قصة الحضارة - ول ديورانت - م 5 ك 3 ب 6

صفحة رقم : 6609

قصة الحضارة -> النهضة -> مسرح الحوادث الإيطالية -> ميلان -> ما وراء الأحداث


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الثالث: مسرح الحوادث الإيطالية 1378 - 1534

الباب السادس: ميلان

الفصل الأول: ما وراء الأحداث

إننا نظلم النهضة حين نركز دراستنا على مدائن فلورنس، والبندقية، وروما، ذلك أن النهضة ظلت نحو عشر سنين هي اكثر بهاء في ميلان تحت حكم لدوفيكو Lodovico وليوناردو منها في فلورنس، وكانت إزبلا دست Isabella D'Este في مانتوا خير من تجلى في شخصها تحرير النهضة للمرأة والارتفاع بشأنها، وأعلت النهضة كذلك من شأن بارما Parma بظهور برجينو، كما أعلت من شأن ارفيتو Orvieto بظهور سينوريلي Siqnorelli. وبلغ أدب النهضة ذروته على يد أريستو Ariosto في فيرارا، كما بلغ أثرها أعلاه في تهذيب الأخلاق في اربينو Urbrino أمام كستجليوني، وهي التي خلعت أسم فياندسا Faenza على فن من فنون الخزف وأسم فيتشندسا على الطراز المعماري البلاسي Palladian في تلك المدينة، واعادت الحياة إلى سينا Siena حين أنجبت بنتورتشيو، وإلى ساسيتا Sassetta وسادوم Sadom وجعلت نابولي موطنا ورمزا للحياة المرحة وشعر الأناشيد. ولهذا نرى من واجبنا ان نمر على مهل في شبه الجزيرة التي لا نظير لها في أشباه الجزائر من بيدمنت Piedmont إلى صقلية، ونتيح الفرصة للأصوات المتنوعة الخارجة من مدائنها تمتزج في النشيد المتعدد النغمات الذي تترنم به النهضة.

لم تكن الحياة الاقتصادية في الدول الإيطالية خلال القرن الخامس عشر أقل تنوعا من مناخ المدن، ولهجاتها، وأزيائها. فقد كان شمالي شبه الجزيرة ينتابه أحيانا شتاء قارس تتجمد فيه مياه نهر البو من منبعه إلى مصبه، بينما كان الإقليم الساحلي المحيط بجنوى والذي تحميه الألب الليجورية Lligurian Alps يستمتع بجو معتدل يكاد يدوم طول العام. وكان الضباب يلف قصور البندقية، وأبراجها، وشوارعها المائية، وكانت روما مشمسة ولكن العفن يتصاعد في سماءها، أما نابلي فهي الفردوس في مناخها. وكانت هذه المدائن أينما وجدت وما يتصل بها من أقاليم الريف تنتابها من حين إلى حين تلك الزوابع، والفيضانات، والحدب، والأعاصير، والمجاعات، والأوبئة، والحروب، التي لا تنفك الطبيعة تسيرها على العالم لتوازن بها إسراف بنى الإنسان في التناسل والإخصاب كأنها تتبع في ذلك تعاليم مالتس Malthus . وكانت الحرف اليدوية القديمة تمد فقراء المدن بالكفاف من العيش كما تمد الأغنياء بأسباب الترف، ولم يصل إلى مرحلة المصانع ورؤوس الأموال إلا صناعة النسيج، من ذلك أن إحدى مصانع الحرير في بولونيا تعاقدت مع ولاة الأمور في المدينة على أن تخرج من الغزل "ما تخرجه 4000 امرأة غازلة"(1) وكانت في تلك المدن طبقة وسطى من خليط من صغار البائعين، وتجار الواردات والصادرات، والمدرسين، والمحامين، والأطباء، ورجال الإدارة، والسياسة، وكانت طبقة من رجال الدين الأثرياء المهتمين بشئون هذه الدنيا تضيف بهرجها ورشاقتها إلى الأبهاء والشوارع، كما كان الرهبان على ‎اختلاف طوائفهم، النكدون منهم والمرحون، يجوبون البلاد طلباً للصدقات أو المغامرات. وكان الأعيان من الملاك ورجال المال يعيشون أكثر ما يعيشون داخل أسوار المدن، ويسكنون أحياناً في قصور ريفية. وكان يتزعم هذه الطائفة من الأعيان صاحب مصرف، أو مغامر حربي مستأجر، أو مركيز، أو دوق، أو دوج، أو ملك هو وزوجته أو عشيقته مثقل بأسباب الترف ومزدان بثمار الفن، يرأس داراً للقضاء. أما في الريف فكان الفلاح يحرث فدادينه القليلة أو بعض أملاك سيد المقاطعة، ويعيش عيشه الفرقة التي ألفها منذ أجيال حتى لم تعد تخطر له على بال.

وكان الرق قائماً في نطاق ضيق، وكان أكثر ما يقوم به الأرقاء هو خدمة الأغنياء، كما كانوا في بعض الأحيان يكملون بعملهم ما يقوم به العمال الأحرار في الضياع الكبيرة أو يصلحون ما فسد من هذه الأعمال، وكانوا أكثر ما يوجدون في صقلية، ولكنهم كانوا يوجدون كذلك في أماكن متفرقة من شبه الجزيرة حتى في جزئها الشمالي(2). وأخذت تجارة الرقيق تزداد منذ القرن الرابع عشر إلى ما بعده، فكان تجار البندقية وجنوى يستوردونهم من بلاد البلقان، وجنوبي الروسيا، وبلاد الإسلام، وكان العبيد والإماء المغاربة يعدون زينة لبلاط الملوك والأمراء في إيطاليا(3)، وقد تلقى البابا إنوسنت الثامن في عام 1488 مائة رقيق مغربي هدية من فرديناند الكاثوليكي، وزعهم هدايا من غير ثمن على كرادلته وغيرهم من أصدقائه(4)، وبيعت كثير من نساء كابوا جواري في روما بعد الاستيلاء على تلك المدينة في عام 1501(5)، غير أن هذه الحقائق المتفرقة لا توضح اقتصاديات النهضة بقدر ما توضح أخلاق بنيها، ذلك أن الرق لم يكن له إلا شأن ضئيل في إنتاج السلع أو نقلها.

أما هذا النقل فكانت أهم وسائله ظهور البغال أو العربات، أو الأنهار، أو القنوات، أو البحار. وكان الأغنياء يسافرون على ظهور الخيل أو في مركبات تجرها الخيول، وكانت سرعتها معتدلة ولكنها مثيرة للمشاعر، وكان الانتقال من بيروجيا إلى أربينو وهي مسافة تبلغ أربعة وستين ميلاً يستغرق يومين ويتطلب أن يكون المسافر صلب العود، وقد يحتاج الانتقال في قارب من برشلونة إلى جنوى أربعة عشر يوماً. وكانت النزل كثيرة العدد عظيمة الصخب، قذرة، غير مريحة. وكان منها واحد في بدوا يتسع لمائة ضيف ومائتي حصان، وكانت الطرق وعرة شديدة الخطر، والشوارع الرئيسة في المدن مرصوفة بالبلاط، ولكنها لم تكن تضاء أثناء الليل إلا نادرا. وكانت المياه النقية تأتي إلى المدن من جبال، وقلما كانت توصل إلى بيوت الأفراد، بل كانت تصل عادة إلى نافورات عامة بديعة التصميم يجتمع حول مياهها الباردة المنعشة الساذجات من النساء والعاطلون من الرجال ليتناقلوا أخبار اليوم.

كان يحكم دول المدن التي تقتسم شبه الجزيرة في بعض الأحيان - كما حدث في فلورنس، وسيناء، والبندقية - أقلية من التجار ذوي المال، ولكن أكثر من كانوا يحكمونها هم "المستبدون" على اختلاف درجات استبدادهم. وكان هؤلاء قد حلوا محل الأنظمة الجمهورية أو أنظمة القومونات ، بعد أن أفسدها استغلال الطبقات وأعمال العنف السياسية. فكان يبرز من تنافس الأقوياء رجل - يكاد يكون على الدوام وضيع النشأة- يخضع سائر المتنافسين، أو يبيدهم أو يستأجرهم، وينصب نفسه حاكماً مطلقاً، ويورث من يخلفه سلطته في بعض الأحيان. هكذا كان يحكم آل فسكونتي، وأسفوردسا في ميلان، والأسكاليجير Scaliger في فيرونا، وآل كراريسي Carraresi في بدوا، والجندساجا Sonzaga في مانتوا والإستنسي Estensi في فيرارا. وكان هؤلاء يستمتعون بشيء من الحب المزعزع، لأنهم كانوا يكبحون جماح الحركات الحزبية، ويؤمنون الناس على أنفسهم وأموالهم، داخل أسوار المدينة، وبقدر ما تسمح بذلك أهواؤهم. وارتضت الطبقات الدنيا حكمهم لأنها رأت في هذا الحكم آخر ملجأ لها يعصمها من طغيان الأدواق، ووطنت طبقات الفلاحين المحيطة بهم نفسها على هذا الوضع لأن القومون لم يهبها ما تريده من الحماية أو العدالة أو الحرية.

وكان المستبدون قساة لأنهم كانوا غير آمنين. ولم تكن تؤيدهم تقاليد من شرعية الحكم، وكانوا معرضين في أية لحظة للاغتيال أو للثورة عليهم، فقد أحاطوا أنفسهم بالحراس، لا يأكلون أو يشربون إلا وخوف السم يراودهم، وكان أكثر أمل لهم أن يموتوا موتاً طبيعياً. وكانوا في العقود الأولى من حكمهم يدبرون شئون المدن بالدسائس، والرشا، والاغتيال الخفي الهادئ، وساروا على سنن مكفيلي كلها قبل أن يولد مكفيلي نفسه، ثم أحسوا بعد عام 1450 بأنهم أصبحوا أكثر أمناً لأن الزمن خلع على حكمهم شيئا من القداسة، فأقنعوا في حكمهم الداخلي بالوسائل العلمية، ولكنهم كانوا يكمون أفواه الناقدين، ويخمدون أنفاس المتذمرين المنشقين، ويستخدمون لهذا الغرض جيشاً كبيرا من الجواسيس. وكانوا يعيشون مترفين، ويتخذون الأبهة المصطنعة وسيلة للتأثير في النفوس. غير أنهم رغم هذا قد نالوا احترام رعاياهم وتسامحهم معهم بل أنهم نالوا في فيرارا وأربينو ولاء هؤلاء الرعايا وإخلاصهم بإصلاحهم شئون الإدارة، وتوزيع العدالة بالقسطاس المستقيم في الأمور التي تتأثر بها مصالحهم الخاصة. وكانوا يساعدون الشعب إذا حلت به المجاعة أو غيرها من الشدائد، ويخففون من آثار التعطل بالأعمال العامة، وبناء الكنائس والأديرة، وتجميل المدن بروائع الفن، ومناصرة العلماء، والشعراء، والفنانين الذين يستطيعون أن يخلعوا شيئاً من الطلاء على سياستهم، ويحيطوهم بهالة من السناء، ويخلدوا ذكراهم.

وكانوا يوقدون نار حروب كثيرة ولكنها كانت في العادة صغيرة، يريدون بها أن يحصلوا على سراب الأمان الخادع بتوسيع رقعة أملاكهم، ويشبعوا نهمهم المتزايد إلى تملك أرضين يفرضون عليها ضرائب. ولم يكونوا يبعثون برعاياهم إلى هذه الحروب، لأنهم إن فعلوا اضطروا إلى تسليحهم وقد يكونون في هذا كالساعي إلى حتفه بظلفه، ولهذا كانوا يستأجرون الجنود المرتزقة، ويؤدون إليهم أجورهم بما يحصلون عليه من الفيء من الأراضي المفتوحة، أو الفدية، أو مصادرة أملاك المغلوبين، أو النهب والسلب. وكان المغامرون المتهورون ينقون من فوق الألب وفي أعقابهم في أكثر الأحيان شراذم من الجنود الجياع، ويبيعون خدماتهم إلى مكن يؤدي عنها أكبر الأثمان، يناصرون هذا الجانب أو ذاك تبعا لتقلبات الأجور. من ذلك أن خياطا من اسكس، يعرف في إنجلترا باسم سير جون هوكود Sir John Hawkwood وفي إيطاليا باسم أكوتو Acuto، حارب بمهارة عسكرية فنية من ذلك عدة مئات الآلاف من الفورينات، ومات في سنة 1394 بعد أن وصل إلى طبقة السادة الزراع، ودفن باحتفال مهيب، وزين قبره بثمار الفن في كنيسة سانتا ماريا دل فيوري.

وكان الحاكم المطلق ينفق المال على شئون التعليم كما ينفقه في إنشاء المدارس، ودور الكتب، وإعانة المجامع العلمية والجامعات. فقد كان في كل بلدة في إيطاليا مدرسة تنفق عليها الكنيسة عادة، وفي كل مدينة كبرى جامعة. وارتفع الذوق العام والآداب العامة بفضل الدروس التي لقنها الإنسانيون، ونشرتها الجامعات، وحاشيات الملوك والأمراء، وأصبح من كل أثنين من الإيطاليين واحد يستطيع الحكم على الفن، وكان في كل مركز هام فنانوه، كما كان له طرازه المعمار الخاص. وانتشرت مباهج الحياة بين الطبقات المتعلمة في إيطاليا من أقصاها إلى أقصاها، ورقت الأخلاق وظرفت نسبيا، وإن كانت الغرائز قد أضحت حرة طليقة إلى حد لا مثيل له من قبل. وملاك القول أن العبقرية لم تجد منذ أيام أغسطس حتى ذلك الوقت الذي نتحدث عنه تلك الكرة التي تستمتع إليها وتحضر مجالسها، ولا تلك المنافسة الحافزة الدافقة، أو تلك الحرية الواسعة.


الفصل الثاني: بيدمنت ولجوريا

في الشمال الغربي من إيطاليا وفي الجنوب الشرقي من فرنسا الحالية كانت تقع إمارة سافوي - بيدمنت، وهي التي كانت أسرتها الحاكمة حتى عام 1945 أقدم الأسر الملكية كلها في أوربا. وقد أنشأ هذه الدولة الصغيرة الكونت همبرت الأول Count Humbert 1 وكانت تابعة للإمبراطورية الرومانية المقدسة، ولكن هذه الدولة الصغيرة المزدهرة اتسعت وبلغت ذروة المجد تحت حكم "الكونت الأخضر" أماديوس Amadeus VI (1343 - 1383) الذي ضم إليها مدن جنيف، ولوزان، وأوستا Aosta، وتورين، وأتخذ هذه المدينة الصغيرة الأخيرة عاصمة لدولته. ولم يكن أحد من حكام زمانه يستمتع بمثل ما يستمتع به هو من شهرة عظيمة بالحكمة، وبالعدل، والسخاء. ورفع الإمبراطور سجسمند Sigismund حكام هذه الدولة إلى مرتبة الأدواق (1416)، ولكن دوقها الأول أمديوس الثامن قطع رأسه حين أرتضى أن يلقب انتيبوب (أي البابا الدخيل) فلكس الخامس Felix V Antipope (1439). وفتح فرانسس الول سافوي بعد مائة عام أو نحوها من ذلك الوقت وضمها إلى فرنسا (1536)، وأضحت هي وبيدمنت ميدانا للصراع بين فرنسا وإيطاليا، وأسلمهما إله الحكمة إلى إله الحرب، وخيم عليهما الركود فلم يصلهما التيار الإيطالي الجارف، أو تشعرا بروح النهضة كاملة، وكل ما لدينا من آثارهما الفنية صور من عمل ديفيندينتي فيرارى Defendente Ferrari، ولكنها لا تسمو إلى ما فوق المرتبة الوسطى، تشاهدها الآن في معرض تورين الفني وفي فيرتيشيلي Vercelli موطن ذلك الفنان.

وتقوم في جنوب بيدمنت مقاطعة لجوريا Liguria التي تضم جميع أمجاد الرفييرا الإيطالي، ففي جهة الشرق يوجد رفييرا الليفنتي Riviera di Levant (أي ساحل مشرق الشمس)، وفي الغرب رفييرا البنتيتي Por di Pontente أي ساحل مغربها، وتقوم عند ملتقاهما على عرش من التلال وقاعدة منبسطة من البحر ذي الماء الأزرق مدينة جنوى التي لا تكاد تقل بهاء وروعة عن نابلي. وقد بدت هذه المدينة لعين بترارك كأنها "بلد الملوك، والمثل الأعلى للرخاء، وباب البهجة والسرور"، ولكن هذا الوصف ينطبق عليها قبل التصدع الذي حدث في كيوجيا chioggia (1378)، وبينا كانت البندقية تنتعش انتعاشا سريعاً بفضل تعاون جميع طبقاتها تعاوناً منظماً قائماً على الإخلاص للمصلحة العامة في سبيل إعادة التجارة والرخاء المادي، ظلت جنوى جارية على ما ألفته من التناحر الداخلي بين الأشراف بعضهم وبعض، وبين الأشراف والعامة. وأوقد الظلم الذي ارتكبته الألجاركية الحاكمة نار ثورة صغيرة (1383)، ذلك أن القصابين ساروا، وهم مسلحون بأدوات حرفتهم التي لا يرد لها مطلب، وعلى رأس جماعة من الغوغاء إلى قصر الدوج Doge وأرغموه على تخفيض الضرائب وطرد جميع النبلاء من المناصب الحكومية، وحدثت في جنوى عشر ثورات في فترة لا تزيد على خمس سنين، (1390 - 1394)، حكم خلالها وسقط عشرة دوجات، حتى بدا لأهلها آخر الأمر أن النظام أثمن من الحرية، وخشيت الجمهورية المنهكة أن تضمها ميلان إلى أملاكها فأسلمت نفسها مع شاطئ الرفييرا التابعين لها إلى فرنسا (1396)، ثم قامت ثورة عاصفة بعد عامين من ذلك الوقت طرد على أثرها الفرنسيون، ووقعت خمس معارك طاحنة في شوارع المدينة، وأحرق عشرون قصراً، ونبهت المباني الحكومية وهدمت، وأتلف من الأملاك ما قيمته مليون من الفلورينات. وأدركت جنوى مرة أخرى أن فوضى الحرية لا يمكن أن تطاق، فأسلمت نفسها إلى ميلان (1426). ولكن ميلان طغت وتجبرت فلم يطق أهل جنوى صبراً على حكمها، وشبت نار الثورة فيها مرة أخرى، وأعيدت الجمهورية (1435)، وعاد تطاحن الأحزاب إلى سابق عهده.

وكان عنصر الثبات الوحيد وسط هذه التقلبات هو مصرف القديس جورج. وترجع نشأته إلى أن الحكومة في أثناء حربها مع البندقية اقترضت المال من الاهلين، وأعطتهم بدلها صكوكاً، فلما وضعت الحر بأوزارها عجزت الحكومة عن استهلاك هذه الصكوك، ولكنها عهدت إلى المقرضين أن يحصلوا العوائد الجمركية على البضائع التي تمر بالميناء، وكون الدائنون من أنفسهم هيئة عرفت باسم بيت القديس جورج Casa di San Giorgio، واختاروا من بينهم مجلس إدارة من خمسة محافظين، وأعطتهم الحكومة قصراً يتخذونه مقراً لهم. وسارت إدارة البيت أو الشركة سيراً حسناً، وكانت أقل أنظمة الجمهورية فساداً، وعهد إليها أمر جباية الضرائب، وأقرضت الحكومة بعض مالها، واستولت في نظير ذلك على أملاك قيمة في ليجوريا، وقورسقة، وشرقي البحر المتوسط، وفي البحر الأسود، وأصبحت في وقت واحد بيت مال الحكومة ومصرفاً خاصاً يقبل الودائع، ويخصم الكمبيالات، ويعقد القروض لتمويل التجارة والصناعة. وإذ كانت الأحزاب جميعها مرتبطة بها، فقد كانت موضع احترامها جميعاً، ولا يمسونها بأذى ما في أثناء الثورات والحروب، ولا يزال قصرها الفخم الذي أنشئ في عهد النهضة قائماً إلى اليوم في ميدان كريكا منتو Piazza Caricamento.

وكان سقوط القسطنطينية في أيدي الأتراك العثمانيين ضربة أوشكت أن تقضي على جنوى، فقد استولى الأتراك على ميناء برايوس القريبة من القسطنطينية، التي كانت تابعة لجنوى. ولما خضعت الجمهورية المفتقرة إلى فرنسا مرة أخرى (1458)، أشعل فرانتشيسكو اسفوردسا نار ثورة بفضل ما بذله من الأموال، طرد الفرنسيين على أثرها من جنوى، وخضعت المدينة مرة أخرى لحكم ميلان (1464). وأتاحت الإضرابات التي أضعفت ميلان بعد اغتيال جالست جاليستو اسفوردسا (1474) إلى أهل جنوى فسحة قصيرة تنسموا فيها نسيم الحرية؛ فلما أن استولى لويس الثاني عشر على ميلان سنة 1499، دانت جنوى أيضاً لسلطانه. ثم حدث آخر الأمر في أثناء الصراع الطويل الذي قام به فرانسيس الأول وشارل الخامس أن قام أمير من أمراء البحرين من أهل جنوى يدعى أندريا دوريا Andrea Doria ووجه سفنه لقتال الفرنسيين، وطردهم من جنوى ووضع لها دستوراً جمهورياً جديداً (1528)؛ جعل حكومتها الحركية تجارية شبيهة بحكومتي فلورنس والبندقية؛ وخضعت بالحقوق السياسية فيها الأسر التي كانت أسمائها مدونة في الكتاب الذهبي (il libro d'oro). وتألفت الحكومة الجديدة من مجلس للشيوخ يضم أربعمائة عضو، ومن مجلس يتألف من مائتين، ومن دوج يختار لمدة عامين. وبسط هذا النظام لواء السلام والأمن بين الأحزاب المتنازعة، وحافظ على استقلال جنوى حتى غزاها نابليون في عام 1797.

ولم تسهم المدينة في أثناء هذه الاضطرابات العاصفة إلا بأقل من نصيبها الخليقة به في الآداب، والعلوم، والفنون الإيطالية. نعم إن رؤساء بحريتها ارتادوا البحار في عزم وشجاعة، ولكن لما أن قام ابنها كولمبس بينهم كانت جنوى أجبن، أو أفقر، من أن تمده بالمال ليحقق به أحلامه. أما أعيانها فكانوا منهمكين في السياسة، وتجارها لا هم لهم إلا كسب المال، ولم يكن لإحدى الطائفتين متسع من الوقت أو المال تنفقه في مغامرات العقل، وأعيد بناء كتدرائية سان لوراندسو القديمة على الطراز القوطي (1307)، وأصبح داخلها رائعاً فخماً، وزين معبد سان جيوفنى باتستا (1451 وما بعدها) وهو مصلى الكتدرائية - بمحراب جميل، وستر من صنع ماتيو تشفتالى Mateo Civitali، وتمثال مكتئب ليوحنا المعمدان من صنع ياقوبو سانسو فينا Iacopo Sansovino. وأحدث أندريا دوربا ثورة في جنوى لا تكاد تقل أثراً عما أحدثه من ثورة في حكومتها، فقد استدعى الراهب جيوفنى دا منترسولي Giovanni de Mantorsoli من فلورنس ليعيد تخطيط قصر د رينا Palazza Dorina، (1529) كما استقدم بيرينو دل فاجا Perino del Vaga من روما ليزينها بالمظلمات والنقوش البارزة على الجص، ورسوم الحيوانات والنباتات الغريبة التي لا وجود لها، وبالنقوش العربية الطراز؛ وقد أضحى القصر بذلك من أعظم قصور إيطاليا فخامة. وجاء ليونى ليونى Leone Leoni منافس سلينى وعدوه من روما ليصب مدلاة جميلة لأمير البحر، كما خطط متتروسولى قبره. وملاك القول أن عصر النهضة لمن يبدأ في جنوى قبل دوربا بزمن طويل ولم يطل بعد وفاته كثيراً.

الفصل الثالث: بافيا

كانت مدينة بافيا تقوم هادئة على ضفة نهر التيسينو بين جنوى وميلان، وكانت في وقت من الأوقات مقر ملوك لمباردى، ثم خضعت في القرن الرابع عشر لميلان، واتخذها آل فسكونتى واسفوردسا عاصمة ثانية لهم. وبدأ جلياتسو فسكونتى الثاني (1360) القلعة الفخمة Castello، التي أتمها جيان Gian (أي جيوفنى، أو جون) جلياتسو فسكونتى؛ والتي اتخذت مسكناً لهذا الدوق الثاني، وقصراً لمباهج أدواق ميلان المتأخرين. وقد وصف بترارك هذا القصر بأنه "أنبل ثمار الفن الحديث، ووضعه كثيرون من معاصريه في مصاف مساكن الملوك في أوربا. وكانت مكتبة القصر تضم مجموعة من الكتب تعد من أثمن المجموعات في أوربا، وكان من بين ما تحتويه 951 ألف مخطوط مزينة الهوامش بالنقوش. ونقل لويس الثاني عشر حين استولى على ميلان عام 1499 مكتبة بافيا هذه فيما نقله من المغانم، وضرب جيش فرنسي داخل القلعة بآخر طراز من مدافعه (1527)، حتى لم يبق منها الآن إلا أسوارها.

وهكذا دمرت القلعة، ولكن أجمل درة من عهد آل فسكونتى واسفوردسا لا تزال باقية سليمة - ونعني بها دير تشيرتوزا Certosa المستتر بعيدا عن الطريق العام بين بافيا وميلان. فقد أعتزم جيان جلياتسو وفسكونتي giangaleazzo Visconti أن يقيم في سهل مطمئن هادئ صوامع، وطرقات مقنطرة، وكنيسة وفاء لنذر نذرته زوجته. وظل أدواق ميلان من ذلك الوقت حتى عام 1499 يكملون هذا الصرح ويزينونه لتكون رمزا لتقواهم وفنهم، حتى يتعذر علينا ان نجد في إيطاليا كلها ما هو أبدع منه.وخطط كرستوفورو مانيتجاتسو Cristoforo Mantegazza وجيوفنى أنطونيو أماديو Giovanni Antonio Amadeo من أهل بافيا واجهة هذا الدير اللمباردية - والرومانية، ونحتاها وأقاماها من رخام كرارا وأمداهما بما يلزمهما من المال جلياتسو ماريا أسفوردسا ولدوفيكو إل مورو (المغربي) Lodovico il moro وفي هذه الواجهة إسراف في الزخرفة، وإفراط في العقود، والتماثيل، والنقوش البارزة، والمدليات، والعمد المستديرة والمربعة، والتيجان، والنقوش العربية الطراز، والملائكة المحفورة، والقديسين، وجنيات الأساطير، والأمراء، والفاكهة، والأزهار، يتعذر معه أن تشعر الناظر إليها والتناسق. أما كل جزء فيها إذا نظر أليه بمفرده فيسترعي انتباهه دون مراعاة لسائر أجزاءه. لكن كل جزء مع ذلك هو في حد ذاته ثمرة كدح، وحب، وحذق؛ ,عن نوافذه الأربعة التي من طراز عهد النهضة والتي أنشأها أمديو لخليقة وحدها بأن تخلد أسمه. وليست الواجهة وحدها هي التي تستلفت الأنظار بجمالها، ففي بعض الكنائس الإيطالية نرى الواجهات فخمة رائعة في حين أن بقية أجزاءها الخارجية ليس فيها ما تمتاز به، أما دير كرتوز بيافيا فكل معالمه ومناظره الخارجية جميلة تسترعي النظر: لا فرق في ذلك بين الدعامات الملتصقة بالجدران، والأبراج الرائعة، والبواكي، والمنارات اللولبية القائمة فوق الليوان الشمالي والصحن، وعمد الطرق المقنطرة وعقودها الرشيقة. وإذا ما علا الإنسان يبصره من داخل الفناء إلى ما فوق هذه العمد الرفيعة خلال أطباق ثلاثة متتالية من البواكي حتى وقع على الطبقة الرابعة التي تعلوها من العمد والتي تقوم عليها القبة، إذا ما علا ببصره إلى الطبقة وجدها مجموعة مؤتلفة، متناسقة، خططت ونفذت تخطيطاً وتنفيذاً يستثيران أعظم الإعجاب، أما داخل الكنيسة فكل شيء فيه جميل لا يعلو عليه جمال، ففيه عناقيد من العمد قائمة؛ وعقود قوطية لقباب محفورة، وسراديب، ورديئات مشبكة، مصبعة دقيقة الصنع كأنها المخرمات (الدنتلا) الملكية؛ ومداخل وطرق مقنطرة ذات أشكال وزخارف رشيقة؛ ومحاريب من الرخام مرصعة بالحجارة الكريمة، وصور من صنع بيروجينو، وبرجنيونى، ولوينى؛ ومقاعد فخمة مطعمة يجلس عليها المرنمون؛ وزجاج ملون براق، وعمد بذل في نحتها أعظم العناية؛ وبندريلات ، وعصابات لأحجار الزوايا في العقود، وطنف؛ وفبر جيان جلياتسو فسكونتي الفخم الذي أقامه كرستو فورو رومانو ونبدتو بريسكو؛ وقبر لدوفيكو إل مورو وبيتريس دست وتمثالاهما، وقد جمع بينها وأقيما من الرخام البديع، وإن كان أحدهما قد مات قبل الآخر بعشر سنين، وفرقت بينهما خمسمائة ميل. كذلك اجتمعت في هذا الصرح طرز مختلفة لمباردية، وقوطية، مع طراز عصر النهضة، فأثمرت ما يكاد يكون أكمل الثمار المعمارية لهذا العصر الأخير. ذلك أن ميلان قد جمعت في عهد لدوفيكو المغربي حسان النساء اللاتي خلقن فيها بلاطاً لا نظير له في غيرها من البلدان، وفنانين متفوقين أوفوا على الغاية في الإتقان، نذكر منهم برامنتي، وليوناردو، وكَردَسو Cardosso لينزعوا زعامة إيطاليا، مدى عشر سنين زاهية متلألئة، من فلورنس، والبندقية وروما.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: الفسكونتى 1378 - 1447

توفي جلياتسو الثاني في عام 1378 وأوصى بنصيبه من مملكة ميلان ابنه جيان جلياتسو فسكونتي الذي ظل يتخذ بافيا عاصمة له. وكان جيان جلياتسو هذا من الطراز الذي يحبه مكيفلي ويعجب به. فقد كان يقضي جزءا كبيرا من وقته في مكتبة قصره العظيمة، يعني ببنيته الضعيفة، ويكسب ولاء رعاياه بالضرائب المعتدلة، ويتردد على الكنيسة مظهراً تقواه التي تأسر النفوس، ويملأ بلاطه بالقساوسة والرهبان، وبذلك كان هو آخر أمير في إيطاليا يمكن أن يظن الدبلوماسيون أنه يعمل ليجمع شبه الجزيرة كلها تحت سلطانه. ومع هذا فقد كان ذلك هو الأمل الذي يراوده والمطمع الذي يشغل باله، والهدف الذي يسعى لتحقيقه بالدهاء، والغدر، والقتل كأنه قد قرأ كتاب الأمير وأجله قبل أن يكتب، وكأنه لم يسمع بالمسيح.

وكان بيرنابو Bernnabo أبن عمه في هذه الأثناء يحكم النصف الآخر من مملكة الفسكونتي من حاضرته ميلان. وكان برنابو وغداً سافراً، أرهق رعاياه بأفدح الضرائب، وأرغم الفلاحين على أن يعنوا بالخمسة الآلاف من كلابه التي يستخدمها في الصيد ويطعمها، وكمم أفواه المتذمرين بأن أعلن أن المجرمين سيعذبون أربعين يوماً. وكان يسخر من تقوى جيان جلياتسو، ويعمل على خلعه ليجعل نفسه سيد أملاك أسرة فسكونتي. وعرف جيان بما يدبره له، وكان لديه من الجواسيس العدد الذي لابد لكل حكومة قديرة أن تحتفظ به منهم، فأعد العدة للقاء بينه وبين بيرنابو، ولما جاءه هذا مطمئنا مع ولديه، قبض حرس جيان السري على ثلاثتهم، ويبدو أنه دس السم لبيرنابو (1385). وحكم جيان بعدئذ ميلان، ونوفارا، وبافيا، ونياتشندسا، وبارما، وكرمونا، وبريشيا Brescia ثم استولى في عام 1387 على فيرونا، وفي عام 1389 على بدوا، وأذهل فلورنس في عام 1399 حين ابتاع بيزا بمائتي ألف فلورين، وخضعت بيروجيا، وأسيسي، وسنا لقواده في عام 1400، كما خضعت لهم لوكا وبولونيا في عام 1401، وبذلك اصبح جيان سيد شمالي إيطاليا كله من نوفارا إلى البحر الأدرياوي. وكانت الولايات البابوية قد ضعفت وقتئذ من جراء الانشقاق الذي حدث فيها (1378 - 1417) على أثر عودة البابوية من أفنيون. وكان جيان يحرض البابوات المتنافسين بعضهم على بعض، ويحلم بأن يستولي على جميع أراضي الكنيسة، فإذا تم له ذلك سير جيوشه على نابلي، وكان يعتقد أن سيطرته على بيزا وغيرها من المنافذ سترغم فلورنس على الخضوع، وبذلك تبقى مدينة البندقية وحدها خارجة عن هذا النطاق، ولكنها لن يكون لها حول ولا تستطيع أن تقف بمفردها في وجه إيطاليا المتحدة. غير أن المنية عالجت جيان جلياتسو فمات في عام 1402 ولما يتجاوز الحادية والأربعين من عمره.

وقلما كان في هذا الوقت كله يغادر بافيا أو ميلان، وكان يحب الدسائس أكثر مما يحب الحرب، ونال بالدهاء أكثر مما ناله قواده بقوة السلاح. على أن هذه المغامرات السياسية كلها لم تستنفذ خصب عقله، فقد أصدر كتاب قوانين يشمل فيما يشمله قواعد تضمن صحة الشعب، وعزل المصابين بالأمراض المعدية عزلا إجبارياً(7). وبدأ يشيد تشير توذا دي بافيا Certosa di Pavia وكتدرائية ميلان، وأستدعى مانيول كريسلوراس Manuel Chrysoloras ليكون أستاذ اللغة اليونانية في جامعة ميلان، وعضد الشعراء، والفنانين، والعلماء، والفلاسفة، وأعتز بصحبتهم، ومد القناة العظمى naviglio Grande من ميلان إلى بافيا، فأنشأ بذلك طريقاً مائياً داخليا في عرض إيطاليا ممتدا من جبال اللب وخترقا ميلان، وسائرا في نهر ألبو إلى البحر الأدرياوي، يروي مائة آلاف من الأفدنة. ونشطت الزراعة والتجارة بفضل هذه القناة، وشجع نشاطها قيام الصناعة، وشرعت ميلان تنافس فلورنس في المنسوجات الصوفية. وكان الحدادون من أهلها يصنعون السيوف والدروع للمحاربين في أوربا الغربية كلها، وحدث في أزمة من الأزمات أن صنع بعض رؤساء صناع الأسلحة ما يكفي ستة آلاف جندي في قليل من الأيام(8) وكان نساجو الحرير من أهل لوكا الذين أفقرتهم المنازعات الحزبية والحروب، قد هاجروا بالمئات إلى ميلان في عام 1314، فلم يحل عام 1400 حتى كانت صناعة المنسوجات الحريرية قد ازدهرت في هذه المدينة، ازدهارا جعل رجال الأخلاق يشكون من أن الملابس قد أصبحت جميلة إلى حد يجلل لابسها بالعار. لكن جيان جلياتسو حمى هذا الاقتصاد المزدهر بالإدارة الحكيمة، والعدالة المنسقة المنظمة، والعملة الموثوق بها، والضرائب المعتدلة التي شملت رجال الدين والأعيان كما شملت العامة وغير رجال الدين. وقد عمل على توسيع نطاق إدارة البريد، فكان فيها عام 1425 مائة جواد تعمل بانتظام؛ وكانت مكاتب البريد تقبل المراسلات الخاصة، وخيلها تسافر خلال النهار - وطول الليل في أوقات الضرورة. وقد بلغت الإيرادات السنوية للدولة في فلورنس عام 1423 أربعة ملايين فلورين ذهبي (100.000.000 دولار)، وبلغت إيرادات البندقية أحد عشر مليون فلورين، وميلان اثني عشر مليوناً(9).وكان يسر الملوك أن يزوجوا أولادهم وبناتهم من أسرة فسكونتي؛ ولم يفعل الإمبراطور ونسسلاس Wenceslas أكثر من تتويج الحقيقة الواقعة بالمظهر الرسمي حين أعلن تصديقه الإمبراطوري عن أن يحمل جيان لقب دوق وعلى شريعة هذا اللقب، وحين خلع عليه هو وورثته دوقية ميلان "إلى أبد الدهر".

غير أن أبد الدهر هذا لم يدم أكثر من اثنين وخمسين عاماً. ذلك أن جيان ماريا فسكونتي Gianmaira Visconti أكبر أبناء جيان كان في سن الثالثة عشرة حين مات أبوه (1402)، ولذلك أخذ القواد الذين قادوا جيوش جيان إلى النصر يتنافسون للظفر بمنصب الوصي على الملك، وبينما كان هؤلاء القواد يتنازعون حكم ميلان عادت إيطاليا إلى انقسامها القديم: فاستردت فلورنس مدينة بيزا، واستولت البندقية على فيرونا، وقيتشنتسا، وبدوا، وخضعت كل من سينا، وبيروجيا، وبولونيا إلى طاغية من الطغاة. وعادة إيطاليا كما كانت، بل أسوء مما كانت، لأن جيان ماريا Gianmaria ترك شؤون الحكم للولاة الطغاة المستبدين ووجه كل اهتمامه لكلابه، ودربها على أكل لحوم البشر، وكان يسره ويثلج قلبه أن يراها تطعم الأحياء من الآدميين الذين حكم عليهم بأنهم مذنبون سياسيون أو مجرمون في حق المجتمع(10)، وانتهى به الأمر أن اغتاله ثلاثة من الأعيان.

ويلوح أن أخاه فلبو ماريا فسكونتي ورث عن أبيه حدة ذكائه، وجده، وجلده، وأطماعه وسياسته البعيدة النظر. ولكن ما كان يتصف به جيان جلياتسو من شجاعة ممتزجة بالهدوء، أضحى في فلبو جبناً ممتزجاً بالخمول، وخوفاً دائماً من الاغتيال، واعتقاداً لا يتزعزع في غدر الجنس البشري لا ينفك يراوده. ولهذا أغلق على نفسه أبواب قلعة بورتا جوفيا Porta Giovia في ميلان، وأخذ يأكل ويسمن، وأولع بالخرافات والمنجمين، ولكنه استطاع بفضل دسائسه ودهائه لا غير أن يبقى إلى آخر أيام حكمه الطويل سيد بلده المطلق، وسيد قواده بل وأسرته أيضاً، وتزوج بياتريس تندا Beatrice Tenda طمعاً في مالها، ثم حكم عليها بالإعدام جزاء خيانتها، وتزوج بعدها من ماريا صاحبة سافوي، وأبقاها في عزلة عن جميع الناس عدا وصيفتها، وأقض مضجعه عدم وجود ولد له، واتخذ له عشيقة، ثم رقت أخلاقه بعض الشيء بسبب حبه بيانكا الفتاة الحسناء التي كانت ثمرة هذه العلاقة. وجرى على سياسة أبيه في مناصرة العلم، وأستدعى مشهوري العلماء إلى جامعة بافيا، وعهد ببعض الأعمال الفنية إلى برندلسكو وإلى بيزانلو صانع المدليات، المنقطع النظير. وحكم ميلان حكما أتوقراطياً حازماً، قضى فيه على التحزب والانقسام، ووطد دعائم النظام، وحمى الفلاحين من الضرائب الفادحة التي كانت يفرضها عليهم سادة الإقطاع كما حمى التجار من قطاع الطرق، وأفلح بسياسته الخارجية البارعة ومهارته في استخدام جيوشه في أن يعيد ولاء بارما، وبياتشندسا وجميع بلاد لمباردي حتى بريشيا، وجميع الأراضي الواقعة بين ميلان وجبال الألب، أن يعيد ولاء هذه كلها إلى ميلان، وأقنع أهل جنوى في عام 1421 أن طغيانه أرحم بهم من حروبهم الداخلية؛ وشجع التزاوج بين الأسر المتنافسة، فقضى بذلك على كثير من أسباب النزاع القائمة بينها؛ وأستبدل بمائة من الحكومات المستبدة حكومة استبدادية واحدة، وأخذ الأهلون الذين حرموا من الحرية ولكنهم تحرروا من النزاع الداخلي يتذمرون، ويتكاثرون، وينعمون بالرخاء.

وكان بارعاً في العثور على القواد المقتدرين، لكنه كان يرتاب في أنهم جميعاً يعملون على أن يحلوا محله، فكان يؤلبهم بعضهم على بعض، وظل يوقد نار الحرب يرجو من ورائها أن يستعيد كل ما كسبه أبوه، وأضاعه أخوه. ونشأت من حروبه مع البندقية وفلورنس طائفة من المحاربين المغامرين المستأجرين، نذكر منهم جتلاميلاتا Gattamelata، وكليوني، وجارمانيولا garmagnola، وبراتشيو، وفورتبراتشيو Fortebraccio، ومنتونه Montone، وبتشينينو Piccinino، ومودسيو أتندولو Muzio Attendolo .... الخ. وكان مودسيو هذا صبيا ريفيا ينتمي إلى أسرة كبيرة من المحاربين والمحاربات؛ وكسب لقب اسفوردسا بما أظهره في خدمة جوانا Joanna الثانية ملكة نابلي من قوة الجسم والإرادة، ثم خسر عطفها عليه، وأودعه السجن، ولكن أخته ذهبت إلى السجن منتضية كامل سلاحها وأرغمت السجانين على إطلاق سراحه؛ ثم عين قائدا لإحدى فيالق ميلانو، ولكنه غرق بعد قليل من ذلك الوقت وهو يعبر أحد الأنهار. وسرعان ما قفز أبنه غير الشرعي إلى مكان أبيه، وشق طريقه إلى العرش بالحرب والزواج.

الفصل الخامس: آل أسفوردسا 1450 - 1500

كان فرانتشيسكو اسفردسا المثل الكامل لجندي النهضة. كان طويل القامة، وسيم الخلق، مولعا بالرياضة البدنية، شجاعا؛ وكان أحسن العدائين، والقفازين، والمصارعين في جيشه؛ لا ينام إلا قليلاً، ويمشي عاري الرأس صيفاً وشتاء، ويجتذب محبة رجاله بالاشتراك معهم في تحمل المشاق وفي الطعام، وفي قيادتهم إلى النصر الذي يدر عليهم المغانم الكثيرة بمهارته في الفنون والحركات العسكرية، لا بكثرة العدد أو وفرة السلاح. ولم يكن أحد يدانيه في شهرته العسكرية حتى كان قوى أعدائه تلقى سلاحها، في أكثر من موقعة، حين تقع أعينها عليه، وتحييه برؤوسها العارية وتصفه بأنه أعظم قواد زمانه. وكان يطمع في أن يقيم لنفسه دولة، ولم يكن يتردد في اصطناع أية وسيلة توصله إلى غرضه لا يصده عنها مراعاة مبدأ أو وخز ضمير. وحارب على التوالي في صف ميلان، وفلورنس، والبندقية، حتى كسب فلبو ولاءه بأن زوجه من بيانكا، وأمهرها كرمونا وبنتريمولي (1441)، ولما توفي فلبو بعد ست سنين من ذلك الوقت ولم يكن له وارث من نسله، وانتهت بموته أسرة الفسكونتي، أحس فرانتشيسكو بأن المهر يجب أن يشمل ميلان أيضا.

لكن أهل ميلان لم يكونوا يرون هذا الرأي، واعتلوا جمهورية سموها الجمهورية الأمبروزية نسبة إلى الأسقف العظيم الذي أدب ثيودوسيوس وهدى أوغسطين قبل ألف عام من ذلك الوقت. غير أن الأحزاب المتنازعة في المدينة لم تتفق على رأي؛ واغتنمت المدن التابعة لميلان هذه الفرصة السانحة وأعلنت استقلالها؛ وسقطت بعضها أمام جيوش البندقية؛ ولاح خطر هجوم البندقية وفلورنس على ميلان؛ وزاد من شدة الخطر أن كلا من دوق أورليان، والإمبراطور فردريك الثالث، وألفنسو ملك أرغونة طالب بميلان لنفسه. فلما تأزمت الأمور على هذا النحو ذهب وفد من أهل المدينة إلى أسفوردسا وأعطوه بريشيا، ورجوه أن يدافع عن ميلان، فاستجاب لرغبتهم، وصد الأعداء بما أوتي من نشاط وحسن تدبير، ولما أن عقدت الحكومة الصلح مع البندقية دون أن تستنير برأيه وجه جنده ضد الجمهورية، وحاصر ميلان حتى كادت تهلك جوعا، وقبل استسلامها له، ودخل المدينة وسط تهليل الجماهير الجياع، وأغمد في نفوسهم شهوة الحرية بتوزيع الخمر عليهم. ثم دعيت إلى الاجتماع جمعية عمومية مكونة من رجل عن كل أسرة في المدينة، وخلعت عليه سلطة الدوق غير عابئة باحتجاج الإمبراطور، وبدأت أسرة اسفوردسا عهدها الباهر القصير (1450).

ولم تتبدل أخلاقه بعد توليه أزمة الحكم، بل ظل يعيش عيشة بسيطة ويعمل بجد؛ وكان من حين إلى حين يلجأ إلى أعمال القسوة والغدر، متذرعا إلى ذلك بمصلحة الدولة؛ ولكنه كان يوجه عام عادلا رحيما. وكان من عيوبه إحساسه المرهف بجمال النساء إحساساً طليقا لا يقف عند حد؛ وحدث أن قتلت زوجته المهذبة عشيقته ثم سامحته؛ وقد ولدت له ثمانية أبناء، وكانت تسدي إليه النصح الحكيم في الشؤون السياسية، وحببت الشعب في حكمه بما كانت تقدمه من غوث إلى المحتاجين وحماية المظلومين. وكان يصرف شؤون الدولة في كفاية لا تقل عن كفايته في قيادة جندها. وكان النظام الاجتماعي الذي فرضه على المدينة سببا في عودة الرخاء إليها إلى درجة أنستها أو كادت تنسيها ذكريات آلامها وحريتها المتقطعة. ولما أستتب له المر شرع يبني قلعة اسفرديسكو Castello Sforzesco ليتخذها حصنا ضد العصيان أو الحصار وحفر قنوات جديدة، ونظم الأشغال العامة وشاد المستشفى العظيم Ospeddale Maggiore، وجاء إلى ميلان بالكاتب الإنسان فيليفو Filelfo، وشجع التعليم، والعلم، والفن، وأغرى فتشيندسو فبا Vincenzo Foppa أن يأتي من بريشيا ليقيم مدرسة تصوير. ولما هددته دسائس البندقية، ونابلي، وفرنسا، أوقفها كلها عند حدها بأن كسب تأييد كوزيمو ده ميديتشي القوى وصداقته المتينة، ثم قلم أظافر نابلى بأن زوج أبنته ابوليتا Ippolita بألفنسو بن فرديناند، وأمن شر دوق أورليان بأن عقد حلفا مع لويس الحادي عشر ملك فرنسا. ولكن بعض الأعيان ظلوا يأتمرون به ليقتلوه ويحصلوا على سلطانه، غير أن نجاح حكمه قضى على تدبيرهم، وعاش حتى مات في سلام ميتة القواد التقليدية (1466).

وإذ كان ابنه جليانسو ماريا اسفوردسا قد ولد وفي أحضانه النعمة فإنه لم يتلق دروس الفقر والكفاح، واستسلم للملذات، والترف، والظاهر الكاذبة؛ وكان يجد لذة كبير في إغواء أزواج أصدقائه، ويعاقب معارضيه بقسوة يبدو أنه ورثها وراثة ملتوية، غامضة من دماء آل فسكونتي عن طريق بيانكا الرحيمة. ولم يقاوم أهل ميلان استبداده وظلمه لأنهم قد اعتادوا الحكم المطلق، فلم يكونوا يبالون بما يصيبهم منه؛ ولكن الانتقام الفردي ثأر لما كان مكبوتاً في قلوب الجماهير من شدة الرعب. وتفصيل ذلك أن جيرولامو ألجياتي Girolamo Olgiati أحزنه أن يغوي الدوق أخته ثم ينبذها؛ وحسب جيوفني لمبونياني Giovannl Lampugnani أن هذا السيد نفسه قد انتزع منه بعض ملكه؛ وكان نقولو منتينو Niccolo Monteno قد علمهما كما علم كارلوفسكونتي تاريخ الرومان ومثلهم العليا، وعلمهما كذلك قتل المستبدين من عهد بروتس إلى بروتس. وبعد أن طلب الشبان الثلاثة العون من الأولياء الصالحين كنيسة القديس استيفن، حيث كان جلياتسو يتعبد وانهالوا عليه طعناً حتى فارق الحياة (1476). وقتل لمبونياني وفسكنتي قبل أن يبرحا مكانهما، وعذب الجاني تعذيباً لم يكد يترك فيه عظماً من عظامه دون أن يكسر أو يخلع من وقبه؛ ثم سلخ جلده حياً، ولكنه ظل إلى آخر نفس من حياته يرفض أن يندم على ما فعله، ويدعوا الأبطال الوثنيين والقديسين والمسيحيين ليباركوا عمله، ومات وهو يردد تلك العبارة التي تمثل شعار الرومان الأقدمين وشعار النهضة وهي:

"الموت مر ولكن السمعة الطيبة تبقى إلى أبد الدهر Mors acrba, fama perpetua"،(11).

وترك جلياتسو عرشه إلى ولد له لم يكن يتجاوز السابعة من العمر، يسمى جيان جلياتسو اسفوردسا، وظل حزبا الجولف والجبلين ثلاث سنين يتنافسان للاستحواذ على وصاية العرش ويستخدمان في سبيل ذلك وسائل القوة والخداع، وكان الفوز في آخر الأمر لشخصية من أروع الشخصيات وأكثرها استعصاء على التحليل في عهد النهضة المليء بالشخصيات الرائعة المعقدة، ونعني بها شخصية لدوفيكو اسفوردسا Lodovico Sforza رابع أبناء فرانتشسكو اسفوردسا. ولقبه أبوه مورو mauro؛ ولكن معاصريه بدلوا هذا اللقب إلى آل مورو il Moro (المغربي)- لأنه كان أسود الشعر والعينين، وارتضى هو عن طيب خاطر هذا الاسم الساخر، وأضحت بذلك الشارات والحلل المغربية طرازا شائعا في بلاطه. ووجد غيرهم من الفكهين لهذا الاسم مرادفا في اللغة الإيطالية هو Moro ومعناه شجرة التوت، وأصبحت هذه أيضا شعاراً له، وصار لون التوت طراز العصر في ميلان، واتخذ منه ليوناردو موضوعا وتصميما لبعض زخارفه في حجرات القلعة (Castello). وكان أعظم معلمي لدوفيكو هو العالم فيليلفو الذي أمده بأساس قوى في الآداب القديمة، ولكن بيانكا حذرت العالم الإنساني بقولها؛ "إن علينا أن نعلم أميراً لا تلميذاً فحسب"، ولهذا حرصت على أن يحذق ابنها فني الحكم والحرب. وقلما أظهر لدوفيكو شجاعة بدنية، ولكن ذكاء آل فسكونتي تحرر فيه من قسوتهم، وأصبح رغم أخطائه وآثامه من أعظم رجال التاريخ تحضراً.


ولم يكن وسيما، فقد كفاه الله شر هذا العائق الذي يلهي ويشغل عن مهام الأمور، وكان وجهه مكتنز اللحم، وأنفه مسرفا في الطول والانحناء، وذقنه ممتلئا، وشفتاه شديدتي الانطباق؛ ومع هذا فإن في صورته الجانبية المعوزة إلى بوت رفيو Botraffio، وتماثيله المحفوظين في ليون Lyons واللوفر قوة هادئة في الملامح، وحساسية في الذكاء، ورقة تكاد تصل إلى حد النعومة. وقد أشتهر بأنه في معظم الأحيان مراوغا، ولا تجده أبدا ذا ضمير حي، وقد تجده من حين إلى حين عديم الإخلاص، ولقد كانت هذه هي العيوب التي يشترك فيها ساسة النهضة، ولعلها هي العيوب التي لا غنى عنها لجميع الدبلوماسيين مهما يكن في هذا القول من قسوة. ومع هذا فقلما تجد بين أمراء النهضة من يضارعه في رحمته وكرمه، فقد كانت القسوة مما يتنافى مع طبعه، وما أكثر من أستمتع بجوده من الرجال والنساء. لقد كان حليما دمث الأخلاق، مرهف الحس بكل جمال وكل فن، قوي الخيال، جياش العاطفة، ولكنه قلما كان يفقد اتزانه أو هدوء طبعه. وكان متشككا، يؤمن بالخرافات، سيد الملايين، وعبد منجمه. كان لدوفيكو هذا كله، وكان الوارث المتوّج المزعزع للعناصر المتنافرة.

ظل ثلاثة عشر عاما (1481 - 1494) يحكم ميلان نائبا عن أبن أخيه. وكان جلياتسو اسفرودسا جبانا يميل إلى العزلة، يرهب تبعات الحكم، كثيرا ما تنتابه الأمراض، عاجزا عن القيام بالأعمال الجدية، يسميه جوتشيارديني Guicciardini العاجز، وكان يستسلم للهو أو المرض، يسره أن يترك تصريف شؤون الدولة إلى عمه الذي كان يعجب به إعجاباً ملؤه الحسد، ويثق به ثقة ممزوجة بالشك. وقد نزل له لدوفيكو عما في لقب الدوق ومنصبه من أبهة وفخامة، فكان جيان هو الذي يجلس على العرش، ويتقبل الولاء، ويعيش الترف الملكية، ولكن زوجته إزبلا الأرغونية كان يسوءها استيلاء لدوفيكو على زمام السلطة، وحرصت جيان على أن يتولى بنفسه مقاليد الأمور، ورجت أباها ألفنسو، ولي عهد عرش نابولي، أن يزحف بجيشه، ويوليها السلطات التي يتولاها الحاكم الحق.

وكان حكم لودفيكو يتسم بالحزم والكفاية، وقد أنشأ حول عشته الصيفية في فيجيفانو مزرعة تجريبية واسعة، ومحطة لتربية الماشية، وكانت تجرى فيها التجارب على زراعة الأرز، والكروم، وأشجار التوت؛ وكان يصنع من ألبان ماشيته زبداً وجبنا لم تعرف إيطاليا نفسها نظيرا لهما من قبل، وكانت ثمانية وعشرون ألفا من الثيران، والبقر، والجاموس، والضأن، والمعز ترعى في الحقول وعلى سفوح التلال؛ وكانت أسطبلاته الرحبة تضم الجياد والأفراس التي تنتج أجمل الخيل في أوربا. وكان يشتغل في صناعة الحرير في ميلان وقتئذ عشرون ألف عامل، وانتزعت من فلورنس كثيرا من أسواق أوربا. وكان الحدادون، والصياغ، والحفارون للخشب، وصناع الميناء؛ والخزف، والفسيفساء، وناقشو الزجاج، وصناع العطور، والبارعون في صناعة التطريز ونسج الستر، وصناع الآلات الموسيقية، كان هؤلاء كلهم تعج بهم صناعات ميلان، وكانوا يزينون بالحلى القصور، وكبار أفراد الحاشية ويصدرون ما يكفي منها لابتياع أدوات الترف الأرق منها والتي تستورد من بلاد الشرق. وحرص لدوفيكو على أن ييسر حركة مرور الناس والبضائع، و "يهب الناس أكثر مما لديهم من الضوء والهواء"(12) فأمر بتوسيع الشوارع الهامة، وأقيمت على جانبي الطرق الكبرى المؤدية إلى القلعة Castello قصور وحدائق للأعيان من السكان، وعلت في سماء المدينة كاتدرائيتها الكبرى، التي اتخذت وقتئذ صورتها النهائية، وأضحت مركزا من المراكز المتنافسة في حياتها النابضة. وكان يسكن ميلان في عام 1492 مائة وثمانية وعشرون ألفا من السكان(13)، وبلغت من الرخاء في عهد لدوفيكو ما لم تبلغه في عهد جيان جلياتسو فسكونتي نفسه. ولكن الناس أخذوا يضجون بالشكوى من أن هذا الثراء الموفور كان يذهب لتقوية نائب الملك وزيادة أبهة البلاط لا لانتشال عامة الشعب من فقره الذي طال عليه العهد حتى لم تعد تعرف بدايته. وكان أصحاب البيوت يئنون من فدح الضرائب، كما كانت مظاهرات الشغب والاحتجاج تضطرب بهما كرومونا ولودي Lodi. وكان لدوفيكو يرد على ذلك بقوله انه في حاجة إلى المال لإقامة المستشفيات والعناية بالمرضى، ولمعونة جامعتي بافيا وميلان، ولتقديم المال اللازم لإجراء التجارب في الزراعة، وتربية الحيوان، والصناعة، ولكي يؤثر بما يبدو في بلاطه من روعة الفن وفخامة المظهر في قلوب السفراء الذين لا تحترم حكوماتهم إلا الدول القوية الغنية. ولم تقتنع ميلان بهذه الحجج، ولكن يبدو أنها شاركت لدوفيكو في مسرته حين جاء إليها بعروسه التي كانت أظرف أميرات فرارا وأكثرهن استئثارا بالمحبة (1491). ولم يكن يدعي أنه كفء لبيتريس دست العذراء المرحة؛ ذلك انه كان وقتئذ في سن التاسعة والثلاثين، وكان قد أتخذ له عددا من الخليلات ولدن له ولدين وبنتاً - بيانكا الظريفة التي لم يكن حبه أياها يقل عن حب أبيه للسيدة الجياشة العاطفة التي سميت هذه الفتاة باسمها. ولم تثر بيتريس شيئا من المتاعب بسبب الاستعدادات المعتادة التي يتخذها الرجال في زمن النهضة للاكتفاء بزوجة واحدة، لكنها حين وصلت ميلان هالها أن تجد تشتيشيليا جييليراني Cecillia Gellerani الحسناء آخر عشيقات زوجها لا زالت تقيم في حاشية القصر. وأدهى من هذا وأمر أن لدوفيكو ظل يزور تشتيشيليا مدة شهرين بعد زواجه، ولما سأل في هذا قال لسفير فيرارا أنه لا يطيق إبعاد الشاعرة المثقفة التي أستمتع بها جسمه وعقله. وأنذرته بيتريس بأنها ستعود إلى فيرارا؛ فخضع لدوفيكو وأقنع الكونت برخميني بأن يتزوج تشتيشيليا.


وكانت بيتريس فتاة في الرابعة عشرة من عمرها حين جاءت إلى لدوفيكو؛ ولم تكن بارعة الجمال، ولكنها كانت تفتن من رآها بمرحها البريء الذي كانت تستقبل به الحياة وتستمتع بها وكانت قد نشأت في نابلي، وتمرست في أساليبها المبهجة وغادرتها قبل أن تفقد صدقها وأمانتها، ولكنها أخذت منها إسرافها وخلوها من الهموم، فلما أفاض عليها لدوفيكو من ثروته أطلقت العنان لهذا الإسراف حتى قالت عنها ميلان أنها "جنت جنوناً بحب الإسراف"(14). وكان كل من في المدينة يغفر لها هذا لأنها كان تنشر المرح البريء في كل مكان - "تقضي الليل والنهار" كما يقول أحد الإخباريين المعاصرين "في الغناء والرقص وجميع أنواع المسرات" حتى سرت روحها في جميع أفراد البلاط، فلم تقف فيه البهجة عند حد. ووقع لدوفيكو الوقور الرزين في حبها بعد بضعة أشهر من زواجهما، وأعترف بعض الوقت بأن القوة مهما بلغت، والحكمة أيا كانت، لا قيمة لهما إلى جانب سعادته الجديدة. وأضافت بفضل رعايته زينة العقل إلى روح الشباب، فتعلمت كيف تخطب باللغة اللاتينية، وشغلت عقلها بشؤون الدولة، وأدت لزوجها في بعض الأوقات خدمات جليلة بأن كانت سفيرة له لا تستطاع مقاومتها، ورسائلها لأختها ازبلادست التي فاقتها شهرة طاقة من الزهر العطر وسط الأجمة المكفيلية من منازعات عصر النهضة.

وأضحى بلاط ميلان وقتئذ، وفيه بيتريس تتزعم الرقص، ولدوفيكو الكادج يؤدي نفقات الحفلات أضخم بلاط للأمراء لا في إيطاليا وحدها، بل في أوربا بأجمعها، وأتسع قصر اسفورديسكو حتى بلغ ذروة مجده، ببرجه الأوسط الشامخ، ومتاهة حجراته المترفة التي لا تعرف بدايتها من نهايتها، وأرضه المطعمة، ونوافذه الزجاجية الملونة، وأرائكه المطرزة، وطنافسه العجمية؛ وسجفه التي نقشت عليها مرة أخرى قصص طروادة وروما، هنا سقف من صنع ليوناردو، وهناك تمثال أخرجته يد كروستوفورو سولاري أو كروستوفور روماني، ولا يكاد يخلو مكان فيه من أثر بالغ الجمال من آثار الفن اليوناني، أو الروماني، أو الإيطالي. في هذه البيئة المتألقة أختلط العلماء بالمحاربين، والشعراء بالفلاسفة، والفنانون بالقواد، وأختلط هؤلاء جميعا بالنساء اللاتي أضفن إلى مفاتنهن الطبيعية كل ما يمكن أن تسبعه عليهن من رقة مستحضرات التجميل، والجواهر، والثياب، وكان الرجال حتى الجنود منهم يعنون بتصفيف شعرهم وبأثوابهم. وكانت الفرق الموسيقية تعزف على مجموعة الآلات المختلفة، والأغاني تتردد في جنبات الأبهاء. وبينما كانت فلورنس ترتعد فرقا أمام سفنرولا وتحرق أباطيل الحب، والفن، كانت الموسيقى والآداب الخليعة تسود عاصمة لدوفيكو. وكانت الأزواج يتغاضون عن عشق زوجاتهم نظير استمتاعهم هم بما يشاءون(17)، وكانت الحفلات الساخرة المقنعة لا تنقطع، وآلاف الأزياء المرحة تستر ما لا يحصى من الآثام، والرجال والنساء يرقصون ويغنون، كأن الفقر لا يترقب المدينة خارج أسوارها، وكأن فرنسا لا تعد العدة لغزو إيطاليا، أو كأن نابلي لا تتآمر على تخريب ميلان. ولق وصفها بيرناردينو كوريو Bernardino Corio، وكان قد جاء إلى بلاطها من موطنه في كومو Como، بأسلوبه الفصيح البليغ في كتابه تاريخ ميلان Historia di Milano، (1500 فيما يظن) فقال: "لقد كان بلاط أمرائها فخما إلى أبعد حدود الفخامة، مليئا بالحديث عن أنماط الثياب، وبالمباهج الجديدة، ولكن الفضيلة كانت في ذلك الوقت يثني عليها كل لسان حتى كأن منيرفا ربة الحكمة كانت تتنافس مع فينوس (الزهرة) ربة الجمال في أيهما يكون مدرستها أزهى المدرستين وأعظمهما بهاء. وأقبل على مدرسة كيوبد أجمل الفتيان، وقدم إليها الآباء بناتهم، والأزواج زوجاتهم، والأخوة أخواتهم، وهرعوا جميعا إلى أبهاء الغرام بلا تفكير ولا مبالاة، حتى روع ذلك من كانت لهم عقول يفهمون بها.


كذلك عملت منيرفا بكل ما فيها من قوة على تزيين مجمعها العلمي الظريف، الذي دعا إليه الأمير لدوفيكو اسفوردسا، فخر الأمراء وأعظمهم، رجالا لا يدانيهم أحد في العلم أو الفن من أقصى أطراف أوربا، وأجرى عليهم الأرزاق. لقد اجتمعت فيه علوم اليونان، وأزدهر شعر اللاتين ونثرهم وأنار الآفاق، وفيه سكنت ربات الشعر، وجاء إليه أساتذة فن النحت، وأساتذة التصوير من الأقاليم النائية، وفيه كانت تتردد أصداء الأغاني والأصوات العذبة على اختلاف أنواعها، وتسمع الألحان الحلوة التي يخيل إلى الإنسان أنها تتساقط من السماء نفسها على ذلك البلاط الذي لا مثيل له في العالم"(17).

ولعل بيتريس هي التي أحلت، بحب الأمومة المتوقد، الخراب والدمار بلدوفيكو وإيطاليا. فقد ولدت له ولد ذكرا في عام 1493 سمى مكسميليان باسم إشبينه، وارث عرش الإمبراطورية. وتحيرت بيتريس فلت تكن تدري ماذا يكون من أمرها وأمر الطفل إذا مات لدوفيكو، ذلك أن زوجها لم يكن له حق شرعي في حكم ميلان، وقد يخلعه جيان جلياتسو بمساعدة أهل نابلي في أية لحظة، وينفيه،أو يقتله، وإذا استطاع جيان أن يكون أن يكون له ولد، فالمفروض أن هذا الابن سيرث الدوقية، مهما يكن من مصير لدوفيكو. وكانت هذه المتاعب، تقض مضجع لدوفيكو فبعث بالسر يرسل إلى الملك مكسميليان يعرض عليه أن يزوجه ببيانكا ماريا اسفوردسا ابنة أخيه ويزودها ببائنة مغرية مقدارها أربعمائة ألف دوقة (5.000.000 دولار)، على شرط أن يمنح مكسميليان، حين يصبح إمبراطورا، لدوفيكو لقب دوق ميلان مع ما يتبع هذا اللقب من سلطات، ووافق الملك مكسميليان على هذا العرض، ومن واجبنا أن نضيف إليه أن الأباطرة الذين خلعوا لقب الدوق على الفسكونتى المتولي شئون الحكم قد أبو أن يوافقوا على أن يلقب به الحكام من أسرة اسفوردسا، وكانت ميلان من الوجهة القانونية لا تزال خاضعة لسلطان الإمبراطورية.

وكان جيان جلياتسو مشغولا بكلابه وظبائه شغلا يحول بينه وبين الالتفات إلى هذه التطورات وما تسببه له من متاعب. ولكن زوجته إزبلا ذات الروح الحماسية قد تبينت الاتجاه الذي تسير فيه، وكررت رجاءها إلى أبيها. ولما حل شهر يناير من 1494 جلس الفنسو على عرش نابلي، وأتخذ له سياسة معادية عداء صريحا لنائب الملك في ميلان. ولم يكتف البابا إسكندر السادس بالتحالف مع نابلي، بل كان يتوق إلى ضم مدينة فورلي Forli - التي كان يحكمها أحد أفراد أسرة اسفوردسا - مع عدة بلدان أخرى ليكون منها دولة بابوية قوية. وكان لورندسو ده ميديتشي، صديق لدوفيكو، قد توفي في عام 1492، ودفع اليأس لدوفيكو إلى أتباع وسائل مستيئسة لحماية نفسه، فعقد حلفا بين ميلان وفرنسا، وارتضى أن يمر شارل الثامن والجيش الفرنسي بلا مقاومة في شمالي إيطاليا حين يعتزم شارل تأييد حقوقه في عرش نابلي.

على هذا النحو جاء الفرنسيون، واستضاف لدوفيكو شارل، ودعا له بالنجاح والتوفيق في حملته على نابلي. وبينما كان الفرنسيون يزحفون جنوبا إذ توفي اسفوردسا بمجموعة من العلل، وظن خطأ أن لدوفيكو دس له السم، وفعل لدوفيكو ما يقوى هذه الريبة إذ عجل فعمل على أن يخلع عليه لقب الدوق (1495). وفي هذا الوقت بالذات غزا لويس، دوق أورليان، إيطاليا على رأس جيش فرنسي آخر، أعلن سيستولي على ميلان التي يمتلكها لأنه من نسل جيان جلياتسو فسكونتي. وتبين لدوفيكو وقتئذ انه أرتكب خطأ موبقاً حين رحب بشارل، فأسرع يقلب سياسته رأسا على عقب، وسعى إلى عقد "حلف مقدس" من البندقية، وأسبانيا، وإسكندر السادس، ومكسميليان ليطرد الفرنسيين من شبه الجزيرة. فما كان من شارل إلا أن رجع على أعقابه مسرعا، ومنى بهزيمة غير حاسمة عند فرنوفو Fornovo، (1495) ولم يستطع إعادة فلول جيشه إلى فرنسا إلا بشق الأنفس. وقرر لويس دوق أورليان أن ينتظر حلول يوم يكون فيه أسعد حظاً من يومه السابق.

وكان لدوفيكو يفخر بما كللت به خطته الملتوية من نجاح ظاهري. فقد ألقى على ألفنسو درسا قاسيا، خدع أورليان، وقاد الحلف إلى النصر. وبدا أنه أصبح أمنا في مركزه. فخفف من يقظة دبلوماسيته، وأخذ يستمتع مرة أخرى بأبهة بلاطه وحريات شبابه. ولما حملت بيتريس مرة ثانية أعفاها من الالتزامات الزوجية، وعقد صلة غير شرعية مع لكريدسيا كريفيلي Lucrezia Crevelli (1496). وأحزنت بيتريس خيانته وتحملتها على مضض، ولم تعد تنشر حولها الغناء والمرح، بل شغلت نفسها بولدها، وأما لدوفيكو فكان يتردد بين عشيقته وزوجته، ويبرر هذا بأنه يحبهما كلتيهما، واعتكفت بيتريس مرة أخرى في عام 1497 لتضع حملها، ووضعت ولدا ميتا، وماتت بعد ساعة من وضعه وهي تعاني آلاما مبرحة، ولما تتجاوز الثانية والعشرين من عمرها.

وتبدل في تلك اللحظة كل شيء في المدينة وفي الدوق، ويقول كاتب معاصر إن الناس "أظهروا من الحزن ما لم يعرف مثله في ميلان من قبل"، وارتدى أفراد الحاشية ثياب الحزن، وغلب على لدوفيكو الأسى والندم فكان يقضي أياما طوالا في العزلة والصلاة، ولم يكن هذا الرجل القوي الذي قلما فكر من قبل في الدين يرجو إلا مرحمة واحدة - هي أن يلقى منيته، ويرى بيتريس مرة أخرى، وينال منها المغفرة، ويستعيد حبها، وظل أسبوعين كاملين يرفض استقبال موظفي الدولة، ومندوبيه، وأطفاله، ويحضر الصلاة ثلاث مرات في اليوم، ويزور في كل يوم قبر زوجته في كنيسة سانتا ماريا دلى جرادسى Santa Maria delle Grazie، وعهد إلى كرستوفورو سولارى أن ينحت تمثالا لبيتريس تمثالا مضطجعا، إذ كان يرغب في أن يوارى معها بعد موته في قبر واحد، فقد طلب أن يوضع تمثاله بجوار تمثالها، وحدث هذا فعلا، ولا يزال هذا النصب الساذج قائما في التشرتوازا دي بافيا Cetrosa di Paira يخلد ذكرى ذلك العهد السعيد القصير الذي انتهى بالنسبة إلى لدوفيكو وميلان كما أنتهي بالنسبة إلى بيتريس وليوناردو.

وسارت المأساة إلى نهايتها سيرا حثيثا، ففي عام 1498 أصبح دوق أورليان هو لويس الثاني عشر ملك فرنسا، ولم يكد يجلس على العرش حتى أكد من فوره عزمه على امتلاك ميلان. وأخذ لدوفيكو يبحث عن الحلفاء، ولكنه لم يجد له حليفا واحدا، فقد ذكرته مدينة البندقية في غير مجاملة باستعدائه شارل الثامن عليها. ثم ولى قيادة جيشه جلياتسو دي سان سيفيرينو Galeazzo di San Severino الذي كان أجمل من أن يتولى قيادة جيش، ولم يكد هذا القائد يبصر العدو حتى أطلق ساقيه للريح، وزحف الفرنسيون على ميلان دون أن يلقوا أية مقاومة. ثم عين لدوفيكو صديقه الوفي الذي يضع فيه ثقته بيرنردينو داكورتي Bernardino da Corte ليحرس مكسميليان. ثم أتخذ لدوفيكو طريقة متخفيا (في 2 سبتمبر سنة 1499) إلى انزبروك ومكسميليان بعد أن لاقى كثيرا من الأخطار؛ ولما أن قاد جيان تريفلدسيو Gian Trivulzio، وهو قائد من أهل ميلان أساء إليه لدوفيكو في يوم من الأيام، الفرنسيين إلى ميلان سلمه بيرناردينو القصر وكنوزه دون مقاومة نظير رشوة قدرها 150.000 دوقة (1.875.000 دولا أمريكي).ويقول لدوفيكو وهو حزين ممتعض "انه لم تقع قط خيانة أفظع من هذه منذ أيام يهوذا"(18). وأمنت على قوله إيطاليا كلها.

وأصدر لويس أمره إلى تريفلدسيو بان يؤدى البلد المفتوح نفقات الفتح، فأخذ القائد يجني الضرائب الباهظة، وسلك الجنود الفرنسيون مسلك الغلظة والوقاحة، وأخذ الناس يتمنون عودة لدوفيكو، حتى عاد فعلا على رأس قوة صغيرة من مرتزقة السويسريين، والجرمان، والإيطاليين. وأرتد الجنود الفرنسيين إلى القصر، ودخل لدوفيكو ميلان ظافرا (في الخامس من فبراير سنة 1500). وجيء إليه أثناء مقامه القصير في المدينة بأسير فرنسي هو الفارس بايار Chevalier Bayard الذي اشتهر بشجاعته وحسن أدبه. ورد إليه لدوفيكو جواده وسيفه، وأطلق سراحه، وأرسله محروسا إلى معسكر الفرنسيين. غير أن هؤلاء لم يردوا الجميل بمثله، بل أخذت الحامية المعسكرة في القصر تطلق القذائف على شوارع ميلان، حتى نقل لدوفيكو مقر قيادته إلى بافيا لينجي السكان من القتل أو يكسب رضاهم. ثم بدأت أمواله تنفذ، وعجز عن أداء رواتب الجنود في مواعيدها، فاقترحوا عليه أن يعوضوا أنفسهم بنهب المدن الإيطالية، فلما نهاهم عن ذلك استشاطوا غضبا. وعهد إلى جيان فرانتشيسكو جندساجا Giannfrancesco Gonzaga وزوج ازبلا أخت بيتريس أن يتولى قيادة جيشه الصغير. وقبل فرانتشيسكو هذه المهمة، ولكنه أخذ يتفاوض سرا مع الفرنسيين (19).فلما ظهر هؤلاء عند نوفارا Novara قاد لدوفيكو قوته المختلطة إلى الميدان، ولكنها ارتدت على أعقابها عند أول صدمة وولت الأدبار، ووضع قوادها شروط الصلح مع الفرنسيين، ولما حاول لدوفيكو الفرار متخفيا، غدر به السويسريون المرتزقون وأسلموه إلى العدو (10 أبريل عام 1500). وارتضى مصيره المحتوم في اطمئنان وهدوء، ولم يطلب إلا أن يؤتى بنسخته الخاصة من المسلاة الإلهية من مكتبته في بافيا. واقتيد بشعره الأشيب، وسط الجموع الساخرة في شوارع ليون Lyons، ولكنه ظل في أثناء ذلك محتفظا بأنفته وكبريائه، وسجن في قصر ليس سانت جورج Lys-Ssint George في برى Berry. ورفض لويس الثاني عشر أن يقابله، وتجاهل رجاء الإمبراطور مكسميليان انه يطلق سراح الأسير المهشم، ولكنه سمح للدوفيكو أن يتمشى في أفنية القصر، ويصطاد السمك من الخندق، وأن يستقبل الأصدقاء.

ولما مرض لدوفيكو وأضحت حياته في خطر بعث إليه لويس بطبيبه الأستاذ سالومون Maitre Salomon، وجاء إليه بأحد أقزامه من ميلان ليسليه، ثم نقله في عام 1504 إلى قصر لوش Loches وسمح له بقسط من الحرية أكثر مما كان له قبل، وحاول لدوفيكو الهرب في عام 1508، فتسلل من الأماكن المحيطة بالقصر يحمل حملا من القش، ولكنه ضل طريقه في الغابات، واقتفت كلاب الصيد أثره، وشددت عليه من أجل ذلك الحراسة في سجنه، فحرم من الكتب، ومن أدوات الكتابة، وسجن في جب تحت الأرض. وهناك في السابع من شهر مايو عام 1508 مات في ظلام العزلة، بعيدا كل البعد عن حياة البهجة التي كان يستمتع بها يوما ما في عاصمته المرحة. وكان حين وافته المنية في السابعة والخمسين من عمره(20).

كان لدوفيكو في حياته قد أجرم في حق الرجال والنساء وفي حق إيطاليا نفسها، ولكنه كان يحب الجمال، كان يعز الرجال الذي جاءوا إلى ميلان بالفن والموسيقى، والشعر، والعلم. وفي ذلك يقول جرولامو تيرابسكي Girolamo Tiraboschie منذ قرن من الزمان:

إذا أحصينا العدد الجم من العلماء الذين وفدوا إلى بلاطه من كافة أنحاء إيطاليا وهم واثقون من انهم سينالون الشرف أعظمه ومن الهبات أسخاها، وإذا ذكرنا العدد الكبير من مشهوري المهندسين المعماريين والرسامين الذين دعاهم إلى ميلان، والمباني الكثيرة الفخمة التي أقامها فيها، وذكرنا فوق ذلك أنه شاد جامعة بافيا العظيمة ووهبها الأموال الطائلة، وأفتتح المدارس لكل أنواع العلوم في ميلان، وإذا ما قرأنا فضلا عن هذا كله قصائد المدح ورسائل التبجيل التي وجهها إليه العلماء على اختلاف أجناسهم، إذا فعلنا هذا فانا لا يسعنا إلا أن نقر بأنه خير من عاش على ظهر الأرض من الأمراء.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السادس: الآداب

أحاط لدوفيكو وبيتريس نفسيهما بعدد كبير من الشعراء، لكن حياة البلاط بلغت من البهجة والمرح حدا لا تستطيع معه أن تلهم الشاعر ذلك الإخلاص الحافظ القوي الذي ينطقه بعيون الشعر. وكان سرافينو الأكويلائي Serafino of Aqulia دميما قصيرا، ولكن أغانيه التي ينشدها بنفسه على العود كانت تبعث البهجة في قلب بيتريس وأصدقائها، فلما توفيت خرج خلسة من ميلان لأنه لم يطق ما ساد في الحجرات من صمت بعد أن كانت تعج بضحكاتها، وتشهد خطوات قدميها الرقيقتين. واستقدم لدوفيكو كاملي Camelli وبلينتشيوني Bellincione الشاعرين التسكانيين إلى بلاطه لعلهما يبعثان الرقة في التعبيرات اللمباردية، وكانت النتيجة أن نشبت حرب شعواء بين الشعراء التسكانيين واللمبارديين، أخرجت منها الأغاني المسمومة الشعر النبيل الشريف. وكان بلينتشيوني مشاغباً شكساً إلى حد دفع منافساً له من الشعراء أن بعث له نقشاً يكتب على قبره يحذر فيه من أن يمر به أن يخفف الوطء لئلا تقوم جثته وتعضه. ومن أجل هذا أتخذ لدوفيكو شاعرا لمبارديا يدعى جسبار فسكونتى Gasparo Visconti شاعر بلاطه، فسكونتي هذا لبياتريس في عام 1496 مائة وثلاثا وأربعين من الأغاني وغيرها من القصائد مكتوبة بحروف من الفضة والذهب على رقائق من العاج، ومزينة بنقوش دقيقة بديعة ومغلفة بورق مقوى مطلي بالفضة المنقوشة عليها الأزهار بالميناء، وكان شاعرا بحق ولكن الزمن طواه وطمس ذكراه. وكان يحب بترارك، واشتبك في محاورة شعرية جدية ولكنها ودية مع برامنتي موضوعها مقارنة مزايا كل من بتراراك ودانتي، ذلك أن المهندس العظيم كان يحب أن يضع نفسه في عداد الشعراء أيضا، وكانت هذه المجادلات الشعرية من موضوعات الترويح المحببة في بلاط الأمراء والملوك في عهد النهضة، يكاد يشترك فيها كل إنسان، وحتى قواد الجيوش أنفسهم أصبحوا ممن ينشئون الأغاني الشعرية. وكانت خير القصائد في عهد آل اسفوردسا هي التي كتبها شاعر مصقول العبارة يدعى نقولا دا كريجيو Niccolo da Correggio، وجاء إلى ميلان مع حاشية بيتريس يوم زفافها، وبقي في ميلان حباً ببيتريس ولودفيكو، وعمل عندهم شاعراً ودبلوماسياً، وألف أنبل أشعاره حين ماتت بيتريس. وكانت تشيتشيليا جلراني عشيقة لدوفيكو هي الأخرى شاعرة، وكانت ترأس ندوة ممتازة من الشعراء، والعلماء، ورجال الحكم والفلاسفة، وقصارى القول أن كل ما امتازت به فرنسا في القرن التاسع عشر من رقة الحياة والثقافة قد أزدهر في ميلان أيام لودفيكو.

ولم يكن لدوفيكو يضارع لورندسو في ولعه بالعلوم، ولا في اختياره من يناصرهم. فقد جاء إلى مدينته بألف من العلماء، ولكن مناقشاتهم العلمية لم تخرج عالما واحدا ممتازا. وقد ولد فرانتشيسكو فيليلفو Francesco Fillelfo، الذي رددت إيطاليا كلها أصداء علمه وشتائمه، في تولنتينو، وتلقى العلم في بدوا، وعين فيها أستاذا وهو في الثامنة عشر من عمره، واشتغل بالتدريس وقتا ما في البندقية، وسره حين أتيحت له الفرصة لزيارة القسطنطينية إذ عين فيها أمينا لقنصلية البندقية (1419). قلما جاءها شرع يدرس اللغة اليونانية على جون كريسلوراس Joho Chrysoloras وتزوج بابنة جون، وظل سنين طوالا موظفا صغيرا في البلاط البيزنطي. فلما عاد إلى البندقية كان هلنستياً بارعاً يفخر، وله بعض الحق، بأنه لا يوجد إيطالي غيره متمكن من اللغتين القديمتين وآدابهما تمكنه هو. وكان يكتب الشعر، ويلقي الخطب، باللغتين اليونانية واللاتينية، وكانت البندقية تؤجره نظير كونه أستاذ لهاتين اللغتين وآدابهما أجرا عاليا غير معتاد وهو مائة سكوين Sequin (12.500 دولار) في العام، لكن فلورنس أغرته بأجر أكبر من هذا (1429) فجاء إليها وأصبح فيها أكبر علمائها. وقد قال هو عن نفسه إن "المدينة على بكرة أبيها تقف لتتطلع لي ... واسمي يجري على كل لسان". ولا يفسح لي الطريق كبار رجال البلدة المدنيين فحسب، بل يفسحه أيضاً لي النساء أنفسهن، ويظهرن لي من الإجلال والتعظيم ما يخجلني. وكان يستمع لدروسه أربعمائة شخص في كل يوم، معظمهم من الرجال المتقدمين في السن، من منزلة أعضاء مجلس الشيوخ"(22). ولكن سرعان ما انتهى هذا كله، لأن فيليلفو كان ميالا للنزاع والشجار، حتى أغضب أولئك الرجال الذين استدعوه إلى فلورنس - نقولو ده نقولي، وأمبروجيو ترافرساري وغيرهما. ولما سجن كوزيمو ميديتشي في قصر فتشيو، حرض فليليفو الحكومة على أن تعدمه، فلما أنتصر كوزيمو هرب هو من المدينة، وقضى ست سنين يعلم في سينا وبولونيا، واخيرا اجتذبه فلبوماريا فسكونتي (1440)إلى ميلان بان منحه ذلك الأجر الذي لم يكن له نظير من قبل وهو 750 فلورينا في العام، وفيها قضى فيليلفو بقية حياته الطويلة العاصفة.

وكان فيليلفو ذا نشاط مروع عجيب، كان يلقي في كل يوم محاضرات تدوم أربع ساعات في اللغة اليونانية أو اللاتينية أو الإيطالية، ويشرح كتب الأقدمين، أو أشعار دانتي، أو كتب افلوطرخس، واكن يلقي خطبا عامة في الاحتفالات الحكومية، أو الحفلات الخاصة؛ وكتب بالغة اللاتينية ملحمة في فرانتشيسكو اسفوردسا، وعشر "قصائد" في الهجاء، وعشرة "كتب" من الشعر الغنائي، وألفى بيت وأربعمائة من الشعر اليوناني، وكتب عشرة آلاف بيت في الحب (1465) لم تطبع، وكثير منها مما لا يجوز طبعه، وكانت له زوجتان، وتزوج بثالثة، وكان له أربعة وعشرون من الأبناء الشرعيين فضلا عن غير الشرعيين الذين كان وجودهم دليلا على خياناته. وقد وجد وسط هذه الجهود كلها متسعا من الوقت لإثارة حروب أدبية شعواء مع الشعراء، والسياسيين، والكتاب الإنسانيين. وكان رغم ما يتقاضاه من مرتب كبير، ,أجور أخرى تأتيه من حين إلى حين، يشكو الفقر في أوقات متفرقة، ويستجدي مناصريه في أشعار له على مثال أشعار قدماء اليونان والرومان ذات القافية الواحدة لكل بيتين يطلب إليهم المال، والطعام، والكساء، والخيل، ووظيفة كردنال. ولقد أخطأ أن جعل بجيوبين من يسعى إليهم، فقد وجد أن هذا الوغد المرح يفوقه في البذاءة.

لكن علمه، رغم هذا كله، قد جعله العالم الذي يسعى إليه في زمانه. فقد أستقبله البابا نقولاس الخامس في قصر الفاتيكان عام 1453، ووهبه كيسا به 500 دوقة (12.500 دولار)، وعينه الفنسو الأول ملك نابلي شاعر بلاطه ومنحه لقب فارس، واستضافه دوق بورسو Bprso في فيرارا، كما استضافه المركيز لدوفيكو جندساجا في مانتوا والطاغية سجسمند ومالتستا في ريميني., ولما أصبح غير آمن على نفسه في ميلان على أثر موت فرانتشيسكو اسفوردسا وما أعقب موته من فوضى، لم يجد صعوبة ما في الحصول على منصب في جامعة روما، غير أن خازن بيت المال البابوي تلكأ في أداء مرتبه، فعاد فيليلفو إلى ميلان، ولكنه مع ذلك كان يتوق إلى أن يختم حياته بحفيد الرجل الذي رشحه هو للإعدام. غير أن لورندسو عفا عنه، وعرض عليه كرسي الأدب اليوناني في فلورنس، وقد بلغ من فقر فيليلفو وقتئذ أن اضطرت حكومة ميلان أن تقرضه المال اللازم لسفره، فاستطاع بذلك أن يصل إلى فلورنس حيث مات بالزحار بعد أسبوعين من وصوله إليها وكان وقتئذ في الثالثة والثمانين من عمره (1481). وكانت حياته واحدة من حيوات مائة مثله، إذا نظر إليها مجتمعه فاح منها شذى عطر النهضة الإيطالية الفذة، التي يمكن أن يكون فيها طلب العلم وجدا وهياما، والأدب حربا وقتالا.


الفصل السابع: الفن

كان الحكم المطلق نعمة على الفن وبركة، فقد كان أكثر من عشرة حكام يتنافسون في البحث عن المهندسين المعماريين، والمثالين، والرسامين ليزينوا لهم عواصمهم ويخلدوا ذكراهم، وكانوا ينفقون في هذا التنافس أموالا قلما تخصصها الديمقراطيات للجمال، أموالا لم يكن يستطاع تخصيصها للفن لو أن ثمار الجهود والعبقرية البشرية كانت توزع على الناس بالقسطاس المستقيم. وكانت نتيجة هذا ان الفن الإيطالي في عصر النهضة كان فنا خاص ببطانة الملوك ذا ذوق أرستقراطي، ولكنه كان في الأغلب الأعم يلم في شكله وموضوعه بحاجات العظماء من رجال الدنيا والسلطات الكنسية. ذلك هو فن النهضة على حين أن أنبل الفنون وأعظمها هو الذي يخلق للجماهير من كدحها ومن ثمار هذا الكدح هبة عامة ومجدا عاما، هكذا كانت الكنائس الفوطية الكبرى وهياكل بلاد اليونان وروما القديمة. وترى كل ناقد يندد بكتدرائية ميلان لإكتضاضها بالزخارف، واضطراب خطوط البناء، ولكن أهل ميلان لا يزالون منذ خمسة قرون يجتمعون في مبناها الضخم الظليل، مشغوفين به، ولا يزالون حتى في هذا العهد المتشكك يعتزون به ويرون أنه عملهم الجماعي وموضع فخرهم المشترك. وكان الذي بدأ هذا البناء هو جيان جلياتسو فسكونتي (1386)، وقد وضع تصميمه على نطاق خليق بعاصمة إيطاليا الموحدة التي كان يحلم بوجودها، فكانت تتسع لأربعين ألفا يعبدون فيها الله ويظهرون إعجابهم بجيان. وتقول الرواية المأثورة أن نساء ميلان كن يصبن في ذلك الوقت بمرض غريب في أثناء حملهن، وأن كثيرين من أطفالهن يموتون وهم صغار.

وقد مات لجيان نفسه ثلاثة أبناء تعسرت ولادتهم وماتوا بعد أن ولدوا بزمن قليل، وحزن عليهم أشد الحزن، ولهذا وهب المزار العظيم لمريم في مولدها Mariae nasceenti، رجاء أن يرزق بوارث، وأن تلد نساء ميلان أبناء أصحاء. ثم دعا المهندسين من فرنس وألمانيا للاشتراك في العمل مع المهندسين الطليان، فأما المهندسون من أهل الشمال فقد جاءوا بالطراز القوطي، وأما الإيطاليون فهم الذين أفاضوا عليها الزخرف، وضعف التناسق بين الطراز والشكل من جراء تضارب الآراء بين الجانبين ومن الزمن الطويل الذي تم فيه بناء الكنيسة، والذي بلغ قرنين من الزمان. تبدل خلالها مزاج العالم وذوقه، فلم يعد من أتموا هذا الصرح يحسون بما يحس به من بدأوه. ولم يكن قد تم من البناء حين توفي جبان جلياتسو (1402) إلا جدرانه، ثم توقف العمل لقلة المال. ثم أستدعى لدوفيكو برامنتي وليوناردو، وغيرهما ليصمموا السقف المستدير الذي يضم الأبراج المتفرقة الفخمة في تاج موحد، لكنه رفض آراءهم؛ ثم أستدعى آخر الأمر (1490) جيوفني أنطونيو أمديو من عمله الشاق في التشرتوزا دي بافيا، وعُهد إليه بالأشراف التام على مشروع الكنيسة الكبرى كله. وكان هو ومعظم مساعديه مثالين أكثر منهم مهندسين؛ ولهذا لم يكونوا يطيقون أن يبقى أي جزء من ظاهر البناء خاليا من النحت أو الزينة؛ وقضى الرجل في هذا العمل السنين الثلاثين الأخيرة من حياته (1490 - 1522) ومع هذا فإن السقف المستدير لم يتم إلا في عام 1759؛ كما أن واجهة الكنيسة التي بدأ بها في عام 1616 لم يتم إلا بعد أن فرض نابليون إتمامها فرضاً بأمر إمبراطوري (1809).

وكانت في أيام لدوفيكو ثانية كنائس العالم من حيث الحجم، فقد كانت تغطي مساحة قدرها 120.000 قدم مربعة، أما اليوم فقد نزلت عن هذا الشرف الخداع، شرف الضخامة، إلى كتدرائية القديس بطرس في إشبيلية، ولكنها لا تزال تفخر بطولها وعرضها (486 قدماً × 289)، وبارتفاعها البالغ 354 قدماً من الأرض إلى رأس العذراء الذي يعلو المنارة القائمة في السقف المستدير، وبأبراجها المستدقة العلية البالغ عددها مائة وثلاثة وخمسين والتي تقلل من مجدها وعظمتها، وبالتماثيل البالغ عددها ألفين وثلاثمائة والتي تغطي هذه الأبراج المستدقة، والعمد، والجدران، والسقف. وقد شيدت الكنيسة كلها حتى سقفها نفسه بالرخام الأبيض جيء به إليها بجهد كبير من اكثر من عشرة محاجر في إيطاليا. وواجهة البناء منخفضة انخفاضاً يتناسب مع سعته، ولكنها مع ذلك تستر السقف المستدير البديع؛ وليس في وسع الإنسان أن يشاهد متاهات العمد التي تقوم فوق أرضها كأنها تضرع وتبتهل إلا إذا طار بجناحين ثم استطاع أن يقف في أعلاها وسط الهواء، وعليه إذا أراد أن يحس بروعة حجمها الضخم وما فيه من إسراف، أن يطوف المرة بعد المرة حول سقفها العظيم بين طائفة لا حصر لها من الدعامات؛ وعليه أن يجتاز شوارع المدينة الضيقة المزدحمة، ثم يخرج فجأة إلى ميدان الكنيسة الرحب المفتوح، لكي يدرك روعة الواجهة والمنارة اللتين تنعكس عليهما شمس إيطاليا فتبدلهما لآلاء حجرياً؛ وعليه أن يزاحم بمنكبيه الجموع الحاشدة في أحد أيام العطلة ويدخل معها من أبواب الكنيسة ويدع كل هذه الرحاب الواسعة؛ والعمد، التيجان، والعقود، والقباب، والتماثيل، والمحاريب، والألواح الزجاجية الملونة تنقل إليه بصمتها سر الإيمان والأمل والعبادة.

وإذا كانت الكاتدرائية هي الأثر الخالد الذي أقامه جيان جلياتسو فسكونتي، وإذا كانت تشرتوزا بافيا هي ضريح لدوفيكو وبيتريس، فإن المستشفى الكبير (Ospedale Maggiore) هو الأثر البسيط الضخم الذي يخلد ذكرى فرانتشيسكو اسفوردسا. وأراد اسفوردسا أن يخطط بطريقة "خليقة بأملاك الدوق العظيمة، وبالمدينة الكبرى الذائعة الصيت"، فاستدعي من فلورنس (1456) أنطونيو أفرولينو Antonio Averulino المعروف باسم فيلاريتى Filarete والذي اختار له شكلاً ضخما من الطراز الرومانسي اللمباردي، والراجح أن برامنتي هو المهندس الذي أنشأ الفناء الداخلي، وقد أنشأ في مواجهته طبقتين من العقود المستديرة تعلو كل طبقة منها شرفة ظريفة رشيقة. وقد ظل المستشفى الكبير من أعظم ما في ميلان من أمجاد حتى دكت الحرب الأوربية الثانية معظم أجزائه وتركتها خراباً تنعى من بناها.

وكان لدوفيكو وحاشيته يرون أن فنان ميلان الأعظم هو برامنتي لا ليوناردو، لأن ليوناردو لم يكشف لأهل زمانه إلا جزاءاً من نفسه. وقد ولد دوناتو د انيولو Donato d'Agnolo في كاستل ديورانتي Castel Drante القريبة من أربينو Urbino وأطلق عليه من قبيل السخرية لقب برامنتي ومعناه الشخص الذي يلتهب بالرغبات الجامحة التي لا تشبع. ورحل إلى مانتوا ليدرس مع مانتينيا Mantegna؛ وتعلم فيها ما يكفي لأن يخرج بعض مظلمات متوسطة الجودة، ويرسم صورة ملونة رائعة للعالم الرياضي لوكا بتشيولي Leca Pocioli؛ ولعله التقى في مانتوا بليون باتستا البيرتي Leon Batista Alberli الذي كان يصمم كنيسة سانت أندريا Sant' Andrea؛ وسواء كان هذا أو لم يكن فان طائفة من التجارب المتكررة في فن المنظور نقلت برامنتي من التصوير إلى العمارة؛ ونشاهده عام 1472 في ميلان يدرس كنيستها الكبرى بدقة الرجل الذي يعتزم القيام بأعمال جليلة. وأتيحت له حوالي عام 1476 فرصة يظهر فيها كفايته، وكانت هذه الفرصة هي تخطيط كنيسة سانتا ماريا حول كنيسة سان ساتيور San Satiro الصغيرة. وقد أظهر في هذه الآية الفنية المتواضعة طرازه المعماري الخاص في القباءات نصف الدائرية، وحجر المقدسات، والقبب المثمنة الأضلاع، والقباب الدائرية، التي تعلوها كلها طنف رشيقة، والتي تزدحم بعضها فوق بعض في صورة جامعة تخلب اللب. ولما عجز برامتي عن أن يجد مكانا للقبا، أخذ يداعب بفن المنظور، فنقش على الجدار القائم خلف المحراب صورة قبا تخدع الإنسان خطوطه المتجهة كلها نحو مكان واحد فلا يكاد يشاهد قبا غائراً بحق. وقد أضاف إلى كنيسة سانتا ماريا دل جراتسي قباً، وسقفاً مستديراً مقببا، والمداخل المعمدة للطرق المقنطرة التي كانت هي الأخرى بين ما دمرته الحرب الأوربية الثانية. ولما سقط لدوفيكو رحل برامنتي نحو الجنوب، متأهباً لأن يهدم روما ويبنيها من جديد.

ولم يكن المثالون الذي في بلاط لدوفيكو فنانين جبارين مثل دوناتلو وميكل انجلو، ولكنهم نحتو للشيرتوزا، والكتدرائية، والقصر، مائة صورة وصورة ذات رشاقة خلابة فتانة. وسيضل الناس يذكرون اسم كرستوفورو سولاري Cristoforo Solari الأحدب (II Gobbo) ما بقي القبر الذي أنشأه للدوفيكو وبياتريس قائما. وكسب جيان كرستوفورو رومانو محبة الناس جميعاً بظرفه وغنائه العذب؛ وكان من كبار المثالين في التشيرتوزا ولكنه انتقل إلى مانتوا بعد موت بيتريس بعد أن ظلت هذه المدينة تلح عليه عاماً كاملاً، وفيها نحت لإزبيلا مدخلاً ظريفاً لحجرة مكتبتها في قصر البرديزو Paradiso (الجنة) ثم حفر صورة لها في مدلات تعد من اجمل مدليات النهضة. وانتقل بعدئذ إلى أربينو ليعمل فيها عند الدوقة إلزبتا جندساجا Elisabetta Gonzaga، ثم أصبح من أبزر الشخصيات في كتاب البلاط لكستجليوني Caztiglione. وكان أعظم حفاري المدليات في ميلان كلها هو كرستوفورو فبا Crcistoforo Foppa. الملقب من قبيل السخرية كرادسا Caradossa، وهو الذي قطع الجواهر البراقة التي كانت تتحلى بها بيتريس، وجاب على نفسه حسد تشيليني Cellini.

وكان في ميلان مصورون جيدون قبل ليوناردو بجيل من الزمان، كان فيها فينتشندسوفيا الذي ولد في بريشيا، وتكون في بدوا، وقام أكثر أعماله في ميلان، وذاعت في أيامه شهرة مظلماته التي صورها في سانت يستورجيو sant' Eustorgio، ولا تزال صورة استشهاد القديس سبستيان تزين أحد جدران الكاستلو. وترك لنا أمبروجيو برجنيوني الذي نسج على منواله بميلان، وفي تررين،وبرلين، وكلها تجرى على تقاليد روح التقى الصادق القوي؛ وترك لنا كذلك صورة أنيقة لجيان جلياتسو اسفوردسا في طفولته هي الآن بين مجموعة ولاس wallace في لندن. وفي الصور نجاحا في التعبير عن هذا الموضوع الشاق. وكان أمبروجيو ده برديس Ambrogio de Perdis مصور البلاط عند لودفيكو حين قدم إليه ليوناردو، ويلوح أنه كان له نصيب في تصوير عذراء الصخور مع ليوناردو نفسه، لعله هو الذي رسم الصورة الساحرة للموسيقيين الملائكة المحفوظة في المعرض القومي بلندن، ولكن أجمل مخلفاته صورتان محفوظتان في الأمبروزيانا: أحدهما لشاب جاد غاية الجد لا يعرف من هو ، والثانية لفتاة يعتقد الآن إنها بيانكا ابنة لدوفيكو غير الشرعية. وقلما أفلح فنان غيره في إدراك المفاتن المتضاربة لفتاة تتصف بالحشمة والبراءة، ولكنها مدركة لجمالها الساذج فخورة به.

وكانت المدن الخاضعة لميلان تقاسي الأمرين من جراء نزوح ذوي المواهب من أهلها إلى تلك العاصمة لما فيها من مغريات، ولكن كثيرا من هؤلاء استطاعوا أن يخلدوا أسماءهم في تاريخ الفن. ولم تكن كومو تقنع بأن بابا لا أكثر لميلان يوصل إلى البحيرة التي سميت تلك المدينة باسمها، بل كانت هي أيضاً تفخر بروائعها الفنية مثل برج القومون Torre del Comune، وبرولتو Broletto وتفخر أكثر من ذلك بكتدرائيتها الفخمة المشيدة من الرخام. وقد قامت الواجهة القوطية الرائعة لهذه الكاتدرائية أيام اسفوردسا (1457 - 1487)؛ وصمم برامنتي لها مدخلا جميلا من الجهة الجنوبية، وشاد ستوفورد سولاري القبا الخلاب على الطراز البرامنتي. وأهم من هذه المعالم وأكثر إمتاعا تمثالان يجاوران المدخل الرئيسي: أحدهما على اليسار لبلني الأكبر Pliny the Elder وثانيهما على اليمين لبلنى الأصغر Pliny the Younger، وهما من أبناء روما القدمين، وثنيان متحضران اتخذا لهما مكانا في واجهة كتدرائية مسيحية أيام لدوفيكو المغربي السمحة.

وكانت أجمل درة في برجامو Bergamo هي الكابلا كليوفي Capella Colleoni وكان سبب قيامتها أن الأفاق البندقي المغامر الذي ولد هنا أراد أن يشاد له معبد تثوى فيه عظامه وأن يكون لقبره شاهد يخلد انتصاراته. وصمم جيوفني أنطونيو أماديو المعبد والقبر، وحرص على أن يظهر فيهما الروعة والذوق السليم، ثم أقام سكستس سيري النورمبرجى Sixtus Siry of Nuremberg على الضريح تمثال فارس من الخشب، لو أن فيروتشيو ولم يَصُب لهذا القائد العظيم تمثالاً آخر من مادة أقوى وهي البرنز لكان لهذا التمثال الخشبي شهرة أوسع من شهرته الحاضرة. وكان قرب برجامو من ميلان مانعاً لها من الاحتفاظ بمصيرها، ولكن واحداً منهم هو أندريا بريفتالي Andrea Previtali عاد إلى برجامو (1513) بعد أن درس مع جيوفني بليني في البندقية، وأورثها صوراً تمثل التقى بأعظم معانيه والتواضع في أجمل صورة.

وكانت بريشيا تخضع تارة للبندقية وتارة لميلان، وساعدها ذلك على أن تحفظ التوازن بين التأثيرين، وأن يكون لها مدرسة للفن خاصة بها. وكان من أبنائها النابهين فنتشيندسو، وقد وزع ثمار مواهبه على ست مدن أو نحوها، ثم عاد بعدئذ ليقضي السنين الأخيرة من عمره في مسقط رأسه، وشارك تلميذه فينتبشندسو جفركيو Vincezo Giverchio شرف تكوين المدرسة البريشية الفنية. ودرس جيرولامو روماني المعروف باسم رومانينو مع فيرامولو، ثم درس في ما بعد في بدوا والبندقية، ثم أتخذ بريشيا مركزا له وصورة فيها وفي غيرها من بدن إيطاليا الشمالية سلسلة طويلة من المظلمات وستر المحاريب، والصور، ألوانها ممتازة ولكن خطوطها لا تبلغ هذه الدرجة من الإتقان. وحسبنا أن ننظر من هذه الصور صورة العذراء والطفل المحفوظة في إطار فخم من صنع استيفانو لمبرتي Stefano Lamberti في كنيسة سان فرانتشيسكو. وسما تلميذه السندرو بنفيتشينو Alessandro Bonvieino، المعروف باسم موريتو البريشيائي Moretto da Brescia، بهذه الأسرة إلى أعلى مكانتها بأن مزج مجد البنادق ذوي الإحساس المرهف بالعاطفة الدينية المتحمسة التي ظلت تمتاز بها صور بريشيا إلى آخر أيامها. وقد رسم موريتو في كنيسة القديسين نادسارو وتشيلسو Nazaro e Celso حيث وضع تيشيان صورة البشارة، صورة لا تقل عن هذه الصورة الأخيرة جمالاً وهي صورة تتويج العذراء. وصورة الملاك الأكبر التي بها لا تقل من حيث رقة الشكل والملامح عن أجمل الأشكال الموجودة في الكريجورو. وكان في وسعه أن يصور كلما شاء صوراً لفينوس مثيرة للشهوات شأنه في هذا شأن تيشيان؛ وتكشف صورة سالومي عن وجه من أظرف وأرق ما صور من الوجوه في نطاق فن النهضة كله بدل أن تكشف عن صورة قاتلة بالنيابة. وجمعت كريمونا حياتها كلها حول كنيستها الكبرى التي أنشئت في القرن الثاني عشر وحول البرج (Torrazo) المجاور لها وهو برج يكاد يضارع برج جيتو والخرلدة Giralda. ورسم جيوفيني ده ساكى Giovanni de Sacchi، المسمى البرودينوني II Prodenone بسام المدينة التي أنشأ فيها، داخل هذه الكنيسة أروع آية من آياته الفنية هي صورة يسوع يحمل صليبه. وأنجبت ثلاث أسر عظيمة في تلك المدينة أجيالا متعاقبة من ذوي المواهب العالية في فن التصوير الكريموتائي: أسرة بيمي Bempi (وقد أنجبت بنيفادسيو Benifazio، وبينيديتو benedetto، وجيان فرانتشيسكو وأسرة بكاتشيني Boccaccini وأسرة كامي Campi. ودرس يوكاتشيويكا تشيبني في البندقية، وأقحم نفسه في منافسة لا طاقة له مع ميكل أنجلو في روما، ثم عاد إلى كريمونا، وعلا صيته بما انشأ من مظلمات في كتدرائيتها صور فيها العذراء، وواصل ابنه كاملو Camillo أعماله الرائعة الممتازة. كذلك واصل جيليو Giuilio وانطونيو ولدي جلبترو كامي وبرتردينو كامى تلميذ جيوليو أعمال جلياتسو. وكان جلياتسو هذا قد وضع تصميم كنيسة سانتا مرغريتا في كريمونا ثم رسم فيها صورة المخلص في المعبد. وهكذا نزعت الفنون في إيطاليا على عهد النهضة إلى أن تجتمع في عقل واحد، وقد ازدهرت في عهد عباقرة متعددي الكفايات تعددا لم يعرف حتى في بلاد اليونان.