قصة الحضارة - ول ديورانت - م 5 ك 3 ب 7

صفحة رقم : 6658

قصة الحضارة -> النهضة -> مسرح الحوادث الإيطالية -> ليوناردو دافنتشي -> تكوينه


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب السابع: ليوناردو دافنتشي 1452 - 1519

الفصل الأول: تكوينه 1452 - 1482

ولد ليوناردو أعظم الشخصيات الفنانة في العصور الوسطى في الخامس عشر من إبريل عام 1452 بالقرب من قرية فنتشي التي تبعد عن فلورنس بنحو ستين ميلا. وكانت أمه كترينا Caterina من بنات الفلاحين لم ترد داعيا إلى أن تتزوج أباه. وكان الذي أغواها بيرو دانطونيا محاميا على شيء من الثراء، ولما ولد له ليوناردو في عام مولده امرأة من طبقته، واضطرت كترينا أن تقنع بزوج فلاح مثلها، وأسلمت ابنها الذي كان ثمرة اتصالها بعشيقها إلى أبيه وزوجته، فنشأ ليوناردو في نعيم شبه أرستقراطي ينقصه حب الأم وحنانها. ولعله قد سرى إليه في هذا الجو المبكر حب الثياب الجميلة وكره النساء.

والتحق بمدرسة قريبة من قريته وأولع فيها بدراسة العلوم الرياضية، والموسيقى، والرسم، وسر والده بغنائه وعزفه على العود، ودرس كل شيء في العالم الطبيعي بشغف، وصبر، وعناية، ليستطيع بهذه الدراسة أن يجيد الرسم، وكان للعلم والفن اللذين ائتلفا ائتلافا عجيبا في عقله منشأ واحد - هو الملاحظة المفصلة الدقيقة. ولما أشرف على الخامسة عشر من عمره أخذه أبوه إلى مرسم فيروتشيو في فلورنس، وأقنع هذا الفنان المتعدد الكفايات أن يقبله صبيا يتمرن عنده. والعالم المتمدن كله يعرف قصة فارساى التي يروي فيها كيف صور ليوناردو الملك في صورة تعميد المسيح التي رسمها فيروتشيو، وكيف روع الأستاذ بجمال الصورة روعة حملته على أن يتخلى عن الرسم ويخصص جهوده للنحت. لكن أكبر الظن أن قصة هذا التخلي قصة خيالية نسج بردها بعد وفاة صاحبها؛ وشاهد ذلك أن فيروتشيو رسم عدة صور بعد صورة التعميد هذه، ولعل ليوناردو قد رسم في فترة التمرين صورة البشارة المحفوظة في متحف اللوفر بما فيها صورة الملك السمج والفتاة المروعة. ذلك أنه كان يصعب عليه أن يتعلم الرقة والظرف من فيروتشيو. وتحسنت أحوال السيد بيرو المالية تحسنا كبيرا من خلال ذلك الوقت، فاشترى عدة عقارات، وأنتقل هو وأسرته إلى فلورنس (1469)، وتزوج بأربعة نساء واحدة بعد واحدة، ولم تكن ثانيتهما تكبر ليوناردو بأكثر من عشر سنين. ولما ولدت الثالثة منهن لبيرو طفلا، أفسح له ليوناردو مكانه بأن ذهب ليعيش مع فيروتشيو، وقبل في ذلك العام عضوا في جماعة القديس لوقا. وكانت هذه الجماعة تتألف في الأغلب الأعم من الصيادلة، والأطباء، والفنانين، وكان مقرها الرئيسي في مستشفى سانتا ماريا نوفا. ولعل ليوناردو قد أتيحت له هناك بعض الفرص لدراسة التشريح الداخلي والخارجي معا. ولعله في تلك السنين قد رسم الصورة التي تعزى إليه إن كان هو الذي رسمها، وهي صورة القديس جيروم النحيلة، الدالة على معرفة بالتشريح، والموجودة بمعرض الصور في قصر الفاتيكان، واكبر الظن أنه هو الذي رسم قبيل عام 1474 الصورة الزاهية الألوان غير الناضجة وهي صورة البشارة الموجودة في معرض أفيزي.

واستدعى ليوناردو قبل عيد مولده الرابع والعشرين بأسبوع واحد وثلاثة شبان آخرين للمثول أمام لجنة مشكلة من أعضاء مجلس السيادة في فلورنس لمحاكمتهم بتهمة اللواط. ولسنا نعرف ما تم في هذه المحكمة، ولكن التهمة تجددت في اليوم السابع من شهر يونيه عام 1456 وأمرت اللجنة بحبس ليوناردو مدة قصيرة. ثم أطلقت سراحه وقالت إن التهمة غير ثابتة عليه(1). وما من شك في انه كان في هذا الصنف، ودليلنا على ذلك انه لم يكد يستطيع أن يفتتح لنفسه مرسما خاصا، حتى جمع حوله طائفة من الشبان الوسيمي الوجوه، كان يصحب بعضهم معه في هجرته من مدينة إلى مدينة، وكان يشير في مخطوطاته إلى هذا أو ذاك منهم بقوله "أحب أحبائي" أو "أعز أعزائي"(2). ولسنا نعرف ماذا كانت علاقاته الخاصة بأولئك الشبان، وفي مذكراته فقرات يفهم منها انه يكره الصلات الجنسية أيا كان نوعها . ولقد كان من حق ليوناردو أن يرتاب في السبب الذي دعا إلى توجيه هذه التهمة علنا له نفر قليل غيره دون غيرهم من أن اللواط كان واسع الانتشار في إيطاليا وقتئذ، ولم يغفر قط لفلورنس ما أصابه من مهانة باعتقاله.

ويبدو أنه حمل المر على محمل أكثر جدية مما حملته عليه فلورنس. وعرض على ليوناردو بعد عام من هذه التهمة مرسم في حديقة آل ميديتشي. وقبله، ثم طلب إليه مجلس السيادة نفسه في عام 1478 أن يصور ستارا لمحراب معبد القديس برنار في قصر فيتشيو لكنه لسبب ما لم يقم بما عهد ايه، فأتخذه بدلا منه غرلندايو وأئمة فلبينولي، ومع هذا فإن مجلس السيادة عهد إليه بعد قليل من ذلك الوقت بعمل آخر: هو أن يقوم برسم صورتين - ولسنا نستطيع أن نصفهما بأنهما صورتان حيتان- لرجلين بالحجم الطبيعي شنقا في مؤامرة الباتسي على لورندسو وجوليانو ده ميديتشي. ولعل ليوناردو صاحب الولع السقيم ببشاعة الجنس البشري وآلامه قد شعر ببعض المتعة في هذا الواجب البشع البغيض. لكنه والحق يقال كان مولعا بكل شيء، فقد كانت جميع أوضاع الجسم البشري وحركاته وسكناته، وجميع تعبيرات الوجه في الصغار والكبار على السواء، وجميع أعضاء الحيوان وأجزاء النبات وحركاتها من تماوج أعواد القمح في الحقول إلى طيران الطير في السماء، وجميع ما يتناوب على الجبال من تحات وارتفاع، وجميع التيارات والدوامات المائية والهوائية، وتقلبات الجو وظلاله، وبدائع السماء التي لا تبلى جدتها - كل هذه كانت تبدو له عجيبة غاية العجب، لا يُنقص التكرار من روعتها وغرابتها وأسرارها. حتى لقد ملأ آلاف الصفحات بملاحظاته عنها، ورسوم أشكالها التي لا تحصى. ولما طلب إليه الرهبان سان اسكوبيتو San Scopeto أن يرسم صورة لمعبدهم (1481)، رسم كثيرا من الصور المبدئية لعدد كبير من المعالم والأشكال أدت به إلى أن يضل في التفاصيل وأن يعجز عن إتمام صورة عبادة المجوس. لكن هذه الصورة رغم هذا النقص من أعظم صوره. ذلك أن التصميم الذي بنيت عليه رسم على طراز هندسي دقيق روعي فيه فن المنظور مراعاة غاية الدقة، وقسمت فيه جميع الرقعة التي رسم عليها مربعات تنقص نقصا تدريجيا، فقد كانت نزعة ليوناردو الرياضية تنافس على الدوام نزعته الفنية، وكثيرا ما كانت تتعاون معها. لكن موهبة ليوناردو الفنية كانت وقتئذ قد تكونت ونمت، واتخذت صور العذراء الوضع والملامح التي احتفظت بها في جميع صوره إلى آخر حياته: كذلك صور المجوس تصويرا ينم عن فهم عظيم عجيب - في شاب مثله - لأخلاق الكبار من الناس وتعبيراتهم، وكانت صورة "الفيلسوف" التي في اليسار دراسة حالم مذهول بحق التفكير نصف المتشكك، كأن المصور قد أصبح في هذه السن المبكرة ينظر إلى قصة المسيحية بروح الرجل المتشكك الكاره لتشككه، المؤمن الجاشع رغم هذا التشكك. وتجمعت حول هاتين الصورتين نحو خمسين صورة أخرى، كأنما هرع كل رجل وكل امرأة إلى هذا المهاد ليبحث فيه في شغف ونهم عن معنى الحياة، وعن بعض ضياء العالم، ثم وجد ضالته في طائفة لا حصر لها من المواليد.

وهذه الآية الفنية التي لم تتم، والتي كاد الزمان يذهب بمعالمها، معلقة الآن في معرض أفيزي بفلورنس، ولكن فلبيتولي هو الذي نفذ الرسم الذي ارتضاه الإخوان الإسكوبيتينيون. فقد كان طبع ليوناردو ومصيره اللذان لازماه إلى آخر أيام حياته إلا في حالات شاذة قليلة، هما أن يبدأ ما يريد عمله، ويرسم في عقله صورة له مسرفة في العظمة، ثم يضل في بيداء التجارب والتفاصيل، ثم ينظر فيما وراء موضوعه منظرا متناسقا بعيد المدى إلى أقصى حدود البعد من الصور البشرية، والحيوانية، والنباتية، والأشكال المعمارية، ومن الصخور، والجبال، ومجاري الماء، والسحب، والأشجار، يراها كلها في ضوء خفي من الظلال والقتام، وينهمك في فلسفة الصورة أكثر من انهماكه في تنفيذها وعملها، ويترك لغيره ما هو أقل من هذا من الواجبات نعني بذلك تلوين الأشكال التي رسمها على هذا النحو، ووضعها بحيث تكشف عن سرها ومعناها، ثم يتولى عنها في يأس بعد إجهاد طويل للجسم والعقل لما وجده من نقص في الصورة التي صاغتها يده من المادة التي لديه فلم ترق إلى ما رسمه لها في أحلامه.


الفصل الثاني: في ميلان 1482 - 1499

ولم يكن في الرسالة التي بعث بها ليوناردو وهو في سن الثلاثين إلى لدوفيكو نائب الملك في ميلان سنة 1482 شيء من التردد، أو الإحساس بضيق الوقت الذي لا يرحم، بل كل ما كانت تفصح عنه هو مطامع الشباب التي لا تقف عند حد، هي مطامع تغذيها قوى مطردة النماء. لقد نال كفايته من المقام في فلورنس، واشتدت رغبته في رؤية أماكن ووجوه جديدة. وكان قد سمع أن لدوفيكو في حاجة إلى مهندس حربي ومعماري، ومثال، ومصور، وقال في نفسه انه سيتقدم بهؤلاء جميعا مجتمعين في شخص واحد، ومن أجل هذا كتب رسالته الذائعة الصيت: سيدي الأجل الأفخم: لقد اطلعت الآن اطلاعا كافيا على جميع البراهين التي يتقدم بها كل أولئك الذين يحسبون أنفسهم أساتذة في أدوات الحروب ومخترعيها، وأنعمت النظر فيها، فتبين لي أن اختراع هذه الآلات السالفة الذكر واستخدامها لا يختلفان في شيء عن الآلات والطرق التي تستخدم الآن. وقد جرأني هذا على أن أتصل بعظمتكم دون أن أبغي قط الإساءة إلى أحد غيري، لكي أكشف لكم عما عندي من الأسرار، ثم أعرض عليكم بعدئذ، إذا سركم هذا، أن اشرح لكم شرحا وافيا في الوقت الذي يوائمكم جميع الأمور التي أوجزها في هذه الرسالة:

1- عندي تصميمات للقناطر خفيفة، قوية تصلح للانتقال بسهولة ...

2- إذا حوصر مكان ما، فأني أعرف كيف أقطع الماء عن الخنادق، وكيف أقيم عددا لا يحصى من .... السلالم لتسلق الجدران وغيرها من الآلات ...

3- لدي طرق لصنع المدافع التي يسهل حملها، والتي يمكن بها إلقاء حجارة صغيرة بطريقة تضاهي نزول البرد ...

4- وإذا أتفق أن كانت المعركة تدور في البحر، فإني أعرف كيف أصنع كثيرا من الآلات التي تصلح كل الصلاحية لأغراض الهجوم والدفاع، والسفن التي تستطيع مقاومة نيران أثقل المدافع، والبارود والدخان.

5- ولدي أيضاً وسائل أستطيع بها الوصول إلى أماكن معينة بحفر الكهوف والطرق السرية الملتوية، أحفرها دون ضجيج ولو أستلزم ذلك المرور تحت الخنادق أو تحت نهر جار.

6- وأستطيع أيضاً صنع عربات مغطاة آمنة لا يمكن الهجوم عليها، تستطيع الدخول بين صفوف العدو المتراصة المزودة بالمدفعية؛ وليس ثمة فرق من الجنود المسلحين مهما عظمت قوتها لا تستطيع هذه العربات فوق من الجنود المسلحين مهما عظمت قوتها لا تستطيع هذه العربات تحطيما. وتستطيع فرق المشاة أن تزحف خلف هذه العربات دون أن تصاب بأذى ودون أن يستطيع العدو مقاومتها.

7- كذلك أستطيع إذا دعت الحاجة أن أصنع المدافع، ومدافع الهاون، والمدافع الخفيفة، بأشكال غاية في الجمال والمنفعة، تختلف كل الاختلاف عما هو مستعمل منها الآن.

8- وحيث يتعذر استخدام المدافع أستطيع أن أمدكم بمجانيق، ومنغوليات، وقذافات وغيرها من الآلات ذات القوة العجيبة، وليست شائعة في الوقت الحاضر. وقصارى القول أني أستطيع أن أزودكم في مختلف الظروف التي تدعو إليها الحاجة بعدد لا يحصى من آلات الهجوم والدفاع المختلفة الأنواع.

9- واعتقادي أنني أستطيع في وقت السلم أن أرضيكم بقدر ما يرضيكم أي إنسان غيري في فن العمارة، وفي إنشاء المباني العامة والخاصة، وفي نقل الماء من مكان إلى مكان.

10- أستطيع فوق ذلك أن أصنع التماثيل من الرخام أو الصلصال، كما أستطيع التصوير بحيث لا يقل عملي فيه عن عمل أي إنسان آخر مهما يكن شأنه.

وسأقوم فضلا عن هذا بعمل الحصان البرنزي الذي سيضفي مجدا خالدا وشرفا أبديا على الذكرى الطيبة للأمير والدكم وعلى بيت اسفوردسا العظيم. واذا ما بدا لأي إنسان أن أحد الأشياء السابقة مستحيل أو غير عملي، فإني أعرض استعدادي لتجربته في حديقتكم أو في أي مكان ترون عظمتكم أن أجربه فيه، وأتقدم لكم بأعظم آيات الخضوع والولاء.

ولسنا نعرف بماذا أجاب لدوفيكو عن هذه الرسالة، ولكننا نعرف أن ليوناردو وصل ميلان في عام 1482 أو في عام 1483 وانه سرعان ما وجد طريقه إلى قلب "المغربي". وتقول إحدى القصص إن لورندسو قد بعثه إلى لدوفيكو ليقدم إليه عودا موسيقيا جميلا هدية منه يستجلب بها رضاه، وتقول قصة أخرى انه فاز في ميلان في مباراة موسيقية، وانه لم يفز فيها بسبب إحدى القوى التي دعاها لنفسه "بأعظم آيات الخضوع والولاء" بل فاز بصوته الموسيقي وحديثه الطلي، وبالنغمات الحلوة التي كانت تنبعث من العود الذي صنعه بيده على شكل رأس حصان (5). ويبدو أن لدوفيكو حين قبله عنده لم يضعه في المنزلة التي قدر هو بها نفسه، بل قبله على انه شاب نابه- قد يكون أقل نبوغا في العمارة من برامنتي، ولم يكسب من التجارب ما يكفي لأن يعهد إليه بأعمال الهندسة العسكرية، ولكنه يستطيع أن يعد الحفلات المقنعة في البلاط، والمواكب في المدينة، ويزخرف ثياب الزوجة أو العشيقة أو الأميرة، وينقش الرسوم على الجدران، ويرسم الصور الملونة، وربما استطاع أن يحفر القنوات لتحسين وسائل الري في سهل لمباردي. ويسوؤنا أن نعلم أن هذا الرجل صاحب العقل الواسع المتعدد الكفايات قد أضطر أن ينفق الوقت الثمين الذي لا يعوض في صنع أحزمة غريبة الشكل لزوجة لدوفيكو الحسناء بيتريس دست، وبضع نماذج لأثواب المثاقفة والحفلات، وينظم المواكب، أو يزين الإسطبلات، غير أن الفنان في عصر النهضة كان ينتظر منه أن يعمل هذه الأشياء كلها في الفترات التي لم يكن يشتغل فيها برسم صور مريم العذراء؛ وقد اشترك برامنتي نفسه في سخافات البلاط، ومن يدري لعل ما في طباع ليوناردو من أنوثة قد حبب إليه رسم الثياب والحلي، وما في طباعه من رقة الفارس المهذب قد جعله يستمتع بتصوير الخيل السريعة العدو على جدران الإسطبلات، وقد زين حجرة القصر استعداداً لزواج بيتريس، وأنشأ للعروس حماما خاصا، وأقام في الحديقة ظله جميلة لمتعتها الصيفية، ونقش حجرات أخرى لحفلات القصر، ورسم صورا ملونة للدوفيكو وبيتريس، وأبنائهما، وصورا غيرها لتشيتشيليا جلرينى، ولكريدسيا كريفلي عيشيقتي لدوفيكو. وقد ضاعت هذه الصورة كلها إلا إذا كانت صورة فرونيبر الحسناء المحفوظة في متحف اللوفر هي بعينها لكريدسيا. ويصف فارساي صور الأسرة بأنها "غاية في الإبداع"، وقد ألهمت صورة لكريدسيا أحد الشعراء قصيدة خماسية يمدح بها جمال هذه السيدة ويثنى فيها على مهارة الفنان(6).

وربما كانت تشيتشيليا هي النموذج الذي رسم منه ليوناردو صورة عذراء الصخور. وقد تعاقدت معه على هذه الصورة (1483) الجماعة المعروفة باسم أخوة الحمل Confraternity of the Conception لتكون في وسط ستار المحراب لكنيسة فرنتشيسكو. وقد أشترى الصورة الأصلية فيما بعد فرانسيس الأول وهي الآن في متحف اللوفر. وإذا ما وقف الإنسان أمامها طالعه وجه الأمومة الرقيق الذي أستعمله ليوناردو أكثر من عشر مرات فيما رسمه من الصور بعد ذلك الوقت؛ وأبصر صورة الملك تذكره بمثيلته في صورة تعميد المسيح لفيروتشيو؛ وطفلين أبدع تصويرهما، وفي خليفة الصورة صخور معلقة بارزة لا يتصور أحد غير ليوناردو أنها كانت مسكن مريم العذراء. وقد عدا الزمان على الألوان فجعلها قائمة، ولكن لعل الفنان نفسه أراد أن يكون لها هذا الأثر القائم، وأنه خضب صورته بجو مغبر يسميه الإيطاليون "المدخَّن sfumato".وهذه الصورة من أروع صور ليوناردو، ولا يعلو عليا إلا صورة العشاء الأخير، وموناليزا، وصورة العذراء والطفل والقديسة آن.

وصورتا العشاء الأخير وموناليزا أشهر الصور على الإطلاق في العالم كله، ونرى الناس يحجون ساعة بعد ساعة، ويوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، إلى حجرة الطعام حيث توجد أعظم مفاخر ليوناردو. ففي ذلك البناء المستطيل المتواضع كان الرهبان الدمنيك المتصلون بكنيسة لدوفيكو المحببة- سانتا ماريا دل جرادسي- يتناولون طعامهم. فلما جاء الفنان إلى ميلان طلب إليه لدوفيكو بعد وقت قليل من وصوله أن يرسم صورة العشاء الأخير على أبعاد جدار في المطعم. وظل ليوناردو ثلاث سنين (1495- 1498) يكدح أو يلهو بالعمل في فترات متقطعة؛ كان الدوق والرهبان في أثنائها يظهرون تأففهم من تباطؤه الذي لا آخر له. وقد شكا رئيس الدير إلى لدوفيكو- إذا صح أن نصدق فاساري- من تباطؤ ليوناردو البادي للعيان، وأبدى عجبه من أنه كان في بعض الأحيان يجلس أمام الجدار ساعات طوالاً لا يمسه فيها. ولم يجد ليوناردو صعوبة ما في أن يفهم الدوق أن أهم ما في عمل الفنان هو تصور الفكرة لا تنفيذها، وأن "العباقرة" حسب تعبير فاساري "ينتجون أكثر إنتاجهم حين لا يقومون إلا بأقل الأعمال". واقتنع الدوق بهذا التفسير ولكنه وجد من الصعب عليه أن يشرح لرئيس الدير. وقال ليوناردو للدوفيكو أنه يواجه في هذه الحالة صعوبتين بنوع خاص- أولهما أن يفكر في الملامح الخليقة بابن الله؛ وأن يصور إنساناً لا قلب له مثل يهوذا الأسخريوطي؛ ولعله قد أشار في دهاء إلى أنه قد يتخذ وجه رئيس الدير الذي يسرف في التردد عليه نموذجاً لوجه الأسخريوطي هذا . وكان ليوناردو يطوف أنحاء ميلان بحثاً عن الرءوس والوجوه التي يستخدمها لتمثيل الرسم، وقد أختار من بين المئات الذين عثر عليهم الملامح التي مزجها في مصهر فنه حتى أخرج منها تلك الرءوس الانفرادية التي جعلت آيته الفنية موضع إعجاب العالم. وكان في بعض الأحيان يهرول من الشارع أو من رسمه إلى المطعم، ويضيف ضربة أو ضربتين إلى الصورة، ثم يعود من حيث أتى(8).

وكان موضوع الصورة جليلا فاخرا، ولكنه كان ممن وجه نظر الفنان محفوفا بالمخاطر. ذلك انه لابد أن يقتصر على صور الذكور، وعلى منضدة متواضعة في حجرة بسيطة، ويجب أن لا تتعدى المناظر الطبيعية الحقيقية أو المتخيلة أشدها قتاما، وألا يشتمل على شيء من ظرف النساء يضعف من قوة الرجال. ولم يكن يستطيع أن يدخل في الصورة من الأعمال الواضحة ما يبعث على الحركة ويشعر بالحياة. على أن ليوناردو قد أخل قدرا ضئيلا من المناظر الطبيعية يبصرها الرائي من خلال النوافذ التي رسمها خلف صورة المسيح، ثم استبدل بالعمل والحركة صورة الاجتماع الذي عقد في اللحظة الحاسمة التي تنبأ فيها المسيح بأن أحد الرسل سيغدر به، فيسأله كل واحد منهم في خوف وهلع أو في دهشة وذهول: "أأنا هو؟". وقد كان في وسع ليوناردو أن يختار موضوع العشاء الرباني؛ ولكن هذا كان من شأنه أن يجمد ثلاثة عشر وجها كلها فيجعل منها صورة موحدة رزينة عديمة الحركة. أما هذا الموضوع ففيه أكثر من الحركة الجسمية العنيفة، فيه روح باحثة متقصية، وفيه وحي وإلهام، ولم يكشف قط فيما بعد فنان في صورة واحدة عن مثل هذا العدد الجم من النفوس. وقد أعد ليوناردو للرسل عددا لا يحصى من الرسوم المبدئية التخطيطية، بعضها- كصورة يوحنا الأكبر، وفيليب، ويهوذا الأسخريوطي- رسوم بلغت من الرقة والقوة درجة لا تضارعها إلا رسوم رمبرانت Rembrandt وميكل أنجلو. ولما أراد ليوناردو أن يتخيل ملامح المسيح، وجد أن الرسل قد استنفذوا مصادر إلهامه كلها، ويقول لوماتسو Lomazzo (وقد كتب في عام 1557) إن دسينالي Zenale صديق ليوناردو القديم أشار عليه بأن يترك وجه المسيح ناقصا وقال له: "إن من المستحيل حقا أن يتصور الإنسان وجوها أجمل وأرق من وجه يوحنا الأكبر أو يوحنا الأصغر. فارض إذن بسوء حظك، وأترك مسيحك ناقصا لأنك لو أتمتته لما كان إذا قورن بوجوه الرسل منقذهم أو سيدهم"(9). وعمل ليوناردو بهذه النصيحة، ورسم هو أو أحد تلاميذه رسما تخطيطيا لرأس المسيح (هو الآن في معرض بريرا Brera)؛ ولكنه يمثل حزنا واستسلاما خليقين بالنساء، بدل أن يمثل العزيمة التي دبت في هدوء في قلب جشمان Gethsemane، ولعل ليوناردو يعوزه التقي وتعظيم المقدسات، ولو أنهما كانا له وأضفيا إلى حسه المرهف، وعمق تأثره، وحذقه لجاءت صورته أقرب إلى الكمال.

وإذ كان ليوناردو مفكرا وفنانا معا، فقد كان يتجنب التصوير على الجص لأنه في اعتقاده لا يتفق مع التفكير بحال. ذلك أن التصوير على المواد الطرية وعلى الجص الموضوع توا لابد أن يكون سريعا قبل أن يجف. وكان ليوناردو يفضل التصوير الزلالي على جدار جاف- أي التصوير بألوان ممزوجة بمادة هلامية، لأن هذه الطريقة تتيح له فرصة التفكير والتجربة. غير أن هذه الألوان لا تلتصق بقوة على السطح الذي توضع فوقه، ولهذا فإن الطلاء بدأ يتقشر ويتساقط في أثناء حياة ليوناردو نفسها؛ دع عنك تأثير رطوبة المطعم وغمره بمياه المطر من حين إلى حين. وكانت الصورة حين شاهدها فاساري في عام 1536 قد بدأت تفقد معالمها، ولما أن رآها لوماتسو Lomazzo بعد ست سنين من إتمامها كان التلف قد بلغ منها مبلغا لا يستطاع إصلاحه. وعجل الرهبان هذا التلف فيما بعد بأن شققوا بابا إلى المطبخ بين أرجل الرسل (1656). أما النقوش المحفورة التي تمثل هذه الصورة والمنتشرة في جميع أنحاء العالم فلم تؤخذ عن الأصل الذي تلف، بل أخذت من صورة له غير متقنة رسمها ماركو دجيونو Marco d'Oggiono أحد تلاميذ ليوناردو. وكل ما نستطيع دراسته منها في هذه الأيام هو تأليفها وخطوطها الخارجية العامة، أما ظلالها ودقائقها فإن دراستها من أصعب الأشياء. وأيا كانت عيوب الصورة حين فرغ منها ليوناردو، فقد أدرك بعضهم لساعته أنها أعظم صورة أخرجها فن النهضة حتى ذلك الوقت.

وكان ليوناردو في هذه الأثناء قد عهد أليه عمل آخر يختلف عن ذلك العمل السالف الذكر كل الاختلاف ويزيد عليه صعوبة. ذلك أن لدوفيكو كان يتوق من زمن بعيد إلى أن يخلد ذكرى أبيه فرانتشيسكو اسفوردسا بتمثال لفارس يضارع تمثال جتاميلاتا Gattamelata الذي صنعه دوناتيلو في بدوا، وتمثال كليوني لفيروتشيو في البندقية، وأثارت هذه الرغبة مطامع ليوناردو؛ فشرع يدرس تشريح الجواد، وحركاته، وطبيعته، ورسم لهذا الحيوان مائة صورة تخطيطية، كلها تقريباً ذات نشاط وتخطيط. وسرعان ما أنهمك في صنع نموذج له من الجص؛ ولما طلب إليه بعض سكان بياتشندسا أن يدلهم على الفنان ليصمم لهم أبواباً من البرنز لكنيستهم الكبرى ويصبها، كبت لهم رداً نستبين منه خصائصه المميزة له يقول فيه: "ليس ثمة من يستطيع القيام بهذا العمل غير ليوناردو الفلونسي، الذي يصنع الآن الجواد البرونزي للدوق فرانتشيسكو؛ وليس بكم حاجة إلى أن تدخلوه في حسابكم، لأن لديه من الأعمال ما يشغله طول حياته؛ واعتقادي أن هذا العمل يبلغ من الفخامة درجة لا يستطيع معها أن يتمه"(10). وكانت هذه الفكرة نفسها تراود أيضاً لدوفيكو في بعض الأوقات، وكان يطلب إلى لورندسو أن يستدعي فنانين آخرين ليتموا العمل (1489)؛ ولم يكن لورندسو كما لم يكن ليوناردو، يظن أن ثمة إنسان أجدر بذلك من ليوناردو نفسه.

وأخيراً تم النموذج الجصي (1493)، ولم يبقى إلا أن يصب التمثال من البرونز. وعرض النموذج على الجمهور في شهر نوفمبر من ذلك العام تحت قوس يزدان به موكب عرس بيانكا مارية ابنة لدوفيكو. ودهش الناس من ضخامة حجمه وروعته؛ فقد كان الحصان وراكبه يعلوان في الجو ستاً وعشرين قدماً، وأنشأ الشعراء قصائد يتغنون فيها بمدحه، ولم يكن أحد يشك في أن التمثال حين يصب سيفوق في قوته ومطابقته للحياة آيات دوناتيلو وفيروتشيو. ولكنه لم يصب، ويلوح أن لدوفيكو لم يكن في غنى عن المال الذي يبتاع به الخمسين من أطنان البرنز اللازمة له. ولذلك ترك النموذج في العراء، وأخذ ليوناردو يشغل نفسه بالفن والغلمان، والعلم والتجارب، والأدوات الآلية والمخطوطات؛ ولما استولى الفرنسيون على ميلان عام 1499 اتخذ رجالهم الجواد والحصى هدفاً لهم وحطموا قطعاً كثيرة منه، وأبدى لويس الثاني عشر في عام 1500 رغبته في أن ينقله على عربة إلى فرنسا غنيمة حربية له، ثم لا نعود نسمع عنه بعد ذلك. وحطم هذا الإخفاق العظيم أعصاب ليوناردو وهد قواه إلى حين، ولعله قد أفسد علاقته بالدوق؛ ولم يكن لدوفيكو عادة يضن على فنانه بالمال، ودهش أحد الكرادلة حين عرف أن ليوناردو أعطى ألفي ودقية (25.000 دولار ؟) في عام من الأعوام فضلا عن غيرها من الهدايا والامتيازات(11) ولهذا كان يعيش عيشة الأرستقراطي : فكان عنده عدة صبيان يتدربون على العمل، وكثيرون من الخدم، والأتباع، والجياد، وكان يستأجر الموسيقيين، ويلبس الحرير والفراء، والقفازات المزركشة، والأحذية الجلدية ذات الأشكال الغريبة. وكان ينتج أعمالاً لا تقدر بمال، ولكن يبدو أنه كان في بعض الأحيان يبعث بالمهام التي يعهد بها إليه، أو ينقطع عنها ليشتغل ببحوثه الخاصة وبالتأليف في العلم، والفلسفة، والفن. ومل لدوفيكو آخر الأمر تباطؤه فاستدعى بروجينو في عام 1497 ليزين له بعض الحجرات في قصره؛ غير أن بروجينو تعذر عليه المجيء، وتولى ليوناردو العمل، ولكن هذا الحادث حز في نفس الرجلين. وحدث حوالي ذلك الوقت أن حلت بلدوفيكو ضائقة مالية من جراء نفقاته الدبلوماسية، والنفقات العسكرية، فتأخر في أداء مرتب ليوناردو. وظل ليوناردو يقوم بنفقاته الخاصة ما يقرب من عامين، ثم بعث إلى لدوفيكو ليذكره بمطلوبه (1495). واعتذر لدوفيكو اعتذاراً كريماً، ثم وهب ليوناردو بعد عام من ذلك الوقت كرمة يتخذها مورداً لرزقه. وكان كيان لدوفيكو السياسي لذلك في ذلك الوقت يتحطم فوق رأسه؛ فقد استولى الفرنسيون على ميلان، وفر لدوفيكو، وألفى ليوناردو نفسه حراً ولكنه متعب غير مطمئن.

ورأى أن ينتقل إلى مانتوا (ديسمبر عام 1499)، حيث رسم صورة رائعة لإزبلا دست، ولكنها طلبت إلى زوجها أن يتخلى عنها. وكان ذلك أول مرحلة خطئها هذه الصورة في طريقها إلى متحف اللوفر. ولم يستسيغ الفنان هذا الفعل، فغادر المدينة إلى البندقية؛ وأدهشه فيها جمالها الفخم، ولكنه وجد ألوانها الزاهية، وزخارفها القوطية- البيزنطية متلألئة براقة أكثر مما يطيقه ذوقه الفلورنسي، فعاد أدراجه إلى المدينة التي قضى فيها أيام صباه.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: فلورنس 1500 - 1501 ، 1503 - 1506

وكان في الثامنة والأربعين من العمر حين حاول أن يمسك مرة أخرى بحبل الحياة الذي قطعه قبل ذلك بسبعة عشر عاماً. وكان وقتئذ قد تبدل، وتبدلت فلورنس أيضا، ولكنه سار في طريق غير الذي سارت فيه هي. فأما فلورنس فقد أصبحت في أثناء غيابه جمهورية نصف ديمقراطية من الوجهة السياسية ونصف متزمتة من الوجهة الدينية، وأما هو فقد أعتاد حكم الدوق وترف الأرستقراطية وأساليبها الناعمة. وأخذ أهل فلورنس، وهم الناقدون على الدوام، ينظرون شزراً إلى حريره ومخمله، والى ظرف آدابه، واتباعه من الشبان ذوي الشعر المعقوص. وكان ميكل أنجيلوا وقتئذ أقل منه باثنين وعشرين عاما، ولم تكن تعجبه ملامحه الجميلة التي تختلف كل الاختلاف عن أنفه المحطم، وكان وهو الفقير المعدم يعجب من أين يجد ليوناردو المال الذي يحيا به تلك الحياة الرخية؛ وكان ليوناردو قد اقتصد ستمائة دوقة في الأيام التي قضاها في ميلان، ورفض الآن عروضا كثيرة حتى التي جاءته من مركيزة مانتوا، ولما بدأ يعمل مرة أخرى كان يعمل متباطئا كعادته.

وكان الرهبان السرفيون قد استخدموا فلبينولي ليرسم ستار محراب لكنيسة البشارة Annunziato، وأظهر ليوناردو عرضا رغبته في أن يقوم بمثل هذا العمل، وكان فلبينو كريما إذ تخلى عن هذه المهمة للرجل الذي كان يراه الناس عامة أعظم المصورين في أوربا، وجاء الرهبان السرفيون بليوناردو وأسرته ليعيشوا في الدير، وتكلفوا بنفقاتهم في المدة التي بدت لهم جد طويلة، ثم حدث في يوم من عام 1501 أن كشف الغطاء عن الرسم التمهيدي لصورة العذراء والطفل والقديسة آن والطفل يوحنا ((فأعجب بها أشد العجب كل من رآها)) كما يقول فرساي ((ولما علقت ... هرع إليها الناس عامة، رجالا ونساء، شيبا وشبانا من كل فج، وظلوا يفدون إلى الدير يومين كاملين ليشاهدوها، كأنهم في أيام عيد، وأثارت عظيم دهشتهم وإعجابهم)). ولسنا نعرف أكانت هذه هي الصورة الكاملة الحجم التي هي الآن أحد كنوز مجمع الفنون الملكي في بيت بيرلنجتن Burlington House بلندن. والراجح أنها هي، وإن كان الثقات الفرنسيون(12) يرون إنها هي الشكل الأول للصورة المحفوظة في اللوفر، والتي تختلف عنها كل الاختلاف. وإن الابتسامة التي تنم الكبرياء والرقة والتي يتلألأ بها وجه العذراء في الرسم التمهيدي وتجمله لهي من معجزات ليوناردو بحق، وإذا قيست بها ابتسامة موناليزا بدت هذه الابتسامة أرضية ساخرة، بيد أن هذه الصورة لم تكن من الصور الناجحة، وإن كانت من أعظم ما صور في عهد النهضة. ذلك أن في مقام العذراء القلق فوق ساقي أمها الممتدتين بعض ما تشمئز منه الأنفس وما ينم عن ذوق سقيم. ويلوح أن ليوناردو قد أهمل هذا الرسم التمهيدي إلى الصورة التي طلبها الرهبان، فكان لا بد لهم أن يلجئوا إلى لبي من جديد، ثم إلى بروجينو ليصور لهم ستار المحراب؛ ولكن ليوناردو سرعان ما رسم صورة العذراء، والقديسة آن والطفل يسوع المحفوظة في متحف اللوفر، ولعله قد رسمها من صورة معدلة من الرسم التمهيدي للصورة في بيت بيرلنجتن. وكانت هذه الصورة نصرا فنيا مؤزرا. من رأس آن المزين بالجواهر إلى قدمي مريم العاريتين عريا مخزيا والجميلتين جمالا ربانيا. وهنا وصل التقسيم إلى مثلثات الذي اخفق في الصورة التمهيدية ذروة النجاح؛ فرؤوس آن، مريم، والطفل، والحمل تكون هي الأربع جانبا واحدا عظيم الثراء، والطفل وجدته يحدقان في كلف إلى مريم، وأثواب النساء التي لا نظير لها في الثياب تملأ الفراغ الذي بين أجزائها، وقد لطف القتام الذي هو من خصائص فرشاة ليوناردو وجميع الخطوط الخارجية للصورة كما تلطفها الظلال في الحياة الواقعية. ولقد كانت الابتسامة الليوناردية التي طبعها على فم مريم في الصورة التمهيدية، ولكنه طبعها على فم آن في الصورة الملونة، هي الطراز الذي سار عليه أتباع ليوناردو نصف قرن من الزمان.

ثم انتقل ليوناردو من هذه الدعوات الرقيقة ذات النشوة الدينية الصوفية ليعما مهندسا عسكريا في خدمة سيزارى بورجيا (يونية 1502)؛ ذلك أن بورجيا كان وقتئذ قد بدأ حملته الثالثة في الرومانيا Romagna، وكان في حاجة إلى رجل يستطيع رسم الخرائط التخطيطية، وبناء الحصون وتجهيزها، وإقامة الجسور على الأنهار أو تحويل مجراها، واختراع أسلحة الهجوم والدفاع، ولعله قد سمع عن الآراء التي عبر عنها ليوناردو عن آلات الحرب أو صورها بها. فقد كان فيها مثلا رسم لعربة مدرعة أو دبابة يحرك عجلاتها الجنود من داخل جدرانها، وكتب ليوناردو يقول ((أن هذه العربات تحل محل الفيلة ... ففي وسع الإنسان أن يطعن بها، وفي وسعه أن يمسك بها بمنافيخ يروع بها خيول العدو، وفي وسعك أن تضع فيها جنودا مسلحين بالبنادق القصيرة تحطم بها كل سرية))(12). وفي مقدورك، كما يقول ليوناردو أن تضع مناجل فتاكة على جانبي المركبة، ومنجلا دوارا أشد منها فتكا على عمود بارز إلى الأمام، وهذه كلها تحصد الرجال حصد الهشيم(14). أو تستطيع أن تجعل عجلات المركبة تدير جهازا يلقى بالقذائف الحديدية المهلكة في الجهات الأربع(15). وفي وسعك أن تهاجم حصنا بأن تضع جنودك تحت غطاء واق، وأن تصد المحاصرين بأن تلقي عليهم زجاجات ملأى بالغاز السام(17). وقد فكر ليوناردو في وضع ((كتاب يبين كيف تصد الجيوش بقوة الفيضان الناشئ من إطلاق المياه)) وكتاب يبين كيفية إغراق الجيوش بسد منافذ المياه التي تجري في الوديان(18) ووضع تصميما لأدوات تقذف بطريقة آلية وابلا من السهام من سطح دوار، ولرفع المدافع على العربات، وإسقاط سلم مزدحم بقوة محاصرة تحاول تسلق الجدران(19). واغفل بورجيا معظم هذه الأدوات لأنه ظنها غير عملية، واكتفى بتجربة واحدة منها أو اثنتين في حصار تشري Ceri عام 1503، ولكنه مع ذلك أصدر هذه البراءة:

إلى جميع عالمنا، وحكام قلاعنا، وضباطنا، ورؤساء الجنود المرتزقون، والموظفين، والجنود، والرعية. نلزمكم جميعا ونأمركم بأن حامل هذا خادمنا الممتاز الذي نوليه أعظم حبنا، ومهندسنا المعماري، وكبير مهندسينا ليوناردو دافنشي - الذي عيناه للتفتيش على قلاعنا ومعاقلنا في أملاكنا، حتى نستطيع أن نمدها بما هي في حاجة إليه حسب ما يشير علينا به - نلزمكم ونأمركم أن تيسروا له الانتقال الذي لا يتحمل فيه أية مشقة أو يطلب إليه فيه أداء فريضة ما، وأن يلقى منكم هو ومن معه الترحيب الودي، وأن تكون له الحرية التامة في أن يطلع، ويختبر، ويقيس بأعظم الدقة كل ما يرغب فيه. وعليكم أن تقدموا له العون بالعدد الذي يرغب فيه من الرجال ليتمكن من تحقيق هذه الغاية، وأن تمدوه أنتم بكل ما في وسعكم من معونة وتكرموه غاية الأكرام. وإن إرادتنا لتقتضي أن يحتم على كل مهندس أن يتصل به ويعمل بمشورته في كل ما يقوم به من الأعمال في جميع أملاكنا(20).

وكتب ليوناردو كثيرا، ولكنه قلما كتب عن نفسه. ولق كنا نود أن نعرف رأيه في بورجيا، وأن نضعه إلى جانب رأي الرسول الذي بعثه فلورنس إلى سيزاري في ذلك الوقت - نعني نقولو مكفيلي. ولم استطعنا لأضاء لنا رأيه كثيرا مما خفي علينا في الرجل. غير أم كل ما نعرفه أن ليوناردو زار إمولا Imoia، وفائندسا، وفلورلي، ورافنا، وريميني، وبسارو، وأربينو، وبروجيا، وسينا، وغيرها من المدن، وأنه كان في سنجاليا Sinigallia حين اقتنص سيزاري وخنق فيها أربعة من الضباط الخونة، وانه قدم إلى سيزارى ست خرائط كبيرة لإيطاليا الوسطى، بين فيها اتجاه المجاري المائية، وطبيعة الأرض وتضاريسها، والمسافات التي بين النهار، والجبال، والحصون، والبلدان. ثم عرف فجأة أن سيزاري موشك على الموت في رومة، وأن إمبراطوريته آخذة في الانهيار، وأن أحد أعداء آل بورجيا في طريقه إلى العرش البابوي. وولى ليوناردو وجهه مرة أخرى نحو فلورنس (إبريل 1503) بعد أن أخذ عالم العمل يبتعد عنه. وفي شهر أكتوبر من ذلك العام عرض بيترسدريني رئيس حكومة فلورنس على ليوناردو وميكل أنجيلو أن يرسم كلاهما صورة جدارية في بهو الخمسمائة الجديد في قصر فيتشيو. وقبل كلاهما العرض، وكُتب معهما عقدان دقيقان غاية الدقة، وذهب كل منهما إلى مرسم خاص به ليرسما صورتيهما التمهيديتين. وكان الذي طلب إليهما أن يصور كل منهما بعض انتصارات جيوش فلورنس: فيصور أنجيلو معركة في الحرب مع بيزا، ويصور ليوناردو انتصار فلورنس على ميلان عنيد أنغياري Anghiari. وأخذ أهل فلورنس المتيقظون المتحفزون يتتبعون هذا العمل كأنه مباراة بين المجالدين، وثار النقاش الحاد بين المتنافسين وأساليبهما، وظن أحد المراقبين أنه إذا تفوقت إحدى الصورتين على الأخرى تفوقا حاسما، فإن هذا التفوق سيقرر للمصورين فيما بعد هل ينهجون نهج ليوناردو ويتبعون نزعته نحو الرقة والتمثيل الدقيق للمشاعر، أو يهيمون كما يهيم ميكل أنجيلو بالعضلات الضخمة والقوة الشيطانية.

ولعل هذا هو الوقت - ونقول لأن الحادث الذي سنرويه ليس له تاريخ - لعل هذا هو الوقت الذي أطلق اصغر الفنانين العنان لحقده على ليوناردو فأهانه إهانة سافرة، وتفصيل ذلك أن بعض الفلورنسيين كانوا يناقشون في أحد الأيام فقرة من المسلاة الإلهية في بياتسا سانتا ترينيتا Piazza Santa Trinita. وشاهدوا في أثناء النقاش ليوناردو مارا بهم فأوقفوه وسألوه أن يشرح لهم. وظهر ميكل أنجيلو في هذه اللحظة، وكان معروف عنه أنه قد درس دانتي دراسة متقنة. فقال ليوناردو: ((هاهو ذا ميكل أنجيلو، وسيشرح لكم هذه الأشعار)). وظن هذا الجبار الشقي أن ليوناردو يسخر في غضب وازدراء: ((أشرحها أنتك يا من صنعت نموذجا لجواد يصب من البرنز ثم عجزت عن صبه، وتركته دون أن تتمه، فيا للعار: وقد ظنت ديكة ميلان الخصبة أن في طاقتك أن تنجزه)) ويقال إن ليوناردو احمر وجهه خجلا، ولكنه لم ينبس ببنت شفة، وسار ميكل أنجيلو في طريقه وهو يكاد يتمزق من الغيظ(21). وأعد ليوناردو صورته التمهيدية بعناية فائقة، فزار موضع المعركة في أنغياري وقرأ التقارير التي كتبت عنها، ورسم عدة صور تخطيطية للخيل والرجال في معمعان القتال أو في حشرجة الموت، وأتيحت له وقتئذ، ما لم يتح له إلا قليلا في ميلان، فرصة إدخال الحركة على فنه، فأفاد منها أكبر فائدة من هول منظره. ذلك أن أحدا من أهلها لم يكن يظن أن أرق الفنانين في فلورنس يستطيع أن يتخيل أو يصور هذه المذبحة الوطنية. ولعل ليوناردو قد أفاد في هذا العمل من تجاربه في حملات سيزارى بورجيا، فاستطاع أن يعبر في صورته عن الأهوال التي ربما رآها أو استخرجها من عقله. ولم يحل شهر فبراير من عام 1505 حتى كان قد فرغ من صورته التمهيدية وشرع يرسم صورته الوسطى - معركة الأعلام - في بهو الخمسمائة.

ولكن شرع الرجل الذي درس الطبيعة والكيمياء والذي لم يكن قد عرف بعد مصير صورة العشاء الأخير وقع مرة أخرى في خطأ موبق. ذلك أنه كان يجري بعض التجارب التي تستخدم فيها الحرارة، ورأى أن يثبت الألوان في الجدار المجصص بالحرارة المنبعثة من موقد على الأرض. وكانت الحجرة رطبة، والشتاء شديد البرودة، فلت تعلو الحرارة علوا كافيا، ولم يمتص الجص الطلاء، وبدأت الألوان التي في أعلى الجدار تسيل، ولم يفلح ما بذله من مجهود جبار في أن يمنع التلف. ونشأت في هذه الأثناء صعاب مالية، فلم يؤجره مجلس السيادة أكثر من خمسة عشر فلورينا (188؟ دولارا) في الشهر، وهو مبلغ ضئيل ينقص كثيرا عن المائة والستين أو نحوها التي كانت مخصصة له في ميلان. ولما أن عرض عليه موظف قليل الكياسة أن يؤدي له أجرة نحاسية رفضها ليوناردو، وترك العمل مجللا بالعار مفعما باليأس، وكل ما كان له من سلوى قليلة هو أن ميكل أنجيلو لم يرسم صورة ملونة بعد أن أتم صورته التمهيدية، لأنه قبل دعوة البابا يوليوس الثاني بالقدوم إلى روما ليقوم بها ببعض الأعمال. وهكذا أخفقت المباراة العظمى إخفاقاً يؤسف له، وكان من أثره أن فلورنس أصبحت حاقدة على أعظم فنانين في تاريخها كله.

وقضى ليوناردو في العمل فترات متقطعة من 1503 إلى 1506 رسم فيها صورة موناليزا أي السيدة إلزبتا الزوجة الثالثة لفرنتشيسكو دل جيوكندو الذي صار عضوا في مجلس السيادة في عام 1512. ولعل طفلا من أبناء فرانتشيسكو دفن في عام 1499 كان من أبناء إلزبتا هذه، ولربما كانت هذه الفاجعة من أسباب الملامح الجدية الحزينة الكامنة وراء بسمات صورة جيوكندا La Gioconda. ةفي وسعنا أن نتبين الروح التي أقبل بها على هذه الصورة الفاتنة التي أمتزج فيها التصوير بالفلسفة، إذا علمنا أن ليوناردو أستدعى صاحبتها إلى مرسمه مرارا كثيرة في هذه السنوات الثلاث، وأنه قد سخر في رسم صورتها جميع أسرار فنه وما فيه من تدرج غير محَس، فيخلع عليها في رقة الضوء والظلال، ويحيطها بمنظر خيالي خلاب من الشجار والمياه، والجبال والسماء، ويكسوها أثوابا من المخمل والساتان، ذات الطيات كل طية فيها في حد ذاتها آية فنية رائعة، ويدرس بعناية عاطفية فائقة العضلات الدقيقة التي تكون الفم وتحركه، ويأتي بالموسيقيين ليعزفوا لها حين تتذكر طفلها، ولم يكن لمئات الموانع والعوائق، وعشرات المصالح التي تشغل باله وتصرفه عن عمله، وما أضطر إليه وقتئذ من كفاح في تصميم صورة انغيارين ولم يكن لهذا كله أثر في وحدة فكرته أو في مثابرته وتحمسه، فبقيت هذه متصلة غير متقطعة.

ذلك إذن هو الوجه الذي أريق في وصفه بحر من المداد على آلاف الصفحات، وهو وجه جميل وإن لم يكن جماله غير مألوف، ولو أن الأنف كان أقصر مما هو لكتبت فيه آلاف أخرى من الصفحات، ولكان في مقدور كثير من صور الغلمان في الزيت أو الرخام - كأية صورة من صور كريجيو - أن تجعل صورة ليزا هذه ذات جمال متوسط لا أكثر. أما الذي رفع من شأن هذه الصورة وخلد شهرتها على مر القرون فهو ابتسامتها وما يصحبها من بريق وليد في عينيها، انثناء إلى أعلى في شفتيها ينم عن السرور الذي لم تحاول كبته. ترى لأي شيء تبتسم؟ أتبتسم لما يبذله الموسيقيون من جهود لتسليتها؟ أم لنشاط الفنان وجده حين يقضي في تصويرها ألف يوم ولا يفرغ منها أبدا؟ أم لأنها ليست مجرد موناليزا تبسم، ولكنها ككل النساء تقول لكل الرجال: ((مساكين أيها العشاق المولهون! إن الطبيعة التي تأمركم بتعمير الأرض واستمرار الخلق تحرق أعصابكم بالنهم السخيف لأجسامنا، وترهق عقولكم فتتوهمون في غير تعقل أن مفاتننا هي المثل الأعلى في الجمال، وترتفع بكم إلى نشوة شعرية لا تلبث أن تخبو إذا نلتم بغيتكم منا - كل هذا لكي تسرعوا تكونوا آباء؟ ترى أيمكن أن يكون هناك سخف أكبر من هذا السخف؟ ولكننا نحن النساء أيضاً نقع مثل الرجال في الشراك، ونؤدي لكم في نظير افتتانكم بنا ثمنا أغلى مما تؤدونه أنتم. ولكن اعلموا أيها البلهاء المحببون أنه يسرنا أن ترغبوا فينا، وأن الحياة تفتدى حين نُحب)). أو هل كانت ابتسامة ليوناردو نفسه هي التي صورت على فم ليزا - هل كانت هي الروح المقلوبة التي يصعب عليها أن تستعيد المسة الرقيقة الناعمة من يد امرأة، والتي لا تؤمن بمصير أيا كان للحب أو العبقرية إلا الانحلال البذيء وقليلا من الشهرة يومض ويخبو في نسيان الإنسان؟ ولما أن انتهت آخر الأمر الجلسات، احتفظ ليوناردو بالصورة، مدعيا أنها هي التي أكثر الصور اكتمالا لا تزال ناقصة. ولعل زوجها لم يكن يعجبه منظر زوجته وهي تثني شفتيها في وجهه ووجه زائريه، فيشاهد ذلك من جدران بيته الساعة تلو الساعة. وابتاع فرانسس الأول هذه الصورة بعد كثير من السنين بأربعة آلاف كراون (50.000 دولار)(22). وعلقها في إطار بقصره في فنتينبلو Fonlainbleau‎‎، وهي الآن معلقة في البهو المربع Salon Carre بمتحف اللوفر بعد أن عدا عليها الزمان، وأبدى الذين حاولا ردها إلى أصلها فطمسوا دقائقها الفنية، ولعلها تتسلى كل يوم بآلاف العابدين، وتنتظر أن تمحو الأيام بسمات موناليزا وتؤكدها.


الفصل الرابع: في ميلان ورومة 1506 - 1516

إننا إذا تأملنا هذه الصورة، وحسبنا عدد ساعات التفكير الطوال التي كانت المرشد الهادي أثناء الدقائق التي قضاها يعمل بفرشاته، إذا فعلنا هذا أعدنا النظر في حكمنا على ما يبدو لنا من تباطؤ ليوناردو وكسله، وأدركنا مرة أخرى أن عمله كان يشمل فيما يشمله ما قضاه في التفكير وفي غير نشاط من أيام يخطئها الحصر، مثله في هذا كممثل المؤلف إذ يتجول في المساء، أو يستلقي على فراشه دون أن يطرق عينه النوم، يضع خطة ما سيكتبه في غده من فصل أو صفحة أو بيت من الشعر، أو يكرر بلسان عقله كلمة وصف جميلة أو عبارة ساحرة خلابة. يضاف إلى هذا أن ليوناردو، في خلال السنوات الخمس التي قضاها في فلورنس والتي شهدت صور العذراء والطفل والقديسة آن بجميع أشكالها، وموناليزا والصورة التمهيدية الوحسية، والمعركة الحامية الوطيس، وجد متسعا من الوقت رسم فيه عدة صور أخرى كالصورة الجميلة لجنيفرا ده بينتشي Ginevra de Benci الموجودة الآن في فينا، وصورة الطفل الفتى المفقودة التي خرج عنها آخر الأمر إلى مركيزة مانتوا (1504) بعد إلحاح شديد، ولكن وكيلها أرسل معها مذكرة كبيرة للدلالة قال فيها "إن ليوناردو قد اصبح يضيق أشد الضيق بالتصوير، ويقضي معظم وقته في الهندسة النظرية"(23). ولعل ليوناردو في أثناء هذه الساعات التي يقضيها متعطلا في الظاهر، كان يدفن الفنان في العالم ويدفن أبليز في فاوست Faust.

غير أن العلم لم يأته بمال، ومع أنه كان يعيش الآن عيشة بسيطة خالية من الترف، فما من شك في أنه كان يتحسر على انقضاء تلك الأيام التي كان فيها أمير الفنانين في ميلان. ولما أن دعاه شارل دا مبواز Chales d' Amboise نائب لويس الثاني عشر في ميلان أن يعود إليها، طلب ليوناردو إلى سدريني شكا من أن ليوناردو لم يعمل بعد ما يقابل المال الذي تقاضاه نظير تصوير معركة انغباري، فما كان من ليوناردو إلا أن جمع المال الذي لا يستحقه وجاء به إلى سدريني ولكنه رفضه. وأراد سدريني آخر الأمر أن ينال رضا ملك فرنس فأذن لليوناردو ان بالذهاب على شريطة أن يعود إلى فلورنس بعد ثلاثة أشهر من ذهابه، وإلا كان عليه أن يؤدي له غرامة قدرها 150 دوقة (1875 ؟ دولار)، وغادر ليوناردو المدينة وبقي في ميلان في خدمة أمبواز Amboise ولويس حتى عام 1513 وإن كان قد عاد لزيارة فلورنس في أعوام 1507، 1509، 1511. وأحتج سديني على بقائه ولكن لويس تغلب عليه بفضل المجاملة الكريمة المستندة إلى قوته الموثوق بها. وأراد لويس ألا يترك في الأمر شيئا من الغموض فعين ليوناردو "مصورا ومهندسا دائما - Peintre et ingenier ordinaire لملك فرنسا".

ولم تكن هذه الوظيفة وظيفة تشريف لا يترتب عليها عمل، فقد كان ليوناردو يعمل لكسب المال الذي يعيش منه، فنحن نسمع عنه مرة أخرى أنه كان يزين القصور، ويخطط القنوات أو يحفرها، ويعد المواكب، ويرسم الصور، ويضع تمثال فارس للمارشال تريفلدسيو Trivulizo ويشترك في دراسات تشريحية مع ماركنتونيو دلا توري Marcontorio delia Torre. والراجح أنه في أثناء مقامه في ميلان صورتين كانتا ثمار الطبقات الدنيا من عبقريته، أولاهما صورة القديس يوحنا المحفوظة في متحف اللوفر ذات المعارف المستديرة المنسوبة، والغدائر المسترسلة والملامح الرقيقة التي من شأنها أن تجمل صورة ترسم لمجدلين Magdelen، والثانية هي صورة ليدا والبجعة (وهي الآن جزء من إحدى المجموعات الخاصة في روما) ذات الوجه الناعم اللحيم الذي يذكرنا بصورة القديس يوحنا وباخوس والتي كانت تعزى قبل إلى ليوناردو، ولكنها في أغلب الظن نسخة من صورة مفقودة أو صورة تمهيدية لهذا الفنان. ولو أن هاتين الصورتين قد قضى عليهما في مهدهما لتضاعفت بذلك شهرته.

وطرد الفرنسيون من ميلان في عام 1512، وبدأ مكسمليان بن لدوفيكو يحكمها حكما قصير الأجل. ومكث ليوناردو فترة قصيرة يكتب مذكرات موجزة في العلوم والفن بينما كانت ميلان تحترق بالنار التي أوقدها فيها السويسريون، غير أنه سمع في عام 1513 أن ليو العاشر اختير لمنصب البابوية، فظن أنه قد يجد في روما الميديتشية مكانا حتى لفنان في الحادية والستين من عمره، فاتخذ سبيله إليها ومعه أربعة من تلاميذه. وفي فلورنس ضم جوليانو ده ميديتشي أخو ليوناردو إلى حاشيته، وخصص له معاشا شهريا قدره ثلاث وثلاثون دوقة (812؟ دولار). ولما وصل ليوناردو إلى روما رحب به البابا المحب للفن، وأسكنه حجرات في قصر بلفدير. ولعل ليوناردو قد التقى هنا برفائيل وسدوما - وما من شك في أنهما قد تأثرا به. وليس ببعيد أن يكون ليو قد عهد إليه بعمل صورة من الصورن وشاهد ذلك أن فارساي ينبئنا بعظم دهشة البابا حين وجد ليوناردو يمزج الطلاء قبل أن يبدأ الرسم. ويروى أن ليو قال وقتئذ: "إن هذا الرجل لن يفعل قط شيئا لأنه يبدأ بالتفكير في آخر مرحلة من عمله قبل مرحلته الأولى"(24). والحق أن ليوناردو لم يعد بعد فنانا، فقد أخذ العلم يستحوذ عليه شيئا فشيئا، فشرع يدرس التشريح في المستشفى، ويشتغل بحل مسائل في الضوء، ويكتب صفحات طوالا في الهندسة النظرية، ويتسلى في أوقات فراغه بعمل عظايا آلية ذات لحية، وقرنين، وجناحين، وجعلهما يخفقان بأن حقنهما بالزئبق، وكان من أثر ذلك أن فقد اهتمام ليو به.

ولكن حدث في ذلك الوقت أن اعتلى لويس الثاني عشر عرش فرنسا، خلفا لفرانسس المحب للفن، واستولى مرة أخرى على ميلان في عام 1515، ويلوح انه دعا ليوناردو لينضم إليه فيها، وودع ليوناردو إيطاليا في عام 1516 وصحب فرانسس إلى فرنسا.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامس: ليوناردو الرجل

ترى أي صنف من الرجال كان هذا الرجل أمير الفن ؟ إن لدينا عدة صور يقال إنها تمثله، ولكن ليس منها واحدة تمثله قبل سن الخمسين.على أن فاساري يحدثنا بحماسه غير مألوفة عن "جمال جسمه الذي لم يوفه إنسان حقه من المديح" كما يتحدث "عن روعة مظهره الذي يبلغ أقصى حدود الجمال، والذي كان بخلع حلة من الصفاء على كل نفس حزينة "؛ غير أن فاسارى لا يحدثنا إلا بما كانت تتداوله الألسنة من الشائعات، وليست لدينا صورة ما تمثل هذه المرحلة من عمره التي بلغ فيها الغاية القصوى من الجمال. وكان ليوناردو حتى وهو في سن الكهولة يطيل لحيته، ويعنى بتعطير جسمه وعقص غدائر شعره. وتكشف إحدى الصور التي رسمها ليوناردو لنفسه، وهي الآن في المكتبة الملكية بونزر Windsor، عن وجه عريض لطيف، وشعر طويل مسترسل، ولحية كبيرة بيضاء. وتظهره صورة فخمة في معروض أفيزى من يد فنان غير معروف ذا وجه قوي، وعينين فاحصتين نافذتي النظرات، وشعر أبيض، ولحية بيضاء، وقبعة سوداء ملساء. وتقول بعض الروايات المأثورة، كما يقول العلماء، إن الصورة العظيمة التي رسمها روفائيل لأفلاطون في مدرسة أثينا إنما هي صورة ليوناردو نفسه (34أ). وثمة صورة طباشيرية له من صنعه محفوظة في معرض تورين Turin يظهر فيها أصلع الرأس إلى منتصف رأسه، مغضن الجبهة، والخدين، والأنف، يكاد شعره يغطي عليه. ويبدو أنه شاخ قبل الأوان، وأنه مات في السابعة والستين من عمره، رغم اقتصاره في طعامه على الخضر، مع أن ميكل أنجيلو، الذي كان يسخر بالقواعد الصحية، والذي تناوبته العلل والأوجاع، عمّرَ حتى بلغ التاسعة والثمانين. وكان يرتدي الملابس الفخمة، على حين أن مايكل أنجيلو كان مهلهل الثياب. وكان ليوناردو مشهوراً بصباه بقوة عضلاته، فكان يثني حذاء الفرس بيديه، وكان مثقفاً ماهراً، يجيد ركوب الخيل وترويضها، وكان يحبها ويراها أنبل الحيوانات وأجملها. والظاهر أنه كان يرسم ويصور بالألوان، ويكتب بيده اليسرى، وكان هذا هو الذي جعله يكتب من اليمين إلى اليسار لا رغبته في أن يجعل ما يكتبه متعذر القراءة.

ولقد أشرنا من قبل إلى أن اللواط لم تكن متأصلة فيه، بل نشأة من الصلة غير المحببة التي كانت قائمة بين زوجة أبيه المثقلة الظهر وبين ابن غير شرعي لزوجها من غيرها. ولهذا فإن حاجته لأن يعطف الناس عليه ويعطف عليهم قد وجدت ما يشبعها في الشبان الحسان الذين جمعهم معه فيما بعد. وكان يرسم من النساء أقل ما يرسم من الرجال، ولم يكن ينكر جمالهن، ولكن يبدو أنه كان يشارك سقراط في تفضيل الغلمان عليهن، وشاهد ذلك أننا لا نجد في ثنايا مخطوطاته الكثيرة كلمة حب أو عطف واحدة على النساء، غير أنه كان يفهم حق الفهم كثيراً من طباع النساء المختلفة، ولم يفقه أحد تصوير رقة العذارى، ولهف الأمهات، ودهاء النساء. ولعل إحساسه المرهف، وتلاعبه الخفي بالألفاظ والقواعد، وإغلاق مرسمه بقفلين أثناء الليل قد انبعثت كلها من إدراكه لشذوذه وخوفه أن يتهم بالإلحاد. ولم يكن حريصاً على أن تقرأه كثرة الناس، وقد كتب في ذلك يقول : " إن الحقائق غذاء أعلى للعقول الراجحة لا للإفهام المتأرجحة"(25)

ولعل شذوذه الجنسي قد أثر في نواحي أخرى من أخلاقه ، فقد كان مثال الرأفة والرقة في معاملته أصدقائه ، ولم يكن يطيق قتل الحيوان ، و(لا يسمح لإنسان أن يؤذى أي كائن حي) (26)؛ وكان يشتري الطيور المحبوسة في الأقفاص ليطلقها (27) ؛ غير أنه كان يبدو بليد الإحساس في بعض النواحي الأخرى . ويلوح أنه قد افتتن أيما افتتان بتصميم أدوات الحرب ، وأنه لم يشعر بغضب قوي على الفرنسيين لأنهم ألقوا في غيابة الحب لدوفكيو الذي ظل ستة عشر عاماً يفق عليه عن سعة في ميلان ، ولقد طاوعته نفسه ، دون أن يبدو عليه شيء من وخز الضمير ، إلى الذهاب لخدمة بورجيا في الوقت الذي كانت تخشى فيه ميلان اعتداءه على حريتها. وكان ككل فنان ، وكل مؤلف ، وكل لوطي ، شديد الإدراك لنقائصه ، مرهف الحس ، كثير الغرور، انظر إلى قوله : " إذا كنت وحدك فأنت كلك ملك لنفسك ، أما إذا كان معك رفيق فأنت نصف نفسك ؛ لأنك بهذا تقسم نفسك كما يهوى رفاقك" (28) ومع أنه كان في وسعه أن يتألق في المجتمعات بوصفه موسيقياً ومحدثاً بارعاً، فإنه كان يفضل العزلة ويقضى وقته منهمكاً في أداء واجباته ، ومن أقواله في هذا المعنى: " إن الحرية أكبر هبات الطبيعة" " ولا شك أنه قال هذا القول لأنه لم يشعر قط بآلام الجوع". وكانت فضائله هي الثمار الطيبة لعيوبه. فربما كانت كراهيته للصلات الجنسية قد أمكنته من أن يصرف قواه في عمله ؛ وما من شك أن إحساسه المرهف قد فتح له آفاق لا تحصى من الحقائق لا تدركها عين الرجل العادي. فقد كان يتتبع طوال النهار، وفى خلال كثير من الشوارع، وجهاً غير عادي، ثم يعود إلى مرسمه ليرسمه رسماً متقناً كأنه جاء بهذا النموذج نفسه معه. وكان عقله يبتهج أشد الابتهاج بالأشياء الشاذة الغريبة سواء كانت أشكالا أو أعمالا أو آ راء غير مألوفة . وقد كتب مرة يقول " إن النيل قد ألقى في البحر من المياه أكثر مما تحتويه الأرض جميعها من ماء في هذه الأيام " ولهذا فإن جميع البحار والأنهار قد مرت بمصب النيل عدداً لا يحصى من المرات" (30). وكانت نزعة شبيهة بهذه هي التي دفعته إلى أساليب الخداع العجيبة؛ من ذلك أنه أخفى في من الأيام في إحدى الحجرات أمعاء كبس نظيفة، ولما أن اجتمع أصدقاؤه في تلك الحجرة، نفخ الأمعاء بمنفاخ في حجرة مجاورة، وظل يفعل هذا حتى التصق الضيوف بالجدران. وقد دون في مذكراته عدداً من الخرافات والنكات في الدرجة الثانية من الفكاهة.

وقد تعاون تشوفه، وشذوذه، وإرهاف حسه، وحرصه الشديد على الكمال، على خلق أكبر عيب من عيوبه وأشدها إيذاء له - نعني بذلك عجزه أو قعوده عن إتمام ما بدأه. ولعله كان يبدأ كل عمل من أعمال الفن لرغبته في أن يحل مشكلة فنية من مشاكل التأليف، أو اللون، أو التصميم، ثم يفقد اهتمامه بالعمل حين يعثر على حل هذه المشكلة. وكان يقول في ذلك: إن الفن هو التفكير والتصميم، لا التنفيذ العملي، ذلك الجهد الخليق بعقول أقل من عقول الفنان، أو أنه كان يصور لنفسه شيئاً دقيقاً، أو معنى من المعاني، أو مستوى من الكمال لا تستطيع يده الوانية الصبورة، والتي تصبح بعدئذ قلقة ضجرة، أن تحققه، فيترك العمل يائساً بعد ما بذل فيه من جهود، كما فعل حين أراد أن يصور وجه المسيح(31). وكان ينتقل مسرعاً من عمل إلى عمل، ومن موضوع إلى موضوع، وكان يولع بكثير من الأشياء ويعوزه الهدف الذي يوحد بين ما يولع به، والفكرة المسيطرة عليه. وقصارى القول أن هذا الرجل "الرجل العالمي" كان مزيجاً من قطع متلألئة، وكانت تتملكه كفايات أكثر من أن يسخرها كلها لتحقيق هدف واحد، ولهذا قال في حسرة آخر الآمر : " لقد أضعت ساعات كثيرة "(32).

وكتب ليوناردو خمسة آلاف صفحة، ولكنه لم يتم قط كتاباً واحداً. وكان من حيث الكم مؤلفاً أكثر منه فناناً، ويقول عن نفسه إنه كتب مائة وعشرون مخطوطاً، بقى منها خمسون. وهي مكتوبة من اليمين إلى اليسار بحروف نصف شرقية تكاد تضفي لوناً من الصدق على القصة القائلة إنه سافر في يوم ما إلى بلاد الشرق الأدنى، وخدم سلطان مصر واعتنق الدين الإسلامي (32). وهو كثير الأخطاء في النحو، وله طريقة خاصة في الهجاء، وقد قرأ في موضوعات مختلفة ولكنها قراءات متقطعة غير منتظمة. وكانت له مكتبة صغيرة تضم سبعة وثلاثين مجلداً تشمل: الكتاب المقدس، وخرافات إيزوب، ومؤلفات ديوجين ليرتيوس، وأوفد، ولفي، ويلني اللأكبر، ودانتي، ويترارك، وجييو، وفيليلفو، وفيتشينو، وبلتشي، ورحلات "منسفليد" ورسائل في العلوم الرياضية، والجغرافية الكونية، والتشريح والطب، والزراعة، وقراءة الكف، وجميع فنون الحرب. ومن أقواله أن " معرفة تاريخ الأيام الخالية، والجغرافية تزين العقل وتغذيه " ولكن أخطاءه التاريخية الكثيرة تدل على أنه لا يعلم من التاريخ إلا أشياء قليلة متفرقة. وكان يأمل أن يصبح كاتباً مجيداً، وبذل عدة محاولات ليرقي بأسلوبه إلى مستوى عالي من البلاغة، كما نشاهد ذلك في وصفه المتكرر للفيضان (35). وقد كتب أوصافاً قوية واضحة لعاصفة ولمعركة (36)، وما من شك في أنه كان يعتزم نشر بعض ما كتب، وكثيراً ما حاول أن ينظم بعض مذكراته لهذا الغرض، ومبلغ علمنا أنه لم ينشر قط شيئاً منها أثناء حياته، ولكنه لا شك قد أجاز لبعض أصدقائه أن يطلعوا على بعض المخطوطات المختارة، لأنا نجد إشارات في كتاباته في كتب فلافيو بندو Flavio Bindo، وجيروم كاردن Jerome Cardan، وتشيليني.

وكان يجيد الكتابة في العلم كما يجيدها في الفن، ويكاد بقسم وقته بالتساوي بينهما. وأعظم مخطوطاته كلها رسائل في التصوير نشرة لأول مرة في عام 1651. ولاتزال هذه الرسالة مجموعة من قطع مفككة مهوشة النظام كثيرة التكرار على الرغم مما بذله المحدثون من جهود في إصدارها، وقد استبق ليوناردو القائلين بأن التصوير لا يعرف إلا بممارسة التصوير، وهو يظن أن المعرفة الطيبة بالنظريات تساعد الفنان في عمله؛ ويسخر من ناقديه ويقول إنهم أشبه "بأولئك الذين قال فيهم دمتروس إنه لا يعنى بالريح التي تخرج من أفواههم اكثر من عنايته بالتي يخرجونها من أجزائهم السفلى". وفكرته الأساسية هي أن من واجب طالب الفن أن يدرس الطبيعة لا أن ينقل رسوم غيره من الفنانين: "احرص أيها الفنان حين تذهب إلى الحقول على أن توجه عنايتك إلىما فيها من أشياء مختلفة، فعليك أن تدقق النظر إلى هذا الشيء أولا ثم إلى داك، وأن تجمع طائفة من الأشياء المختلفة اخترتها من بين أقلها قيمة"(38). وهو يرى بطبيعة الحال أن لابد للفنان من أن يدرس التشريح، وفن المنظور، واستخدام الضوء والظلال، ويقول إن الحدود المعينة تعيناً تظهر الصورة كأنها قطعة من خشب: "واحرص على الدوام على أن ترسم الصورة بحيث لا يتجه الصدر إلى الناحية التي يتجه إليها الرأس"(39)،وذلك سر من أسرار الرشاقة التي نشاهدها في تأليف ليوناردو. ثم يقول آخر الأمر: "ارسم الصور وفيها من الأفعال ما يكفي لأن يظهر ما يدور بخلد صاحبها"(40). ترى هل نسي هذا وهو يرسم موناليزا، أو هل غالى في قدرتنا على أن نقرأ الروح التي تطالعنا في العينين والشفتين؟ ويظهر ليوناردو الرجل في رسومه أوضح وأكثر مراراً مما يظهر في صوره الملونة أو مذكراته. وهذه الرسوم لا يحصى عددها، ففي إحدى المخطوطات وحدها- كودبتشي أطلنطيكو- الموجودة في ميلان ألف وسبعمائة رسم. وكثير منها تخطيطات أولية سريعة، وكثير منها آيات فنية تحملنا على أن نضع ليوناردو في صف أقدر رسامي النهضة، وأدقهم، وأكثرهم تعمقاً، وليس في رسوم ميكل أنجيلو أو رومبرانت ما يضارع صورة العذراء، والمسيح، والقديسة آن المحفوظة في بيت بيرلجتن وكان ليوناردو يستخدم في رسومه الفحم النباتي والطباشير الأحمر أو القلم والمداد يرسم بها مظاهر الحياة الجسمية لا يكاد يترك منها شيئاً وكثيراً من ظواهر الحياة الروحية .. وترى في رسومه عشرات من صور الطفل يسوع يمدون سيقانهم السمينة ذات الخديدات ، وعشرات من الشبان نصف يونانيين في صفحات وجوههم ونصف نساء في أرواحهم، وعشرات من العذارى الحسان ذوات الطلعة المتحاشمة الرقيقة، تتماوج شعورهن في الريح. وترى المولعين بالألعاب الرياضية الفخورين بعضلاتهم، والمحاربين يقتتلون أو تتلألأ على أجسامهم الأسلحة والدروع، والقديسين المختلفي الأشكال من جمال سبستيان الرقيق إلى بشرة جيروم الشاحبة الهزيلة، وترى صوراً لمريم العذراء تريك أن العالم قد أنقذه طفلهن، ورسوماً معقدة من الملابس التي تلبس في الحفلات المقنعة؛ ودراسات للفاعات والطيلسانات والمخرمات، والمآزر تداعب الرءوس أو الأعناق، وتنثني على الذراعين أو تتدلى من الكتفين أو الركبتين في ثنايا تخطف الضوء وتجتذب اللمس، وتبدو أكثر واقعية من الثياب التي نسها على أجسامنا. هذه الأشكال كلها تتغنى بحرارة الحياة وعجائبها، ولكنها تنتثر فيما بينها صور غريبة مرعبة، وأخرى هزيلة- من رءوس مشوهه، وبلهاء يغمزون بالعيون، ووجوه كوجوه الحيوان وأجسام كسيحة، وساء سليطات بتولين من فرط الغضب، وقناديل البحر ذات شعور من الأفاعي، ورجال تمزقت أجسامهم وتقلصت من الشيخوخة، ونساء في المراحل الأخيرة من الانحلال الجسمي. هذه تكون ناحية أخرى من نواحي الواقعية، أحاطت بها عين ليوناردو النزيهة العالمية، وتثبتت منها، ووضعتها في عزم وإصرار على لوحة الرسم، كأنما أراد أن يواجه الشر القبيح في غير مبالاة. وقد أبعد هذه الرسوم التخطيطية المروعة عن صوره الملونة النهائية، حتى لا تخرج عن ولائها للجمال، ولكنه كان عليه أن يجد مكاناً لها في فلسفته. ولعله قد وجد في الطبيعة من المسرة ما لم يجده في الإنسان، ذلك أن الطبيعة محايدة، لا يمكن أن تتهم بأن الشر الذي فيها منبعث من الحقد؛ بل إن كل ما فيها يمكن أن يغتفر إذا نظر إليه بالعين النزيهة. ومن أجل هذا رسم ليوناردو كثيراً من المناظر الطبيعية؛ ولام بتيتشيلي لأنه أغفلها، فتتبع بقلمه خيوط الأزهار تتبع الرجل الأمين؛وقلما كان يرسم صورة دون أن يزيدها سحراً وعمقاً بما يضعه في خلفيتها من الأشجار، ومجاري الماء، والصخور، والجبال، والسحب، والبحار. وكان يبعد الأشكال المعمارية كل البعد عن فنه حتى يفسح بذلك مكاناً للطبيعة لكي تدخل فيه، فتمتص الفرد المصور أو الجماعة المصورة في كلية الأشياء التي تمزجها وتوفق بينها.

ولقد حاول ليوناردو في بعض الأحيان أن يجرب حظه في التخطيط المعماري ولكنه أخفق في ذلك إخفاقاً أرجعه عنه، فنحن نجد بين رسومه رسوماً معمارية للخيال فيها أكبر نصيب، وهي صور غريبة نصف سُوريَّة. وهو يحب القباب، ورسم رسماً تخطيطياً جميلاً لكنيسة أيا صوفيا لكي يقيم لدوفيكو كنيسة مثلها في ميلان، ولكن هذه الكنيسة لم تقم قد على ظهر الأرض. وأرسله لدوفيكو إلى بافيا ليشترك في إعادة تخطيط كنيستها الكبرى، ولكن ليوناردو وجد علماء الرياضة والتشريح في بافيا أكثر متعة وطرافة من الكنيسة. وساءته ضوضاء المدن الإيطالية، وقذارتها، وضيقها وازدحامها، فأخذ يدرس تخطيط المدن، وعرض على لدوفيكو رسماً تخطيطياً لمدينة ذات طابقين. تسير في الطابق الأسفل منها جميع الحركة التجارية "والأحمال التي تتطلبها خدمة السوقة وأسباب راحتهم"؛ أما الطبقة العليا فتتكون من طريق عرضه عشرون براتشيا Braccia(أي نحو أربعين قدماً) مقام على بواك معمدة ولا"تستخدمه المركبات، بل يخصص لراحة الطبقة العليا من الأهلين". وتصل الطابقين في بعض الأماكن سلالم حلزونية، وتتخلل الطبقة العليا في أماكن متفرقة فساقى ترطب الهواء وتنقيه(41). ولم يكن عند لدوفيكو من المال ما يكفي هذا الانقلاب، وبقى أشراف ميلان يعيشون على الأرض.


الفصل السادس: المخترع

إنا ليصعب علينا أن ندرك أن لدوفيكو وسيزاري بورجيا كانايريان أن ليوناردو مهندس قبل أن يكون أي شيء آخر، وحتى المناظر التي وضع تصميمها لدون ميلان كانت تشمل آلات بارعة مبتكرة ذاتية الحركة. ويقول فاساري أنه كان "في كل يوم يصنع نماذج ويضع رسوماً لنقل الجبال في يسر وشقها لييسر الانتقال من مكان إلى آخر، وأن يستعين على جر الأحمال الثقال بالروافع، والآلات الرافعة على اختلاف أنواعها؛ ويبتكر الوسائل لتنظيف المواني ورفع الماء من الأعماق البعيدة الغور(42"). وقد صنع آلات لقطع الخيوط بأشكال لولبية، وسار في الطريق الصحيح الموصل لاختراع الساقية، وابتكر كماحات (فرامل) ذوات سيور(43) وصمم أول مدفع آلي، ومدافع ثقيلة بأجهزة ذات ضروس لزيادة مداها؛ وآلات لنقل الحركة بعدة سيور، وترساً لمضاعفة سرعة الحركة ثلاثة أضعاف، ومفتاحاً مُضَبَّباً قابلاً للضبط، وآله للف المعادن وتدويرها، وقاعدة متحركة لآلة طباعة، وترساً بريمياً ينغلق من نفسه لرفع سلم(44). ووضع خطة للملاحة تحت الماء ولكنه رفض أن يفصح عنها(45)، وأحيا فكرة الآلة البخارية التي قال بها هيرو الاسكندري، وأظهر كيف يستطيع ضغط البخار في مدفع أن يرمي قذيفة من الحديد مدى 1200 ياردة، وابتكر وسيلة للف الخيط وتوزيعه بالتساوي على مغزى دوار(46)، ومقص ينفتح بحركة واحدة من حركات اليد. وكثيراً ما يترك العنان لخياله يغرر به، مثال ذلك أنه اقترح صنع أسكيات (مزالق الثلج) منتفخة للمشي على الماء، أو طاحونة هوائية تعزف على عدة آلات موسيقية في وقت واحد(47). ووصف هابطة بقوله: "إذا أمسك إنسان بخيمة مصنوعة من نسيج التيل، سدت جميع ثقوبها، وكان عرضها اثنتي عشرة ذراعاً وعمقها مثلها، استطاع أن يلقي نفسه من أي مكان عظيم الارتفاع دون أن يصيبه أذى"(48).

وقضى نصف حياته يفكر في مشكلة طيران الإنسان، وكان كما كان تولستوي Tolstoi يحسد الطير ويرى أن جنسها أرقى من الإنسان من نواحي كثيرة. ودرس دراسة مفصلة حركات أجنحتها وذيولها والطرق الآلية لارتفاعها، وانزلاقها، ودورانها، وهبوطها. وكانت عيناه النافذتان تلاحظان هذه الحركات بشغف وتشوق عظيمين، كما كان قلمه السريع يرسمها ويسجلها. ولاحظ كيف تفيد الطير من تيارات الهواء وضغوطه المختلفة، ووضع خطة تسخير الهواء: "ستشرح جناحي الطير وعضلات الصدر التي تحرك هذين الجناحين ؛ ثم تعمل هذا نفسه في الإنسان لكي تظهر هل يستطيع الإنسان أن يبقى في الهواء بتحريك جناحين(49)... وليس ارتفاع الطيور دون أن تحرك أجنحتها إلا نتيجة حركتها الدائرية بين تيارات الرياح(50).... ويجب ألا يكون للطير الذي نصنعه نموذج غير نموذج الخفاش لأن أغشيته ... يمكن أن تتخذ وسيلة لربط إطار الجناحين(51).... والطير آلة تعمل وفقاً لقانون آلي، وفي وسع الإنسان أن يصنع ألة مطابقة لها في جميع حركاتها، وإن لم تكن تماثلها بقوتها(52").

وقد وضع عدة رسوم لآلة لولبية يستطيع الإنسان إذا ضغط عليها بقدميه أن يحرك جناحيها بسرعة تكفي لارتفاعه في الهواء(53).ووصف في مقال قصير في الطيران آلة من صنعه مركبة من قماش منشى من التيل القوي، ووصلات من الجلد، وأربطة من الحرير الخام. وأطلق على هذه الآلة أسم "الطائر" وكتب تعليمات مفصلة لطيرانها وقال(54): إذا ما أديرت هذه الآلة ذات اللولب... بسرعة، فأن هذا اللولب يحدث في الهواء حركته اللولبية فترتفع بذلك إلى أعلى(55).... جرب هذه الآلة فوق الماء، حتى لا يصيبك أذى إذا سقطت(56)...وسيطير "الطائر" العظيم طيرانه الأول ... فيثير دهشة العالم كله ويذيع شهرته في جميع أنحائه؛ ويخلع المجد الأبدي على العش الذي درج منه(57). ترى هل حاول أن يطير فعلاً؟ إن في الكودبتشي أطلنطيكو(58)، إشارة تقول: "في صباح غد، اليوم الثاني من شهر يناير 1496 سأصنع الأربطة وأقوم بالمحاولة". ولسنا نفهم معنى هذه العبارة، ولكن فادسيو كاردانو Fazio Cardano، والد جيروم كاردان العالم الطبيعي (1501-1576) أخبر ولده أن ليوناردو نفسه قد جرب الطيران(59). ويظن بعضهم أنهم لما كسرت ساق أنطونيو أحد مساعدي ليوناردو في عام 1510 كان كسرها وهو يحاول الطيران بآلة من الآت ليوناردو. على أننا لانستطيع التأكد من صحة هذا القول. لكن ليوناردو لم يكن يسير في الطريق الصحيح. ذلك أن الإنسان، حين استطاع الطيران، لم يستطعه لأنه حاكى الطير- إذا استثنينا من ذلك الانزلاق وحده- بل لأنه استخدم الآلة ذات الاحتراق الداخلي في تشغيل مروحة تستطيع دفع الهواء إلى الوراء لا إلى أسفل، وسرعة الاندفاع إلى الأمام هي التي تمكن الطائرة من الطيران إلى أعلى. غير أن أنبل ما يمتاز به الإنسان هو رغبته الشديدة في المعرفة. ونحن حين تروعنا حروب الجنس البشري وجرائمه، وتثبط هممنا أنانية ذوي الكفايات منا وانتشار الفاقة وأبديتها، وتبعث الأسى والحزن في نفوسنا الخرافات والسذاجات التي تزين بها الأمم والأجيال قصر الحياة وحقارتها، نقول إنــّا حين يحدث هذا نحس بأن الجنس البشري ينجو بعض النجاة إذا رأينا أنه يستطيع أن يحتفظ في عقله وقلبه بحلم يرتفع به إلى السماكين مدى ثلاثة آلاف عام منذ راوده لأول مرة في اليوم الذي ذاعت فيه قصة ديدلوس Daedalus وإيكاروس Icarus، وعاد إلى الظهور في المحاولات الفاشلة التي بذلها ليوناردو وآلاف من الناس غيره، ثم تحقق حين تم له ذلك الانتصار المجيد المفجع في عصرنا الحاضر.


الفصل السّابع: العَـــــــالِم

نجد إلى جانب رسوم ليوناردو التخطيطية, على الصفحة نفسها تارة, وتارة أخرى على الصورة المبدئية لرجل, أو امرأة, أو منظر طبيعي, أو آلة, مذكرات يحاول بها عقله النهم المتعطش أبداً إلى المعرفة أن يحل قوانين الطبيعة ويفهم أسرارها وعملياتها. ولعل ليوناردو العالم قد نشأ من ليوناردو الفنان: ذلك ن اشتغاله بالتصوير قد أرغمه على دراسة التشريح، وقوانين النسب وقواعد المنظور، ومقارنة الضوء وانعكاسه، وكيمياء الألوان والزيوت؛ ثم نقلته هذه البحوث إلى بحوث أخرى أكثر منها دقة واتصالا بالتصوير، ذات صلة بتركيب النبات والحيوان ووظائف أجزائه؛ ثم ارتفع من هذه البحوث مرة أخرى إلى الإدراك الفلسفي للقانون الطبيعي العالمي الذي لا تبديل فيه. وكثيراً ما كان الفنان يطل مرة أخرى في العالم؛ فقد يكون الرسم العلمي شيئاً ذا جمال، أو ينتهي بزخرف جميل من الطراز العربي.

وكان ليوناردو ينزع إلى إقامة الطريقة العلمية على الخبرة لا على التجارب العلمية(60)، شأنه في هذا شأن الكثرة الغالبية من علماء عصره. وفي ذلك يقول لنفسه ناصحاً: ((تذكر وأنت تتحدث عن الماء أن تبرز الخبرة أولا ثم العقل))(61). وإذا كانت خبرة الإنسان لا تعدو أن تكون جزءاً صغيراً مجهرياً من الحقيقة، فقد كمل ليوناردو خبرته بالقراءة، وهي الخبرة غير المباشرة. ولهذا أخذ يدرس بعناية الناقد الفاحص كتابات ألبرت السكسوني Albert of Sexony، (62) وعرف بعض آراء روجر بيكن، وألبرتس مجنس، ونقولاس الكوزائي Nicholas of Cusa، وتعلم الشيء الكثير من اختلاطه بلوكا بتشيولي Luca Pacioli، وماركنتونيو دلا توري وغيرهم من أساتذة جامعة بافيا، ولكنه كان يعرض كل شيء على محك تجاربه، ويقول، ((كل من يعتمد على المراجع في مناقشة الأفكار إنما يعمل بذاكرته لا بعقله))(63). وكان أقل مفكري عصره غموضاً وخفاء، ورفض تصديق الكيمياء الكاذبة والتنجيم، وكان يرجو أن يحين الوقت الذي ((يحصى فيه جميع المنجمين))(64).

وحاول أن يجرب نفسه في العلوم كلها تقريباً، فأخذ يدرس الرياضيات في حماسة بالغة لأنه وجدها أنقى صورة من صور التفكير والاستدلال، وكان يشعر بشيء من الجمال في الأشكال الهندسية، ورسم بعضها في نفس الصفحة التي كان يدرس فيها صورة العشاء الأخير. وقد عبر تعبيراً قوياً عن مبدأ من مبادئ العلم الأساسية حين قال: ((لا تكون حقيقة حيث لا يستطيع الإنسان أن يطبق علماً من العلوم الرياضية أو أي واحد من العلوم التي تقوم عليها))(66)؛ وردد في فخر صدى قول أفلاطون: ((فليمتنع غير العالم الرياضي عن قراءة عناصر كتابي))(67).

وقد افتتن بعلم الفلك، وعرض ((يصنع منظاراً يرى به القمر كبيراً))(68)، ولكن يبدو أنه لم يصنعه، وكتب في ذلك يقول: ((إن الشمس لا تتحرك ... وليست الأرض في مركز دائرة الشمس، ولا هي في مركز الكون))(69)و ((للقمر في كل شهر شتاء وصيف))(70). وله بحث دقيق في البقع السوداء التي تظهر على القمر، ويعارض من هذه الناحية آراء ألبرت السكسوني(71). وقد اهتدى ببعض آراء ألبرت هذا فقال أنه لما كانت ((كل مادة ثقيلة تحدث ضغطاً إلى أسفل، ولا يمكن أن تبقى معلقة إلى ما شاء الله، فإن الأرض كلها يجب أن تكون كروية )) وستغطى آخر الأمر بالماء(72).

ولاحظ وجود القواقع البحرية المتحجرة على المرتفعات العالية فستنتج من وجودها أن المياه قد وصلت إلى هذه المرتفعات(73).( وقد أشار بوكاتشيو إلى هذا حوالي عام 1338 في كتابه فيلوكويو(74)). ورفض فكرة الطوفان العام(75). وأرجح وجود الأرض إلى عهد قديم كان من شأنه أن يصدم مشاعر المؤمنين في عصره لو كان في عصره مؤمنين، وحدد للمواد التي قذف بها نهر اليو في البحر زمناً يبلغ 000،200 عام، ورسم خريطة لإيطالية بالشكل الذي تصور أنها كانت عليه في حقبة جيولوجية قديمة، وظن أن الصحراء الكبرى كانت في وقت ما تغطيها المياه الملحة(76)، وقال إن الجبال قد كونها التحات الناشئ من فعل مياه الأمطار(77)، وإن قاع البحر دائب على الارتفاع بفعل رواسب الأنهار التي تصب فيه، وإن ((أنهاراً جد عظيمة تجري تحت سطح الأرض))(78)، وإن سريان الماء الباعث للحياة في جسم الأرض يقابل حركة الدم في جسم الإنسان(79)، وإن سدوم وعمورة لم يدمرها خبث بني الإنسان، بل دمرتها القوى الجيولوجية البطيئة، وأكبر الظن أن هذه القوى هي انخفاض أرضهما في البحر الميت(80). وكان ليوناردو يتتبع في نهم ما حدث من التقدم في علم الطبيعة على أيدي جان بردان Jean Buridan وألبرت السكسوني Albert of Saxony في القرن الرابع عشر، وكتب مائة صفحة عن الحركة والثقل، ومئات أخرى عن الحرارة، والسمعيات، والبصريات، والألوان، وعلم نواميس السوائل المتحركة (الهيدروليكا)، والمغنطيسية. ويقول ((إن علم الميكانيكا هو فردوس العلوم الرياضية، لأن به يستطيع الإنسان أن يجني ثمار الرياضيات)) في العمل النافع(81). وكان يجد متعة كبيرة في البكرات، والرافعات الكبيرة والصغيرة، ويرى أنه لا حد للأشياء التي تستطيع أن ترفعها أو تحركها، ولكنه كان يسخر ممن يبحثون عن الحركة الدائمة، ويقول في هذا: ((إن القوة مع الحركة المادية، والثقل مع الاصطدام هي القوة الأربع العارضة التي يرتكز فيها وجود جميع أعمال بني الإنسان وغاياتها))(82). لكنه رغم هذا الميول لم يكن إنساناً مادياً، بل إنه كان على عكس هذا، ودليلنا على ذلك أنه عرف القوى بأنها((مقدرة روحية...روحية لأن الحياة التي بها خفية لا ترسم وليس لها جسم.. ولا تُحَس لأن الجسم الذي تتكون فيه لا يزداد في حجمه ولا في وزنه))(83).

ودرس انتقال الصوت ورد الوسط الذي ينتقل فيه إلى أمواج الهواء، وقال: ((إذا ضرب وتر العود... نقل الحركة إلى وتر مثله له نفس النغمة على عود آخر، وفي وسع الإنسان أن يتأكد من هذا بوضع قشة على الوتر المشابه للوتر الذي ضرب))(84). وكانت لديه فكرته الخاصة عن المسرة (التلفون): ((إذا وقفت مركبة، ووضعت رأس أنبوبة طويلة في الماء، ووضعت طرفها الآخر على أذنك، سمعت حركة السفن الأخرى البعيدة عنك؛ وفي وسعك أن تصل إلى هذه النتيجة نفسها إذا وضعت رأس الأنبوبة على الأرض، فتسمع صوت أي إنسان يمر على بعد منك))(85).

لكنه كان يولى الإبصار والضوء من الاهتمام أكثر مما يولي الصوت، وكانت العين تثير عجبه: ((منذا الذي يعتقد أن هذه البقعة الصغيرة تستطيع أن تحتوي صور العالم أجمع))(86)وكان مما يثير دهشته أعظم مما تثيره العين قدرة العقل على أن يستعيد الصور التي مرت به من زمن بعيد. ولقد كتب وصفاً غاية للجودة للطريقة التي تستطيع بها عدسات المنظار أن تعوض ضعف عضلات العينين(87). وشرح عملية الإبصار على أساس مبدأ ((آلة التصوير ذات الصندوق المظلم)): ففي آلة التصوير وفي العين تقلب الصور بسبب التقاطع الهرمي للأشعة الضوئية التي تنبعث من الجسم إلى آلة التصوير أو إلى العين(88). وحلل انكسار ضوء الشمس في قوس قزح، وكان يعرف كما يعرف ليون باتستا ألبرتي الشيء الكثير عن الألوان المتممة قبل أن يقوم متشل شفرول Michel Chevreul بعلمه الحاسم بهذا الموضوع بأربعة قرون(89).

وقد وضع أساس عدد لا يحصى من المذكرات وبدأ بكتابتها وتركها لمن جاءوا بعده، وكتب رسالة عن الماء، لأن حركة الماء خلبت لبه وبهرت عينيه، فأخذ يدرس مجاري الماء الساكنة والمضطربة، ومياه العيون والشلالات، والفقاقيع والزبد، والسيول، وهطول المطر من السحب، واشتداد هبوب الريح وسقوط المطر في وقت واحد. وكتب ذلك مكرراً قول طاليس Thales بعد ألفي عام ومائتين من أيامه يقول: ((لولا الماء لما وجد لدينا شئ على الإطلاق))(90). واستبق باسكال Pascal إلى مبدئه الأساسي في توازن الموائع (hydrostatics)- وهو أن الجسم المائع ينقل ما يحدث عليه من الضغط(91). ولاحظ أن السوائل في الأواني المستطرقة تكون ذات ارتفاع واحد(92). وإذا كان قد ورث عن ميلان تقاليدها في هندسة السوائل المتحركة. فقد صمم وأنشأ القنوات، وأشار إلى السوائل التي يمكن اتباعها لإنشاء القنوات الصالحة للملاحة تحت الأنهار التي تجتازها أو فوقها، وعرض أن يحرر فلورنس من حاجتها إلى ميناء بيزا بتحويل مجرى نهر الآرنو من فلورنس حتى البحر إلى قناة(93). هذا ولم يكن ليوناردو حالماً يضرب في اثنتي عشر حياة لا حياة واحدة.

ووجد عقله اليقظ إلى((التاريخ الطبيعي)) مسلحاً في هذا التوجيه بكتاب ثيوفراسطوس الحجة في النبات. فأخذ يفحص؛ نظام ترتيب الأوراق على السوق والغصون، وصاغ قوانينها. ولاحظ أن الحلقات التي تشاهد على مقطع مستعرض لجذع شجرة تدل بعددها السنين التي عاشتها تلك الشجرة، كما يدل عرضها على مقدار ما كان في ذلك العام من رطوبة(94). ويبدو أنه قد خدع كما خدع أهل زمانه في قدرة بعض الحيوانات على شفاء أمراض معينة بوجودها مع المرضى أو بلمسهم إياها(95). لكنه كفر عن هذا الارتكاس إلى التخريف غير اللائق بالعلماء بأن بحث تشريح الخيل تشريحاً كاملا ودقيقاً إلى حد لا نجد له نظيراً فيما سبقه من التاريخ المدون. وقد أعد رسالة خاصة في هذا الموضوع، ولكنها ضاعت في أثناء احتلال الفرنسيين ميلان. وكاد هو يفتتح عهد التشريح المقارن بدراسة أطراف الإنسان والحيوان بوضع بعضها إلى جانب بعض. واطرح وراء ظهره سلطان جالينوس الذي طال به العهد، وأخذ يعمل معتمداً على الأجسام دون غيرها، ولم يكتف بوصف تشريح الإنسان بالقول بل أضاف إلى أقواله الرسوم التي فاقت كل ما رسم قبلها في هذا الميدان، وأعد العدة لوضع كتاب في هذا الموضوع، وترك له مئات من المذكرات والرسوم الإيضاحية، وقال إنه ((شرح أكثر من ثلاثين جثة آدمية))(96). ومما يؤيد صحة قوله هذا رسومه التي يخطئها الحصر للجنين، والقلب، والرئتين، والهيكل العظمي، والجهاز العضلي، والأمعاء، والعين، والجمجمة، والخ، والأعضاء الرئيسية في المرأة. وكان هو أول من أمدنا بوصف علمي، عن طريق الرسوم والمذكرات المدهشة الواضحة، للرحم، كما أمدنا بوصف دقيق للثلاثة الأغشية التي تغلف الجنين. وكذاك كان هو أول من رسم تجويف العظم الذي يرتكز عليه الخد والمعروف الآن بجيب هايمور Antrum of Highmore. وقد صب الشمع في صمامات قلب ثور ميت لكي يحصل بذلك على بصمة مضبوطة لتجويفه. وكان أول من ميز الرباط المعدل للبطين الأيمن(97). وقد افتتن أيما افتتان بشبكة الأوعية الدموية، وفطن إلى وجود دورة الدم، ولكنه لم يدرك جهازها كل الإدراك. وكتب في ذلك يقول: ((القلب أقوى كثيراً من سائر العضلات.... وليس الدم الذي يعود إلى القلب حين ينفتح هو نفس الدم الذي يغلق الصمامات))(98). وقد تتبع سير أوعية الجسم الدموية، وأعصابه، وعضلاته بدقة كبيرة، وقال إن السبب في الشيخوخة هو تصلب الشرايين، وإن سبب هذا التصلب هو قلة الرياضة الجسمية(99).وبدأ كتاباً عن النسب الصحيحة لجسم الإنسان ليكون ذلك عوناً للفنانين، وقد ضمن صديقه بتشيولي Pacioli كتابه في النسب المقدسة بعض آرائه في هذا الكتاب. وقد حلل الحياة الجسمية للإنسان من مولده إلى موته، ثم شرع يوضح حياته العقلية: ((ألا ليت الله يمن علي بأن أشرح أيضاً الأحوال النفسانية لعادات الإنسان بنفس الطريقة التي أصف بها جسمه :))(100).

وبعد، فهل كان ليوناردو من كبار العلماء؟ إن ألكسندر فن همبولدت Alexander Von Humboldt يرى أنه ((أعظم علماء الطبيعة في القرن الخامس عشر))(101). ويصفه وليم هنتر بأنه ((أعظم علماء التشريح في عصره))(102).غير أنه لم يكن مبتكراً بالقدر الذي يظنه همبولدت، فقد جاءته كثير من آرائه في علم الطبيعة من جان بردان، ةألبرت السكسوني، وغيرهما ممن سبقوه. وكان يقع في أغلاط شنيعة، منها قوله في بعض ما كتبه ((إن أي سطح مائي ملاصق للهواء يمكن أن يكون في يوم ما أقل من سطح البحر))(103)، ولكن هذا الأغلاط جد قليل إلى حد يدعو للدهشة في هذا القدر الجم من المذكرات التي تكاد تشتمل كل موضوع على سطح الأرض أو في السماء. أما أقواله في الميكانيكا النظرية فهي أقوال الهاوي ذي التفكير الراقي والعقل الحصين؛ وإذا ذكرنا أنه كان يعوزه التدريب والآلات، والزمن، وأنه بلغ ما بلغ رغم هذه العوائق الجمة، ورغم كدحه في الأعمال الفنية، فإنا لا نستطيع أن نحاجز أنفسنا عن القول بأن ما وصل إليه في العلم لهو من معجزات ذلك العصر المعجز.

وكان ليوناردو يرتفع في بعض الأحيان من دراساته في هذا الميادين الكثيرة إلى عالم الفلسفة: ((ألا أيتها الضرورة العجيبة : إنك بقوة العقل الأعلى تلتزمين كل النتائج بأن تكون الأثر المباشر لعللها؛ كما أنك بقوة القانون الأعلى الذي لا ينقض تلتزمين كل عمل طبيعي بأن يعطيك وأن يتبع في هذه الطاعة أقصر عملية مستطاعة))(104). وإنا لنستمتع في هذه الأقوال إلى نغمة العلم القوية في القرن التاسع عشر، وهي توحي بأن ليوناردو قد نفض عنه بعض العقائد الدينية. وقد كتب فاسارى في الطبعة الأولى لسيرة الفنان يقول إنه كان من بين ((طائفة من أصحاب العقول الملحدة، فلم يكن يؤمن بأي دين من الأديان، ولعله كان يرى أنه يفضل أن يكون فيلسوفاً عن أن يكون مسيحياً))(105)- غير أن فارساى حذف هذه الفقرة من الطبعات التالية. وكان ليوناردو من حين إلى حين يلمز رجال الدين بعض اللمزات؛ فقد سماهم ((الفريسيين، وأتهمهم بأنهم يخدعون السذج بالمعجزات الكاذبة، وسخر ((العملة الزائفة)) أي الصكوك السماوية التي كانوا يستبدلون بها نقود هذا العالم(106).وكتب في أحد أيام الجمعة الحزينة يقول : ((اليوم يلبس العالم كله ثوب الحداد لأن إنساناً واحداً مات في الشرق))(107). ويلوح أنه كان يعتقد أن الموتى من القديسين عاجزون عن سماع ما يوجه إليهم من الدعوات (108). ((ليت لي من قوة البيان ما أستطيع به أن أؤنب الذين يعظمون عبادة الآدميين فوق عبادة الشمس.... وإن الذين يرغبون في أن يتخذوا الآدميين أرباباً يعبدونهم ليقعون في خطأ شنيع))(109). وكان أكثر من سائر فناني النهضة تحرراً في تصوير العقائد المسيحية : فقد منع تصوير الهالات فوق الرؤوس، ووضَع العذراء على ركبتي أمها، وجعَل الطفل عيسى يحاول أن يركب ظهر الحمل الرمزي. وكان يرى أن العقل جزء من المادة، ويؤمن بوجود نفس روحية، ولكنه فيما يبدو كان يظن أن النفس لا تستطيع أن تعمل إلا عن طريق المادة، ووفقاً لقوانين ثابتة لا تتبدل(110)؛ وكتب يقول : ((النفس لا تفسد قط بفساد الجسم))(111)، ولكنه أضاف إلى هذا قوله : إن ((الموت يقضي على الذاكرة، كما يقضي على الحياة))(112)، وإن ((النفس لا تستطيع أن تعمل أو تحس بغير الجسم))(113). وكان إذا خاطب الإله خاطبه بتذلل وتحمس في بعض الفقرات(114)، ولكنه كان في أحيان أخرى يقول إن الله هو الطبيعة، والقانون الطبيعي، و((الضرورة))(115)؛ وقد ظلت وحدة الوجود الصوفية دينه الذي يؤمن به إلى آخر أيام حياته.


الفصـــل الثامن: في فرنسا 1516-1519

جاء ليوناردو إلى فرنسا في الرابعة والستين من عمره، وهو مريض، وسكن مع رفيقه الوفي فرانتشيسكو ملدسي francesco Melzi، وهو شاب في الرابعة والعشرين، في بيت جميل في كلو Cloux بين بلدة أمبواز وقصر أمبواز على نهر اللوار، وكان وقتئذ مسكناً للملك يتردد عليه، وكان العقد الذي بينه وبين فرانسس الأول ينص على أنه ((مصور الملك. ومهندسه، الفني والمعماري، والمشرف على آلات الدولة، نظير مرتب سنوي قدره سبعمائة كرون (8750دولاراً أمريكياً). وكان فرانسس رجلا كريماً يقدر العبقرية حتى في عهد اضمحلالها. وكان يستمتع بحديث ليوناردو ((ويؤكد))، كما يقول تشييني ((إن العالم لم يشهد قط رجلا يعرف ما يعرفه ليوناردو؛ وليس ذلك في النحت، والتصوير، والعمارة فحسب، بل إنه فوق ذلك فيلسوف عظيم(116))) وقد أدهشت رسوم ليوناردو التشريحية أطباء البلاط الفرنسي. وضل وقتاً ما يكدح لكي يكسب مرتبة بعرق جبينه؛ فكان ينظم المواكب والحفلات التنكرية للاستعراضات الملكية، وعمل في مشروعات توصيل نهري الوار والساءون بقنوات،وتجفيف مستنقعات سالونيSalogne،(117) ولعله قد اشترك في تخطيط أجزاء من قصر اللوار؛ وثمة شواهد تربط اسمه بجمال شامبورChambord البارع(118). وأكبر الظن أنه قلما كان يشتغل بالتصوير بعد عام 1517، فقد أصيب في ذلك العام بنوبة شلل عطلت جانبه الأيمن عن الحركة. نعم إنه كان يصور بيده اليسرى ولكن الصور التي تتطلب العناية الكبيرة كانت تحتاج إلى كلتا يديه.


ولم يكن في ذلك الوقت إلا حطاماً مغضن الجسم من ذلك الشاب الذي وصل جمال جسمه ووجهه إلى فاساري خلال نصف قرن من الزمان. وضعفت ثقته بنفسه، وكانت من قبل موضع فخاره، واستسلمت روحه الصافية إلى آلام الضعف والانحلال، وحل الأمل محل حب الحياة. وكتب وقتئذ وصية بسيطة، ولكنه طلب أن تقام جميع الصلوات والمراسيم الكنسية على جنازته، وكان قد كتب مرة يقول: ((إن الحياة التي تقضى في الخير تجعل الموت حلواً، كما أن اليوم الذي ينفق على خير وجه يجعل النوم مريحاً لذيذاً))(119).

ويروي فاساري قصة مؤثرة عن وفاة ليوناردو في اليوم الثاني من شهر مايو سنة 1519 بين ذراعي الملك، ولكن يلوح أن فرانسس كان وقتئذ في مكان آخر غير الذي توفى الفنان فيه(120). وقد دفنت جثته في الطريق المقنطر بكنيسة سان فلورنتين في أمبواز. وكتب ملتزي إلى اخوة ليوناردو يبلغهم نبأ وفاته وأضاف إلى ذلك قوله : ((إني لعاجز عن أن أعبر عما قاسيته من الألم بسبب موته؛ ومادام فيّ رمق من الحياة سأظل أعيش في شقاء أبدي.وسبب ذلك واضح معروف. ذلك أن فقد رجل مثله مصدر حزن لجميع الناس، لأنه ليس في مقدور الطبيعة أن توجد رجلا آخر من نوعه، فلينزل الله العلي سبحانه وتعالى السكينة على روحه إلى أبد الدهر))(121).

ترى في أية مرتبه من مراتب الخلق نضعه وإن كنا لا نعرف هل فينا من العلم وضروب الحذق المتنوعة ما نستطيع بهما أن نحكم على هذا الرجل المتعدد الكفايات. إننا نفتتن بمواهبه العقلية المتنوعة أفتتاناً يغرينا بالمبالغة فيما قام به من الأعمال؛ ذلك أنه كان في التفكير أخصب منه في التنفيذ؛ ولم يكن هو أعظم العلماء، أو المهندسين، أو المصورين، أو المثالين، أو المفكرين في عصره؛ وكل ما في الأمر أنه كان الرجل الذي جمع كل هذه المواهب في شخصه، وكان في كل ميدان من ميادينها يضارع أحسن من برز فيه؛ وما من شك في أنه كان في مدرسة الطب رجال يعرفون فن التشريح أكثر مما يعرف هو؛ ولقد تمت أعظم الأعمال الهندسية في إقليم ميلان قبل أن يجئ ليوناردو؛ وخلف رفائيل وتشييان مجموعة من الصور الجميلة أكثر مما بقي لدينا من رسوم ليوناردو؛ وكان ميكل أنجيلو أعظم منه في فن النحت، كما كان مكيفلي وجوتشيارديني Guicciardini أعمق منه تفكيراً. ومع هذا فأكبر الظن أن دراسات ليوناردو للحصان كانت خير دراسات في التشريح حتى ذلك اليوم. ولقد اختاره لدوفيكو وسيزاري بورجيا مهندساً لهما وآثراه على جميع رجال إيطاليا؛ وليس في صور روفائيل أو تيشيان، أو ميكل أنجلو ما يضارع صورة العشاء الأخير لليوناردو؛ وليس بين المصورين من بلغ مبلغ ليوناردو في دقة التدرج في الألوان تدرجاً غير محس، أو في التصوير الدقيق للمشاعر والأفكار والحنان الوجداني، ولم يقدر تمثال من تماثيل ذلك العصر بالدرجة التي قدر بها تمثال اسفوردسا الجصي، وليس في الصور كلها صورة تفوق صورة العذراء والطفل والقديسة آن؛ وليس في فلسفة النهضة ما يعلو على إدراك ليوناردو لماهية القانون الطبيعي.

ولم يكن هو نموذج ((رجل النهضة)) لأنه كان من أكثر ذلك الطراز دقة ودماثة، وكان مسرفاً في الانطواء على نفسه، وأرق أخلاقاً من أن يمثل عصراً شديد العنف والسلطان في القول والعمل. كذلك لم يكن هو ((الرجل الجامع)) للكفايات، لأن صفات الحاكم أو الإداري لم يكن لها مكان في مواهبه المتعددة، ولكنه كان رغم قصوره ونقائصه أكمل رجل في النهضة، بل لعله كان أكمل رجل في جميع العصور. وإذا ما فكرنا فيما قام به من جلائل الأعمال، أدهشتنا المسافة الشاسعة التي بعد بها هذا الرجل عن نشأته، وتجدد إيماننا بما يستطيع الجنس البشري أن يبلغه.


الفصل التاسع: مدرسة ليوناردو

وترك ليوناردو وراءه في ميلان سرباً من الفنانين الشبان بلغ إعجابهم به درجة تحول بينهم وبين الابتكار. ولدينا صور على الحجر لأربعة منهم - جيوفني أنطونيو بولترفيو Giovanni Antanio Boltraffio، وأندريا سالينوAndrea Salino، وقيصاري دا سستو Caesare Da Sesto وماركو دجيونوMarco ? Oggion- على قاعدة تمثال ليوناردو الأبوي في البياتسا دلا اسكالا Diazza della Scala في ميلان. وكان له تلاميذ غير هؤلاء نذكر منهم أندريا سولاري، وجودتزيو فيراري، وبرنردينو ده كونتي، وفرانتشسكو ملدسي....وقد عملوا جميعاً في مرسم ليوناردو، وتعلموا كيف يقلدون رشاقة الخطوط دون أن يصلوا إلى دقته أو عمقه.واعترف مصوران آخران بأنه أستاذهما، وإن لم نكن واثقين من أنهما عرفاه شخصياً، أولهما جيوفني أنطونيو باتسي Giovanni Antonio Bazzi الذي سمح لنفسه بأن ينحدر إلينا خلال عصور التاريخ باسم سودوما Sodoma، ولعله قد قابله في ميلان أو رومة؛ وثانيهما برنردينو لوينيBernardino Luini الذي كان يسرف في تقدير العاطفة، ولكن هذا الإسراف كان صريحاً جذاباً يبعد عنه اللوم. وكان يختار لموضوعاته المتكررة صورة العذراء و طفلها، ولعله كان يرى إن هذا الموضوع الذي تكرر حتى أصبح أكثر الموضوعات التصويرية إثارة للسآمة والملل هو أرقى ما تمثل به الحياة بوصفها سلسلة متصلة الحلقات: من المواليد، ومن الحب الذي يعلو على الموت، ومن الجمال النسوي الذي لا يتضح أبداً إلا في الأمومة. ولقد بز أتباع ليوناردو على بكرة أبيهم في إدراكه رقة أستاذه النسوية، وما في ابتسامة ليوناردو من حنان - لا غموض؛ وليست صورة الأسرة المقدسة التي في الأمبروازيانا في ميلان إلا نسخة أخرى لطيفة من صورة العذراء والطفل والقديسة آن التي رسمها المعلم نفسه، وكذلك جمعت صورة الاسبوز اليدسيو Sposalizio الموجودة في ساروني Saronne جميع ماصوره كريجيو من رشاقة. ويبدو أنه لم يكن يشك قط، كما يشك ليوناردو. في القصة المؤثرة، قصة الفتاة الفلاحة التي حملت بالإله؛ وقد رقق الخطوط والألوان في صوره بما وهب من التقوى الساذجة التي قلما كان يشعر بها ليوناردو أو يمثلها؛ وإن الرجل المتشكك الغير راضي عن تشككه الذي يسعه رغم هذا أن يعظم الأسطورة الجميلة الملهمة، ليقف أمام صورتي نوم الطفل الرضيع يسوع، وعبادة المجوس أطول مما يقف أمام صورة القديس يوحنا لليوناردو، كما أنه يجد فيهما من الإشباع والصدق أعمق مما يجده في صور ليوناردو.

وانقضى عصر ميلان العظيم بانقضاء هؤلاء الفنانين الظرفاء، وقلما كان المهندسون، والمصورون، والمثالون، والشعراء، الذين خلعوا على بلاط لدوفيكو صورة ذات روعة وبهاء منقطعتي النظير، قلما كان هؤلاء من أبناء ميلان نفسها، وقد بحث كثيرون منهم عن مراع أخرى لهم لما سقط الحاكم المطلق الرقيق. ولم يبرز في الفوضى والذلى اللتين أعقبتا ذلك العصر فنان ذو شأن يحل محلهم، وكان القصر والكنيسة وحدهما هما اللذين يذكران الإنسان بعد جيل من ذلك الوقت بأن ميلان ظلت عشر سنين عظيمة - هي العشر السنوات الأخيرة في القرن الخامس عشر - تتزعم موكب الحضارة في إيطاليا.