قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 2 ف 7

صفحة رقم : 9581

قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلترا -> الدعوة إلى العقل -> الخرافة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السابع: الدعوة إلى العقل 1558-1649

الخرافة

هل الناس فقراء لأنهم جهلاء، أم جهلاء لأنهم فقراء؟ تلك مسألة انقسم عليها الفلاسفة السياسيون إلى محافظين يؤكدون أهمية عامل الوراثة (التفاوت الفطري الموروث في القدرة العقلية)، ومصلحين يعتمدون على البيئة (أهمية التعليم وإتاحة الفرصة). وبازدياد الثروة وتوزيعها ينمو العلم ويتقلص ظل الخرافة. ومع ذلك فانه حتى البلد المزدهر ازدهاراً كبيراً-وبخاصة بين الفقراء المنهوكين والأثرياء الخاملين-نجد أن الفكر يعيش في متاهة من الخرافات: علم التنجيم، حساب الجمل (دراسة المعاني السحرية أو التنجيمية للأعداد)، قراءة الكف، الأعاجيب، الحسد، السحرة، الغيلان، الأشباح، العفاريت، التعزيم لاستحضار الجن، التعاويذ والرقي، تفسير الأحلام، الكرمات والمعجزات، الشعوذة والدجل، الخصائص الخفية، الشافية أو المؤذية، للمعادن والنباتات والحيوانات. فلنتدبر إذن الجو الخانق الذي يسمم جذور العلم بثماره، في شعب ذي ثروة ضئيلة أو مركزة في أيدي فئة قليلة. إن الخرافة لدى ضعاف الأجسام والعقول عنصر ثمين في قصيدة الحياة، تضئ أيامهم الكئيبة بالأعاجيب المثيرة، وتخفف من بؤسها بالقوى السحرية والأماني الخفية.

وفي 1646 احتاج سير توماي براون إلى 652 صحيفة ليعدد ويعالج في إيجاز الخرافات المنتشرة في أيامه(1)، إن كل هذا الإيمان بالقوى الخفية تقريباً، نما وازدهر بين البريطانيين في عهد إليزابث وأوائل عهد آل ستيوارت. ففي 1557 نشر الملك جيمس السادس كتاباً يعتبر مرجعاً "الإيمان بالشياطين" وهو من المروعات في الأدب. وفيه ينسب إلى السحرة القدرة على ارتياد البيوت، وغرس الحب والبغض في قلوب الرجال والنساء بعض لبعض، ونقل المرض من شخص إلى آخر، والقتل بإحراق تمثال أو دمية من الشمع، وإثارة العواطف المدمرة. وبرر عقوبة الإعدام للسحرة والمشعوذين-بل حتى لزبائنهم(2). وعندما كادت زوبعة تودي بحياته في طريق عودته من الدنمرك مع عروسه، أمر بتعذيب أربعة اشتبه فيهم حتى اعترفوا كانوا قد تآمروا على القضاء عليه بوسائل سحرية. وأحرق واحد منهم حتى الموت، وهو جون فين، بعد أن عذب تعذيباً وحشياً(3).

واتفقت الكنيسة الوطنية الإسكتلندية مع الملك في هذا الشأن. وهدد القضاة المدنيون الذين يتساهلون مع السحرة بالحرمان من الكنيسة(4). وفيما بين عامي 1560-1600 أحرق نحو ثمانية آلاف من النسوة باعتبارهن ساحرات في إسكتلندة التي لم يكن عدد سكانها يبلغ المليون(5). وكاد الاعتقاد في السحر في إنجلترا أن يكون عاماً شاملاً، وشارك في هذا الاعتقاد أطباء علماء مثل وليم هارفي وسير توماس براون. ونصت إليزابث العنيدة في القوانين التي سنتها 1562 على أن الاشتغال بالسحر جريمة عقوبتها الإعدام. وأعدم من أجلها إحدى وثمانون امرأة في عهدها(6). وخفف جيمس السادس من تزمته بعد أن أصبح جيمس الأول ملك إنجلترا، وأصر على محاكمة المتهمين بالسحر محاكمة عادلة، وفضح الاعترافات والاتهامات الباطلة وأنقذ حياة خمس من النسوة اتهمهن صبي مخبول(7). وكادت المطاردة أن تنقط بعد اعتلاء شارل العرش، ولكنها استؤنفت، وبلغت أقصاها أيام حكم البرلمان الطويل، حيث أعدم في عامين اثنين (1645-1647) مائتان من السحرة(8).

وفي وسط هذه الموجة العاتية من الضراوة والعنف ارتفع صوت واحد يناشد العقل ويتحكم إليه، هو ريجنالد سكوت، وهو إنجليزي على الرغم من اسمه، وقد نشر في لندن 1584 "الكشف عن السحرة". ولم يسبقه إلا جوهان فير في كتابه "خدعة الشيطان" (بازل 1564) في هذه المحاولة الخطيرة، محاولة التخفيف من الخرافة البالغة القسوة. ووصف سكوت الساحرات بأنهن نسوة عجائز بائسات لا يستطعن الإضرار بأحد، وأنهن، حتى لو تصرف الشيطان عن طريقهن، أولى بالرثاء والإشفاق، أكثر منهن بالإحراق، وقال إن في نسبة المعجزات إلى هاتيك العجائز الشمطاوات، امتهاناً لمعجزات السيد المسيح. وفضح سكوت ألوان التعذيب التي جعلت السحرة غير ذات قيمة، وإجراءات المحاكمة المجافية للعدالة، والمشوبة بالمخالفات والتراخي. والشكوك التي يزدردها القضاة والمحققون. ولكن لم يكن ثمة أثر للكتاب. وفي هذا الجو حاول العلم أن يشب على قدميه.


العلوم

ومع ذلك، فإن تقدم التجارة والصناعة كان يفرض تقدم العلوم. وكان من العسير أن ننسق النزعات الأفلاطونية والفنية في عصر النهضة مع الاقتصاد المتوسع. واشتدت الحاجة إلى نهج عقلي يمكن أن يعالج الأرقام والحقائق. قدر ما يعالج النظريات والأفكار. ونشطت تجريبية أرسطو بعد تجريدها من أقنعة الفلسفة الهللينية المتأخرة في الإسكندرية ومن أقنعة فلسفة العصور الوسطى. وقد أفسح توكيد الفلسفة الإنسانية الإيطالية على أمجاد الآداب القديمة وعظمتها، نقول أفسح الطريق لتركيز أقل دقة على الحاجيات العملية الراهنة، وكان لزاماً على الناس أن تعد وتحصي، وأن تقيس وتصمم أو تخطط، في دقة وسرعة تحكمها المنافسة. واحتاج الناس إلى أجهزة للرصد والتسجيل، ونشأت المطالب التي تحققت باختراع اللوغاريتمات والهندسة التحليلية وحساب المثلثات والآلات، والمجهر (الميكروسكوب)، وطرق الإحصاء، والموجهات الملاحية، والأجهزة الفلكية، وتوافرت الحياة في أوربا الغربية منذ الآن فصاعداً، وعلى مواجهة تلك الحاجيات.

واقترح جون نابير في إسكتلندة 1614، وجوست بورجي في سويسرا 1620، كل على حدة، اقتراحاً طريقة اللوغاريتمات (أي منطق الأرقام) يمكن بواسطتها إجراء عمليات الضرب والقسمة وإيجاد الحدود في سهولة ويسر من الجداول الرياضية (جداول اللوغاريتمات) بأساس معين. وفي 1616 عدل هنري برجز الطريقة من أجل الحساب العادي، بجعل الأساس 10 ونشر جداول تعطى لوغاريتمات الأعداد من 1 إلى 20.000. وللآن يمكن إيجاد حاصل ضرب عددين، بأن يستخرج من مثل هذه الجداول العدد الذي يكون مجموع لوغاريتمه هو مجموع لوغاريتمي العددين المطلوب ضربهما. كما يمكن قسمة أ على ب، بإيجاد العدد الذي لوغاريتمه هو الفرق بين لوغاريتمي أ و ب. (لو أ ب= لو أ - لو ب. وأعد وليم أوترد Oughtred (1622) وادموند جنتر (1624) مساطر حاسبة يمكن بواسطتها إجراء العمليات الحسابية في ثوان قليلة. وقد وفرت هذه المخترعات نصف الوقت الذي كان يصرفه الرياضيون والفلكيون ورجال الإحصاء والملاحون والمهندسون، في عملياتهم الحسابية، وأطالت في الواقع حياتهم(9). ووجه كبلر، الذي استخدم الطريقة الجديدة في حساب حركات الكواكب، مديحاً حماسياً إلى لورد مارشستون (في إسكتلندة) 1620، ولم يكن يدري أن نابيير كان قد قضى نحبه قبل سنوات ثلاث، وكان نابيير قد وقع في خطأ يسير في التقدير والحساب، حين حدد أن العالم سينتهي فيما بين عامي 1688 و1700(10).

وظل الرياضيون والفلكيون متكاتفين تكاتفاً وثقاً من أجل حساب حركات الأجرام السماوية، وحساب التقويم، وتطلب توجيه الملاحة معالجة بارعة معقدة للقياسات الفلكية. ووضع توماس هاريوت، بوصفه عالماً رياضياً، الشكل القياسي للجبر الحديث، وأدخل علامات الجذر "أكبر من" و "أقل من" وأحل الحروف الصغيرة محل الكبيرة القبيحة المنظر، لتدل على الأرقام، وعثر مصادفة على الطريقة الناجحة، وهي في وضع كل المقادير في المعادلة في طرف واحد، ووضع الصفر في الطرف الثاني (المعادلة الصفرية) وبوصفه فلكياً اكتشف البقع الشمسية، وقام بأرصاده لتوابع المشتري، مستقلاً عن جاليلو. إن جورج تشابمان نفسه، وهو من فحول العلماء، قدر أن علم هاريوت "لا يباريه فيه أحد، وأنه لا حدود له(11)".

وكان علم الفلك لا يزال ينضح بالتنجيم. وكان تنجيم "الساعة" يقرر هل تلائم النجوم مشروع الساعة أو لا تلائمه. وتنبأ التنجيم "الشرعي أو القضائي" بالأحداث عامة، في تعميم غامض متسم بالحكمة عادة. أما التنجيم "الطبيعي" فكان يكشف عن قدر الفرد وحظه من برجه-أي اختبار موقع النجوم ساعة مولده-وكل هذا موجود في روايات شكسبير (ولو أن لا يدل على إيمانه به)، وفي أيامنا هذه. وتقول نظرية التنجيم بأن القمر يحدث المد والجزر، والبكاء، والجنون، واللصوصية (رواية شكسبير هنري الرابع 1-2-15). وكانت كل علامة في البروج تتحكم في طبيعة وفي مصير أعضاء بعينها في جسم الإنسان (الليلة الثانية عشرة الفصل الأول، 3-146-151). واستخدم جون دي Dee الرموز في الزمن بإدماج التنجيم والسحر والرياضيات والجغرافيا، واشتغل بالعرافة البلورية وكتب Treatise Of The Rosia Crucean Secrets، واتهم بممارسة السحر ضد الملكة ماري تيودور (1555) ورسم خرائط جغرافية ومائية للملكة اليزابث. واقترح طريقاً عبر الشمال الغربي إلى الصين. وابتدع عبارة "الإمبراطورية البريطانية" وألقى محاضرات عن أقليدس أمام جماهير غفيرة في باريس، ودافع عن نظرية كويرنيكس، وأيد استخدام التقويم الجريجوري (قبل أن تروض إنجلترا نفسها على هذه البدعة البابوية بمائة وسبعين عاماً). ومات عن إحدى وثمانين سنة، وكانت حياة حافلة. وعزز تلميذه توماس دجز Digges تقبل فرضية كوبرنيكس في إنجلترا، واستبق فكرة برونو عن الكون اللانهائي(12). واستخدم توماس وأبوه ليونارد دجز "العدسات البلورية" ومن المحتمل أنها كانت بشيراً بظهور التلسكوب. واخترع وليم جاسكوان (حوالي 1639) المصغر (المكرومتر: أداة تستعمل مع التلسكوب أو في الميكروسكوب لقياس الأبعاد والزوايا البالغة الصغر) الذي مكن الراصدين من ضبط التلسكوب بدقة لم يسبق لها مثيل. أما أرميا هوروكس، وهو قسيس فقير من لنكشير مات في سن الرابعة والعشرين، فقال أن للقمر مداراً بيضوياً. وتنبأ-كما رصد (1639) لأول مرة سجلها التاريخ- انتقال الزهرة حول الشمس. وساعدت تأملاته في القوى التي تحرك الكواكب، نيوتن في نظرية الجاذبية الأرضية. وفي نفس الوقت كانت دراسة المغناطيسية الأرضية تمهد الطريق أمام نيوتن. فان جورج هارتمان، وهو من رجال الدين الألمان (1544) وروبرت نورمان، وهو إنجليزي يشتغل بصنع البوصلة (1576)، اكتشفا، كل منهما بمفرده بعيداً عن الآخر، انحراف الإبرة المغناطيسية، حين تكون معلقة تعليقاً حراً من مركز ثقلها، وميلها إلى الانحراف عن الوضع الأفقي إلى وضع يصنع زاوية مع سطح الأرض. وذهب نورمان في كتابه "الجديد الجذاب" إلى القول (1581). بأن "عامل الجذب" الذي تنحرف إليه الإبرة يقع في الأرض نفسها(13).

وجاء بعد هذه الطليعة الباهرة، وليم جلبرت، طبيب إليزابث. وبعد سبعة عشر عاماً من البحث والتجربة-التي اعتمد في تمويلها على ثروته الموروثة، كما عاونته الملكة أحياناً-نشر النتائج التي توصل إليها في أول مؤلف إنجليزي كبير للعلوم: "في المغناطيس... والمغناطيس الأعظم وهو الأرض" (1600). لقد وضع إبرة بوصلة محورية، على التعاقب: في نقطة مختلفة، على حجر مغناطيس كروي. وسجل بخطوط على الكرة الاتجاهات التي اتجهت إليها الإبرة على التوالي، ومد كل خط ليشكل دائرة كبيرة حول الحجر، ووجد أن كل هذه الدوائر قطعت الكرة في نقطتين متقابلتين تماماً، وكان هذان هما القطبان المغناطيسيان اللذان اعتبرهما جلبرت خطأ، في حالة الأرض، القطبين الجغرافيين. ووصف الأرض بأنها مغناطيس ضخم، وفسر، بناء على ذلك الإبرة المغناطيسية، وأظهر أن أي قضيب حديدي يترك لمدة طويلة في وضع شمالي جنوبي لا بد أن يصبح ممغطساً. والمغناطيس الذي يوضع على أي من قطبي حجر المغناطيس الكروي، يأخذ وضعاً عمودياً على الكرة. وإذا وضع في أية نقطة متوسطة بين القطبين (وهي النقط التي تكون خط الاستواء المغناطيسي) يأخذ وضعاً أفقياً. وانتهى جلبرت إلى أن انحراف الإبرة يكون أعظم، كلما وضعت أقرب إلى القطبين الجغرافيين للأرض. وعلى الرغم من أن هذا لم يكن صحيحاً تماماً، فقد أكده تقريباً هنري هدسن في ارتياده المنطقة المتجمدة الشمالية (1608). ومن ملاحظاته الخاصة، رسم اتجاهات لحساب خط العرض من درجة الانحراف المغناطيسي. وذهب إلى أنه "من حول جسم مغناطيسي تنتشر القوة المغناطيسية في كل ناحية". ونسب دوران الأرض إلى تأثير هذا المجال المغناطيسي. وانتقل جلبرت من هذا إلى دراسة الكهرباء-ولم يكن قد تم فيها شيء يذكر منذ القدم-وأثبت أن ثمة مواد أخرى كثيرة-غير الكهرمان، يمكن بحكها أن تولد كهرباء بالاحتكاك. ومن اللفظة اليونانية لكلمة Amber (كهرمان). كون لفظة Electric (كهرباء) لتدل على قوة تحرف الإبرة المغناطيسية. واتقد بأن كل الأجسام السماوية مزودة بالمغناطيسية، واستخدم كبلر هذه الفكرة لتفسير حركة الأجسام السماوية. والحق أن معظم عمل جلبرت كان مثالاً يدعو إلى الإعجاب للنهج التجريبي، وأن آثاره على العلوم والصناعة لا حدود لها.

وظهر تقدم العلوم أكثر في جهود النفوس المغامرة أو المولعة بالتحصيل والكسب، لاكتشاف "المغناطيس الأعظم" لأغراض جغرافية واقتصادية. وفي 1576 نشر سير همفري جلبرت (ولا يمت بصلة إلى وليم جلبرت) "مقالاً موحياً.... عن طريق جديد إلى الصين". مقترحاً الإبحار في اتجاه الشمال الغربي، عبر كندا أو حولها. وفي نفس العام أبحر سير مارتن فروبشر بثلاث سفن صغيرة ليكتشف طريقاً مثل هذا. وغرقت إحدى سفنه، وهجر الثانية ملاحوها، وسار هو قدماً بالسفينة "جبراييل" البالغة الصغر والتي لم تتجاوز حمولتها 25 طناً. ووصل إلى بفن لاند، ولكن الاسكيمو حاربوه، فعاد إلى إنجلترا طلباً لمزيد من الرجال والمؤن. وانحرفت رحلاته بعد ذلك عن الجغرافيا للبحث عن الذهب دون جدوى، ثم تمسك جلبرت بضالته المنشودة، وهي الطريق الشمالي الغربي إلى الصين، ولكنه أغرق وهو يحاول ذلك (1583). وبعد ذلك بأعوام أربعة اندفع جون دافيز في المضيق المسمى اليوم باسمه، وحارب الأرمادا، ثم أنطلق إلى البحار الجنوبية مع توماس كافندش واكتشف جزر فوكلند، وقتله القراصنة اليابانيون بالقرب من سنغافورة (1605) وارتاد كافندش الجزء الجنوبي من أمريكا الجنوبية وأكمل ثالث طواف حول الكرة الأرضية، ومات في البحر (1592)، وسار هنري هدسن (1609)، وفي رحلة أخرى وصل إلى خليج هدسن، ولكن بحارته الذين ذهبت الصعاب بعقولهم، واشتد بهم الحنين إلى الوطن، تمردوا عليه، وأنزلوه هو وثمانية معه في قارب صغير مكشوف، (1611) ولم يسمع لهم ذكر بعد ذلك قط، واكتشفت وليم بفن الخليج والجزيرة اللتين تحملان اسمه، وغامر حتى وصل إلى خط عرض 77.45-وهو ما لم يصل إليه أحد مرة أخرى قبل مضي 236 سنة-وكان له امتياز آخر، وهو إيجاد خطوط الطول لأول مرة برصد القمر. وشهد ريتشارد هاكلوت في هذه السفن المأخوذ من خشب البلوط فترة من البسالة والرعب تفوق أية الياذة، ونشر قصصها في مجلدات ظهرت تباعاً، من أحسن ما عرف منها هو ما نشر تحت اسم "الإبحارات الرئيسية، رحلات الأمة الإنجليزية وكشوفها" (1579، 1598 ،1600)، وزاد صمويل بوركاس في هذا السجل بكتاب "رحلات بوركاس (1625). وهكذا كان الطمع في الحصول على الذهب، والتحمس لمواجهة الأخطار ومشاهدة البلاد البعيدة سبباً في تقدم الجغرافيا دون قصد.

وكان احسن ما حققه العصر في الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا من عمل القارة. أما في إنجلترا، على أية حال، فان سير كنلم دجبي Kenelm Digby اكتشف ضرورة الأوكسجين لحياة النبات، كما أيد روبرت فلد Fludd، وهو متصوف وطبيب، فكرة التطعيم Jenner بمائة وخمسين عاماً. واستمرت وصفات الدواء تعتمد على إثارة الاشمئزاز ليكون للأدوية أثرها. وأوصى الدستور الرسمي للأدوية في لندن 1618، بالمر، وعصارة النبات (الدم) وتشريط الجلد، وعرف الديك، والفراء، والعرق واللعاب والعقارب وجلد الثعبان وحمار القبان (حشرة) ونسيج العنكبوت، على أنها وسائل للعلاج، وكلن فصد الدم أول شيء يلجئون إليه(14)-وعلى الرغم من ذلك، فان هذه الحقبة تفاخر بتوماس بار "بار العجوز Old Parr" الذي قدم إلى شارل الأول 1635، على أنه يتمتع بصحة جيدة مع أنه كان كما زعموا، في الثانية والخمسين بعد المائة من عمره. ولم يدع بار يعرف سنه على التحقيق، وكلن ولاة الأمور في أبرشيته دونوا تاريخ ميلاده في 1483، وادعى أنه التحق بالجيش في 1500، وتذكر تفاصيل حل الأديار في عهد هنري الثامن. (1536)، فقال له الملك شارل الأول "لقد عمرت أطول من أي أناس آخرين، فماذا فعلت أكثر مما فعلوا هم؟" فأجاب بار، بأنه كان عمره فوق المائة حين ضاجع فتاة فحملت، وأنه كفر عن خطيئته بأشد كفارة. وكان بار قد عاش، تماماً تقريباً، على البطاطس والخضر والخبز الجاف واللبن المخيض، ونادراً ما ذاق اللحم. ولفترة من القوت أصبح بار مشهوراً في ردهات لندن وحاناتها، وكانوا يقدمون له فيها ما لذ وطاب، حتى أنه مات في بحر عام من لقائه مع الملك. وفحص سير وليم هارفي جثته بعد وفاته فوجد أنه غير مصاب بتصلب الشرايين. وشخص موته بأنه نتيجة لتغيير الهواء والغذاء(15).

إن هارفي هو الذي هيأ لهذا العصر ذروة المجد العلمي بشرحه للدورة الدموية، وهو "أجل حدث في تاريخ الطب منذ عهد جالينوس(16)". ولد في فولكستون (1578)، ودرس في كمبردج ثم في بادوا على فابريزيو دكو ابندانت، فلما عاد أقام في لندن ومارس الكب فيها، وأصبح الطبيب الخاص لجيمس الأول ثم شارل الأول، وعكف صابراً مثابراً، سنين طوالاً، على إجراء التجارب والتشريح، على الحيوانات والجثث، ودرس، تدفق الدم ومجراه في الجروح. ووصل إلى نظريته الأساسية في 1615(17). ولكنه نشرها، متأخراً، في فرانكفورت 1628، على أنها "تجارب متواضعة في تشريح الجثث ودماء الحيوان". وهي أول وأعظم أثر في الطب في إنجلترا.

وإن الخطوات التي تدرج فيها الكشف الذي توصل إليه هارفي لتوضيح عالمية العلم. فإن وظائف القلب والدم، ظلت لأكثر من ألف عام، تفسر كما فسرها جالينوس في القرن الثاني الميلادي. وكان جالينوس قد افترض أن الدم يتدفق إلى الأنسجة من الكبد والقلب سواء بسواء، وأن الهواء يمر من الرئتين إلى القلب، وأن الشرايين والأوردة بها مجريان للدم، يدفعهما ويستقبلهما القلب، وفي حركة مد وجزر، وأن الدم يجري من الجانب الأيمن إلى الجانب الأيسر من القلب عبر مسام في الحجاب الحاجز بين التجاويف. وعارض ليوناردو دافنشي (حوالي 1506) فكرة مرور الهواء من الرئتين إلى القلب، وأنكر فيساليوس (1543) وجود مسام في الحجاب الحاجز. وكشفت رسومه البارعة للشرايين والأوردة عن أن نهاياتها أو أطرافها دقيقة ومتلاصقة حتى لا تكاد توحي بالمرور والدورة. وأوضح فابريزيو أن الصمامات في الأوردة تجعل من المستحيل تدفق الدم الوريدي من القلب. وتلاشت نظرية جالينوس. واكتشف ميشيل سرفيتس (1553)، وريالدوكولومبو (1558)، الدورة الدموية الرئوية-أي مروره من الجانب الأيمن من القلب عبر الشريان الرئوي إلى الرئتين ومن خلالهما، وتنقية الدم هناك بوساطة التهوية، وعودته عن طريق الوريد الرئوي إلى الجانب الأيسر من القلب. واستبق أندريا سيسالبينو (حوالي 1571)-كما سنرى النظرية الكاملة للدورة، وتحولت النظرية إلى حقيقة واضحة جلية بفضل ما قام به هارفي.

وبينما كان فرانسيس بيكون، المريض الذي يتولاه هارفي، يمجد الاستقراء، توصل هرافي إلى النتيجة الرائعة عن طريق الجمع اللافت للنظر بين الاستنتاج والاستقراء. إنه بتقديره كمية الدم المندفع من القلب في كل انقباض أو تقلص بأنها نصف أوقية سائل، حسب أنه في ساعة، لا بد أن يصب القلب في الشرايين، ما يزيد على 500 أوقية سائل، وهي كمية تزيد على ما يحتويه الجسم كله، فمن أين يأتي كل هذا الدم. وبدا من المستحيل أن هذا القدر الكبير يمكن أن ينتج من ساعة إلى ساعة، من هضم الغذاء. فاستنتج هارفي أن الدم الذي يخرج من القلب يعاد إليه، وأنه ليس ثمة طريق آخر لهذا سوى الوردة. وبفضل التجارب والملاحظات البسيطة-وعلى سبيل المثال، الضغط بالإصبع على أي وريد سطحي-تبين في الحال وبسهولة، أن الدم الوريدي تدفق من الأنسجة نحو القلب.

عندما استعرضت مجموعة الشواهد التي لدى، سواء ما استقيتها من تشريحات الأحياء وتأملاتي فيها، أو من تجاويف القلب والأوعية التي تدخل إليها أو تخرج منها.... والتي كثيراً ما أمعنت التفكير فيها بشكل جدي.... ما عساها تكون كمية الدم التي تنقل... ووجدت من المستحيل أن تكون مستمدة من عصارات الغذاء الذي يدخل إلى الجسم، دون أن تجف الأوردة تدريجياً، من جهة، وأن تنفجر الشرايين لفرط امتلائها بالدم، من جهة أخرى، إلا إذا وجد الدم له، بطريقة ما، مخرجاً من الشرايين إلى الأوردة، ومن ثم يعود إلى الجانب الأيمن من القلب... أقول إني عندما استعرضت كل هذه البيانات والشواهد، بدأت أفكر في انه يمكن أن يكون هناك، "حركة، كما لو كانت في دائرة."... والآن يمكن أن أستبيح لنفسي أن أدلي بفكرتي عن الدورة الدموية(18).

وتردد طويلاً في نشر النتائج التي توصل إليها، لما كان يعلم من روح المحافظة التي سادت مهنة الطب في عصره. وتنبأ بأن فرد فوق الأربعين لن يقبل نظريته(19). وروى أوبري "سمعته يقول إنه بعد صدور كتابه: الدورة الدموية، تدهور تدهوراً شديداً في عمله، حتى أعتقد السوقة أنه قد اختل عقله(20). وحتى أثبت مالبيجي Malpighi (1660) وجود الأوعية الشعرية التي تحمل الدم من الشرايين إلى الوردة، لم تكن دنيا العلم تسلم بأن الدورة الدموية الحقيقية واقعة. إن الفكرة الجديدة أضاءت كل مجالان الفسيولوجيا تقريباً وأثرت على المشكلة القديمة، مشكلة العلاقة المتبادلة بين الجسم والعقل. ويقول هارفي:

إن أي شعور في العقل، مصحوب بألم أو لذة، بأمل أو خوف، هو سبب في إثارة يمتد أثرها إلى القلب... وفي كل عاطفة تقريباً... تتغير ملامح الوجه، ويظهر الدم جارياً هنا وهناك. وفي حالة الغضب تتقد العينان، ويتقلص إنسان العين. وفي حالة التواضع تغمر الوجنات حمرة الخجل. أما في حالة الشهوة فما أسرع ما يتضخم أو ينتفخ العضو بالدم(21).

وظل هارفي في خدمة شارل حتى الخاتمة الأليمة التي مني بها الملك تقريباً، فقد رافقه حين طوحت الثورة بالملك إلى خارج لندن، كما رافقه في معركة ادجهل Edgehill، حيث نجا من الموت بأعجوبة(22). وفي نفس الوقت نهب الثوار داره في لندن، وعبثوا بمخطوطاته ومجموعات التشريح التي كان يحتفظ بها. وربما كان هارفي قد حلب على نفسه عداوة كثير من الناس نظراً لحدة طبعه وآرائه. ولم يعتبر هارفي الإنسان "إلا قرد ضخماً شريراً كريهاً" كما قال أوبري، وذهب إلى "أننا نحن الأوربيين لم نعرف كيف نسوس نسائنا ونحكمهن، وان الأتراك هم الشعب الوحيد الذي استطاع أن يستخدمهن بحكمة(23). ولما كان محتفظاً بنشاطه وحيويته وهو في سن الثالثة والسبعين، فانه نشر رسالة في "علم الأجنة" (1651)، نبذ فيها الاعتقاد السائد في التوالد التلقائي لكائنات دقيقة من أجسام متحللة. واعتقد هارفي "بأن كل الحيوانات حتى هذه التي تنتج صغارها أحياء، بما في ذلك الإنسان نفسه-تتطور وتخرج من بيضة، وصاغ عبارة "كل حيوان يخرج من بيضة". ومات بعد ذلك بست سنين بسبب شلل أصابه، واهباً معظم ثروته التي تبلغ عشرين ألف جنيه لكلية الأطباء الملكية، وعشرة جنيهات لتوماس هوبز "رمزاً للمحبة".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

صعود فرانسيس بيكون وسقوطه 1561-1621

نحن الآن أمام أكبر عقل وأنشطه مدعاة للفخر، لقد وقفنا على مولده ونسبه، ودراسته للأدب والدبلوماسية والقانون، وفقره غير المتوقع، والتماسه للوظيفة، دون أن يسمع بع أحد، وتحذيره لصديقه المحسن الخير المجرم، ومقاضاته إياه على كره منه. ولقد استنفد العلم والمعرفة والطموح كل طاقته، حتى لم يعد به ميل إلى النساء، على أنه على أية حال، كان يحب الشبان(24). وفي سن الخامسة والأربعين (1606) تزوج من أليس برنهام Barnham التي هيأت له 220 جنيهاً في العام. ولكنه لم ينجب أطفالاً.

وعندما اعتلى جيمس الو عرش إنجلترا بعث إليه بيكون بكتاب مسرف في الزلفى والملق، يعرض نفه على الملك على أنه صالح لتقلد المناصب وأهل لها وأما كان ابن حامل أختام الملك، وابن أخ لآل سيسل أو من أبناء عمومتهم أ وخؤولتهم، فإنه أحس بأن طول انتظاره للوظيفة الحكومية يعكس شيئاً من روح العداء من جانب الوزراء المتربعين على كراسي الحكم، وربما كانت انتهازيته المتبرمة، نتيجة، وفي نفس الوقت سبباً في تأخر تعيينه في أحد المناصب. كان قد خدم بالفعل في البرلمان لمدة تسعة عشر عاماً، ودافع فيها عادة عن الحكومة، واشتهر بسعة الإطلاع، والفكر البناء، والعبارة الواضحة الأخاذة. وكان يرسل بين الحين والحين. إلى الملك "مذكرات" تفيض بالآراء السديدة في كيفية النهوض بالتفاهم المتبادل والتعاون بين مجلس العموم واللوردات، وتوحيد برلماني إنجلترا وإسكتلندة، وإنهاء الاضطهاد الديني للمخالفين، وتهدئة أيرلندة باستمالة الكاثوليك فيها، وإعطاء الكاثوليك في إنجلترا مزيداً من الحرية دون فتح الباب للمزاعم البابوية، وإيجاد وسيلة للتوفيق بين الأنجليكانيين والبيوريتانيين. وقرر مؤرخ درس الشئون السياسية في تلك الحقبة دراسة مستفيضة-قرر "أن تنفيذ هذا البرنامج لم يكن يعني ألا تغيير كل مساوئ النصف الثاني من هذا القرن(25)". وطرح جيمس هذه الاقتراحات جانباً على أنها غير عملية في ظروف التفكير السائدة. واكتفى بضم بيكون إلى طبقة الفرسان الثلاثمائة الذين وزعهم 1603، وتذرع بيكون بالصبر وظل يمني نفسه.

وعلى الرغم من كل شيء، فان براعته بوصفه محامياً لم توفر له الغنى والثراء إلا في شيء من البطء. وفي 1607 قدرت ثروته بنحو 24.155 جنيه(26). وفي ضيعته التي زودها بكل ألوان الترف، في جور هامبري، كما هيأ لها نخبة من العاملين المرتفعي الأجور والسكرتيرين اليقظتين مثل توماس هوبز، نقول أنه في هذه الضيعة استطاع أن ينعم بالجمال والراحة اللتين أحبهما في حكمة أكثر مما ينبغي، ورعى صحته بالعمل في الحديقة التي بنى في وسطها ركناً فاخراً يأوي إليه ليخلو إلى نفسه ويتفرغ إلى الدرس والبحث، فكتب كما يكتب الفلاسفة وعاش كما يعيش الأمراء، إنه لم يجد سبيلاً يبرر أن يكون العقل مفلساً، ويبرر ألا يكون "سليمان" (أي الحكيم) ملكاً.

إن بيكون لم يطل به الأمد حتى يبلغ الهدف، فان الملك جيمس الذي قدره حق قدره آخر الأمر عينه في 1607 مساعداً للنائب العام وفي 1613 نائباً عاماً، وفي 1616 عضواً في مجلس شورى الملك، وفي 1617 حاملاً للأختام، وفي 1618 قاضياً للقضاة. وخلعت عليه ألقاب كريمة جديدة لتزين مواهبه وقدراته: ففي 1618 عين بارون فيرولام الأول، وفي يناير 1621 فيكونت سانت ألبانز. ولما غادر جيمس إنجلترا إلى إسكتلندة، ترك قاضي قضاته ليحكم البلاد. "واستقبل بيكون سفراء يحف به الجلال والعظمة" وعاش في جورهامبري تحوطه الفخامة والأبهة "حتى بدا أن البلاط الملكي هنا (في قصر جورهامبري)، وليس قصر هويتهول أو في قصر سان جيمس(27)".

لقد حظي بيكون بكل شيء إلا الشرف. ففي سعيه وراء المناصب كثيراً ما ضحى بالمبادئ، فاستغل نفوذه، كمساعد للنائب العام، لإصدار الأحكام القضائية على الصورة التي يرغب فيها الملك(28)ودافع، وهو حامل للأختام الملكية، عن أشد الاحتكارات تعسفاً وظلماً، وحماها وواضح أنه فعل هذا إبقاء على رضاء بكنجهام. وقبل، وهو قاض، هدايا ثمينة من المتقاضين أمام المحكمة. ولم يكن كل هذا إلا شيئاً من فساد هذا العصر ورخاوته، أن الموظفين العامين كانوا يتقاضون رواتب هزيلة، فعوضوا عنها "بالهدايا والعطايا" ممن يساعدونهم. واعترف جيمس قائلاً: إذا كان لا بد لي من معاقبة الرشوة، لما تركت واحداً من الرعايا". إن جيمس نفسه كان يقبل الرشوة(29).

وثارت ثائرة البرلمان الذي اجتمع في يناير 1621 ضد الملك-وكره بيكون، لأنه أكبر مدافع عنه، وأنه هو الذي قضى بشرعية الاحتكارات، وإذا لم يكن في مقدور البرلمان بعد أن يخلع الملك، فان في مقدوره تجريح وزيره ومساءلته. وفي فبراير عين لجنة لتقصي الحقائق في دور القضاء خاصة. وفي مدارس اللجنة تقريراً أثبت فيه أنها وجدت مخالفات كثيرة، لا سيما في تصرفات قاضي القضاة وسلوكه، واتهمته بثلاث وعشرين حالة محددة من حالات الفساد. وأهاب بيكون بالملك أن ينقذه، متنبأ بأن "هؤلاء الذين يطعنون قاضي القضاة الآن، وسرعان ما يطعنون التاج بعده(30)". وأشار عليه جيمس بإقرار الاتهام، ومن ثم يضرب مثلاً يحول دون الفساد في الوظائف العامة مستقلاً، وفي 22 أبريل أرسل بيكون اعترافاً إلى مجلس اللوردات. وسلم بأنه أخذ هدايا من المتقاضين، كما فعل سائر القضاة، وأنكر أن أحكامه تأثرت بها-فانه كان قد أصدر في قضايا كثيرة أحكاماً ضد مقدمي الهدايا. وحكم عليه مجلس اللوردات "بدفع غرامة قدرها أربعون ألفاً من الجنيهات. وبالسجن في برج لندن لمدة يرضاها الملك، ولا يكون له إلى الأبد الحق في تولي المناصب العامة، وإلا يدخل البرلمان في الدولة بأسرها. "وسيق في 30 مايو إلى برج لندن، ولكن أفرج عنه بعد أربعة أيام بأمر من الملك الذي ألغى كذلك الغرامة التي تبهض كاهله. وآوى قاضي القضاة المعاقب إلى جورهامبري، وحاول أن يحيا حياة أكثر بساطة. ووجد راولي Rawley وهو أول من كتب سيرة حياة بيكون-على ورقة كتبها عند وفاته، بالرمز "كنت أعدل قاض في إنجلترا في هذه السنوات الخمسين، ولكنه كان كذلك أعدل تفريع من البرلمان في هاتين المائتين من السنين"(31).

وكانت لهذا الاتهام والمحاكمة آثار طيبة؛ ذلك أنها خففت من الفساد في الوظائف العامة؛ ولا سيما في دور القضاء، كما وضعت سابقة مسئولية وزراء الملك أمام البرلمان. كما أنها صرفت بيكون عن ميدان السياسة، الذي كان فيه متحرراً في التفكير؛ رجعياً في التنفيذ؛ وردته ثانية إلى مجال بديل؛ هو مجال العلم والفلسفة حيث أمكنه "أن يدق الناقوس لتجتمع العبقريات معاً" وأن ينادي في نثر رائع بثورة العقل ومنهجه.


التجديد الكبير

كانت الفلسفة لأمد طويل، الملجأ الذي يلوذ به بيكون هرباً من عناء العمل، إن لم تكن حبه الدفين الذي يطوي علية جوانحه، وأسعد ما يصبو إليه ويقبل عليه؛ وكان بالفعل قد نشر في 1603-1605 مؤلفاً عظيماً The Proficience and Advancement Of Learning (إتقان المعرفة والنهوض بها) ولكن بدا له أن هذا مجرد برنامج تمهيدي وليس إنجازاً. وفي 1609 كتب إلى أسقف إلي Ely: أرجو أن يأذن الله لي في أن أكتب كتاباً مستفيضاً منصفاً في الفلسفة...(32)"، وفي 1610 كتب إلى كازوبون (عالم لاهوتي وكاتب فرنسي معاصر له): "إن ما أهدف إليه هو أن أحدث تنظيماً أفضل لحياة الإنسان... بفضل التأمل الصحيح الصادق(33)". وفي أثناء السنوات التي أزعجته فيها المناصب، كان بيكون قد أبصر-في افتراض طائش في أيام السعة والثراء-بخطة وقورة لتجديد العلم والفلسفة. وقبل سبعة شهور من سقوطه، أعلن الخطة في كتاب باللاتينية موجه إلى كل أوربا، أسماه في جرأة "التجديد الكبير". وكانت صحيفة العنوان نفسها تحدياً، ذلك أنه قد رسم عليها قارب يعبر بأقصى سرعته أعمدة هرقل إلى الأطلسي، ووضع بين العمدة أحد شعارات العصور الوسطى "لا تذهب إلى أبعد من ذلك" وكتب بيكون "إن كثيرين سوف يمرون عبره، ولسوف تزداد المعرفة والعلم". وأضافت المقدمة المزهوة "إن فرانسيس فيرولام (بيكون) قد تدبر هذا بينه وبين نفسه، وحكم بأنه من مصلحة الأجيال الحاضرة والمستقبلة أن تتعرف على أفكاره(34)". ولما وجد أن "ما يجري في مجال العلم الآن ليس إلا مجرد دوران حوله، وحركة دائبة تنتهي إلى حيث تبدأ، خلص إلى أنه": ليس ثمة إلا سبيل واحد أمامنا.... وهو أن نحاول الأمر كله من جديد، وفق خطة أفضل، وأن نشرع في أن نقيم من جديد، إقامة تامة، صرح العلوم والفنون العملية، وكل المعرفة الإنسانية، على أساس سليم.... وفضلاً عن ذلك فانه لما لم يكن يعلم كم من الزمن قد ينقضي قبل أن تتيسر هذه الأفكار لأحد غيره.... فإنه عقد العزم على ان ينشر على الفور كل ما يستطيع إنجازه، حتى يبقى، في حال وفاته، موجزاً أو خطة لما كان قد فكر فيه. إن كل المطامح بدت لناظريه هزلية ضئيلة إذا قورنت بالعلم الذي هو بصدده(35). وجعل إهداء المشروع برمته إلى جيمس الأول مع رجاء المعذرة "لأني سرقت من الوقت المخصص لإنجاز المهام التي وكلتها إلى، وقتاً اقتضاه هذا العمل"، ولكن مع أكبر الأمل في "أن يكون في نتيجته تخليد لذكرى اسمك وتشريف لعهدك"-وهذا ما حدث، فان جيمس كان رجلاً معروفاً بسعة الإطلاع والنوايا الطيبة، فلو أمكن إقناعه بتمويل الخطة، فأي تقدم كان يمكن تحقيقه؟ وكما كان روجر بيكون قد أرسل قبل ذلك بزمن طويل (1268) إلى البابا كليمنت الرابع "العمل العظيم" يتلمس منه العون على تنفيذ اقتراح بالنهوض بالعلم والمعرفة، فان سمية أهاب الآن بالملك أن يأخذ على عاتقه "مهمة ملكية" هي تنظيم البحث العلمي، والتوحيد الفلسفي لنتائجه، من أجل الخير المادي والأدبي للجنس البشري. وذكر جيمس "بالملوك الفلاسفة"-نرفا، تراجان، هادريان، أنطونينوس، بيوس، ماركوس أوريليوس، الذين هيئوا للإمبراطورية الرومانية حكومة فاضلة لمدة قرن من الزمان (96-180) بعد الميلاد. فهل كان من أجل حاجته إلى الاعتمادات الحكومية وأمله في الحصول عليها، أنه أيد الملك بمثل هذا العناد والإصرار، وبشكل جر عليه الخراب؟. وفي مقدمة أخرى طلب بيكون من القارئ أن يلقي نظرة على العلم السائد وقد هلهلته الأخطاء، وركد بشكل مخز. لأن: "العباقرة العظام، على تعاقب العصور، كانوا يرغمون على الانحراف عن طريقهم، إن الرجال ذوي القدرة والفكر، فوق مستوى السوقة، كان يسرهم، من أجل الشهرة، أن ينحنوا أمام حكم الزمن والجماهير، وهكذا فإن أي تفكير من مستوى رفيع ظهر في أي مكان، كانت تعصف به رياح الأفكار السوقية(36)". ولكي يهدئ من روع رجال اللاهوت الذين كانوا متسلطين على الشعب أو الملك، فان بيكون حذر قراءه من أن "يقصروا معنى" ما يضطلع به "في حدود الواجب، فيما يتعلق بالمسائل الإلهية أو الدينية". وتنصل من أي قصد له في التعرض للعقائد أو الشئون الدينية. "إن المهمة التي بين يدي ليست رأياً يجب اعتناقه، بل هي عمل يجب القيام به... إني لا أكد وانصب في وضع أساس أي مذهب أو نظرية، بل أساس منفعة الإنسان وقوته(37)". واستحث الآخرين أن يقبلوا عليه وينضموا إليه في عمله، ووثق في أن الأجيال المتعاقبة ستواصله.

وفي نشرة تمهيدية رائعة عرض بيكون خطة للمشروع:

فأولاً، يمكن أن يحاول تصنيفاً جديداً للعلوم القائمة أو المرغوب فيها، ويفرد لها مسائلها ومجالات البحث فيها، وهذا هو ما أنجزه في "النهوض بالمعرفة"، الذي ترجمه ووسع فيه كتاب (التوسع في العلوم) 1623، حتى يصل إلى القراء في القارة. ثانياً:، يمكن أن يتفحص مواطن الضعف في المنطق المعاصر، ويسعى إلى "استغلال أدق وأكمل للعقل ابشري" مما صاغه أرسطو في رسائله المنطقية، المعروفة في جملتها باسم Organon، وهذا ما فعله بيكون في كتابه Novum Organum (1620). ثالثاً: يمكن أن يشرع "تاريخ طبيعي" "لظواهر الكون"-الفلك، الفيزياء، البيولوجيا. رابعاً: يمكن أن يعرض في "سلم الفكر" نماذج من التحقيق العلمي، طبقاً لطريقته الجديدة. خامساً: يمكن أن يصف مثل هذه الأشياء، بوصفها بشائر، :كما كشفتها أنا بنفسي". سادساً: يمكن أن يشرع في تفسير تلك الفلسفة التي تعقبها في مختلف العلوم على هذا النحو، ومن ثم يجب إيضاحها وإثبات صحتها. "أن إكمال الجزء الأخير... فوق طاقتي وأكثر مما أصبو إليه". ويبدو لنا، نحن الذين نتخبط ونلهث اليوم في خضم المعرفة والتخصصات، أن برنامج بيكون عقيم أشد العقم. ولكن المعرفة لم تكن آنئذ بمثل هذه السعة والدقة، وأن روعة الأجزاء التي أنجزت لتغفر جراءة الكل. وعندما أفضى بيكون إلى سيسل بقوله "أني ضممت كل المعرفة إلى نطاق ولايتي"، فإنه لم يقصد أنه في مقدوره أن يستوعب كل العلوم تفصيلاً، ولكنه قصد أن يستعرض العلوم، وكأنما يمسحها أو يلقي عليها نظرة عامة "من عل"، بغرض تنسيقها وتشجيعها. وقال وليم هارفي عن بيكون إنه "كتب الفلسفة، على نهج قاضي القضاة في الكتابة(38)"، بل وخططها كما يخطط القائد الإمبراطوري معركة.

وانا لندرك اتساع مجال العقل وحدة الذهن عند بيكون إذا نحن تتبعناه في كتاب "النهوض بالمعرفة"، إنه يعرض أفكاره في تواضع غير مألوف، على أنها "ليست أفضل كثيراً من الصوت... الذي يحدثه الموسيقيون حين يضبطون آلاتهم(39)". ولكنه يعزف هنا كل نغماته المميزة، إنه يدعو إلى مضاعفة عدد الكليات والمكتبات والمعامل وحدائق الأحياء والمتاحف العلمية والصناعية، وتدعيمها جميعاً، كما يدعو إلى تحسين رواتب المعمين والباحثين، وتخصيص اعتمادات أكبر لتمويل التجارب العلمية، وإلى اتصال متبادل وتعاون أوثق وخطة أفضل لتوزيع العمل بين جامعات أوربا(40). أنه، في تقديسه أو عبادته للعلم، لم يفقد رؤيته الصحيحة للأشياء أو وجهة النظر السليمة، فهو يدعو إلى تعليم عام متحرر، يشمل الدب والفلسفة، لأنه يهيئ للوصول إلى حكم سليم على الغايات التي تقترن بتحسين الوسائل على أساس علمي(41). وهو يحاول أن يصنف العلوم في ترتيب منطقي، ويحدد مجالاتها وحدودها ويوجه كلاً منها إلى أمهات المسائل التي تنتظر الفحص والحل وتحقق كثيراً عن طريق العلوم-تسجيل أفضل التطورات المرض عند المريض، إطالة الحياة باستعمال الأدوية الواقية، الفحص الدقيق "للظواهر النفسية"، والنهوض بعلم النفس الاجتماعي. حتى لقد استبق دراستنا المعاصرة في وسائل النجاح(43). أما القسم الثاني والأكثر جراءة من "التجديد الكبير" فكان محاولة لصياغة منهج للعلم. لقد عرف أرسطو الاستقراء، ودعا إليه أحياناً، ولكن الأسلوب الغالب في منطقته هو الاستنباط، والمثل الأعلى فيه هو القياس. وأحس بيكون بأن المنهج القديم Organon قد أبقى العلم راكداً، بتوكيده على الفكر النظري أكثر منه على الملاحظة الواقعية. أما "المنهج الجديد" فقد عرض فيه بيكون نظاماً وأسلوباً جديدين للفكر-الدراسة الاستقرائية للطبيعة ذاتها، عن طريق الخبرة والتجربة. وهذا الكتاب أيضاً، ولو أن بيكون تركه دون أن يكمله، وعلى الرغم من كل عيوبه، هو أروع إنتاج في الفلسفة الإنجليزية، وأول دعوة صريحة واضحة إلى عصر العقل. ولقد كتب باللاتينية، ولكن في عبارات مشرقة بليغة، جرى نصفها مجرى الحكم وجوامع الكلم. إن السطور الأولى جمعت أطراف فلسفة... تعلن الثورة الاستقرائية، وتؤذن أو تنذر بالثورة الصناعية، وتضع مفتاح التجريبية في يد هوبز ولوك ومل وسبنسر.

إن الإنسان بوصفه خادم الطبيعة ومفسرها، يمكن أن يعمل ويفهم الكثير، والكثير حقاً من مجرى الطبيعة، ما دام قد لاحظ الطبيعة واقعياً، أو بفكره... أما ما وراء هذا فهو لا يستطيع أن يدرك شيئاً أو يعمل شيئاً. إن المعرفة الإنسانية والقدرة البشرية تلتقيان في الإنسان الواحد، وحيثما لا يعرف مجرى الطبيعة، لا يمكن إنتاج الأثر المطلوب. ولكي تسيطر على الطبيعة. ينبغي أن تمتثل لها . وكما أقترح ديكارت بعد ذلك بسبعة عشر عاماً، في "بحث عن النهج"؛ أن يبدأ الفلسفة بالشك في كل شيء، فأن بيكون هنا يتطلب تنقية الفكر "كخطوة أولى في التجديد". ذلك أن "المعرفة الإنسانية كما نعهدها في أنفسنا، أن هي إلا خليط وأكداس لم يتيسر هضمها، مكونة من كثير من السذاجة وسرعة التصديق، وكثير من المصادفات والأعراض غير الجوهرية، وكذلك من الأفكار الصبيانية التي تشربناها في أول الأمر(44)". ومن ثم يجدر بنا، منذ البداية، أن نخلي أذهاننا، قدر الطاقة، من أية إنشغالات سابقة وتحيزات وافتراضات، بل يجدر بنا حتى أن نصرف من أفلاطون وأرسطو، ونكتسح من أفكارنا "الأصنام" أو الأوهام الخالدة التي ولدها فينا فرط الحساسية في الحكم على الأشياء أو المعتقدات والتعاليم التقليدية السائدة في مجتمعنا، ويجب أن ننبذ الحيل التي يمليها التفكير لمجرد الرغبة في شيء ما، والحماقات اللفظية للتفكير الغامض، ويجب أن نخلف وراء ظهورنا، كل طرق الاستنباط الفخمة، تلك الطرق التي عرضت أن نستنبط ألفاً من الحقائق الباطنية من بضع بديهيات أو مبادئ قليلة. وليس في العلم قبعة سحرية، وكل ما يؤخذ من القبعة لخدمتنا يجب أن يوضع أولاً عن طريق الملاحظة أو التجربة. ولكن لا يقصد هنا مجرد الملاحظة العابرة، أو "السرد البسيط" للمعطيات، ولكن "الخبرة.... المطلوبة للتجربة". وعلى هذا نجد أن بيكون الذي غالباً ما انتقص من قدره على أنه يتجاهل المنهج الحقيقي للعلم، يتقدم ليصف المنهج الفعلي للعلم الحديث:

إن المنهج الصحيح للاختبار، يشعل النور أولاً (بالافتراض)، ثم بواسطة هذا الضوء ينير الطريق، بادئاً بالاختبار ترتيباً سليماً. ومنه يستنتج بديهيات "الثمار الأولى"، (النتائج المؤقتة) ومن البديهيات الراسخة تبدأ ثانية تجارب جديدة... إن التجربة نفسها هي التي ستقرر وتحكم(45). ومهما يكن من أمر فإن بيكون كان على حذر من الفرضيات. حيث كانت في الكثير الغالب توحي بها التقاليد أو التحيز أو الرغبة، أي توحي بها (مرة أخرى) "الأصنام". فكان يرتاب في أي نهج تقليدي تصطفي الفرضية فيه، قصداً أو عن غير قصد من التجريب معطيات مثبتة أو مؤكدة لها، وتفسر تفسيراً خاطئاً أو تتعامى عن الشواهد العكسية أو المضادة. وتجنباً للوقوع في هذا الشرك، اقترح بيكون استقراء شاقاً، بتجميع كل الحقائق الوثيق الصلة بالمسألة، وتحليل هذه الحقائق ومقارنتها وتصنيفها، وربطها بعضها ببعض، ثم "بعملية صحيحة من "الاستبعاد والنبذ" أي التخلص من فرضية بعد أخرى، على التعاقب، حتى يمكن الكشف عن "الصيغة" أو القانون الضمني وجوهر الظاهرة(46). إن معرفة "الصيغة" سوف يهيئ تحكماً متزايداً في الحدث، فيعيد العلم بالتدريج صنع البيئة، بل من المحتمل صنع الإنسان نفسه.

وأحس بيكون بأن هذا هو الهدف النهائي-أي أن منهج العلم سوف يطبق على التحليل البالغ الدقة للشخصية الإنسانية، والتصميم على إعادة تشكيلها. وبحث بيكون على دراسة الغرائز والعواطف، وهذه وتلك وثيقة الصلة بالذهن، قدر صلة الرياح بالبحر(47). ولكن هنا بصفة خاصة، لا يكون الخطأ في مجرد التماس المعرفة، بل في نقلها، ويمكن إعادة صنع الإنسان عن طريق التعليم المستنير، لو أننا كنا نريد أن تجذب إلى ميدان التربية عقولاً من الطراز الأول بمنحهم الرواتب الكافية وتكريمهم(48). ويبدي بيكون إعجابه بالجزويت، وتمنى لو أنهم "كانوا على مذهبنا وفي صفنا(49)"، ويستنكر الملخصات، ويحبذ التمثيل في الكليات، ويدعو إلى مزيد من العلم في البرامج، فإذا نظرنا إلى العلم والتعليم على هذا الأساس، فإنهما (كما جاء في "قارة أطلنطس الجديدة" لن يكونا من خدم الحكومة وإدارتها. بل مرشدها وهدفها؛ ويختم قاضي القضاة الأمين بقوله "إني أراهن بكل شيء في سبيل نصرة الفن على الطبيعة في سباقها".


فلسفة رجل الدولة

هنا نحس بعقل جبار قوي-رجل واحد على مدى قرن، متمكن من الفلسفة ومن السياسة على حد سواء. وقد يشوقنا أن نقف على تفكير الفيلسوف في السياسة، وتفكير السياسي في الفلسفة. وعلى الرغم من أنه كان لبيكون منهج في الفلسفة، وأنه ترك عرضاً حسن الترتيب لفكره، باستثناء المنطق، فإن اتجاه أفكاره كان واضحاً، ولو أنها اتخذت شكلاً يدل على رجل كان لزاماً عليه كثيراً أن يخرج عن هدوء الفلسفة لينظر في قضية قانونية، أو ليقف في وجه المعارضة في البرلمان، أو ليمحص الرأي والنصح ملكاً لا يجدي معه الرأي والمسورة. ويجدر بنا أن نجمع آراءه من تعليقاته العابرة ومن نبذه الأدبية، بما في ذلك "مقالاته" (1597، 1612، 1645). وفي إهدائه هذه المقالات إلى بكنجهام، وفي غرور صناعة الكتابة، كتب بيكون ، "إني أرى.... أن الأثر قد يبقى ما بقيت الكتب". وكان أسلوبه في رسائله متكلفاً ملتوياً، حتى لقد اعترفت زوجته: "إني لا أفهم كتابته الملفوفة المليئة بالألغاز(50)". وبذل في "المقالات" جهداً أكبر، وراض قلمه على الوضوح ووصل إلى قوة هائلة في التعبير، لا تباريه فيها إلا صحائف معدودة في النثر الإنجليزي، من حيث المادة ذات المغزى الهام الزاخرة بالتشبيهات المشرقة الواضحة في صياغة دقيقة، وكأنما أولع تاسيتس (مؤرخ روماني-القرن الأول الميلادي) بالفلسفة، وتنازل ليكون واضحاً. إن حكمة بيكون دنيوية إن ينصرف عن الميتافيزيقا(ما وراء الطبيعة) إلى الخفي أو الطائش من الأمور، وقليلاً ما قفز طموحه الوثاب من الجزء إلى الكل. ومهما يكن من أمر فإنه أحياناً أنه يخوض في مادية حتمية: "لا يوجد في الطبيعة حقاً، شيء عدا الأجسام الفردية التي تؤدي أعمالاً فردية صرفة طبقاً لقانون محدد(51)". وإن البحث في الطبيعة ليأتي بأحسن النتائج حين يبدأ بالفيزياء وينتهي بالرياضيات(52) ولكن "الطبيعة" هنا قد تعني العالم الخارجي. لقد آثر بيكون الفلاسفة المتشككين قبل سقراط، على أفلاطون وأرسطو. وامتدح ديموقريطس الفيلسوف المادي(53). ولكنه حينئذ يرتضي تمييزاً دقيقاً بين الجسم والنفس(54)، ويستبق بيرجسون للفكر على أنه "مادي أساسي". "إن إدراك الإنسان يتأثر برؤية مل يجري في الفنون الميكانيكية.... ومن ثم يتخيل أن شيئاً شبيهاً بهذا يجري في الطبيعة للأشياء(55)". ويرفض مقدماً البيولوجيا الميكانيكية عند ديكارت. ومع ما يعتمل في نفسه من عواطف متصارعة نحو الدين، نراه "يتبل" في حرص، فلسفته "بالدين، وكأنما يتبل بالملح(56)" "الأفضل عندي أن أصدق الخرافات التي في حياة القديسين وفي التلمود وفي الكتب المقدسة، على أن يكون هذا العالم بلا عقل(57)". ويضع الإلحاد في مكانه في قطعة تكررت مرتين(58). وإن تحليله لأسباب الإلحاد لتوضح فكرة هذا الكتاب:-

إن أسباب الإلحاد هي الانقسامات في العقيدة، إذا كانت كثيرة، لأن أي انقسام أساسي يلهب حماسة الفريقين كليهما وغيرتهم، ولكن الانقسامات الكثيرة تقود إلى الإلحاد، وثمة سبب آخر، وهو أعمال القسس المخزية. وأخيراً، عصور المعرفة، وخاصة إذا سادهم السلم والرخاء، فان المتاعب والعداوات تزيد في اتجاه عقول الناس إلى الدين(59).

إن بيكون يؤكد قاعدة أن "الدين يحد من كل ألوان المعرفة(60)". وطبقاً لما رواه قسيسه راولي "كان يذهب كثيراً إلى الصلاة في الكنيسة، إذا سمحت ظروفه الصحية"... ولقي ربه على العقيدة الصحيحة للكنيسة الإنجليزية"(61). وعلى الرغم من ذلك، فإنه أفاد، مثل خلفه العظيم وليم أوكهام، من التمييز بين الحقيقة اللاهوتية والحقيقة الفلسفية، فقد يتمسك الدين بمعتقدات لا يجد العلم والفلسفة عليها دليلاً، ولكن الفلسفة يجب أن تعتمد على العقل فقط، كما أن العلم ينبغي أن يلتمس تفسيرات دنيوية صرفة، على أساس سبب ونتيجة ماديتين(62).

وعلى الرغم من تحمس بيكون للمعرفة، فإنه يخضعها أو يضعها في المحل الثاني من الأخلاق. فليس ثمة نفع للإنسانية إذا لم يؤد التوسع في المعرفة إلى الخير. "إن طيبة النفس هي أهم مزايا العقل ومنازله الرفيعة(63)" ومهما يكن من أمر فان حماسته المألوفة حين يتحدث عن الفضائل المسيحية. ومن الواجب ممارسة الفضيلة باعتدال، لأن الأشرار قد يخدعون غير الحكماء(64). وقليل من الخدع أو الرياء ضروري للنجاح، إن لم يكن المدنية. والحب ضرب من الجنون، والزواج نوع من الشرك أو الفخ: "إن الذي له زوجة وأولاد، يضع عقبات في سبيل النجاح، لأنهم عوائق في سبيل المغامرات والمشروعات الكبيرة...

إن أفضل العمال وأعظمها أثراً على الناس نبعت من أناس ليس لهم زوجة ولا أولاد. "وأقر بيكون-مثل اليزابث وهلدبراند-عزوبة رجال الدين". إن حياة العزوبة تصلح لرجال الكنيسة، لأن الصدقات لا تكاد تروي الأرض، إذا كان لزاماً عليها أولاً أن تملأ بركة(65)" (لاحظ نزعته إلى الاستعارة والمجاز والإيجار الأنجلوسكسوني). إن الصداقة خير من الحب. وإن المتزوجين ليكونون صدقات غير مستقرة. إن بيكون يتكلم عن الحب والزواج بأسلوب رجل ضحى بالعواطف الرقيقة في سبيل الطموح، ورجل أمكنه أن يحكم مملكة أفضل من أن يحكم بيته.

أما فلسفته السياسية فقد واجهت حالات وظروفاً أكثر مما واجهت نظريات. وأوتي من الشجاعة ما امتدح معها ماكيافللي. وارتضى صراحة المبدأ القائل بأن الدول ليست مقيدة بالقانون الأخلاقي الذي تلقنه لرعاياها. وأحس-مثل نيتشه، بأن الحرب الجيدة ترحب بأي سبب، "ويجب ألا نستمع إلى رأي أساتذة وفلاسفة العصور الوسطى الذي يقول بأنه ليس من العدل أن تشن الحرب إلا إذا سبقها وقوع الضرر أو الاستفزاز... إن الخوف الحقيقي من خطر محدق، ولو لم تحدث أية ضربات، سبب مشروع للحرب." وفي أية حادثة "فان الحرب العادلة الشريفة هي الطريقة المثلى" للمحافظة على الأوضاع السليمة للأمة(66). وإنه لمن أقصى درجات الأهمية، من أجل الإمبراطورية والعظمة، أن تؤمن الأمة بأن "سلاحها هو مناط شرفها، وهو هدفها وشغلها الشاغل". والبحرية القوية ضمان لاحترام الجيران. "والسيادة على البحار هي الرمز الحقيقي للملكية(67)". وفي شباب الدولة تزدهر الأسلحة، وفي وسط عمر الدولة، تزدهر المعرفة، ثم تزدهر الأسلحة والمعرفة كلتاهما معاً لفترة من الزمن، وفي عصر اضمحلال الدولة تنتعش الأعمال التجارية والتجارة(68). وسكان المدن محاربون ضعاف، والفلاحون أو القرويون أفضل منهم في الحرب، ولكن صغار ملاك الأرض الأحرار أفضل الجميع. ومن ثم فان بيكون مثل مور، استنكر المساحات الزراعية الكبيرة المسورة، لأنها تقلل من نسبة ملاك الأراضي في السكان. واستنكر تركيز الثروة على أنه سبب هام من أسباب الفتن والثورات:

وأول علاج أو مانع لهذه، هو أن نزيل بكل الوسائل الممكنة، السبب المادي... وهو الحاجة والفاقة... ونهتم بكل ما يخدم التوسع في التجارة وتوازنها، وتعزيز الصناعة والقضاء على الخمول، والتبديد والتبذير، بسن قوانين الحد من الإنفاق وتنظيمه. وتحسين التربة وعدم إرهاقها وتحديد أسعار الحاجيات المبيعة وتخفيف الضرائب.... وفوق هذا كله، انتهاج سياسة حكيمة في عدم تجميع ثروات الدولة وأموالها في أيد قليلة.... إن المال مثل السماد، لا خير فيه، إلا إذا انتشر(69).

وارتاب بيكون في البرلمان، بوصفه مشكلاً من ملاك الأراضي والتجار غير المتعلمين المتعصبين أو وكلائهم، وفكر في أن جيمس الأول، بالمقارنة بهؤلاء، متعلم يتحلى بروح إنسانية، بل أن نظرية الملك في "الحكم الاستبدادي المطلق" بدت في نظره خيرة كبديل عن الزمر الجشعة والمذاهب العنيفة. واعتبر-مثل معاصره ريشيليو-أن تركيز السلطة في يد الملك، وإخضاع كبار ملاك الأراضي له، خطوة ضرورية لإقامة حكومة منظمة. وذهب، مثل فولتير. إلى أن تعليم رجل واحد أيسر من تعليم الجماهير. إن الثروة الهائلة الخاصة لم تزعج الملك. وكان جيمس مشدوداً في عناد بالغ إلى التبذير والضرائب والسلام.

وسخر بيكون من "الفلاسفة" الذين "يسنون قوانين خيالية لدول خيالية، إن مقالاتهم أو محاضراتهم، كالنجوم التي لا تعطي إلا قليلاً من الضوء لأنها على ارتفاع شاهق". ولكنه في أيام سأمه، أغرى بأن يصور نوع المجتمع الذي يريده للناس ليعيشوا فيه. ولا ريب في أنه قد قرأ "يوتوبيا" مور (1516)، وكان كامبانللا قد نشر لتوه كتابه "مدينة الشمس" (1623)، والآن في 1624 كتب بيكون "القارة الجديدة" (The New Atlantis) "أبحرنا من بيرو التي كنا قد قضينا فيها سنة كاملة إلى الصين واليابان عبر البحر الجنوبي": هدوء تام، أرزاق محدودة، جزيرة تحوطها العناية الإلهية، شعب يحيا حياة سعيدة في ظل قوانين سنها لهم المغفور له الملك سليمان. وبدلاً من البرلمان. مجلس سليمان-مجموعة من المراصد والمعامل والمكتبات وحدائق الحيوان والنبات، مزودة برجال العلم ورجال الاقتصاد والفنيين والأطباء وعلماء النفس والفلاسفة، مختارين (كما هو الحال في جمهورية أفلاطون) بعد اختبارات متكافئة بعد فرص تعليمية متكافئة، ثم (دون إجراء انتخابات) يحكمون الدولة، أو بالأحرى، يحكمون الطبيعة، لمصلحة الإنسان. ويشرح أحد هؤلاء الحكام المتبربرين القادمين من أوربا فيقول: "إن غاية مؤسستنا هي معرفة أسباب الأشياء وحركاتها الخفية، وتوسيع حدود "إمبراطورية الإنسان، من أجل التأثير في كل الأشياء الممكنة(70)"، وفي هذه "الفتنة" التي في جنوب المحيط الهادي اخترع سحرة سليمان بالفعل الميكروسكوب والتلسكوب والساعات الذاتية الملء، والغواصات والسيارات والطائرات، واكتشفوا المسكنات والتنويم المغناطيسي، ووسائل المحافظة على الصحة وإطالة العمر، ووجدوا طرق تطعيم النبات وتوليد أنواع جديدة، وتحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، ونقل الموسيقى إلى أماكن بعيدة. وفي مجلس سليمان ترتبط الحكومة والعلم معاً. وكل الأدوات وتنظيم البحث، وهو ما كان بيكون قد توسل إلى جيمس أن يزود به البلاد، موجودة هنا، في القارة الجديدة، كجزء من عدة الحكومة وأدواتها. والجزيرة تتمتع باستقلال اقتصادي، وهي تتحاشى التجارة الخارجية لأنها شرك ينصب للحرب. إنها تستورد المعرفة لا السلع. وهكذا يحتل الفيلسوف المتواضع مكان رجل الدولة المزهو بنفسه، كما أن نفس الرجل الذي كان قد نصح بالحرب أحياناً عند الاقتضاء، بوصفها دواء مقوياً أو منشطاً اجتماعياً، نراه الآن، وقد آذنت شمس حياته بمغيب، يحلم بجنة من السلام.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

صيحة العقل

استمر بيكون يعمل حتى النهاية. فنشر بعد عام واحد من تقاعده، "تاريخ حكم هنري السابع"، سجل به مستوى جديداً لكتابة التاريخ، فهو تفسير واضح صريح، في نثر رشيق قوي، للقضايا والسياسات والأحداث، وصورة وصفية أدبية منصفة نزيهة أخاذة بعيد عن المثالية، حقيقية إلى حد بعيد(71). وأعقب هذا مجموعة من الرسائل: "دراسة في الرياح" "دراسة في الكثافة والتخلخل". "دراسة في الحياة والموت"، وأبحاث أخرى، لقد تهيأ له الآن من الفراغ ما لم يكن يتوقعه، فليس ثمة أهل ولا أصدقاء، فان كل طلاب المنافع الذين كانوا يزدحمون على بابه أيام نفوذه وسلطانه، تمسحوا الآن بأعتاب أخرى. وسأل مرة أحد من يتبادل معهم الرسائل: "من معك من الزملاء في عملك؟ فأجاب إنني الآن في وحدة تامة(71)". وفيما كان يحاول أن يختبركم من الوقت يمكن أن يحفظ الجليد اللحم من التعفن والفساد، قطع الرحلة ذات يوم من أيام الربيع ليشتري دجاجة، وذبحها وحفظها في الجليد، فوجد أنه أصيب بقشعريرة. فلجأ إلى دار لورد أروندل Arundel المجاورة، حيث وضعوه في الفراش، وظن أنه سقم عارض لا يلبث أن يزول، وكتب أن التجربة "نجحت نجاحاً تاماً"، إنه حفظ الدجاجة، ولكنه فقد حياته. فقد قضت عليه الحمى، وخنقه البلغم في 9 أبريل 1626. ومات في سن الخامسة والستين. وانطفأت الشمعة المتوهجة فجأة.

لم يكن بيكون، كما ظن بوب "أحكم وأذكى وأحط بني الإنسان(72)". فان مونتاني كان أحكم، وفولتير أذكى، وهنري الثامن أحط، وقال أعداء بيكون عنه أنه كان عطوفاً نافعاً، يبادر إلى الصفح والمغفرة. وكان أنانياً إلى حد الخنوع والاستسلام، ومزهواً إلى حد إغضاب الآلهة. ولكننا نشاركه هذه الأخطاء إلى حد نغتفر معه طبيعته البشرية من أجل الأضواء التي نشرها. إن غروره كان القوة الدافعة فيه. وإذا كنا نرى أنفسنا كما يرانا غيرنا لشلت حركتنا وتوقفنا عن العمل.

ولم يكن بيكون من رجال العلم أو الأفراد العلميين، ولكنه كان فيلسوف علم. وكان مدى الملاحظة عنده هائلاً، ولكن مجال تأمله وتفكيره كان فسيحاً إلى حد لا يهيئ له الوقت الكافي للبحث الخاص. وحاول شيئاً من هذا دون نتيجة تذكر... وتخلف كثيراً عن تقدم العلم المعاصر. ونبذ آراء كوبرنيكس الفلكية، ولكنه أورد أسباباً وجيهة لذلك(74). وتجاهل كبلر وجاليليو ونابيير. وكثيراً ما تنبه (كما حدث في "القارة الجديدة") إلى دور ملكة الخيال والافتراض والاستنباط في البحث العلمي، ولكنه ظل ينتقص من أهميته، وأتى اقتراحه بطول الأناة في تجميع الحقائق وتصنيفها، بأحسن النتائج في علم الفلك، حيث زودت الأرصاد النجمية والتسجيلات التي قام بها آلاف الباحثين-زودت كوبرنيكس بمادة استقرائية، لاستنباطاته الثورية، ولكنها لم تكن قريبة الشبه بالطرق الفعلية التي كشفت في عصره قوانين حركات الكواكب وتوابع المشتري وجاذبية الأرض والدورة الدموية. ولم يزعم بيكون أنه اكتشف الاستقراء، وعرف أن أناساً كثيرون مارسوه من قبل. ولم يكن أول من "أطاح" بأرسطو. فان رجالاً مثل روجر بيكون، وبترس راموس، فعلاً هذا لعدة قرون خلت. ولكن أرسطو الذي أطاحوا به (كما تحقق بيكون أحياناً) لم يكن أرسطو الإغريق الذي كان كثيراً ما استخدم وامتدح الاستقراء والتجريب، ولكن أرسطو الفيلسوف الذي صنعه العرب وأتباع الفلسفة السكولاستية (الفلسفة النصرانية في العصور الوسطى). إن الذي أراد بيكون أن يقضي عليه هو المحاولة الخاطئة لاستنباط عقائد العصور الوسطى من الميتافيزقيا القديمة، لقد ساعد بيكون على أية حال، على تخليص أوربا النهضة من الإذعان البالغ التزمت للقديم.

ولم يكن أول من أكد أن المعرفة طريق القوة. فقد فعل روجر بيكون هذا من قبل، وقال كامبانللا، في بلاغة بيكون: "إن قوتنا تتناسب مع معرفتنا(75)". وربما أفرط رجل الدولة في الإلحاح على الغايات النفعية (طبقاً لمذهب المنفعة) للعلوم. ومع ذلك فانه أقر بقيمة "العلوم البحتة" بمقارنتها "بالعلوم التطبيقية"-تمييزاً "لنور العلم" عن "ثماره". وحث على دراسة الغايات والوسائل بقدر سواء، وأدرك أن قرناً من الاختراع لا بد أن يخلق مشاكل كبرى، أكثر من أن يحل المشاكل القائمة، إذا ترك الدوافع الإنسانية على حالها دون تغيير. وربما تبين بيكون، في انحلاله الخلقي هو نفسه، الهوة التي خلقها تقدم المعرفة إلى ما هو أبعد من تهذيب الخلق.

ترى ماذا تبقى بعد ما أسلفنا من استنتاجات متأخرة؟ يبقى أن بيكون كان أقوى أهل الفكر والذكاء وأعظمهم أثراً في زمانه. لقد بزه شكسبير بطبيعة الحال في الخيال والفن الأدبي. ولكن عقل بيكون حلق في الكون كله، مثل نور كشاف يحدق ويحقق مستطلعاً، في كل الزوايا والخفايا، فتمثلت فيه كل حماسة النهضة المتقدة اليقظة، وكل الإنارة والزهو اللذين تملكا كولمبوس وهو يبحر مسعوراً إلى عالم جديد. استمع إلى هذه الصيحة المرحة من الديك روبين Cock Robin وهو يؤذن بانبلاج الفجر:

وهكذا انتهيت من هذا القسط من التعليم الذي يمس المعرفة المدنية، وبهذه المعرفة المدنية ختمت الفلسفة الإنسانية، وبهذه الفلسفة الإنسانية، انتهيت من الفلسفة بصفة عامة. والآن وقد توقفت قليلاً، أنظر إلى الوراء، إلى ما مررت به أو تصفحته، فانه يبدو لي، قدر ما يستطيع الإنسان أن يحكم على نفسه، أن هذه الكتابة ليست أفضل كثيراً من الصخب أو الصوت الذي يحدثه الموسيقيون عند ضبط آلاتهم، مما لا يطرب الإنسان لسماعه، ومع ذلك فان هذا الضبط سبب في حلاوة الموسيقى فيما بعد. وكذلك قنعت أنا بضبط آلات الوحي والتأمل حتى يكون العزف أفضل والأيدي أقدر. وحقاً، أني إذ أضع أمامي حالة هذه الأزمان التي قامت فيها المعرفة بزيارتها أو جولتها الثالثة، بكل خصائصها، مثل تفوق عباقرة هذا الزمان وحيويتهم، والمساعدات والأنوار التي حصلنا عليها من أعمال الكتاب القدامى، وفن الطباعة الذي ينقل الكتب إلى كل الناس من جميع المستويات، وانفتاح العالم بفضل الملاحة التي كشفت النقاب عن تجارب لا حصر لها، وعن قدر كبير من التاريخ الطبيعي... أقول حقاً إني إزاء هذا كله، لا أملك إلا أن أصل إلى الاقتناع بأن هذه الحقبة الثالثة من الزمن تفوق كثيراً عهد المعرفة اليونانية والرومانية... أما عن جهودي وأعمالي، إذا كان ثمة جهود وأعمال لي، فانه إذا عنى الإنسان أن يسر نفسه أو يسر الآخرين بالانتقاص من قيمتها أو نقدها، فإنها ستعود إلى المطلب القديم المتسم بالصبر والجلد "اضربني إذا ما أردت، ولكن اسمعني فقط" فلينتقد الناس وليقرعوا ما شاءوا، فانهم بذلك سوف يلاحظون ويقدرون(76).

إن بيكون عبر عن أنبل مشاعر عصره-لتحقيق حياة أفضل عن طريق التوسع في المعرفة-ومن ثم فان الأعقاب خلدوا ذكراه بتذكار حي، هو تأثرهم به، لقد حركت روحه-لا طريقته-العلماء وبعثت فيهم القوة والنشاط. فكم أنعشهم وشحذ عزائمهم، بعد قرون كانت العقول فيها حبيسة قواعدها، أو واقعة في شراك عناكب من نسج الرغبات لا الحقائق، أن يصادفوا رجلاً أحب صوت الحقيقة مهما كان عنيفاً، وأحب جو البحث والكشف، وهو جو يبعث على الحياة، رجلاً وجد متعة في إلقاء ظلال الشك على دياجر الجهل والخرافة والخوف. وظن بعض رجال ذاك العصر، مثل دون، أن العالم في طريقه إلى الاضمحلال والانحلال، وأنه يسير بسرعة إلى نهاية الفناء والتحطيم، فأعلن بيكون إلى عصره أنه مرحلة شباب عالم، زاخرة بفورات الحياة.

ولم يكن الناس لينصتوا إلى بيكون في بداية الأمر، فإنهم في إنجلترا وفرنسا وألمانيا آثروا تحكيم السلاح في صراع العقائد، فلما خفت حدة هذا الصراع، فان هؤلاء الذين لم يكونوا مغلولين بقيود الحقائق، احتشدوا، تحدوهم روح بيكون، ليزيدوا من سيطرة الناس، لا على الناس، بل على ظروف حياة الإنسان وما يعتورها من عقبات. وعندما أسس رجال من الإنجليز "الجمعية الملكية في لندن للنهوض بالمعرفة الطبيعية" (1660)، كان تكريماً لفرانسيس بيكون وتخليداً لذكراه، أن يكون مصدر وحي الجمعية وملهمها، ومن الجائز أن: "مجلس سليمان" في "القارة الجديدة" هو الذي حدد هدفها(77). وحيا لبنتز بيكون باعتباره خالقاً للفلسفة من جديد(78). وعندما تكاتف فلاسفة عصر التنوير لتأليف دائرة معارفهم التي هزت العالم (1751) فانهم أهدوها إلى فرانسيس بيكون. وكتب ديدرو في نشرتها التمهيدية: "إذا كنا أدينا مهمتنا بنجاح، فإننا نكون مدينين بأكبر الفضل لقاضي القضاة بيكون الذي اقترح خطة قاموس عالمي للعلوم والفنون، في عصر لم يوجد فيه-إذا صح التعبير-علوم ولا فنون، وأن هذا العبقري الفذ، كتب في عصر كان من المستحيل فيه كتابة تاريخ لما هو معروف-كتب تاريخاً أو دراسة لما هو ضروري أن نتعلمه أو نعرفه". وفي غمرة الحماس قال دالمبرت عن بيكون "إنه أعظم الفلاسفة وأفصحهم وأكثرهم شمولاً". ولما تمخضت جماعة التنوير عن الثورة الفرنسية قررت نشر مؤلفات بيكون على حساب الدولة(79). ونهج الفكر البريطاني في مغزاه ومبناه، من هويز إلى سبنسر-باستثناء بركلي وهيوم والهيجليين الإنجليز-منهج بيكون، فان نزعته إلى إدراك العالم الخارجي على أساس من المذهب الذري عند ديموقريطس، هي التي حركت هوبز إلى المادية، وتوكيده على الاستقراء هو الذي وجه هويز إلى علم النفس التجريبي الذي تتحرر فيه دراسة العقل من ميتافيزيقا النفس، كما أن تركيزه على "المنافع" و"التطبيقات" أسهم مع فلسفة هلفشيوس في توجيه بنتام إلى تعيين "النافع والصالح أو الحسن". وأخيراً فان روح بيكون هي التي هيأت إنجلترا للانقلاب الصناعي.

ومن هنا جاز لنا أن نضع بيكون في قمة عصر العقل. إنه لم يكن مثل بعض من جاءوا بعده، يحب العقل حباً أعمى، فانه ارتاب في أية أفكار أو خطط لم يتحقق منها التجريب الفعلي، وفي كل النتائج التي شابتها الرغبة. "إن الإدراك الإنساني ليس ضوءاً جافاً، إن الإرادة والعواطف تنفخ فيه، ومن ثم تنطلق العلوم التي يمكن تسميتها: بعلوم يريدها الإنسان، لأن ما يرى الإنسان أنه يكاد يكون حقيقياً، يصدقه ويؤمن به على الفور"(80). وآثر بيكون "ذلك العقل المنتزع من الحقائق،.... ومن تحالف أوثق وأنقى بين هاتين القوتين: التجريبية والعقلانية، يمكن أن نأمل في خير كثير(81)". كما أن بيكون لم يقل، مثل فلاسفة القرن الثامن عشر، بأن العقل عدو الدين أو أنه بديل عنه، إنه أفسح لكل منهما مجالاً في الفلسفة وفي الحياة. ولكنه كره الاعتماد على التقاليد والنصوص والمراجع، وطالب بتغييرات عقلانية طبيعية بدلاً من الافتراض أو الحدس العاطفي، ومن الاعتراضات الخارقة للطبيعة، والأساطير الشعبية المألوفة. إن بيكون رفع راية كل العلوم، وجذب للانضواء تحتها أشد العقول تلهفاً في الأجيال القادمة. وسواء شاء أو لم يشأ، فان العمل الذي دعا إليه- التنظيم الشامل للبحث العلمي، والتوسع في المعرفة ونشرها في العالم بأسره-نقول إن هذا العمل يحوي في طياته بذور أعمق مسرحية في الأزمنة الحديثة: المسيحية، كاثوليكية أو بروتستانتية، تناضل من أجل حياتها، ضد انتشار العلم والفلسفة وقوتهما. وكانت المسرحية الآن قد ألقت مقدمتها على العالم.