1543 انتكس إلى السحر، وألف كتابه Philosophia sagax وهو خلاصة وافية في السحر. ولما مات مريضه في سان- جال راح يضرب في الأرض من جديد، متنقلاً بين ربوع ألمانيا، مستجدياً قوته أحياناً. وكان قد فاه في شبابه ببعض الهرطقات الدينية- كقوله إن دلالة العماد رمزية لا أكثر، وإن تناول الأسرار المقدسة نافع للأطفال والمغفلين، عديم الفائدة للأذكياء، وإن الصلوات للقديسين مضيعة للوقت(91). أما الآن (1532)، بعد أن هدّه الفقر والهزيمة، فقد اختبر "التحول" الديني. فصام، ووهب متاعه الباقي للفقراء، وكتب المقالات التعبدية، وعزى نفسه بآمال الجنة. وفي عام 1540 قدم له أسقف سالزبورج الملجأ، فقبله الرجل شاكراً، مع أنه هو الذي شجع الثورة هناك قبل خمسة عشر عاماً. وكتب وصيته، فترك نقوده القليلة لأقاربه، وأدواته لحلاقي المدينة الصحيين، وفي 24 سبتمبر 1541 أسلم جسده للتراب. لقد كان رجلاً قهرته عبقريته، غنياً في الخبرة المنوعة والأحاسيس الذكية، ناقصاً في تعليمه المدرسي نقصاً أعجزه عن فصل العلم عن السحر، مفتقراً إلى ضبط النفس اللازم للسيطرة على حماسته المتأججة، حاد الخصومة بحيث لم يستطع التأثير في جيله. ولعل حياته وحياة أجريبا أعانتا على تضخيم أسطورة فاوست. وإلى القرن الماضي كان يحج إلى قبره في سالزبورج ضحايا وباء تفشي في النمسا والأمل يراودهم في الشفاء بسحر روحه أو بسحر رفاقه(92).


8- الشكاكون

لم يكن القرن السادس عشر بالزمان الصالح للفلسفة، فقد استغرق اللاهوت المفكرين الناشطين، وسير الإيمان العقل في ركابه بعد أن سيطر على كل شيء. ورفض لوثر العقل لأنه ينزع بصاحبه إلى الكفر(93)، ولكن حالات الكفر كانت نادرة. فقد أحرق قسيس هولندي في لاهاي (1512) لإنكاره الخليقة والخلود ولاهوت المسيح(94)، ولكنه لم يكن واضح الكفر. كتب أخباري إنجليز تحت سنة 1539 "مات هذا العام في جامعة باريس طبيب عظيم أنكر وجود الله، وكان هذا رأيه الذي ثبت عليه مذ كان في العشرين، وقد عمر إلى ما بعد الثمانين، واحتفظ بضلالته هذه سراً طوال هذه السنين(95)". وفي عام 1552نشر جيوم بوستل كتابه Contra atheos ولكن كلمة atheist (أي الملحد) قل أن مينز القوم بينها وبين القاتل بمذهب الألوهية، أو القائل بوحدة الوجود، أو الشكاك.

على أنه وجد من الشكاكين عدد يكفي لنيل صفعة من لوثر، فقد روى أنه قال "إن مواد قانون الإيمان أسمى من أن يدركها أبناء هذا العالم العميان. فوحدة الأقانيم الثلاثة في إله واحد، وتجسد ابن الله الحق، ووجود طبيعتين للمسيح هما لاهوته وناسوته، إلخ..... كل هذا يؤذيهم لأنهم يرون فيه حديث خرافة". ثم أضاف إن بعضهم يتشككون في أن الله خلق أناساً عرف من قبل أنهم هالكون(96). وكان في فرنسا بعض المتشككين في الخلود(97). من ذلك أن بونافنتور دسبرييه سخر في كتابه Cymbalum mundi، (1537) بالمعجزات، وبتناقضات الكتاب المقدس، وباضطهاد أصحاب البدع الدينية. وقد ندد كالفن والسوربون بكتابه هذا، فأحرقه جلاد الدولة. واضطرت مارجريت إلى إقصائه عن بلاطها في نيراك، ولكنها بعثت إليه بالملل لتحفظ عليه حياته في ليون. وفي عام 1544 قتل نفسه، وترك مخطوطاته لمارجريت "دعامة كل صلاح وحاميته"(98).

وظهرت روح الشك في ميدان السياسة متخذة صورة هجمات على حق الملوك الإلهي وحصانتهم، وكان الشكاك هنا عادة إما من المفكرين البروتستنت الذين ضايقهم الحكام الكاثوليك، وإما من المفكرين الكاثوليك الذين يدفعون الثمن غالياً إذا انتصرت الدولة.

وقد نشر الأسقف جون بونيت-وكان ساخطاً على ماري تيودور-في عام 1558 "بحثاً موجزاً في السلطة السياسية". قال فيه "إن الأمثلة الكثيرة والمتصلة، التي وجدت بين الحين والحين، لخلع الملوك وقتل الطغاة تؤكد على وجه اليقين أن من أحق الحق والعدل والتمشي مع قضاء الله... القول بأن سلطان الملوك والأمراء والحكام مصدره الشعب... وإن للناس أن يستردوا تفويضهم... حين يشاءون"(99). كذلك كان من رأي أستاذ اسكتلندي يدعى جون ميجر، (وكان له بعض الفضل في تكوين عقل جون نوكس)، أنه ما دام كل سلطان زمني مشتقاً من إرادة الجماعة، فإن من الجائز خلع الملك الطالح وإعدامه، شريطة اتخاذ الإجراء القانوني الواجب.

أما أطرف خصوم الحكم الملكي المطلق فهو كاثوليكي شاب حقق قدراً متواضعاً من الخلود يموته بين ذراعي مونتيني. يقول كاتب المقالة الفذ "إن إتيين دلا بوليتي كان فيما أعلم أعظم رجل في عصرنا(100)". وقد ولد إتيين هذا لموظف كبير في بيرجور، ودرس القانون في أورليان، ثم عين مستشاراً في "برلمان" بوردو قبل بلوغه السن القانونية. وحوالي عام 1549، يوم كان فتى في التاسعة عشرة ألهمته الأفكار الجمهورية دراسته للأدب اليوناني والروماني، كتب هجوماً عنيفاً على الحكم المطلق- ولكنه لم ينشره قط- وسمى كتابه "مقال عن العبودية الاختيارية". Discours sur la servitude volontaire ولكن بما أن الكتاب ندد بدكتاتورية فرد واحد يتحكم في الكثيرين، فقد سمي Contr' un (أي خصم الواحد). فليسمع القارئ نداءه:

"أي عار وأي خزي في أن يطيع عدد لا يحصى من الرجال طاغية عن رضى واختيار، بل بروح العبيد! طاغية لا يدع لهم حقوقاً في عقار أو أبوين أو زوجة أو ولد، ولا حتى في حياتهم ذاتها-فأي نوع من الرجال هذه الطاغية؟ ما هو بهرقول ولا بشمشون؛ بل كثيراً ما يكون قزماً، وكثيراً ما يكون أشد الجبناء تخنثاً في الشعب كله- فليست قوة بدنه هي التي تضفي عليه النفوذ والسلطة، وكثيراً ما يكون عبداً لأحط المومسات. ليت شعري ما أشقى رعاياه وأحقرهم؛ إن كان اثنان، أو ثلاثة. أو أربعة، لا يثورون على واحد، فذلك معناه الواضح أن الشجاعة تعوزهم. أما إذا كان المئات والألوف لا يخلعون عنهم نير فرد، فما الذي يبقى من الإرادة الفردية والكرامة الإنسانية؟... إن حصول الفرد على حريته لا يقتضي بالضرورة استعمال القوة ضد الطاغية. إنه يسقط حالما تمل البلاد وجوده. ولا حاجة بالشعب الذي أذله واستعبده أن يحرمه أي حق له. فالتحرر لا يتطلب شيئاً أكثر من الإرادة الصادقة لخلع النير... فاعزموا عزماً صادقاً ألا تكونوا عبيداً بعد اليوم- وإذا أنتم أحرار! أمسكوا عن الطاغية المعونة يسقط ويتحطم كأنه تمثال عملاق سحبت قاعدته من تحت قدميه(101).

ومضى لابوييتي يشكل بآرائه فكر روسو وتوم بين من بعده. فهو يقول إن الإنسان يتوق بطبعه إلى الحرية، ومفارقات الحظ هي بنت الصدفة، وهي تحمّل المحظوظين الالتزام بخدمة إخوتهم في الإنسانية، وكل الناس إخوان "صنعوا من طينة واحدة"، وصانعهم إله واحد. والعجيب أن قراءة هذا الرأي المتطرف هي التي جذبت مونتيني- على ما طبع عليه من اتزان وحيطة- إلى لابوييتي، وأفضت (1557) إلى صداقة من أشهر الصداقات في التاريخ. وكان مونتيني يومها في الرابعة والعشرين، وإتيين في السابعة والعشرين، ولعل مونتيني كان آنئذ من الحداثة بحيث يستطيع تقبل العواطف المتطرفة. على أن صداقتهما سرعان ما ختمت بكون لابوييتي ولما يجاوز الثاني والثلاثين (1563)، ووصف مونتيني أيامه الأخيرة وكأنه يتذكر وصف أفلاطون لموت سقراط. وبلغت حدة إحساسه بفقد ذلك الفتى المشبوب العاطفة مبلغاً جعله يذكر موته- بعد أن انقضت عليه سبعة عشر عاماً- بشعور أشد عمقاً من ذكره لأي تجربة أخرى جاز بها في حياته. ولم يكن راضياً عن طبع كتاب صديقه (Discours) وحزن حين نشره راعي كنيسة في جنيف (1576). وقد علل تأليف الكتاب بروح الشباب السمحة، وأرجع كتابته إلى سن أسبق هي السادسة عشرة. لقد أوشك هذا الصوت أن يكون صوت الثورة الفرنسية.


9- راموس والفلاسفة

كانت حياة بتروس راموس- بيير دلاراميه- لا تقل شاعرية عن حية لابوييتي، وموته أشد عنفاً. لقد آلى على نفسه أن يخلع نير أرسطو.، إذ رأى فيه حكم رجل واحد دام نيفاً وثلاثة قرون، لا على أمة واحدة فحسب بل على أنن كثيرة، لا على الجسد بل على العقل، بل كاد يبسط سلطانه على الروح. أو لم ينصب هذا المفكر الوثني فيلسوفاً رسمياً للكنيسة؟ لقد فكر إنسانيو النهضة في إحلال أفلاطون محله، ولكن حركة الإصلاح البروتستنتي- أو الخشية من الحركة- أخذت تخنق الحركة الإنسانية، وظلت الكلامية الأرسطاطالية، سواء في ألمانيا البروتستنتية أو في فرنسا الكاثوليكية، متربعة على العرش حين مات لوثر (1546) الذي لعنها. وبدا خلع هذا المقدوني عن عرشه في نظر الشاب المفكر أحل صورة من صور قتل الطغاة. فلما تقدم راموس لدرجة الأستاذية من جامعة باريس عام 1536، وكان يومها في عامه الواحد والعشرين، اتخذ موضوعاً لرسالته هذه الدعوى القاطعة التي كان عليه أن يدافع عنها يوماً بطوله أمام من تحدوه من الكلية وخارجها: "كل ما قاله أرسطو باطل".

كانت حياة راموس أشبه بنشيد يتغنى بالتعليم. فقد ولد قرب مدينة كالفن "نوايون" في إقليم بيكاردي، وحاول مرتين السفر إلى باريس على قدميه يحدوه تعطش إلى كلياتها، ولكنه أخفق في المرتين وقفل إلى قريته مهزوماً. ثم حالفه التوفيق في عام 1528، حين بلغ الثانية عشرة، إذ التحق بخدمة طلب غني يحضر للجامعة في كلية نافار- وهي نفس الكلية التي سرقها فيون. وشق بيير طريقه في منهج كلية الآداب العسير طوال سنوات ثمان، يخدم نهاراً ويذاكر ليلاً. وكاد يفقد بصره خلال ذلك، ولكنه عثر على أفلاطون. يقول: "حين جئت باريس وقعت فريسة لتدقيقات السفسطائيين، فعلموني الآداب الحرة بالأسئلة والمجادلات، دون أن يدلوني على أية فائدة أو منفعة أخرى. فلما تخرجت... انتهيت إلى أن هذه المجادلات لم تكن سوى مضيعة لوقتي. ولما أفزعتني هذه الفكرة، وهداني ملك كريم، وقعت على زينوفون ثم على أفلاطون، ووصلت إلى معرفة فلسفة سقراط"(102).

ما أكثر من وصلوا منا في عهد الشباب إلى هذا الكشف المبهج، وسعدوا يوم التقوا في أفلاطون بفيلسوف سرت الخمر والشعر في عروقه، وسمع صوت الفلسفة في هواء أثينا نفسه، وأمسك بها وهي محلّقة، وأسلمها إلى الأجيال التالية وهي لا تزال تحمل نسمة الحياة، وأصوات سقراط وتلاميذه لا تزال تجلجل بقوة النقاش ونشوة الجدل حول أشد المسائل إثارة في العالم! يا لها من راحة يستمتع بها المرء بعد صفحات أرسطو المملة، بعد الإسهاب في حديث "توسط الطريق"، "والوسط غير الأمثل"! بالطبع كنا- وكان راموس- غير منصفين لأرسطو، إذ نقارن مذكرات محاضراته المحكمة بمحاورات أستاذه الميسرة، ولا يستطيع تقدير الفيلسوف المقدوني سوى الراسخين في العلم. فلقد كان أرسطو الذي عرفه راموس هو أولاً منطق "الأورجانون"، أرسطو المدارس، الذي لا يكاد يثبت لمحنة الترجمة إلى لاتينية الكلاميين، ومحنة التحويل السحري إلى أكوينية تقليدية مسيحية طيبة. ويقول راموس إنه أنفق ثلاث سنين في دراسة منطق أرسطو دون أن يبصره أحد بفائدة واحدة أو تطبيق واحد له في العلم أو الحياة(103).

وأنها لمفخرة لكلية باريس، ولعلم راموس وحذقه وشجاعته، أن يمنح درجة الأستاذية التي تقدم لنيلها، ولعل الأساتذة أيضاً كانوا قد سئموا المنطق والاعتدال. ولكن بعضهم صدموا وأحسوا أن بضاعتهم لحقها ضرر من نقاش ذلك اليوم. وبدأت عداوات لم تفتأ تلاحق راموس حتى مماته.

وخولت له درجة الأستاذية الاشتغال بالتدريس، فبدأ لفوره في الجامعة سلسلة من المحاضرات مزج فيها الفلسفة بأدب اليونان والرومان. وكثر تلاميذه، وتضاعف كسبه، واستطاع أن يرد لأمه الأرملة ما بذلته من مدخراتها لتدفع رسوم تخرجه. وبعد سبعة أعوام من التحضير أصدر سنة 1543 (وهي نفس "سنة العجائب" التي صدرت فيها كتب كوبرنيق وفيساليوس)، كتابين واصلا حملته لإسقاط منطق أرسطو. وكان أحدهما، وهو: Aristotelicae animadversiones" هجوماً مباشراً صاغه أحياناً في عبارات من القدح لا هوادة فيها، أما الآخر عن أقسام المنطق فقد قدم نسقاً جديداً يحل محل القديم. فأعاد تعريف المنطق باعتباره فن الحديث، وجمع بين المنطق والأدب والخطابة في طريقة إقناع فنية واحدة. وتوجس المهيمنون على الجامعة- ولهم العذر في توجسهم- مما قد يجر إليه هذا المأخذ من أخطار. يضاف إلى هذا ارتيابهم في بعض قضايا راموس التي شموا منها رائحة الهرطقة، كقوله مثلاً: "إن عدم التصديق بداية المعرفة"(104)- وهذا تشكك ديكارتي سابق لديكارت، أو طلبه مزيداً من دراسة الكتب المقدسة بدلاً من دراسة مجلدات الفلاسفة الكلاميين- وكان لهذا الطلب رنين بروتستنتي، أو تعريفه اللاهوت بأنه doctrina bene vivendi وهو تعريف هدد بإحالة الدين أخلاقاً. ثم هناك طرق راموس المثيرة للغيظ، وكبرياؤه ومشاكسته، وأسلوبه الجدلي العنيف، وترفعه القاطع على القطع بالعقيدة.

وما إن نشر الكتابان حتى دعا مدير الجامعة راموس للمثول أمام رئيس بلدية باريس بوصفه عدواً للدين، ومكدراً للسلام العام، ومفسداً للشباب بالبدع الخطرة وعقدت المحاكمة أمام لجنة ملكية من خمسة أعضاء- اثنان عينهما راموس، واثنان متهموه، وخامس فرانسوا الأول. ولم يرض رامواس عن إجراءات للمحاكمة، فسحب مندوبيه. وأصدر الثلاثة الباقون حكمهم ضده (1544)، فمنع بأمر ملكي من المحاضرة، أو النشر، أو المزيد من مهاجمة أرسطو. وعلقت صورة الحكم في أرجاء عديدة من المدينة، وأرسلت إلى الجامعات الأخرى. وأخرى الطلاب هزليات تهكموا فيها براموس، وسخر رابليه من هذا الشجار بإشراك الآلهة فيه.

ولزم راموس الصمت فترة، ثم بدأ سلسلة من المحاضرات في كلية آفي ماريا، ولكنه اقتصر على تدريس البلاغة والرياضيات، وأغضت الحكومة عن المخالفة. وفي عام 1545 أصبح المدير المساعد لكلية بريسل، وما لبثت قاعة محاضراته أن ازدحمت بالطلاب. فلما تولى هنري الثاني العرش بعد فرانسوا الأول ألغى الحكم الصادر على راموس وتركه "حر اللسان والقلم"، وبعد عام في كرسي بالكلية حيث يعفى من أشراف الجامعة. أما وقد بلغ راموس قصاراه إذ غدا أشهر معلم في باريس، فإنه خصص الكثير من وقته وجهده لإصلاح الطرق التربوية. وإذا كان قد اتكأ على "البلاغة"- وكانت آنئذ تعني الأدب- فلم يكن هذا لتنشيط الفلسفة بالشعر فحسب، بل لبث إنسانية نابضة بالحياة في مناهج صيرتها التجريدات والقواعد الكلامية جافة عسيرة. وفي خمس مقالات عن النحو طبق المنطق على اللغة، ورجا أن يصبح الهجاء الفرنسي صوتياً، ولكن هذا الهجاء واصل سيره المترنح، على أنه نجح في أن يدخل في الأبجدية الفرنسية حرفي j وv ليحلا محل الحرفين الساكنين I وu. ثم شجع تقرير المنح الدراسية لفقراء الطلبة، ذاكراً كفاحه وهو مملق في سبيل التعليم، وندد بالرسوم الباهظة التي تقاضاها الجامعات عن التخرج، وناضل في الوقت نفسه لرفع رواتب المدرسين.

وفي عام 1555 نشر كتابه Dialectique، وهو أول كتاب في المنطق بالفرنسية. وكان يحاج الآن لا عن الإقناع بالجدل والمنطق فحسب، بل دفاعاً عن العقل. كان بفطرته عدواً للنزعة التقليدية ولمجرد الاستشهاد بالثقاة، وقد رأى في العقل المرجح الوحيد الذي يحتكم إليه، وآمن في حماسة رجال النهضة أن العقل سيبلغ بالعلوم جميعها مرتبة تقرب من الكمال في قرن واحد له أطلق له العنان(105). كتب يقول: "كان شغلي الشاغل أن أزيح من طريق الآداب الحرة... كل العقبات والمعوقات الفكرية، وأن أعبد هذا الطريق وأقومه، لا تيسيراً للتفكير فحسب، بل لممارسة الآداب الحرة واستخدامها(106)".


وأغراه خلقه وفلسفته بالتعاطف مع الثورة البروتستنتية. فلما حصل الهيجونوت حيناً على التسامح مع الحكومة، بل وعلى الاشتراك فيها، أعلن راموس إتباعه المذهب الإصلاحي الجديد (1561). وفي بواكير عام 1562 مزق بعض تلاميذه الصور الدينية المعلقة في كنيسة كلية بريسل. وواصلت الحكومة دفع راتبه، ولكن مركزه كان يزداد حرجاً. فلما نشبت الحرب الأهلية (1562) غادر باريس بترخيص مرور من كاترين دي مديتشي، ثم عاد بعد عام حين وقعت معاهدة الصلح. وقد رفض في أدب دعوة وهت إليه ليشغل كرسياً في جامعة بولونيا، معتذراً بأن فرنسا طوقت عنقه بدين لا يسمح له بالرحيل عنها.

أما المعركة التي أفضت إلى موته فقد أصبحت علنية حين أفلح ألد أعدائه المدعو جاك شاربنتييه، في أن يشتري بالمال كرسي الرياضيات بالكلية الملكية (1565)(107)، على الرغم من اعترافه صراحة بجهله في العلوم الرياضية. وندد راموس بهذا التعيين، فهدد شاربنتييه، ولجأ راموس إلى المحاكم لتحميه، فأودع شاربنتييه السجن، ولكن أفرج عنه بعد قليل، وحاول بعضهم اغتيال راموس مرتين، فلما استؤنفت الحرب الأهلية بين الكاثوليك والبروتستنت (1567) غادر باريس ثانية. وقضت الحكومة الآن بألا يقوم بالتدريس في الجامعة أو الكلية الملكية غير الكاثوليك. فلما عاد راموس إلى باريس اعتزل الحياة العامة، ولكن كاترين واصلت دفع راتبه وضاعفته، وأصبح حراً في أن يفرغ للدرس والتأليف.

وفي يوليو 1572 دعاه مونلوك أسقف فالانس للانضمام إلى بعثة موفدة لبولنده، ولعل الأسقف توقع حدوث مذبحة القديس بارتولوميو، وفكر في حماية الفيلسوف الشيخ. ولكن راموس رفض، إذ لم يرقه مشروع تنصيب الأمير هنري أنجو على عرش بولندة. وسافر مونلوك في 17 أغسطس، وبدأت المذبحة يوم 24. وفي اليوم السادس والعشرين اقتحم رجلان مسلحان كلية بريسل وصعدا إلى الطابق الخامس حيث مكتب راموس. ووجداه يصلي فرماه أحدهما برصاصة في رأسه، وطعنه الآخر بسلاحه، ثم قذفه الاثنان معاً من النافذة. وجر الطلبة أو الرعاع الجسد الذي ما زال ينبض بالحياة إلى نهر السين وألقوه فيه، وأخرجه نفر آخر منهم وقطعوه إرباً(108). أما من الذي استأجر القتلة فعلمه عند الله، ويبدو أنها ليست الحكومة، فالظاهر أن شارل التاسع وكاترين ظلا راضيين عن راموس إلى النهاية(109). واغتبط شاربنتييه بالمذبحة وبقتل خصمه: "هذه الشمس الساطعة التي أضاءت فرنسا خلال شهر أغسطس... لقد زال الهراء بزوال صاحبه. وكل الناس الطيبين يفيضون بشراً(110)". وبعد عامين مات شاربنتييه نفسه، بتأنيب الضمير كما يقول بعضهم، ولكن ربما كان هذا شرفاً لا يستحقه.

لقد بدا راموس مهزوماً سواء في الحياة أو التأثير. فأعداؤه انتصروا عليه، ومع أن بعض "الراموسيين" سمعت أصواتهم في الجيل التالي في فرنسا وهولندة وألمانيا، فإن الفلسفة الكلامية التي حاربها استعادت تفوقها، ونكست الفلسفة الفرنسية رأسها حتى جاء ديكارت. ولكن إذا كانت الفلسفة لم تحرز في هذه الحقبة إلا كسباً ضئيلاً، فإن الخطوات التي خطاها العلم كانت خطيرة؛ لقد بدأ العلم الحديث بكوبرنيق وفيساليوس. وتضاعفت المساحة المعروفة من الدنيا، وتغير منظر العالم كما لم يتغير قط من قبل في التاريخ المدون. وأخذت المعرفة تنمو سريعاً من حيث المجال والانتشار، وراح استعمال اللغات الوطنية في العلم والفلسفة- على نحو ما فعل باريه وباراسيلسوس في الطب، وراموس في الفلسفة- يتسع فيشمل تعليم الطبقات الوسطى وأفكارها التي اقتصرت من قبل على المتخصصين من العلماء والقساوسة. وتحطمت "كعكة التقاليد"، وانكسر قالب العقيدة، وتهاوت قبضة الاستناد إلى السلف. وحل الإيمان من مراسيه فتدفق بحرية جديدة متخذة أشكالاً لا حصر لها.

كان كل شيء يجري متدفقاً إلا الكنيسة. ووقفت حيناً وسط هذه الثورة حائرة مشدوهة، لا تكاد أول الأمر تدرك خطورة الأحداث. ثم تصدت في عزيمة وتصميم لذلك السؤال الخطير الذي واجهها: أمن واجبها أن تكيف تعاليمها وفق مناخ الأفكار وسيولتها الجديدين، أم تقف جامدة وسط كل التقلبات، وتنتظر حتى يرد بندول الفكر والعاطفة الناس، في تواضع وتعطش، إلى تعزياتها وسلطانها؟ وكان جوابها عن هذا السؤال هو الفيصل في تاريخها الحديث.