قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 2 ف 25

صفحة رقم : 8623


قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> هنري الثامن والأديار -> تقنية الحل


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامس والعشرون: هنري الثامن والأديار 1535 - 1547

1- تقنية الحل

كان هنري عام 1535 مشغولاً جداً بالحب والحرب فلم يستطع أن يلعب دور البابا جملة أو تفصيلاً، فعين كرومويل الذي يؤمن بفلسفة اللاأدرية(1) "نائباً للملك في كل قضائه الكنسي". ووجه كرومويل وقتذاك السياسة الخارجية التشريع الوطني والسلطة القضائية العليا والمجلس الخاص والمخابرات وقاعة النجم وكنيسة إنجلترا، ولم يكن لولزى في أوج مجده قط أصابع طويلة متشبثة بفطائر عضة بهذه الكثرة. وكان يراقب أيضاً كل الطباعة والنشر وأقنع الملك بأن يحرم طبع الكتب أو بيعها أو استيرادها إلا بعد الحصول على موافقة وكلاء التاج، وأمر بنشر الكتب المناهضة للبابوية على نفقة الحكومة.

وقام جواسيس كرومويل، وهم لا يحصون، بإبلاغ كرومويل بكل حركات أو بيانات المعارضين لهنري أو له. وكانت أية إشارة تدل على الإشفاق على فيشر أو مور وأي دعابة تدور حول الملك يمكن أن تؤدي إلى محاكمة سرية وسجن طويل(2)، وكان التنبؤ بوفاة الملك يعرض المرء لفقد حياته(3). وقام كرومويل، في بعض القضايا الخاصة بدور ممثل الاتهام والمحلفين والقاضي ليصل إلى نتائج محققة. وكان كل واحد في إنجلترا يخشاه ويكرهه.

وكانت أكبر معضلة واجهها هي أن هنري كان مفلساً، على الرغم من سلطانه العظيم. وكان الملك يتوق إلى زيادة حجم البحرية والإكثار من مرافئه وموانيه أو تحسينها، وكانت حاشيته تتجاوز الحدود ونفقاته الشخصية باهظة، ونظام كرومويل في الحكم يحتاج إلى نهر عريض من الأموال. فكيف يجمع المال؟ كانت الضرائب مرتفعة إلى الحد الذي تقابل فيه بمقاومة تجعل الجباية تكلف من النفقات أكثر مما تدر من الربح، وكان الأساقفة قد استنزفوا أبرشياتهم لتهدئة سورة الملك، ولم يكن هناك ذهب يتدفق من أمريكا، كما يتدفق يومياً لإغاثة الإمبراطور عدو إنجلترا. ومع ذلك كانت في إنجلترا مؤسسة واحدة ثرية وموضع ريبة وعاجزة لا تجد مَن يدافع عنها وهي الأديار. كانت موضع ريبة لأن ولاءها الأخير كان للبابا، واشتراكها في قانون السيادة يعد من قبيل المداهنة وغير تام، وكانت في نظر الحكومة هيئة أجنبية ملزمة بتأييد أي حركة كاثوليكية ضد الملك، وكانت عاجزة لأنها في كثير من الحالات كفت عن القيام بوظائفها التقليدية في مجالات التعليم والضيافة والبر، وكانت لا تجد مَن يدافع عنها لأن الأساقفة استاءوا من إعفائهم من المراقبة الأسقفية، ولأن الأشراف، وقد أفقرتهم الحرب الأهلية، طمعوا في ثروتها، ولأن طبقة رجال الأعمال كانوا يرون في الرهبان والاخوة من الرهبان متلفين كسالى للموارد الطبيعية، ولأن القسم الأكبر من العامة، ومنهم كثير من الكثالكة الصالحين، لم يعودوا يؤمنون بفاعلية المخلفات التي كان الرهبان يعرضونها، أو بالقداسات التي كان يقيمها الرهبان للموتى، إذا دفع لهم الأجر. وكانت هناك سوابق رائعة لإغلاق الأديار، فقد أغلقها زونجلى في زيورخ والأمراء اللوثريون في ألمانيا وولزى في إنجلترا. وكان المجلس النيابي قد صوت (1533) بالموافقة على تخويل الحكومة سلطة التفتيش على الأديار وإجبارها على تقويم اعوجاجها.

وأرسل كرومويل في صيف عام 1535 ثالوثاً من "المفتشين" كل منهم معه عدد كبير من الموظفين لفحص حالة أديار الرهبان والراهبات في إنجلترا من النواحي البدنية والأخلاقية والمالية وتقديم تقرير عنها، وكذلك للتفتيش على الجامعات والكراسي الأسقفية كإجراء مقبول. وكان هؤلاء "المفتشون" شباناً متهورين، "من المرجح أن يقوموا بتنفيذ عملهم في إتقان أكثر مما يتوسلون في تنفيذه بالرقة(4)"، ولم يكونوا في عصمة من قبول "الهدايا"(5)، وكان "الهدف من مهمتهم الحصول على قضية للتاج، ولعلهم لجئوا إلى كل الوسائل المخولة لهم لحث الرهبان والراهبات على إدانة أنفسهم(6)". ولم يكن من الصعب أن يعثر في 600 دير في إنجلترا على عدد مقنع ويدل على وجود انحرافات جنسية - وأحياناً انحرافات جنسية شاذة(7) - ونظام متحلل واستغلال لمخلفات زائفة هدفه اكتناز المال، وبيع أوعية مقدسة أو مجوهرات مقدسة لإضافة المزيد إلى ثروة الدير، وما فيه من ضروب الراحة(8)، وإهمال الشعيرة أو الضيافة أو البر(9). ولكن التقارير أغفلت عادة ذكر نسبة الرهبان الآثمين إلى الرهبان الجديرين بالتقدير، والتمييز بوضوح بين الثرثرة والدليل(10).

وقدم كرومويل للمجلس النيابي الذي انعقد في 3 فبراير عام 1536 "كتاباً أسود"، ضاع الآن، يكشف عن الأخطاء في الأديار، وينصح، باعتدال استراتيجي، بإغلاق أديار الرهبان والراهبات التي يبلغ دخلها 200 جنيه (20.000 دولار) أو أقل في العام. فوافق المجلس النيابي الذي كان معظم أعضائه قد اختيروا بواسطة معاوني كرومويل(11). وعين الملك محكمة المزايدات لكي تتسلم لصالح خزانة الملك أموال وموارد هذه الأديار الصغرى البالغ عددها 376. وأطلق سراح ألفي راهب ليذهبوا لدور أخرى أو يخرجوا إلى العالم - وفي الحالة الأخيرة كانوا يمنحون مبلغاً صغيراً أو معاشاً يسد رمقهم إلى أن يجدوا عملاً. ولم يكن بين 130 دير للراهبات سوى 18 ديراً يتجاوز دخلها 200 جنيه، ولكن لم يغلق منها وقتذاك إلا نصفها. وقامت في الشمال ثورة ثلاثية قطعت دراما الحل. وكما نشأت المسيحية في المُدن ووصلت إلى القرويين - الوثنيين - فكذلك نهض الإصلاح الديني في المُدن بسويسرة وألمانيا وإنجلترا، ولقي مقاومة دامت طويلاً في الريف. وتقلص ظل البروتستانتية في إنجلترا وسكوتلندة كلما ابتعدت المسافة من لندن أو أدنبرة، ووصلت متأخرة إلى ويلز وشمالي إنجلترا، ولقيت ترحيباً ضئيلاً في إيرلندة. وفي المراكز الشمالية بإنجلترا أشعل سلب الأديار الصغرى نار الاستياء التي كانت مهيأة للاشتعال منذ وقت طويل بسبب الضرائب المتزايدة والحكم الملكي المطلق على رجال الأكليروس والتحريض الخفي للقساوسة. وانضم الرهبان، الذين جردوا من أموالهم ووجدوا أن من الصعب عليهم الحصول على مرتباتهم أو على عمل، إلى المتعطلين العديدين المكتئبين، أما الراهبات اللاتي جردن من أملاكهن واللاتي كن يتجولن من مأوى إلى مأوى فقد أثرن غضب الجمهور ضد الحكومة. وألهب معاونو كرومويل "نار" الغضب بتزيين أنفسهم بأسلاب المعابد بالأديار وصناعة صديريات من القباء، وسروج من صدرات القساوسة وقرابات خناجر من محافظ المخلفات(12).

وفي يوم 2 أكتوبر سنة 1536 هاجم جمهور في لوث مفتشاً، كان قد أغلق تواً ديراً للراهبات في لجبورن المجاورة لها، وتم الاستيلاء على سجلاته وأوراق اعتماده وأحرقت وصوب إلى صدره سيف وأكره على أن يحلف يمين الولاء للعامة. وحلف كل مَن كان حاضراً بين الجمهور يميناً بأن يكون مخلصاً للملك والكنيسة الرومانية المقدسة. وفي اليوم التالي احتشد جيش ثائر في كايستور على مسيرة بضعة أميال، حرضه قساوسة ورهبان لا مأوى لهم، واضطر أعيان الجهة - ومنهم مَن فعل ذلك باختياره - إلى الانضمام لجيش الثوار. وفي اليوم نفسه تجمع حشد كبير من القرويين في هورن كاسل، وهي مدينة أخرى تقع في لنكولنشاير. واتهم حاجب أسقف لنكولن بأنه عميل لكرومويل، وانتزع من فراشه، وضرب حتى الموت بالهراوات. وصمم الثوار علماً يصور محراثاً وقدحاً وبوقاً، و"الكلمات الخمس الأخيرة" للمسيح، واستخلصوا مطالب أرسلت إلى الملك: يجب أن تعاد الأديار وتخفف الضرائب أو تيسر، وألا يدع رجال الأكليروس ضرائب العشور أو موارد السنة الأولى من التعيين إلى التاج، وأن يبعد "الدم الخبيث" (أي كرومويل) من المجلس الخاص، وأن يقال الأساقفة الهراطقة - وبخاصة كرانمر ولاتيمر - ويعاقبون.

وانضم إلى الثورة مجندون من الأقاليم الشمالية والشرقية. واحتشد في لنكولن حوالي 60.000 رجل، ولبثوا يرقبون رد الملك.

وكان رده عنيفاً لا يقبل التفاهم. واتهم الثوار بإنكار جميل حاكم كريم، وأصر على أن إغلاق الأديار الصغرى إنما تم بإرادة الأمة التي عبرت عنها عن طريق المجلس النيابي، وأمر الثائرين بتسليم زعمائهم، وأن يتفرقوا وينصرفوا إلى بيوتهم، وإلا تعرضوا لعقوبة الإعدام ومصادرة أموالهم. وفي الوقت نفسه أمر هنري أعوانه بحشد قواتهم والزحف بقيادة ايرل أف سفولك لمساعدة اللورد شروسبري، الذي كان قد نظم تابعيه لصد الهجوم، وكتب رسائل خاصة إلى الأشراف القلائل الذين كانوا قد انضموا إلى الثورة. وعندما أدرك هؤلاء وقتذاك أن الملك لا يمكن إرهابه، وأن الثوار المسلحين تسليحاً سيئاً سوف يقهرون وشيكاً، اقتنع الكثيرون منهم بالعودة إلى قراهم، وسرعان ما ذاب جيش الثوار فوق احتجاجات القساوسة. وسلمت لوث خمسة عشر زعيماً وأسر مائة آخرون، وأعلن صدور عفو ملكي عن الباقين. وأخذ الأسرى إلى لندن والبرج وشنق ثلاثة وثلاثون، منهم سبعة قساوسة، وأربعة عشر راهباً، وأطلق سراح الباقين على مهل(13). وفي غضون ذلك كانت هناك فتنة أشد خطورة قد نمت في يوركشاير. وجد رتشارد آسك، وهو محام شاب، نفسه متورطاً بدنياً وعاطفياً في الحركة. وأفزع محام آخر فتولى قيادة فرقة ثائرة في بفرلي، وأعار اللورد دارسي أف تمبلهرست، وهو كاثوليكي متحمس، الثورة تأييده الخفي، وانضم اثنان من أسرة برسي، وحذا حذوهم معظم أشراف الشمال.

وفي 15 أكتوبر سنة 1536 ضرب الجيش الرئيسي، المكون من 9.000 رجل، الحصار على يورك. وأجبر المواطنون في المدينة العمدة على فتح الأبواب. ومنع آسك رجاله من نهب المدينة، وحافظ بوجه عام على نظام ملحوظ في جيشه غير المدرب. وأعلن إعادة فتح الأديار، وعاد إليها الرهبان في اغتباط، وأدخلوا السرور على أفئدة الأتقياء بحرارة ترانيمهم الجديدة. وتقدم آسك واستولى على بومفريه، واستولى ستابلتون على هل دون إراقة دماء. وانضم آخرون إلى رجال لنكولنشير في تقديم المطالب وأرسلوا للملك: "أن يقمع كل الهراطقة وكتبهم، ويستأنف الروابط الكنسية مع روما، وأن يسبغ صفة الشرعية على ماري، ويعزل مفتشي كرومويل ويعاقبهم، ويلغي كل تسوير للأراضي العامة منذ عام 1489. كانت هذه أحرج لحظة في عهد هنري. كان نصف البلاد يحمل السلاح ضد سياسته، وكانت إيرلندة في ثورة، وكان بولس الثالث والكاردينال بول يحثان فرانسيس الأول وشارل الخامس على غزو إنجلترا وخلع الملك. واستجمع قواه المتخاذلة، وأرسل أوامر إلى كل الجهات بحشد فرق موالية، وفي الوقت نفسه أصدر تعليمات للدوق أف نورفولك بأن يتغفل الزعماء الثائرين بإجراء مفاوضات. ورتب الدوق مداولة مع آسك وعدة نبلاء وأغراهم بوعد منه بالعفو عنهم جميعاً. ودعا هنري آسك إلى لقاء شخصي ومنحه جواز أمان. فجاء إلى الملك وافتتن بعبير الملكية، وعاد وديعاً، ولم يلحقه أذى إلى يوركشاير (يناير سنة 1537)، وعلى أية حال فإنه قبض عليه هناك وأرسل سجيناً إلى لندن. وانقطعت صلة الجيش الثائر بقواده فانشعب إلى فرق غاضبة وساده اضطراب همجي، وتضاعفت حالات التمرد. وبينما كانت فرق الملك المتحدة تقترب اختفى الجيش الثائر كسراب تبدد (فبراير سنة 1537).

وعندما استوثق هنري من انهيار الثورة والغزو معاً أنكر وعد نورفولك بالعفو العام، وأمر بالقبض على مَن يمكن العثور عليه من الزعماء مثيري الفتنة، وأعدم الكثيرون منهم ومن ضمنهم آسك، وكتب إلى الدوق يقول: "يسرنا أن نراك قبل أن نطوي علمنا مرة أخرى أن تقوم بإعدام مروع لعدد لا بأس به من السكان في كل مدينة وقرية ومحلة تكون قد أجرمت، حتى يكون في هذا عبرة لكل مَن تسول له نفسه أن يقوم بمثل ذلك في المستقبل... ومادامت هذه الاضطرابات كلها قد نتجت من تحريض الرهبان والكنسيين في هذه البقاع ومؤامراتهم الغادرة، فإننا نريد منك في هذه الربوع التي تأمر فيها، ودافعوا عن بيوتهم بالقوة... أن تأمر بلا رحمة أو شفقة بشد وثاق هؤلاء الرهبان رجال الكنيسة الذين ثبت خطؤهم بأية وسيلة دون تأخير أو اجراء رسمي(14).

وعندما رأى كرومويل ما لحق بالمعارضة من رعب شديد مضى قدماً في إغلاق الدور الدينية الباقية في إنجلترا. وحلت يوماً كل أديار الرهبان والراهبات التي كانت قد انضمت إلى الثورة وصودرت ممتلكاتها لمصلحة الدولة. وامتد مجال الزيارات التفتيشية، وأثمرت تقارير عن الخروج على النظام والفجر والخيانة والانحلال. وتوقع كثير من الرهبان سلفاً إغلاق الأديار فباعوا المخلفات والنفائس التي في دورهم إلى أعلى مزايد، وبلغ ثمن إصبع لسانت اندرو أربعين جنيهاً(15). وأدين الرهبان في والسنجهام بتزييف معجزات، وألقي تمثال العذراء، الذي كان يدر عليهم أرباحاً، في النار. وهدم ضريح سانت توماس بيكيت التاريخي في كانتربري، وأعلن هنري الثامن أنه في انتصاره على هنري الثاني لم يكن قديساً حقاً، وأحرقت المخلفات التي أساءت إلى كوليه، وتفكه بها أرازموس، ونقلت التحف الثمينة التي وهبها الحجاج الورعون في خلال 250 عاماً إلى الخزانة الملكية (1538)، ولبس هنري بعد ذلك في إبهامه خاتماً محلى بياقوتة كبيرة أخذت من الضريح. وسعت بعض الأديار إلى خداع القدر بإرسال المال والهدايا لكرومويل، وقبل كرومويل كل شيء وأغلقها جميعاً. وما أن حل عام 1540 حتى كانت كل الأديار وكل الأملاك الديرية ما عدا كنائس دير الكاتدرائية قد انتقلت إلى الملك.

وعلى الجملة فقد أغلق 578 ديراً للرهبان وحوالي 139 ديراً للراهبات، ونشئت 6521 راهباً أو أخاً و 1560 راهبة. وتخلى حوالي خمسين راهباً وراهبتان من هؤلاء عن الرداء الديني، بيد أن الكثيرين توسلوا أن يسمح لهم بمتابعة حياتهم التي ألفوها في الدير في مكان آخر(16)، وفقد حوالي 12.000 شخص، كانت الدور الدينية تستخدمهم فيما مضى أو كانوا يعتمدون عليها في معيشتهم، وظائفهم أو مخصصاتهم من الصدقات، وكانت الأراضي والمباني المصادرة تدر دخلاً سنوياً قدره حوالي 200.000 جنيه (20.000.000 دولار) غير أن عقود البيع التي أبرمت سريعاً خفضت الدخل السنوي للأملاك بعد التأميم إلى حوالي 37.000 جنيه، ولابد أن يضاف إلى هذا المبلغ 85.000 جنيه من المعدن الثمين المصادر، ومن ثم قد يبلغ ما حصل عليه هنري إبان حياته من جملة الأسلاب والدخل حوالي 1.423.500 جنيه(17).

وكان الملك سخياً بهذا الأسلوب. فقد وهب بعض هذه الممتلكات - ومعظمها باعه بأسعار بعد مساومة - لنبلاء صغار أو مواطنين أحرار كبار - تجار أو محامين - ممن أيدوه أو وجهوا سياسته. وتسلم كرومويل أو اشترى ستة أديار لها دخل سنوي قدره 2239 جنيهاً، وتسلم ابن أخيه سير رتشارد كرومويل سبعة أديار تدر دخلاً قدره 2552 جنيهاً(18) وكانت هذه أصل الثروة التي جعلت من أوليفر الحفيد الثاني لرتشارد رجلاً من رجال الثروة المادية والنفوذ في القرن التالي. وذهبت بعض الأسلاب لبناء سفن وحصون وموان وبعضها ساعد في تمويل الحرب وذهب بعضها إلى القصور الملكية في وستمنستر وتشلسي وهامبتون كورت، وفقد الملك بعضها في لعب النرد(19). وأعيدت ستة أديار إلى كنيسة الأنجليكانية لتستخدم كراسي أسقفية، وخصص مبلغ صغير لمواصلة أعمال البر العاجلة التي كان يقدمها فيما سبق الرهبان والراهبات، وأصبحت الأرستقراطية الجديدة التي نشأت بفضل هدايا هنري وعقود البيع التي أبرمها، عضداً قوياً للعرش التيودوري، ودعامة للمصلحة الاقتصادية ضد أي عودة للكاثوليكية. وقد أبادت الأرستقراطية الإقطاعية القديمة نفسها، أما الأرستقراطية الجديدة، التي تأصلت جذورها في التجارة والصناعة، فإنها غيرت طبيعة الأشراف من السلبية المحافظة إلى عمل إيجابي، وصبت دماً جديداً وطاقة جديدة في الطبقات العليا بإنجلترا. ولعل هذا - والأسلوب كان مصدر خصب العهد الإليزبيثي.

وكانت نتائج التحلل معقدة بلا حدود. ولعل الرهبان المتحررين قد أسهموا بدور متواضع أو لم يسهموا في زيادة عدد سكان إنجلترا من حوالي 2.500.000 عام 1485 إلى حوالي 4.000.000 عام 1547(20) وساعدت زيادة مؤقتة في عدد المتعطلين على تخفيض أجور الطبقات الدنيا جيلاً كاملاً، وأثبت ملاّك الأراضي الجدد أنهم أكثر جشعاً من القدامى(21).

وكانت النتيجة من الناحية السياسية هي زيادة سلطة الملكية، وفقدت الكنيسة آخر معقل للمقاومة، وكانت النتائج من الناحية الأخلاقية ازدياد الجرائم والخصاصة والتسول وتقلص الموارد اللازمة لأعمال البر(22). وأغلق ما يزيد على مائة مستشفى تديرها الأديار، وقامت السلطات البلدية بتزويد قلة منها بالحاجة. أما المبالغ التي أوصت بها الأرواح الخائفة أو الموقرة للقساوسة، كتأمين ضد نار جهنم أو نار المطهر، فقد صودرت على أساس أن هناك أملاً في ألا يلحق الموتى أذى، وانتزع الملك(23) 2374 من الهبات الموقوفة على إقامة قداسات للأرواح. وكانت أقسى النتائج في مجال التعليم. فقد كانت أديار الراهبات تهيئ مدارس للبنات، وكانت الأديار والقساوسة المشرفون على الهبات المخصصة للقداسات قد حافظت على مدارس وتسعين كلية للبنين، وحلت كل هذه المؤسسات.

وبعد أن ذكرنا الحقائق بإنصاف لا يشوبه إلا تحامل يصدر عن اللاوعي، فإنه يسمح للمؤرخ بإضافة تعليق افتراضي يعترف به. إن جشع هنري وجور كرومويل هما اللذان ساعدا في مدى جيل على تخفيض حتمي في عدد الأديار الإنجليزية وإضعاف نفوذها. وكانت هذه الأديار قد قامت يوماً بعمل يدعوا للإعجاب في مجالات التعليم والبر والعناية بالمرضى في المستشفيات، بيد أن إسباغ الصفة العلمانية على هذه الوظائف كان يسير قدماً في سائر أنحاء غربي أوربا، حتى في المناطق التي كانت تغلب عليها الكاثوليكية. وكان ضعف الغيرة الدينية والنزعات الدنيوية الأخرى تحتجز تدفق المترهبين على المؤسسات الديرية. وانخفض عدد هؤلاء المترهبين إلى حد بدا أنه لا يتناسب مع فخامة مبانيهم والدخل الذي تدره أراضيهم. ومما يؤسف له أن الموقف قوبل بالاندفاع الفجائي الفظ من كرومويل، بدلاً من خطة ولزى الإنسانية، والأسلم، وتنحصر في تحويل المزيد من الأديار إلى كليات.

وكانت الوسيلة التي لجأ إليها هنري هنا، كما فعل من قبل في سعيه للحصول على ابن، أسوأ من الهدف الذي ينشده. لم يكن هنا بأس في وضع نهاية، إلى حد ما، لاستغلال ورع ساذج بغش يتظاهر بالورع. وإنا لنعرب عن عظيم أسفنا لما حدث للراهبات اللاتي كن في الغالب الأعم يشقين قياماً بالواجب في إقامة الصلوات والتدريس وأعمال البر، بل إن المرء الذي لا يستطيع أن يشاركهن إيمانهن الذي لا يتزعزع يجب أن يكون شاكراً لأن لهن مثيلات يمددن يد العون مرة أخرى، بإخلاص يدوم مدى الحياة، ويلبين حاجة المرضى والفقراء.


2- الإيرلندي العنيد 1300-1558

برر الملوك الإنجليز سيطرتهم على إيرلندة على أساس أن قوة معادية في القارة يمكن في أي لحظة أن تستخدم هذه الجزيرة المخضرة للقيام بهجوم جانبي على إنجلترا، وأصبح هذا الاعتبار، بعد حب السلطة، أشد قوة عندما فشلت إنجلترا البروتستانتية في كسب إيرلندة إلى صفها من الكنيسة الرومانية. وكان الشعب الإيرلندي، الذي يعشق البطولة والفوضى والمشهور بالرجولة والعنف، والموهبة الشاعرية، والذي يفتقر إلى النضج السياسي، يقاوم كل يوم خضوعه لدم أجنبي ولغة دخيلة.

وازدادت سيئات الاحتلال الإنجليزي. وعاد كثير من أملاك الأراضي الإنجلو-إيرلنديين إلى إنجلترا في عهد إدوارد الثالث، ليعيشوا هناك في يسر على ما تدره إيجارات الأراضي الإيرلندية، وعلى الرغم من أن المجلس النيابي الإنجليزي ندد مراراً بهذا العمل فإن "ملكية الأرض الغائبة" ازدادت خلال ثلاثة قرون، لتصبح حافزاً أكبر للثورات الإيرلندية. ومال الإنجليز الذين ظلوا في إيرلندة إلى الزواج من فتيات إيرلنديات، وامتزجوا تدريجياً بالدم الإيرلندي، الذي يسيطر عليه المقيمون الإنجليز، ويغلب عليه النفوذ الإنجليزي، تواقاً إلى سد هذه البالوعة السلالية فأجاز قانون كلكتى الشهير (1366) الذي منع، مع بعض النصوص السخية التي لا تخلو من حكمة، الزواج المختلط أو التربيب أو أي علاقات ألفة أخرى بين الإنجليز والإيرلنديين في إيرلندة وأي حديث بالإيرلندية أو تقليد للعادات الإيرلندية أو ارتداء الزي الإيرلندي بواسطة الإنجليز، وإلا تعرضوا للسجن وخسارة الممتلكات، ولم يكن يحق لإيرلندي آنذاك أن يستقبل في أي منظمة دينية إنجليزية، ولا لمنشدين أو قصاصين إيرلنديين أن يدخلوا بيوتاً إنجليزية(24). وفشل هذا الحظر فقد تألقت الورود الإيرلندية، وفاقت سلطة القانون واستمر الاندماج السلالي في تلك المناطق الضيقة مارش أو بوردر أو بيل التي لم يجرؤ الإنجليز على السكنى إلا فيها وحدها .

وكان يمكن لإيرلندة إبان حروب الوردتين أن تطرد الإنجليز، لو أن الزعماء الإيرلنديين اتحدوا، ولكنهم آثروا النزاع الأخوي، وشجعهم أحياناً على هذا الذهب الإنجليزي. ووطد هنري السابع من جديد السلطة الإنجليزية في منطقة بيل، ودفع نائبه الإقطاعي سير إدوارد بويننجز في المجلس النيابي الإيرلندي "قانون بويننج" المذل (1494)، ونص على أنه ليس للمجلس النيابي الإيرلندي أن ينعقد في المستقبل حتى تكون كل مشروعات القوانين المقدمة له قد وافق عليها الملك والمجلس الخاص في إنجلترا. وأصبحت الحكومة الإنجليزية في إيرلندة، بعد أن أضعفت إلى هذا الحد، أشد الحكومات في العالم المسيحي عجزاً وجوراً وفساداً. وكانت حيلتها الأثيرة هي تعيين واحد من ستين زعيماً إيرلندياً كمندوب لنائب الملك، وتفويضه في شراء أو إخضاع الباقين. وحقق جيرالد إيرل كلدار الثامن، الذي عين على هذا النحو، شيئاً من التقدم في هذا الاتجاه وخفف من حدة التمرد بين القبائل، مما ساعد المظالم الإنجليزية على إبقاء إيرلندة ضعيفة وفقيرة. وعند وفاته (1513) عين ابنه جيرالد فيتز جيرالد ليخلف كنائب. وكان لهذا الإيرل التاسع لكلدار سير حياة جارية نمطية للوردات الإيرلنديين. واتهم بالتآمر مع إيرل أف دزموند بالسماح لقوة فرنسية بالنزول إلى أرض إيرلندية، فاستدعي إلى إنجلترا وحكم عليه بالسجن في البرج، وأطلق هنري الثامن سراحه، وعينه من جديد نائباً لدى وعده بمساعدة القضية الإنجليزية بإخلاص. وسرعان ما اتهم بسوء الحكم وأحضر إلى إنجلترا مرة أخرى وأرسل من جديد إلى البرج حيث مات خلال عام (1534)، وأعلن ابنه المخلص "سلكن توماس" (توماس الحريري) فتزجيرالد على الفور الحرب على الإنجليز، وحارب بشجاعة وتهور أربعة عشر شهراً وقهر وشنق (1537).

وفي هذا الوقت كان هنري الثامن قد أكمل إجراءات انفصاله عن الكنيسة الرومانية. وأمر المجلس النيابي بقحة تميز بها أن يعترف به رئيساً للكنيسة في إيرلندة، وكذلك في إنجلترا، فأذعن، وطلب من جميع الموظفين الحكوميين في إيرلندة أن يحلفوا يميناً بقبول سيادته الكنسية، وفرض أن تدفع كل ضرائب العشور الكنسية مذ ذاك إلى الملك. ودخل المصلحون الدينيون إلى الكنائس في منطقة النفوذ الإنجليزي في إيرلندة وحطموا المخلفات والتماثيل الدينية. وأغلقت الأديار جميعاً ما عدا قلة في مكان قصي، واستولت الحكومة على ممتلكاتها، وطرد رهبانها على أن يمنحوا معاشاً إذا لم يثيروا ضجيجاً، ووزعت بعض الأسلاب على الزعماء الإيرلنديين وقبل معظمهم، بعد أن رشوا على هذا النحو، ألقاب نبلاء من الملك الإنجليزي، واعترفوا بسيادته الدينية وأنكروا قسمهم للبابا (1539)(25). وألغي نظام العشيرة، وأعلن أن إيرلندة مملكة، وهنري ملك لها (1541).

كان هنري ولكنه فان، ومات في خلال خمس سنوات من انتصاره. وبقيت الكاثوليكية في إيرلندة. واعتبر الزعماء مروقهم حادثاً عابراً في السياسة وظلوا كثالكة (كما فعل هنري)، اللهم إلا فيما يختص بتجاهل البابا، وظل القساوسة الذين أيدوهم في خدماتهم الدينية وتقبلوها محافظين تماماً في العقيدة. ولم تتعرض عقيدة الشعب لأي تغيير أو بالحري اكتسبت حيوية جديدة، لأنها حافظت على عزة القومية في وجه ملك ينزع إلى الانشقاق. وفيما بعد أمام ملكة بروتستانتية. وأصبح الكفاح من أجل الحرية أشد مما كان عليه من قبل، لأنه كان وقتذاك يدور لصالح الجسد والروح.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- ملك من قمة رأسه إلى أخمص قدميه

كان هنري في عام 1540 أعظم ملك يحكم حكماً مطلقاً عرفته إنجلترا، وكان النبلاء النورمنديون القدامى الذين كبحوا جماح وليام الفاتح، يخضعون صاغرين في جبن، ونسوا تقريباً العهد الأعظم (الماجناكارتا) الذي نص على امتيازاتهم. أما النبلاء الجدد، الذين أثروا من التجارة وأنعم عليهم الملك، فقد وقفوا حاجزاً أمام الثورات الأرستقراطية أو الدينية. وأذعن له مجلس العموم الذي كان يوماً الحامي الغيور للحريات الإنجليزية، وكان وكلاء الملك وقتذاك قد اختاروه بعناية، وخول تقريباً سلطات لم يسبق لها مثيل: الحق في مصادرة الأملاك وتعيين مَن يشاء خلفاً له، وتجديد العقيدة المحافظة والهرطقة، وإرسال رجال للإعدام بعد محاكمة مزيفة، وإصدار إعلانات لها سلطة القوانين الصادرة من المجلس النيابي "كانت روح الاستقلال الإنجليزية في عهد هنري تشتعل خافتة في وقبها وحب الحرية غدا فاتراً(26)". وقبل الشعب الإنجليزي هذا الحكم المطلق بسبب الخوف من ناحية، ولأنه خيل إليه أنه البديل لحرب ورد أخرى. كان النظام أهم من الحرية.

وأغرت نفس البديلات الإنجليز بتحمل سيادة هنري على الشئون الكنسية، وعندما رأى هنري أن الكثالكة والبروتستانت على استعداد لأن يمسك كل منهما بخناق الآخر، ورأى أن المواطنين الكاثوليك والسفراء والحكام يتآمرون ضده إلى حد الغزو تقريباً، اعتقد أن النظام لا يمكن أن يستتب في الحياة الدينية في إنجلترا إلا بتحديد الملك للعقيدة والشعيرة، وقبل ضمناً حالة السلطة في الدين التي كانت من صنع الكنيسة. وحاول أن يملي مَن يجب أن يتلو الكتاب المقدس. وعندما صادر الأساقفة ترجمة تندال للكتاب المقدس، أمرهم بإعداد ترجمة أفضل، وعندما توانوا طويلاً سمح لكرومويل بتفويض مايلز كوفردال في اعداد ترجمة جديدة. وظهرت أول نسخة كاملة بالإنجليزية في زيورخ عام 1535. ونشرت عام 1539 طبعات منقحة، وأمر كرومويل بأن يوضع هذا "الكتاب المقدس العظيم" في كل كنيسة إنجليزية. ومنح هنري "بدافع من الكرم والطيبة الملكيين" المواطنين امتياز تلاوة الكتاب المقدس في بيوتهم، وسرعان ما أصبح تقليداً يومياً عند كل أسرة إنجليزية تقريباً. ولكنه كان ينبوعاً للشقاق والإلهام أيضاً، فقد أنبتت كل قرية مفسرين هواة، أثبتوا أي شيء أو عكسه بما ورد في الكتاب المقدس، وتجادل المتعصبون حوله في الكنائس، وتعرضوا لضربات بشأنه في الحانات(27). ومنح بعض الرجال الطموحين زوجاتهم أوامر قضائية بالطلاق، أو احتفظوا بزوجتين في آن واحد، بحجة أن هذا عمل سليم أباحه الكتاب المقدس(28). وأسف الملك لحرية التلاوة التي منحها للناس، وعاد إلى مظاهرة الكاثوليك. وحث المجلس النيابي عام 1543 على سن قاعدة بأنه لا يجوز قانوناً حيازة الكتاب المقدس إلا للنبلاء والملاّك، ولا يجوز لغير القساوسة الوعظ به أو الجدال فيه علناً(29).

وكان من الصعب على الناس - وحتى على الملك - أن يعرف ما يدور في ذهن الملك. واستمر الكثالكة يرسلون إلى المحرقة أو المقصلة بسبب إنكارهم سيادته في الشئون الكنسية، والبروتستانت بسبب جدلهم في اللاهوت الكاثوليكي؛ وعُلِّق فورست وهو رئيس شعبة المتشددين من الفرنسسكان الممتثلين في جرينوتش، رفض أن ينكر سلطة البابا، على نار وهو مكبل بالأغلال، وشوي ببطيء حتى مات (31 مايو سنة 1537)(30). وقبض على جون لامبرت؛ وهو بروتستانتي بسبب إنكاره وجود المسيح حقيقة في القربان المقدس، وحاكمه هنري بنفسه، وحكم عليه هنري بالموت وأحرق في سمثفيلد (16 نوفمبر سنة 1538) ومع تزايد نفوذ استيفن جاردنر أسقف ونشستر مال هنري أكثر وأكثر نحو العقيدة المحافظة، وفي عام 1539 أعلن الملك والمجلس النيابي والمجمع الأكليروسي بـ "قانون المواد الستة" موقف الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في موضوعات الحضور الحقيقي للمسيح وعزوبة رجال الأكليروس وأقسام رهبان الدير والقداسات من أجل الموتى، وضرورة الاعتراف السرّي أمام قسيس وكفاية تناول القربان المقدس من ضرب واحد. وكل مَن ينكر شفاهاً أو كتابة، الحضور الحقيقي للمسيح، يتعرض للموت حرقاً دون أن تتاح له فرصة لإنكار ما قال أو للاعتراف أو الغفران، وكل مَن ينكر أية مادة أخرى يجب أن تصادر أملاكه عند ارتكابه الذنب لأول مرة وتزهق روحه عند ارتكابه له مرة أخرى.

وأعلن أن كل الزيجات التي عقدها القساوسة حتى وقتذاك باطلة، وأي قسيس يحتفظ بزوجته بعد ذلك يعد مرتكباً لجريمة الخيانة العظمى(31). وكان الناس لا يزالون محافظين من حيث العقيدة، فوافقوا على هذه المواد، غير أن كرومويل بذل جهده لتخفيفها عند التطبيق، وفي عام 1540 تحول الملك مرة أخرى، فأمر بوقف المطاردة بموجب هذا القانون... ومع ذلك فإن الأسقفين لاتيمر وشاكستون، اللذين لم يوافقا على مواد القانون، عزلا وسجنا. وفي يوم 30 يوليو سنة 1540 تعرض ثلاثة من البروتستانت وثلاثة من الكاثوليك للموت في سمثفيلد في وفاق تم رغم إرادتهم، أما البروتستانت فلأنهم حاولوا التشكيك في بعض العقائد الكاثوليكية، وأما الكثالكة فلأنهم رفضوا الاعتراف بسيادة الملك على الشئون الكنسية(32).

وكان هنري قوياً شديداً في الحكم وفي اللاهوت، وعلى الرغم من أنه احتفظ بحاشية كثيرة العدد، وقضى وقتاً طويلاً في التهام الطعام، فإنه تعب كثيراً في الاضطلاع بأعباء الحكم. واختار أعواناً مهرة وجائرين مثله. وأعاد تنظيم الجيش، وجهزه بأسلحة جديدة، ودرس آخر ما توصل إليه الخبراء في التكتيك والاستراتيجية. وبنى أول أسطول بحري ملكي دائم طهر السواحل والقناة من القراصنة، وأعد العدة للانتصارات البحرية التي تمت في عهد اليزابث، ولكنه فرض على شعبه مكوساً إلى الحد الذي يحتمله، وخفض قيمة العملة مراراً، وصادر الأملاك الخاصة بحجج واهية، أو طلب "اشتراكات"، وأنكر ديونه، واقترض من آل فوجر، وروج الاقتصاد الإنجليزي مؤملاً أن يعود عليه بدخل إضافي.

وكانت الزراعة في تدهور، وكان رق الأرض لا يزال منتشراً. ولم ينقطع تسوير الأراضي لترعى فيها الأغنام وضاعف ملاك الأراضي الجدد، الذين لم تصدهم تقاليد الإقطاع، إيجارات الأراضي مرتين أو أربع مرات على مستأجريهم، بحجة إرتفاع الأسعار، ورفضوا تجديد عقود الإيجار المنتهية "وشق آلاف المستأجرين الذين جردوا من أراضيهم المستأجرة طريقهم إلى لندن وطرقوا بشدة أبواب المحاكم لرفع الظلم، وهو أمر لم يستطيعوا الحصول عليه(33)".

ورسم مور الكاثوليكي صورة مؤثرة للفلاحين المتسولين(34)، وندد لاتيمر البروتستانتي بـ "اللوردات الحديثي النعمة الذين يرفعون الإيجارات"، ورأى مثل لوثر ماضياً مثالياً كاثوليكياً. عندما كانت أفئدة الرجال مفعمة بالشفقة والحنان(35). "وفرض المجلس النيابي عقوبات صارمة على الضرب في الآفاق والتسول. وكان قانون 1530-31 يفرض على كل مَن يتسول، ويكون قادراً جسمانياً على العمل، سواء كان رجلاً أو امرأة، أن يشد وثاقه إلى عربة وهو عار ويجلد بالسياط في سائر أنحاء المدينة إلى أن يتلطخ جسده بالدم". وإذا عاد لارتكاب الذنب مرة أخرى تقطع أذنه، وإذا ارتكب مرة ثالثة تقطع أذنه الأخرى، ومهما يكن من أمر فإن ارتكاب الذنب للمرة الثالثة كان يعرض المتسول للإعدام(36). ووجد الفلاحون المبعدون تدريجياً عملاً في المُدن وخففت الإغاثة المقررة للفقراء من وقع الخصاصة. وارتفعت إنتاجية الأرض في آخر الأمر بالزراعة على نطاق واسع بيد أن عجز الحكومة عن تخفيف التحول كان بمثابة فشل إجرامي قاس للحنكة السياسية.

وأسبغت الحكومة نفسها الحماية على الصناعة بالتعريفات الجمركية. وأفاد أصحاب المصانع من رخص أجر العمل، الذي تيسر بهجرة الفلاحين للمُدن، وأعادت الطرق الرأسمالية تنظيم صناعة النسيج، ورفعت طبقة جديدة من الأثرياء، لتقف إلى جانب التجار في مساندة الملك. وحل القماش محل القماش محل الصوف باعتباره أهم صادرات إنجلترا. وكانت معظم الصادرات من الضروريات التي تنتجها الطبقة الدنيا، وكانت معظم الواردات من سلع الترف التي لا يحصل عليها إلا الأغنياء(37). وأفادت التجارة والصناعة من قانون صدر عام 1536 يغير أسعار الفائدة بواقع 10 في المائة. وكان ارتفاع الأثمان السريع في صالح المشروع وبمثابة عقاب حكم به على العمال والفلاحين واللوردات الإقطاعيين من النمط القديم. وارتفعت الإيجارات إلى 1000 في المائة بين عامي 1500 و 1576(38). وارتفعت أسعار الطعام من 250 إلى 300 في المائة، وارتفعت الأجور بمقدار 150 في المائة(39). وكتب توماس ستار في حوالي عام 1537: "أن الفقر يسود الآن إلى حد يقف فيه أمام أي خير حقيقي و مزدهر للجماعة(40)".

ووجد أعضاء الطوائف الحرفية شيئاً من الفرج في التأمين والمساعدة المتبادلة، زودهم بما يسد رمقهم، أمام الفقر والنار، غير أن هنري صادر عام 1545 أملاك الطوائف الحرفية(41).


4- التنين يتقاعد

أي ضرب من الرجال كان هذا الملك الغول؟ لقد رسم هولبين الصغير، الذي جاء إلى إنجلترا حوالي عام 1536، صوراً شخصية لهنري وجين سيمور. فالكساء الفاخر يكاد يخفي بدانة الملك، والأحجار الكريمة

وفرو الفاقم، واليد التي تقبض على سيف محلى بالجواهر، تكشف عن استعلاء السلطة وزهو رجل لم يجد مَن يقاومه، والوجه العريض المكتنز ينم على ميل شديد للذات الحسية، والأنف دعامة قوية، والشفتان المضمومتان والعينان القاسيتان تنم على طاغية مستبد سريع الغضب بارد إلى حد القسوة. وكان هنري وقتذاك في السادسة والأربعين، في أوج مجده السياسي، ولكن بدأ الضعف يدب في جسده. وقدر له أن يتزوج ثلاثاً مرة أخرى، ومع ذلك لم يرزق بعدها بذرية. ولم ينجب من زوجاته الست سوى ثلاثة أطفال، عاشوا إلى ما بعد سن الطفولة. وأحد هؤلاء الثلاثة، وهو إدوارد السادس، كان معتل الصحة، ومات في الخامسة عشرة من عمره، وظلت ماري عاقراً بائسة عندما تزوجت، أما إليزابث فإنها لم تجرؤ قط على الزواج، وربما كان ذلك لشعورها بوجود عائق جسماني. وأصابت لعنة شبه العقم أو العيب الجسماني أعظم الأسر الحاكمة اعتزازاً بنفسها في التاريخ الإنجليزي.

وكان هنري حاد الذهن وحكمه على الرجال يدل على الفراهة، وشجاعته عظيمة، وقوة إرادته هائلة. وكان سلوكه فظاً ووساوسه تبددت مع شبابه، ومهما يكن من أمر فإنه ظل مع أصدقائه شفوقاً كريماً، ولطيفاً بشوشاً، قادراً على كسب ودهم وإخلاصهم. وقد ولد ليكون ملكاً، وأحيط منذ ولادته بالخضوع والملق، ولم يجرؤ على معارضته إلا قليلون، وقد دفنوا بعد أن قطعت رءوسهم. وكتب مور عن سجن البرج: "مما يؤسف له كثيراً ولا شك أن نرى أي أمير مسيحي على استعداد لأن يلبي رغباته بواسطة مجلس يركع أمامه، وبواسطة رجال دين ضعاف... والملق، فاشتط في ظلم الناس بصورة مخجلة(42)"، كان هذا هو المصدر الخارجي لنكوص هنري على عقبيه في الخلق - فقد أدى عدم وجود مقاومة لإرادته، بعد وفاة مور، إلى أن يصبح خائراً معنوياً وبدنياً: ولم يكن أكثر تهاوناً في الجنس من فرانسيس الأول ويبدو أنه بعد حادث آن بولين قد أصبح أشد تحمساً للزواج بواحدة، على التوالي، من شارل الخامس. ولم يكن الانحلال الجنسي أسوأ نقيصة فيه. وكان نهمه للمال لا يقل عن نهمه للسلطة، وقلما سمح لاعتبارات إنسانية أن تقف في زجه استيلائه على الأموال. وليس من شك في أن استعداده المتسم بالجحود لقتل النساء اللاتي أحبهن أو الرجال، أمثال مور وكرومويل، الذين خدموه بإخلاص سنوات طوال، أمر خسيس، ومع ذلك يمكن القول أنه لم يسفك من الدماء عشر ما سفكه شارل التاسع حسن النية، عندما أجاز مذبحة سانت بارتلوميو، أو شارل الخامس عندما صفح عن نهب روما، أو الأمراء الألمان عندما حاربوا ثلاثين عاماً للحصول على حقهم في تحديد المعتقدات الدينية لرعاياهم.

والأصل الداخلي لفساده هو ما تعرضت له إرادته من إحباط متكرر في الحب والأبوة. فقد خاب أمله طويلاً في الحصول على ابن، وصد بطريقة خادعة في طلبه المعقول إعلان بطلان زواجه الأول، وخدعته (كما اعتقد) الزوجة التي خاطر من أجلها بعرشه، وفقد سريعاً الزوجة الوحيدة التي أنجبت له وريثاً، وخدعته في الزواج امرأة أجنبية تختلف عنه تماماً في اللغة والمزاج، وخانته (كما ظن) زوجة خيل إليه أنها ستحقق له آخر الأمر بيتاً تخيم عليه السعادة - ها هو ملك كان يملك إنجلترا بأسرها، ولكنه حرم من المباهج العائلية التي يستمتع بها أبسط زوج في مملكته، وكان يعاني من ألم متقطع بسبب قرحة في ساقه، وكافح الثورات والأزمات في سائر مدة حكمه، واضطر في كل لحظة تقريباً أن يتسلح لصد الغزو والخيانة والاغتيال - فكيف كان في وسع رجل مثل هذا أن ينمو ويصبح سوياً، أو يتحاشا الفساد والتورط في الشك والدهاء والقسوة؟ وكيف يتأتى لنا، نحن الذين نغضب من وخز محنة نتعرض لها، أن نفهم رجلاً جمع في عقله وفي شخصه عاصفة الإصلاح الديني الإنجليزي وثقله، وحرم شعبه بخطوات محفوفة بالمخاطر من ولاء جذوره عميقة، ومع ذلك لابد أنه كان حرياً بأن يشعر في روحه المنقسمة بدهشة مفتتة - أحرر أمة أو مزق شمل المسيحية؟ كان الوسط الذي عاش فيه هو الخطر وكذلك السلطة. ولم يكن في وسعه قط أن يعرف المدى الذي يصل إليه أعداؤه، أو متى ينجحون. وفي عام 1538 أمر بالقبض على سير جيوفري بول شقيق ريجينالد. وخشي جيوفري أن يتعرض للتعذيب، فاعترف بأنه هو وشقيق آخر يدعى لورد مونتاجو، وسير ادوار فيفيل والمركيز والمركيزة أف إكستر كانوا يتبادلون رسائل تنطوي على خيانة الدولة مع الكاردينال. وظفر جيوفري بالصفح أما إكستر ومونتاجو وآخرون عديدون فقد شنقوا وشطروا إلى أربعة أقسام (1538-39)، وأما ليدي اكستر فقد سجنت، ووضعت الكونتيسة أف سالزبوري، والدة بول واخوته الأشقاء تحت الحراسة. وعندما زار الكاردينال شارل الخامس في طليطلة (1539) يحمل له طلباً لا طائل تحته من بول الثالث يرجو فيه من الإمبراطور أن ينظم إلى فرانسيس في تحريم التجارة مع إنجلترا(43)، انتقم هنري بالقبض على الكونتيسة، التي كانت وقتذاك في السبعين من عمرها، ولعله كان يأمل بالاحتفاظ بها في البرج، أن يكبح جماح الكاردينال للغزو. كان كل شيء عادلاً في لعبة الحياة والموت.

وبعد أن ظل هنري عامين دون أن يتزوج أمر كرومويل أن يبحث له عن حلف بالمصاهرة يقوي سلطانه ضد شارل. فنصح كرومويل بالزواج من أخت زوجة الأمير المختار لساكسونيا، وشقيقة الدوق أف كليفس الذي كان وقت ذاك على خلاف مع الإمبراطور. وآلى كرومويل على نفسه أن يتم هذا الزواج الذي كان يعلق عليه آمالاً بتكوين حلف من الولايات البروتستانتية آخر الأمر، وبهذا يجبر هنري على إلغاء المواد الست المناهضة للوثر. وأرسل هنري المصور هولبين لرسم صورة للسيدة، ولعل كرومويل أضاف بعض التعليمات للفنان، وجاءت الصورة، ورأى هنري أنها محتملة، فهي تبدو حزينة، لا تشجع في الصورة التي رسمها هولبين، والمعلقة في متحف اللوفر، ولكن تقاطيعها ليست أقل وضوحاً من جين سيمور التي رققت لحظة من قلب الملك.

وعندما جاءت آن بشحمها ولحمها، ووقعت أنظار هنري عليها (أول يناير سنة 1540) مات الحب لدى أول نظرة. وأغمض عينيه وتزوجها، وتضرع مرة أخرى أن يرزقه الله بإبن يوطد به وراثة العرش في آل تيودور إذ كان مظهر الأمير إدوارد وقتذاك يدل على ضعفه الجسماني. ولكنه لم يصفح قط عن كرومويل. وأمر بالقبض على وزيره الذي أفاده أكثر من أي وزير آخر بعد أربعة شهور زاعماً غلطه وفساده. ولم يكن يعترض عليه، فقد كان كرومويل تابعاً يحظى بأكبر نصيب من الكراهية في إنجلترا - بسبب أصله ووسائله وخسته وثروته. وطلب في سجن البرج أن يوقع بيانات يعارض فيها صحة الزواج. وأعلن هنري أنه لم يكن قد قدم "رضاه الباطني" عن الزواج، وأنه لم يدخل بزوجته قط. واعترفت آن بأنها لا تزال عذراء ووافقت على بطلان الزواج، مقابل معاش يوفر لها سبيل الراحة. وكرهت أن تواجه أخاها، فاختارت أن تعيش وجيدة في إنجلترا، وكان لها عزاء صغير في أنها دفنت في مقابل دير وستمنستر عند وفاتها (1557). وقطعت رأس كرومويل يوم 28 يوليو سنة 1540.

وفي اليوم نفسه تزوج هنري من كاثرين هوارد، البالغة من العمر عشرين عاماً، وهي من أسرة كاثوليكية لا تحيد عن عقيدتها قيد أنملة، وكان هذا كسباً للحزب الكاثوليكي، وكف الملك عن أن يتقرب من البروتستانت بالقارة، وعقد صلحاً مع الإمبراطور، وعندما شعر بأنه أصبح أخيراً آمناً في ذلك الحمى تحول بفكره شمالاً معلقاً الآمال على ضم سكوتلندة، وبذلك يكمل دائرة الحدود الجغرافية لبريطانيا ويضمن لها الأمن. وصرفته عن هذا ثورة أخرى في شمالي إنجلترا. وقبل أن يرحل لقمعها وإخماد مؤامرة دبرت وراء ظهره، أمر بإعدام جميع المسجونين السياسيين في البرج ومنهم الكونتيسة أف سالزبوري (1541). وانهارت الثورة وعاد هنري إلى هامبتون كورت يتخبط في الهموم، لينشد السلوى عند ملكته الجديدة.

وكانت كاثرين الثانية أجمل زوجاته، وتعلم الملك كيف يحبها تقريباً، وهو يعتمد أكثر من قبل على الخدمات الجديرة بزوجة، وحمد الله على الحياة الطيبة التي كان يعيشها، والتي راوده الأمل في أن يحققها تحت إشرافها، ولكن في اليوم الذي ردد فيه تسبيحة الشكر هذه (2 نوفمبر سنة 1541) سلمه رئيس الأساقفة كرانمر وثائق تدل على أن كاثرين كانت لها علاقات سابقة للزواج مع ثلاثة خاطبين متعاقبين. واعترف اثنان من هؤلاء وكذلك اعترفت الملكة. وقال السفير الفرنسي في تقرير له: أن هنري تملكه حزن شديد، حتى ساد الاعتقاد بأنه جن(44). وأمضه الخوف من أن تكون لعنة الله قد حلت بكل زيجاته. وكان يميل إلى الصفح عن كاثرين، ولكن قدم إليه دليل على أنها اقترفت الزنى مع ابن عمها بعد زواجها بالملك. وأقرت بأنها استقبلت ابن عمها في جناحها الخاص في ساعة متأخرة بالليل، ولكن حدث هذا في حضور الليدي روشفورد، وأنكرت أنها ارتكبت أي ذنب وقتها، أو في أي وقت منذ زواجها، وشهدت ليدي روشفورد بصحة هذه البيانات بقدر ما وصل إلى علمها(45). بيد أن المحكمة الملكية أعلنت أن الملكة مذنبة. وفي يوم 13 نوفمبر سنة 1542 قطع رأسها في نفس البقعة التي سقط فيها رأس آن بولين قبل ذلك بست سنوات، أما عشاقها فقد حكم عليهم بالسجن مدى الحياة.

وكان الملك وقتذاك رجلاً محطماً. وأعيت قرحته طب عصره، وكان الزهري الذي لم يشفَ منه تماماً ينتشر ويعيث فساداً في هيكله(46).وبعد أن فقد لذة الحياة سمح لنفسه بأن يصبح كتلة ضخمة من اللحم، وكان خداه متهدلين ويكادان يغطيان فكيه، وكادت عيناه الضيقتان أن تختفيا في تلافيف وجهه. ولم يكن في وسعه أن يسير من غرفة إلى أخرى دون أن يستند إلى أحد. وأدرك أنه لن يعيش إلا بضع سنوات فأصدر (1543) مرسوماً جديداً يحدد فيه وراثة عرشه: يتولاه أولاً إدوارد ثم ماري ثم اليزابث، ولم يذهب إلى أبعد من ذلك، لأن مَن تليهم في سلسلة النسب هي ماري ستيوارت ملكة أسكوتلندة. وقام بمحاولة لكي ينجب ولداً صحيحاً معافى، بعد أن حثه مجلسه مراراً فبنى بزوجة سادسة (12 يوليو سنة 1543). وكانت كاثرين بار قد عاشت بعد وفاة زوجين سابقين، ومع ذلك فإن الملك لم يعد يصر على الزواج من عذارى. وكانت امرأة على حظ من الثقافة والفطنة، فقامت برعاية مريضها الملك في صبر، وصالحته مع ابنته اليزابث، التي طال إهماله لها، وحاولت أن تلطف لاهوته، وتخفف حماسته للاضطهاد.

ولم تنقطع المشاعل اللاهوتية حتى نهاية حكمه، فأحرق ستة وعشرون شخصاً بتهمة الهرطقة في الثماني السنوات الأخيرة من عهده. وفي عام 1543 أبلغ الجواسيس الأسقف جاردنر أن هنري فيلمر قال: "إذا كان الرب موجوداً حقاً (في القربان المقدس) فإني أكون قد أكلت في حياتي عشرين رباً". وأن روبرت تسوود حذر القسيس عند رفع القربان المقدس، من أن يترك الرب يسقط، وأن أنتوني بيرسون وصف كل قسيس يعظ الناس بأي شيء سوى "كلمة الله" - أي الكتاب المقدس - يكون لصاً. وأحرق كل هؤلاء الرجال تنفيذاً لأوامر أصدرها الأسقف الأنجليكاني، في مرج أمام القصر الملكي في وندسور. وانزعج الملك لأنه وجد أن الدليل الذي قدمه شاهد في هذه القضايا كان قسماً زوراً، وأرسل الجاني الأثيم إلى سجن البرج(47). وفي عام 1546 أدان جاردنر أربعة آخرين، وأرسلهم إلى المحرقة لإنكارهم وجود المسيح حقاً في القربان المقدس. وكانت إحداهم امرأة شابة تدعى آن أسكيو تشبثت بهرطقتها طوال خمس ساعات من الاستجواب وقالت في محاكمتها: "إن ما تسمونه ربكم قطعة من الخبز، والدليل على ذلك أنكم لو تركتموها في صندوق لمدة ثلاثة شهور لتعفنت". وعذبت حتى أشرفت على الموت لكي تكشف عن أسماء هراطقة آخرين، وظلت صامتة لم تنبس ببنت شفة، وهي تتوجع، وسارت إلى حتفها وهي تقول: "إنني سعيدة كواحدة كتب عليها أن تتجه للسماء(48)". ولم يكن للملك دور فعال في هذه المطاردات غير أن الضحايا استغاثوا به دون جدوى.

واشتبك عام 1543 في حرب مع أسكتلندة و"أخيه المحبوب" فرانسيس الأول، وسرعان ما وجد نفسه متحالفاً مع عدوه القديم شارل الخامس، ولكي يمول حملاته طالب رعاياه بتقديم "قروض" جديدة، وامتنع عن سداد قروض عام 1542 وصادر الهبات للجامعات(49). وحمل إلى ميدان القتال ليشترك فيها شخصياً وأشرف على حصار بولونيا والاستيلاء عليها. وغزت جيوشه أسكتلنده، وهدمت أديار ملروز ودرايبورج وخمسة أديار أخرى، ولكنها هزمت هزيمة منكرة في انكرم مور (1545)، وأبرم اتفاق فيه فائدة مع فرنسا (1546)، واستطاع الملك أن يموت في سلام.

وكان وقتذاك ضعيفاً واهناً إلى حد أن الأسر النبيلة أخذت تتنازع فيما بينها على مَن تكون له الوصاية على إدوارد الصغير. وكان إيرل أف سوري، وهو شاعر، واثقاً أن أباه الدوق أف يورك سوف يكون وصياً إلى حد أنه اتخذ درعاً وضع عليه شارة لا تصلح إلا لولي العهد، وقبض هنري عليهما معاً فاعترفا بأنهما مذنبان وقطع راس الشاعر في التاسع من يناير عام 1547، أما الدوق فقد سجل في قائمة انتظار الذين ينفذ فيهم حكم الإعدام بعد السابع والعشرين فوراً.

ولكن الملك مات في اليوم الثامن والعشرين، وكان في الخامسة والخمسين من عمره، ولكنه عاش عمره عشرات المرات. وترك مبلغاً كبيراً، يدفع لإقامة قداسات لكي ترقد روحه في اطمئنان. وقد دام عهده سبعة وثلاثين عاماً، حول إنجلترا إلى بلاد أخرى أعمق مما كان يتصور أو يشتهي. وفكر في أن يخلف البابا، ويترك العقيدة القديمة التي عودت الناس على القيود الأخلاقية والخضوع للقانون دون أن يمسها بتغيير، ولكن تحديه للبابوية الذي صادفه التوفيق، وتشتيته السريع للرهبان والمخلفات، وإذلاله المتكرر لرجال الأكليروس، ونزعه لملكية الكنيسة وإسباغ الصفة العلمانية على الحكومة، كل ذلك أضعف الهيبة الكنسية والسلطة الدينية إلى حد كبير، مما أدى إلى حدوث التغييرات اللاهوتية التي أعقبت ذلك في عهدي إدوارد وإليزابث. كان الإصلاح الديني الإنجليزي أقل اعتماداً على العقيدة من الإصلاح الديني الألماني، ولكنهما أثمرا نفس النتيجة البارزة - وهي انتصار الدولة على الكنيسة. ونجا الشعب من براثن بابا معصوم ليقع في أحضان ملك مستبد.

ولم يغنم شيئاً من الناحية المادية. فقد دفع ضرائب العشور كما دفع من قبل، غير أن صافي الفائض عاد إلى الحكومة. وكان كثير من لفلاحين يزرعون وقتذاك أراضيهم المستأجرة "للورداتهم المحدثين"، وكانوا أشد قسوة من الرهبان الذين اتخذ منهم كارلايل مثالاً في كتابه "الماضي والحاضر". ومن رأي وليام كوبت أن "الإصلاح الديني الإنجليزي" كان في الحقيقة من وجهه الاجتماعي، ثورة قام بها الأغنياء ضد الفقراء(50)، وتشير سجلات الأسعار والأجور إلى أن العمال الزراعيين وعمال المُدن كانوا أحسن حالاً عندما ارتقى هنري العرش منهم عند وفاته(51).

وكانت المظاهر الأخلاقية لهذا العهد سيئة، فقد ضرب الملك للأمة مثلاً يدل على فساد خلقه بانغماسه في علاقات جنسية وبانتقاله الفظ في خلال بضعة أيام من مصرع زوجة إلى فراش الزوجة التالية وبقسوته الهادئة وعدم أمانته المالية وجشعه المادي. وأشاعت الطبقات العليا الفوضى في البلاط والحكومة بما دبرته من مؤامرات فاسدة. وتبارى الأعيان مع هنري في الاستحواذ على ثروة الكنيسة وابتز رجال الصناعة عمالهم وابتزهم الملك. ولم تكمل الصورة باضمحلال البر لأنه بقي هناك الخضوع الحقير لحاكم مطلق أناني من شعب يرتجف هلعاً. ولم ينقذ الموقف سوى شجاعة الشهداء البروتستانت والكاثوليك وأشرفهم فيشر ومور قد اضطهدا في دورهما.

وإذا تأملنا بمنظور واسع هذه السنوات المريرة نجد أنها كانت تحمل بعض الثمار الطيبة. ولم يكن هناك بد من الإصلاح الديني. ولابد أن نذكر أنفسنا مراراً وتكراراً بهذا ونحن نسجل شيطنة القرن الذي ولد فيه، كان الانفصام عن الماضي عنيفاً ومؤلماً ولم يكن في الإمكان زعزعة قبضته على أذهان الناس إلا بتوجيه ضربة وحشية. وعندما أزيل الكابوس أصبحت روح القومية، التي سمحت في أول الأمر بالاستبداد، حماسة شعبية وقوة خلاقة. وأدى تخلص الشئون الإنجليزية من البابوية إلى ترك الناس تحت رحمة الدولة حيناً من الزمن، ولكنه أجبرهم في المدى الطويل على الاعتماد على أنفسهم في كبح جماح حكامهم والمطالبة، عقداً وراء عقد، بقدر من الحرية يكافئ ذكائهم. ولن تكون الحكومة قوية دائماً كما كانت في عهد هنري الرهيب، بل سوف تكون ضعيفة في عهد ابن عليل وابنة تطوي جوانحها على مرارة شديدة، ثم تنهض الأمة بعد أن تتفجر طاقتها المنطلقة من عقالها في عهد ملكة مذبذبة، ولكنها ظافرة، وترفع نفسها إلى مرتبة زعامة الفكر الأوربي. ولو لم تكن إنجلترا قد تحررت على يد أسوأ وأقوى ملوكها فربما كان قدر للعالم ألا يرى إليزابث وشكسبير.