قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 1 ف 9

صفحة رقم : 7897

قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> الصقالبة الغربيون -> بوهيميا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل التاسع: الصقالبة الغربيون (1300 - 1571)

بوهيميا

لا يزال الصقالبة إلى الآن أشبه بالموجات البشرية تجيش أحيانا ناحية الغرب إلى الألب، وجنوبا إلى البحر المتوسط، وشرقا إلى الأورال، وشمالا إلى البحر المتجمد، وقد ردهم إلى الغرب بعد ذلك في الثالث عشر، الفرسان الليفونيون والتيوتون، أما في الشرق فقد خضعوا لسيطرة المغول والتتار - وقادت بوهيميا في القرن الرابع عشر الإمبراطورية الرومانية المقدسة والإصلاح الديني قبل لوثر، كما اتحدت بولندة مع ليتوانيا التي كانت متسعة الأرجاء: فأصبحنا دولة كبيرة، ذات طبقة عليا على حظ رفيع من الثقافة. وتحررت روسيا في القرن الخامس عشر من نير التتار ووحدت إماراتها المبعثرة في دولة ضخمة.وهكذا دخل الصقالبة التاريخ كموجة من موجات المد البشري.

وانتهت أسرة تبرزملد العريقة في بوهيميا بموت ونسسلوس عام 1306 وأعقبتها فترة من الزمان حكم فيها ملوك صغار الشأن ثم جاء الناخبون من البارونات ورجال الدين بجون أمير لكسمبورج، ليؤسس أسرة حاكمة جديدة (1310). وأصبحت بوهيميا بفضل مغامراته الباسلة قلعة منيعة من قلاع الفروسية جيلا من الزمان، وتعذر عليه أن يعيش بلا صولات وجولات حتى إذا ثبت له أن هذه الفروسية لا ضرر منها على الإطلاق، اندفع إلى الحرب في كل مملكة من ممالك أوربا تقريبا. وأصبح من الكلم المأثور في تلك الأزمنة أنه لا يتحقق شئ بغير العون من الله وملك بوهيميا. فالتمست برسكيا التي حاصرتها فيرونا، أن يمد لها يد المعاونة، فوعد بالقدوم إليها، وما كادت الأخبار تشيع بوعده هذا حتى رفع الفيرونيون الحصار واعترفت به مختارة برسكيا وبرجامو وكريمونا وبارما ومودينا بل وميلان أيضاً، سيداً إقطاعياً عليها في مقابل أن يبسط حمايته عليها جميعاً، وقد استطاع هذا الملك بسحر اسمه أن يحصل على معظم ما عجز عن تحقيقه بقوة السلاح فردريك الأول ذو اللحية الحمراء، وفردريك الثاني أعجوبة الزمان وأضافت حروبه الجريئة مساحة من الأرض إلى بوهيميا ولكنها أفقدته عواطف رعاياه، اللذين لم يستطيعوا أن يغتفروا له غيابه الدائم عن بلادهم، التي أهمل إدارتها، وحز في نفوسهم أنه لم يفكر قط حتى في أن يتعلم لغتهم.وفي عام 1336 لازمه مرض عضال كف بصره وهو يخوض معركة صليبية في لتوانيا. ومع ذلك فإنه عندما علم أن إدوارد الثالث ملك انجلترا زل إلى البر في نورمانديا متجها صوب باريس ركب مع ابنه شارلز في خمسمائة فارس بوهيمي، وعبروا أوربا ليكونوا مددا لملك فرنسا. وحارب الأب والإبن في الطليعة عند كريس.حتى إذا انسحب الفرنسيون، ناشد الملك الكفيف اثنين من فرسانه، أن يربطا جواديهما إلى جانبي جواده وأن يقوداه لمحاربة الإنجليز المنتصرين، قائلا: ((هذه مشيئة الله، ولن يقال إن ملكا على بوهيميا قد فر من حومة الوغى)) وقتل من حوله خمسون - من فرسانه، وأثخن بجرح مميت، ثم نقل وهو يحتضر إلى خيمة الملك الإنجليزي .. فأرسل إدوارد الجثة إلى شارلز ومعها رسالة مهذبة يقول فيها: ((لقد سقط اليوم تاج الفروسية)).

وكان شارلز الرابع ملكاً أقل بطولة وأرشد عقلا. فآثر المفاوضة على الحرب، ولم يكن من الجبن بحيث يقبل الهوان، ومع ذلك فقد وسع من حدود مملكته، وجعل الصقالبة والألمان إبان السنوات الاثنين والثلاثين من حكمه، يعيشون في سلام غير مألوف. وأعاد تنظيم الحكومة، وأصلح القضاء، وجعل براغ من أجمل مدن أوربا.وشيد فيها مقراً ملكيا على طراز اللوفر، والقلعة الشهير كارلشتين أي ((حجر شارلز)) لتكون داراً أمينة لمحفوظات الدولة وجواهر التاج - التي أودعت فيها لا للمباهاة والعرض بل لتكون مالاً احتياطياً منقولاً حصيناً يصلح غطاء للعملة. واستقدم ماثيو الأراسي لكي يصمم كاتدرائية القديس ((فيتوس)) وتوماسو الموديناوى ليرسم صورا جصية على جدران الكنائس والقصور. وعمل على حماية الفلاحين من الاضطهاد ونهض بالتجارة والصناعة. وأنشأ جامعة پراگ (1347)، ونقل إلى مواطنيه الولع بالثقافة الذي اكتسبه في فرنسا وإيطاليا وشحذ الحافز الفكري الذي فجر الثورة الهوسية، وأصبح بلاطه مركز الدارسين الإنسانيين البوهيميين، وعلى رأسهم الأسقف جون الاسترساوي صديق بترارك.ولقد أعجب هذا الشاعر الإيطالي بشارلز فوق إعجابه بأي ملك من ملوك ذلك العصر وزارة في مدينة براغ، وناشده أن يغزو إيطاليا، ولكن شارلز كان أرشد فكرا وكان حكمه، على الرغم من نشرته الذهبية هو عصر بوهيميا الذهبي. وهو باق يبتسم، في تمثاله النصفي من الحجر الجيري، في كاتدرائية براغ.

وكان ونسيسلوس الرابع في الثامنة عشرة من عمره عندما مات أبوه (1378)، ولقد أكسبته فطرته الطيبة، وحبه لشعبه، وترفقه في فرض الضرائب عليهم وبراعته في الإدارة، محبة الجميع ما عدا النبلاء الذين رأوا أن شعبيته تعرض امتيازاتهم للخطر. وانتهت سورات غضبه حيناً وإدمانه الشراب حيناً آخر بهؤلاء النبلاء إلى خلعه، ففاجئوه في مقره الريفي وألقوا به في السجن (1394)، ولم يعيدوه إلا أن اخذوا عليه العهد بأن يمتنع عن الإقدام على أي عمل له أهميته دون موافقة مجلس من النبلاء والأساقفة، ونشأت فتن أخرى، واستدعى سيجسموند ملك البحر، فقبض على أخيه ويسلوس وأخذه أسيراً إلى فينا (1402). وفر الرجل بعد ذلك بأعوام قلائل، واتخذ طريقه عائدا إلى بوهيميا فاستقبله الشعب مبتهجا، واستعاد العرش والسلطان. واختلطت البقية الباقية من قصته بمأساة هس.

يان هوس (1369 - 1415)

كان ونسيسلوس محبوباً مكروهاً في آن واحد، لأنه تسامح مع الهرطقة وتشدد مع الألمان.وأثمر التسلل السريع في بوهيميا من عمال مناجم وأصحاب الحرف والتجار وطلاب العلم، عداوة عنصرية بين التيوتون والتشيك، وكان حس حريا بألا يلقى التأييد من الملك والشعب لولا أنه رمز الكراهية قومية للتفرق الألماني.ولم ينس ونسيسلوس أن رؤساء أساقفة ألمانيا قادوا حركة خلعه عن العرش الإمبراطوري، وتزوجت أخته آن ريتشارد الثاني ملك إنجلترا وفطنت إلى - ولعلها عطفت على - محاولات ويكليف ؛ أن يفصل إنجلترا عن الكنيسة الرومانية. وفي عام 1388 خلف أدلبرت رانكونيس مبلغا من المال يعين الطلاب البوهيميين على الذهاب إلى باريس أو أكسفورد. وحصل بعض هؤلاء أو نسخوا بعض مؤلفات ويكليف وحملوها معهم إلى بوهيميا، وأقام ميلتش الكرومريزي وكونراد ولد هوزر، براغ وأقعداها باتهاماتهما لرجال الدين العلمانيين بالخروج على الأخلاق، وواصل ماتياس الجنوني وتوماس الستيتني هذه الدعوة فأيدها الإمبراطور بل أن أرنست كبير الأساقفة قد وافق عليها، وفي عام 1391، أقيمت في براغ كنيسة خاصة سميت كنيسة بيت لحم لتقود حركة الإصلاح. وفي عام 1402 عين جون هس واعظاً لهذه الكنيسة.

ولقد بدأ حياته في قرية هوسينتز، وعرف باسم جون الهوسينتزي الذي اختصره فيما بعد إلى هس. وجاء حوالي عام 1390 إلى براغ وهو طالب فقير وكسب عيشه في الكنيسة، وكان أمله أن ينخرط في زمرة القساوسة، ومهما يكن من شىء، فقد انضم إلى طرائق الشباب البوهيمي جريا على سنة العصر، وهو ما أسمته باريس بعد ذلك ((بالبوهيمية)) المرحة للشباب الجامعي، وحصل عام 1496 على إجازة أستاذ في الآداب، وبدأ يدرس في الجامعة، واختير عام 1401 عميداً لكلية الآداب - أو بعبارة أخرى عميدا للدراسات الإنسانية ورسم في ذلك العام قسيساً، وأصلح حياته حتى اقترب بها إلى زهد الرهبانية، وأصبح باعتباره رأس كنيسة بيت لحم، أشهر واعظ في براغ، وكان بين المستمعين إليه كثيرون من رجال البلاط، وقد نصبته الملكة صوفيا واعظاً لها. وأخذ يلقي عظاته باللغة التشيكية، وعلم رجال كنيسته أن يسهموا بنصيب إيجابي في الصلاة بترتيل الأناشيد الدينية.ولقد أكد الذين اتهموه فيما بعد أنه ردد في السنة الأولى من عمله الكهنوتي شكوك ويكليف حول اختفاء الخبز والنبيذ من العناصر المقدسة في العشاء الرباني. وليس من شك في أنه قرأ بعض مؤلفات ويكليف، ودون نسخاً منها لا تزال باقية بتعليقاته عليها، واعترف في محاكمته أنه قال ((إنني على ثقة من أن ويكليف سينجو، ولكن لو اعتقدت أنه سيعذب لتمنيت أن تكون روحي مع روحه)) ونالت آراء ويكليف عام 1402 في جامعة براغ حظاً من الشهرة جعل القوامين على الإدارة الكهنوتية في الكاتدرائية يتقدمون إلى أساتذة الجامعة بخمسة وأربعين نصاً مختاراً من كتابات ويكليف متسائلين: هل تمنع الجامعة هذه الأقوال؟ - فأجاب عدد من الأساتذة بينهم هس بالنفي، ولكن الأغلبية حكمت أنه لا يجوز منذ ذلك الحين لأي عضو من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، أن يدافع أو ينتصر بصورة علنية أو سرية لقول من هذه الأقوال الخمسة والأربعين.

ولابد أن يكون هس قد تجاهل هذا التحريم، لأن رجال الدين في براغ التمسوا عام 1408 من زبينك كبير الأساقفة أن يزجره، فاستجاب لهم كبير الأساقفة بحذر لأنه كان وقتذاك على خلاف مع الملك. ولكن هس استمر في عطفه على آراء ويكليف فأصدر عليه زبينك وعلى عدد من زملائه قرار الحرمان (1409) حتى إذا أصروا أن يمارسوا وظائفهم الكهنوتية، جعل براغ بأسرها تحت وطأة قرار الحرمان. وأمر بأن تسلم إليه كل ما يوجد من كتابات ويكليف في بوهيميا وأحضرت إليه مائتا مخطوطة، فأحرقها في ساحة قصره. فاستأنف هس القرار إلى البابا المنتخب حديثا يوحنا الثالث والعشرين. فاستدعاه ليمثل أمام المحكمة البابوية، فأبى أن يذهب إليها.

ورغب البابا عام 1411 في الحصول على أموال للقيام بحملة صليبية على لاديسلاس ملك نابولي، فأعلن عرضا آخر لصكوك الغفران.ولما أذيع ذلك في براغ وبدا للمصلحين أن عملاء البابا يبيعون الغفران بالمال، دعا هس ومؤيده الأول جيروم البراغي ضد هذه الصكوك، وناقشا وجود المطهر، واحتجا على جمع الكنيسة للأموال لإهراق الدم المسيحي. وهبط هس إلى القدح فوصف البابا بأنه ((نابش الأموال)) وزاد على ذلك بأنه ضد المسيح.وشارك جانب كبير من الشعب، هس في آرائه وعرض عمال البابا للسخرية والانتقاص، إلى حد جعل الملك يحرم كل دعوة أو عمل بعد ذلك ضد صكوك الغفران.وخرج ثلاثة من الفتيان على هذا المرسوم، فاستدعوا إلى مجلس المدينة، ودافع هس عنهم، واعترف بأن دعوته أثارتهم، فأدينوا وقطعت رؤوسهم.وعمل البابا في تلك الفترة على توجيه حرمانه إلى هس. ولما تجاهل الرجل القرار أصدر يوحنا قراراً بحرمان أي مدينة يأوي إليها (1411). ورحل هس عن براغ مستجيبا لنصيحة الملك وظل معتزلا بالريف عامين.

وكتب في هذين العامين أهم مؤلفاته، بعضها باللاتينية، وبعضها بالتشيكية وتكاد كلها تنطق بوحي ويكليف، وربما ردد بعضها الهرطقة واختصام، الكهنوت مما جلبته شعبه باقية من الولدانيين إلى بوهيميا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ولقد أنكر عبادة الصور والاعتراف السمعي وتعدد الشعائر الأنيقة. وأعطى حركته صفة شعبية وقومية بالانتقاص من قدر الألمان والدفاع على الصقالبة ومقالة عن ((التجارة في الأشياء المقدسة هاجم اتجار رجال الدين بالمقدسات))، وفي (( الموضوع في ستة أخطاء De sex erroribus نعى على القساوسة أخذ أجر على العماد وتثبيته والقداس والزواج والدفن، واتهم بعض رجال الدين في براغ ببيع الزيت المقدس، وأخذ برأي ويكليف في أن القسيس الذي اقترف بيع المقدسات لا يجوز له شرعا أن يناول السر المقدس، أما رسالته عن ((اجتماع مجلس شرفاء المدينة De ecclesia)) فقد أصبحت بمثابة دفاعه وسبب هلاكه في وقت واحد فإن من صفحاتها نقلت الهرطقة التي أحرق من أجلها. فقد اتبع ويكليف في القول بالجبر، وأيد ويكليف ومارسيليز وأكهام في أن الكيسة يجب ألا يكون لها طيبات دينوية وعرف الكنيسة مثل كالفن بأنها ليست هيئة رجال الدين ولا الجمع المسيحي بأسره، ولكنها المجموع الكلي في السماء أو على الأرض للناجين من الخطيئة، وليس البابا رأس الكنيسة، ويجب أن يكون الإنجيل لا البابا مرشد المسيحي. وليس البابا معصوماً، حتى في العقيدة أو الأخلاق، وقد يكون البابا نفسه خاطئاً معتاداً للخطيئة أو هرطقياً. وسلم هس بأسطورة صدقها جمهور كبير في ذلك الزمان (بل صدقها جرسون) فاستغل الكثير مما ورد عن البابا المزعوم يوحنا الثامن (الذي تقول الأسطورة) أنه كشف عن جنسه النسوي بأن وضع برغمه طفلاً مولوداً في شوارع روما. وختم هس كلامه بأنه لا طاعة للبابا إلا إذا اتفقت أوامره مع شريعة المسيح. ((وعصيان البابا الخاطئ إنما هو طاعة للمسيح)).

ولما اجتمع مجلس عام في كنستانس عام 1414 لكي يخلع ثلاثة بابوات متنافسين ويضع برنامجا لإصلاح الكهنوت، بدا للعيان أن فرصة قد سنحت لإعادة الوئام بين الهسيين والكنيسة، وكان الإمبراطور سيجسموند، الوارث الشرعي لونسسلوس الرابع الذي لا عقب له، تواقاً لإقرار السلم وإعادة الوحدة الدينية في بوهيميا.فاقترح أن يتوجه هس إلى كنستانس ويبدأ الصلح من ناحيته. ومنح هس من أجل هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر جواز الأمان إلى كنستانس وإبداء رأيه على الملأ أمام المجلس وحرية العودة في أمان إلى بوهيميا إذا رفض هس حكم المجلس. وعلى الرغم من التحذير الملح من معاونيه فقد رحل إلى كنستانس (أكتوبر 1414) يصحبه ثلاثة من النبلاء التشيكيين وعدد من الأصدقاء. وذهب إلى كنستانس في الوقت نفسه تقريبا ستيفن البالكزي وغيره من المعرضين البوهيميين لهس لاتهامه أمام المجلس.

ولما وصل؛ عومل أول الأمر بحفاوة وترك حراً، ولكن ما أن عرض بالكز أمام المجلس بياناً بهرطقات هس، حتى استدعاه أعضاء المجلس واستجوبوه واقتنعوا من إجاباته، بأنه هرطيق كبير، فأمروا بزجه في السجن، فاعتلت صحته، وأشرف في وقت من الأوقات على الموت، وأرسل البابا يوحنا الثالث والعشرون أطباء من قبله لمعالجته، وشكا سيجسموند من أن تصرف المجلس قد خالف جواز الأمان الذي أعطاه لهس، فأجاب المجلس بأنه غير مقيد بصنيعه وبأن سلطته لا تمتد إلى الشئون الروحية، وبأن للكنيسة الحق في أن يعلو حكمها على حكم الدولة إذا أرادت أن تحاكم عدواً للكنيسة، وفي أبريل نقل هس إلى حصن جوتليين على نهر الراين ووضع هناك في الأصفاد. وكان الغذاء الذي يقدم إليه قليلا حتى إنه أصيب بمرض خطير.وأندفع في الوقت نفسه زميله في الهرطقة جيروم البراغي داخلاً إلى كنستانس، وثبت على أبواب المدينة والكنائس وعلى دور الكرادلة، طلباً بأن الإمبراطور والمجلس يجب أن يمنحاه جواز أمان والاستماع إلى ما يقوله علناً. وألح عليه أصدقاء هس فترك المدينة راجعاً إلى بوهيميا، ولكنه توقف في الطريق ليخطب عن سوء معاملة المجلس هس. فقبض عليه وأعيد إلى كنستانس وزج به في السجن.

وفي الخامس من يوليه. سيق هس مكبلاً بعد أن قضى في السجن سبعة أشهر أمام المجلس، ومثل كذلك في السابع والثامن من الشهر نفسه. وسئل عن الآراء الخمسة والأربعين التي سبق أن اتهمت من مؤلفات ويكليف فأنكر معظمها وأيد بعضها. ولما توجه بفقرات من كتابه ((عن الكنيسة)) عبر عن رغبته في حذف ما ينكره الكتاب المقدس (وهو بالضبط نفس الموقف الذي أتخذه لوثر في ورمس) واحتج المجلس بأن الكتاب المقدس يجب أن يفسر بوساطة رؤساء الكنيسة لا بوساطة اجتهاد الأفراد وطالب هس أن يسحب جميع تلك الآراء التي استشهد بها دون تحفظ. وناشده أصدقاؤه ومتهموه أن يوافق ولكنه أبى وفقد النية الطيبة للإمبراطور المتردد، بتصريحه أن الحاكم يفقد شرعية السلطة الدنيوية أو الروحية في اللحظة التي يقترف فيها خطيئة مهلكة.وهكذا أبلغ سيجسموند هس بأن المجلس إذا أدانه بطل جواز الأمان من تلقاء نفسه. وبعد ثلاثة أيام من الاستجواب والجهود التي بذلها الإمبراطور والكرادلة لكي يسحب هس آراءه، أعيد إلى محبسه وسمح المجلس له ولأعضائه بأربعة أسابيع لدراسة الأمر الذي كان معقداً بالنسبة للمجلس أكثر منه بالنسبة لهس.كيف يتأتى لهرطيق أن يعيش دون أن يدمغ ذلك بعدم الإنسانية كل جرائم القتل من أجل الهرطقة التي ارتكبت في الماضي؟ ولقد عزل هذا المجلس بابوات، فهل يتحداه قسيس بوهيمي بسيط؟ أليست الكنيسة وهي إرادة المجتمع الروحية كما أن الدولة إرادته الطبيعية، مسئولة عن النظام المعنوي الذي يحتاج إلى أساس من السلطة التي لا يرقى إليها الخلاف؟ وبدا للمجلس واضحا أن تحدي هذه السلطة كالخيانة العظمى بامتشاق السلاح ضد الملك. وكان على الرأي أن يتطور إبان قرن آخر من الزمان قبل أن يتمكن لوثر من تحد مماثل ويسمح له مع ذلك أن يعيش.

وبذلت محاولات أخرى للحصول على شبهة عدول هس عن آرائه وأوفد الإمبراطور رسلا من لدنه للإلحاح عليه. وكانت إجابته واحدة دائماً، إنه يتنازل عن أي رأي من آرائه لا يؤيده الكتاب المقدس. وفي السادس من يوليه عام 1415، اجتمع المجلس في كاتدرائية كنستانس وأدان كلا من ويكليف وهس، وأمر بإحراق كتابات هس وسلمه للسلطة الزمنية وجرد لتوه من منصبه الديني وسيق خارج المدينة إلى موضع أعدت فيه أكداس من الحطب وطلب إليه للمرة الأخيرة أن ينقذ نفسه بكلمة تنبئ عن تنازله عن آرائه، ولكنه أبى، وأكلته النار وهو يرتل الأناشيد.

وأنكر جيروم في لحظة فزع تغتفر له أمام المجلس تعاليم صديق (10 سبتمبر 1415) ولما أعيد إلى السجن، استعاد شجاعته رويداً. وطالب بأن تسمع أقواله وبعد فترة طويلة سيق أمام المجلس (23 مايو 1416) وبدلا من السماح له بعرض قضيته، طلب إليه أولا أن يرد على التهم العديدة التي وجهت إليه. فاحتج ببلاغة مؤثرة حركت الشكاك الإيطالي الإنساني برجيو براتشيولي الذي جاء إلى كنستانس ليكون كاتما لسر البابا يوحنا الثالث والعشرين: ((أي جور هذا، في أنني أمنح الآن ساعة أدافع فيها عن نفسي، أنا الذي حبست في سجن حقير مدة ثلاثمائة وأربعين يوما، دون أن تتوافر لي وسائل إعداد دفاعي، بينما لغرمائي الحق دائما في أن تستمعوا إليهم؟ إن عقولكم تحكم على بلا مبرر بأنني هرطيق، لقد حكمتم علي بلا مبرر بأنني هرطيق، لقد حكمتم علي بأنني شرير قبل أن تكون عندكم وسيلة ما تعرفون بها أي نوع من الناس كنته.ومع ذلك فأنتم ناس، ولستم آلهة، مخلوقين، ولستم خالدين، أنتم معرضون للخطأ. وكلما ادعيتم بأن ينظر إليكم كمصدر هداية للعالم وجب عليكم الحرص على تأكيد العدالة للناس جميعا. وأنا، الذي تحكمون على قضيته، لا أهمية لي، كما أنني لا أتحدث عن نفسي، لأن الموت يحيق بالجميع، ولكن لا أريد أن أرى عددا كبيرا من الحكماء يقترفون ظلماً، يتخذ سابقة فيكون بذلك أفدح ضرراً من العقاب الذي يفرضه)). وقُرِئَتْ التهم عليه، واحدة بعد أخرى، وأجاب عن كل منها بلا إنكار حتى إذا سمح له آخر الأمر أن يتحدث بحرية استمال المجلس أو كاد يستميله، بحرارته وصدقه. وعرض بعض القضايا التاريخية التي قتل فيها الناس من أجل معتقداتهم وذكر كيف حكم القساوسة بالإعدام على ستيفن الرسول، وأبدى أنه قلما توجد خطيئة أفدح من أن يقتل القساوسة قسيسا. ورجاه المجلس أن ينقذ نفسه بطلب المغفرة، ولكنه أنكر بدلاً من ذلك عدوله السابق عن آرائه، وأكد اعتقاده في مبادئ ويكليف وهس، ودمغ إحراق هس بأنه جرم لابد أن يعاقب الله عليه. ومنحه المجلس أربعة أيام ليرجع عن رأيه. ولما لم يستغفر أدين (30 مايو) وسيق تواً إلى الموضع نفسه الذي أحرق فيه هس. وسار الجلاد خلفه ليوقد النار في أكداس الحطب فناشده جيروم قائلا: ((تعال أمامي....أوقدها أمام وجهي، فلو كنت أخاف الموت لما قدر لي أن أجئ إلى هنا)). وظل يردد أحد الأناشيد حتى خنقه الدخان.

الثورة البوهيمية (1415 - 1436)

أثار موت يان هوس، الذي تناقله الإخباريون إلى بوهيميا، ثورة قومية فاجتمع نبلاء بوهيميون ومورافيون وأرسوا إلى مجلس كونستانس (2 سبتمبر 1415) وثيقة وقعها خمسمائة من أعيان التشيك، وناصرت هس وجعلته كاثوليكيا طيبا مستقيما.وأنكرت إعدامه باعتباره إهانة لوطنه، وأعلنت أن الموقعين سيحاربون إلى آخر قطرة من دمائهم دفاعا عن مبادئ المسيح ضد القوانين التي من صنع البشر. وطالب تصريح آخر بألا يطيعوا منذ ذاك من الأوامر البابوبة إلا ما يتفق مع الكتاب المقدس، وأن الذين يحكمون على اتفاقها مع الكتاب المقدس إنما هم هيئة التدريس بجامعة براغ. وحيث الجامعة نفسها، هس باعتباره شهيداً، ومدحت جيروم السجين. واستدعى المجلس النبلاء المتمردين للمثول أمامه للرد على اتهامهم بالهرطقة، ولكن أحداً لم يحضر وأمر بإغلاق الجامعة، بيد أن أغلبية الأساتذة والطلاب ظلوا يواصلون عملهم. واقترح أحد أتباع هس حوالي 1412 وهوجا كوبك الاستريزيبوي. وجوب بعث العرف المسيحي القديم الخاص بمناولة القربان بصورتيه - النبيذ إلى جانب الخبز - في العالم المسيحي كله. ولما استولت الفكرة على الصفوة والعامة من أنصاره، منحها هس تأييده، فحرمها المجلس، ودافع عن ترك العادة البدائية على أساس أنها مجازفة بسفك دم المسيح.

وبعد موت هس اتخذت جامعة براغ والنبلاء، بقيادة الملكة صوفيا، مناولة القربان بالنوعين جميعاً كأمر من أوامر المسيح، وأصبح كأس العشاء الرباني شعار ((ثورة الأتراكوست)) Utraquist وصاغ أتباع هس عام 1420 مبادئ براغ الأربعة باعتبارها مطالبهم الأساسية وهي: أن القربان يجب أن يتناول خمراً كما يتناول خبزاً، وأن الاتجار بالدين يجب أن يعاقب عليه بحزم وأن ((كلمة الله)) يجب أن يدعى إليها بلا تراخ باعتبارها الأساس الأوحد لحقيقة الدين وشعيرته ويجب أن يوضع حد لاقتناء القساوسة أو الرهبان للممتلكات المادية المتسعة ورفضت أقلية متطرفة من الثائرين تقديس المخلفات الأثرية وعقوبة الإعدام والمطهر والقداس من أجل الموتى. ولقد وجدت جميع عناصر الإصلاح الديني اللوثري في هذه الثورة الهسية.

وكان الملك ونسسلوس الذي عطف على الحركة، وربما فعل ذلك لأنها وعدت بنقل أملاك الكنيسة إلى الدولة، قد أصبح يخشى أن تهدد السلطة المدنية تهديدها للسلطة الدينية وفي المدينة الجديدة التي أضافها إلى براغ لم يعين إلا الذين لا يدينون بالهسية في المجلس، وأصدر هؤلاء الرجال قواعد عقوبات قصد بها القضاء على الهرطقة. وفي 30 يوليو عام 1419 قام جمهور هس بموكب في المدينة الجديدة. وشق له طريقاً حتى بلغ قاعة المجلس، وألقى بأعضائه من النوافذ إلى الطريق، حيث قضى عليهم جمهور آخر. ونظم اجتماع شعبي انتخب أعضاء المجلس الهسيتي وأقر ونسسلوس المجلس الجديد، ثم مات بنوبة قلبية (1419).

وعرض نبلاء بوهيميا أن يقبلوا سيجسموند ملكاً عليهم، إذا اعترف ((بمبادئ براغ الأربعة)). فما كان منه إلا أن طالب جميع التشيك بالطاعة الكاملة للكنيسة وألقى في المحرقة بوهيمياً أبى أن يتبرأ من تناول الكأس الرباني. وأعلن البابا الجديد مارتن الخامس، حملة صليبية ضد الهرطقة البوهيميين وزحف سيجسموند ومعه قوة كبيرة إلى براغ (1420) ونظم الهسيون جيشاً حوالي الليلة السابقة وأرسلت كل مدينة في بوهيميا ومورافيا تقريباً المتطوعين المتحكمين ودربهم جان زيزكا وهو فارس أعور في الستين من عمره وأحرز بهم انتصارات رائعة. ولقد هزموا فرق سيجسموند مرتين. فجمع سيجسموند جيشا آخر ولكن ما أن جاء خبر زائف بأن رجال زيزكا يقتربون، حتى فر الجيش الجديد في غير نظام دون أي يرى عدوا ما. وأسكر رجال زيزكا الطهريين النصر فأخذوا عن خصومهم فكرة القضاء على الخلاف الديني بالقوة وساروا في طول بوهيميا ومورافيا وسيلزيا وعرضها كأنهم عاصفة تقتلع أمامها كل شيء، ينهبون الأديرة ويذبحون الرهبان ويرغمون السكان على قبول مبادئ براغ الأربعة وأصبح الألمان في بوهيميا الذين رغبوا في البقاء على كاثوليكيتهم، الضحايا المفضلة للقوات الهسية وعاشت بوهيميا في الوقت نفسه ومدى سبعة عشر عاما (1419-36) بلا ملك.

واتحدت عناصر متعددة ومتصارعة لتكون الثورة البوهيمية. فإن المواطنين البوهيمين أسخطهم ما عند المقيمين الألمان من ثروة وما فيهم من تعاظم وأملوا في إجلائهم عن الوطن. وطمع النبلاء في ممتلكات الكنيسة ورأوها تستحق المصادرة. وطمح الكادحون اليدويون أن يحرروا أنفسهم من سادتهم من الطبقة الوسطى. وتاقت الطبقة الوسطى أن تضاعف من قوتها المحدودة ضد النبلاء، في مجلس الدايت الذي كان يحكم براغ والذي يسهم في حكم بوهيميا. وحلم عبيد الأرض وبخاصة من كان منهم يعمل في إقطاعيات الكنيسة، بتقسيم هذه الأراضي المباركة أو تحرير أنفسهم على الأقل من القيود الوبيلة. وقدم بعض صغار رجال الدين الذين ظلمهم رؤساؤهم تأييدهم الصامت للثورة وزودوها بالقيام على الشعائر الدينية التي حرمتها الكنيسة. ولما ظفر الجيش الهسي بمعظم بوهيميا، أدت غاياتهم المتناقضة إلى انقسامهم فرقاً يقتل بعضها بعضا. وبعد أن استولى النبلاء على اكثر أموال الجماعات الدينية الأرثوذكسية، شعروا بأن الثورة يجب أن تخمد وان يتيحوا الفرصة لمؤثرات الزمن. بينما صخب عبيد الأرض الذين أفلحوها من أجل الكنيسة مطالبين بتقسيمها فيما بينهم باعتبارهم أحراراً فإن الملاك النبلاء طالبوا عبيد الأرض بأن يخدموا السادة الجدد على أسس العبودية السابقة نفسها. وأريد زيزكا الفلاحين، وحاصر فترة من الزمن ((الكأسيين)) أو بعبارة أخرى الهسيين أصحاب الكأس الرباني في براغ الذين أصبحوا محافظين. ولما تعب من الصراع قبل هدنة وانسحب إلى بوهيميا الشرقية وأسس (أخوه حوديب) هدفها تحقيق المبادئ الأربعة وقتل الألمان. ولما مات (1414) أوصى أن يصنع من جلده طبل حربي.

وتألفت في تابور فرقة هسية أخرى، ذهبت إلى أن المسيحية الحقة تتطلب تنظيما شيوعيا للحياة. ولقد وجدت في بوهيميا قبل هس جماعات من الوالدينيزيين والبجهاردينيين وغيرهم من الهراطقة الذين لا رادع لهم يمزجون المثل الدينية بالمثل الشيوعية. واحتفظوا بهدوء يحمدون عليه إلى أن اقتلعت قوات زيزكا سلطة الكنيسة من معظم بوهيميا، فظهروا علنا، واستولوا على القيادة المذهبية في تابور. وأنكر كثير منهم ((الوجود الحقيقي)) والمطهر والصلاة للموتى، وكل الأسرار المقدسة ما عدا العماد والعشاء الرباني ولم يشجعوا تقديس المخلفات الأثرية والصور والقديسين، واقترحوا إعادة الشعيرة البسيطة لكنيسة الحواريين.وأنكروا جميع الشعائر والأزياء الكهنوتية التي لم يجدوها في المسيحية الأولى. وعارضوا المذابح وآلات الأرغن الموسيقية وفخامة الزخرف الكنسي وأتلفوا كل ما عثروا عليه من هذه الزينة. وأنقضوا العبادات مثلهم في ذاك مثل البروتستانت المتأخرين، إلى القربان والصلاة والقراءة في الكتاب المقدس والعظة وترتيل الأناشيد، ويقوم على هذه الشعائر رجال دين لا يختلفون في الزي عن غيرهم من المدنيين.

ولقد استخلص معظم التابوريين، الاتجاه الشيوعي من المعتقد بعودة المسيح وحكمه ألف سنة. فإن المسيح سرعان ما يجئ ويوطد مملكته على الأرض، ولا تكون في هذه المملكة ملكية ولا كنيسة ولا دولة ولا تفرقة طبقية ولا قوانين وضعية ولا ضرائب ولا زواج، وفي المؤكد أن المسيح، سيسره عند مجيئه أن يجد عبادة قد أنشئوا مثل هذه المدينة الفاضلة السماوية وطبقت مثل هذه المبادئ في تابور وبعض المدن الأخرى، وقال أستاذ معاصر من أساتذة جامعة براغ: كل شيء هناك على المشاع، ولا يملك أحد شيئا لنفسه وحده، ولذلك عد التملك دائما يستحق مقترفه الموت. وهم يرون أن الجميع يجب أن يكونوا أخوة وأخوات متساويين)).

وقد تحول فلاح بوهيمي إلى فيلسوف، واسمه بيتر تشلجي وذهب في آرائه إلى أبعد من ذلك، وكتب بلغة تشيكية قوية مجموعة من المقالات التولستوية يدعو فيها إلى فوضوية مسالمة.وهاجم الأقوياء والأغنياء، وأنكر الحرب وعقوبة الإعدام وعدهما قتلاً، وطالب بمجتمع لا سادة فيه ولا عبيد، ولا قوانين من أي نوع. وناشد أتباعه أن يتبعوا المسيحية اتباعاً حرفياً، كما وجدوها في العهد الجديد والا يعمدوا إلا البالغين، وأن يديروا ظهورهم للدنيا ومناهجها ولحف اليمين والتعلم والامتيازات الطبقية، وللتجارة وحياة المدينة وأن يعيشوا في فقر اختياري وأن يؤثروا فلاحة الأرض، وأن يتجاهلوا تمام التجاهل الحضارة والدولة. ووجد التابوريون هذه الدعوة السلمية لا تناسب مزاجهم. وشيوعية النساء))، وتحولت الفرقتان في الجدول إلى الحرب.وفي غضون سنوات قلائل تطورت القدرات غير المتساوية إلى تفاوت في القوة والامتياز، ثم إلى تفاوت في السلع آخر الأمر، وحل محل رسل السلام والحرية، مشرعون لا رحمة عندهم يقوم تدبيرهم على الاستبداد الغاشم.

واستمع العالم المسيحي في فزع إلى هذه المسيحية الشيوعية المزعومة، وبدأ الهسيون في البارونات وسكان المدن يتطلعون إلى كنيسة روما باعتبارها المنظمة الوحيدة التي لها من القوة ما يتيح لها أن تقضي على التحلل الوشيك للنظام الاجتماعي القائم وهللوا عندما رحب مجلس بازل بالتوفيق.وذهب وفد من المجلس إلى بوهيميا دون الحصول على موافقة البابا، ووقع مجموعة من المواثيق، صيغت بحيث يفسرها المسالمون من الهسيين والكثالكة بأنها تقبل وترفض مبادئ براغ الأربعة (1433). ولما أبى التابوريون الاعتراف بهذه العهود انضم الهسيون المحافظون إلى الجماعة الأرثوذكسية الباقية في بوهيميا وهاجموا التابوريين المنقسمين على أنفسهم وألحقوا بهم الهزيمة، وقضوا على التجربة الشيوعية (1414) واصطلح مجلس ((الدايت البوهيمي)) مع سيجسموند واعترف به ملكاً (1436).

ولكن سيجسموند الذي ألف أن يتوج انتصاراته بما لا نفع فيه، مات في السنة التالية. وبلغ الحزب الأرثوذكسي، إبان الفوضى التي أعقبت ذلك، المكانة العليا في براغ. وألف قائد محلي قدير هو جورج البوديبرادي جيشا من الهسيين، واستولى على براغ، وأعاد جان روكيكانا إلى كرسي كبير الأساقفة ونصب نفسه حاكما على بوهيميا (1451). ولما أبى البابا نيقولاس الخامس الاعتراف بروكيكانا فكر الأتراكوست في أن يتحولوا بولائهم إلى كنيسة الروم الأرثوذكس ولكن سقوط القسطنطينية في يد الأتراك وضع حداً للمفاوضات وفي عام 1458 اختار مجلس الدايت البوديبرداي ملكا لما رآه من إدارته الفائقة التي وطدت النظام والازدهار في البلاد.

فتحول بجهوده إلى إقرار السلام الديني. وأرسل بموافقة مجلس ((الدايت)) وفداً إلى بيوس الثاني (1462) يطلب التصديق البابوي على عهود براغ فأبى البابا وحرم على المدنيين في كل مكان أن يتناولوا القربان بنوعيه وعمل ((البوديبرادي)) بنصيحة ((جريجور هايمبورج)) وهو فقيه ألماني ودعا عام 1464 ملوك أوربا لكي يؤلفوا اتحاداً دائماً للدول الأوربية له سلطة تشريعية وأخرى تنفيذية وجيش ومحكمة لها حق الحكم في المنازعات الدولية في الحاضر والمستقبل، فلم يجب الملوك على هذه الدعوة، وكانت البابوية المنتعشة من القوة إلى الحد الذي لا تأبه فيه ((بحلف أممي)) وأعلن البابا بول الثاني أن البوديبرادي هرطيق وحرر رعاياه في يمين ولائهم له ودعا الدول المسيحية إلى خلعه (1466)، وأخذ مارتكاس كورفينوس الهنغاري على عاتقه القيام بهذه المهمة، فغزا بوهيميا وتوَّجه فريق من النبلاء الكاثوليك (1469) ملكاً، وعرض البوديبرادي العرش على لاديلاس بن كازيمير الرابع ملك بولندة. وأنهكته الحرب وداء الاستسقاء فمات وله من العمر إحدى وخمسون سنة (1471). وتمجده بوهيميا وهي الآن تشيكوسلوفاكيا، باعتباره أعظم ملوكها بعد شارل الرابع.

ووافق مجلس الدايت على لاديسلاس الثاني وانسحب ماثياس إلى هنغاريا واستغل النبلاء ضعف الشباب في الملك لكي يوطدوا سلطانهم الاقتصادي والسياسي، ولينقصوا من عدد نواب المدن والقرى في مجلس الدايت وأن يعيدوا إلى هوان العبودية الفلاحين الذين حلموا بالمدينة الفاضلة وفر آلاف من البوهيمين إبان هذه الفترة من الثورة والنكسة إلى بلاد أخرى. وفي عام(1) 1485 وقع الحزبان الكاثوليكي والأتراكوست معاهدة كتفاهورا وتعهدا بالتزام السلم ثلاثين سنة.

وألف أتباع الثلجكي في بوهيميا الشرقية وموارفيا (1457) فرقة مسيحية جديدة، اسمها كنيسة الأخوة، ووقفوا أنفسهم على حياة زراعية بسيطة على مبادئ العهد الجديد وفي عام 1467 أنكروا سلطة الكنيسة الكاثوليكية وقدسوا قساوستهم ورفضوا المطهر وعبادة القديسين وأرهصوا بمذهب لوثر في التزكية بالعقيدة، وأصبحوا أمل الكنيسة الحديثة التي تدين بالمسيحية، وما أن جاء عام 1500 حتى بلغ أعضاؤها مائة ألف مسيحي. ولقد قضى على هؤلاء ((الإخوان المورافيين)) تقريبا في سورة حرب الثلاثين سنة، وهم إنما عاشوا بفضل جون كومينوس، ولا يزالون موجودين في جماعات مفرقة في أوربا وأفريقيا وأمريكا، وهم يدهشون عالما يتسم بالعنف والشك، بتسامحهم الديني وتقواهم غير المزعومة وولائهم السلمي للمبادئ التي يعتنقوها. (1) خلط الفرنسيون بين البوهيميون المبعدين والغجر (Gypsies) الذين وصلوا إبان القرن الخامس عشر إلى أوربا الغربية، مفترضين مجيئهم من بوهيميا فجعلوا أسم بوهيمي يرادف الغجري. واسم جيبسي (Gypsy) تحريف لاسم إيجبشيان أي مصري، ويوحي بما زعمته القبيلة في أنها جاءت من مصر الصغرى. ويرجع برتن نشأتهم إلى الهند.وسموا في الأراضي البيزنطية باسم الروم - أي الرومان (الشرقيين)، وأطلق عليهم في البلقان وأوربا الوسطى بشتقان من آرزيجان (سزيجاني، زيجر، زنجاري). وهي كلمة يشك في أصلها. وبدأ ظهورهم في السجلات الأوربية في أوائل القرن الرابع عشر بوصفهم جماعات متجولة من أصحاب الحرف والموسيقيين والراقصين والعرافين واللصوص - كما كان الاعتقاد السائد. ووصلوا حوالي عام 1414 إلى ألمانيا وعام 1422 إلى إيطاليا وعام 1427 إلى فرنس وعام 1500 إلى إنجلترا.

وكانوا يقبلون العماد في العادة، ولكنهم تساهلوا في الدين والتزام الوصايا وسرعان ما وقعوا تحت طائلة محاكم التفتيش. وطردوا من إسبانيا (1499) ومن الإمبراطورية الرومانية المقدسة (1500-1548) ومن فرنسا (1561). وتنحصر مساهمتهم في الحضارة إذا استثنينا لباسهم المشرق المنوع الألوان والحلي الخاصة بنسائهم الموسرات، في الرقص والموسيقى - وقد أوحى تبادلهم في الألحان بين الحزن والقوة إلى بعض كبار الملحنين والموسيقيين.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بولندة (1300 - 1055)

إن المحافظة على السلم عسيرة، حتى في المناطق التي تستمد وحدتها ومناعتها من الحواجز الجغرافية، ولنلاحظ كيف تكون المحافظة على هذا السلم أعسر كثيرا في الدول التي تتعرض على أحد حدودها أو أكثر لجيران متعطشين للغزو أبدا، ينزعون إلى التغرير حيناً وإلى القوة حيناً آخر، واختنقت بولندة بعض الاختناق إبان القرن الرابع عشر على يد الفرسان التيوتون واللتوانيين والهنغاريين والمورافيين والبوهيميين والألمان وذلك بالضغط على حدودها وما كاد لاريسلاس ((القصير)) يصبح الأمير الأكبر لبولندة الصغرى أي الجنوبية (1306) حتى واجه حشداً من الأعداء.ورفض الألمان طاعته في بولندة الكبرى أي الغربية واستولى الفرسان على دانزج وبوميرانيا، وتآمر مارجراف - الحاكم العسكري - حارس تخوم براندنبرج للقضاء عليه، وادعى ونسسلوس الثالث صاحب بوهيميا العرش البولندي لنفسه، وجاهد لاريسلاس في هذا الخضم من المتاعب بالسلاح والسياسة والزواج، حتى وحد بولندة الصغرى والكبرى في مملكة متماسكة، وعمل وتوج نفسه ملكاً في كراكاو عاصمته الجديدة (1320). ولما مات بالغاً من العمر ثلاثاً وسبعين سنة (1333) أوصى بعرشه العصي إلى ابنه الوحيد كازيمير الأكبر.

وقد يستكثر البعض هذا اللقب على كازيمير الثالث، لأنه كان يؤثر للمفاوضة والمصالحة، على الحرب، وتنازل عن سيليزيا إلى بوهيميا وعن وميرانيا إلى الفرسان، وقنع بالحصول على غاليسيا حول لواء ومازوفيا حول وارسو، ووقف حكمه مدى سبع وثلاثين سنة على الإدارة، فجعل أقليمه المختلفة تحت ظل قانون واحد، ((يجب ألا تبدو الدولة كوحش كثير الرؤوس)) ووحد بتوحيد، فريق من الفقهاء القانون والعادات المتفاوتة للولايات في قوانين كازيمير - وهي المحاولة الأولى في وضع القوانين البولندية في مجموعة واحدة... وهي مثال على الاعتداء الإنساني، إذا قورنت بمجموعات القوانين المعاصرة، ولقد حمى كازيمير اليهود والروم الأرثوذكس وغيرهم من الأقليات العنصرية والدينية، وشجع التعليم والفنون وأسس جامعة كراكاو (1364) وشيد الكثير من المباني حتى قال الناس أنه وجد بولندة مبنية من الخشب فأعاد بناءها بالحجر وشجع بحكمته البارعة شئون الأمة الاقتصادية حتى لقبه الفلاحون ((بملك المزارعين)، وأثرى التجار في ظل السلام وأجمعت الطبقات كلها على تلقيبه ((بالكبير)).

ولم يكن له وريث من الذكور، فترك تاجه لابن أخيه لويس الكبير ملك هنغاريا (1370)، أملا أن يحرز لبلاده حماية ملكية منيعة ونصيباً من الحافز الثقافي الذي جلبته الأسرة الإنجفينية من إيطاليا وفرنسا، ولكن لويس حصر اهتمامه في هنغاريا وأهمل بولندة، وأراد أن يجعل النبلاء المزهوين بأنفسهم على ولاء له في غيابه بمقتضى ((امتياز كاتسا)) (1374) الذي ينص على الإعفاء من معظم الضرائب واحتكار المناصب العليا. ولما مات نشبت الحرب في سبيل العرش (1382) واعترف مجلس ((السيم)) أي البرلمان بابنته جادويجا البالغة من العمر إحدى عشر سنة (ملكا)، ولم يقض على الاضطراب إلا زواج جاجللو أمير أمراء ليتوانيا من جادويجا (1386) فوحد بذلك مملكته الشاسعة وبولندة ومنح الحكومة شخصية آمرة.

وكان نمو ليتوانيا ظاهرة كبيرة من ظواهر القرن الرابع عشر فلقد ضم جيديمن وابنه ألجيرد تحت حكمهما الوثني روسيا الغربية بأسرها: بولتسك وبنسك وسولنسك وتشرنيجوف وفولهنيا وكيث وبودوليا وأوكرانيا، وفرح بعض هؤلاء أن وجدوا في ظل الأمراء الكبار، عاصما من القبيلة الذهبية التترية التي جعلت روسيا الشرقية التزاما إقطاعيا لها. ولما خلف جاجللو، ألجيرد (1377) كانت الإمبراطورية اللتوانية، التي تحكم في ويلنو تمتد من البلطيق إلى البحر الأسود وتكاد تصل إلى موسكو نفسها، وكانت هذه هي الهدية التي تقلها جاجللو إلى جادويجا أو بعبارة أخرى كانت بولندة بأسرها هي الصداق الذي قدمته إليه، ولم تتجاوز السادسة عشرة عند زواجها، ولقد نشأت رومانية كاثوليكية محيط أرفع ثقافة اللاتينية عصر النهضة، أما هو فكان في السادسة والثلاثين من عمره، أميا كافرا ولكنه قبل العماد واتخذ لنفسه الاسم المسيحي لاديسلاس الثاني، ووعد أن يدخل ليتوانيا بأسرها في المسيحية. وكان ذلك اتحاداً مؤقتاً، لأن تقدم الفرسان الألمان ناحية الشرق كان يهدد بالخطر دولتي الزوجين معاً. وتحولت ((جماعة الإخوان في الصليب)) التي وقفت في الأصل على تنصير الصقالبة، إلى فرقة من المحاربين الغزاة يأخذون بحد السيف كل ما يستطيعون اختطافه من الأرض من أصحابها سواء أكانوا وثنيين أم مسيحيين وأنشئوا عبودية إقطاعية غليظة على الأراضي التي أفلحها يوماً من الأيام مزارعون أحرار. وحكم السيد الأكبر عام 1410 من عاصمته مادينبرج، استونيا وليفونيا وكورلند وبروسيا ويوميرانيا الشرقية وبهذا فصل بولندة عند البحر والتقى في ((حرب شالية)) ضروس، جيش السيد الأكبر وجيش جاجللو، ولقد أنبئنا أن كلا منهما كان يتألف من عشرة آلاف من الأشداء - في موقعة بالقرب من جرونيفولد (1410) وهزم الفرسان ولاذوا بالفرا، مخلفين وراءهم أربعة عشر ألف أسير وثمانية عشر ألف قتيل، بينهم السيد الأكبر نفسه.وأقل نجم جماعة الإخوان في الصليب منذ ذلك اليوم سريعا حتى تنازلت في صلح ثورن (1466) عن بوميرانيا وبروسيا الغربية إلى بولندة بما في ذلك ميناء دانزج الحر باعتباره منفذا إلى البحر.

وبلغت بولندة غي عهد كازيمير الرابع (1447-92) أقصى اتساعها وذورة قوتها وأوج فنها.ومع أن كازمير كان أميا، إلا أنه ختم كراهية الفروسية للقراءة والكتابة، بأن منح أولاده تعليما كاملا. وخلفت الملكة جادويجا وهي تحتضر، جواهرها للإنفاق على إعادة افتتاح جامعة كراكاو - وهي التي قدر لها أن تعلم في القرن التالي كوبرنيكوس.وتوسل الأدب إلى جانب الفلسفة والعلم باللغة اللاتينية، وكتب جان ولوجوز كتابه الكلاسي ((تاريخ بولندة)) (1478) ودعا عام 1477 فيت ستوس النورمبرجي إلى كاراكاو، فمكث فيها سبع عشرة سنة، وبلغ بالمدينة مكاناً رفيعا في فن ذلك العصر، ولقد نقش لكنيسة سيدتنا مائة وسبعة وأربعين مقعدا للمرتلين، ومذبحاً كبيراً، وهو أربعون قدماً في ثلاثة وثلاثين مع ضريح مركزي للقيامة، وهو في روعة صورة تيتيان ومع ثماني عشرة صورة جدارية تقص حياة مريم وطفلها - وهي صور جدارية جديرة - وإن كانت في الخشب - بأن تضارع الأبواب البرونزية التي حققها غيبرتي لموضع العماد الفلورنسي قبل ذلك بقرن. وحفر ستوس لكتدرائية كراكاو مدفنا فخما من المرمر الأحمر المزرقش لكازيمير الرابع وبلغ النحت القوطي بهذه الآثار في بولندة أوجه ونهايته. أما في عهد ابن كازيمير، وهو سيجسموند الأول (1506-48) فقد اتخذ الفن البولندي، لوثرية عصر النهضة الإيطالية الذي تسرب في ألمانيا، وهكذا بدأ عصر جديد.