قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 1 ف 10

صفحة رقم : 7923

قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> المد العثماني -> الازدهار الثاني في بيزنطة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل العاشر: المد العثماني (1300 - 1516)

1- الازدهار الثاني في بيزنطة 1261 - 1373

أعيدت الإمبراطورية البيزنطية بلا إراقة دماء في ظل أسرة بلايولوجية جديدة عام 1261، وبقيت برغمها حوالي قرنين من الزمان وانتقص من أطرافها تقدم المسلمين في آسيا وأوربا، وتوسع الصقالبة في مؤخرتها وتناثر الأجزاء المفرقة التي استقلت عنها على يد أعدائها المسيحيين الذين استباحوا القسطنطينية عام 1204 - النورمانديين والبندقيين والجنوبيين. وتخلفت الصناعة في مد الإمبراطورية، ولكن منتجاتها كانت تحمل على سفن إيطالية لا تدفع إيراداً للخزانة. ولم يبق من الطبقة الوسطى كثيرة العدد إلا بقية وفوقها نبلاء مترفون، ومطارنة ذوو ملابس فضفاضة، لم يتعلموا شيئاً من التاريخ ونسوا كل شيء اللهم إلا امتيازاتهم. وتحتهم طبقات من رهبان مشاغبين خلطوا التقوى بالسياسة، وملاك مزارعون هبطوا إلى مستأجرين كما هبط الفلاحون المستأجرون إلى عبيد أرض وحلم العمال اليدويون بمدينة فاضلة تقوم على المساواة.وطردت ثورة في سالونيك (1341) الطبقة الأرستقراطية، ونهبت القصور وأقامت جمهورية شبه شيوعية حكمت ثماني سنوات قبل أن تقضي عليها قوات الجيش المسيرة في العاصمة.وظلت القسطنطينية مركزاً زاخراً بالتجارة بيد أن أحد الرحالة المسلمين لاحظ عام 13330 ((كثيراً من البيوت المهدمة والحقول المبذورة في داخل أسوار المدينة))، وكتب السفير الأسباني روى جونزاله ده كلافيجة حوالي 1409 يقول:((في كل مكان في أنحاء العاصمة توجد القصور العظيمة والكنائس والأديرة ولكن معظمها أطلال)). فقد هجر المجد ملكة البوسفور.

وفي وسط هذا الاضمحلال السياسي امتزج التراث اليوناني النفيس أبداً في الفلسفة بالتقاليد البيزنطية الشرقية في العمارة والتصوير ليؤلف الأنشودة الثقافية للإمبراطورية الرومانية الشرقية.ولبثت المدارس تشرح أفلاطون وأرسطو وزينون الرواقي، وإن تحاشوا أبيقور باعتباره ملحداً، ونقح العلماء النصوص الكلاسية وذيلوها بالحواشي. وصنف ماكسيموس بلانوديس المبعوث البيزنطي إلى البندقية ((مجموعة الشعر اليوناني)) وترجم الآثار الكلاسية اللاتينية إلى اليونانية وأعاد بناء جسر ثقافي بين بيزنطة وإيطاليا وتوضح سيرة تيودوروس ميتوتشيتيس هذه النهضة الباليولوجية. فلقد كان كبيرا وزراء أندرونيقوس الثاني وفي الوقت نفسه من أعلم علماء زمانه وأغزرهم إنتاجا ولقد كتب عنه نيقفورس جريجورس وهو عالم ومؤرخ يقول: ((لقد كان يقف جهده كله من الصباح إلى المساء على الشئون العامة، كأنما لا علاقة له بالدراسة ولكنه يصبح بعد مغادرته القصر وفي الجانب الأخير من المساء مستغرقاً في الدراسات بدرجة عالية كأنه دارس لا علاقة له البتة بمهمة أخرى)). وقد ألف تيودوروس في التاريخ والشعر والفلك والفلسفة، بتفوق لا يضارعه فيه يوناني آخر في هذا القرن الرابع عشر. وخسر في الثورة التي خلعت مولاه عن العرش منصبه وداره وماله وألقى به في السجن، واعتلت صحته فسمح له أن ينفق أيامه الأخيرة في دير ((المخلص)) في كورا (أي في الحقول)، الذي زين جدرانه لفسيفساء من أجمل ما في التاريخ البيزنطي.

واستعادت المناظرة القديمة بين الأفلاطونيين والأرسطيين مكانتها، فدافع الإمبراطور جون السادس كانترا كورزين عن أرسطو، بينما ظل أفلاطون إله جمستوس بليثو.ولقد درس هذا الفيلسوف الذي يعد من أشهر السفسطائيين اليونان في بروسيا بآسيا الصغرى، عندما أصبحت هذه المدينة عاصمة الزحف العثماني ودرس على أحد اليهود هناك حكمة الزرادشتيين حتى إذا عاد إلى مسقط رأسه بيلوبونيزس، وقد عاد إليها اسم موريا - ترك فيما يبدو العقيدة المسيحية. واستقر في مسترا، فأصبح قاضياً وأستاذاً في آن واحد. وكتب عام 1400 رسالة يحمل عنوان أفلاطون، ((القوانين)) اقترح فيها أن تحل ديانة الإغريق القدماء محل المسيحية والإسلام، بمجرد تحويل جميع آلهة الأولمب، ما عدا زيوس إلى مشخصات رمزية لعلميات إبداعية أو أفكار، ولم يعرف بليثو أن الأديان تولد ولا تصنع. ومع ذلك فقد اجتمع حوله التلاميذ مشغوفين، وقدر لأحدهم وهو جوهانز يساريون أن يكون الكاردينال الدارس للآثار الكلاسية في إيطاليا، ولقد صحب كل من جمستوس ويسايرون الإمبراطور جون الثامن إلى فرارا وفلورنسة (1438) لحضور المجلس الذي اتفقت في الكنيستان اليونانية والرمانية في علوم الدين وفي السياسة. وفي فلورنسة حاضر جيمستوس عن أفلاطون لصفوة من المستمعين، وكاد يتأثر عصر النهضة الإيطالية. وهناك أضاف كنية بليثو (الكامل) إلى اسمه، وأخذ يلعب باسمه جمستوس ومعناه ((التام)) وأفلاطون وعاد إلى مسترا ولم ينشط في علوم الدين، فأصبح كبير أساقفة ومات بالغا من العمر خمسا وتسعين سنة (1450).

وكان البعث الفني ملحوظاً كعودة الفتوة إلى الآداب. وكانت الموضوعات والرسوم لا تزال كهنوتية، بيد أن لمسة من منظر خلوي أو نسمة من الطبيعة. وفي الفسيفساء التي كشف عنها حديثا ديركورا ((مسجد قاهرية الجامع)) حيوية دافقة جعلت المؤرخين الغربيين يعترفون بأنهم يرون فيها تأثيراً إيطالياً جديداً. وتراخت القبضة الكهنوتية عن الصور الجدارية التي حلت محل الفسيفساء، باهظة النفقة في زخرف الكنائس والقصور وظهرت رسوم من الخيال الرحب والقصص الدنيوي إلى جانب قصص القديسين. ومع ذلك تشبث صناع الأيقونات بالطراز الموروث القديم، أشكال ضامرة ووجوه يحرقها ورع طهري غائبة بصورة أخاذة عن أخلاقيات العصر. وتعرض حينذاك تصوير المنمنمات البيزنطي لانحلال كبير، بيد أن نسج الرسوم التصويرية بالحرير ظل ينتج روائع لا تنافس في العالم الغربي ويعود تاريخ ما يسمى ((زنار شارلمان)) إلى القرن الرابع عشر، أو الخامس عشر، ولقد نسج صانع بارع على قاعدة من الحرير المصبوغ بالزرقة صممها فنان، بخيوط من الفضة والذهب، مشاهد من حياة مريم والمسيح وقديسين مختلفين.وتحققت آثار رائعة مماثلة في التصوير على النسيج في ذلك العصر في سالونيك والصرب وملدافيا وروسيا.

وعادت اليونان مرة أخرى مركزاً للفن العظيم. وما كاد القرن الثالث عشر يشرف على نهايته حتى كان الفرنجة الذين نثروا على الأماكن الكلاسية القلاع البهيجة قد أخلوا السبيل للقوة البيزنطية، وفي عام 1348 أرسل الإمبراطور جون السادس ابنه عمانويل ليكون حاكماً على المورة، فأقام مقرة المحلي على تل مشرف على إسبرطة القديمة. فوفد على العاصمة الجديدة نبلاء وأعيان ورهبان وفنانون وعلماء وفلاسفة وبنيت أديرة فخمة، واحتفظت ثلاثة منها في كنائسها، ببعض صورها الجدارية التي ترجع إلى القرون الوسطى: ديرا متروبوليس وبريليبتوس من القرن الرابع عشر وبانتاتسا من أوائل القرن الخامس عشر، وهذه هي أحسن الجداريات في التاريخ البيزنطي الطويل، وهي تضارع خير ما أنتجته إيطاليا في العصر نفسه من الصور الجدارية بدقة رسمها ورشاقة صورها الفياضة وعمق وإشراق ألوانها، والحق، أنها تدين ببعض ما تتسم به من الروعة إلى كيما بووجيوتو أودكشيو - وهم جميعاً يدينون بالكثير للفن البيزنطي. وعلى الشاطئ الشرقي لبلاد اليونان، على ارتفاع قمة ((جبل أثوس)) أقيمت الأديرة في القرن العاشر، وظلت تقام هناك في معظم القرون بعد ذلك في القرن الرابع عشر بانتوكراتور الفخم، وفي القرن الخامس عشر دير القديس بول. ولقد نسب إبان فترة التقهقر ((دليل يوناني للتصوير)) يرجع تاريخه إلى القرن الثامن عشر، أحسن الجداريات إلى عمانويل بانسيلينوس السالونيكي الذي "أظهر تفوقاً وحذقاً في فنه حتى وضع على رأس جميع المصورين القدماء والمحدثين"، وليس من المستطاع التحقق من تواريخ عمانويل وآثاره فقد يرجع إلى القرن الحادي عشر أو السادس عشر، ولا يستطيع أحد أن يجزم بما صدر عن يده من الصور التي فوق جبل أثوس.

وبينما كان الفن البيزنطي يجتاز هذا الوجد الأخير في تاريخه أفل نجم الحكومة البيزنطية. فقد اضطرب نظام الجيش واضمحل الأسطول، وسيطرت سفن جنوى والبندقية على البحر الأسود، وأخذ القرصان يتجولون في الأرخبيل اليوناني، واستولت على غاليبولي (1306) فرقة مرتزقة من قطلونية - "وهي الشركة القطلونية الكبرى" - وفرضت الإتاوات على تجارة الدردنيل، وأنشأت جمهورية من اللصوص في أثينا (1310)، ولم توفق حكومة في القضاء عليهم وتركوا تحت رحمة شططهم. وانضم الباب كليمنت الخامس عام 1307 إلى فرنسا ونابلي والبندقية في مؤامرة لاستعادة القسطنطينية. وفشلت المؤامرة، بيد أن الأباطرة البيزنطيين لبثوا سنوات كثيرة يستشعرون الخوف من الغرب المسيحي حتى لم يكن عندهم من النشاط والحمية ما يدفعون به الزحف الإسلامي وما كاد هذا الخوف يتبدد حتى كان العثمانيون على الأبواب.

ولقد اشترى بعض الأباطرة هلاكهم بأنفسهم. ففي عام 1342 تورط جون السادس كانتاكوزين في حرب أهلية وطلب العون من أورخان سلطان آل عثمان فأرسل إليه أورخان السفن وساعده في الاستيلاء على سالونيك، فما كان من الإمبراطور المعترف بالجميل إلا أن أرسل إليه ابنته تيودورا لتكون زوجة ثانية له، وبعث إليه السلطان بفرق جديدة تتألف من ستة آلاف جندي. وأخذ جون باليولوج على عاتقه أن يخلعه - فما كان من جون كانتاكوزين إلا أن نهب الكنائس القسطنطينية ليدفع إلى أورخان ثمن عشرين ألف جندي تركي آخرين ووعد السلطان بحصن في شيرزونيس بتراقيا، وفي لحطة انتصاره الظاهري انقلب الشعب عليه وعده خائناً، وحولته الثورة في ليلة واحدة من إمبراطور إلى مؤرخ - (1355) فاعتزل في دير، وكتب تاريخ عصره كمحاولة أخيرة لإرباك أعدائه.

ولم يجد جون الخامس باليولوج العرش ذلولاً، فذهب إلى روما مستشفعاً (1369)، ووعد، في مقابل ما يقدم له من عون ضد الأتراك أن يدخل شعبه في طاعة البابوية، وأنكر الكنيسة اليونانية الأورثوذكسية أمام المذبح الكبير للقديس بطرس. ووعد البابا إربان الخامس بأن يمد له يد العون ضد الكفار، وأعطاه رسائل إلى أمراء العالم المسيحي، ولكن هؤلاء الأمراء كانوا منصرفين إلى شؤون أخرى. وبدلاً من أن تقدم له البندقية المساعدة المنشودة اعتبرته رهينة في مقابل الديون اليونانية. وأحضر ابنه عمانويل المال المطلوب، وعاد جون إلى القسطنطينية أفقر مما رحل عنها، وأنكره شعبه لأنه حنث بعهده للمذهب الأرثوذكسي. وفشل في محاولة ثانية للحصول على المدد من الغرب، فاعترف بالسلطان مراد الأول مولى عليه، ووافق على أن يمد الجيش العثماني بالمدد العسكري، وقدم ابنه الحبيب عمانويل ليكون رهينة على الوفاء بتعهده وهدأت ثائرة مراد فترة ما وتنكب بيزنطة، وتحول لإخضاع أمارات البلقان.


2- أمارات البلقان تلتقي بالترك 1300 - 96

لقد كان القرن الرابع عشر إلى ذلك الوقت بالنسبة لإمارات البلقان بمثابة القمة في تاريخها... وعمل الصقالبة الأشداء في ولاشيا وبلغاريا والصرب والبوسنة وألبانيا على قطع الأخشاب من الغابات والبحث عن المناجم وفلاحة الأرض ورعى قطعان الماشية وكانوا يحرصون على تربية دوابهم. وحمل الصقالبة والإيطاليون والمجربون والبلغار واليونان واليهود تجارة الشرق والغرب من بحر الأدرياتي إلى البحر الأسود ومن البحر الأسود إلى البلطيق، وكانت المدن تدر عليهم الرزق كلما ساروا.

وكان الرجل العظيم من الصرب في هذا القرن هو ستيفن دوشان. ولقد أنجبه والده ستيفن أروس الثالث في انفلاتة قصيرة عن روابط الزوجية وسماه بهذا الاسم المحبوب دوشا - أي الروح - وتوّجه ولياً للعهد حتى إذا جاء ابن آخر شرعي وحمل بدوره ألقاباً محببة، خلع ستيفن أباه، وشنقه وحكم بلاد الصرب بيد قوية مدى جيل كامل. وكتب أحد معاصريه عنه يقول: "كان أطول رجال زمانه وأبشعهم منظراً"، واغتفرت له الصرب كل شيء لأنه شن حرباً مظفرة. فقد درب جيشاً جراراً، وقاده بحنكة، وفتح البوسنة وألبانيا وأبيروس وأكارنانيا وأيتوليا ومقدونيا وتساليا ونقل عاصمة ملكه من بلجراد إلى سكبلجة حيث جمع برلماناً من النبلاء، وناشده أن يوحد ويجمع قوانين ولاياته المختلفة، وكانت ثمرة ذلك هي: "زابونيك تساد دوشانه" أي "مجموعة قوانين القيصر دوشان" (1349) وهي تكشف عن مستوى في التطور القانوني والعرف المتمدين لا يقل كثيراً عما في أوربا الغربية، وأفاد الفن الصربي في القرن الرابع عشر من هذه النهضة السياسية في التمويل وربما في الحافز حتى ضارع الازدهار المعاصر في القسطنطينية والمورة، فأقيمت الكنائس الفخمة، وكانت الفسيفساء فيها أكثر حرية وحياة مما سمح به الاتجاه الكهنوتي المحافظ في العاصمة اليونانية، وفي عام 1355 حشد دوشان جيوشه للمرة الأخيرة. وسألهم هل يؤثرون أن يسروا ضد بيزنطة أم ضد المجر. فأجابوا أنهم على استعداد لمتابعته إلى أي مكان يختاره لقيادتهم. فصاح "إلى القسطنطينية" ومرض في الطريق ومات.

وكانت إمبراطوريته من التنافر إلى حد لا يجمعها غير رجل له ذكاء نافذ ونشاط منظم، فشقت البوسنة عصا الطاعة، والتمست لحظة مواتية، في كنف ستيفن ترتكو، لقيادة البلقان. وحصلت بلغاريا على المرحلة الأخيرة من مراحل عظمتها في عهد جون الإسكندر. وانفصلت ولاشيا، التي كانت في يوم من الأيام جزءاً من الإمبراطورية البيزنطية (1290) وحكمت دلتا الدانوب الشاسعة. وخرجت ملدافيا عن ولائها لالمجر (1349). وداهم الترك هذه الدويلات المتنافرة حتى قبل أن يجعل جون الخامس باليولوج من بيزنطة التزاماً إقطاعياً لمراد الأول. وقاد سليمان الابن المقدار للسلطان أورخان الجيوش التركية لمعاونة جون السادس كانتاكوزين، فتسلم أو أخذ مكافأة له، حصن زمبه على الجانب الأوربي للدردنيل (1353) ولما هدم الزلزال گاليپولي المجاورة دخل سليمان المدينة العزلاء واستجاب الأتراك المستعمرون لدعوته فعبروا من الأناضول وانتشروا على طول الشاطئ الشمالي لبحر مرمرة وكادوا يبلغون القسطنطينية نفسها وزحف سليمان بجيش متزايد صوب تراقيا واستولى على أدرنة 01361). وبعد خمس سنوات جعل منها مراد عاصمته الأوربية. وفي هذا المركز صوب الأتراك ضرباتهم مدى قرن من الزمان إلى إمارات البلقان المنقسمة على نفسها.

وأدرك البابا إربان الخامس مغزى هذا التسلل التركي إلى أوربا فاستنفر العالم المسيحي بأسره لحرب صليبية أخرى، فاتجه جيش مؤلف من الصرب والمجريين والولاشيين، ببسالة صوب أدرنة. وأقاموا عند نهر مارتزا احتفالاً بزحفهم الذي لم يلق مقاومة، وفيما هم يشربون الأنخاب ويعربدون إذا بهم يفاجئون بهجوم ليلي من قوة تركية صغيرة بالقياس إليهم. وذبح كثيرون قبل أن يتمكنوا من حمل أسلحتهم، وغرق كثيرون آخرون وهم يحاولون الانسحاب عبر النهر وفر الباقون (1371). وفي عام 1385 استسلمت صوفيا وسقط نصف بلغاريا في أيدي العثمانيين. واستولوا عام 1386 على نيس على سالونيك عام 1387. وأصبحت اليونان بأسرها مكشوفة أمام الأتراك.

وأوقفت بوسنة الصغرى الزحف في غضون سنة بطولية واحدة. وضم ستپان تڤرتكو جنوده إلى جنود الصرب بقيادة لازار الأول وهزموا الأتراك في بلوشنيك (1388). وبعد عام سار مراد غرباً على رأس جيش فيه فرق كثيرة من الجند المسيحيين. والتقى في قوصوة بحلف من الصرب والبوسنين والمجريين والفلاشيين والبلغار والألبان والبولفريين وادعى فارس حربي إسمه ميلوش كوبيلتش، أنه آبق في الخدمة العسكرية وجاسوس واستطاع بذلك أن يشق طريقه إلى خيمة مراد وأن يغتال السلطان فضرب حتى مات. واستثار ابن مراد ووريثه بايزيد الأول الحمية الغضوب في نفوس الأتراك وقادهم إلى النصر. فأسر الملك لازار وقطعت رأسه وأصبحت الصرب إمارة إقطاعية تدفع الجزية للأتراك، وأرغم ملكها الجديد ستيفن لازار فتش على إرسال السلاح والرجال إلى بايزيد، وفي عام 1392 انضمت ولاخيا في عهد جون شيشمان، إلى قائمة الدول البلقانية التي تدفع الجزية للعثمانيين. ولم تقو على الدفاع غير بلغاريا وبيزنطة.

وفي عام 1393 غزا بايزيد بلغاريا. وسقطت ترنوڤو لعد حصار دام ثلاثة أشهر، ودنست الكنائس وأضرمت النيران في القصور ودعا زعماء النبلاء إلى اجتماع، ثم أعمل السيف فيهم. فاستصرخ البابا مرة أخرى العالم المسيحي ودعا الملك سيجمسوند ملك المجر، أوربا لحمل السلاح. ومع أن فرنسا كانت مشغولة بصراع حياة أو موت مع إنجلترا إلا أنها أرسلت قوة من الفرسان تحت قيادة كونت نيفير، وجاء كونت هوهنزولرن والسيد الأعظم لفرسان القديس يوحنا مع أتباعهما، وأحضر أمير بلتين ثلة من الفرسان الباڤاريين، وأنكر جون شيشمان تبعية الإقطاعية وجاء بجنده ليحارب تحت قيادة الملك المجري.

وسار الجيش المتحد الذي يتألف من ستين ألفاً من الجنود الأشداء عبر الصرب وحاصر الحامية في نيكوبوليس. وبلغهم التحذير بأن بايزيد في طريقه، ومعه جيش من آسيا لرفع الحصار، فوعد الفرسان الفرنسيون وقد لعبت الخمر والنساء برؤوسهم بأن يبيدوا هذا الجيش، وقالوا مفاخرين لو سقطت السماء على الأرض فسيرفعونها برماحهم، أما بايزيد فقد اقسم ليربطن جواده بالمذبح الرفيع في كنيسة القديس بطرس في روما ووضع ضعف قواته في المقدمة بخطة حربية بادية الوضوح. فاندفع الفرسان الفرنسيون وسط هذه القوات مستشعرين للنصر، ثم وسط عشرة آلاف من الانكشارية ثم وسط خمسة آلاف من الفرسان الأتراك، ثم هجموا مصعدين في غير تبصر أحد التلال، وإذا بهم يواجهون وراء القمة مباشرة الجزء الرئيسي من الجيش التركي المؤلف من أربعين ألفاً من حملة الرماح. وحارب النبلاء ببسالة وكانوا بين قتيل وأسير ولائذ بالفرار، وباندحارهم وقع الاضطراب في صفوف المشاة المتحالفين خلفهم. ومع ذلك فقد كان المجريون والألمان يردون الأتراك على أعقابهم بينما كان ستيفن لازار فتش أمير الصرب يقود خمسة آلاف من المسيحيين ضد الجيش المسيحي وانتصر في موقعة نيكوبوليس الحاسمة لمصلحة السلطان (1396).

وثارت ثائرة بايزيد عندما رأى الجم الغفير من رجاله صرعى في حومة القتال، وعندما سمع ما زعمته الحامية التي أنقذت من أن المحاصرين المسيحيين قتلوا أسراهم من الترك، فأمر بقتل أسراه البالغين عشرة آلاف رجل. وسمح لكونت نيفير أن يتخير أربعة وعشرين فارساً في مقابل الفدية التي يحضرونها. وذبح آلاف من المسيحيين في مقتله دموية استمرت من طلوع الشمس إلى فترة متأخرة من المساء، حتى توسل قواد السلطان أن يخلي سبيل الباقين. وظلت بلغاريا منذ ذلك اليوم إلى عام 1878 ولاية من ولايات الإمبراطورية العثمانية وبذلك استولى بايزيد على معظم اليونان، ثم اتجه صوب القسطنطينية.

3- السنوات الأخيرة للقسطنطينية 1373 - 1453

لم تكن هناك حكومة جديرة تماماً بالسقوط كالحكومة البيزنطية.فلم ترسل فرقاً من الجنود إلى الجيوش المسيحية في مارتزا وقوصوه أونيكوبوليس لأنها فقدت الرغبة في الدفاع عن نفسها وعجزت عن إقناع اليونان الممعنين في السفسطة بأن الاستشهاد في سبيل الوطن عمل مجيد ونبيل، فقد جهزت اثني عشر ألف جندي للسلطان عام 1379 والفرق البيزنطية هي التي أجبرت بأمر جون السابع باليولوجس مدينة فيلادلفيا البيزنطية بآسيا الصغرى على التسليم للأتراك (1390). ولما واصل بايزيد حصار القسطنطينيين (1402) كانت الإمبراطورية البيزنطية قد انحسرت في عاصمتها. وسيطر بايزيد على شاطئ بحر مرمرة وتحكم في الدردنيل وحكم معظم آسيا الصغرى والبلقان تقريباً وتنقل في أمن بين عواصمه الأسيوية والأوربية. ويبدو أن الساعة الأخيرة للمدينة المحاصرة قد حانت. وكان اليونان المشرفون على الموت جوعاً يلقون بأنفسهم من الأسوار، ويلجئون إلى الأتراك لكي يطعموا. وفجأة ظهر من الشرق الإسلامي مخلص ((كافر)) للحدود الأمامية للعالم المسيحي. وهو تيمور الأعرج - تيمورلنك الكبير - الذي عزم على أن يضع حداً لنمو القوة العثمانية ووجودها. ولما أخذت حشود التتار تطوي الأرض متجهة إلى الغرب رفع بايزيد الحصار عن القسطنطينية وعاد ليعيد جمع قواته في الأناضول. والتقى التتار والأتراك في أنقرة (1402) فهزم بايزيد ووقع أسيراً وانحسر المد التركي فترة جيل. وبدأ أن الله قد ناصر آخر الأمر المسيحيين.

واستعادت بيزنطية بفضل حكم عمانويل الثاني السديد، معظم اليونان وأجزاء من تراقية. ولكن محمد الأول أعاد تنظيم الجيش التركي وتحول به مراد الثاني من الهزيمة المنكرة إلى انتصارات باهرة. وكان جنود الإسلام لا يزالون، يستلهمون من اعتقادهم بأن الشهيد في سبيل الإسلام له الجنة. وحتى ولو لم تكن هناك جنة وحور عين، فإن فيهم من الإنصاف ما يجعلهم يرون الجمال في بنات يونان . أما المسيحيون فلم يكونوا على هذا القدر من الأنصاف، فإن اليونان الكاثوليك كانوا يمقتون الرومان الكاثوليك، وكان الفريقان مكروهين بدورهما.ولما أخذ البنادقة يقنصون اليونان الكاثوليك في جزيرة كريت ويعملون السيف في رقابهم انضم البابا أربان الخامس إلى بترارك في تهنئة أمير البندقية على حمايته للكنيسة الواحدة الصادقة (1350) ولقد نفر الشعب وصغار القساوسة من كل محاولة لإعادة توحيد المسيحية اليونانية واللاتينية - وصرح أمير بيزنطي بأنه يفضل أن يرى العمامة التركي في القسطنطينية على القبعة الحمراء لكاردينال روماني. وكرهت معظم الحكومات البلقانية جيرانها أكثر من كراهيتها للأتراك، وآثر البعض أن يخضع للمسلمين، الذين لا يفرضون ضرائب أكثر مما يفرضه الحكام المسيحيون واضطهادهم للهرطقة أقل أو هم لا يضطهدونها على الإطلاق ويسمحون بأربع زيجات.

وفي عام 1422 أعاد مراد الثاني الهجوم على القسطنطينية. وأرغمته ثورة في الولايات البلقانية على رفع الحصار. وسمح لجون الثامن باليولوجس أن يحكم في سلام نسبي بشرط أن يدفع جزية باهظة للأتراك. وأعاد مراد فتح اليونان وسالونيك ومعظم ألبانيا. وقاومت الصرب ببساطة تحت إمرة جورج برانكوفتش، وألحق جيش موحد من الصرب والهنغاريين إمرة هانياد جانوس الهزيمة بمراد عند كونوفتزا (1444) وحكم بارنكوفتش الصرب إلى أن مات بالغاً من العمر تسعين سنة (1456) ووقع مراد، بعد انتصارين من فارنا ووقعة قوصوه الثانية (1448)، صلحاً مع الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر باليولوجس وانسحب إلى أدرنة ومات هناك (1451).

ولقد جلس محمد الثاني الملقي بالفاتح على العرش العثماني وهو في الواحدة والعشرين من عمره. وأيد المعاهدة التي أبرمت مع قسطنطين وأرسل ابن أخيه أورخان ليتعلم (وربما ليكون جاسوساً) في البلاط البيزنطي ولما تحدت دول إسلامية أخرى سلطانه على آسيا الغربية جعل جنود يعبرون المضايق وترك ممتلكاته الأوربية تحت إمرة وزيره خليل باشا المعروف بصداقته لبيزنطة. وكان قسطنطين يتحلى بالشجاعة يتحلى بالشجاعة أكثر من الذكاء، فأبلغ الوزير أنه إذا لم يضاعف المعاش الذي يدفع لرعاية ابن أخي محمد فإن بيزنطة ستجعل أورخان مطالباً بالسلطنة العثمانية. ويبدو أن قسطنطين قد رأى أن الثورة في آسيا فرصة لإضعاف الأتراك في أوربا. ولكنه أهمل أن يحافظ على محالفاته في الغرب ومواصلاته بالجنوب. وعقد محمد الصلح مع أعدائه من المسلمين ومع البندقية وولاشيا والبوسنة وهنغاريا. وعبر ثانية إلى أوربا وشيد حصناً منيعاً على البوسفور مشرفاً على القسطنطينية، ومن ثم أمن المعبر المكشوف الذي تحوزه جنوده بين القارتين، وتحكم في التجارة كلها التي تدخل البحر الأسود. وظل ثمانية أشهر يجمع المواد والرجال. واستأجر صناع المدافع المسيحيين، ليصنعوا له أكبر مدفع عرف لذلك العهد، يرمى بقذائف وزنها ستمائة رطل، وفي يونية عام 1452، أعلن الحرب، وبدأ الحصار الأخير للقسطنطينية ومعه مائة وأربعون ألف رجل.

ودافع قسطنطين بعزم اليائس وجهز جنوده السبعة آلاف بمدافع صغيرة ورماح وقسى وسهام وبنادق ساذجة ترمي قذائف من الرصاص في حجم الجوزة، وكان لا ينام إلا لحظات خاطفة، وأشرف كل ليلة على إصلاح ما يصيب الأسوار من عطب في غضون النهار. ومع ذلك فإن الحصون القديمة أخذت تنهار أكثر فأكثر تحت وطأة قذائف المنجنيق ومدفعية الأتراك المتفوقة، وهكذا انتهى تحصين المدن في القرون الوسطى بالأسوار. وفي التاسع والعشرين من مايو شق الأتراك طريقهم عبر خندق مكتظ بجثث قتلاهم. ودخلوا كالموج المتلاطم من فوق الأسوار ومخترقين إياها إلى المدينة التي أخذها من كل جانب، وضاعت حشرجة المحتضرين في طبول الموسيقى العسكرية وأبواقها. وحارب اليونان بشجاعة آخر الأمر، وكان الإمبراطور الصغير في كل مكان من حومة الوغى، واستشهد النبلاء الذين كانوا معه عن بكرة أبيهم دفاعاً عنه. ولما أحاط به الأتراك صاح قائلا: ((ألا يوجد مسيحي يضرب عنقي)). وخلع عن نفسه رداءه الإمبراطوري وحارب كجندي عادي واختفى في طريق جيشه الصغير، ولم يسمع عنه شيء قط بعد ذلك.

وقتل المنتصرون الألوف، حتى توقفت كل محاولة للدفاع. ثم بدءوا النهب والسلب الذي يجنح إليه الظافرون والذي طال تعطشهم إليه، وأخذ كل بالغ ينتفع به في العمل غنيمة، واغتصبت الراهبات كغيرهن من النسوة في ثورة من الشهوة لا تعرف التمييز، ووجد السادة والخدم من المسيحيين بعد أن زال عنهم الكساء الذي يدل على مكانتهم، أنفسهم متساوين فجأة في العبودية التي لا تمييز فيها وكبح جماح النهب والسلب هوناً ما، فعندما رأى محمد الثاني رجلاً مسلحاً تدفعه عاطفته الدينية يتلف الممر الرخامي لكنيسة القديسة صوفيا، ضربه بسيفه الملكي الأحدب، وأعلن أن كل المباني يجب أن تصان لتكون غنيمة ينظمها السلطان. وحولت كنيسة القديسة صوفيا إلى مسجد بعد التطهير المناسب فأزيلت عنها كل الإمارات المسيحية، وطليت فسيفساؤها بالبياض ونسي ما كان عليها خمسمائة سنة، وصعد مؤذن في نفس اليوم الذي سقطت المدينة فيه أو في يوم الجمعة التالي له إلى أعلى برج من أبراج أيا صوفيا ودعا المسلمين للصلاة فيها جماعة لله الناصر؛ وأدى محمد الثاني فريضة الصلاة في أشهر مزار في العالم المسيحي.

وهز الاستيلاء على القسطنطينية كل عرش في أوربا. فقد سقط الحصن الذي طالما حمى أوربا من آسيا أكثر من ألف سنة، فإن القوة والعقيدة الإسلاميتين اللتين أمل الصليبيون فر ردهما إلى داخل آسيا، قد شقتا الآن طريقهما على جثة بيزنطة، وعبرتا البلقان إلى أبواب هنغاريا؛ ورأت البابوية، التي حلمت بإخضاع جميع المسيحيين اليونان لحكم روما، بفزع سرعة تحول الملايين من سكان جنوب شرقي أوربا إلى الإسلام. وأصبحت طرق التجارة التي كانت مفتوحة في يوم من الأيام للسفن الغربية في يد أجنبية، تفرض عليها المكوس في وقت السلم أو تسدها المدافع في وقت الحرب، وهجر الفن البيزنطي موطنه ولجأ إلى روسيا. بينما اختفى تأثيره في الغرب بالقضاء على عزمه. وأخذت هجرة العلماء إلى إيطاليا وفرنسا، التي كانت قد بدأت عام 1397، تزداد وتثمر في إيطاليا الدعوة إلى إنقاذ اليونان القديمة. وإذا أخذنا بوجه من الوجوه فإنه لم يضع شيء، إلا أن الموتى قد ماتوا. فقد أتمت بيزنطة دورها، وأسلمت مكانها، في موكب الإنسانية الذي يتألف من البطولة والقتل ومن النبل والخسة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4- هونيادي جانوس (1387 - 1456)

وكان سكان المجر البالغ عددهم حوالي سبعمائة ألف في القرن الرابع عشر مزيجاً من المجر والبانون والسلوفاك والبلغار والخزر والباتزيناك والكومان والسلافون والكروات والروس والأرمن والولاخ والبوشناق والصرب. والخلاصة أن أقلية من المجر كانت تحكم الأغلبية من الصقالبة. وبدأت تتكون في المدن الناشئة إبان القرن الرابع عشر طبقة وسطى تجارية وأخرى من عمال الصناعة - ولما كان هؤلاء في الغالب مهاجرين من ألمانيا وفلاندر وإيطاليا فقد أضيفت خلافات عنصرية إلى الكيان الجنسي المعقد.

وانتهت بموت أندرو الثالث أسرة أرباد المالكة (907-1301) فقسمت الحرب التي اندلعت في سبيل العرش الأمة أكثر مما هي عليه، ولم يعد السلام إلا عندما جعلت الطبقة العليا من النبلاء الملكية بالانتخاب، ووضعوا تاج القديس ستيفن على رأس شارلز روبرت أمير أنجو (1308). فأحضر معه فكرات فرنسية من إقطاع وفروسية وفكرات إيطالية عن التجارة والصناعة فنهض بمناجم الذهب المجرية وشجع المشروعات وضرب السكة، وطهر القضاء ومنح الأمة إدارة مناسبة. وأصبحت المجر في عهد شارلز وابنه لويس دولة غربية وذلك رغبة في الحصول على معاونة الغرب أمام الشرق المتكاثر.

وكتب فولتير: ((لقد حكم لويس الأول المجر حكماً سعيداً أربعين سنة (1342-82) وحكم بولندة اثنتي عشرة سنة (حكما غير موفق كذاك) ولقبه شعبه بالكبير، الذي يستحقه عن جدارة، ومع ذلك فإن هذا الأمير قلما يعرف في أوربا (الغربية) لأنه لم يحكم قوماً يستطيعون أن ينقلوا شهرته وفضائله إلى أمم أخرى. وما أقل الذين يعلمون أنه كان في القرن الرابع عشر، لويس الكبير في جبال الكربات))....

ومزجت أخلاقه بين الثقافة المدنية ومشاعر الفروسية بالحمية والقدرة العسكريتين. ولقد انغمس في الحروب بين حين وآخر ليثأر لمقتل أخيه في نابلي وليستعد من البندقية الثغور الدلماشية التي اعتبرتها المجر زمنا طويلا منافذها إلى البحر، وليضع حداً للتوسع العدواني وتركيا وذلك يجعل كرواتيا والبوسنة وبلغاريا الشمالية تحت سيطرة المجر ونشر بالقدرة والمبدأ مثل الفروسية الأعلى بين النبلاء، ورفع مستوى الأخلاق والعادات بين شعبه. وحقق الفن القوطي المجري في عهده وعهد أبيه أجمل آثاره، ونحت نيقولاس كولوزفاري وأبناؤه من التماثيل البارعة مثل تمثال القديس جورج الذي يوجد الآن في براغ. وأسس لويس عام 1367 جامعة بيس، ولكنها اختفت مع الكثير من أمجاد المجر في القرون الوسطى في الصراع الطويل المضني مع الأتراك.

واستمتع سيجسموند الأول وهو زوج ابنة لويس بحكم كان من الممكن أن يؤدي طوله (1387-1437) إلى وضع سياسة طويلة بعيدة النظر. ولكن أعماله كانت فوق طاقته. فقاد جيشاً جراراً ضد بايزيد في نيكوبوليس، ولم ينج من الكارثة إلا بحياته. وأدرك أن الزحف التركي قد أصبح أخطر مشكلات أوربا، وبذل عناية فائقة وأموالا لا تكفي لتحصين الحدود الجنوبية، وشيد عند ملتقى الدانوب بالساف حصن بلغراد الكبير. بيد أن انتخابه لإدارة الإمبراطورية جعله يهمل المجر إبان غيبته الطويلة في ألمانيا، كما أن حصوله على تاج بوهيميا قد وسع من مسئولياته دون أن يزيد في قدراته.

وغزا الأتراك المنتشرون المجر بعد سنتين من وفاته. وأثمرت الأمة في هذه الأزمة أشهر أبطالها. ولقد حصل هونيادي يانوش على لقبه من قلعة هونيادي في ترانسلفانيا، وهو معقل منيع منح لأبيه لحسن بلائه في الحرب ودرب جانوس - أي جون - على الحرب كل يوم تقريبا في صباه. وبرز بانتصاره على الأتراك في سيمندريا، وجعله الملك الجديد، لاديسلاس الخامس، كبير القواد على الجيوش التي تقاوم الأتراك. وأصبح رد العثمانيين على أعقابهم هو الشغل الشاغل في حياته. فلما دخلوا ترانسلفانيا قاد لمحاربتهم فرقاً حديثة التنظيم تلهبها وطنيته وقيادته.وفي هذه الوقعة بذل سيمون كيمني، الاثير في الأدب المجري، حياته في سبيل قائده.وكان قد علم أن الأتراك طلب إليهم أن يفتشوا عن هونيادي ويقتلوه، فناشد سيمون قائده أن يتبادل الأزياء وإياه فسمح له بذلك.

ومات تحت وطأة الهجمات المركزة عليه، بينما قاد هونيادي الجيش إلى النصر (1442) وأرسل مراد الثاني فرقاً جديدة تتألف من ثمانين ألف رجل إلى الجبهة، فاستدرجهم مخيلا إليهم أنه يتراجع، إلى ممر ضيق -لا يسمح إلا لجزء يسير منهم بالقتال دفعة واحدة، وانتصرت خطة هونيادي مرة أخرى. وأزعجت مراد الثورات في آسيا، فسعى إلى الصلح ووافق على دفع تعويض مادي. فوقع الملك لاديسلاس وحلفاؤه هدنة مع مندوبين عن مراد، هدنة تدعو الفريقين إلى الإخلاد إلى السلم. وأقسم لاديسلاس على الكتاب المقدس، واقسم سفراء الترك على القرآن (1442).

ولكن الكاردينال جوليانو شيزاريني، القاصد الرسول في بودا، ما لبث أن وجدالوقت مناسبا للهجوم. فإن مراداً ينقل جيشه إلى آسيا وبذلك يستطيع أسطول إيطالي يتحكم في الدردنيل أن يحول بينه وبين العودة واحتج الكاردينال الذي عرف باستقامته وقدرته، بأن القسم لكافر لا يقيد المسيحي.ونصح هونيادي بالإخلاء إلى السلم، وأبت الفرقة الصربية أن تحنث بالقسم. ووافق مندوبو الأمم الغربية شيزاريني، ووعدوا بأن يسهموا بالمال والرجال في حرب صليبية مقدسة. ولم ير لاديسلاس بدا من التسليم، وقاد بنفسه هجوماً على مواقع الأتراك.ولم يأت المدد الموعود من الغرب، وراغ الجيش العثماني المؤلف من ستين ألف رجل من الأشداء، من أمير البحر الإيطالي وعبروا عائدين إلى أوربا. وفي فارنة بالقرب من البحر الأسود ألحق مراد هزيمة منكرة بجند لاديسلاس البالغ عددهم ألفا (1444) وكان حامل اللواء في الجيش التركي يرفع المعاهدة الممتهنة على رمح. فنصح هونيادي الملك بالانسحاب ولكنه أمر بالتقدم. وناشده هونيادي أن يبقى في المؤخرة، بيد أن الملك اندفع إلى المقدمة، وقت.ولم يسترد شيزاريني شرفه ببذل حياته.

وحاول هونيادي بعد ذلك بأربع سنوات أن يرفع البلاء. فشق طريقه عبر الصرب المعادية له، والتقى بالإتراك في قوصوه في معركة حامية استمرت ثلاثة أيام. واندحر المجريون ولاذ معهم هونيادي بالفرار. واختفى أياما في بطيحة ماء، وبرز، بعد أن أشرف على الموت جوعاً.فعرف الصرب وأسلموه إلى الأتراك.وأطلق سراحه بعد أن وعد بألا يقود جيشاً على أرض الصرب بعد ذلك.

وفي عام 1456 حاصر الأتراك بلغراد.وصوب محمد الثاني على القلعة المدفعية الثقيلة التي هدمت أسوار القسطنطينية.ولم يعرف الأوربيين قبل ذلك قصفاً عنيفاً بالقنابل كهذا. وقاد هونيادي الدفاع بحنكة وشجاعة لم يغفلها الشعر المجري قط.وآثر المحاصرون، آخر الأمر خوض المعركة على الموت جوعاً، فاندفعوا من الحصن، وشقوا طريقهم إلى المدفع التركي، وهكذا انتصروا على العدو انتصاراً حاسماً فتخلصت المجر ستين سنة بعد ذلك من أي هجمة إسلامية.وبعد أيام قلائل من هذا الدفاع التاريخي مات هونيادي بالحمى في خيمته. وتمجده المجر باعتباره أعظم رجالها.

5- المد في عنفوانه (1453 - 81)

تابع الأتراك فتح البلقان واستسلمت الصرب آخر الأمر عام 1459، وظلت ولاية تركية إلى عام 1804.واستولى محمد الثاني على كورنثه بعد أن حاصرها وأثينا دون أن يرفع رمحاً (1458) ومنح الفاتح، مثله في ذلك مثل قيصر، الأثينيين شروطاً سهلة احتراماً لأسلافهم وأبدى اهتماماً ينم عن الثقافة بالآثار الكلاسية وحق له أن يبتهج، لأنه لم ينتقم من الصليبيين فحسب وإنما ثأر لوقعة مرثون أيضاً. وقبلت البوسنة، التي لقبت عاصمتها وثغرها راجوسة بأثينا الصقلية لمظهرها الثقافي، الحكم التركي عام 1463 وقبلت الإسلام في يسر أذهل الغرب.

وكان أشجع غرماء الترك في النصف الثاني من القرن الخامس عشر هو إسكندر بك الألباني. واسمه الحقيقي جورج من كاستريوتا، ولعله كان من أسرة صقلية متواضعة، ولكن الأساطير المحببة لشعبه تجعله من أسرة ملكية أبيروسية وتسبغ عليه شباباً مغامراً.ولقد أنبئنا أنه قدم في صباه رهينة لمراد الثاني، وأنه نشأ في بلاط العثمانيين بأدرنة. وأحب السلطان فيه الشجاعة والاحتمال حتى عامله كأحد أبنائه وجعله ضابطا في الجيش التركي. ودخل في الإسلام وسمى لهذا الاسم إسكندر بك - أي الأمير إسكندر وبعد أن قاد الأتراك في وقائع كثيرة ضد المسيحيين ندم على ارتداده عن المسيحية واحتال للفرار. وأنكر الإسلام، واستولى على العاصمة الألبانية كروجا من حاكمها التركي وأعلن العصيان (1442) وأرسل محمد الثاني الجيش تلو الجيش لمعاقبته، فهزمها جميعها إسكندر بك بسرعة تحركاته العسكرية وبراعته في المراوغة وشغل محمد بحروب أكبر، فمنحه هدنة عشر سنوات (1461). ولكن مجلس شيوخ البندقية والبابا بيوس الثاني أقنعوا إسكندر بك بأن يخرج على الهدنة ويواصل الحرب (1463). وتوعد محمد المسيحيين باعتبارهم كفاراً حانثين بوعودهم وعاد إلى حصار كروجا. وأبلى إسكندر بك بلاءً حسنا في الدفاع عنها مما أضطر السلطان إلى رفع الحصار مرة أخرى، وبين حطام النصر مات إسكندر بك (1468) واستسلمت كروجا عام 1479، فأصبحت ألبانيا ولاية تابعة لتركيا. وفي الوقت نفسه ابتلع محمد الذي لا يشبع الموره وأطرابزنده ولسبوس ونجر وبونت (أثيوبيا القديمة) والقرم. وفي عام 1477 عبر جيش من جيوشه الأيزونزو وخرب الجانب الشمالي الشرقي لإيطاليا على مسيرة اثنين وعشرين ميلا من البندقية وعاد إلى الصرب محملا بالغنائم.وسلمت البنتدقية التي استولى علها الفزع والتي حاربت طويلا دفاعاً عن ممتلكاتها في بحري أيجه والأدرياتي، بكل حق لها في كروجا وسكوتاري، ودفعت تعويضاً مقداره عشرة آلاف بندقي . أما أوربا الغربية التي فشلت في معاونة البندقية، فقد أنكرت عليها أن تبرم وتحافظ على الصلح مع الكافر.ووصل الأتراك بذلك إلى الأدرياتي، ولم يعد هناك ما يفصلهم عن إيطاليا وروما والفاتيكان، غير جانب ضيق من البحر، عبره قيصر بقارب صغير.وفي عام 1480 أرسل محمد جيشاً عبر هذا الجانب الصغير لمهاجمة مملكة نابولي. واستولى على تورنتو في يسر، وأعمل السيف في نصف عدد السكان البالغ اثنين وعشرين ألف نسمة، واسترق الباقين وشطر أحد كبار الأساقفة نصفين. واصبح مصير المسيحية ووحدانية الزوجة معلقاً في كفه ميزان. وأنهى فيرانت ملك نابولي حروبه مع فلورنسة، وأرسل خير فرقة لاستعادة تورنتو . وكان محمد قد ورط نفسه في حصار رودس ومات أثناء المغامرة، وظلت رودس مسيحية إلى عهد سليمان ورفع الأتراك قبضتهم عن تورنتو عادوا إلى ألبانيا (1181). وتوقف المد العثماني عن السير لحظة.


6-النهضة الهنغارية (1456 - 90)

في نصف القرن الذي ظفر فيه هانيادي لهنغاريا بالأمن، قاد ابنه ماتياس كورفينوس بلاده إلى أوجها التاريخي. وكان في السادسة عشرة من عمره فقط عند جلوسه على العرش، ولم يكن فيه سمت الملوك، إذ كانت ساقاه قصيرتين- بالقياس إلى جذعه، ولا يبدو طويل القامة إلا إذا امتطى صهوة جواد، ومع ذلك فقد كان له صدر مصارع وذراعه وقوته وإقدامه، وبعد تتويجه بوقت غير طويل تحدى إلى مبارزة فردية فارساً ألمانيا ضخم الجثة عظيم القوة، صرع في جولة واحدة في مدينة بودا جميع منافسيه، وتوعد ماتياس غريمه بأن يشنق إذا أخفق في المبارزة بكل ما أوتي من عزيمة وبراعة.وأكد المؤرخون الهنغاريون بأن الملك الشاب وقد حفزه هذا المأزق العصيب قضى على العملاق مبرماً. وأنضجت الأيام ماتياس حتى أصبح جندياً باسلا وقائداً محنكاً، فهزم الأتراك كلما التقى بهم، واستولى على مورافيا وسيليزيا ولكنه أخفق في فتح بوهيميا وخاض أربعة حروب ضد الإمبراطور فريدريك الثالث، وأخذ فينا وألحق بها النمسا (1485)، وكانت الإمبراطورية النمساوية والهنغارية في الواقع هنغارية.

وجعلت انتصاراته الملكية متفوقة على الطبقة النبلاء بعض الوقت، وكانت مركزية الحكم هما كما كانت في غرب أوربا طابع العصر، وضارع بلاطه في بودا وفي القصر الملكي في فيسجراد أية أبهة ملكية وجدت في ذلك العهد، وأصبح كبار النبلاء خدامه، واشتهر سفراؤه بفخامة أرديتهم وخدمهم وحشمهم، وكانت دبلوماسية ماتياس ماكرة غير مترددة، ودودة سخية، فقد اشترى بالذهب ما يكلف ضعفه بالحرب، ووجد في الوقت نفسه الوقت والحماسة لإصلاح كل إرادة في الحكومة؛ وليعمل بنفسه كإداري يقظ وقاض إمبراطوري. وأخذ يتجول متخفيا بين أفراد الشعب والجند والمحاكم، فاختبر لتوه سلوك موظفيه، وأصلح من شأنهم بالمنافسة والعدل وبغير محاباة أو خوف وعمل ما يستطيعه لحماية الضعيف من القوى، والفلاحين من سادتهم المغتصبين.وبينما استمرت الكنيسة تزعم أن البلاد ملك بابوي، فإن ماتياس قد عين ونظم تعيين الأساقفة واستمتع بحماسته عندما عين صبيا إيطاليا في السابعة من عمره أساقفة هنغاريا فأرسل تجار مدينة فرارا، رداً على هذه الفكاهة، إلى كبير الأساقفة الجديد مجموعة من اللعب.

وتزوج ماتياس عام 1476 بياتريس أميرة أرجون، ورحب في هنغاريا بالروح النابولية المرحة والأذواق الإيطالية المصقولة لحفيده الفونسو الهمام.وشجع الاتصال بين هنغاريا ونابولي تلك القرابة الأنجوية بين الأسرتين المالكتين، ولقد تعلم في إيطاليا كثير من رجال الحاشية في بودا. وتشبه ماتياس نفسه بالحكام المستبدين لعصر النهضة الإيطالية، في نزعاته الثقافية إلى جانب اتجاهه الميكافلي في الحكم، وأرسل لورنزوده مدتشي نقشين بارزين من البرونز صنعها فيروكشيه وأوفد لودوفيكو ألمورو، ليوناردو دافنشي؛ ليصور العذراء وطفلها للملك الهنغاري مؤكداً للفنان أنه من القلائل الذين يستطيعون تقدير الصورة العظيمة. وقام فيليبينوليبي بعمل صورة أخرى للعذراء وطفلها وذلك لكورفينوس؛ وزين تلاميذه القصر الملكي في إذترجوم بالصور الجدارية؛ ووضع نحات إيطالي تمثالاً نصفياً لبياتريس؛ ولعل الصائغ المشهور، كارادوسو، وهو من مدينة ميلانو هو الذي صمم صورة المسيح على الصليب البارعة في أذترجوم؛ ونقش بينيدتو داميانو زخارف القصر في بودا؛ وشيد إيطاليون مختلفون هيكل الكنيسة الصغيرة على طراز عصر النهضة في القسم الداخلي من العاصمة.

واتبع النبلاء والمطارنة الملك، في رعاية الفنانين والعلماء، بل إن المدن المشهورة بالتعدين في داخل البلاد قد وجد فيها من الأغنياء من يرفعون من قدر الثروة، بالإنفاق على الفن، وشيدت دور جميلة مدنية ودينية لا في بودا وحدها ولكن في فيزجراد وتانا وأنترجوم وناجيفا وفاك أيضاً، وزين مئات من النحاتين والمصورين هذه المباني. ووضع جيوفاني دلمانا تماثيل مشهورة لهانيادي جانوس وغيره من الأبطال الهنغاريين وتألفت في كسا، مدرسة صحيحة للفنانين، ولقد نقش هناك "المعلم ستفين" وغيره، للمذبح الكبير لكنيسة القديسة اليزابث، حظاراً زخرفياً، تبدو تماثيله الأساسية إيطالية في صقلها ورشاقتها وجمالها، ونحت فريق آخر في الصخر لكنيسة بزترزبانيا نقشاً بارزاً عظيماً، وهو "المسيح في بستان الزيتون"، يدهش من رآه بتفاصيله الدقيقة وتأثيره الدرامي، وظهرت قوة مماثلة في التعبير والفن في الصور الهنغارية التي بقيت من ذلك العصر، مثل ما نجده في "صورة مريم" تزور إليزابث، رسمها "المعلم م. س" وهي الآن في متحف بودابست ولقد تلف أوضاع كل الفن تقريبا الذي أثمرته تلك المرحلة المشرقة من تاريخ هنغاريا إبان الغزو العثماني في القرن السادس عشر، وبعض التماثيل يوجد الآن في أسطنبول، نقلها إليها الأتراك المنتصرون.

وكانت اهتمامات ماتياس أدبية أكثر منها فنية، كما كان دارسو الكلاسيات الأجانب منهم والوطنيون محل ترحيب في بلاطه، ويحصلون على رواتب كبيرة لوظائف اسمية في الحكومة. وكتب أنطونيو بوتفيني تاريخا لهذا العهد بلغة لا تينية على منوال ليفي، وجمع جانوس فيتيز، كبير أساقفة حران، مكتبة عامرة بالكتب الكلاسية القديمة، وخصص الأموال لإرسال شباب الدارسين لتعلم اليونانية في إيطاليا. وأنفق أحد هؤلاء وهو جانوس بانونيوس سبعة أعوام في مدينة فرارا، وسمح له بأن يكون في حلقة لورنزو وبفلورنسة، وأدهش البلاط بعد أن عاد إلى هنغاريا، بأبياته اللاتينية ومحاضراته اليونانية. وكتب بونفين عندما تحدث بانونيوس باليونانية، "نعتقد أنه لا بد وأن يكون قد ولد في أثينا" ولعل إيطاليا وحدها هي التي كان يجد فيها المرء، مثل هذه الكوكبة من الفنانين والعلماء ويحصلون على معاش لهم في بلاط ماتياس، وذلك في الربع الأخير من القرن الخامس عشر. وتعد الرابطة الأدبية للدانوب من أقدم الجمعيات الأدبية في العالم، وقد أسست في بودا عام 1497.

وجمع كورفينوس مثل معاصريه من آل المدتشي الآثار الفنية والكتب وأصبح قصره متحفا للتماثيل والقطع الفنية، وتذهب روايته إلى أنه كان ينفق على الكتب ثلاثين ألف كرون كل عام، وهي في أكثر الأحوال مخطوطات أنفق الكثير على تزيينها ولم يكن مع ذلك مثل فيديريجودا مونتيفلتر ويرفض الكتب المطبوعة، فلقد أسست مطبعة في بودا عام 1473، أي قبل دخول الطباعة بثلاثة أعوام. وكانت مكتبة كورفينوس التي ضمت عشرة آلاف مجلد عند وفاة ماتياس؛ أجمل مكتبات القرن الخامس عشر خارج إيطاليا. ولقد وضعت هذه الكتب في قصره بمدينة بودا وخصصت لها قاعتان فسيحتان؛ لهما نوافذ من الزجاج الملون تطل على الدانوب؛ وكانت الرفوف كثيرة النقوش؛ والكتب مجلدة في معظمها برق الغزال وعليها ستائر من المخمل المزركش. ويظهر أن ماتياس قرأ بعض هذه الكتب، وتوسل بكتاب ليفي على الأقل طلبا للنعاس، ولقد كتب إلى أحد دارسي الكلاسيات "أيها العلماء؛ ما أسعدكم! إنكم لا تجاهدون في سبيل المجد المصبوغ بالدم وفي سبيل تيجان الملوك؛ وإنما تجاهدون في سبيل أكاليل الغار التي تتوج الشعر والفضيلة. بل إنكم تستطيعون أن ترغمونا على نسيان ضجيج الحرب".

ولم تعش السلطة المركزية التي نظمها ماتياس إلا فترة وجيزة بعد وفاته (1490). ولقد بعثت قوة كبار الأمراء وسيطروا على لاديسلاس الثاني، واختلسوا الموارد التي كان ينبغي أن تنفق على فرق الجيش فانفض الجيش وعاد الجنود إلى دورهم؛ وبدد النبلاء، الذين أعفوا من الضرائب، دخلهم وجهدهم في حياة معربدة صاخبة، بينما كان الإسلام يهدد الحدود، والفلاحون الذين استنزفهم الاستغلال؛ يتهيئون للثورة. وفي عام 1514 أعلن مجلس الدايت الهنغاري حربا صليبية على الأتراك، وعن حاجته لمتطوعين واستجاب جم خفير من الفلاحين لفداء الصليب إذا لم يجدوا فارقاً كبيراً بين الحياة والموت.ولما وجدوا السلاح في أيديهم، انتشرت بينهم هذه الفكرة وهي لماذا ننتظر حتى نقاتل الأتراك البعيدين، في حين أن النبلاء المبغضين قريبون؟ وقادهم جندي اسمه جيورجي دوزا في ثورة عارمة فاكتسحوا هنغاريا بأسرها، يحرقون جميع القلاع ويقتلون جميع النبلاء الذين يقعون في أيديهم- رجالا ونساء وأطفالا- فطلب النبلاء النجدة من كل ناحية ...جنداً نظاميين ومرتزقة، وفاجئوا الفلاحين غير المنظمين وعذبوا زعماءهم تعذيباً مروعاً. ومنع دورزا ومعاونوه من الطعام أسبوعين. ثم ربط إلى عرش حديدي محمي بالنار ووضع على رأسه تاج محمي بالنار أيضا، ووضع في يديه صولجان محمي بالنار. وسمح لرفاقه المشرفين على الموت جوعاً أن ينزعوا اللحم المشوي عن جسده وهو لا يزال حياً يعي. وقد تحتاج النقلة من الهمجية إلى الحضارة قرناً من الزمان، أما التحول من الحضارة إلى الهمجية فإنما يحتاج إلى يوم واحد.

ولم يذبح الفلاحون لأنهم كانوا لا يعوضون بغيرهم، ولكن القانون الثلاثي (1514) يقرر: "أن التمرد الحديث....يضع في كل وقت وصمة الخيانة على كاهل الفلاحين، ومن أجل ذلك فقد تنازلوا عن حريتهم وأصبحوا خاضعين لسادتهم الملاك في عبودية دائمة غير مشروطة.... وكل نوع من أنواع الملكية يحوزه المالك الإقطاعي، وليس من حق الفلاح أن يطلب العدل ويحتكم إلى القانون ضد أحد النبلاء. وبعد ذلك باثني عشر عاما سقطت هنغاريا في يد الأتراك.