قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 2 ف 19

صفحة رقم : 8348 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر وأرازموس -> لوثر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل التاسع عشر: لوثر وأرازموس (1517 - 1536)

لوثر

بعد أن أجملنا الظروف الاقتصادية والسياسية والدينية والأخلاقية، والفكرية، التي شهدت مهد الإصلاح الديني، نرى لزاماً علينا أن نعد من عجائب التاريخ في ألمانيا أن يتمكن رجل واحد من أن يجمع، بلا قصد هذه التأثيرات في ثورة، غيرت في صورة قارة. ولسنا في حاجة إلى المبالغة في دور البطل هنا، ذلك لأن قوى التغيير كان يمكن أن تجد تجسيماً آخر لها، إذا استمر لوثر في خضوعه. ومع ذلك فإن منظر هذا الراهب الخشن، وهو واقف في شك وفزع، لا يستقر على قرار، ضد أقوى النظم حصانة، وأشد العادات قداسة في أوروبا، يجعل الدم يغلي في العروق، ويشير مرة أخرى إلى المسافة التي قطعها الإنسان وهو ينحدر من الطين أو القرد.

ترى كيف بدا ذلك الرجل، الذي كان صوت عصره المدوي، كما كان قمة من قمم التاريخ الألماني؟ لقد كان في عام 1526، كما صوره لوكاس كراناخ(1)، وهو في الثالثة والأربعين من عمره في مرحلة التحول من النحافة إلى البدانة، صارم القسمات وإن لم يخلُ من لمحة مرح قوية، وله شعر مجعد لا يزال حالك السواد، وأنف ضخم، وعينان سوداوان لامعتان - قال خصومه إن الشياطين تظهر فيهما للعيان. وكانت له سحنة صريحة لا تخفي شيئاً جعلته يصلح للدبلوماسية. وثمة صورة شخصية رسمها له فيما بعد كراناخ أيضاً (1532) ظهر فيها لوثر في هيئة رجل منبسط الأسارير، له وجه مستدير عريض يجعل الناظر يحكم بأنه رجل يستمتع بالحياة. وتخلى عام 1524 عن مسوح الراهب، واتخذ لباس واحد من عامة الناس، فكان يرتدي ثوب المدرس حيناً، ويلبس سترة وسراويل عادية حيناً آخر، ولم يتعفف عن رتق هذه الثياب بنفسه. وقد شكت زوجته مرة من أن هذا الرجل العظيم اقتطع رقعة من سراويل ولده، ليصلح بها من شأن سراويله.

ولقد انزلق إلى الزواج بطريق السهو، واتفق في الرأي مع القدّيس بولس بأنه خير للمرء أن يتزوج ولا يحرق، وصرح بأن الجنس أمر فطري وضروري كالطعام(2)، واحتفظ بالفكرة السائدة في القرون الوسطى، والتي تذهب إلى أن الجماع أمر آثم، حتى في الزواج، ولكن "الله يستر الخطيئة"(3)، وندد بالعذرة باعتبارها انتهاكاً لسنة الله التي تقضي بالتناسل والتكاثر وإذا "لم يستطع واعظ بالإنجيل أن يعيش محتفظاً بعفته دون أن يتزوج، فلنسمح له باتخاذ زوجة، لأن الله خلقها بلسماً لذلك الجرح"(4). وكان يعد طريقة البشر في التناسل منافية للعقل بعض الشيء، على الأقل عند تأمل الماضي، ورأى أنه "لو استشارني الله في الأمر لأشرت عليه بأن يستمر في خلق جيل من البشر بتشكيلهم من الطين مباشرة كما خلق آدم"(5). وكان مفهومه عن المرأة تقليدياً وألمانياً، فالله قد خلقها للحمل والطهي والصلاة لا لأي شيء آخر، وهو القائل "إنتزع النساء من تدبير شئون المنزل، تجدهن لا يصلحن لشيء"(6). و "إذا أنهك الحمل النساء، ولقين حتفهن، فليس في هذا ضرر دعهن يلاقين حتفهن ما دمن يحملن، فقد خلقن لهذا"(7). ويجب على المرأة أن تمنح زوجها الحب، وأن تحافظ على شرفه، ولا تعصي له أمراً، وعليه أن يحكمها، ولكن برفق، ويجب عليها أن تلزم مجالها وهو البيت، ولكنها تستطيع هناك أن تفعل بالأطفال ببنانها أكثر مما يستطيع الرجل أن يفعل بقبضتيه(8). وبين الرجل والزوجة يجب ألا يكون هناك ملكي وملكك وذلك لأن كل الممتلكات يجب أن تكون بينهما على المشاع(9).

وكان لوثر يكن كراهية الذكر العادية للمرأة المتعلمة، وقال عن زوجته "بودي أن تتلو النساء صلاة الرب قبل أن ينبسن بشفة"(10)، ولكنه ازدرى الكتاب الذين ألفوا مقالات في هجو النساء، وقال: "مهما يكن في النساء من عيوب فإننا يجب أن نردعهن في الخلوة برفق... لأن المرأة قارورة هشة"(11). وعلى الرغم من صراحته الفظة في أمور الجنس والزواج، فإنه لم يكن يخلو من الإحساس بالاعتبارات الجمالية، ويقول: "الشعر أجمل زينة للمرأة. وقد اعتادت العذارى قديماً أن يرسلن شعورهن، إلا إذا كن يرتدين ثياب الحداد، وأنا أحب أن ترسل النساء شعورهن حتى يسقط على ظهورهن، فهو منظر من أروع المناظر وألطفها"(12). (وكان هذا حرياً بأن يجعله أكثر ليناً مع البابا إسكندر السادس الذي عشق شعر جوليافارنيزي المرسل).

ويبدو أن لوثر لم يتزوج لإشباع حاجة من حاجات الجسد. وقال في نوبة من المرح، إنه قد تزوج لإرضاء والده، وعلى الرغم من أنف الشيطان والبابا، ولكنه استغرق وقتاً طويلاً لكي يستقر على رأي في هذا الموضوع ثم حسم الأمر له. وعندما تركت بعض الراهبات ديرهن بناء على توصية منه أخذ على عاتقه أن يجد لهم أزواجاً. ولم يبق في آخر الأمر منهن واحدة لم تتزوج، إلا كاترين فون بورا، وهي امرأة كريمة المحتد على خلق قويم، ولكنها لم تخلق لتثير عاطفة متعجلة، وكانت قد وضعت أنظارها على طالب شاب من فيتنبرج، ينحدر من سلالة نبيلة، وفشلت في أن توقعه في حبائلها، وعملت مربية لكي تكسب ما يسد رمقها. واقترح عليها لوثر أن تتزوج من الدكتور جلاتس، فردت عليه بأنها لا تقبل هذا الدكتور، ولكن ليس لديها مانع من الزواج من هرامسدوف أو الدكتور لوثر. وكان لوثر في الثانية والأربعين من عمره وقتذاك، بينما كانت كاترين في السادسة والعشرين، ورأى أن التفاوت في السن يحرم عليه هذا الزواج، غير أن أباه حثه على أن يحافظ على اسم الأسرة. وهكذا تزوج الراهب السابق في 27 يونية سنة 1525 من الراهبة السابقة.

ومنحهما الأمير المختار الدير الأوغسطيني لكي يتخذا منه مقراً لهما ورفع مرتب لوثر إلى 300 جيلدر (7.500 دولار) في العام، ثم زيد هذا المرتب فيما بعد إلى 400، ثم إلى 500. واشترى لوثر مزرعة أدارتها كاتي، وأحبتها وأنجبت له ستة أطفال، وتعهدتهم بالرعاية في اخلاص، ولبت كل احتياجات مارتن المنزلية من معصرة للخمر بالبيت، وبركة للسمك، وحديقة للخضر، وربت له الدواجن والخنازير. وقد أطلق عليها اسم "سيدى كاتي" وأشار بهذا إلى أن في وسعها أن تضعه في موضعه إذا ما نسي خضوع الرجل بيولجياً للمرأة، ومع ذلك فقد كان عليها أن تتحمل الكثير من ثوراته العاصفة بين آن وآخر، وثقته التي تصل إلى حد عدم التبصر، وذلك لأنه كان لا يعبأ قط بالمال، وكان كريماً إلى حد التهور، ولم يتسلم من كتبه حقوق التأليف، على الرغم من أنها عادت بثروة طائلة على ناشريها، وتميط رسائله إلى كاترين أو عنها اللثام عن حبه المتزايد لها، وعن زواج موفق بصفة عامة. ولقد ردت بطريقته الخاصة ما قيل له في شبابه "إن أعظم نعمة يمنحها الله للإنسان زوجة تقية رقيقة، تخشى الله وتحب البيت"(13).

وكان أباً صالحاً يعرف بالفطرة كيف يمزج على أحسن وجه بين التأديب والحب. ويقول: "عاقب إذا لم يكن هناك بد من ذلك ولكن قدم قطعة الحلوى (بونبون) مع العصا"(14) وألف أغنيات لأطفاله، وغناها معهم، وهو يعزف على العود، وتعد خطاباته إلى أطفاله من درر الأدب الألماني.

وإذا كان قد استطاع بقوة شكيمته أن يواجه إمبراطوراً في الحرب، فإن شجاعته قد انهارت بموت ابنته الأثيرة ماجدالينا، وهي في الرابعة عشرة من عمرها، وقال: "إن الرب لم يهب أسقفاً نعمة كبرى في ألف عام كما وهبها لي ممثلة فيها"(15). وكان يتلو الصلوات ليلاً ونهاراً، طالباً لها من الله الشفاء وقال: "رباه إني أحبها كثيراً، ولكن إذا شاءت إرادتك تعالى أن تأخذها، فإني أتخلى عنها لكم عن طيب خاطر"(16). وقال لها: "إبنتي الصغيرة العزيزة لينا، إنكِ تحبين أن تظلي هنا مع أبيكِ. أتريدين أن تذهبي إلى ذلك الأب الآخر؟". فأجابت لينا: "نعم يا أبتاه كما يشاء الله". وعندما قضت نحبها بكاها طويلاً بكاء مريراً، وبينما كانت توسد في الثرى، خاطبها قائلاً كما لو كانت حية ترزق: "أنتِ تحبين وسوف تنهضين وتشرقين كالنجوم والشمس. إنه لأمر غريب أن يعرف الإنسان إنها ترقد في سلام، وإن كل شيء على ما يرام، ومع ذلك يشعر بالأسى والحزن"(17).

ولم يقنع بستة أطفال فآوى في بيته كثير الغرف بالدير أحد عشر يتيماً من أولاد أخيه وأخته، ورباهم، وكثيراً ما جلس معهم إلى المائدة، وتجاذب معهم أطراف الحديث في غير ملل، وحزنت كاترين لاحتكارهم إياه. وأبدى بعضهم ملاحظات جريئة على حديثه معهم حول المائدة. وليس من شك في أن حصيلة 6596 تدوين لأحاديثه تضارع أحاديث جونسن لبوزويل، وأحاديث نابليون المدونة، في الوزن والذكاء اللماح والحكمة.

ويجب علينا عند الحكم على لوثر أن نتذكر أنه لم يعد سلفاً أحاديث المائدة هذه، وقل بين الرجال من تعرض تماماً إلى استراق السمع من البشر، فهنا لا في المجادلات التي كانت في ميدان المعركة اللاهوتية، نجد لوثر في بيته على سجيته. وندرك، أولاً وقبل كل شيء أنه كان إنساناً لا مجرد دواة، وأنه عاش حياته وكتب عنها. ولا يمكن شخص صحيح الجسم أن ينفس على تلذذه بأطايب الطعام وشراب الجعة، أو استمتاعه المثمر بكل المباهج، التي استطاعت كاترين بورا أن توفرها له. ولعله كان حرياً به أن يكون، بدافع الحرص، أكثر تحفظاً في هذه الأمور، ولكن التحفظ جاء مع المتطهرين، ولم يعرفه الإيطاليون في عصر النهضة، ولا الألمان في عهد الإصلاح الديني، بل إننا نجد أن أرازموس الرقيق يصدمنا بحديثه الفسيولوجي الصادق. كان لوثر يأكل بإفراط، ولكنه استطاع ردع نفسه بالصوم الطويل، وكان يفرط في الشراب ولكنه كان يبدي الأسف، ويعد الشرب رذيلة قومية، ومع ذلك فإن الجعة كانت ماء الحياة بالنسبة للألمان، كالنبيذ بالنسبة للإيطاليين والفرنسيين، وكان يمكن أن يكون الماء سماً زعافاً قي تلك الأيام الخوالي، ومع ذلك فإننا لم نسمع قط عن إفراطه في السكر حتى يفقد صوابه، وقال: "إذا كان الله يغفر لي إني صلبته بالقداسات عشرين عاماً مضت، فإنه يستطيع أن يتحملني لأني أتناول شراباً طيب المذاق، من آن لآخر، لكي أكرمه"(18).

وبدت أخطاؤه واضحة للعين والأذن، فقد كان الفخر يشيع وسط تعبيراته الدائمة عن التواضع. وكان عقيدياً ضد العقيدة، مفرطاً في الحماسة لا يبدي أية مجاملة لخصومه، ويتشبث بالخرافات، في الوقت الذي يسخر فيه من الخرافة، ويندد بالتعصب ويمارسه في الوقت نفسه - وهكذا لم يكن قدوة للصلابة أو مثلاً أعلى للفضيلة، ولكنه رجل جمع متناقضات الحياة، وإنسان مزقه بارود الحرب، وقد اعترف قائلاً "لم أكن أتوانى عن الانقضاض على خصومي بلسان حاد، ولكن ما فائدة الملح إذا لم يكن لاذع الطعم؟"(19) وتحدث عن المراسي البابوية، فوصفها بأنها قذارة وروث (20)، وقال عن البابا إنه: "بذرة الشيطان" أو الملازم، ووصفه بأنه خصم للمسيحية، أما الاساقفة فقد نعتهم بأنهم "ديدان" وهراطقة كفرة "وقردة جهلة" وتحدث عن الرسامة الكهنوتية فقال إنها بمثابة دمغ إنسان "بشارة البهيم في سفر الرؤيا"، وقال عن الرهبان إنهم أسوأ من الجلادين أو السفاحين أو على أحسن الفروض "براغيث فوق فراء الرب القادر"(21) ولنا أن نتصور إلى أي حد كان المستمعون إليه يجدون متعة في هذا العبث. وقد قال: "إن الجزء الوحيد من جسم الإنسان الذي اضطر البابا إلى إعفائه من رقابته هو العجز!"(22) وكتب يصور رجال الدين الكاثوليك بقوله: "إن نهر الراين لا يكاد يتسع لكي يغرق فيه كل عصبة المغتصبين الرومانيين الملاعين... كرادلة ومطارنة وأساقفة ورهبان"(23) أو إذا نقص الماء "لعل الله يرضى بأن يرسل عليهم صليباً من النار والكبريت كالذي قضى على سودوم وعمورة"(24)، وهذا يذكر الإنسان بالتعليق الذي صدر من الإمبراطور جوليان: "ليس هناك حيوان مفترس أشد ضراوة من عالم لاهوت غاضب"(25). ولكن لوثر عجب مثل كلايف لاعتداله وقال: "يعتقد الكثيرون إني شديد الشراسة ضد البابوية، ولكني على النقيض من ذلك أشكو من أنني، للأسف لين العريكة إلى حد كبير. وكم أود أن أنفث صاعقة ضد البابا والبابوية، وأن تكون كل ريح صاعقة(36): ولسوف ألعن وأنتهر الأفاقين حتى أثوي في لحدي، ولن ينالوا مني كلمة مهذبة... لأني لا أستطيع أن أصلي دون أن أصب اللعنات في الوقت نفسه. وإذا كنت مدفوعاً إلى أن أهتف "تبارك اسمك" فإنني يجب أن أضيف أن "اسم البابوية ملعون رجيم مغضوب عليه". وإذا كان ثمة ما يدفعني إلى أن أهتف "لتأتي مملكتك" فإني مضطر إلى أن أضيف "البابوية ملعونة، رجيمة، هالكة لا محالة. والحق أني أتلو صلواتي سنوياً على هذا النحو كل يوم وسراً في قلبي دون توقف(27)، وإني لا أعمل أبداً على خير وجه إلا عندما أستلهم الغضب، ذلك أني أستطيع، عندما أكون غاضباً أن أكتب، وأن أصلي، وأن أعظ على خير وجه، لأن مزاجي بأسره يستثار، وإدراكي يزداد حدة"(28)، ومثل هذه العاطفة البلاغية كانت تتفق مع روح العصر. ويعترف الكاردينال جاسكيه العلامة قائلاً: "إن بعض الوعاظ وكتاب الرسالات من طائفة المحافظين كانوا يضارعون لوثر في هذه الناحية"(29). وكان الطعن متوقعاً من المتصارعين في مجال الفكر، ويستطيبه المستمعون، وكان الشك يخامر الناس في أن الأخلاق المهذبة دليل على الجبن. وعندما وجهت زوجة لوثر اللوم إليه بقولها: "أنت فظ للغاية يا زوجي العزيز" - رد عليها مجيباً: "إن الغصن يمكن قطعه بسكين الخبز أما شجرة البلوط فتستلزم الفأس"(30) وإن جواباً ليناً يمكن أن يطفئ سورة الغضب، ولكنه لا يستطيع أن يقلب البابوية رأساً على عقب، وحري بأي إنسان هذب حاشيته الكلام الدمث، أن يتنكب معركة مميتة مثل هذه. وقد اقتضى الأمر جلداً صفيقاً - أغلض من جلد أرازموس - لنبذ الأوامر البابوية والحرمان من غفران الكنيسة وأوامر التحريم الإمبراطوريّة.

واقتضى الأمر أيضاً إرادة قوية، وهذه كانت صخرة القاع بالنسبة إلى لوثر، ومن هنا كانت ثقته بنفسه وعقيدته وشجاعته وتعصبه. ومع ذلك فإنه كان لا يخلو من بعض الفضائل الرقيقة، ففي أواسط عمره كان مثلاً أعلى في الروح الاجتماعية والمرح، ودعامة قوية لكل مَن هم في حاجة إلى العزاء أو العون. ولم يشمخ بأنفه أو يتأنق في ملبسه، ولم ينسَ قط أن أباه كان فلاحاً، واستهجن نشر مجموعة أعماله، وطلب من قرائه أن يدرسوا الكتاب المقدس بدلاً منها، واعترض على إطلاق اسم "لوثرية" على الكنائس التي كانت تتبع زعامته. وعندما كان يعظ كان يحدث سامعيه باللغة التي يفهمونها. وكان لدعابته مسحة ريفية غذ كانت خشنة مرحة متحللة من كل القيود، مثل عذابات "رابيليه"، وقال شاكياً: "إن أعدائي يفحصون عن كثب كل ما أفعل، فإذا ضرطت في فيتنبرج فإنهم يشمون ريح الضرطة في روما"(31). وقال: "ترتدي النساء النقاب بسبب الملائكة، أما أنا فارتدي السراويل بسبب البنات"(32). وليس من شك في أن الكثيرين منا قد أطلقوا مثل هذه الدعابات الساخرة، ولكنهم لم يجدوا مثل هؤلاء الرواة القساة. والرجل الذي تفوه بمثل هذه الدعابات كان يحب الموسيقى وهي هذا الجانب من عبادة الأوثان؛ وهو نفسه الذي ألف لهم أناشيد رقيقة أو عاصفة، وأسلمها - وفي هذا تحامل لاهوتي كان راكداً لحظة من الزمن - إلى أناشيد متعددة الأصوات، استخدمت من قبل في الكنيسة الرومانية، وقال: "لن أتخلى عن موهبتي الموسيقية المتواضعة مقابل أي شيء مهما كان عظيماً... وأنا أرى أنه... ليس هناك فن بعد اللاهوت يمكن أن يضارع الموسيقى، لأنها وحدها بعد اللاهوت تمنحنا... راحة القلب ومسرة الفؤاد"(33).

وأدى به لاهوته إلى أخلاقيات تؤمن باللين، لأنه علمه أن الأعمال الصالحة لا تكسب صاحبها الخلاص إذا لم تقترن بالإيمان بافتداء المسيح للناس، كما أن الخطيئة لا يمكن أن تضيع الخلاص، إذا بقي مثل هذا الإيمان. وكان يرى أن خطيئة ترتكب بين آن وآخر، قد تشجعنا على اجتياز الصراط المستقيم. وعندما سئم رؤية جسد ميلانكتون وهو يذوي من اثر الوساوس الكئيبة حول زلات صغيرة تتعارض مع القداسة، قال له مداعباً في مرح أصيل: "أكثر من الخطايا، فالله لا يغفر إلا لرجل غارق في الخطايا إلى أذنيه"، ولكنه يسخر من المفتي المصاب بفقر الدم(34) ومع ذلك فإن من السخف أن نصدر حكماً على لوثر بالإدارة على اساس هذا المزاح العارض. وثمة أمر واضح في جلاء وهو أن لوثر لم يكن متطهراً وهو يقول: "إن مشيئة الله الحبيب هي أن نأكل ونشرب ونمرح"(35). ويقول: "إني أنشد المتعة وأتقبلها حيثما أجدها ونحن نعلم الآن، ولله الحمد، أننا نستطيع أن نكون سعداء وضمائرنا مرتاحة"(36). ونصح أتباعه بأن يحتفلوا ويرقصوا يوم الأحد. وأقر ألعاب التسلية ولعب الشطرنج، ووصف اللهو بورق اللعب، بأنه تحويل لا ضرر منه للعقول(37)، التي لم تنضج بعد، وقال كلمة حكيمة عن الرقص: "إن الرقصات أعدت لكي تعلم الدماثة بين الصحبة، وتعقد الصداقة والتعارف بين الشبان والفتيات، وهنا يمكن ملاحظة صلاتهم، وترتيب لقاء شريف عابر بينهم، وأنا نفسي لا مانع عندي من حضوري معهم في بعض الأحايين، ولكن الشباب سيكون أقل إمعاناً في الرقص لو أنني فعلت"(38). وأراد بعض الوعاظ البروتستانت تحريم اللهو، ولكن لوثر كان أكثر تسامحاً وقال: "يجب على المسيحيين ألا يعرضوا عن اللهو، لأن فيه أحياناً فظاظة وفحشاً، فما أحراهم، من أجل هذه الأسباب نفسها، أن يتخلوا أيضاً عن الكتاب المقدس"(29).

فإذا نظرنا لكل هذه الاعتبارات، فإن مفهوم لوثر عن الحياة كان صحياً باعثاً على المرح، إلى درجة ملحوظة لإنسان كان يعتقد أن "كل النوازع الفطرية ليست بعيدة عن الرب أو ضده"(40)، "وأن كل تسعة أرواح من عشرة قدر عليها الله أن تخلد في الجحيم"(41). والحق أن الرجل كان خيراً من لاهوته إلى حد كبير.

وكان عقله قوياً وإن غامت عليه إلى حد بعيد روائح عفن شبابه، وصبغته الحرب باللون الأحمر، فحالت بينه وبين التفكير في فلسفة عقلانية. وكان يعتقد، مثل معاصريه، في الغيلان والساحرات والشياطين، وقدرة الضفادع(42) البرية الحية على الشفاء، والكوابيس الخبيثة، التي تبحث عن العذارى في حمّاماتهن أو في مخادعهن، وتفزعهن ويدفعن بهن إلى الأمومة(43). وسخر من التنجيم، واستخدم مع ذلك في حديثه اصطلاحاته أحياناً، وامتدح الرياضيات، من حيث أنها "تعتمد على الأدلة والبراهين الثابتة"(44)، "وأعجب بما توصل إليه الفلك في جرأة في مجال النجوم، ولكنه، شأنه في هذا شأن جميع معاصريه، رفض النظام الكوبرنيقي في الفلك، باعتباره مناقضاً للكتاب المقدس، وأصر على أن العقل يجب أن يلزم الحدود التي وضعتها له العقيدة الدينية.

وليس من شك في أنه كان محقاً في حكمه الذي يذهب إلى أن الشعور، وليس الفكر، هو عصا الميزان بالنسبة للتاريخ، فالناس الذين يصوغون الأديان يحركون العالم، أما الفلاسفة فإنهم، جيلاً بعد جيل، يغلفون بعبارات جديدة الجهل الفائق للجزء ينصب نفسه حبراً على الكل. وعلى هذا فإن لوثر كان يصلي، بينما كان أرازموس يفكر تفكيراً منطقياً. وبينما كان أرازموس يتملق الأمراء، كان لوثر يخاطب الرب - وقتذاك في كبرياء امرئ، خاض بعزم، معارك في سبيل الرب، فأصبح له الحق في أن يسمع وقتذاك كطفل ضل في فضاء لا نهاية له، وكان واثقاً أن الرب يقف في جانبه، فواجه عقبات يصعب التغلب عليها وانتصر. وقال: "إني أحتمل حقد العالم بأسره، ومقت الإمبراطور والبابا وكل بطانتهم. حسن باسم الرب إلى الأمام!"(45) وكان لديه من الشجاعة ما يكفي لأن يتحدى أعداءه، فلم يكن يدور بخلده ما يدفعه للشك في صدقه. كان يعتقد أن عليه أن يفعل ما ينبغي عليه أن يفعل.


الهراطقة المتعصبون

إن من المفيد ملاحظة كيف انتقل لوثر من التسامح إلى العقيدة بازدياد قوته ويقينه. ومن بين "الأخطاء"، التي اتهم بها البابا ليو العاشر في منشوره Exsurge Domine لوثر، أنه قال: "إن حرق الهراطقة مخالف لإرادة الروح القدس" وفي خطاب مفتوح إلى طبقة النبلاء المسيحيين (1520) نصب لوثر "كل رجل قساً"، وأعطاه الحق في أن يفسر الكتاب المقدس، وفق حكمه الخاص، وفي ضوء فهمه الشخصي(46)، وأضاف قائلاً: "يجب أن نقهر الهراطقة بالكتب لا بالإحراق"(47) وفي مقال له بعنوان عن السلطة الزمنية (1522) كتب يقول: إن الله هو المتصرف في الروح ولن يسمح لأحد سواه أن يسيطر عليها. ونحن نود أن نجعل هذا واضحاً جلياً، بحيث يفهمه كل إنسان، ولطي يرى نبلاؤنا وأمراؤنا وأساقفتنا إلى أي حد تبلغ حماقتهم، عندما ينشدون إكراه الناس... على الإيمان بشيء أو بآخر... لأن الإيمان أو الكفر مسألة ترجع إلى ضمير كل إنسان... إن السلطة الزمنية يجب أن تقنع بالالتفات إلى شئونها الخاصة، وأن تسمح للناس بأن يؤمنوا بشيء أو بآخر حسبما يستطيعون، وكما يشاءون، وألا تكره أحداً على شيء بالقوة، لأن الإيمان عمل يتم بحرية ولا يكره عليه أحد... والإيمان والهرطقة لا يشتدان إلا عندما يعارضهما الناس بالقوة الغشوم، بلا سند من كلمة الله(48). وفي خطاب بعث به لوثر إلى الأمير المختار فردريك (21 أبريل سنة 1524) طلب منه التسامح مع منتسر وآخر من أعدائه. وقال له: "يجب ألا تمنعهما من الكلام، يجب أن تكون هناك طوائف ويجب أن تتعرض كلمة الله لمعركة... دعنا نترك بين يديه تعالى الصراع، ونطلق الحرية لصدام العقول". وبينما كان الآخرون يدافعون. وفي عام 1528 عندما كان الآخرون يدافعون عن عقوبة الإعدام للامعمدانيين أشار بأنه لم يثبت عليهم الشغب فإنه يجب أن يكتفي بنفيهم.

وعلاوة على هذا فإنه أوصى في عام 1530 بأن تخفف العقوبة على جريمة الكفر من الإعدام إلى النفي. حقاً أنه تحدث في هذه السنوات الحرة كما لو كان يتمنى من أتباعه ومن الله أن يغرقوا البابويين جميعا، أو يتخلصوا منهم، بيد أن هذا كان مجرد "حملة خطابية"، لم يكن يقصدها بصفة جدية. ولقد كتب في يناير عام 1521: "لست أريد أن يدافع أحد عن الإنجيل بالعنف أو القتل"، وفي شهر يونية من ذلك العام وجه اللوم للطلبة في أرفورت، لأنهم هاجموا القساوسة، ومهما يكن من أمر فإنه لم يعارض في "تخويفهم" قليلاً لتحسين لاهوتهم(50). وفي مايو عام 1529 أدان خططاً، أعدت لتحويل الأبرشيات الكاثوليكية عنوة إلى البروتستانتية، وفي أواخر عام 1531 أخذ يلقن الناس "نحن لا نستطيع ولا يجب أن نكره أي إنسان على اعتناق العقيدة"(51).

ولكن من الصعب على رجل يمتاز بخلق متين وإيجابي مثل لوثر أن يدافع عن التسامح، بعد أن أصبح مركزه آمناً إلى حد ما. فرجل مثله، على يقين من أنه يحمل كلمة الله، لم يكن بوسعه أن يتسامح فيما يتناقض معها. وكان التحول إلى التعصب أسهل فيما يختص باليهود. فحتى عام 1537 كان لوثر يرى، أن من الواجب أن يغتفر لهم احتفاظهم بعقيدتهم الخاصة، "ما دام الأغنياء من بابواتنا وأساقفتنا والسفسطائيين من فلاسفتنا ورهباننا، هؤلاء الأجلاف الحمقى، تعاملوا مع اليهود، بأسلوب يدفع أي مسيحي إلى أن يفضل أن يكون يهودياً. والحق أني لو كنت يهودياً، ورأيت مثل هؤلاء المعتوهين والحمقى يشرحون معنى المسيحية، لآثرت أن أكون خنزيراً لا مسيحياً... وأنا أود أن أنصح كل امرئ وأرجوه أن يعامل اليهود برفق، وأن يفقههم الكتاب المقدس، وبوسعي أن أتوقع في هذه الحالة أن يجيئوا إلينا زرافات ووحداناً"(52). ولعل آرثر قد أدرك أن البروتستانتية كانت في بعض مظاهرها عودة إلى الدين اليهودي، وذلك في رفضها للرهبانية والعزوبة المفروضة، على رجال الكهنوت، وتشديدها على العهد القديم والأنبياء والمزامير، وتبنيها (باستثناء لوثر نفسه) لأخلاقيات جنسية أشد صرامة مما تتطلبه الكاثوليكية. وقد خاب أمله عندما لم يقم اليهود بحركة مماثلة نحو البروتستانتية، وساعده عداؤه لتقاضي فائدة على أن ينقلب ضد مقرضي الأموال من اليهود، ثم ضد اليهود بصفة عامة، وعندما نفى جون الأمير المختار اليهود من ساكسونيا (1537)، رفض لوثر التماساً يهودياً للتوسط في الأمر. وفي كتابه حديث المائدة جمع بين "اليهود والبابويين" ووصفهم بأنهم تعساء كفرة... "وأن الطائفتين جوربان صنعا من قطعة قماش واحدة"(53). واستغرق في سنواته الأخيرة في نوبة غضب جامح ضد السامية، وندد باليهود، ووصفهم بأنهم "أمة من أناس غلاظ كفرة متكبرين خبثاء ممقوتين" وطالب بإشعال النار في مدارسهم وهياكلهم حتى تتقوض دعائمها، وقال:

ودعوا كل مَن يستطيع أن يلقي عليهم كبريتاً وزفتاً، وإذا كان في وسع أحد أن يقذفهم بوابل من نار جهنم، فإنه يحسن صنعاً لو فعل هذا... وهذا ما يجب عمله كرامة لربنا وللمسيحية، حتى يرى الله أننا مسيحيون حقاً. ولتحطم بيوتهم وتدمر أيضاً... ولتنتزع منهم كتب صلواتهم وتلمودهم وكتابهم المقدس بأسره أيضاً، وليحرم على حاخاماتهم أن يلقنوا الناس تعاليمهم بعد ذلك من الآن فصاعداً، وإلا عوقبوا بالإعدام، ولتغلق في وجوههم الشوارع والطرق العامة، وليحرم عليهم الاشتغال بالربا، ولتؤخذ منهم كل أموالهم وكل ما يكنزون من الذهب الفضة، ولتوضع في الحفظ والصون. وإذا لم يكفِ هذا كله فليطردوا من البلاد كما لو كانوا كلاباً مسعورة(54). ولم يحدث قط أن غلبت الشيخوخة على لوثر، ففي عام 1522 كان لا يزال متحدياً للبابوات وكتب يقول: "إني لا أقبل أن يحكم على عقيدتي أحد حتى لو كان من الملائكة، وكل مَن لا يتلقى عقيدتي بالقبول لن يستطيع الخلاص"(55). وما أن حل عام 1529 حتى استخلص فروقاً دقيقة بين العقيدتين وقال:

"لا يجوز إكراه إنسان على اعتناق عقيدة، ولكن ليس لأحد أن يلحق بها ضرراً. فليقدم خصومنا ما لديهم من اعتراضات، وليستمعوا إلى ردودنا، فإذا ما اهتدوا فيها ونعمت، وإذا لم يفعلوا فليمسكوا ألسنتهم ويؤمنوا بما يشاءون... ولكي نتجنب المتاعب يجب، إذا أمكن، إلا نعاني من التعاليم المتناقضة في نفس الولاية ويجب أن يكره الجميع بما فيهم الكفار على الامتثال على الوصايا العشر وحضور الصلاة في الكنيسة، والتلاؤم معها في ظاهر السلوك(56).

وهكذا اتفق لوثر وقتذاك مع الكنيسة الكاثوليكية في أن المسيحيين في حاجة إلى يقين ثابت ومذاهب محددة، وإلى كلمة الله الحقة، التي يستطيعون أن يحيوا بها ويموتوا عليها، ولما كانت الكنيسة في القرون الأولى من المسيحية قد انقسمت وضعفت بكثرة الطوائف الجامحة، فقد أحست بأنها مضطرة إلى تحديد عقيدتها، وإقصاء كل المخالفين لها، ولهذا فإن لوثر، وقد راعه وقتذاك تنوع الطوائف المتنازعة، التي نبتت من بذرة الحكم الخاص، انتقل خطوة خطوة من التسامح إلى التعصب المذهبي، وقال شاكياً: "إن كل الناس الآن متأهبون لانتقاد الإنجيل، فكل أحمق مأفون تقريباً أو كل سفسطائي مهرف، يجب أن يكون، حقاً، دكتوراً في اللاهوت". وآلمه ما وجهه إليه الكاثوليك من نقد جارح بأنه أطلق عقال فوضى، لا تجد مَن يكبح جماحها، في العقائد والأخلاقيات، وانتهى في الرأي مع الكنيسة إلى أن النظام الاجتماعي في حاجة إلى شيء من حسم المناقشة، وشيء من السلطة المنظمة، ليخدمها باعتبارها مرساة للعقيدة" فكيف يجب أن تكون هذه السلطة؟ على هذا السؤال أجابت الكنيسة بأن هذه السلطة هي الكنيسة نفسها لأن الكائن الحي وحده هو القادر على تعديل نفسه وكتبه المقدسة إلى صورة مغايرة لا مفر منها، وقال لوثر: "لا، إن السلطة الوحيدة والأخير يجب أن تكون الكتاب المقدس، مادام الجميع يسلمون بأنه كلمة الله".

وفي الإصحاح الثالث عشر من سفر التثنية من هذا الكتاب المنزه عن الخطأ وجد أمراً صريحاً يزعمون أنه صدر من فم الرب، وهو يقضي بإعدام الهراطقة: "إياك أن تشفق عينك عليه وإياك أن تخفيه". حتى لو كان "أخاك أو ابنك أو زوجتك في حضنك... ولكنك يجب أن تقتله لا محالة، ويجب أن تكون يدك هي أول يد تنفذ فيه حكم الإعدام". وعلى أساس تلك الرخصة الرهيبة، تصرفت الكنيسة في إبادة طائفة الإلبيجنسن في القرن الثالث عشر، وكانت تلك اللعنة الإلهية بمثابة شهادة معتمدة لما



 صفحة رقم : 8364   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر وأرازموس -> الهراطقة المتعصبون


قامت به محاكم التفتيش من إحراق. وعلى الرغم مما اتسم به حديث لوثر من عنف، فإنه لم يصل قط إلى درجة القسوة التي عاملت بها الكنيسة مَن يخالفونها في الرأي، ولكنه سار قدماً في نطاق وحدود سلطته، لإقحامها سلمياً بقدر ما استطاع. وفي عام 1525 استعان بلوائح موجودة خاصة بالرقابة في ساكسونيا وبراندنبرج لسحق "العقائد الخبيثة" التي يعتنقها اللامعمدانيون وأنصار زونجلى، وفي عام 1530 نصح، في تفسيره للمزمور الثاني والثمانين، الحكومات بإعدام كل الهراطقة، الذين ينادون في عظاتهم بإثارة الشغب، أو مناهضة الملكية الخاصة، وقال: "إن هؤلاء الذين يعارضون في تعاليم مادة واضحة في العقيدة... مثل المواد التي يحفظها الأطفال عن العقيدة، كالمادة التي تقول "إذا نادى أي واحد في تعاليمه بأن المسيح ليس إلهاً بل مجرد إنسان"(60). ورأى سباستيان فرانك أن هناك حرية في التعبير عن الرأي والعقيدة بين الأتراك أكثر مما يوجد في الولايات اللوثرية، وانضم ليوجد من أنصار زونجلى إلى كارلشتادت في وصف لوثر بأنه بابا آخر. ومهما يكن من أمر فإننا يجب أن نلاحظ أن لوثر عاد إلى سابق شعوره بالتسامح في أخريات أيام حياته. ولقد نصح في آخر عظة له بالتخلي عن كل المحاولات للقضاء على الهرطقة عنوة، وقال: "يجب تحمل الكثالكة واللامعمدانيين في صبر حتى يوم القيامة، عندما يتولى أمرهم المسيح"(61).

وقد صارع مصلحون دينيون آخرون لوثراً، وفاقوه في مطاردة الهراطقة فقد حث بوسر الستراسبورجي السلطات المدنية في الولايات البروتستانتية على إبادة كل مَن يعتنق ديناً "زائفاً"، وقال: "إن مثل هؤلاء الناس أسوأ من القتلة، وأنه يجب القضاء حتى على زوجاتهم وأولادهم وماشيتهم"(63)، وقبل ميلانكتون، الرقيق الحاشية نسبياً، أن يرأس التفتيش العلماني الذي قمع حركة اللامعمدانيين في ألمانيا بالسجن أو الموت. وتساءل قائلاً: "لماذا نشفق على أمثال هؤلاء الناس أكثر من الله؟". ذلك لأنه كان مقتنعاً بأن الله قد قضى على كل اللامعمدانيين بعذاب جهنم(63). وأوصى باعتبار رفض تعميد الطفل، أو رفض الخطيئة الأصلية، أو عدم الأيمان بالوجود الحقيقي للمسيح في القربان المقدس، جرائم تستحق أن يعاقب عليها بالإعدام(64). وأصر على عقوبة الموت لكل طائفي يعتقد أن الكفرة قد يظفرون بالخلاص، أو لكل مَن يشك في أن الإيمان بأن المسيح يمكنه، باعتباره الذي كفّر عن خطايا البشر، أن يغير آثماً بفطرته إلى رجل من الأبرار(65). وهلل، كما سوف نرى، لإعدام سيرفيتوس. وطالب الحكومة بأن تجبر كل الناس على حضور الصلوات الدينية البروتستانتية بانتظام(66). وطالب بالقضاء على كل الكتب، التي تعارض أو تعوق انتشار التعاليم اللوثرية، وعلى هذا فإن كتابات زونجلى وأتباعه وضعت رسمياً في قائمة الكتب الممنوعة في فيتنبرج(67)، وبينما كان لوثر ينفي الكثالكة من المناطق التي يحكمها الأمراء اللوثريون، آثر ميلانكتون توقيع العقوبات البدنية، واتفق الاثنان في الرأي بأن السلطة المدنية مرتبطة بواجب نشر "شريعة الرب" ورفع شأنها. أي رفع شأن مذهب لوثر(68). ومهما يكن من أمر فإن لوثر أشار بأنه حيث توجد طائفتان في ولاية فإن الأقلية يجب أن تخضع للأغلبية: ففي إمارة تغلب عليها الكثلكة يجب على البروتستانت أن يخضعوا ويهاجروا، وفي مقاطعة ترجح فيها كفة البروتستانت يجب على الكثالكة أن يخضعوا ويرحلوا، وإذا قاوموا فإنهم يجب أن يعاقبوا بشدة(69). وقبلت السلطات البروتستانتية، وهي في هذا قد حذت حذو السوابق الكاثوليكية، الالتزام بالحفاظ على المواءمة الدينية. وأصدر مجلس المدينة في أوجسبورج (18 يناير سنة 1537)، مرسوماً يحرم العبادة الكاثوليكية ويقضي بنفي كل مَن لا يقبل اعتناق العقيدة الجديدة، بعد ثمانية أيام.

وبعد انقضاء هذه المهلة من العفو بعث المجلس بالجند للاستيلاء على كل الكنائس والأديرة، وأزيلت كل المذابح والتماثيل، وأقصي كل القساوسة والرهبان والراهبات. وأصدرت(70) فرانكفورت - الواقعة إلى الماين - قانوناً مماثلاً، وانتشرت موجة الاستيلاء على ممتلكات الكنيسة الكاثوليكية، وتحريم إقامة الصلوات الكاثوليكية في الولايات التي يسيطر عليها البروتستانت(71)، وانتهج البروتستانت فرض رقابة على المطبوعات وكانت قد فرضت فعلاً في مناطق كاثوليكية، وعلى هذا أصدر جون الأمير المختار في ساكسونيا، بناء على طلب لوثر وميلانكتون، (عام 1528) منشوراً يحرم نشر أو بيع أو قراءة الأدب الزونجلي أو اللامعمداني، أو التبشير بعقائدهما أو تعليمهما وجاء فيه: "على كل مَن يعلم بحدوث شيء من هذا، أو قيام أي أحد بعمله، سواء أكان أجنبياً أو من المعارف، أن يبلغ إلى... الحكام في هذا المكان لكي يلقى القبض على الآثم ويعاقب في الوقت المناسب... وهؤلاء الذين يعلمون بارتكاب مخالفات لهذا الأمر... ولا يقومون بالإبلاغ عنها، يعاقبون بالإعدام أو مصادرة ممتلكاتهم"(72).

وتبنى البروتستانت سياسة الحرمان من غفران الكنيسة والرقابة أيضاً مقتدين في هذا بالكثالكة. وأعلن حزب أوجسبورج عام 1530 حق الكنيسة اللوثرية في حرمان كل عضو يرفض الاعتراف بعقيدة لوثرية أساسية(73) من غفران الكنيسة. وقال لوثر مفسراً: "على الرغم من أن الحرمان من غفران الكنيسة في البابوية قد أسيء استعماله بطريقة مخجلة، وجعل منه البابويون مجرد تعذيب للناس فإننا يجب أن نعاني منه حتى نكفر، ولكن يجب أن نحسن استخدامه كما أمر المسيح"(74).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

العلماء الإنسانيون والإصلاح الديني

إن العقيدة المتعصبة للمصلحين الدينيين، وعنف كلامهم وتشيعهم الطائفي واحتقارهم، وتدميرهم للفن الديني، ولاهوتهم القائل بالجبر قضاء وقدراً وعدم اكتراثهم بالتعليم الدنيوي وتأكيدهم المتجدد للشياطين والجحيم، وتركيزهم على الخلاص الشخصي في حياة بعد القبر، كل هذه شاركت في تنفير علماء الإنسانيات من الإصلاح الديني، فقد كان المذهب الإنساني ردة وثنية إلى الثقافة الكلاسية، أما البروتستانتية فقد كانت عودة تتسم بالورع إلى أوغسطين الحزين، إلى المسيحية الأولى، بل إلى الدين اليهودي في العهد القديم، وتجدد النضال بين الهلينية والعبرية. وكان علماء الإنسانيات قد أحرزوا تقدماً ملحوظاً داخل حظيرة الكاثوليك وقبضوا على زمام البابوية في شخص نيكولاس الخامس وليو العاشر، ولم يتسامح معهم البابوات فحسب، بل إنهم أسبغوا عليهم حمايتهم، وعاونوهم على استرداد الكنوز الضائعة من الأدب والفن الكلاسيين، وكل هذا على أساس الفهم الضمني بأن كتاباتهم سوف توجه، فرضاً باللاتينية، إلى الطبقات المتعلمة، ولن تهدم العقيدة الكاثوليكية عند الناس.

ووجد علماء الإنسانيات، وقد أزعجهم وقتذاك هذا الاتفاق الودي المريح، أن أوروبا التيتونية كانت أقل مبالاة بهم وبثقافتهم الأرستقراطية منها بالحديث الحار عن الروح للوعاظ الجدد الذين يتكلمون باللغة الوطنية، والذي يدور حول الرب والجحيم والخلاص الفردي. وسخروا من كل المناقشات المتحمسة التي ثارت بين لوثر وإيك، وبين لوثر وكارلشتادت، وبين لوثر وزونجلى، باعتبارها معارك حول نتائج، اعتقدوا أنه قضي عليها منذ عهد بعيد، أو انطوت في غمار النسيان برقة. ولم يستسيغوا اللاهوت وأصبحت السماء والجحيم أساطير بالنسبة إليهم، وأقل حقيقة من ميثولوجيا اليونان وروما. ورأوا أن البروتستانتية خيانة لعصر النهضة، وأنها كانت تستعيد كل المذاهب الفوق الطبيعية واللاعقلية والشيطانية التي رانت بالظلام على عقلية القرون الوسطى، وقد شعروا بأن هذا لم يكن تقدماً، بل رجعية... كان إخضاعاً من جديد للعقل المتحرر لسيطرة الأساطير البدائية للسوقة. واستاءوا من طعن لوثر للعقل ومن تمجيده للعقيدة كما كان يعرفها البطارقة أو الحكام من البروتستانت. وماذا بقي للإنسان من تلك الكرامة التي كان بيكو دلا ميراندولا قد وصفها بمثل هذا النبل، إذا كان كل شيء حدث على ظهر الأرض - كل بطولة وكل تضحية، وكل تقدم في أدب السلوك الإنساني يستحق الذكر - مجرد عمل آلي، قام به أناس عاجزون تافهون، لتحقيق ما سبق في علم الله، وتنفيذ أوامره التي لا نعرفها؟. وليس من شك في أن علماء الإنسانيات الذين افتقدوا الكنيسة، وإن كانوا لم يتركوها قط - وينفي لينج وبياتوس رينانوس وتوماس مورنر وسيباستيان برانت - قد سارعوا وقتذاك إلى الإعراب عن ولائهم.

وابتعد عن لوثر كثير من علماء الإنسانيان الذين هللوا لصورة لوثر الأولى باعتبارها إصلاحاً شاملاً لظلم مخجل، وذلك كلما تشكل اللاهوت والجدل الديني للبروتستانت. وها هو فيليبالد بيركهايمر وهو هليني وسياسي، كان قد أيد لوثر علناً، حتى أنه حرم من غفران الكنيسة في المسودة الأولى للمنشور Exsurge Domine راعه عنف كلام لوثر وقطع صلته بالثورة، وفي عام 1529 وبينما كان لا يزال ينتقد الكنيسة كتب يقول:

"لا أنكر أن كل أعمال لوثر لم تبد عبثاً في مبدأ الأمر، مادام لا يوجد رجل صالح يستطيع أن يرضى عن كل تلك الأخطاء والضلالات التي تراكمت، تدريجياً في المسيحية. وعلى هذا فإني كنت أرجو أنا وآخرون أن يستخدم دواء ما لمثل هذه الآفات العظيمة، ولكني كوفئت بخديعة قاسية، لأنه قبل استئصال شأفة الأخطاء الآنفة الذكر، تسللت أخطاء لا تغتفر أشد جسامة، إذا قورنت بها الأولى، فإنها تبدو من قبيل عبد الأطفال... لقد وصلت الأمور إلى معبر دفع الأفاقين الإنجيليين إلى إظهار زملائهم البابويين، وهم يرتدون مسوح الفضيلة... ولابد أن لوثر بلسانه اللاذع، الذي لا يعرف الخجل، قد انزلق إلى الخبل أو استلهم الشيطان"(75). ووافق موتيانوس على هذا وكان قد حيى لوثر ووصفه بأنه "نجم الصباح في فيتنبرج" وسرعان ما شكا من أن لوثر "تعتريه لوثة مجنون"(76) أما كروتوس روبيانوس، الذي كان قد مهد الطريق للوثر بـ "خطابات من أناس مغمورين" فإنه فر عائداً إلى حظيرة الكنيسة عام 1521. وأرسل رويخلين إلى لوثر خطاباً رقيقاً، ومنع إيك من إحراق كتب لوثر في أنجولشتادت، ولكنه ندد بابن أخيه ميلانكتون، لأنه تبنى اللاهوت اللوثري ومات بين ذراعي الكنيسة. وأما جوهانس دوبينيك كوكلايوس فقد ناصر لوثر في مبدأ الأمر، ثم انقلب عليه في عام 1522، وبعث له برسالة أنبه فيها قائلاً.

"هل تظن أننا نريد العفو أو الدفاع عن آثام رجال الدين وشرهم؟ نسأل الله النجاة؟ إننا لنفضل أن نستأصل شأفتهم، مادام هذا يمكن أن يتم بطريقة مشروعة... ولكن المسيح لا يعلمنا مثل هذه الطرق التي تعمل بها على تلك الصورة المؤذية مع خصم المسيح" و"مواخير" و "أعشاش الشيطان" و "بالوعات" وألفاظ سب أخرى لم يسمع بها أحد من قبل فما بالك بالتهديدات بالضرب بالسيف وسفك الدماء والقتل يا لوثر! إن المسيح لم يعلمك قط هذه الطريقة في العمل"(77).

ولعل علماء الإنسانيات في ألمانيا قد نسوا بذاءة أسلافهم الإيطاليين - فيليلفو وبوجيو وكثيرين غيرهما - تلك البذاءة جعلت لوثر يسارع بأن يشرع قلمه المتمرد العنيد. ولكن أسلوب لوثر في العراك لم يكن إلا سطحاً لاتهامهم. ولاحظوا - كما لاحظ لوثر - فساد الأخلاق والسلوك في ألمانيا، وعزوا ذلك إلى تفكك السلطة الكهنوتية وإسقاط اللوثريين "للأعمال الصالحات"، باعتبارها مبرراً للخلاص. وساءهم انتقاص البروتستانت للتعليم ومساواة كارلشتادت بين العلامة التحرير وبين الفلاح، وتهون لوثر من شأن التضلع في العلم والحصافة، وأعرب أرازموس عن الرأي العام لعلماء الإنسانيات. وهنا سلم ميلانكتون(78) بهذا الرأي في حزن - وهو يذهب إلى أنه حيث تنتصر اللوثرية ينحط شأن الآداب (أي التعليم والأدب)(79). ودفع البروتستانت هذه التهمة بقولهم إن هذا يرجع إلى أن التعليم بالنسبة لعالم الإنسانيات يعني، أولاً وقبل كل شيء، دراسة الكلاسيات الوثنية والتاريخ الوثني. وشغلت الكتب والمجلات في المجادلات الدينية الذهن والمطابع في ألمانيا وسويسرة مدة جيل بأسره، حتى فقد كل شيء آخر من أشكال الأدب (غير الهجو) تقريباً جمهوره. ووجدت دور النشر مثل دار فروبن للنشر في بازيل والاطلانسي في فيينا عددا قليلاً من المشترين للمؤلفات العلمية التي أصدرتها وكلفتها غالياً، حتى أشرفت على الإفلاس(80) وحجب تعصب المنافسين النهضة الألمانية الفتية، ووصل مسار مسيحية عصر النهضة نحو التوفيق بينها وبين الوثنية إلى نهايته.

وظل بعض علما الإنسانيات مثل أيوبان هيس واورلريخ فون هوتن مخلصين للإصلاح الديني، وانتقل هس من موقع إلى موقع معاد إلى ارفورت ليجد أن الجامعة قد هجرها روادها. ومات وهو يقرض الشعر في مابورج (1540) وهرب هوتن، بعد سقوط سيكنجن، إلى سويسرة، ولجأ إلى السرقة للحصول على طعامه، وهو في الطريق(81)، وبحث عن ارازموس في بازيل (1522)، وهو يعاني من المرض والخصاصة، على الرغم من أنه كان قد دمغ علناً عالم الإنسانيات بأنه جبان، لأنه لم ينضم إلى المصلحين الدينيين(82). ورفض أرازموس أن يراه وزعم أن موقده لا يصلح لتدفئة عظام هوتن. ونظم الشاعر الآن قصيدة بعنوان "تحذير" ندد فيها بأرازموس ووصفه بأنه زنديق مارق، يفرق كفرخ الدجاج، ووعد بأن يمسك عن نشرها إذا دفع له أرازموس، ولكن أرازموس خيب ظنه، وحث هوتن على التزام جانب الحكمة وتسوية خلافاتهما سلميا، غير أن هوتن كان قد سمح بتداول النسخة الخطية لقصيدته الهجائية بين الخاصة، ووصل ذلك إلى علم أرازموس ودفعه هذا إلى الانضمام إلى رجال الدين في بازيل في طلبهم بإلحاح من مجلس المدينة إقصاء الهجاء الحانق، وبعث هوتن بقصيدته "تحذير" إلى المطبعة وانتقل إلى مولهاوس. وهناك تجمع حشد من الغوغاء. وهاجم البيت الذي لاذ به، ففر مرة أخرى، وقبض عليه زونجلى في زيورخ (يونية 1533)، وقال المصلح الديني وهو هنا كريم خير أكثر من عالم الإنسانيات "انظروا... إلى هذا المخرب، انظروا إلى هوتن الرهيب، الذي نراه مغرماً جداً بالناس وبالأطفال؛ إن هذا الفم الذي تهم منه أعاصير على البابا لا ينفث غير الرقة والطيبة"(83). وفي غضون ذلك رد أرازموس على "تحذير" في رسالة كتبها على عجل وعنوانها Spongia Erasmi advrsus aspergimes Hutteni، (أي إسفنجة أرازموس على مطاعن هوتن) وكتب إلى مجلس المدينة في زيورخ محتجاً على "أكاذيب" هوتن التي تحدث بها عنه وأوصى بنفي الشاعر(84). ولكن هوتن كان يحتضر وقتذاك، فقد أنهكته حرب الأفكار وأتلف الزهري صحته وأطلق زفرته الأخيرة (29 أغسطس سنة 1523) فوق جزيرة في بحيرة زيورخ، بالغاً من العمر خمساً وثلاثين عاماً، وهو لا يملك من حطام الدنيا سوى ملابسه وقلمه.


أرازموس: حاشية على آرائه (1517 - 36)

إن رد الفعل عند أرازموس بالنسبة إلى الإصلاح الديني يثير مناقشة حامية بين المؤرخين والفلاسفة. ترى أية طريقة خير للبشرية - هجوم لوثر المباشر على الكنيسة أم سياسة أرازموس التي تعتمد على المصالحة السلمية والإصلاح الديني على درجات؟ إن الإجابات تكاد تحدد نمطين من الشخصية: هما المحاربون "ذوو العقول الجامدة" الذين يعتصمون بالعمل والإرادة، والمهادنون "ذوو العقول المرنة في الفكر والشعور". لقد كان لوثر رجل عمل أساساً. وكانت أفكاره قرارات وكتبه أفعالاً. وكان تفكيره في مضمونه لا يختلف عن تفكير رجال القرون الوسطى الأولى، ولكنه في النتيجة يشبه تفكير المحدثين الأوائل، ولقد عاونت شجاعته وحسمه للأمور القومية أكثر من لاهوته على تأصيل العصر الحديث. وكان لوثر يتحدث بلهجة ألمانية قوية، تنبض بالرجولة إلى الشعب الألماني، فأثار أمّةً ودفعها إلى القضاء على سلطة دولية، أما أرازموس فكان يكتب بلغة لاتينية رشيقة رقيقة لجمهور دولي، إلى صفوة عالمية من خريجي الجامعات. وكان شديد الحساسية لا يصلح لأن يكون رجل عمل، يمتدح السلم ويتوق إليه، بينما كان لوثر يشهر الحرب ويجد فيه متعة. كان إماماً في الاعتدال، يستهجن التطرف والمغالاة... وهرب من ميدان العمل إلى ميدان الفكر، ومن اليقين المتسم بالتهور إلى الشك المنطوي على الحذر، وعرف الكثير ليرى أن الحق أو الخطأ ليسا جميعاً في جانب واحد، ورأى الجانبين كليهما، وحاول أن يوفق بينهما فسحق في وسطهما. وصفق لمقالات لوثر، وأرسل في مارس عام 1518 نسخاً منها إلى كوليه ومور، وكتب إلى كوليه يقول: "إن المحكمة الرومانية قد كشفت عن وجهها برقع الحياء. أي شيء يفوق في القحة صكوك الغفران هذه؟"(85) وكتب في أكتوبر إلى صديق آخر يقول:

"سمعت أن لوثر يتفق معه في الرأي كل الناس الصالحين، وإن قيل إن كتاباته ليست كلها في مستوى واحد. وأعتقد أن هذه المقالات سوف يرضى عنها الجميع، اللهم إلا قلة ضئيلة لا تتفق معه في رأيه حول المطهر، الذي يعتمدون عليه في كسب عيشهم، ولا يريدون أن ينتزع من أيديهم... وأنا أدرك أن الحكومة الملكية للكاهن الأعظم الروماني (وهذا حل تلك الحكومة البابوية الآن) هي وباء يجتاح العالم المسيحي، على الرغم من أن وعاظاً يفتقرون إلى الحياء يمتدحونها في كل الظروف، ومع ذلك فإني لا أكاد أعرف هل من اللائق أن أمس هذا القرح المكشوف، لأن هذا فرض واجب على الأمراء، ولكني أخشى أن يتآمروا مع الحبر الأعظم للحصول على قدر من الغنائم"(86). وعاش أرازموس الجانب الأكبر من حياته وقتذاك في لوفان، وأسهم في تأسيس Collegium Trilingue قي الجامعة، بكراسي أستاذية في اللاتينية واليونانية والعبرية، وفي عام 1519 منحه شارل الخامس معاشاً، فاشترط أرازموس لقبوله أن يحتفظ باستقلاله جسداً وعقلاً، ولكنه إذا كان بشراً، فإن هذا المعاش، مضافاً إليه ما كان يتلقاه من كبير أساقفة وارهام ولورد ماونتجوي، قد قام بدور ما في صياغة موقفه نحو الإصلاح الديني.

وفي الوقت الذي جاوزت فيه ثورة لوثر مرحلة نقد بيع صكوك الغفران إلى رفض الاعتراف بالبابوية والمجالس الدينية، تردد أرازموس، فقد كان يأمل أن تتقدم عجلة إصلاح الكنيسة بالالتجاء إلى الإرادة الواعية للبابا ذي النزعة الإنسانية. كان لا يزال يجل الكنيسة باعتبارها (خيل إليه هذا) مؤسسة للنظام الاجتماعي والأخلاق الفردية لا بديل عنها، وعلى الرغم من اعتقاده أن لاهوت المحافظين قضى عليه ما تخلله من لغو، فإنه كان لا يثق بحكمة الإفتاء الفردي أو الشعبي لتطوير شعيرة أو عقيدة أكثر نفعاً، ذلك أن رجاحة العقل لا تتأتى إلا عن طريق تقطر الاستنارة العقلية، من الفئة القليلة المتفقهة، إلى الكثرة الغالية. وأقر بأنه كان له دور في تمهيد الطريق أمام لوثر، فقد كانت رسالته "الثناء على الطيش"، التي كان يتداولها وقتذاك الآلاف من القراء في أرجاء أوروبا، تسخر من الرهبان والمشتغلين باللاهوت، وتشدد من لذع خطابات لوثر المقذعة الجافية، وعندما اتهمه الرهبان المشتغلون باللاهوت بأنه وضع البيضة التي فقست تحت لوثر، رد عليهم في تأفف: "نعم ولكن البيضة التي وضعتها خرجت منها دجاجة، أما البيضة التي فقسها لوثر فقد خرج منها ديك من ديوك المصارعة"(87). ولقد قرأ لوثر نفسه رسالة "الثناء على الطيش" كما قرأ تقريباً غيرها من كل ما نشره أرازموس، وقال لأصدقائه إنه إنما يقوم بصياغة مباشرة لما قاله عالم الإنسانيات الشهير، أو ما ألمح إليه منذ سنوات عديدة مضت، وكتب في 18 مارس عام 1519 إلى أرازموس في تواضع واحترام ينشد صداقته وعونه ضمناً. وكان على أرازموس وقتذاك أن يتخذ قراراً حاسماً في حياته. وكان في مأزق بين أمرين أحلاهما مر. إذا تخلى عن لوثر فسوف يوسم بالجبن، وإذا اشترك مع لوثر في عدم الاعتراف بالكنيسة الرومانية فإنه لن يخسر فحسب بل ثلاثة مرتبات، ويفقد ما أسبغه عليه ليو العاشر من حماية ضد المشتغلين باللاهوت، الذين يعملون للحيلولة دون نشر العلم، وسيجد نفسه مضطراً إلى التخلي عن خطئه واستراتيجيته بشأن إصلاح الكنيسة عن طريق تحسين العقول والأخلاقيات في الرجال دوي النفوذ. وكان قد أحرز (كما اعتقد) تقدماً حقيقياً في هذا المجال مع البابا ورئيس الأساقفة وارهام والأسقف فيشر ونائب الأسقف كوليه وتوماس مور وفرانسس الأول وشارل الخامس، ولم يرض هؤلاء الرجال بالتأكيد أن يتخلوا عن الكنيسة. حقاً إنهم كانوا على استعداد لأن يحجموا عن تقويض نظام كان في نظرهم مرتبطاً بطريقة مبهمة مع حكومة الأمراء في المحافظة على الاستقرار الاجتماعي، ولكن يمكن تجنيدهم في حملة لتخفيف الخزعبلات والأهوال في عقيدة راجحة الكفة، وفي تطهير رجال الدين وتعليمهم، وفي السيطرة على الرهبان وإخضاعهم للتبعية، وفي حماية حرية الفكر من أجل تقدم العقل.

إن تغيير ذلك البرنامج بانقسام العالم المسيحي انقساماً شديداً إلى شطرين متحاربين، وبلاهوت، يأخذ بالقدرية وبعدم أهمية الأعمال الصالحات، سوف يبدو في نطر هؤلاء الرجال، بل وبدا لأرازموس، الطريق إلى الجنون. وكان يراوده الأمل في استعادة السلام إذا خفضت كل الأطراف أصواتها، وأشار في فبراير عام 1519 على فروبين ألا ينشر المزيد من مؤلفات لوثر، لأنها تفيض بالعبارات الملتهبة(88). وكتب في أبريل إلى الأمير المختار فردريك، يحثه على حماية لوثر باعتباره رجلاً ارتكب الناس في حقه من الإثم أكثر مما ارتكب هو من آثام(89). وأخيراً (30 مايو) رد على لوثر، وقال:

"يا أعز أخ لي في المسيح، إن رسالتك إلي تظهر حدة ذهنك وتنبض بروح مسيحية قد أسعدتني أكثر من كل شيء. أنا لا أستطيع أن أعبر عن مدى الاضطراب الذي تحدثه كتبك هنا. إن هؤلاء الناس لا يمكن، بأي وسيلة، ألا يراودهم الشك في أنني عاونتك في كتابة مؤلفاتك وإني، كما يصفونني، حامل لواء حزبك... ولقد أقسمت لهم أني لا أعرفك بتاتاً، وأني لم أقرأ كتبك، وأني لا أستحسن كتاباتك ولا أستهجنها، ولكن عليهم أن يقرءوها قبل أن يتحدثوا بصوت مرتفع، ومن رأيي أيضاً أن الموضوعات التي كتبت عنها ليست من النوع الذي يصلح للخطابة من فوق المنابر، وبما أن من المسلم به أنك طاهر الذيل، فلا محل للتنديد بك أو صب اللعنات عليك. وكان هذا بلا جدوى فقد ظلوا يتميزون غضباً... وأنا نفسي الهدف الرئيسي للعداء والكراهية، وأما الأساقفة فإنهم في صفي بوجه عام... وأما أنت فإن لك أصدقاء أوفياء في انجلترا، حتى بين أكبر الشخصيات هناك. ولك أصدقاء هنا أيضاً... أنا بصفة خاصة. وأما بالنسبة لي فإني أشغل نفسي بالأدب، وأنا أقصر عليه جهودي بقدر الإمكان، وأتحاشى الخلافات الأخرى، ولكني بصفة عامة أعتقد أن اللطف مع الخصوم أشد تأثيراً من معاملتهم بالعنف... ولعل من الحكمة أن تندد بهؤلاء الذين يسيئون استخدام سلطة البابا بدلاً من أن تحصى أخطاء البابا نفسه. وهذا ما يجب عمله مع الملوك والأمراء. والأنظمة القديمة لا يمكن انتزاعها من جذورها في لحظة. والمناقشة الهادئة قد تفيد أكثر مما تفعل الإدانة الجماعية، تجنب كل مظهر من مظاهر الشغب. واحتفظ ببرود أعصابك ولا تستسلم للغضب. لا تكره أحداً. لا تفرح بالضجة التي أثرتها. لقد اطلعت على كتابك "تعليق على المزامير" وسررت به كثيراً... ألا فليهبك المسيح روحاً من عنده من أجل مجده ومن أجل خير العالم (90).

وعلى الرغم من هذا الاحتياط في المواجهة بين الضدين، فإن المشتغلين باللاهوت في لوفان استمروا في مهاجمة أرازموس، باعتباره منبع الفيضان اللوثري. ووصل إلياندر في الثامن من أكتوبر عام 1520، وعلق النشرة البابوية التي تنص على حرمان لوثر من غفران الكنيسة، وسجل أن أرازموس يعد محرضاً سرياً على الثورة. وقبل العلماء النحارير زعامة إلياندر وأقصوا أرازموس من كلية لوفان (9 أكتوبر عام 1520)، فانتقل إلى كولون، وهناك كما رأينا، دافع عن لوثر في مداولة مع فردريك صاحب ساكسونيا (5 نوفمبر)، وفي الخامس من ديسمبر أرسل إلى الأمير المختار بياناً عرف باسم Axiomata Erasmi جاء فيه إن التماس لوثر أن يحاكم أمام قضاة لا يعرفون التحيز طلب معقول، وأن الصالحين من الناس والمحبين للإنجيل هم هؤلاء الذين كانت إساءتهم للوثر أقل من غيرهم، وأن الناس يتعطشون إلى معرفة الحقيقة الإنجيلية، (أي الحقيقة التي تعتمد إلى الإنجيل فحسب) وأنه لا يمكن قمع(91) مثل هذا المزاج الذي انتشر انتشاراً واسعاً. ودبج بمعاونة جوهان فابر الدومينيكي عريضة إلى شارل الخامس، طالباً فيها أن يقوم شارل وهنري الثامن ولويس الثاني ملك هنغاريا بتعيين محكمة محايدة للفصل في قضية لوثر. وحث في رسالة بعث بها إلى الكادينال كامبيجيو (6 ديسمبر) على توفير العدالة للوثر، وقال: "لقد أدركت أنه كلما كان الإنسان صالحاً كان أقل عداء للوثر... إن بضعة أشخاص فقط كانوا يصخبون في وجهه، خوفاً من أن يجردهم مما في جيوبهم... ولم يرد عليه أحد بعد أو يعدد أخطاءه... فكيف يحدث هذا في الوقت الذي يوجد فيه أشخاص يزعمون أنهم أساقفة... وأخلاقهم كريمة... وهل من الصواب أن تضطهد رجلاً مثل هذا، لا تشوب أخلاقه شائبة، وليس في حياته ما يشينه، ووجد أشخاص من الصفوة في كتاباته الكثير مما يستحق الإعجاب؟ لقد كان الهدف ببساطة القضاء عليه وعلى كتبه، ليضيع في غمرات النسيان، وهذا لا يتحقق إلا إذا ثبت أنه على خطأ... إذا كنا ننشد الحقيقة، فإن كل امرئ يجب أن يكون حراً في أن يقول ما يراه دون خوف أو وجل. وإذا كوفئ المدافعون عن وجهة نظر أحد الطرفين يوضع تيجان الأساقفة على رؤوسهم، وجوزي المدافعون عن وجهة نظر الخصوم بالشنق أو بوضعهم فوق الخوازيق فإن الحقيقة لن تسمع أبداً... ولا يمكن أن يكون هناك شيء يبعث على النفور ويبعد عن الحكمة أكثر من نشرة البابا... إنها تخالف طبيعة البابا ليو العاشر، وأرى أن الذين أرسلوا لنشرها فحسب قد جعلوا الأمور تنقلب إلى أسوأ. ومهما يكن من شيء فإنه من الخطر أن يعارض الأمراء الزمنيون البابوية، أنا لست على استعداد لأن أكون أكثر شجاعة من الأمراء، وبخاصة عندما لا أستطيع أن أفعل شيئاً. ولعل فساد الحاشية الرومانية يجعلها في حاجة إلى إصلاح شامل وعاجل، ولكني أنا وأمثالي لا يطلب منا اتخاذ إجراء مثل هذا على عاتقهم، وأنا أرى أن تبقى الأمور على ما هي عليه، وأفضل أن أرى الأشياء على ما هي عليه على نشوب الثورة، قد تؤدي إلى نتيجة لا تحمد عقباها... ويمكنك أن تطمئن إلى أن أرازموس كان، وسوف يظل دائما، من الرعايا المخلصين لكرسي البابوية الروماني، وإن كنت أعتقد، ويعتقد كثيرون مثلي، أنه ستتاح فرصة أحسن لتسوية ما إذا قل الالتجاء إلى العنف، وإذا وضعت مقاليد الإدارة في أيدي رجال لهم وزن وعلى حظ من التعليم، وإذا تصرف البابا بوحي من ضميره، ولم يتأثر بآراء الآخرين"(92).


وقد جعل لوثر من الصعب على أرازموس أن يتشفع له لأن لهجة خطبه كانت تزداد عنفاً كل شهر، إلى أن دعا في يوليو عام 1520 قراءه إلى أن يغسلوا أيديهم في دماء الأساقفة والكرادلة، وعندما وصل نبأ إحراق لوثر علناً لمنشور البابا الذي يقضي بحرمانه من غفران الكنيسة، أقر أرازموس بأنه صدم لهذا النبأ. وفي الخامس عشر من يناير عام 1521 بعث إليه البابا برسالة أعرب فيها عن سروره بولائه، وفي الوقت نفسه أرسل ليو تعليماته إلى إلياندر بمعاملة عالم الإنسانيات بكل لطف. وعندما اقترب موعد انعقاد المجلس النيابي في ورمس، طلب أمير ألماني من أرازموس أن يخف لمعاونة لوثر، ولكنه رد بأن الأوان قد فات. وأسف لرفض لوثر الامتثال، إذ كان يعتقد أن هذا الامتثال سوف يؤدي إلى الإسراع بحركة الإصلاح الديني، أما الآن فإنه يخشى قيام حرب أهلية. وفي فبراير عام 1521 كتب إلى أحد أصدقائه: "إن كل إنسان أقر بأن الكنيسة قد عانت من نير طغيان بعض الناس، وكثيرون كانوا يسألون النصيحة لعلاج هذه الحالة الراهنة. والآن وقد هب هذا الرجل ليعالج الأمر على هذا النحو... لم يجرؤ أحد على أن يدافع حتى عما أجاد التعبير عنه. وقد حذرته منذ ست شهور خلت أن يحترس من الكراهية. وقد نفرت رسالته "الأسر البابيلوني" منه الكثيرين، وهو يعرض لنا كل يوم أشياء فظيعة(93).

وقد تخلى لوثر وقتذاك عن كل أمل في مساندة أرازموس، وأسقطه من حسابه باعتباره داعية للسلام جباناً "يعتقد أن كل شيء يمكن أن يتم بالتهذيب والعطف"(94). وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من تعليمات ليو، استمر إلياندر وعلماء اللاهوت في لوفان في مهاجمة أرازموس، باعتباره نصيراً سرياً للوثر. فاستاء من ذلك وانتقل إلى بازيل (15 نوفمبر عام 1521)، حيث راوده الأمل في أن يتناسى الإصلاح الديني الفتي في غمار النهضة العجوز. وكانت بازيل معقل مذهب الإنسانيات في سويسرة، فهناك كان يعمل بياتوس رينانوس الذي نشر تاسيتوس وبلني الأصغر، واكتشف فيليوس بايتركولوس، وأشرف على طباعة العهد الجديد، الذي أعده أرازموس، وهناك كان طباعون وناشرون يعدون أيضاً من العلماء مثل هانز آمرباخ، وذلك القدّيس بين الناشرين الذي يدعى جوهان فروبن (يوس)، وهو الذي أضنى نفسه مكباً على مطابعه ونصصه و(قال عنه أرازموس) "ترك لأسرته من الشرف أكثر مما ترك لها من الثروة"(95) هناك عاش ديرر أعواماً طوالاً، وهناك قام هولبين برسم صورة الشخصية التي تخلب الألباب لفروين وبونيفاسيوس آمرباخ - الذي جمع المقتنيات الفنية الموجودة الآن في متحف بازيل. وقبل سبع سنواةت، وفي زيارة سابقة، كان أرازموس قد وصف هذا المحيط في شيء من المبالغة التي تنطوي على الحب. "يبدو لي أني أعيش في هيكل قدسي ساحر لربات الفنون، يظهر فيه حشد من الأشخاص المتعلمين كأمر محتوم. ليس هناك مَن يجهل اللاتينية، ولا أحد يجهل اليونانية، ومعظمهم يعرفون العبرية. هذا يفوق زملاءه في دراسة التاريخ، وذاك متضلع في اللاهوت، وأحدهم بارع في الرياضيات، وآخر دارس للآثار، وثالث ضليع في القانون. وليس من شك في أن الحظ لم يسعدني، حتى ذلك الوقت، في أن أعيش في مثل هذا المجتمع الكامل... أية صداقة خالصة ترفرف عليهم جميعاً وأي بشر وأي توافق"(96).

وعاش أرازموس مع فروبن وعمل معه مستشاراً أدبياً، وكتب مقدمات وحرر جريدة "الآباء". ورسم هولبين صوراً شخصية مشهورة له في بازيل (1523-1524) ولا تزال إحداها هناك، وأرسلت أخرى إلى كبير أساقفة وارهام، وهي الآن من مقتنيات ايرل أف رادنور، والثالثة في متحف اللوفر، وهي من روائع هولبين. ويرى فيها جالساً إلى منضدة، وهو يكتب ملتفاً بمعطف ثقيل حوافه مزينة بالفراء، ويضع على رأسه قلنسوة تغطي نصف أذنيه، وها هو أعظم علماء الإنسانيات تشي كهولته التي جاءت قبل الأوان، (كان وقتئذ في السابعة والخمسين من عمره) بالثمن الغالي الذي دفعه بسبب اعتلال صحته. حياة فيلسوف مشائي حافلة بالجدل والخصام، والعزلة الروحية والحزن، اللذين ترتبا على رغبته في أن يكون عادلاً مع الطرفين في الخلافات المذهبية التي حدثت في عصره. وتبرز من القلنسوة شعرات بيضاء مشعثة. وله شفتان رقيقتان كالحتان، وتقاطيع جميلة، وإن كانت قوية، وأنف حاد معقوف، وجفون ثقيلة، تكاد تغلق عينين متعبتين، هنا في لوحة من أعظم الصور الشخصية ترى النهضة وقد مزقها الإصلاح الديني إرباً.

وفي أول ديسمبر عام 1522 كتب البابا الجديد أدريان السابع إلى أرازموس بألفاظ توحي بسلطانه غير العادي على كلا الطرفين: "يتوقف عليك، وأسال الله أن يعينك، أن تهدي من أضلهم لوثر عن الطريق المستقيم، وأن تقف إلى جانب من لا يزالون صامدين... ولست في حاجة إلى أن أعرب لك عن مدى غبطتي عندما أتلقى ثانية هؤلاء الهراطقة دون حاجة إلى قرعهم بعصا القانون الإمبراطوري. وأنت تعرف إلى أي حد تتنافى مثل هذه الطرق الفظة مع طبيعتي. أنا لا أزال كعهدك بي عندما كنا ندرس معاً. تعال إلي في روما، وسوف تجد هنا ما تنشده من الكتب، وسوف تجدني أنا وآخرين من الرجال المستنيرين، لنتبادل المشورة، وإذا فعلت ما أطلبه منك فإنك لن تندم أبداً"(97).

وبعد تبادل تمهيدي لخطابات تعهد فيها كل منهما للآخر بالحفاظ على السرية، فتح أرازموس قلبه للبابا وقال: "إن قداستك تطلب مني النصيحة، وترغب في أن تراني. وكم كان يسعدني أن أذهب إليك لو سمحت بذلك صحتي. أما بالنسبة للكتابة ضد لوثر، فأنا لست على درجة كافية من العلم، وأنت تعتقد أن لكلماتي سلطاناً، ولكني للأسف أرى أن شعبيتي، التي اكتسبتها فيما مضى قد استحالت إلى كراهية. لقد كنت يوماً أميراً للبيان، ونجماً من نجوم ألمانيا... وكاهناً أعظم للعلم ومنافحاً عن لاهوت أكثر نقاء. أما الآن فقد تبدل الوضع، ففريق يقول أني أتفق في الرأي مع لوثر، لأني لا أعارضه، وفريق آخر يرى أني على خطأ لأني أعارضه... وفي روما وفي برابانت يصفونني بأني هرطيق، وزعيم شعبة من الهراطقة، وداعية إلى الانشقاق، والحق أني لا أتفق بتاتاً مع لوثر. وأنهم ليستشهدون بهذه الفقرة أو تلك، ليبينوا أننا متشابهان، ومع ذلك ففي وسعي أن أجد مائة فقرة يبدو فيها أن القدّيس بولس يعلم العقائد التي يستنكرها عند لوثر. وخير من يمحضك النصح هم الذين يشيرون باتخاذ إجراءات خفيفة. والرهبان - يطلقون على أنفسهم العمالقة الذين يسندون كنيسة تهتز وتوشك أن تنقض - ينفّرون مَن يمكن أن يكونوا أنصاراً لها... ويعتقد البعض أنه لا علاج لهذه الحالة غلا القوة. وأنا أرى غير هذا... فسوف تؤدي إلى سفك مروع للدماء. إن المسألة ليست الجزاء الذي تستحقه الهرطقة، ولكنها الطريقة الحكيمة التي تعالج بها... وأنا من جهتي أرى اكتشاف جذور المرض واقتلاع ما يجب البدء به منها. لا تعاقب أحداً. واعتبر ما حدث عقوبة أنزلتها العناية الإلهية، وامنح عفواً عاماً. وإذا كان الله يغفر لي خطاياي، فإن كاهن الرب يمكن أن يغفرها، وفي وسع الحكام أن يمنعوا قيام ثورة مسلحة، وإذا أمكن يجب مراجعة المواد المطبوعة. ثم دع العالم يعرف ويرى أنك تنوي جاداً رفع المظالم، التي يشكو منها الناس بحق. وإذا أردت قداستك أن تعرف ما هي الجذور التي أشير إليها، فإرسل أشخاصاً تثق بهم إلى كل جزء من أجزاء العالم المسيحي اللاتيني، ودعهم يتبادلون الرأي مع أعقل مَن يجدون من الرجال في مختلف البلاد وسرعان ما تعرف بعد ذلك(98). يا لأدريان المسكين الذي تجاوزت نياته الطيبة حدود قواه! لقد مات كسير الفؤاد عام 1523. واستمر خلفه كليمنت السابع في حث أرازموس على الانخراط في سلك المناهضين للوثر. وعندما خضع العالم أخيراً، لم يكن هجومه على لوثر بصفة شخصية، ولم يكن لديه اتهام عام للإصلاح الديني ولكنه ناقشه مناقشة موضوعية مهذبة بإرادة حرة (De Libro arbitrio) - (1524). وسلم بأنه لم يستطيع أن يسبر غور لغز الحرية الأخلاقية، ولا أن يوفق بينها وبين علم الله بكل شيء وقدرته على كل شيء. ولكن ما من عالم بالإنسانيات يستطيع أن يتقبل العقائد، التي تقول بحتمية القدر ومذهب الجبر، دون تضحية بكرامة الإنسان أو الحياة البشرية وقيمتها: هنا فارق أساسي بين الإصلاح الديني والنهضة. وبدا واضحاً لأرازموس أن الإله الذي يعاقب على الخطايا التي ترتكبها مخلوقاته، ولا حيلة لهم في الامتناع عنها، وحش لا أخلاق له لا يستحق العبادة أو الثناء، ونسبة مثل هذا السلوك إلى الأب الذي في السماء" كفر فضيع. ووفق افتراضات لوثر يكون أسوأ المجرمين شهيداً بريئاً ذلك أن الرب قدر عليه الخطيئة، ثم حكم عليه المنتقم الجبار بالعذاب في نار جهنم خالداً فيها، فكيف يستطيع أي مؤمن بحتمية القدر أن يقدم أي مجهود خلاق، أو يعمل على تحسين أحوال البشر؟ وأقر أرازموس بأن اختيار الإنسان رهن بآلاف الظروف، التي لا يستطيع أن يتحكم فيها، ومع ذلك فإن شعور الإنسان يصر على أن يؤكد أن له بعض الحرية، وبدونها يكون آلة ذاتية الحركة لا معنى لها. وانتهى أرازموس إلى القول: على أية حال دعونا نسلم بجهلنا وبعجزنا في التوفيق بين حرية الإنسان في التمييز بين الصواب والخطأ، وبين سابق علم الله أو سبب وجوده في كل مكان. دعونا نؤجل الحل إلى يوم القيامة، ولكن في الوقت نفسه دعونا نتجنب كل فرض يجعل من الإنسان مجرد دمية، ومن الرب طاغية أقسى من أي طاغية عرف في التاريخ. وأرسل كليمنت السابع مائتي فلورين ( 5.000 ؟ دولار)، إلى أرازموس عندما تسلك منه الرسالة، وشعر معظم الكثالكة بخيبة الأمل بسبب اللهجة الفلسفية، التي تنشد المصالحة، والتي تنطوي على عبارات الكتاب عليها، فقد كانوا يأملون أن يسمعوا خبر إعلان حرب يطربون لها. والحق أن ميلانكتون الذي أعرب عن وجهة نظره في الجبرية بكتاب Losi Communes تأثر كثيراً بالرأي الذي أبداه أرازموس، وحذف نظريته في هذا الموضوع، وذلك في الطبعات التي ظهرت فيما بعد(99). وكان هو أيضاً لا يزال يراوده الأمل في السلام - ولكن لوثر دافع عن الجبرية بلا هوادة في رد متأخر عنوانه De Servo arbitro عام 1525، وقال:

"إن الإرادة البشرية مثل دابة الحمل، إذا امتطاها الرب رغبت، وانطلقت كما يشاء الرب، وإذا امتطاها الشيطان رغبت، انطلقت كما يهوى الشيطان. وهي لا تستطيع أن تختار راكبها... والركاب يتنازعون على امتلاكها... والرب يعلم الغيب، ويقدر ويعمل كل شيء، بإرادة فعالة أزلية، لا تتبدل، وبهذه الإرادة القاهرة تغوص الإرادة الحرة، وتتفتت في التراب"(100).

ومن الأمور ذات المغزى عن المزاج السائد في القرن السادس عشر، أن لوثر رفض التسليم بحرية الإرادة، لا لأنها تتعارض مع حكم قانون عالمي وعلية عالمية، كما ذهب إلى ذلك بعض المفكرين في القرن الثامن عشر، ولا لأنه يبدو أن الوراثة والبيئة والظرف تحدد، كثالوث آخر، الرغبات التي يبدو أنها تحدد الإرادة، كما ذهب إلى ذلك كثيرون في القرن التاسع عشر، بل إنه رفض التسليم بالإرادة الحرة على أساس أن قدرة الله على كل شيء، تجعله تعالى السبب الحقيقي لكل الحوادث وكل الأفعال، وبالتالي فإنه تعالى، وليست فضائلنا أو خطايانا، هو الذي يحكم علينا بالخلاص أو العذاب الأبدي: ويواجه لوثر مرارة منطقه برجولة فيقول: "لقد أسيء إلى حسن الإدراك والعقل الفطري، إلى حد كبير، بالقول بأن الله يتخلى عن عبده ويقسو عليه ويعذبه بمحض إرادته تعالى، كما لو كانت الخطيئة تسره، والعذاب الأبدي يسعده، وهو الذي يقال إنه رؤوف رحيم، ومثل هذا المفهوم عن الله يبدو خبيثاً قاسياً لا يغتفر، من أجله ثار عدد من الرجال في جميع العصور، وأنا نفسي أسيء إلي مرة إساءة، أردتني في هوة اليأس، إلى حد أني تمنيت لو أني لم أخلق قط. ولا جدوى من محاولة الهروب من هذا بإيجاد فوارق بارعة، ومهما أحس العقل الفطري بما لحقه من إساءة فلا مفر من تسليمه بنتائج علم الله بكل شيء وقدرته على كل شيء... وإذا كان من الصعب الإيمان برحمة الله ورأفته، عندما يعذب مَن لا يستحقون العذاب، فإننا يجب أن نتذكر أن عدالة الله لا تكون إلهية إذا أحاط بها عقل الإنسان"(101).

ومما امتاز به هذا العصر الرواج الذي حظيت به الرسالة التي عنوانها: "الإرادة المستعبدة" فقد بيع منها عدد كبير في سبع طبعات باللغة اللاتينية وطبعتين باللغة الوطنية، واشتد الإقبال عليها في خلال سنة واحدة. وأثبت ذلك أنها أعظم مصدر للاهوت البروتستانتي، وهكذا وجد كافن عقيدة الجبر والاختيار والرفض reprobation، التي نقلها إلى فرنسا وهولندة واسكوتلندة وإنجلترا وأمريكا. ورد أرازموس على لوثر في مقالين نشرا في كراستين دينيتين بعنوان Hyperaspistes (المدافع) 1 و 2 (1526-1527)، ولكن رأي العصر كان في جانب الرأي الذي انتهى إليه المصلح في المناظرة. واستمر أرازموس حتى في هذه المرحلة، يبذل جهوده في سبيل السلام. وأوصى كل مَن بعث إليهم برسائل بالتسامح واللطف في المعاملة... ولقد ظن أن الكنيسة عليها أن تسمح برجال الدين بالزواج وتناول القربان المقدس بالأسلوبين المعروفين، وأنها يجب أن تتنازل عن بعض أملاكها الواسعة للسلطات الزمنية، لكي تستخدمها في مرافقها، وأن أمثال المسائل الحاسمة كالجبر والاختيار وحضور المسيح بجسده في القربان المقدس، يجب أن تترك دون تحديد مفتوحة لمختلف التفسيرات(102). وأشار على الدوق جورج صاحب ساكسونيا بمعاملة اللامعمدانيين بالرفق، وقال: "ليس من العدل أن تعاقب بالنار على أي خطأ يرتكب ما لم يكن مقترناً بشغب أو بأية جريمة أخرى تعاقب عليها القوانين بالإعدام"(103). وحدث هذا في عام 1524، ومهما يكن من أمر فإنه دافع عام 1533 عن سجن الهراطقة، الذي دعى إليه توماس مور(104)، متأثراً بالصداقة أو الشيخوخة، أما في أسبانيا حيث أصبح بعض علماء الإنسانيات من مؤيدي أرازموس فقد بدأ رهبان محكمة التفتيش يفحصون أقوال أرازموس فحصاً منسقاً مستهدفين إدانته باعتباره هرطيقاً (1527). ومع ذلك فإنه استمر في نقده لفجور الرهبان والجمود اللاهوتي، باعتبارهما الحافزين الرئيسيين إلى الإصلاح الديني. وكرر عام 1528 الاتهام بأن كثيراً من الأديرة التي تضم الرهبان والراهبات "بيوت عامة للدعارة" وأن "آخر ما يوجد من فضائل في أديرة كثيرة إنما هي فضيلة العفة"(105). وأدان في عام 1532 الرهبان، باعتبارهم متسولين يسألون بإلحاح، ومضللين يغوون النساء، وصيادين ينطلقون في إثر الهراطقة، ومتصيدين للتركات ومزيفين للشهادات(106). وكان يؤيد كل شيء لإصلاح الكنيسة بينما كان يستهجن الإصلاح الديني. ولم يستطع أن يروض نفسه على التخلي عن الكنيسة، أو أن يراها مشطورة إلى نصفين، وقال: "إني أتحمل الكنيسة إلى اليوم الذي أرى فيه كنيسة أفضل"(107).

وارتاع عندما سمع بنبأ نهب روما على يد فرق بروتستانتية وكاثوليكية تعمل في خدمة الإمبراطور (1527). وكان قد راوده الأمل في أن شارل سوف يشجع كليمنت على أن يتصالح مع لوثر، ولكن البابا والإمبراطور كانا وقتذاك يمسك كل منهما بتلابيب الآخر. وأصيب بصدمة أكبر عندما دمر المصلحون الدينيون، في ثورة، التماثيل في الكنائس (1529)، مع أنه كان قبل ذلك بعام واحد فقط قد ندد بعبادة التماثيل وقال: "يجب أن يعلم الناس أن هذه ليست غلا رموزاً، ومن الخير ألا يكون هناك شيء منها على الاطلاق، وأن توجه الصلاة للمسيح وحده. ولكن ليكن رائدنا الاعتدال في جميع الأمور"(108). وهذا بالضبط موقف لوثر من الموضوع نفسه. ولكنه رأى أن التجريد الأهوج الغبي للكنائس من التماثيل رجعية همجية، تتسم بضيق الأفق. وغادر بازيل، وانتقل منها إلى فرايبورج - الواقعة على نهر برايسجاو، في أرض نمساوية كاثوليكية فاستقبلته سلطات المدينة بالترحيب والتكريم، ومنحته قصر ماكسمليان الأول الذي لم يتم، ليقيم فيه. وعندما لم يصله المرتب، الذي خصصه له الإمبراطور بانتظام أرسل إليه آل فوجر كل ما احتاج إليه من أموال، بيد أن رهبان فرايبورج وعلماء اللاهوت فيها هاجموه باعتباره من معتنقي مذهب الشك في الخفاء، والسبب الحقيقي لما حدث في ألمانيا من فتنة.

وعاد إلى بازل عام 1535 فخرج إليه وفد من أساتذة الجامعة مرحبين بعودته، وخصص له جيروم فروبن ابن جوهان غرفاً في منزله. وكان وقتذاك قد بلغ التاسعة والستين، بوجه هزيل تغضن بفعل السنين وكان يعاني من القروح والإسهال وداء النقرس والحصوة ونزلات البرد المتكررة... لاحظ اليدين المتورمتين في رسم ديرر. وحبس نفسه، في سنواته الأخيرة، في حجراته، وكثيراً ما كان يلازم الفراش. وأضناه الألم، وفقد بسمته الجميلة المألوفة، التي كانت تحببه إلى أصدقائه، وأصبح دائم العبوس، وهو يكاد يسمع كل يوم عن هجمات جديدة يوجهها إليه البروتستانت والكثالكة. ومع ذلك فقد كانت ترد إليه يومياً تقريباً رسائل، تفيض بالإخلاص والاحترام، من ملوك أو بطاركة أو سياسيين أو علماء أو ماليين، وكان مسكنه كعبة يحج إليها الأدباء. وأصيب في السادس من يونية عام 1536 بدوزنتاريا حادة، وعرف أنه سوف يموت وشيكاً، ولكنه لم يطلب قسيساً أو كاهناً يعترف له ومات (12 يونيه)، دون أن تجرى له الطقوس الدينية، التي فرضتها الكنيسة، وأخذ يكرر مبتهلاً اسمي مريم والمسيح. وشيعته بازيل في جنازة تليق بأحد الأمراء، ودفن في مقبرة بالكاتدرائية. واشترك علماء الإنسانيات وأسقف المدينة في إقامة لوح حجري فوق جثمانه، ولا يوال هذا اللوح في مكانه، وقد أشادوا فيه بما اتصف به من "سعة علم لا تضارع في كل فرع من فروع المعرفة". ولم يترك في وصيته ميراثاً لأغراض دينية، ولكنه خصص مبالغ للعناية بالمرضى أو المسنين، ولتقديم صداق للفتيات الفقيرات، ولتعليم الشبان الواعدين.

ويتذبذب موقفه في الأجيال القادمة مع تذبذب هيبة عصر النهضة، فكل الطوائف تقريباً وصفته بأنه مذبذب جبان، وذلك في حماسة الثورة الدينية، واتهمه أنصار الإصلاح الديني بأنه قادهم إلى حافة الهاوية، وأغراهم بأن يقفزوا ثم لاذ بالفرار. ووصف في مجلس مدينة ترنت بأنه هرطيق فاسق، وحرمت مؤلفاته على الفقراء الكاثوليك. وفي أواخر عام 1758 وصفه هوراس والبول بأنه "طفيلي متسول لديه من الشمائل ما يكفي لأن يتوصل إلى الحقيقة، ولكنه يفتقر إلى الشجاعة لكي يعترف بها"(109).وفي أواخر القرن التاسع عشر، عندما انقشع دخان المعركة، أسف مؤرخ بروتستانتي صائب الرأي على مفهوم أرازموس عن الإصلاح الديني، وقال: "مفهوم لعالم... سرعان ما أوقف وطرح جانباً بوسائل فظة خشنة. ومع ذلك يحق لنا أن نتساءل أما كانت، بعد كل شيء، الطريقة البطيئة هي في النهاية أكثر الطرق أمناً، وهل كان أي عامل من عوامل تقدم الإنسانية يمكن أن يكون بديلاً للثقافة على الدوام. لقد كان الإصلاح الديني في القرن السادس عشر من عمل لوثر، ولكن إذا ظهر في الأفق أي إصلاح ديني جديد... فإنه لا يمكن أن ينهض إلا على أساس مبادئ أرازموس"(110). ويضيف مؤرخ كاثوليكي تقديراً يكاد يكون مطابقاً لمقتضيات العقل: "إن أرازموس كان ينتمي فكرياً إلى عصر لاحق علمي وعقلاني أكثر من عصره. والعمل الذي قد بدأ به والذي أوقفته الاضطرابات التي حدثت في عهد الإصلاح الديني استأنفه علماء القرن السابع عشر في وقت لاقى فيه قبولاً أكثر"(111)، وكان لابد أن يكون لوثر، ولكن عندما قام بعمله، وهدأت سورة الانفعال، حاول الناس مرة أخرى أن يتشبثوا بروح أرازموس وروح النهضة، وأن يجددوا، في صبر وتسامح متبادل، الجهد الطويل البطيء لتنوير أذهان الناس.