قصة الحضارة - ول ديورانت - م 5 ك 4 ب 16

صفحة رقم : 7019

قصة الحضارة -> النهضة -> النهضة في رومة -> آل بورجيا -> الكردينال بورجيا


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب السادس عشر: آل بورجيا 1492 - 1503

الفصل الأول: الكردينال بورجيا

ولد أظرف بابوات النهضة على الإطلاق في أكساتيفا Xativa من أعمال أسبانيا في اليوم الأول من شهر يناير عام 1413. وكان والداه ابني عم كلاهما من آل بورجيا، وهي أسرة يمكن أن تعد من الأشراف. وتلقّى ردريجو Roderigo تعليمه في أكساتيفا، وبلنسيةـ وبولونيا، ولمّا أصبح عمه كردنالاً ثم البابا كلكستس الثالث Calixtus III فتح أمام الشباب طريق التقدم في السلك الكهنوتي. وانتقل ردريجو إلى إيطاليا وغير اسمه إلى بورجيا، وأصبح كردنالاً وهو في الخامسة والعشرين من عمره، ولمّا بلغ السادسة والعشرين عين نائباً لقاضي القضاة أي رئيساً للحكومة البابوية وقام بواجبات منصبه بحزم وكفاية، ونال بعض الشهرة في حسن الإدارة، وعاش عيشة التقشف، واتخذ له كثيراً من الأصدقاء من كلا الجنسين، ولم يكن بعد قساً- ولن يكون حتى يبلغ السابعة والثلاثين من العمر.

وكان في أيام شبابه وسيم الخلق، جذاباً حلو الطبع، حاراً في عشقه، مرحاً في مزاجه، قوياً مقنعاً في بلاغته وفكاهته المرحة. وقد بلغ في هذه الصفات كلها درجة يصعب معها على النساء أن يقاومنه. وإذا كان ردريجو قد نشأ في جو التساهل الأخلاقي الذي كان يسود إيطاليا في القرن الخامس عشر، حيث يرى كثيرين من رجال الدين والقساوسة يبيحون لأنفسهم التمتع بالنساء، فقد قرر ردريجو أن يستمتع بكل النعم التي منحهم ومنه إياها الله سبحانه. يروى أن بيوس الثاني لامه مرة لحضوره "رقصاً خليعاً مثيراً للشهوات" 1460، ولكن البابا قبل اعتذار ردريجو وأبقاه نائباً لقاضي القضاة ومعينه وموضع ثقته(1). وفي ذلك العالم ولد لردريجو ابنه الأول بدرو لويس Pedro Luis أو جيء له به، وولدت له كذلك ابنته جيرولاما التي تزوجت في عام 1482(2). أو جيء له بها. ولسنا نعرف من كانت أم ابنة أو ابنته. وعاش بدرو في أسبانيا حتى عام 1488ثم انتقل في ذلك العام إلى روما حيث مات بعد مجيئه إليها بقليل. ورافق ردريجو بيوس الثاني إلى أنكونا في عام 1464 وهناك أصيب بمرض تناسلي خفيف "لأنه لم ينم بمفرده" على حد تعبير طبيبه(3).

ثم عقد حوالي عام 1466 صلة أكثر دواماً من صلاته النسائية السابقة مع فانتسا ده كاتاني Vanozza de' Catanei، وكانت وقتئذ في حوالي الرابعة والعشرين من العمر. وكان من سوء الحظ أنها تزوجت بدومينيكو دا رنيانو Domenico d'Arignano ولكن دومينيكو تركها في عام 1476(4). وولدت فانتسا لردريجو (الذي أصبح قساً في عام 1468) أربعة أبناء: جيوفني في عام 1474، وسيزاري في عام 1476، ولكرديسيا في 1480، وجيوفري في 1481. وقد نسب هؤلاء إلى فانتسا على شاهد قبرها. واعترف بهم ردريجو أبناء له في أوقات مختلفة(5). ويوحي وجود هؤلاء الأبناء به واحداً بعد واحد وجود علاقة بين ردريجو وفانتسا بمفردها ؛ ولعل الكردنال بورجيا إذا قورن بغيره من رجال الكنيسة يمتاز بقسط من الوفاء والاستقرار في علاقاته النسائية. وكان أباً خيّراً رحيماً؛ وكان مما يؤسف له أن ما بذله من الجهود لترقية أبنائه في المناصب الكنسية لمن يكن على الدوام مما يرفع من شأن الكنسية. ولمّا أن تطلع ردريجو إلى كرسي البابوية وجد لفانتستا زوجاً متسامحاً، وعمل على أن تعيش في رخاء ونعيم. وقد ترملت مرتين، وتزوجت بعد ترملها، ثم عاشت في عزلة بعيدة عن المظاهر الفخمة، وابتهجت حين علا صيت أبنائها وأثروا، وحزنت لفراقها إياهم، واشتهرت بعدئذ بالتقي والصلاح، وتوفيت في السادسة والسبعين من عمرها. (1518)؛ وأوصت بأملاكها العظيمة القيمة للكنيسة. وأرسل ليو العاشر رئيس تشريفاته للاشتراك في موكب جنازتها(7).

وإنا لنخطئ في فهم معنى التاريخ إذا حكمنا على أسكندر السادس من وجهة النظر الأخلاقية في عصرنا هذا ـ أو على الأصح في أيام شبابنا. وكان معاصروه ينظرون إلى خطيئاته الجنسية قبل أن يرقى عرش البابوية على أنها آثام مرذولة حسب قوانين الكنيسة لا أكثر، ولكنهم يرونها بالنسبة للجو الأخلاقي السائد في زمانه من الصفات التي يتسامح فيها ويعفى عنها، بل إن الرأي العام حتى أثناء الجيل المحصور بين الوقت الذي أنب فيه بيوس ردريجو على استهتاره وارتقائه عرش البابوية قد أصبح اكثر تسامحاً في نظره إلى الانحراف الجنسي وعدم إطاعة قانون الكنيسة الذي يفرض العزوبة على رجال الدين. بل إن بيوس الثاني نفسه كان له أطفال من عشيقاته في أيام شبابه، قبل أن ينتظم في سلك رجال الدين، ولقد دعا هو نفسه في وقت من الأوقات إلى إباحة زواج القساوسة؛ كذلك كان لسكستس الرابع عدة أبناء، وجاء إنوسنت الثامن بأبنائه إلى الفاتيكان. ولقد ندد بعضهم بأخلاق ردريجو، ولكن يبدو أن أحداً لم يذكر شيئاً عن هذه الأخلاق حين انعقد المجلس المقدس ليختار خلفاً إنوسنت. وكان خمسة بابوات منهم نقولاس الخامس ذو الفضائل المعقولة قد عينوه في مناصب موفورة الدخل خلال تلك السنين كلها، وعهدوا إليه بمهام شاقة ووضعوه في مناصب عظيمة التبعة؛ ويلوح أنهم لم يعبأوا قط بما كان له من أبناء كثيرين (إذا استثنينا منهم بيوس الثاني في وقت من الأوقات)(9). وكان كل الذي عنوا بملاحظته في عام 1492 هو إنه قد عيّن مرتين نائباً لرئيس المحكمة البابوية العليا، وأنه قضى في ذلك المنصب خمساً وثلاثين، وأن خمسة من البابوات المتعاقبين عينوه وأعادوا تعيينه فيه؛ وأنه قام بمهامه بجد وحزم ملحوظين، وأن فخامة قصره في الظاهر تخفي وراءها حياة خاصة بسيطة إلى حد عجيب. وقد وصفه ياقوبو دا فلتيرا في عام 1486 بأنه: "رجل ذو ذكاء يمكّنه من عمل أي شيء يريد، وذو عقل كبير؛ وهو خطيب سريع البديهة، فطن بطبيعته، حاذق حذقاً عجيباً في تصريف الأمور"(10). وكان أهل روما يحبونه، لأنه متّعهم بالألعاب؛ ولمّا أن بلغته أنباء سقوط غرناطة في أيدي المسيحيين متّعهم بمصارعة الثيران على الطراز الأسباني.

ولعل الكرادلة الذين اجتمعوا في المجمع المقدس قد تأثروا أيضاً بثروته لأن المناصب الإدارية التي تولاها في خلال حكم خمسة من البابوات قد جعلته أغنى الكرادلة الذين شهدتهم روما إذا استثنينا دستوتفيل من هذا التعميم وكانوا يعتمدون عليه فيما سيمنحه من الهدايا القيّمة لمن يعطونه أصواتهم في الانتخاب، ولم يخيب هو رجاءهم فيما أمّلوه. فقد وعد الكردنال أسفوردسا بأن يعينه نائباً عنه في المحكمة البابوية العليا، كما وعده بعدة مناصب تدر عليه إيراداً كبيراً، وبقصر آل بورجيا في روما. أما الكردنال أرسيني فقد وعده بأسقفية قرطاجنة الأسبانية وإيراد كنائسها، وببلدتي منتيتشيلي وسريانو، وبأن يتولى حكم أقاليم الحدود. ووعد الكردنال سافيلي Savelli بتشيفيتا كستيلانا Civita Castellana وأسقفية مايورقة، وما إلى ذلك. وقد وصف إنفيسورا هذه الأعمال بأنها: "توزيع إنجيلي لبضائعه على الفقراء"-(11). على أنها لم تكن من الأعمال الغير مألوفة، فقد كان يستخدمها كل مرشح للبابوية، في كثير من المجاميع المقدسة الماضية، كما يستخدمها كل مرشح للمناصب السياسية في هذه الأيام. ولسنا واثقين من أن الرشا النقدية كان لها أيضاً نصيب في هذا الانتخاب(12). وقد كان صاحب الصوت الحاسم هو الكردنال غراردو Gherardo وهو رجل في السادسة والتسعين من عمره "لا يكاد يحتفظ بقواه العقلية"(13). واندفع الكرادلة جميعاً آخر الأمر فانضموا إلى الجانب الفائز حتى كان انتخاب ردريجو بورجيا بإجماع الآراء (10 أغسطس سنة 1492). ولما سئل أي اسم يريد أن يسمى به وهو بابا أجاب بقوله: "باسم الإسكندر الذي لا يقهر". وكانت هذه بداية وثنية لولاية دينية وثنية.


الفصل الثاني: إسكندر السادس

وكان اختيار المجمع المقدس هو الاختيار الذي يريده الشعب. ولم يحدث أن كان ابتهاج الناس بانتخاب البابا مماثلاً لابتهاجهم في هذه المرة(14)، كما كان تتويج واحد من البابوات أفخم من تتويجه. لقد ابتهج الشعب بالموكب الفخم المؤلف من الخيول البيضاء، والأشخاص الرمزيين، والسجف المنقوشة، والصور الملونة، والفرسان، والعظماء، والجنود الرماة،والخيالة الأتراك،والقساوسة السبعمائة، والكرادلة في أثوابهم ذات الألوان الزاهية، وأخيراً بالإسكندر نفسه، وهو في الواحدة والستين من العمر، ولكنه رائع المنظر، منتصب طويل القامة، يفيض صحةً ونشاطاً وكبرياءً. "رصين الوجه مهيب الطلعة" كما يصفه شاهد عيان(15)، يبدو كأنه إمبراطور حتى وهو يبارك الجموع المحتشدة.ولم يكن أحد غير عدد قليل من ذوي الأصالة أمثال جوليانو دلا روفيري وجيوفني ده ميديتشي يبدي مخاوفه من أن يستخدم البابا الجديد، المعروف بأنه أ ب مغرم بأبنائه، سلطانه في رفع شأن أسرته بدل أن يستخدمه في تطهير الكنيسة وتقويتها.

وبدأ أعماله بداية حسنة. فقد حدثت في روما في الستة والثلاثين يوماً بين موت إنوسنت وتتويج الإسكندر مائتان وعشرون من حوادث الاغتيال التي عرفت. ولكن البابا الجديد ضرب المثل بأول قاتل قبض عليه؛ فقد شنق هذا المجرم، وشنق معه أخوه، وهدم بيته، وارتضت المدينة هذه القسوة، وأخفت الجريمة رأسها؛ وعاد النظام إلى روما، وأبتهجت إيطاليا كلها إذ وجدت يداً قوية تقبض على أزمة الشئون(16). وكان الأدب والفن يترقبان من يأخذ بناصرهما. وقد وجدا في الإسكندر نصيرهما، فقد شاد البابا الجديد كثيراً من المباني داخل روما وخارجها، وتبرع بالمال الذي أنشئ به سقف جديد لكنيسة سانتا ماريا مجيوري مضافاً إلى هدية من الذهب الأمريكي من عند فرديناند وإزبلا، وأعاد تخطيط ضريح هدريان فأحاله إلى قصر سانت أنجيلو الحصين، وأعاد زخرفته من الداخل ليجعل منه سجوناً انفرادية للمساجين البابويين، وأجنحة مريحة للبابوات المنهكين. وأنشأ بين هذا القصر والفاتيكان طريقاً مغطىً طويلاً وقاه من شارل الثامن في عام 1494، وأنجى كلمنت السابع من مكيدة لوثرية أثناء أنتهاب روما. واستخدم بنتورتشيو في تزيين مسكن بورجيا في الفاتيكان، فأعيد بناء أربع من حجره الست، وفتحت للجمهور أيام ليو الثامن؛ وتحتوي كوة في واحدة منها صورة رائعة للإسكندر نفسه - ذات وجه مشرق، وجسم ممتلئ سليم، وأثواب فخمة. وفي حجرة أخرى صورت مريم تعلم الطفل القراءة، وقد وصفها فاساري(17) بأنها صورة لجويليا فارنيزي Guilia Farnese وهي عشيقة مزعومة للبابا. ويضيف فاساري إلى قوله السابق أن الصورة تحتوي أيضاً "رأس البابا إسكندر تزدان به" ولكنّا لا نرى صورة له واضحة هناك.

وأعاد بناء جامعة روما، واستدعى إليها طائفة من المعلمين الممتازين وكان يؤدي إليهم أجورهم بانتظام لم يسمع بمثله في تلك الأيام. وكان يحب التمثيل، ويسره أن يمثل طلاب المجمع العلمي في روما بعض المسالي والتمثيليات الراقصة في الحفلات التي تقيمها أسرته؛ وكان يؤثر الموسيقى الخفيفة على الفلسفة الثقيلة؛ ومن أعماله أنه أعاد الرقابة على المطبوعات في عام 1501 بأن أصدر مرسوماً يحرم أي كتاب إلاّ بعد أن يوافق عليه كبير الأساقفة المحلي. ولكنه ترك حرية واسعة للهجاء والمناظرة. وكان يضحك عليه سيزاري بورجيا من وجوب تأديب هؤلاء الهجائين.

وقال يوماً لسفري فيرارً: "إن روما مدينة حرة يستطيع كل إنسان فيها أن يقول أو يكتب ما يشاء. وهو يقولون عني كثيراً مما يسوءني ولكنني لا أبالي يما يقولون"(18).

وكان تصريفه شئون الكنيسة في السنين الأولى من ولايته تصريفاً يشهد له بالقدرة والكفاية إلى حد غير مألوف. ومن الأدلة على ذلك أن إنوسنت السابع ترك الخزانة مدينة، "في حاجة إلى كل ما وهب الإسكندر من مقدرة لإصلاح حال المالية البابوية، وتطلبت منه موازنة الميزانية سنتين كاملتين"(18).

وقد تذرع إلى ذلك بإنقاص عدد موظفي الفاتيكان، وتخفيض النفقات،ولكن السجلات كان يعتني بحفظها وتدوينها، وكانت مرتبات الموظفين تؤدى في أوقاتها(19). وكان الإسكندر يواظب على إقامة المراسم الدينية الشاقة التي يستلزمها منصبه بأمانة، ولكنه كان يملها ملل الرجل الكثير المشاغل. وكان رئيس تشريفاته رجلاً ألمانياً يدعى جوهان بركهارد Hojann Burchard، عمل على تخليد شهرة مولاه وسوء سمعته بأن دوّن في يومياته كل ما شاهده تقريباً بما في ذلك الكثير مما كان الإسكندر يود ألاّ يطلع عليه الناس. وقد وفى الإسكندر للكرادلة بما وعدهم به في المجمع المقدس، بل إنه كان أكثر سخاء لمن كانوا أطول الناس مقاومة له أمثال الكردنال ده ميديتشي، وعين بعد سنة من توليته أثني عشر كردنالاً جديداً وزيادة على الكرادلة الأصليين. ومن هؤلاء من كانوا ذوي مقدرة وكفاية حقة، ومنهم من عينوا استجابة لرغبة بعض السلطات السياسية التي كان من الحكمة استرضاؤها؛ وكان اثنان منهم صغيري السن إلى حد يدعو للقيل والقال، وهما إبوليتو دست ولم يكن يتجاوز الخامسة عشرة وسيزاري بورجيا وكان في الثامنة عشرة؛ ومنهم ألسندو فرنيزي الذي كان مديناً بمنصبه إلى أخته جويليا فرنيزي وهي في اعتقاد الكثيرين عشيقة البابا. وكان أهل روما طويلو اللسان، الذين لم يدركوا وقتئذ أنهم سيلقبون ألسندرو في يوم من الأيام بولس الثالث، يسمونه الكردنال ذا التنورة. وغضب جوليانو دلا رو فيري أقوى الكرادلة الشيوخ حين وجد أنه وهو الذي كان يسيطر على إنوسنت الثامن ليس له نفوذ عند الإسكندر بعد أن اتخذ الكردنال اسفوردسا مستشاره الأمين وقربه إليه، وانتابته نوبة من القنط فذهب إلى كرسيه الأسقفي في أستيا وأنشأ لنفسه حرساً مسلحاً، ثم فر إلى فرنسا بعد عام من ذلك الوقت، وطلب إلى شارل الثامن أن يغزو إيطاليا، ويعقد مجلساً عاماً، ويخلع الإسكندر الذي لا يتورع عن بيع المناصب الكهنوتية.

وكان الإسكندر في ذلك الوقت يواجه المشاكل السياسية القائمة أمام بابوية تكتنفها القوى الإيطالية التي تأتمر بها من كل جانب. وكانت الولايات البابوية قد وقعت مرة أخرى في أيدي طغاة محليين، يدعون أنهم خدام الكنيسة ولكنهم انتهزوا الفرص التي أتاحها لم إنوسنت الثامن فاستردوا الاستقلال الفعلي الذي فقدوه هم وأسلافهم في عهد ألبرنوز أوسكستس الرابع.وكانت الدول المجاورة للمدن البابوية قد استولت على بعض هذه المدن، فاستولى نابلي مثلاً على سورا Sora وأكويليا في عام 1467، استولت ميلان على تورلي في عام 1488.ولها كان أول واجبات الإسكندر هو أن يخضع هذه الولايات تحت حكم بابوي مركزي، يفرض عليها الضرائب، كما أخضع ملوك أسبانيا، وفرنسا، وإنجلترا السادة الإقطاعيين. وكانت هذه هي المهمة التي عهد بها إلى سيزاري بورجيا والتي أنجزها بسرعة وقسوة جعلت مكيفلي يعجب به ويدهش من مقدرته.

وكان أقرب إلى روما وأشَّد مضايقة للبابا وإقلاقاً لراحته النبلاء أشباه المستقلين الخاضعون للبابا نظرياً والمعادون له والخطرون عليه فعلاً. وكان ضعف البابوية من الناحية الزمنية منذ أيام بنيفاس الثامن (المتوفى عام 1303) قد ترك لهؤلاء النبلاء سيادة إقطاعية على ضياعهم شبيهة بما كان لأمراء الإقطاع في العصور الوسطى، فكانوا يسنون لأنفسهم قوانينهم، وينظمون جيوشهم، ويحاربون، كلما شاءوا، حروبهم الخاصة غير مبالين بالبابوات أنفسهم، وقد أدى هذا كله إلى اضطراب النظام وكساد التجارة في لاتيوم. ولم يمض على ارتقاء الإسكندري عرش البابوية إلاّ قليل من الوقت حتى باع فرانتشيسكتستو كسيبو إلى فرجينو أرسيني Virginio Orisini ضياعاً خلفها له والده إنوسنت الثامن بمبلغ 40.000 دوقة (500.000 دولار)؛ ولكن أرسيني هذا كان ضابطاً كبيراً في جيش نابلي؛ وكان قد تلقى من فيرانتي الجزء الأكبر من المال الذي ابتاع به الضياع، والواقع أن نابلي كانت قد امتلكت في الأراضي البابوية حصنين ذوي مركزين حربيين خطيرين(22). ورد الإسكندر على هذا بأن عقد حلفاً مع البندقية، وميلان، وفيرارا، وسينا، وبتجنيد جيش، وتحصين الأسوار القائمة بين سانت أنجيلو والفاتيكان. وخشي فرديناند الثاني ملك أسبانيا أن يؤدي الهجوم المشترك على نابلي إلى القضاء على سلطان أرغونة في إيطاليا، فأقنع الإسكندر وفيرنتي أن يتفاوضا؛ ونفح أرسيني البابا بأربعين ألف دوقة نظير احتفاظه بالأملاك التي اشتراها، وخطب الإسكندر لابنه جيوفري، وكان وقتئذ في الثالثة عشرة من عمره، سانتشيا Sancia حفيدة ملك نابلي الحسناء (1494).

وكافأ الإسكندر فرديناند على وساطته الموفقة بأن منحه الأمريكتين. ذلك أن كولمبس كان قد كشف "جزائر الهند" بعد شهرين من تولية الإسكندر ومنح فرديناند وإزبلا تلك البلاد. غير أن البرتغال طالبت بملك العالم الجديد بالاستناد إلى مرسوم صدر من كالكستس Calixtus الثالث (1479)، يؤيد فيها امتلاكها جميع الأراضي الواقعة على شاطئ المحيط الأطلنطي. وردت أسبانيا على هذا بان المرسوم لم يكن يقصد غير الأراضي الواقعة على الشاطئ الشرقي من ذلك المحيط. وكانت نيران الحرب وشيكة الاشتعال بين الدولتين حين أصدر الإسكندر مرسومين (في الثالث والرابع من شهر مايو سنة 1493) يمنحان أسبانيا جميع الأراضي المكتشفة في غرب خط وهمي يمتد من أحد القطبين إلى القطب الثاني على بعد مائة فرسخ إسباني من جزائر أزوره والرأس الأخضر، كما يمنح البرتغال جميع الأراضي المكتشفة في شرقه، مشترطاً ألاّ تكون الأراضي ما يسكنه المسيحيون، وأن يبذل الفاتحون كل ما أوتوا من جهد في أن ينشروا الدين المسيحي بين رعاياهم الجدد. ولم تكن "منحة" البابا بطبيعة الحال إلاّ تأييداً لحق الفتح بالسيف، ولكنها حافظت على السلم في شبه جزيرة أيبريا؛ ويبدو أن أحداً لم يفكر قط في أن لغير المسيحيين أي حق في الأراضي التي يسكنونها.

وإذا كان في مقدور الإسكندر أن يوزع القارات، فقد وجد كثيراً من الصعوبة في الاحتفاظ بالفاتيكان. فقد حدث عقب وفاة فيرنتي صاحب نابلي (1494) أن استقر رأي شارل الثامن على غزو إيطاليا وإعادة نابلي إلى أملاك فرنسا. وخشي الإسكندر أن يخلع من عرشه فخطا تلك الخطوة الخطيرة وهي طلب المعونة من سلطان الأتراك. ولهذا بعث في شهر يولية من عام 1494 بأمين له يدعى جيورجيو بتشياردو Giorgio Bocciardo ليحذر بايزيد الثاني من عزم شارل على دخول إيطاليا والاستيلاء على نابلي، وخلع البابا أو السيطرة عليه، وتحريض جم على المطالبة بعرش آل عثمان، واستغلال هذا في حرب صليبية ضد القسطنطينية. وعرض الإسكندر أن ينضم إلى البابوية، ونابلي، ضد فرنسا، وربما انضمت إليهم أيضاً البندقية. واستقبل بايزيد بنتشياردو بالحفاوة المأثورة عن الشرقيين، ورده بالأربعين ألف دوقة المستحقة عليه نظير نفقات جم يصحبه رسول من عنده إلى الإسكندر. ولمّا وصل بتشياردو إلى سنغالياSengallia قبض عليه جيوفني دلا روفير أخو الكردنال الحانق، واستولى على الأربعين ألف دوقة، وعلى خمس رسائل قيل إنها مرسلة من السلطان إلى البابا. وتشير إحدى هذه الرسائل على البابا بأن يقتل جم ويرسل جثته إلى القسطنطينية على أن يؤدي السلطان عقب وصولها ثلاثمائة ألف دوقة (3.750.000؟ دولار): (تستطيع بها يا صاحب العظمة أن تبتاع أملاكاً لأبنائك)(23)، وأرسل الكردنال دلا روفيري صوراً من هذه الرسائل إلى ملك فرنسا. وقال الإسكندر إن الكردنال قد زور الرسائل، وأنه اخترع القصة من أولها إلى آخرها. والشواهد التي لدينا تؤيد رسالة البابا إلى بايزيد، ولكنها لا تؤيد رد السلطان وتنطق بأنه في أغلب الظن مزيف(24). وكانت البندقية ونابلي قد دخلتا من قبل في مفاوضات مثل هذه مع الأتراك، وسنرى فرانسيس الأول يحذو حذوهما فيما بعد؛ ذلك أن الدين عند الحكام إنما هو أداة من أدوات السلطان.

وأقبل شارل، وتقدم مجتازاً ميلان الصديقة، وأرهب فلورنس واقترب من روما (ديسمبر عام 1494). وساعده آل كولنا باستعدادهم لغزو العاصمة. واستولى أسطول فرنسي على أستيا - مرفأ روما على منصب التيبر - وهدد بمنع وصول الحبوب إليها من صقلية. وأعلن كثيرون من الكرادلة، ومنهم اسكانيو اسفوردسا تأييدهم لشارل؛ وفتح فرجينو أرسيني قصوره للملك، وتوسل إليه نصف الكرادلة في روما أن يخلع البابا(24). وانسحب الإسكندر إلى قصر سانت أنجيلو، وبعث مندوبين عنه ليفاوضوا الفاتح. ولم يكن شارل يريد أن يثير أسبانيا ضده بإقدامه على خلع البابا، بل إن هدفه كان الاستيلاء على نابلي التي لم يكن ثراؤها يغيب قط عن عقول ضباطه. ولهذا عقد الصلح مع الإسكندر مشترطاً أن يسمح لجيوشه باختراق لاتيوم دون عائق، وأن يعفو البابا عن الكرادلة الذين انضموا إلى شارل، وأن يسلمه جم. وقبل الإسكندر هذه الشروط، وعاد إلى الفاتيكان، واستمتع بركوع شارل ثلاث ركعات أمامه، وتفضل فمنعه من أن يقبل قدمي البابا، وتلقّى من الملك "طاعة" فرنسا الرسمية - أي تخليه عن جميع خططه التي كانت تهدف إلى خلع البابا. وزحف شارل على نابلي في الخامس والعشرين من يناير ومعه جم، ومات جم في الخامس والعشرين من فبراير على أثر نزلة شعبية، ويقول بعضهم إن الإسكندر الماكر سقاه بطيئاً، ولكن أحداً لم يعد يصدق هذه القصة(25).

وما كاد الفرنسيون يرحلون حتى استرد الإسكندر شجاعته. وأكبر الظن أنه أيقن في ذلك الوقت أن ولايات بابوية قوية، وجيشاً صالحاً، وقائداً محنكاً لا غنى عنها لسلامة البابوات من سيطرة أصحاب السلطة الزمنية(26). ولهذا عقد مع البندقية، وألمانيا، وأسبانيا، وميلان حلفاً مقدساً (31 مارس من سنة 1495) هدفه في ظاهر الأمر الدفاع المتبادل ومحاربة الأتراك، ولكنه يهدف في السر إلى طرد الفرنسيين من إيطاليا. وعرف شارل السر، وارتد إلى بيزا عن طريق روما؛ وأراد الإسكندر أن يتحاشى الاصطدام به فراح إلى أرفينو وبروشيا. ولما فر شارل عائداً إلى فرنسا دخل الإسكندر روما دخول الظافرين، وطلب إلى فلورنس أن تنظم إلى الحلف، وأن تطرد منها سفنرولا صديق فرنسا وعدو البابا أو ترغمه على السكوت، وأعاد تنظيم الجيش البابوي، ووضع على رأسه جيوفني أكبر أبنائه الأحياء، وأمره أن يفتح حصون آل أرسيني الثائرة ويضمها لأملاك البابوية. (1496). ولكن جيوفني لم يكن قائداً محنكاً فهزم في سريانو Soriano وعاد إلى روما يجلله العار، وأنغمس في الشهوات التي أدت في أغلب الظن إلى موته المبكر. لكن الإسكندر رغم هذا استرد الحصون التي بيعت لفرجينو أسيني، كما أسترد أستيا من الفرنسيين. وبدا له أنه تغلب على كل الصعاب، فأمر بنتورتشيو أن ينقش على جدران الجناح البابوي في سانت أنجيلو مظلمات تمثل انتصار البابا على الملك. وكان الإسكندر وقتئذٍ قد وصل إلى ذروة مجده.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: الآثم

وحمدت له روما حسن إدارته الداخلية ونجاحه رغم تردده في سياسته الخارجية، ولامته لوماً خفيفاً على مغامرات حبه، ولوماً عنيفاً على سعيه لتوفير الثراء لأبناءه، وحقدت عليه لتعيينه في مناصب الدولة بروما حشداً كبيراً من الأسبان كان منظرهم الأجنبي ولغتهم الأجنبية مثاراً لغضب الإيطاليين. وكان عدد ضخم من الأسبانيين من أقارب البابا قد هرعوا إلى روما "حتى لم تعد مائة بابوية تكفي ذلك الحشد من أبناء الأعمام"؛ كما يقول شاهد عيان(27). وكان الإسكندر وقتئذ قد أصبح إيطالياً كاملاً في ثقافته، وسياسته، وأساليبه ولكنه لا يزال يحب أسبانيا، ويتحدث بالإسبانية أكثر مما يجب مع سيزاري ولكريدسيا، ورفع إلى مقام الكردنالية تسعة عشر أسبانياً، وأحاط نفسه بخدم ومساعدين قطلانيين، حتى لقبه الإيطاليون الحاسدون آخر الأمر "البابا الهجين"(28) يشيرون بذلك إلى انحداره من يهود أسبانيين اعتنقوا المسيحية. ورد الإسكندر على هذا بقوله إن كثيرين من الإيطاليين، وبخاصة في مجمع الكرادلة، قد غدروا به، وإنه لا بد أن يجمع حوله طائفة من الأنصار يرتبطون معهم برباط الولاء الشخصي القائم على علمهم بأنه هو حاميهم الأوحد في روا. وكان هو، وأمراء أوربا حتى زمن نابليون، يقولون هذا القول عينه ليبرروا ترقية أقاربهم إلى مناصب الثقة والسلطان. وقد ظل البابا فترة من الوقت يأمل أن يعينه ابنه جيوفني على حماية الولايات البابوية، ولكن جيوفني ورث عن أبيه حسه المرهف نحو النساء غير مصحوب بقدرته على حكم الرجال. وأدرك الإسكندر أن ابنه سيزاري دون سائر أبناءه هو الذي أوتي العزيمة والصرامة اللتين لا بد منهما لخوض غمار السياسة الإيطالية في ذلك العصر المليء بالعنف، فخلع عليه عدداً كبيراً من المناصب الدينية تدر عليه إيراداً يفي بنفقات هذا الشاب ذي السلطان المطرد الزيادة. وحتى لكريدسيا الظريفة نفسها اتخذت أداة سياسية، فالفت نفسها وقد ارتقت إلى حكم إحدى المدن أو إلى فراش الدوق جليل الشأن. وكان البابا يحب لكريدسيا حباً أدى ببعض المغتابين النمامين إلى اتهامه بمضاجعتها وتصويره بالوالد الذي ينافس أبناءه في عشقها(29). وقد حدث في مرتين اضطر فيهما ألكسندر إلى الغياب عن روما أن عهد إلى لكريدسيا بحجرة في الفاتيكان وخولها حق فض رسائله وتصريف جميع الشؤون العادية. وكان تخويل النساء مثل هذه السلطة كثير الحدوث في بيوت الحكام بإيطاليا - كما حدث في فيرارا، وأرمينو، ومانتوا - ولكن هذا العمل روع روما نفسها وهي المتخمة بالمفاسد. ولما أن قدم جيوفري وسانتشيا من نابولي بعد زفافهما، خرج سيزاري لكريدسيا لاستقبالهما، وهرول الأربعة إلى الفاتيكان، وسعد الإسكندر بقربهم. وفي ذلك يقول جوتشيارديني Guicciardini " لقد اعتاد غير الإسكندر من البابوات أن يخفوا فضائحهم بأن يسموا أبنائهم أبناء أخواتهم، ولكن الإسكندر كان يسره أن يعرف العالم كله أنهم أبناءه(30).

وكانت روما قد غفرت للبابا علاقته بفانتسا الساذجة، ولكنها دهشت لعلاقته بجويليا التي تنقلت من عشيق إلى عشيق. واشتهرت جويليا فرنيزي Gullia Farnese بجمالها الرائع وخاصة بشعرها الذهبي؛ فإذا أرسلته ووصل إلى قدميها كان له منظر يلهب دم رجال أقل توقداً من الإسكندر. وكان أصدقاؤها يلقبونها "الجميلة La Belle". ويصفها سانودو Sanudo بأنها "محبوبة البابا، وأنها فتاة رائعة الجمال، قوية الإدراك، رحيمة، ظريفة(31). ووصفها إنفيسورا في عام 1493 فقال إنها شهدت مأدبة زواج لكريدسيا في الفاتيكان، وسماها "محظية الإسكندر؛ وأطلق ماتارتسو المؤرخ البيرولوجي هذا اللقب ذاته على جويليا ولكنه في أغلب الظن كان ينقل عن إنفيسورا، وسماها أحد الظرفاء الفلورنسيين في عام 1494 "عروس المسيح Sposa di Cristo" وتلك عبارة لا تطلق عادة إلاّ على الكنيسة(32). وقد حاول بعض العلماء أن يطهروا اسم جويليا بحجة أن لكريدسيا التي دل البحث عن نقاء سريرتها - ظلت صديقتها إلى آخر أيامها، وأن أرسينو أرسيني Orsino Orsini زوج جويليا بنى معبداً تكريماً لذكراها الشريفة(33). وولدت جويليا في عام 1492 ابنة سميت لورا Laura، قيدت رسمياً منسوبة إلى أرسيني، ولكن الكردنال ألسندرو فارنيزي اعترف بأن الطفلة ابنة الإسكندر نفسه(34) . وينسب إلى البابا أيضاً ابن غامض خفي ولد له من امرأة أخرى حوالي عام 1498 ويعرف في يومية بركهار باسم الطفل رومانوس Infans Romanus،(35). وليست نسبته إلى البابا مؤكدة، ولكن زيادة واحد أو نقصه في عدد أولئك الأبناء أمر غير ذي بال.

وليس ثمة شك في أن الإسكندر هذا كان رجلاً شهوانياً حار الدم إلى درجة لا تتفق قط مع العزوبة. والشواهد على ذلك كثيرة: منها أنه أقام احتفالاً عاماً في الفاتيكان مثلت فيه مسلاة (فبراير، 1503)، وأنه استمتع في هذه المناسبة بكثير من ضروب الملاهي، وسره أن يلتف حوله عدد من النساء الرائعات الجمال، وأن يجلسن على مقاعد منخفضة عند قدميه.ذلك أنه كان رجلاً، ويبدو أنه كان يشعر بما يشعر به كثيرون من رجال الدين في تلك الأيام، وهو أن فرض العزوبة على رجال الدين خطأ وقع فيه هلدبراند، وأن الكرادلة أنفسهم يجب أن يسمح لهم بأن يستمتعوا بلذة صحبة النساء، وإحنهن. وكان يظهر لفانتسا مشاعر الحنان الزوجي، ولعله كان يظهر لجويليا الحب الأبوي. لكن إخلاصه لأبنائه، الذي كان يتغلب في بعض الأحيان على إخلاصه لمصالح الكنيسة، يمكن أن يتخذ حجة تبرر بها حكمة القانون الكنسي الذي يفرض العزوبة على القسيسين.

وكان الإسكندر في السنين الوسطى من ولايته، وقبل أن يطغى عليه فيها سيزاري بورجيا، تتصف بكثير من الفضائل. نعم إنه كان في تصريف الشئون العامة مهيباً ذا شمم وكبرياء، ولمنه في أحواله الخاصة مرحاً، طيب السريرة، بشوشاً، حريصاً على الاستمتاع بالحياة، يستطيع أن يضحك ملء شدقيه حين يرى من نافذة غرفته استعراضاً للرجال المقنعين "ذوي أنوف مزيفة طويلة كبيرة الحجم في شكل عضو التذكير"(36). وكان وقتئذ بديناً إلى حد ما إذا جاز لنا أن نثق بصورته وهو يصلي التي رسمها له بنتورتشيو والتي يبدو لنا أنها صورة صادقة. ومع هذا فإن كل ما كتب عنه يشهد بأنه كان مقتصداً في طعامه وشرابه، وأن مائدته كانت تبلغ من البساطة حداً ينفر منه الكرادلة(37).وأنه لم يكن يرعى حق بدنه أثناء قيامه بالشئون الإدارية، فكان يقضي في العمل جزءاً كبيراً من الليل، ويراقب بجد ونشاط شئون الكنيسة في جميع أنحاء العالم المسيحي.

ترى هل كان استمساكه بالدين المسيحي تصنعاً ورياءً؟ أكبر الظن لا. ودليلنا على ذلك أن رسائله حتى التي تختص منها بجويليا مليئة بعبارات التقى التي لم تكن من مستلزمات الرسائل الخاصة(38). ولقد كان هو رجل نشاط وعمل تغلبت عليه أخلاق زمانه السهلة غير المتحرجة، حتى لم يكن يرى، إلاّ في القليل النادر من الأوقات، أن ثمة تناقضاً بين حياته وبين مبادئ الأخلاق المسيحية. وكانت كمعظم الذين يستمسكون بقواعد الدين كاملة، يسلك مسلك رجال الدنيا كاملاً. ويبدو أنه كان يشعر أن البابوية في الظروف المحيطة بها في عهده تحتاج إلى حاكم سياسي لا إلى ولي من أولياء الله الصالحين. وكان يعجب بالتقى والصلاح، ولكنه كان يظن أن هذا من مستلزمات الرهبنة والحياة الخاصة، لا من صفات يضطر إلى أن يعامل في كل خطوة من خطواته طغاة، دهاة، يعملون للكسب والسلطان، أو دبلوماسيين غادرين لا ذمة لهم ولا ضمير. وانتهى به الأمر إلى اتباع جميع أساليبهم، واصطناع أكثر ما تحوم حوله الريب من حيل من سبقوه في البابوية.

واضطرته حاجته إلى المال لأداء نفقات حكومته وحروبه، فباع المناصب، واستولى على ضياع الموتى من الكرادلة، واستغل عيد سنة 1500 أتم استغلال، فكان الإعفاء من الواجبات الدينية والإذن بالطلاق يمنحان على أنهما عملان مربحان في المساومات السياسية. مثال ذلك أن لادسلاس ملك المجر دفع 30.000 دوقة نظير إلغاء زواجه ببياتريس أميرة نابلي؛ ولو أن هنري الثامن قد وجد بابا كالإسكندر يتعامل معه، لبقى إلى آخر أيامه حامي حمى الدين. ولمّا لاح أن العيد سيخفق من الناحية المالية لأن الذين كانوا يريدون الحج قعدوا في منازلهم خوفاً من اللصوص، أو الوباء أو الحروب، لم يشأ الإسكندر أن يخسر ما قدره لنفسه من مال، وجرى على سنة أسلافه البابوات، فأصدر مرسوماً بابوياً (4 مارس سنة 1500) يفصل فيه ما يستطيع المسيحيون أداءه من المال ليحصلوا على الغفران الذي كانوا سيحصلون عليه بالحج إلى رومة؛ وبأي ثمن يستطيع التائبون أن يغفر لهم زواجهم من المحارم؛ وكم يؤدي رجل الدين لكي يغفر له بيع المناصب أو "الشذوذ"(39). وأمر في السادس عشر من ديسمبر أن يمد العيد حتى يوم الغطاس. ووعد الجباة دافعي المال بأن أموالهم ستستخدم في حرب صليبية على الأتراك، ووفى بهذا الوعد بالنسبة إلى الأموال المجموعة من بولندة والبندقية، ولكن سيزاري بورجيا استخدم ما تجمع من الأموال فيما شنه من الحروب لاستعادة الولايات البابوية(40). وأراد الإسكندر أن يزيد حفلات العيد جلالاً فعين في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1500 اثني عشر كردنالاً جديداً بلغ مجموع ما أدوه ثمناً لمناصبهم 120.000 دوقة؛ ويقول جوتشيارديني إن هذه المناصب "لم يرق إليها أكثر الناس جدارة بها بل كانت من نصيب من يؤدون فيها أغلى الأثمان"(41). ثم عين في عام 1503 تسعة كرادلة آخرين حصل منهم على أثمان مجزية(42). وأنشأ كذلك في هذه السنة ذاتها ثمانين منصباً في الحكومة البابوية لا موجب لها على الإطلاق، وبيع كل منصب من هذه المناصب بسبعمائة وستين دوقة كما يقول جوستيانينيGuistianini سفير البندقية وأحد أعداء البابا(43). ولصق أحد الهجائين على تمثال بسكوينو (1503) هذا الهجاء اللاذع: "إن المفاتيح ومذابح الكنائس والمسيح يبيعها الإسكندر؛ وحق له أن يبيعها، فقد أدى هو ثمنها"(44).

وكان القانون الكنسي ينص على أن تعود أملاك رجال الدين إلى الكنيسة بعد وفاتهم، إلاّ إذا قضى البابا غير هذا(45). وكان الإسكندر يقضي بغير هذا على الدوام إلاّ إذا كان المتوفى من الكرادلة. واستجاب الإسكندر لضغط سيزاري بورجيا وإلحاحه فجعل الاستيلاء على الثروة التي يتركها وراءهم كبار رجال الكنيسة من المبادئ العامة المقررة، وجاءت بهذه الطريقة أموال موفورة إلى بيت المال. وخدع كثيرون من الكرادلة البابا بمنح هبات كثيرة من أموالهم قبل وفاتهم، ومنهم من عمد في أثناء حياته إلى إنفاق أموال كثيرة لإعداد أنصاب تذكارية لهم تبقى بعد موتهم. ولمّا مات الكردنال ميشيل (1503) جرد عملاء البابا من فورهم بيته من كل ما كان فيه، وقبض البابا ثمنه، إذا صدقنا ما يقوله جوستنيانا، البالغ مائة وخمسين ألف دوقة. وكان مما يشكو منه الإسكندر أنه لم يتسلم منه نقداً سوى 23.832 دوقة(46).

وسنرجىء هنا البحث المفصل فيما يعزى للإسكندر أو سيزاري بورجيا من دس السم لكبار رجال الكنيسة الذين تطول أعمارهم، ولكننا نقبل مؤقتاً النتيجة القائلة بأنّا "لا نجد قط دليلاً يثبت أن الإسكندر قد دسّ السم لإنسان"(47). على أن قولنا هذا لا يثبت براءته، وربما كان هو أمهر من أن يترك وراءه للتاريخ ما يدينه؛ لكنه مع ذلك لم ينج من الهجائين والنمامين، وغيرهم من الظرفاء الذين كانوا يبيعون نكاتهم القاتلة إلى أعداءه، وقد رأينا كيف كان سنادسارو يسلط شعره القاتل المقفى على البابا وولده أثناء النزاع الذي شجر بين البندقية ونابلي؛ كذلك سخر أنفيسورا قلمه للتشنيع على البابا خدمةً لآل كولنا، وكان جيرونيمو منشيوني Geronimo Mancioni في يد بارونات سافلي أقوى من فرقة عسكرية. وكان من الوسائل التي استخدمها الإسكندر نفسه في حروبه مع نبلاء كمبانيا، أن أصدر في عام 1501 مرسوماً بابوياً يفصل فيه الجرائم التي ارتكبها آل سافلي وكولنا. وكان أشد من هذا مبالغة - الرسالة الذائعة الصيت التي كتبها منتشيوني والمسماة "رسالة إلى سلفيوسافلي" يعدد فيها رذائل الإسكندر وسيزاري بورجيا وجرائمهما. وقد نشرت هذه الوثيقة في مدى واسع، وكان لها أثر كبير في تصوير الإسكندر بصورة وحش في قسوته وشذوذه(48). وفاز الإسكندر في حرب السيف، ولكن أعداءه النبلاء، الذين لم يكبح جماحهم عدوه البابا يوليوس الثاني ظفروا به في حرب القلم ونقلوا صورته التي صوروه بها إلى التاريخ.

ولم يكن يبالي قط بالرأي العام، وقلما كان يرد على السباب التي ضاعفت من غير رحمة عيوبه الحقة. لقد عقد الرجل العزم على إقامة دولة قوية، وكان يظن أن هذه الدولة لا تقام بالأساليب المسيحية. وكان استخدامه لأدوات السياسة المأثورة التقليدية - الدعاوة، والخداع، والدسائس، والنظام، والحرب - لابد أن يسيء إلى أعيان روما، ودول إيطاليا الذين يرون أن من مصلحتهم أن يسود الضعف والفوضى في البابوية نفسها وفي ولاياتها. وكان الإسكندر في بعض الأحيان يقف ليحكم على حياته حسب المقاييس الإنجيلية، ثم يقر بأنه كان يبيع الرتب الكهنوتية، وأنه فاسق، وأنه قضى بالحرب على حياة بني الإنسان. وقد فقد مرة مبادئه المكيفلية التي لا تقيد صاحبها بالتبعة الأخلاقية، واعترف بذنوبه وأقسم أن يصلح من أمره وأمر الكنيسة.

وكان يحب ابنه جيوفني حباً يفوق لكريدسيا نفسها؛ ولما أنبه ابنه بدرو لويس حرص الإسكندر على أن يهب جيوفني دوقية غنية في أسبانيا.

وكان من اليسير أن تحب فتاة هذا الصبي، فقد كان وسيماً، رقيقاً، مرحاً. ولكن الأب الشفوق بولده لم يكن يرى أن الشاب خلق للحب بل للحرب؛ ولهذا عينه قائداً للجند، وأثبت القائد الشاب أنه غير كفء لهذا العمل، فقد كان جيوفني يرى أن امرأة جميلة أثمن من فتح مدينة. وفي الرابع عشر من شهر يونية تعشى مع أخيه سيزاري وغيره من الضيوف في بيت أمه فاثندسا، وافترق جيوفني عن سيزاري وسائر الضيوف وهو عائدون، وقال إنه يريد أن يزور سيدة من معارفه.

ولم يُر حياً بعد تلك الساعة. ولما لوحظت غيبته طلب البابا أن يبحث عن أبنه الحبيب، واعترف صاحب زورق أنه رأى جثة تلقى في نهر التيبر في ليلة الرابع عشر من الشهر؛ ولما سئل لِمَ لَم يبلغ عنها، قال أنه شاهد في حياته مائة حادث من هذا النوع، وإنه تعلم ألا يشغل باله بها. وفتش مجرى النهر، ووجدت الجثة، مطعونة في تسعة مواضع مختلفة؛ ويلوح أن الدوق الشاب هاجمه عدد من الأشخاص؛ وحطم الحزن قلب الإسكندر وأدى به إلى أن يغلق على نفسه باب غرفته الخاصة، ويمتنع عن الطعام، وكان أنينه يسمع في الشارع نفسه. وأمر أن يبحث عن القتلة، ولكن لعله ارتضى بعد قليل من الوقت أن يبقى الحادث في طي الخفاء. وكانت الجثة قد عثر عليها بالقرب من قصر أنطونيو بيكو مير ندولا Antonio Pico della Mirandola ويقال إن الدوق أغوى ابنته الحسناء؛ ويعزو كثيرون من المعاصرين ومنهم أسكالونا Scalona سفير مانتو مقتله إلى جماعة من السفاحين المتشردين أستأجرهم الكونت لهذا الغرض؛ ولا يزال قولهم هذا أقرب التفاسير احتمالاً(49). ويعزو آخرون ومنهم سفيرا فلورنس وميلان في روما هذه الجريمة إلى أحد أبناء أسرة أرسيني التي كانت وقتئذ مشتبكة مع البابا في حرب(50)؛ ويقول بعض الثرثارين النمامين إن جيوفني غازل أخته لكريدسيا، وإن مقتله كان بأيدي بعض أتباع زوجها جيوفني اسفوردسا(51). ولم يتهم أحد في ذلك الوقت سيزاري بورجيا، ويبدو أن سيزاري، وهو وقتئذ في الحادية والعشرين من عمره، كان على أتم وفاق مع أخيه؛ فقد كان كردنالاً، وكان يسير في طريق الرقي الخاص به، ولم يغير هذا الطريق ويسلك طريق الجندية إلا بعد أربعة عشر شهراً من الحادث؛ ولم يفد شيئاً ما من مقتل أخيه، ولم يكن هو ليتنبأ بأن جيوفني سيفارقه في طريقه وهما عائدان من بيت فاندسا. ولم يرتب الإسكندر وقتئذ في سيزاري، بل إنه فعل ما يدل على عكس هذا، فعينه مصفياً لتركته. وكان أول ما ورد من الأقوال عن أن سيزاري هو القاتل في رسالة كتبها بنيا Pinga سفير فيراراً في الثاني والعشرين من فبراير عام 1498 بعد ثمانية عشر شهراً من وقوع الحادث، ولم يربط الرأي العام بينه وبين الجريمة إلا بعد أن كشف عن كل ما في أخلاقه من قوة وقسوة؛ وحينئذ فقط اتفق مكيفلي وجوتشيا رديني على اتهامه بها. ولعله كان قادراً على ارتكابها في مرحلة أخرى من مراحل تطوره لو أن جيوفني عارضه في أمر من الأمور الحيوية؛ ولكنا نكاد نجزم أنه برئ من هذه الجريمة.

ولما أسترد البابا سلطانه على نفسه جمع مجلساً من الكرادلة (19 يونية سنة 1497)، وتلقى تعازيهم وأبلغهم أن "دوق غنديا كان أحب إليه من أي شخص في آخر العالم"، وقال إن هذه المصيبة "هي أكبر المصائب التي يمكن أن تحل به" عقاباً له من عند الله على ذنوبه، ثم أضاف "ولقد عقدنا العزم على أن نصلح من شأن حياتنا، وأن نصلح الكنيسة.... وستكون المناصب من هذه الساعة وقفاً على من يستحقونها، تعطى حسب أصوات الكرادلة. ولن نتحيز قط لأقاربنا، وسنبدأ الإصلاح بإصلاح أنفسنا، ثم نسير به في جميع مراتب الكنيسة حتى ننجز العمل كله"(53). وعينت لجنة من ستة كرادلة لتعد برنامجاً للإصلاح؛ وأخذت تعمل بجد وقدمت للإسكندر مرسوماً بهذا الإصلاح بلغ من عظم الشأن درجة لو نفذت معها مواده لنجت الكنيسة من حركات الإصلاح الديني التي حدثت في هذه الفترة ومن حركة الإصلاح المضادة. غير أنه لما سئل الإسكندر كيف تقوم موارد البابوية، بغير المال الذي يدفع نظير التعيين في المناصب الكنسية، بالوفاء بنفقات الحكومة، لم يجد جواباً شافياً. ولكن لويس الثاني عشر يتأهب في ذلك الوقت لغزو إيطاليا مرة أخرى، وعرض سيزاري بورجيا أن يسترد الولايات البابوية "نائبي البابا" المعاندين. واستحوذ على روح البابا ذلك الأمل العظيم وهو إيجاد صرح قوي يهب الكنيسة سلطاناً مادياً ومالياً في عالم متمرد غير مستقر. ولهذا أخذ يرجئ الإصلاح من يوم إلى يوم؛ ثم نسيه آخر الأمر وسط الانتصارات المثيرة التي نالها ولد له أخذ يفتح له مملكة، ويجعله ملكاً بحق.


الفصل الرابع: سيزاري بورجيا

وكان لدى الإسكندر أسباب كثيرة للفخر بالابن الذي أصبح الآن أكبر أبنائه، فقد كان سيزاري أشقر شعر الرأس واللحية، كما يريد كثير من الإيطاليين أن يكونوا، حاد البصر، فاره الطول، معتدل القامة، قوي البنية، ثابت الجنان لا يعرف الخوف له سبيلاً إلى قلبه. ويقال عنه، كما يقال عن ليونادرو إنه لا يستطيع أن يلوي حذاء فرس بيده العارية. وكان يمتطي صهوة الجياد الجامحة التي كان يجمعها لأسطبله. وكان يخرج إلى الصيد بتلهف الكلب الذي شم رائحة الدم. وقد أدهش جماعة من الناس في أثناء عيد روما حين قطع رأس ثور في مصارعة للثيران في أحد ميادين روما بضربة واحدة من يمينه. وفي اليوم الثاني في شهر يناير سنة 1502، ركب إلى حلبة مصارعة للثيران نظمها هو في ميدان سان بيترو، ومعه تسعة غيره من الأسبان، وهاجم بمفرده وبيده حربته ثوراً من اثنين هما أشد الثيران وحشية أطلقا في الحلبة؛ فقد نزل عن جواده وأخذ يصارعه راجلاً بعض الوقت، حتى إذا أثبت ما يكفي من بسالته ومهارته ترك الحلبة إلى المحترفين(54). وقد أدخل هذا الصراع إلى رومانيا Romagna كما أدخله إلى روما؛ ولكنه رد إلى أسبانيا بعد أن قتل فيه عدد من المصارعين الهواة.

ونحن إذا ما صورناه في صورة وحش ضار أخطأنا في هذا التصوير أشد الخطأ؛ وقد وصفه أحد معاصريه بأنه: "شاب عظيم النشاط إلى حد لا يضارعه أحد فيه، وذو استعداد ممتاز، بشوش، بل قل مرح، عالي الهمة على الدوام"(55). ووصفه آخر بقوله إنه "يفوق أخاه دوق غنيديا في منظره وذكائه"(56). وقد أدرك الناس دماثة أخلاقه، واعجبوا بملبسه الغالي البسيط، ونظرته المسيطرة الآمرة، وطلعة الرجل الذي يشعر بأنه قد ورث العالم. وكانت النساء يعجبن به ولكنهن لا يحيينه، فقد كن يعرفن أنه يستخف بهن حين يتصل بهن وحين ينبذهن. وكان قد درس من القانون في جامعة بروجيا ما يكفي لأن يقوي من حدة ذهنه الفطرية؛ ولم يكن يجد إلاّ القليل من الوقت ينفقه في قراءة الكتب أو في "تثقيف" عقله، وإن كتب الشعر من آن إلى آن كما يفعل كل الناس، وبلغ منه أن كاد يزدهي على شاعر بين موظفيه. وكان يقدر الفن تقدير العارف على التفريق بين الطيب منه والخبيث؛ وشاهد ذلك أنه لما رفض الكردنال رفائلو رياريو أن يبتاع صورة لكيوبيد لأنها لم تكن قديمة بل كانت من صنع شاب فلورنسي غير مشهور يدعى ميكل أنجيلو عرض فيها سيزاري ثمناً عالياً.

وما من شك في أنه لم يخلق ليكون من رجال الدين؛ ولكن الإسكندر الذي كانت له أسقفيات لا إمارات تحت تصرفه عيّنه كبيراً لأساقفة بلنسية (1492)، ثم كردنالاً (1493)؛ ولم يكن أحد من الناس يرى أن هذه مناصب دينية بحق، بل كانت في نظر الناس وسائل تدر دخلاً على الشبان الذين لهم أقارب ذوو نفوذ، والذين يستطاع تدريبهم لتصريف شئون أملاك الكنيسة والإشراف على موظفيها. وتدرج سيزاري في المراتب الكهنوتية الصغرى، ولكنه لم يصبح قط قساً. ولما كان قانون الكنيسة يحرم الأبناء غير الشرعيين من الكردنالية، فقد أعلن الإسكندر بمرسوم صادر في 19 م سبتمبر سنة 1493 أنه ابن شرعي لفاندسا ودارنيانو d'Arignano. ولم يكن من الأمور الهينة أن يصفه البابا سكستس الرابع في مرسوم أصدره في 16 أغسطس سنة 1482 بأنه ابن "ردريجو، الأسقف ونائب رئسي المحكمة". وغض الجمهور النظر عن هذا التناقض، واكتفى بالابتسام.

فقد اعتاد أن يرى الأكاذيب القانونية تستر الحقائق التي لم يحن بعد وقت إعلانها.

وسافر سيزاري إلى نابلي في عام 1497 بعد قليل من وفاة جيوفني، مندوباً من قبل البابا، وكان من حظه أن توّج ملكاً من الملوك. ولعل لمس التاج قد أثار وقتئذ عواطفه، فلمّا عاد إلى روما ألح على أبيه أن يسمح له بالتخلي عن منصبه الكنسي؛ ولم تكن ثمة وسيلة لتخليه عنه إلاّ بأن يعترف الإسكندر صراحة أمام مجمع الكرادلة بأن سيزاري ابن غير شرعي له. وهذا ما صرح به فعلاً، وأعقبه إعلان يقول إن تعيين النغل الشاب كردنالاً مخالف للقانون (17 أغسطس عام 1498)(57). ولمّا عادت إلى سيزاري بنوته غير الشرعية، أنهمك بكليته في الأعمال السياسية.

وكان الإسكندر يرجو أن يرضى فدريجو Federigo الثالث ملك نابلي بسيزاري زوجاً لابنته كارلتا Carlotta؛ ولكن فدريجو كانت له ميول غير هذه الميول. وساء ذلك البابا أشد إساءة، فولى وجهه شطر فرنسا يرجو أن يستعينها على استعادة الولايات البابوية. وواتته الفرصة حين طلب إليه لويس الثاني عشر أن يبطل زواجاً أرغم عليه في شبابه وادعى الآن أنه لم يصل إلى غايته. ولما حل شهر أكتوبر من عام 1479 أرسل الإسكندر ابنه سيزاري إلى فرنسا يحمل إلى الملك مرسوماً بالطلاق ومائتي ألف دوقة يخطب بها زوجة له. وسر لويس هذا الطلاق، وسره فوق ذلك إذن البابا بزواج آن البريطانية أرملة شارل الثامن، فعرض على سيزاري يد شارلوت دالبرت Chorlotte'd Albert أخت ملك نبرة؛ ولم يكتف بهذا بل منح سيزاري لقب دوق فلنتنوا Valentinois وديوا Diois، وهما مقاطعتان فرنسيتان للبابوية عليهما بعض الحق القانوني. وفي شهر مايو من عام 1499 تزوج الدوق الجديد فلنتينو Valentino - وهو الاسم الذي تسمى به بعدئذ في إيطاليا - شارلوت الثرية؛ الحسناء، الطيبة؛ وأقامت رومة، حين أبلغها الإسكندر النبأ، معالم الأفراح، وأطلقت الألعاب النارية ابتهاجاً بزواج أميرها. وأوجب هذا الزواج على البابوية أن تعقد حلفاً مع ملك يستعد علناً لغزو إيطاليا ويستولي على ميلان ونابلي. وبذلك لم يكن جرم الإسكندر في عام 1499 أقل من جرم لودفيكو وسفونارولا في عام 1494. وأفسد هذا الحلف جميع أعمال الحلف المقدس الذي كان للإسكندر يد في عقده سنة 1495 ومهد السبيل لحروب يوليوس الثاني. وكان سيزاري بورجيا من بين الأعيان الذين ساروا في ركاب لويس الثاني عشر إلى ميلان في السادس من أكتوبر سنة 1499، وقد وصف كستجليوني الذي كان فيها وقتئذ دوق فلنتينو بأنه أطول رجال حاشية الملك قامة وأعظمهم جمالاً(58). ولم يكن كبرياؤه يقل عن مظهره. وقد نقش على خاتمه: "أفعل ما يجب أن تفعله، وليكن بعد ذلك ما يكون". أما سيفه فقد نقشت عليه مناظر من حياة يوليوس قيصر؛ وكان يحمل شعارين: فكان على أحد وجهيه: "ألقى النرد" وعلى الوجه الآخر: "إما قيصر أو لا أحد"(59).

ووجد الإسكندر أخيراً في هذا الشاب الجريء والمحارب السعيد القائد الذي ظل يبحث عنه زمناً طويلاً ليقود قوات الكنيسة المسلحة ويستعيد بها الولايات البابوية. وأمده لويس بثلاثمائة من حملة الرماح الفرنسيين، وجند أربعة آلاف من الغسقونيين والسويسريين، وألفين من المرتزقة الإيطاليين. وكان هذا جيشاً أقل مما يحتاج إليه للتغلب على اثني عشر من الحكام المستبدين، ولكن سيزاري كان تواقاً إلى هذه المغامرة. وأراد البابا أن يضيف الأسلحة الروحية إلى الأسلحة العسكرية، فأصدر مرسوماً يعلن فيه ذلك الإعلان الخطير وهو أن كترينا اسفوردسا وابنها أنافيانو يمتلكان إمولا وفورلي - وبندلفو مالاتستا يمتلك ريميني - وجويليو فارانو Giulio Varano يمتلك كمرينو - وأستوري منفريدي Astorre Manfredi يمتلك فائندسا - وجويدويلدو يمتلك أربينو - وجيوفني اسفوردسا يمتلك بيزارو - لأنهم اغتصبوا أرضين، وأملاكاً وحقوقاً تختص بها الكنيسة قانوناً وعدلاً، وأنهم جميعاً طغاة مستبدون أساءوا استخدام سلطتهم، واستغلوا رعاياهم، وأن عليهم الآن أن يتخلوا عن أملاكهم أو يطردوا منها قوةً واقتداراً(60). ولربما طاف بخاطر الإسكندر - كما يتهمه بعضهم - أن يضم هذه الإمارات كلها في مملكة واحدة يحكمها ابنه. ولكنه لم يكن يفكر جدياً في هذا العمل، ذلك أنه كان يدرك بلا ريب أن خلفاءه لن يسكتوا، وأن الدول الإيطالية لن تسكت، زمناً طويلاً على هذا الاغتصاب الذي هو أشد مخالفة للقانون، وأكثر بغضاً لهم، من أي حكم يراد أن يحل محله. وربما كان سيزاري نفسه يحلم ببلوغ هذه الغاية؛ وكان مكفيلي يرجو تحقيقها، ويسره أن يرى يداً قوية مثل يد سيزاري توحد إيطاليا وتخرج مها جميع الغزاة؛ غير أن سيزاري نفسه ظل حتى آخر أيام حياته يعلن أنه لا غاية له غير أن يسترد ولايات الكنيسة للكنيسة، وأنه يقنع بأن يكون حاكماً على رومانياRomagna من قبل البابا(61).

وزحف سيزاري على رأس جيشه في شهر يناير من عام 1500 على فورلي بعد أن اجتاز جبال الأبنين؛ وسلمت إمولا من فورها لمندوبه، وفتح أهل فورلي أبوابها ترحيباً به، ولكن كترينا اسفوردسا فعلت ما فعلته قبل اثني عشر عاماً من ذلك الوقت فامتنعت هي و حاميتها في القلعة ودافعت عنها دفاع الأبطال. وعرض عليها سيزاري شروطاً سهلة، ولكنها آثرت أن تقاتل، واستطاعت القوات البابوية بعد حصار قصير أن تقتحم القلعة وتعمل السيف في رقاب المدافعين عنها. وأرسلت كترينا إلى روما، واستضيفت ضيفة لا ترغب فيها في جناح بلفدير بقصر الفاتيكان، وأبت أن تنزل عن حقها في حكم فورلي وإمولا، حاولت الفرار، فنقلت إلى سانت أنجيلو؛ ثم أطلقت سراحها بعد ثمانية عشر شهراً، وآولت إلى دير للنسا. وكانت امرأة باسلة، ولكنها كانت سليطة صخابة(62)، وحاكمة إقطاعية من أسوأ طراز ، وكان رعاياها وغيرهم من أهل رومانيا Romagna يرون أن قيصر منتقم بعثه الله ليطهر البلاد من الظلم والاستبداد اللذين داموا عصوراً طوالاً"(63). ولكن انتصار سيزاري الأول كان قصير الأجل، فقد تمرد جنوده الأجانب لأنه لم يجد ما يكفي من المال لأداء أجورهم، وما كاد يسترضيهم، حتى استدعى لويس الثاني عشر الفرقة الفرنسية لتساعده على استرداد ميلان التي استعادها لدوفيكو من وقت قريب. وسار سيزاري على رأس الباقين من جنوده إلى روما، واستقبل فيها استقبالاً لا يكاد يقل مهابة عن استقبال القواد الرومان المنتصرين. وابتهج الإسكندر بانتصار ابنه، وفي ذلك يقول سفير البندقية: "إن البابا أكثر ابتهاجاً مما رأيته في أي وقت من الأوقات"(64). وعين سيزاري نائباً عن البابا في المدن المفتوحة، وشرع من ذلك الحين يدفعه الحب الشديد إلى قبول نصائح ولده؛ وامتلأت خزائنه بالأموال التي جمعها من عيد روما ومن بيع مناصب للكرادلة، واستطاع سيزاري بفضلها أن يضع خطة حملة أخرى. وكان أول ما عمله أن عرض مبلغاً مغرياً من المال على باولو أرسيني ليقنعه بأن ينضم هو ورجاله إلى القوات البابوية؛ وجاء باولو كما جاء على أثره عدد آخر من النبلاء. وبهذه الضربة الماهرة قوى سيزاري جيشه، وحمى روما من غارات البارونات أثناء غياب الجيوش البابوية وراء الابنين. ولعل هذه المغريات نفسها، وما بذله لمناصريه من وعود بالغنائم هي التي ضمن بها خدمات جيان بولو بجليوني سيد بورجيا وجنوده، واستخدم بها فيتيلتسو فيتلي Vitelozzo Vitolli ليقود مدفعيته. وبعث إليه لويس الثاني عشر بلواء صغير من حملة الرماح، ولكن سيزاري لم يعد يعتمد على الإمدادات الفرنسية. فلما تم له هذا الاستعداد هاجم في سبتمبر من عام 1500 بتحريض الإسكندر القصور التي يحتلها آل كولنا وسفلى المعادين له في لاتيوم.

واستسلمت له هذه القصور الحصينة واحداً بعد واحد، وسرعان ما كان في مقدور الإسكندر أن يطوف وهو آمن طواف المنتصر بالأقاليم التي فقدتها البابوية من زمن طويل؛ واستقبل في كل مكان بالترحاب من الشعب(65)، لأن رعايا البارونات الإقطاعيين لم يكونوا يحبونهم.

ولمّا بدأ سيزاري حملته الكبرى الثانية (أكتوبر عام 1500) كان تحت إمرته جيش مؤلف من 14.000 جندي، ومعه حاشية من الشعراء، وكبار رجال الدين، والعاهرات لخدمة جنوده. وعرف بنيلفو مالاتستا أنهم زاحفون على ريميني فأخلاها قبل ووصلهم إليها، وفر جيوفني اسفوردسا من بيزارو، ورحبت المدينتان بمقدم سيزاري وعدتاه محرراً لهما، لكن استوري مانفريدي قاومه في فائندسا، وأيده أهلها بإخلاص ولاء؛ وعرض عليه بورجيا شروطاً للتسليم كريمة رفضها منفريدي؛ ودام حصار المدينة طوال الشتاء، ثم استسلمت فائندسا آخر الأمر بعد أن وعدها سيزاري بأن يكون رحيماً بأهلها جميعاً. وكان مسلكه مع أهلها بعد استسلامها حسناً، وأثنى على منفريدي ودفاعه القوي ثناءً مستطاباً أحبه من أجله - كما يبدو - القائد المهزوم ولبث معه ضمن حاشيته أو أركان حربه. وفعل هذا الفعل نفسه أخر أصغر لأستوري، وإن كان هو ومنفريدي قد أجيز لهما أن يذهبا إلى حيث شاء(66)، وظلا شهرين يسيران في ركاب سيزاري في جميع تجواله، ويعاملان معاملة إجلال ولكنهما ما أن وصلا إلى روما حتى زج بهما فجأة في قصر سانت أنجيلو الحصين، حيث بقيا عاماً كاملاً، حتى إذا كان اليوم الثاني من شهر يونيه سنة 1502 قذفت مياه نهر التيبر بجثتيهما على الشاطئ. ولسنا نعرف السبب الذي من أجله قتلهما سيزاري أو الإسكندر، وستظل هذه الحادثة كغيرها من الحوادث الكثيرة التي تبلغ المائة عدا من الأسرار الغامضة التي لا يسبر غورها إلاّ العارفون.

وأخذ سيزاري بعد أن أضاف "رومانيا" إلى ألقابه يدرس الخريطة، وقرر بعد دراستها أن يتم الواجب الذي عهد به إليه أبوه. وكان قد بقى عليه أن يستولي على كينو وأربينو. ولا شك في أن أربينو كانت بابوية في شرائعها، ولكنها كانت دولة نموذجية من جهة النظر السياسية في تلك الأيام؛ وبدا أن من العار أن يخلع عن عرشها شخصان محبوبان مثل جويدويلو وإلزبتا، ولعلهما في هذه الأيام الأخيرة كان يقبلان أن يكونا نائبين عن البابا بالاسم وبالفعل معاً. ولكن سيزاري كان يدعى أن تلك المدينة تسد أسهل طريق له إلى البحر الأدريادي، وأن في مقدورها إذا وقعت في أيد معادية له أن تقطع عليه سبل الاتصال مع سيزارو وريمني. ولسنا نعرف هل وافق الإسكندر على هذه الحجج؛ ويبدو أن ذلك بعيد احتمال، لأنه أقنع جويدويلدو في ذلك الوقت بأن يعير جيش البابوية مدافعه(67). وأقرب من هذا إلى العقل أن سيزاري خدع أباه، أو بدل خططه. وسواء كان هذا أو ذات فإنه بدأ حملته الثالثة في الثاني عشر من يونيه عام 1502 وبصحبته ليوناردو دافنشي كبيراً لمهندسيه؛ وكان متجهاً في الظاهر نحو كميرينو Camerino. لكنه بدل خطته على حين غفلة، فاتجه نحو الشمال، واقترب من أربينو بسرعة لم يجد معها حاكمها المريض متعساً من الوقت للعرب إلاّ بشق الأنفس. وترك هذا الحاكم المدينة تسقط في يدي سيزاري دون أن تدافع عن نفسها (21 يونيه).وإذا كان هذا الفتح قد تم بعلم الإسكندر وموافقته، فإنه يكون من أدنأ أنواع الغدر وأوجبها للاحتقار في التاريخ، وإن كان مكفيلي يبتهج بما ينطوي عليه من مكر ودهاء. وعامل المنتصر أهل المدينة برقة شبيهة برقة السنانير، ولكنه استحوذ على ما كان للدوق المغلوب من مجموعات فنية ثمينة وباعها ليؤدي بها رواتب جنده.

واستولى قائده فيتيلي Vitelii في هذه الأثناء على أردسو التي كانت تابعة لفلورنس من زمن طويل،ويبدو أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه وعلى مسئوليته. وارتاع مجلس السيادة فأرسل أسقف فلتيرا، ومعه مكفيلي، ليستغيث بسيزاري في أربينو. واستقبلهم القائد بلطف كان له الفضل في بلوغه ما يصبو إليه. فقد قال بهم: "إني لم آت إلى هنا لأكون طاغيةً مستبداً، بل جئت لأقضي على الطغاة المستبدين"(68). ووافق على أن يمنع زحف فيتيلي، وأن يعيد أردسو إلى طاعة فلورنس، وطلب في نظير هذا ان توضع سياسة محددة المعالم للصداقة المتبادلة بينه وبين فلورنس. وظل الأسقف أنه مخلص في قوله، وكتب مكفيلي إلى مجلس السادة بحماسة غير دبلوماسية يقول:

إن هذا السيد جليل عظيم، وإنه ليبلغ من الجرأة حداً يبدو معه كل مشروع مهما عظم شأنه صغيراً في عينه. وهو يحرم نفسه من الراحة ليظفر بالمجد ويستحوذ على الأمصار، ولا يجد الخطر ولا التعب سبيلاً إلى نفسه. وهو يصل إلى المكان الذي يريده قبل أن يدرك الناس من نواياه؛ وهو يكسب محبة جنوده، وقد اختارهم من أحسن الناس في إيطاليا. وأدى هذا كله إلى نصره وقوته، وساعده على ذلك حظه الموفق على الدوام"(69). وسلمت كميرينو في 20 يوليه إلى قواد سيزاري، وعادت الولايات البابوية بابوية كما كانت من قبل. وحكمها سيزاري بنفسه أو على أيدي نوابه حكماً صالحاً يبرر ما كان يدعيه من أنه تل عروش الطغاة؛ وبلغ من ذلك أن هذه المدن كلها، إذا استثنينا منها أربينو فائندسا، حزنت لسقوطه(70). وسمع سيزاري أن جيان فرنتشسيسكو جندساجا (أخا إلزبتا وزوج إزبلا) ذهب هو وجماعة من الأشخاص البارزين إلى ميلان ليستعدوا عليه لويس الثاني عشر، فأسرع باختراق إيطاليا، وواجه أعداءه، ولم يلبث أن استعاد رضا الملك (أغسطس سنة 1502). ومما هو جدير بالملاحظة أن يجمع أسقف، ومليك، ودبلوماسي اشتهر يجمع هؤلاء على الإعجاب بسيزاري ويؤمنوا بعدالة مسلكه وأهدافه.

لكن إيطاليا كانت مع ذلك لا تخلو من رجال في أماكن مختلفة منها يتمنون سقوطه. فالبندقية مثلاً، وإن كانت قد منحته مواطنيتها الفخرية، لم يكن يسرها أن تعود الولايات البابوية قوية كما كانت من قبل، وأن تسيطر على جزء كبير من شاطئ البحر الأدريادي. وامتعضت فلورنس وهي تفكر أن فورلي التي لا تبعد عن أرضها أكثر من ثمانية أميال كانت في يدي شاب عبقري في شئون السياسة والحرب مجرد من الضمير ولا يحسب حساباً للعواقب. وعرضت بيزا عليه أن يتولى أمرها؛ فرفض هذا العرض في أدب؛ ولكن من يدري، فقد يبدل خطته كما بدلها وهو في طريقه لكميرينو. وربما كانت الهدايا التي بعثت بها إزبلا له ستاراً يخفي ما تشعر به هي ومانتوا من استياء لاغتصابه أربينو. ولقد خربت انتصاراته بيوت آل كولنا وسافلي، وكذلك آل أرسيني وإن لم يصب هؤلاء ما أصاب بيوت الأسرتين الأوليين، وكانوا جميعاً يترقبون الساعة التي يستطيعون فيها أن يكونوا حلفاً معادياً له. ولم يكن "أحسن رجاله"، الذين قادوا فيالقه ونالوا له النصر، واثقين من أن خطوته التالية لن تكون هي الهجوم على بلادهم هم أنفسهم، ومنها ما كانت تطالب به الكنيسة. وكان جيان بولو بجليوني ترتعد فرائصه فرقاً من استحواذ سيزاري على بورجيا، كما كانت ترتعد فرائص جيوفني بنتيفجليو لحكمه بولونيا؛ وكان باولو أرسيني، وفرانتشيسكو أرسيني، ودوق جرافيو يتساءلون كم من الزمن يمضي قبل أن يفعل سيزاري بآل أرسيني ما فعله بآل كولنا. وقد ثارت ثائرة فيتيلي بعد أن اضطر إلى التخلي عن أردسو، فدعا هؤلاء ومعهم ألفيرتو Oliveretto صاحب فرمو ويندلفو بيتروتشي صاحب سينا وممثلين لجويدوبلدو للاجتماع في لامجيوني La Mageone على بحيرة تراز ميني Lake Trasimeen (سبتمبر سنة 1502). واتفقوا في هذا الاجتماع على أن يوجهوا جيوشهم ضد سيزاري فيقبضوا عليه، ويخلعوه، ويقضوا على حكمه في رومانيا وأقاليم التخوم، ويعيدوا الأمراء الذين تلت عروشهم. وكانت هذه مؤامرة قوية واسعة النطاق، لو أنها نجحت لكانت سبباً في القضاء على الخطط التي أحسن تدبيرها الإسكندر وولده.

وبدأت المؤامرة بسلسة من الانتصارات الباهرة. فقد نظمت الفتن في أربينو وكميرينو واستعين على تنظيمها بأهل المدينتين، وطردت الحاميات البابوية منهما، وعاد جويدوبلدو إلى قصره (18 أكتوبر سنة 1502)؛ ورفع الأمراء الساقطون رؤوسهم في كل مكان، وأخذوا يضعون الخطط لاستعادة ما كان لهم من سلطان. ووجد سيزاري فجاءة أن قواده يعصون أوامره، وأن قواه قد نقصت إلى حد يستحيل عليه معه أن يحتفظ بفتوحه، واسعفه الحظ في هذه الأزمة فمات الكردنال فيراري Ferrari، وأسرع الإسكندر فاستولى على الخمسين ألفاً من الدوقات التي تركها وراءه، وباع بعض المناصب التي كان الكردنال يتولاها، وأعطى ما حصل عليه إلى سيزاري، فبادر هذا بتجييش جيش جديد قوامة ستة آلاف جندي. وأخذ الإسكندر في ذلك الوقت يتفاوض وحده مع المتآمرين، وبذل لهم وعوداً سخية، ورد الكثيرين منهم إلى طاعته، فلم ينته شهر أكتوبر حتى عقدوا جميعهم الصلح مع سيزاري. وكان هذا عملاُ دبلوماسياً رائعاً مدهشاً؛ وقبل سيزاري معذرتهم بصمت المتشكك المرتاب، ولم يفته أن يلاحظ أن آل أرسيني لا يزالون يستولون على حصون دوقية أربينو وإن كان جويدوبلدو قد فر منها مرة أخرى.

وفي شهر ديسمبر حاصر قواد سيزاري تنفيذاً لأمره بلدة سنجاليا القائمة على البحر الأدرياوي، وسرعان ما استسلمت المدينة، ولكن قائد الحصن أبى أن يسلمه إلاّ لسيزاري نفسه، فأرسل رسولاّ إلى الدوق في سيسينا، فاستحث الخطى بإزاء الساحل ومن ورائه ثمانمائة من أشد جنوده إخلاصاً له.

فلما بلغ سنجاليا حيا زعماء المؤامرة الأربعة - فيتيدلدسو فيتلي، وباولو، وفرانتشيسكو أرسيني، وألفرتو - تحية طيبة في الظاهر، ودعاهم إلى مؤتمر يعقدونها معه في قصر الحاكم؛ فما جاءوا أمر بالقبض عليهم، وأمر في تلك الليلة نفسها (31 ديسمبر سنة 1502) بخنق فيتلي وألفرتو. أما باولو وفرانتشيسكو أرسيني فقد أودعا السجن حتى يفاوض سيزاري أباه في شأنهما؛ ويبدو أن آراء الإسكندر كانت تتفق مع آراء ولده؛ وفي اليوم الثامن عشر من يناير أعدم الرجلان.

وازدهى سيزاري بضربته الحاذقة في سنجاليا؛ فقد كان يظن أن من حقه على إيطاليا أن تشكره إذ أنجاها بهذه الوسيلة الطريفة من أربعة رجال لم يكتفوا بأن يكونوا إقطاعيين مغتصبين لأراضي الكنيسة، بل كانوا فوق ذلك مستبدين رجعيين ظالمين لرعاياهم الضعفاء المساكين. ولربما أحس بقليل من وخز الضمير لأنه اعتذر عن فعلته لمكيفلي بقوله: "إن من الخير أن نقتنص الذين أثبتوا براعتهم في اقتناص غيرهم"(72). ووافقه مكيفلي على هذا أتم الموافقة؛ وكان في ذلك الوقت يرى أن سيزاري أعظم الناس بسالة وحكمة في إيطاليا كلها. ويرى باولو جيوفيو paolo Giovio، المؤرخ والأسقف، في القضاء على المتآمرين الأربعة "حيلة من أظرف الحيل"(73). وأرادت إزبلا دست أن تضمن لنفسها النجاة فأرسلت تهنئ سيزاري على فعلته، كما أرسلت إليه مائة قناع يتسلى بها "بعد كفاحه وتعبه في هذه الحملة المجيدة"، وأثنى لويس الثاني عشر على هذه الضربة ووصفها بأنها "عملاً خليقاً بأيام روما المجيدة(74)".

وكان في وسع الإسكندر وقتئذ أن يعبر عن غضبه الشديد من المؤامرة التي دبرت ضد ولده، ومن المدن التي استردتها الكنيسة، فادعى أن لديه من الأدلة ما يثبت أن الكردنال أرسليني قد ائتمر مع أقاربه لاغتيال سيزاري(75)، ثم أمر باعتقال الكردنال وطائفة أخرى من المشتبه فيهم (3 يناير سنة 1503)، واستولى على قصره وصادر كل أملاكه. وقضى الكردنال نحبه في السجن في الثاني والعشرين من فبراير، ولعل موته كان بسبب اهتياج أعصابه وانهيار قواه، وإن كانت روما تقول إن البابا قد سمه.

وأشار الإسكندر على سيزاري أن يستأصل شأفة آل أرسيني بأجمعهم من روما وكمبانيا؛ لكن سيزاري لم يكن مثله شديد الرغبة في هذا العمل، ولعله هو أيضاً كان منهوك القوى؛ فأجل عودته إلى العاصمة بعض الوقت، ثم شرع على كره منه (76) في محاصرة حصن جيوليو أرسيني الحصين في تشيري Ceri (14 مارس من عام 1503). واستخدم في هذا الحصار - ولعله استخدم في غيره أيضاً - بعض الآلات الحربية التي اخترعها ليوناردو. ومن هذه الآلات برج متحرك يتسع لثلاثمائة رجل، ويمكن رفعه إلى أعلى أسوار العدو(77). واستسلم جويليو، ورافق سيزاري إلى الفاتيكان يطلب إليها الصلح؛ وارتضى الإسكندر أن يصطلح على شرط أن ينزل آل أرسيني عن جميع قلاعهم في الأملاك البابوية؛ وقبل جويليو هذا الشرط. وكانت بروجيا وفيمو قد قبلتا في هدوء حاكمين عليهما بعث بهما سيزاري. ولم تكن بولونيا قد استردت بعد، لكن فيرارا ارتضت مسرورة أن تكون لكريدسيا دوقة لها. وإذا استثنينا هاتين الإمارتين الكبيرتين - وهما اللتان شغلتا خلفاء الإسكندر - استطعنا أن نقول إن البابوية استردت أملاكها بتمامها، وبهذا وجد سيزاري بورجيا نفسه وهو في الثامنة والعشرين من عمره يحكم مملكة لا يضارعها من حيث اتساع رقعتها في شبه الجزيرة إلاّ مملكة نابلي؛ وأجمع الناس كلهم على أنه أقوى رجال إيطاليا وأعلاهم شأناً.

وظل بعدئذ وقتاً ما هادئاً هدوءاً غير معتاد في الفاتيكان. ولقد كنا نتوقع أن يرسل في ذلك الوقت في طلب زوجته، ولكنه لم يفعل. وكان قد تركها في فرنسا عند اسرتها، وكانت قد ولدت له طفلاً في أثناء غيابه في الحرب؛ وكان يكتب إليها ويرسل لها الهدايا أحياناً، ولكنه لم يرها بعد قط. وعاشت دوقة فالنتنوا عيشة متوسطة منعزلة في بورج Bourge أو في قصر لاموت في La Motte feuilly في الدوفينيه؛ يداعبها الأمل في أن يبعث في طلبها أو أن يأتي هو إليها.ولمّا أن نكب وتخلى عنه من حوله حاولت أن تذهب هي إليه، ولمّا مات علقت الستر السوداء على بيتها، وظلت تلبس ثياب الحزن عليه حتى توفيت. ولعله كان يبعث في طلبها فيما بعد لو أنه أتيحت له فترة من السلم دامت أكثر من بضعة أشهر، وأكثر من هذا احتمالاً أنه لم يكن ينظر إلى زواجه بها إلاّ على أنه صفقة سياسية لا أكثر، وأنه لم يكن يشعر نحوها بشيء من الحنان. ويبدو أنه لم يكن بفطرته حنوناً إلاّ بقدر معتدل، وأنه كان يحتفظ بهذا القدر للكريدسيا التي كان يحبها حباً هو كل ما يستطيع أن يحب به امرأة. وشاهد ذلك أنه وهو يسرع من أربينو إلى ميلان مع لويس الثاني عشر ليخادع بذلك أعداءه، خرج عن خط سيره ليزور أخته في فيرارا وكانت وقتئذ في أشد حالات المرض. ووقف عند فيرارا مرة أخرى وهو عائد من ميلان، واحتضنها بين ذراعيه، بينما كان الأطباء يحجمونها، وبقى معها حتى زال عنها الخطر(78). وجملة القول أن سيزاري لم يكن قد خلق للزواج؛ وكانت له عشيقاته، ولكن عشقه لم يدم لأيهن طويلاً؛ وسبب ذلك أن حرصه على السلطان كان يستنفذ كل جهوده، فلا يترك لأية امرأة مكاناً تنفذ منه إلى نفسه وتستولي على عواطفه.

ولمّا كان في روما كان يعيش معيشة العزلة، ويكاد يكون مختفياً عن الناس؛ وكان يقضي الليل في العمل وقلما كان يراه أحد بالنهار. ولكنه كان يشتغل بجد حتى في الوقت الذي يبدو أنه يستريح فيه من عناء الأعمال؛ وكان يفرض رقابة شديدة على عماله في الولايات البابوية، ويعاقب من يسيئون استخدام سلطتهم، وأمر بإعدام واحد منهم لقسوته واستغلاله نفوذه؛ وكان على الدوام يجد من الناس من يحتاجون إلى أن يعلمهم كيف يحكمون رومانيا أو يحافظون على النظام في روما. وكان الذين يعرفونه يقدرون ذكاءه، وقدرته على أن ينفذ مباشرة للب الموضوع الذي يعالجه، واغتنامه كل فرصة تتيحها له الظروف وإقدامه على العمل السريع الحاسم المثمر. وكان محبوباً من جنده، لأنهم كانوا يعجبون في السر بنظامه الذي ينجيهم من المهالك بقسوته: وكانوا يوافقون كل الموافقة على كل ما يلجأ إليه من الرشا، وأساليب المكر والخداع التي قلل بها من عدد أعدائه وأضعف بها عنادهم، وأنقص من عدد المعارك الحربية التي خاضها جنوده وعدد قتلاهم فيما خاضوه منها(79). وكان الدبلوماسيون يغصبون إذ يجدون أن هذا القائد الشاب السريع الحركة الذي لا يهاب الردى يفوقهم في القدرة على التفكير والمحاجة والدهاء، وأن في مقدوره إذا دعت الحاجة أن يكون مثلهم في الكياسة والفصاحة والفتنة.

وقد جعلته نزعته إلى السرية هدفاً سهلاً للهجائين في إيطاليا، وللشائعات الوقحة التي كان في وسع السفراء المعادين أو الأشراف الساقطين أن يخترعوها عنه أو ينشروها. وليس في استطاعتنا الآن أن نميز الحقيقة من الخيال في هذه التهم الفظيعة. ومن هذه الأقوال الواسعة الانتشار أنه كان من عادة الإسكندر وولده أن يعتقلا الأغنياء من رجال الكنيسة لتهم تذاع عنهم، ثم يطلقاهم إذا أدوا مبالغ كبيرة من المال فدية أو غرامة. فقد قيل مثلاً إن أسقف تشيوينا سجن في قلعة سانت أنجيلو بدعوى أنه ارتكب جريمة لم تذع حقيقتها، ثم أطلق سراحه بعد أن دفع للبابا عشرة آلاف دوقة(81).

وليس في وسعنا أن نقول أهذه عدالة أم لصوصية؛ ولكننا إنصافاً للإسكندر يجب ألاّ ننسى أنه كان من عادة المحاكم الكنسية والمدنية في تلك الأيام أن تحم في الجرائم بغرامات كبيرة تؤدى للمحكمة بدل السجن الذي يكلف الدولة نفقات باهظة. ويقول جوستنياني سفير البندقية وفيتوربو سوديرني سفير فلورنس إن اليهود كثيراً ما كانوا يعتقلون متهمين بالإلحاد، وإن الطريقة الوحيدة التي يستطيعون بها إثبات إيمانهم هي أداء مبالغ ضخمة للخزانة البابوية(82). وقد يكون هذا صحيحاً، ولكن روما اشتهرت في تلك الأيام بحسن معاملة اليهود، ولم يكن أي يهودي يعد من الملاحدة، أو يقدم لمحكمة التفتيش لأنه يهودي.

وتتهم كثير من الشائعات آل بورجيا بتسميم الكرادلة لتعجل بعودة ضياعهم إلى الكنيسة. وخيّل إلى الناس أن بعض هذه الحوادث ثابت صحيح - يؤيد صحته التواتر لا البراهين - ولذلك ظل المؤرخون البرتستنت بوجه عام يصدقونه حتى زمن يعقوب بركها ردت (1818-1897) الفطن الأريب(83)؛ وكان باستور Pastor المؤرخ الكاثوليكي يعتقد أن "من الأمور المرجحة كل الترجيع أن سيزاري سم ميشيل ليحصل بذلك على ما يريده من المال"(84). وقد بنى حكمه هذا على أن مساعد شماس في عهد يوليوس الثاني (وهو الشديد العداء للإسكندر) يدعى أكوينو دا كلوريدو Aquino da Colloredo أقر بعد أن عذب أنه سم الكردنال ميشيل بتحريض الإسكندر وسيزاري(85). وقد يعذر مؤرخ في القرن العشرين إذا شك في اعترافات تنتزع من صاحبها بالتعذيب؛ ولقد أثبت إحصائي مغامر أن نسبة الوفيات بين الكرادلة لم تكن في أيام الإسكندر أعلى منها في العهود السابقة له أو اللاحقة(86)؛ ولكن الذي لا شك فيه أن روما كانت في الثلاث السنين الأخيرة من حكمه ترى أن أشد الأخطار أن يكون الرجل كردنالاً وغنياً(87). وقد كتبت إزبلا دست إلى زوجها تحذره بأن يكون حريصاً كل الحرص فيما يقوله عن سيزاري لأنه " لا يتردد مطلقاً في أن يدبر المؤامرات للقضاء على ذوي قرباه"(88). والظاهر أنها صدقت القصة التي تروى عن قتله دوق غنديا. وكان الثرثارون من أهل روما يتحدثون عن سم بطيء المفعول يسمونه الكنتريلا Cantarela أهم عناصره الزرنيخ، ويقولون إنه إذا وضع مسحوقه في الطعام أو الشراب - وحتى في نبيذ العشاء الرباني نفسه - فإنه يحدث موتاً بطيئاً يصعب تبع سببه. غير أن المؤرخين في هذه الأيام يرفضون بوجه عام ما يروى من القصص عن الموت البطيء في أيام النهضة ويرون أنها من خلق الخيال، وإن كانوا يعتقدون أن آل بورجيا في حالة أو حالتين قد سموا بعض الكرادلة الأغنياء"(89) . وقد تؤدى البحوث في مستقبل الأيام إلى تكذيب هذه الحالات بأجمعها.

ورويت قصص شر من هذه عن سيزاري. منها واحدة تؤكد لنا أنه أراد مرة أن يسلي الإسكندر ولكريدسيا فأطلق في فناء عدداً من المسجونين حكم عليهم بالإعدام، ثم وقف هو في مكان أمين وأظهر حذقه في الرماية بإطلاق سهام قاتلة عليهم واحداً بعد واحد بينما كانوا هم يبحثون عن عاصم لهم من سهامه(90). والمصدر الوحيد لهذه القصة هو كابيلو مندوب البندقية: ونحن في هذه الحال بين اثنتين، فإما أن السياسي كاذب في قوله وإما أن سيزاري قد أتى هذا الأمر حقاً، ولكن أول الفرضين أرجح في رأينا من ثانيهما.

أما أبعد فضائع آل بورجيا عن العقل فهي التي تظهر في يوميات بيركهارد Burchard رئيس التشريفات في عهد الإسكندر، وهي يوميات يوثق بها عادة. ففيها نجد تحت تاريخ 10 أكتوبر من عام 1501 وصفاً لعشاء في جناح سيزاري يورجيا في قصر الفاتيكان، أخذت فيه العاهرات العاريات يجرين وراء عدد من الكستناءات نثرت على الأرض والإسكندر ولكريدسيا ينظران إليهن(91). وتظهر هذه القصة أيضاً في أقوال المؤرخ البروجي ماتارتسو الذي ينقلها عن بركهارد (لأن اليوميات كانت لا تزال سراً مكنوناً) بل أخذها عن الشائعات التي انتشرت من روما في أنحاء إيطاليا ويقول: "إن هذا كان معروفاً في طول البلاد وعرضها"(92). فإذا كان هذا صحيحاً فإن من العجيب ألاّ يرد له ذكر في تقرير سفير فيرارا، وقد كان وقتئذ في روما، وعهد إليه فيما بعد أن يفحص عن اخلاق لكيدسيا، وهل تليق بأن تتزوج ألفنسوا ابن الدوق إركولي.بل إن هذا السفير قد أثنى عليها أعظم الثناء في تقريره هذا (كما نرى ذلك بعد)؛ فإمّا أن يكون الإسكندر قد رشاه وإمّا أنه لم يلتفت إلى الشائعات التي لا يقوم عليها الدليل. ولكن ترى كيف وصلت هذه القصة إلى يوميات بركهارد؟ فهو لا يدّعي أنه كان من الحاضرين في هذا المجلس، ومن أبعد الأشياء أن يكون من حاضريه لأنه كان من ذوي الأخلاق القويمة.وهو لا يضمن مذكراته عادة إلاّ ما يشهده من الحوادث، أو ما ينقل إليه مؤيداً بالدليل. ترى هل أقحمت القصة إقحاماً في المخطوط؟ إن كل ما بقى من المخطوط الأصلي لا يزيد على ست وعشرين صفحة تبحث كلها في أحوال الفترة التي أعقبت مرض الإسكندر الأخير. أما ما بقى من اليوميات فإنه لا توجد منه إل نسخ منقولة عنها، وكل هذه النسخ تذكر القصة، ولربما كانت قد دسها فيها كاتب معاد ظن أنه يستطيع تفكهة التاريخ الجاف بقصة من القصص الطريفة، أو لعل بركهارد قد أجاز مرة للشائعات أن تتسرب إلى مذكراته، أو لعل النسخة الأصلية قد نبهت إلى أن هذه القصة من الشائعات لا أكثر، وأكبر الظن أن هذه القصة تعتمد على مأدبة أقيمت فعلاً، وأن الزخرف المكفهر قد أضافه إليها الحقد أو الخيال. وقد كتب فرنتشيسكو بيي سفير فلورنس، وهو الذي كان على الدوام من أعداء آل بورجيا لأن فلورنس كانت في جميع الأوقات على خلاف معهم، كتب في غداة هذا الحادث يقول: إن البابا ظل يسير إلى ساعة متأخرة من الليلة السابقة في جناح سيزاري، وأنه كان في هذا الجناح "رقص وضحك"(93). ولم يرد في قوله هذا ذكر للعاهرات. وليس من المعقول أن يخاطر البابا، الذي كان يبذل غاية الجهد ليزوج ابنته من وارث دوقية فيرارا، بإفساد سعيه في هذا الزواج وفي عقد حلف دبلوماسي جليل الخطر بالنسبة له، وذلك بأن يسمح للكريدسيا بأن تشهد مثل هذا المنظر(94).

ولننتقل الآن إلى لكريدسيا نفسها.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامس: لكريدسيا 1480-1519

كان الإسكندر يعجب بولده، ولعله كان يخافه، ولكنه كان يحب ابنته بكل ما في الطبيعة البشرية من عاطفة قوية. ويبدو أنه كان يجد في جمالها المتوسط، وفي شعرها الذهبي الطويل (الذي بلغ من الثقل حداً يسبب لها الصداع)، وفي قوامها الخفيف المتزن حين ترقص(95)، وفي إخلاصها البنوي له في كل ما عاناه من تحقير وحرمان، نقول يبدو كأنه كان يجد في هذا كله متعة أكثر مما وجده يوماً من الأيام في مفاتن فانتسا أو جويليا. ولم تكن ذات جمال بارع غير معتاد، ولكنها وصفت في أيام شبابها بأنها حلوة الوجه docle ciera؛ وقد احتفظت بهذا "الوجه الحلو" إلى آخر حياتها التقية بين ما كان يحيط بها من فظاظة وانحلال، وفي خلال ما مر بها من مرارة الطلاق، وارتياعها وهي ترى زوجها يقتل، وتقول إنها تكاد ترى مقتلة بعينها. ويدل على احتفاظها به أن ذلك من الأقوال التي تتردد على ألسنة الشعراء في فيرارا. وتتفق الصورة التي رسمها لها بنتو رتشيو والمحفوظة في جناح آل يورجيا في الفاتيكان مع وصفها لهذا في أيام شبابها.

وذهبت لكريدسيا إلى دير النساء لتتلقى فيه تعليمها كما كانت تذهب إليه كل من تستطع أداء نفقات هذا التعليم من البنات الإيطاليات، وانتقلت في سن غير معروفة من بيت أمها فانتسا إلى بيت دنا أدريانا ميلا، وهي عمة للإسكندر. وفي هذا البيت عقدت صداقة وثيقة دامت طول حياتها مع جويليا فرنيزي Giulia Farnese كنة أدريانا، وعشيقة والدها المزعومة. وقد وهبت لكريدسيا كل ما يستطيع الحظ الطيب البنوة الشرعية. ولهذا نشأت في جو من الأنوثة المرحة المبتهجة، وكان الإسكندر سعيداً لسعادتها. وانتهى هذا الشباب الذي لم يتسرب إليه الهم بالزواج؛ وأكبر الظن أنها لم يسئها قط أن أباها هو الذي اختار لها زوجاً؛ فقد كان هذا هو العادة المألوفة في زواج البنات الإيطاليات؛ ولم يكن لينشأ عن هذا الاختيار من الشقاء أكثر مما ينشأ عن اعتمادنا نحن على الحكمة الكامنة في الاختبار القائم على الحب الغرامي. وكان الإسكندر يرى، كما يرى أي حاكم سواه، أن زواج أبنائه يجب أن يكون سبيلاً لضمان مصالح الدولة، وما من شك في أن هذا أيضاً كان يبدو أمراً معقولاً لا غبار عليه في عيني لكريدسيا. وكانتنابلي وقتئذ عدوة للبابوية، وميلان عدوة لنابلي؛ ولهذا فإن زواجها الأول قيدها وهي في سن الثالثة عشرة بجيوفني اسفوردسا سيد بيزارو، وابن أخي لدفيكو، ونائب حاكمميلان (1493)؛ وكان وقتئذ في سن السادسة والعشرين، وأخذ الإسكندر يشبع حبه الأبوي بتهيئة بيت للزوجين في قصر الكردنال دسينو القريب من الفاتيكان.

ولكن أسفوردسا كان مضطراً إلى الإقامة في بيزارو بعض الوقت، ومن أجل ذلك اصطحب زوجته الشابة معه. وقد ذبلت نضرتها في هذه الشواطئ النائية، بعيدة عن أبيها المغرم بها، ومباهج روما ومتعتها، ولم تنقض على انتقالها إلاّ بضعة أشهر حتى عادت إلى العاصمة. ولحق بها جيوفني فيها فيما بعد، ولكنه ظل بعد عيد الفصح من عام 1497 في بيزارو وبقيت هي في روما. وفي الرابع عشر من شهر يونية طلب إليه الإسكندر أن يفصم عرى الزوجية بحجة أن الزوج عنين - وهي الحجة الوحيدة التي يرى القانون الكنسي أنها تجيز فصم عرى الزواج؛ وآوت لكريدسيا بعدئذ إلى دير النساء لتدفن فيها حزنها أو عارها، أو لتقطع ألسنة الوشاة(96). ثم قتل أخوها دوق غنديا بعد بضعة أيام من ذلك الوقت، وتهامس الفكهون المتظرفون من أهل روما أن مقتله كان بأيدي عملاء اسفوردسا لأنه حاول إغواء لكريدسيا(97). وأنكر زوجها أنه عنين، وأشار إلى أن الإسكندر كان يضاجع ابنته. وعين البابا لجنة، يرأسها اثنان من الكرادلة، لتنظر هل بلغ الزواج غايته، وأقسمت لكريدسيا أنه لم يبلغها، وأكدت اللجنة للإسكندر أنها لا تزال عذراء. وعرض لدفيكو على جيوفني أن يثبت قدرته الجنسية أما لجنة تضم المندوب البابوي في ميلان، ولكن جيوفني رفض هذا العرض، ولسنا نجد مأخذاً عليه في رفضه. بيد أنه وقّع وثيقة رسمية يعترف فيها بأن الزواج لم يبلغ غايته، ورد إلى لكريدسيا بائنتها البالغ قدرها 31.000 دوقة، وفصمت عروة الزوجية في 20 ديسمبر من عام 1497. وولدت لكريدسيا لزوجيها التاليين أبناء وإن لم تلد أبناء لجيوفني؛ ولكن زوجة اسفوردسا الثالثة ولدت في عام 1505 ولداً يظن أنه ولده(98).

وكان يظن من قبل أن الإسكندر إنما فصم عقدة الزواج، ليستطيع عقد زواج آخر أكثر فائدة سياسية من الزواج الأول. ولكنا لا نجد دليلاً يؤيد هذا الادعاء؛ وأكثر من هذا احتمالاً أن لكريدسيا قد أفصحت عن الحقيقة المحزنة. ولم يشأ الإسكندر أن يبقيها بلا زوج؛ فأخذ يسعى إلى التقرب من نابلي ألد أعداء البابوية؛ وعرض على الملك فدريجو أن يزوج لكريدسيا من دن ألفنسو دوق بستشيجلي Besceglie، وهو ابن نغل لألفنسو الثاني ولي عهد فدريجو. ووافق الملك على هذا العرض، ووقع عقد الخطبة الرسمي (في يونية سنة 1498). وكان وكيل فدريجو في هذا الزواج هو الكردنال اسفوردسا، عم جيوفني مطلق لكريدسيا. وشجع لدفيكو صاحب ميلان فيدريجو على قبول هذه الخطة(99)، ويبدو أن عم جيوفني لم يسئه قط فصم عرى الزوجية الأولى، واحتفل بالزفاف في الفاتيكان في شهر أغسطس التالي.

ويسرت لكريدسيا الأمور بأن أحبت زوجها؛ ويسرها فوق ذلك أن تكون له بمنزلة الأم، فقد كانت هي وقتئذ في الثامنة عشرة من عمرها وهو بعد طفل في السابعة عشرة. ولكن كان من سوء حظهما أن يكونا شخصين ذوي شأن في العالم، وأن يكون للسياسة مكان في فراشهما الزوجي. ذلك أن نابلي رفضت أن تقدم زوجة لسيزاري بورجيا فذهب إلى فرنسا يطلب فيها هذه الزوجة (أكتوبر سنة 1498). وتحالف الإسكندر مع لويس الثاني عشر عدو نابلي اللدود؛ وساء بستشيجلي الشاب أن يجد روما تتفاوض مع وكلاء ملك فرنسا، فما كان منه إلاّ أن فر مسرعاً إلى نابلي. وحطم هذا الفرار قلب لكريدسيا؛ وأراد الإسكندر أن يسترضيها، ويجبر قلبها المكلوم فعينها نائبة عنه في اسبليتو (أغسطس عام 1499)؛ وعاد ألفنسو فانضم إليها هناك، وزارهما الإسكندر في نيبي، وطمأن الشاب، وعاد بهما إلى روما؛ وفيها وضعت لكريدسيا ولداً سمى ردريجو باسم أبيها.

ولكن سعادتهما كانت في هذه المرة أيضاً قصيرة الأجل؛ ذلك أن ألفنسو قد امتلأ بغضاً لسيزاري يورجيا،وربما كان سبب ذلك البغض أن ألفنسو نفسه كان متوتر الأعصاب حاد المزاج، أو لعل سببه أن سيزاري يورجيا كان في نظره رمزاً للحلف الفرنسي مع البابوية، وبادله سيزاري بغضاً ببغض وزاد عليه الاحتقار. وحدث في مساء اليوم الخامس عشر من يولية سنة 1500 أن هجم على ألفنسو جماعة من السفاحين المأجورين أثناء خروجه من كنيسة القديس بطرس. وأصيب ألفنسو بعدة جراح، ولكنه استطاع أن يصل إلى بيت كردنال سانتا ماريا في برتيكو. واستدعيت لكريدسيا له فلمّا رأته أغمى عليها، ولكنها سرعان ما أفاقت، وأخذت هي وأخته سانتشيا تعنى به أعظم عناية. وأرسل الإسكندر حرساً مؤلفاً من خمسة عشر رجلاً ليدفع عنه أذى آخر، ونقه ألنسو على مهل؛ وأبصر يوماً ما سيزاري يسير في حديقة قريبة منه، ولم يكن يخالجه أدنى شك في أن هذا هو الرجل الذي استأجر من كانوا يريدون قتله، فأمسك بقوس وسهم وأطلق السهم يريد أن يقتله به.

وأخطأ السهم الهدف خطأً يسيراً، ولم يكن سيزاري بالرجل الذي يتيح لعدوه فرصة أخرى، فاستدعى حراسه، وبعث بهم إلى حجرة أفنسو، ويبدو أنه أمرهم بقتله؛ فوضعوا وسادة على وجهه ومازالوا يضغطون بها عليه حتى مات مختنقاً، وبما كان ذلك على مرأى من زوجته وأخته(10). وصدق الإسكندر رواية سيزاري للقصة، وأمر بدفن ألفنسو في غير احتفال وبذل كل ما في وسعه لمواساة لكريدسيا التي كان خطبها أفدح من أن يواسى. وانزوت لكريدسيا فيبيبي، وهناك كتبت رسائلها المسماة أتعس الأميرات وأمرت بإقامة الصلوات تطلب بها الرحمة لألفنسو. ومن الغريب أن سيزاري زارها في بيبي (أول أكتوبر سنة 1499)؛ ولمّا يمض على موت ألفنسو أكثر من شهرين ونصف شهر، وأنها استضافته طول الليلة. ذلك أن لكريدسيا كانت صبوراً لينة الجانب؛ ويبدو أنها أخذت مقتل زوجها على أنه رد فعل طبيعي من أخيها على محاولة قتله. ويلوح أنها لم تكن تعتقد أن سيزاري هو الذي استأجر السفاحين الذين حاولوا اغتيال ألفنسوا ولم يفلحوا في محاولتهم؛ وإن كان يخيل إلينا أن هذا هو أرجح التفاسير لهذه المأساة التي هي إحدى المآسي الغامضة في عصر النهضة؛ ولقد أظهرت في المدة الباقية من حياتها كثيراً من الشواهد على أن حبها لأخيها لم تمحه جميع هذه المحن. ولعل حبه لها وحب أبيها، اللذين يبلغان من القوة كل ما تستطيع العاطفة الإنسانية الجائشة، هو الذي جعل الفكهين من أهل روما، أو بالأحرى من أهل نابلي(101) المعادية، يتهمونها على الدوام بمضاجعة أبيها وأخيها، حتى لقد وصفها أحد الكتّاب ذلك الوصف الجامع الموجز بأنها: "ابنة البابا، وزوجته، وزوجة ابنه"(102). وصبرت على هذا أيضاً وهي هادئة مستسلمة؛ ولقد أجمع المطلعون الباحثون في هذه الفترة أن هذه كلها اتهامات قاسية لا نصيب لها من الصحة(103)؛ ولكن هذه المطاعن ظلت تدنس اسمها عدة قرون .

ولسنا نرجح أن سيزاري قتل ألفنسو ليزوجها من بعده زواجاً أكثر نفعاً من الوجهة السياسية. فقد عرضت بعد فترة الحزن على كبير من أسرة أرسيني، ثم على آخر من أسرة كولنا- وهما زواجان لا يبلغان من الفائدة السياسية مبلغ زواجها من ابن وارث عرش نابلي. ولسنا نسمع بأن الإسكندر عرض على إركولي دوق فيرارا أن يزوجها من ابنه ألفنسو(104)، إلاّ في نوفمبر من عام 1500، كما أننا لم نسمع إلاّ في سبتمبر من عام 1501 أنها خطبت له. ويلوح أن الإسكندر كان يأمل أن فيرارا التي يحكمها زوج ابنته، ومنتوا التي ارتبطت مع فيرارا بالزواج من زمن بعيد ستكونان في واقع الأمر ولايتين بابويتين؛ وأيد سيزاري هذه الخطة لأنها تؤمن له فتوحه أكثر من ذي قبل، وتضع في يده قاعدة طيبة يهجم منها على بولونيا. وتردد إركولي وألفنسو للأسباب التي سبق تفصيلها؛ وكان ألفنسو قد عرضت عليه يد كونتة أنجوليم Angouleme ولكن الإسكندر أضاف إلى عرضه وعداً ببائنة ضخمة، وبما يكاد يكون إلغاءً تاماً للجزية التي كانت فيرارا تعطيها للبابوية. على أن أحداً رغم هذا كله لا يصدق أن أسرة من أقدم الأسر الحاكمة في أوربا، وأعظمها ثراء كان يقبل لكريدسيا زوجة لدوقها المرتقب لو أنها كانت تصدق القصص القذرة التي كان يذيعها سراً الكتّاب النمامون في روما. وإذ لم يكن إركولي أو ألفنسو قد رأيا لكريدسيا حتى ذلك الحين، فإنهما جريا على الخطة المألوفة في مثل هذا الزواج السياسي، وطلبا إلى سفير فيرارا في روما أن يبعث لهما بتقرير عن شكلها وأخلاقها، وميزاتها. وجاءهم الرد الآتي:

سيدي العظيم: ذهبت اليوم مع دن جيرارد سراتشيني Gerardo Saraceni في زيارة إلى السيدة العظيمة لكريدسيا لنبلغها احترامنا بوصفنا نائبين عن فخامتكم وعن جلالة دن ألفنسو. وتحدثنا إليها طويلاً في مختلف الشئون. وخرجتا من حديثنا معها على أنها غاية في الذكاء والظرف، وأنها سيدة غاية في الرشاقة. والنتيجة التي وصلنا إليها أنك يا صاحب الفخامة ودن ألفنسو العظيم ستسرون منها غاية السرور. فهي فضلاً عن رشاقتها الفائقة في كل شيء، متواضعة، ودودة، مؤدبة؛ وهي إلى هذا كله مسيحية مؤمنة تخاف الله. وستذهب غداً للاعتراف، وستتناول العشاء الرباني في أسبوع عيد الميلاد. وهي في منتهى الجمال، ولكن سحر أدبها وظرفها ليدهشنا أكثر من جمالها؛ وجملة القول أن أخلاقها تنفي عنها كل مظنة "السوء". بل أننا على العكس منن هذا لا نجد فيها إلاّ كل ما هو خليق بالثناء... روما في 23 ديسمبر سنة 1501. خادمكم

جوانس لوكاس Joannes Lucas، (105)

واقتنع صاحبا الفخامة والجلالة من آل استنسي وبعثا بطائقة فخمة من الفرسان تصحب العروس من روما إلى فيرارا. وأعد سيزاري بورجيا من عنده مائتي فارس لهذا الغرض عينه، كما أعد طائفة من الموسيقيين والمهرجين لتسليتها في رحلتها الشاقة. ودل الإسكندر على افتخاره وسعادته بأن أمدها بحاشية من 180 شخصاً تضم خمسة أساقفة. وحمل جهازها على عربات صنعت لهذه الرحلة خاصة، وعلى مائة وخمسين بغلاً؛ وكان من هذا الجهاز حلة تبلغ قيمتها 150.000 دوقة (187500؟ دولار)، وقبعة قيمها عشرة آلاف دوقة، و 200 صدرة كلفت كل واحدة منها مائة دوقة(106). وبدأت لكريدسيا سفرها في اليوم السادس من يناير عام 1502 بعد أن استأذنت سراً من والدتها فائندسا، وعبرت إيطاليا للانضمام إلى طيبها، وأخذ الإسكندر بعد أن ودعها ينتقل في الموكب من مكان إلى مكان، ليلقي عليها نظرة أخرى وهي ممتطية صهوة جوادها الأسباني الصغير المكسو كله بالجلد والذهب، وظل يرقبها حتى اختفت عن الأنظار هي وحاشيتها التي تضم ألف رجل وامرأة، ولعله كان يظن أنه لن يراها مرة أخرى.

وأكبر الظن أن روما لم تشهد قط من قبل مثل هذا الموكب يخرج منها، كما أن فيرارا لم تشهد قط موكباً مثله يدخلها. واستقبل لكريدسيا بعد رحلة دامت سبعة وعشرين يوماً، الدوق إركولي ودن ألفنسو على رأس موكب كبير من الأعيان، والأساتذة، وخمسة وسبعين من الرماة حملة الأقواس، وثمانين من النافخين في الأبواق والمزامير، وأربع عشرة عربة مستوية السطح تحمل سيدات من بنات الأسر الكريمة في ثياب فخمة. ولمّا بلغ الموكب الكنيسة الكبرى نزل من أبراجها رجلان ممن يمشون على الحبال، وقدّما التحية لكريدسيا. ولمّا بلغ الموكب قصر الدوق، أطلق سراح جميع المسجونين؛ وابتهج الشعب بجمال دوقته المقبلة وبسماتها، وسعد ألفنسو بأن كانت له هذه الزوج العظيمة الفاتنة(107).


الفصل السادس: انهيار سلطان آل بورجيا

يبدو أن الإسكندر قضى سني حياته الأخيرة سعيداً موفقاً. فقد تزوجت ابنته في أسرة من الأدواق، وكانت فيرارا كلها تجلّها وتعظمها؛ كذلك أنجز ولده ما عهده إليه بوصفه قائداً وحاكماً؛ وكانت الولايات البابوية مزدهرة ذات حكومة ممتازة. ويصف سفير البندقية البابا في تلك السنين بأنه مرح نشيط، يبدو أنه مرتاح الضمير "لا ينغّص عليه حياته شيء". وقد بلغ في أول يناير من عام 1501 سن السبعين ولكنه، كما يصفه السفير: "يخيل إلى من يراه أنه ينقص في السن يوماً عن يوم،"(108).

وحدث في الخامس من شهر أغسطس من عام 1503 أن كان الإسكندر، وسيزاري، وجماعة غريهما يتعشون في الهواء المطلق في بيت الكردنال أدريانو كرنتينو Adriano da Corneto الخلوي غير البعيد عن الفاتيكان، وبقوا جميعاً في حديقة المنزل حتى منتصف الليل لأن حرارة الجو داخل الدار لم تكن تطاق. فلمّا كان اليوم الحادي عشر أصيب الكردنال بحمى شديدة دامت ثلاثة أيام ثم زالت. وفي اليوم الثاني عشر أصيب البابا وولده بحمى وقيء واضطرا لملازمة الفراش. وتحدثت روما كعادتها عن السم وقال النمامون إن سيزاري أمر بدس السم للكردنال ليحصل على ماله، وإن الضيوف كلهم تقريباً أكلوا خطأ من الطعام المسموم. لكن المؤرخين الآن متفقون مع الأطباء الذين عالجوا البابا على أن الحمى هي عدوى من الملاريا سببها طول التعرض لهواء الليل في روما في منتصف الصيف(109). وقد أصيب بهذا المرض نفسه نصف آل بيت البابا، وكان كثير من هذه الإصابات مميتاً (110)، وقد مات بها في روما عدة مئات في ذلك الفصل عينه.

وظل الإسكندر ثلاثة عشر يوماً بين الحياة والموت، يستعيد صحته تارة حتى يستطيع عقد المجالس الدبلوماسية؛ بل حدث في الثالث عشر من أغسطس أن تسلى بلعب الورق. وحجمه الأطباء عدة مرار، ولعلهم قد أخذوا من دمه في إحداها أكثر مما يجب، بحيث استنزفوا قواه الطبيعية. وتوفي البابا في الثامن عشر من أغسطس؛ وما لبثت جثته أن أصبحت سوداء اللون كريهة الرائحة، تؤيد زعم من يشيعون بأنه مات مسموماً. ويقول بركهارد إن النجارين والمجدفين كانوا يتفكهون، ويجدفون وهم يجدون من الصعب عليهم أن يحشروا الجثة المنتفخة في التابوت الذي أعد لها(111). ويضيف الثرثارون أنهم رأوا شيطاناً صغيراً ساعة أن مات الإسكندر يحمل روحه إلى الجحيم(112).

وأبتهج أهل روما لموت البابا الأسباني؛ وانتشر الشغب في المدينة، وطرد "القطلانيون" منها أو قتلوا وهم في طريقهم إلى خارجها، ونهب الغوغاء بيوتهم، وحرق مائة بيت منها. ودخل المدينة جنود آل كولنا وأرسني المسلحون في الثاني والعشرين والثالث والعشرين من أغسطس غير عابئين باحتجاج مجمع الكرادلة. وفي ذلك يقول جوتشيارديني الوطني الفلورنسي:

"وتجمع أهل روما بسرعة لا يكاد يصدقها الإنسان، وتزاحموا حول جثة الباب في كنيسة القديس بطرس، ولم يكن في مقدورهم أن يشبعوا عيونهم من منظر ذلك الأفعوان الهالك الذي طمس على قلوب العالم كله، وأعمى بصائره بمطامعه التي تجاوزت كل حد، وبغدره البغيض، وما أرتكبه من أعمال القسوة الرهيبة التي لا يحصى لها عدد، وفجوره الوحشي، وعرضه للبيع كل ما هو مقدس وغير مقدس دون تفرقة بين هذا وذاك(113). ويتفق مكيفلي مع جوتشيارديني فيقول إن الإسكندر:

لم يؤثر عنه إلاّ الخداع، وإنه لم يكن يفكر في غير هذا طول حياته كلها، ولم يقسم قط إنسان أيماناً أقوى من أيمانه بإنجاز الوعود ثم ينقض هذه الأيمان فيما بعد، ولكنه مع هذا نجح في كل شيء لأنه كان ملماً كل الإلمام بهذا الجزء من العالم(114).

وقد بينت هذه الأحكام على فرضين أساسيين أولهما أن القصص التي كانت تروى في روما عن الإسكندر صادقة، وثانيهما أن الإسكندر لم يكن محقاً في سلوك السبل التي سلكها لاستعادة الولايات البابوية. ويشترك المؤرخون الكاثوليك في الطعن على أساليب الإسكندر وأخلاقه، وإن كانوا يدافعون عن حقه في استعادة سلطان البابوية الزمني. ومن ذلك ما يقول باستور الأمين:

"إن الناس بوجه عام يصفونها بأنه حيوان لا إنسان، ويلصقون به كل أنواع الجرائم الشنيعة. ولكن البحث النقدي الحديث يحكم عليه حكماً أعدل من هذا،وينفي عنه بعض ما يلصق به من أشنع التهم؛ غير أننا وإن كان م واجبنا أن نكون حذرين في قبول القصص التي يرويها معاصرو الإسكندر عنه دون بحث وتحقيق، وإن كان الفكهون الحاقدون من الرومان قد وجدوا متعة لهم في أكل لحمه ميتاً دون رحمة، فوصفوا حياته في مطاعنهم الشعبية ونكاتهم الشعرية أوصافاً قذرة لا يصدقها إنسان، نقول إنه وإن كان من واجبنا أن نكون حذرين في قبول هذا كله فإن ما ثبت عليه من هذه التهم ليضطرنا إلى رفض ما يبذل في هذا الأيام من محاولات ترمي إلى تبرئته، لأن في هذه المحاولات عبثاً بالحقيقة لا يليق... ويستحيل علينا من وجهة النظر الكاثوليكية أن نتجاوز الحد اللائق في لوم الإسكندر وتعنيفه.

وكان المؤرخون البروتستنت كراماً في حكمهم إلى الإسكندر، فاصطنعوا معه اللين في بعض الأحيان. فقد كان وليم رسكو William Roscoe من أوائل الذين قالوا كلمة طيبة عن البابا وذلك في كتابه الشهير حياة ليو العاشر وبابوية (1827):

"مهما تكن جرائمه، فإن الذي لا شك فيه إنها قد بولغ فيها كثيراً، فليس ثمة من ينكر أنه قد صرف جهوده في رفع شأن أسرته، وأنه استخدم السلطة التي أسبغها عليه منصبه في فرض سيطرته الدائمة على إيطاليا في شخص ابنه، ولكن يبدو أننا نظلم الإسكندر إذا وصمناه بقسط خاص غير عادي من السفالة والإسفاف في الوقت الذي كان فيه أمراء أوربا كلهم تقريباً يحاولون تحقيق مطامعهم بوسائل لا تقل إجراماً عن وسائله. فينا كان لويس ملك فرنسا، وفرديناند ملك أسبانيا يتآمران للاستيلاء على مملكة نابلي واقتسامها بينهما، ويستخدمان في ذلك أساليب من الغدر لا يمكن أن نوفيها ما تستحقه من المقت واللعنات، فإن للإسكندر بلا ريب أن يظن نفسه محقاً في كبح جماح البارونات المشاكسين، الذين ظلوا أجيالاً طوالاً يمزقون أملاك الكنيسة بالحروب الداخلية،و في إخضاع صغار الأمراء في رومانيا، وهم الذين كانوا يعترفون له بحق السيادة عليهم، والذين حصل معظمهم على أملاكهم بوسائل لا نجد لها ما يبررها، وهي أبعد عن العدالة من الوسائل التي استخدمها هو ضدهم. أما التهم التي يعتقد بصدقها كثيرون من الناس، وما يعزى إليه من الصلة الإجرامية بينه وبين أخته... فليس من العسير أن نثبت بعدها عن الصواب. يضاف إلى هذا أن رذائل الإسكندر كان يصحبها، وإن لم يعوضها، كثير من الصفات الطيبة العظيمة التي يجب ألاّ نم بها صامتين في حكمنا على أخلاقه... وإن أشد الناس عداوة لها لا ينكرون أنه ذو عبقرية فذة، وذاكرة عجيبة، وأنه كان فصيح اللسان، يقظاً، بارعاً في تصريف جميع شئونه(116)".

وقد أوجز الأسقف كريتن Creighton أخلاق الإسكندر وأعماله بما يتفق بوجه عام مع حكم رسكو عليه، وكان أكثر رأفة به من باستور(117). وثمة حكم آخر متأخر عن حكم هؤلاء جميعاً وهو أرحم به منهم ونعني حكم العالم البروتستنتي رتشرد جارنت Richard Garnett في تاريخ كيمبردج الحديث:

"لقد كسبت أخلاق الإسكندر بلا ريب من بحوث المؤرخين المحدثين. وقد لكان من الطبيعي أن يظهر بمظهر الظلم والفجور رجل اتهم بهذه الجرائم الكثيرة، وكان بلا ريب مصدر الكثير من الفضائح. غير أ، هذا الوصف أو ذلك لا يليق به. لقد كان العامل الأساسي في أخلاقه كلها فطرته الغزيرة الفياضة. ويسميه سفير البندقية الرجل "الجسدي" وهو لا يقصد بهذا أن يعزو إليه أية نقيصة من النقائص الخلقية، بل يقصد أنه رجل حاد الطبع، عاجز عن السيطرة على عواطفه وانفعالاته النفسية. وكانت طبيعته هذه مبعث الحيرة للإيطاليين الهادئين غير دوي العواطف الجياشة من رجال الصنف الدبلوماسي الذي يكثرون بين الحكام ورجال السياسة؛ وقد أساءوا كثيراً إلى الإسكندر بعجزهم عن فهمه على حقيقته، مع أنه في واقع الأمر لم يكن أقل إنسانية من معظم أمراء زمانه بل كان يفوقهم كثيراً في هذا المجال. وكانت هذه الغريزة الجسدية العارمة مصدر كثير من الخير والشر فيه. ذلك أنها قد ساقته إلى شهوانية عارمة من نوع ما، وإن كان في نواح أخرى معتدلاً زاهداً، وسبب ذلك أنه لم تكن تقيده مبادئ أخلاقية قوية أو أفكار روحية مستمدة من الدين. أما في صورتها التي هي أدعى إلى الإجلال والتقدير، وهي حبه لأسرته فقد ساقته هذه النزعة إلى الاعتداء على جميع مبادئ العدالة، وإن لم يفعل حتى في هذه الناحية أكثر من قيامه بعمل ضروري محتوم لا يمكن أداؤه "بالماء المقدس" كما قال أحد عماله. لكن دماثة أخلاقه ومرحه قد أبعداه عن الاستبداد بالمعنى العادي لهذا اللفظ... فقد كان في العادة يعنى بمصالح شعبه من الناحية المادية، ولهذا يعد من خير الحكام في زمانه، وكان في حكمه يضارع خير حكام تلك الأيام من الناحية العملية. غير أن عدم تقيده في سياسته بالمبادئ الأخلاقية قد أفسد عليه ما كان يستطيع أن يدركه ببصيرته القوية النفاذة، ذلك أنه كانت تعوزه الحكمة العليا التي تمكنه من أن يدرك خصائص الفترة التي يعيش فيها ويتنبأ بمجريات أمورها، ولم يكن يعرف للمبدأ معنى"(118).

والذين لهم ما للإسكندر من إحساس مرهف بمفاتن النساء ورشاقتهن لا تطاوعهم نفوسهم على أن يقذفوه بالحجارة بسبب عشقه وهيامه بالنساء، ذلك أن ما يؤخذ عليه في هذه الناحية قبل أن يرتقي عرش البابوية لم يكن فيه من الفضائح أكثر مما في مغامرات إينياس سلفيوس Aeneas Sylius المحب إلى المؤرخين، أو يوليوس الثاني الذي أكرمته الأيام فغفرت له آثامه. ولم يسجل التاريخ أن هذين البابوين قد عينا بعشيقاتهما وأبنائهما كما عنى الإسكندر بعشيقاته وأبنائه. والحق أن الجو الذي كان يحيط بالإسكندر كان فيه من خصائص الأسرة والمنزل ما كان يجعله رجلاً خليقاً بالاحترام إلى حد ما، لو أن قوانين الكنيسة وعادات إيطاليا في عصر النهضة، وألمانيا وإنجلترا في زمن الإصلاح الديني، قد أجازت زواج رجال الدين. ذلك أن خطاياه لم تكن خطايا ارتكبها ضد الطبيعة البشرية، بل كانت ضد القواعد التي تلزم رجال الدين بأن يظلوا عزاباً، وهي القواعد التي رفضها نصف العالم المسيحي بعد قليل من ذلك الوقت. وليس في مقدورنا أن نقول إن صلته بجويليا فرنيزي كانت صلة جسدية؛ ومبلغ علمنا أن فائندسا، ولكريدسيا، وزوج جويليا لم يعترضوا قط على هذه الصلة؛ ولعلها لم تكن أكثر من المتعة البسيطة التي يجدها الرجل السوي فيما تستمتع به امرأ ة جميلة من جاذبين ومرح وحيوية.

ومن واجبنا حين نحكم على أعمال الإسكندر السياسية أن نفرق بين غاياته ووسائله. فأما غاياته فقد كانت كلها غايات مشروعة- هي استعادة "ميراث الرسول بطرس" (وأهم ما فيه لا تيوم القديمة) من البارونات الإقطاعيين أصحاب النظام الفاسد المضطرب،وأن يسترد من الطغاة المغتصبين الولايات التي هي من أملاك الكنيسة من أقدم الأزمنة. وأما الوسائل التي استعان بها الإسكندر وسيزاري على تحقيق هذه الغايات فقد كانت هي بعينها التي استعانت بها جميع الدول الأخرى في ذلك الوقت وذلك المكان - الحرب، والدبلوماسية، والخداع، والغدر، وخرق المعاهدات، والتخلي عن الحلفاء. لقد كان ترك الإسكندر الحلف المقدس، وشراؤه الجنود الفرنسيين والمعونة الفرنسية بتسليم ميلان لفرنسا، من الجرائم الكبرى في حق إيطاليا؛ وأن هذه الوسائل لتشمئز منها نفوسنا إذا استخدمها البابا تعهد أن يحافظ على مبادئ المسيح. وأياً كان الخطر الذي تتعرض له الكنيسة في أن تصبح خاضعة لسلطان حكومة مسيطرة عليها - كما خضعت لفرنسا أيام وجودها في افنيون - إذا ما فقدت أملاكها، فقد كان أفضل لها أن تضحي بسلطتها الزمنية كلها، وأن تعود فقيرة كما كان صيادو الجليل، من أن تلجأ إلى الأساليب الدنيوية لتحقيق أغراضها السياسية. ذلك أنها حين لجأت إلى هذه الوسائل ووفرت لها ما يلزمها من المال قد كسبت دولة وخسرت ثلث العالم المسيحي.

ولنعد إلى سيزاري بورجيا فنقول إنه بعد أن شفى شفاءً بطيئاً من المرض الذي قضى على حياة البابا، وجد نفسه محوطاً بما لا يقل عن عشرة أخطار لم يكن يتوقعها. ومن ذا الذي كان يتنبأ بأنه هو وأباه سيعجزان كلاهما عن العمل في وقت واحد. فبينا كان الأطباء يحمونه استرد آل كولنا المخلوعون من رومانيا، تشجعهم البندقية يطالبون باستعادة إماراتهم؛ وكان غوغاء روما الذين أفلت الآن زمامهم بعد أن مات الإسكندر يتحفزون لنهب الفاتيكان في أية لحظة من اللحظات. وينهبون الأموال التي يعتمد عليها سيزاري في أداء رواتب جنده. فلم ير سيزاري بداً من أن يرسل عدداً من الرجال المسلحين إلى الفاتيكان؛ وأرغم هؤلاء الكردنال كسانوفا Cassanuova بقوة السيف على أن يسلمهم ما في الخزانة من الأموال؛ وهكذا فعل سيزاري ما فعله يوليوس قيصر قبل خمسة عشر قرناً من ذلك الوقت. فقد جاء إليه الجند بمائة ألف دوقة ذهباً، كما جاءوا إليه بصحاف وجواهر قيمتها ثلاثمائة ألف دوقة؛ وأرسل في الوقت عينه سفناً وجنوداً ليمنع بها الكردنال جوليانو دلا روفيري أقوى أعدائه من الوصول إلى روما؛ وكان يحس بأنه إن لم يستطع إقناع المجمع المقدس بانتخاب بابا من أنصاره فقد ضاعت كل آماله.

وأصر الكرادلة على أن يجلو جنود سيزاري وآل أرسيني وكولنا عن روما حتى يستطيعون أن يختاروا البابا الجديد في جو خال من الإرهاب. ووافق الأطراف الثلاثة على هذا المطلب، فانسحب سيزاري ورجاله إلى تشفيتا كستلانا Civita Castellana، في الوقت الذي دخل فيه الكردنال جوليانو روما، وتزعم في مجمع الكرادلة القوى المعادية لآل بورجيا. وفي الثاني والعشرين من سبتمبر عام 1503 اختارت الأحزاب المتنافسة. في مجمع الكردنال فرانتشيسكو بكولوميني Francesco Piccolomini بابا مرضاة لجميع الأطراف المتنازعة، وتسمى باسم بيوس الثالث،تكريماً لعمه إبنياس سلفيوس. وكان بيوس رجلاً غزير العلم طيب الخلق، وإن كان أيضاً أباً لأسرة كبيرة(119). وكان وقتئذ في الرابعة والستين من عمره مصاباً بخراج في ساقه. وكان من أصدقاء سيزاري ولذلك سمح له بالعودة إلى روما، ولكن بيوس مات في الثامن عشر من شهر أكتوبر.

وأيقن سيزاري أنه لا يستطيع وقتئذ أن يمنح انتخاب الكردنال دلا روفيري وهو بلا ريب أقدر رجل في المجمع المقدس. لهذا عقد سيزاري اجتماعاً خاصاً مع جوليانو وأزالا في ظاهر الأمر ما كان بينهما من عداء: فقد وعد جوليانو بتأييد الكرادلة الأسبان (الأوفياء لسيزاري)، ووعده جوليانو إذا اختير للبابوية بتثبيته دوقاً على رومانيا وقائداً للجيوش البابوية. وابتاع جوليانو أصوات بعض الكرادلة الآخرين برشا بسيطة(120). وبذلك اختير جوليانو دلا روفيري بابا (في 31 أكتوبر سنة 1503) واتخذ لنفسه اسم يوليوس الثاني كأنه يريد أن يكون نفسه قيصراً، وأن يفوق الإسكندر. وأجل تتويجه حتى اليوم السادس والعشرين من نوفمبر لأن المنجمين تنبأوا باقتران بعض الكواكب في ذلك اليوم اقتراناً يبشر بالخير. ولم تنتظر البندقية مطلع نجم سعيد، فقد استولت على ريميني، وحاصرت فائندسا، وكشفت عن نيتها في أن تستولي على كل ما تستطيع الاستيلاء عليه من رومانيا قبل أن تتمكن الكنيسة من إعادة تنظيم قواها. وأمر يوليوس سيزاري بالتوجه إلى إمولا وتجيش جيش جديد لحماية الولايات البابوية. ووافق سيزاري على هذا وسار إلى أستيا معتزماً أن يبحر منها إلى بيزا. لكن رسالة جاءت إليه من البابا وهو في بيزا تأمره بأن يسلم ما في يديه من حصون رومانيا. وارتكب سيزاري في تلك الساعة خطأً موبقاً يوحي إلينا بأن المرض قد أفسد عليه رأيه إذ رفض أن يطيع أمر البابا، وإن كان من واجبه أن يعلم حق العلم أنه أمام رجل لا يقل عنه في قوة إرادته إن لم يفقه. وأمره يوليوس أن يعود إلى روما؛ وأطاع سيزاري الأمر، فلمّا عاد قبض عليه في منزله. وجاءه جويدوبلدو الذي أعيد في ذلك الوقت إلى أربينو، ثم عيّن فوق ذلك قائداً للجيوش البابوية ليرى سليل آل بورجيا الساقط؛ وأذل سيزاري نفسه أمام الرجل الذي خلعه ونهب أملاكه، وأطلعه على كلمة السر في الحصون، وأعاد إليه بعض نفائس الكتب والستر المزركشة التي بقيت بعد نهب أربينو، وتوسل إليه أن يتوسط بينه وبين يوليوس. ورفضت تشيزينا Cesena وفورلي أن تطيعا كلمة السر حتى يطلق سراح سيزاري، ولكن يوليوس رفض أن يطلق سراحه إلاّ بعد أن يقنع قلاع رومانيا بالتسليم إلى البابا؛ وتوسلت لكريدسيا إلى زوجها أن يساعد أخاها؛ ولكن ألفنسوا (ولم يكن وقتئذ قد جلس على عرش الدوقية بل كان فقط ولي عهد لها) لم يفعل شيئاً. فما كان منها إلاّ أن لجأت إلى إزبلادست؛ ولم يكن حظها معها بأحسن من حظها مع أفنسو، ولعلها هي وألفنسو قد عرفا أن يوليوس لن يتحول عن رأيه، فلم ير سيزاري آخر الأمر بداً من أن يطلب إلى مؤيديه في رومانيا أن يسلموا الحصون؛ وأطلق البابا سراحه، ففر إلى نابلي (19 إبريل سنة 1504).

ورحب به فيها جندسالوده كردويا (جندسالو القرطبي) الذي أمنه على حياته أثناء مروره بها. وعادت إليه شجاعته أسرع من عودة بصيرته فنظم قوة صغيرة، وبينا كان يستعد إلى الإبحار بها إلى بيومبينو Piombino (بالقرب من لغورن Leghorn) إذ قبض عليه جندسالو بأمر فرديناند ملك إسبانيا؛ وكان يوليوس هو الذي دفع هذا "الملك الكاثوليكي" إلى العمل لأنه لم يشأ أن يثير سيزاري في البلاد حرباً أهلية. ونقل سيزاري إلى أسبانيا في شهر أغسطس وظل يعاني مرارة السجن عامين كاملين. وحاولت لكريدسيا مرة أخرى أن تطلق سراحه ولكنها لم توفق.كذلك دافعت عنه زوجته التي هجرها عند أخيها جان دالبرت Jean d'Albert ملك نبرة، ودبرت له الخطة للهرب، وخرج سيزاري من السجن مرة أخرى وأصبح طليقاً في نبرة في شهر نوفمبر من عام 1506. وسرعان ما واتته الفرصة ليرد لدا لبرت الجميل.ذلك أن كونت لرين Leirn، وهو من أتباع الملك خرج على سيده، فتولى سيزاري قيادة جزء من جيش جان وهاجم به حصن الكونت في فيانا Viana. وخرج الكونت على رأس الحامية من الحصن وهجم على سيزاري، فصده هذا، وتعقب القوة المهزومة بتهور وقلة مبالاة؛ وجاء المدد إلى الكونت وقتئذ، وهجم عدوه، وفر جنو سيزاري القلائل، ولم يثبت إلاّ هو نفسه ورفيق له واحد، وحارب حتى أثخن بالجراح ومات في القتال (12 مارس سنة 1507) وهو في سن الحادية والثلاثين.

وكانت هذه خاتمة شريفة تحيط بها الريب. ذلك أ، في حياة سيزاري بورجيا أشياء كثيرة لا تروقنا، نذكر منها كبرياؤه وتبجحه، وإهماله زوجته الوفية، ومعاملته النساء كأنهن أدوات لملذاته العابرة، وقسوته على أعدائه في بعض الأحيان - مثال ذلك حكمه بالإعدام على جويليوفارنو Giulio Varno صاحب كميرينو Camerino وعلى ولديه؛وقتله فيما يبدو اثنين من أبناء منفريدي Manfredi؛ وهي قسوة تناقض كل التناقض رأفة الرجل الذي يتسمى باسمه . وكان يعمل عادة بالمبدأ القائل إن تحقيق أغراضه يبرر في رأيه كل وسيلة يستخدمها لهذه الغاية، فالغاية في رأيه تبرر الوسيلة. لكننا نذكر مع هذا أنه كان يجد نفسه محوطاً بالأكاذيب، وأنه استطاع أن يتفوق في الكذب على من عداه حتى كذب عليه يوليوس. ونكاد نجزم بأنه لم تكن له يد في مقتل أخيه جيوفني، ولكن أكبر الظن أنه هو الذي حرّض السفاحين على قتل دوق بستشجيلي Bisceglie، ولعله كانت تنقصه - بسبب مرضه - القدرة على مواجهة مصاعبه بشجاعة وكرامة؛ وكان موته هو العمل الوحيد الذي شرفت به حياته.

ولكنه حتى هو كان يتصف ببعض الفضائل، فما من شك في أنه كان ذا كفاية غير عادية مكنته من أن يرقى هذا الرقي السريع، وأن يتعلم بهذه السرعة فنون الزعامة، والتفاوض، والحرب. ولمّا أن عهد إليه بذلك الواجب الشاق، واجب استعادة سلطة البابا في الولايات البابوية، ولم يكن تحت لوائه إلاّ قوة صغيرة، قام بهذا الواجب بحركة سريعة مدهشة، ومهارة في الفنون العسكرية، واقتصاد في الوسائل.ولمّا عهد إليه أن يحكم وأن يفتح، حبا رومانيا بأكثر ما استمتعت به منذ قرون من عدالة في الحكم ورخاء في السلم. ولمّا أمر بأن يطهر الكمبانيا من الأتباع العصاة المتمردين المشاكسين، قام بهذا العمل بسرعة يصعب على يوليوس قيصر نفسه أن يبزه فيها؛ ولعله حين طافت هذه الأعمال العظيمة برأسه قد راوده الحلم الذي راود بترارك ومكيفلي: وهو أن يهب إيطاليا، بالفتح إذا لزم الأمر، الوحدة التي تمكنها من أن تقف في وجه قوتي فرنسا وأسبانيا المرتكزتين . ولكن انتصاراته، وأساليبه، وقوته، وأعماله السرية الخفية، وهجماته السريعة التي لا يحصى لها عدد، جعلته سوط عذاب على إيطاليا بدل أن تجعله عاملاً على تحريرها. ذلك أن عيوبه الخلقية كانت سبباً في القضاء على ما أنجزه من الأعمال بقوته العقلية. وكانت مأساته الأساسية أنه لم يتعلم قط أن يحب.

ولنقل مرة أخرى كلمة موجزة عن لكريدسيا: ألا ما أكبر الفرق بينها وبين أخيها الذي هوى من حالق مجده، في تواضعها، وهناءتها في سنيها الأخيرة. ذلك أنها،وقد كانت في روما مضغة في فم كل نمام، قد أحبها أهل فيرارا ورأوا فيها مثلاً أعلى للفضائل النسوية(121). فقد حاولت فيها أن تنسى جميع محن ماضيها ومآسيه؛ واستعادت مرح شبابها ولم تخرج في ذلك عن حدود الاعتدال والأناة، وأضافت إلى مرحها هذا اهتماماً كريماً بحاجات غيرها من الناس. وقد أثنى عليها أريستو، وتيبليو Tibaldeo، وبمبو وتيتو، وإركولي اسفوردسا في أشعارهم ثناء جنت منه أكبر الفائدة؛ فقد وصفوها بأنها "أجمل فتاة" ولم يشر أحد منهم إليها بسوء.ولعل بمبو أراد أن يكون لها كما كان أبلار لهلواز Heloise ، وقد أضحت لكريدسيا وقتئذ تجيد عدة لغات فتتكلم الإسبانية، والإيطالية، والفرنسية، وتقرأ "قليلاً من اليونانية وأقل منها من اللاتينية". ويقول بعضهم إنها كانت تقرض الشعر بهذه اللغات جميعاً(122)، وقد أهدى إليها ألدوس مانيتيوس Aldus Manitius الطبعة التي أصدرها من ديوان استرتسي Strozzi وأشار في المقدمة إلى أنها عرضت عليه أن تمول مشروعه العظيم في الطباعة(123).

وقد وجدت بين هذه المشاغل العلمية الكثيرة متسعاً من الوقت حملت فيه لزوجها الثالث ثلاثة بنين وبنتاً واحدة. وقد سر منها ألفنسو على طريقته الدافقة العارمة. من ذلك أنه لما دعاه الداعي إلى مغادرة فيرارا في عام 1506 أنابها عنه في حكمها، فقامت بواجبات الحكم فيها بحكمة وحسن بصيرة جعلتا أهل فيرارا يميلون إلى مسامحة الإسكندر إذ تركها في وقت ما تشرف على شئون الفاتيكان.

وكرست جهودها في السنين الأخيرة من حياتها لتربية أبنائها وتعليمهم، ولأعمال البر والرحمة، وأضحت راهبة فرنسيسية من الطبقة الثالثة. ووضعت في الرابع عشر من شهر يولية عام 1519 طفلها السابع، ولكنه مات قبل أن يرى الضوء، ولم تغادر قط فراش المرض، حتى إذا كان اليوم الرابع والعشرون من ذلك الشهر ماتت وهي في سن التاسعة والثلاثين لكريدسيا بورجيا التي ظلمها الناس أكثر مما ظلمت هي نفسها.