قصة الحضارة - ول ديورانت - م 5 ك 1 ب 2

صفحة رقم : 6390

قصة الحضارة -> النهضة -> تمهيد -> البابوات في أفنيون -> الأسر البابلي


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثاني: البابوات في أفنيون 1309 - 1377

الفصل الأول: الأسر البابلي

نقل البابا كلمنت الخامس في عام 1309 مقر البابوبة من روما إلى أفنيون، وكان كلمنت هذا رجلاً فرنسياً، وكان قبل أن يجلس على كرسي البابوية أسقفا لبوردو، وكان الفضل في اختياره لمنصبه عائدا إلى فليب الرابع ملك فرنسا الذي أثار دهشة العالم المسيحي بهزيمة البابا بنيفاس الثامن، وبعدم اكتفائه بهذه الهزيمة بل اضاف إليها القبض عليه، وإذلاله، ومنع الطعام عنه حتى كاد يميته جوعا. ولم يكن كلمنت ليأمن على حياته في روما التي كانت تحتفظ لنفسها دون غيرها بالحق في إساءة معاملة البابا، والتي اغتاظت من وقاحة الملك البادية في عدم احترامه إياه، يضاف إلى هذا أن الكرادلة الفرنسيين كانوا يؤلفون وقتئذ أغلبية كبيرة في المجمع المقدس ويأبون أن يضعوا أنفسهم تحت سلطان إيطاليا. ولهذا كله أقام كلمنت بعض الوقت في ليون وبواتييه، ثم أتخذ مقامه في أفنيون القائمة على الضفة الأخرى لنهر الرون المقابلة لأرض فرنسا كما كانت في القرن الرابع عشر، وكان يرجو بذلك أن يكون أقل خضوعا لفليب في إقليم يمتلكه ملك نابلي بوصفه كونت بروفانس.

وكانت الجهود الجبارة التي بذلتها البابوية من أيام جريجوري السابع (1073-1085) إلى أيام بنيفاس الثامن (1294-1303) لإنشاء دولة عالمية أوربية بإخضاع الملوك للبابوات- كانت هذه الجهود قد أخفقت، وانتصرت القومية على النزعة الاتحادية النظرية، وحتى في إيطاليا نفسها رفضت جمهوريات فلورنس والبندقية، ودول المدن في لمبارديا ومملكة نابلي سيطرة الكنيسة عليها، وأطلت برأسها مرتين جمهورية في روما، وأخذ مغامرون من العسكريين أو السادة الإقطاعيين-من أسر بجليون Baglioni، وبينتيفجل Bentivogli، وملاتيستا Malatestas، ومنفريد Manfredi، واسفورادسا Sforaza، واخذ هؤلاء وأولئك يستبدلون في الولايات البابوية الأخرى عجرفتهم العسكرية بنواب الكنيسة. وكانت البابوية أثناء مقامها في روما تستخدم مكانتها العظيمة التي استحوذت عليها قرونا طوالا، وكانت الأمم قد اعتادت أن تعظمها وتخضع لسلطانها، وتبعث لها بالأموال، أما بابوية يختار لها باستمرار أحبار فرنسيون (1305-1378)، يكادون سجناء عند ملوك فرنسا، ويقرضون هؤلاء الملوك أموالا طائلة ليشنوا بها حروبهم، أما بابوية من هذا الطراز فقد بدت لألمانيا، وبوهيميا، وإيطاليا، وإنجلترا أنها قوة معادية لها، وأنها سلاح نفساني في يد الملكية الفرنسية. وأخذت تلك الأمم تغفل ما تصدره هذه البابوية من اوامر الحرمان ومن اللعنات وتزداد جرأة على هذا كلما مضت الأيام، ولا تهبها إلا شيئاً من التبجيل الآخذ في النقصان على كره منها متزايد باستمرار.

وأخذ كلمنت الخامس يعمل في صبر وأناة للتغلب على تلك الصعاب، ولم يخضع لفليب الرابع إلا أقل ما يستطيع من الخضوع، وكان فليب هذا يسلط فوق رأس كلمنت سيف التهديد، بأن يكشف للعالم عن سلوك بنيفاس الثامن ومعتقداته الدينية بع أن توفى هذا البابا. واشتدت حاجة البابا إلى المال فأخذ يبيع الرتب الكهنوتية إلى من يعرض فيها أغلى الأثمان، ولكنه كان يوافق موافقة ضمنية على التقارير القاسية التي يقدمها عمدة أنجير Angers ,اسقف مندى Mende لمجلس فينا (1311) عن أخلاق رجال الدين وإصلاح الكنيسة. وكان هو نفسه يحيا حياة مقتصدة طاهرة، ويلتزم أسباب التقوى في غير تظاهر ولا مباهاة، وحمى أرنلد الفلانوفي Arnold of Villanova الطبيب العظيم من الاضطهاد لخروجه على أصول الدين القويم، وأعاد تنظيم الدراسات الدينية في جامعة منبلييه على أساس النصوص اليونانية والعربية، وحاول أن ينشئ كراسي للغات العبرية، والسريانية، والعربية في الجامعات-وإن لم يفلح في هذه المحاولة. وكان مما ضاعف متاعبه أنه اصيب بمرض شديد الألم-يظن انه ناسور- أضطره إلى تجنب الاختلاط بالناس، وقضى عليه في عام 1314. ولو أنه عاش في بيئة خير من بيئته لكان ممن زادت بهم الكنيسة. وعقبت موته فترة خلا فيها كرسي البابوية من مشاغله ضربت فيها الفوضى أطنانها، وكشفت عن طبيعة ذلك العصر ومزاجه. وكتب دانتي إلى الكرادلة الطليان يحرضهم إلى أن يصروا على اختيار بابا إيطالي وعلى إعادة مقره إلى روما، ولكن عدد الكرادلة الإيطاليين لم يكن يتجاوز ستة، فلما انعقد المجلس المقدس في حجرة مقفلة في كربنتراس Carpentras القريبة من أفنيون احتاط به الغوغاء من أهل غسقونية Gascony وأخذوا يصيحون :"الموت للكرادلة الإيطاليين!" وهوجمت بيوت أولئك الكرادلة، وأشعل المتجمهرون النار في البناء الذي انعقد فيه المجمع المقدس، وفتح الكرادلة لأنفسهم ممراً في الجدار الخلفي، وفروا من الغوغاء والنيران. ولم تبذل أي محاولة أخرى لانتخاب البابا مدة سنتين، ثم رفع الكرادلة آخر الأمر في اجتماع لهم عقد في ليون بحماية الجنود الفرنسيين إلى كرسي البابوية رجلاً كان وقتئذ في الثانية والسبعين من عمره، لا يكاد يخطئ من يظن أنه لن يطول به الأجل، ولكنه قدر له أن يحكم الكنيسة ثمانية عشر عاماً بحماسة، وفظاظة، ونهم لا يشبع، وإرادة حديدية. وكان يوحنا الثاني والعشرون قد ولد في كوهور Cohors من اعمال جنوبي فرنسا، وكان أبوه إسكافا، وكانت هذه هي المرة الثانية التي يختار فيها أبن إسكاف إلى اعلى منصب في العالم المسيحي بفضل الديمقراطية العجيبة القائمة في كنيسة مطلقة في تصرفاتها. وكان إربان الثاني (1261-1264) قد مهد الطريق لهذا الاختيار. فقد كان معلماً لأبناء ملك نابلي الفرنسي وكان يوحنا قد درس القانون المدني والكنسي بحماسة قربته من قلب الملك، واختاره بنفياس الثامن بناء على توصية الملك اسقفا لفريجو Fréjus ورفعه كلمنت السابع إلى كرسي أفنيون. وأسكت ذهب ربرت ملك نابلي وطنية الكرادلة الطليان، وأصبح ابن الإسكاف من اعظم البابوات قوة ,و أمضاهم عزيمة.

وأظهر يوحنا من الكفايات ما يندر اجتماعه في إنسان: أظهر جداً في الدراسة، ومهارة في الإدارة-، وأقامت بابوية أفنيون بزعامته نظاماً بيروقراطياً قديراً، وأن كان فاسداً مرتشياً، وجمعت طائفة من الموظفين الملمين بالشئون المالية أدهشت القائمين على وزارات المالية في أوربا، وحسدوها على كفايتها في جمع الإيرادات. واشتبك يوحنا في نحو اثني عشر نزاعاً كبيراً تطلبت منه الأموال، فحذا حذو سلفه في بيع المناصب الكهنوتية، ولكنه كان يبيعها دون حياء. واستطاع ابن بلدة كوهور المصرفية بعدة أساليب مختلفة أن يملأ خزانة البابوية بالمال حتى كان فيها حين وفاته 18.000.000 فلورين ذهبا (450.000.000 دولار) وما قيمته سبعة ملايين من صفائح الذهب والجواهر(2). وكانت حجته في جمع هذه الأموال أن البابوية قد فقدت كثيراً من أموالها المستمدة من إيطاليا، وأن عليها أن تنشئ وظائفها، وموظفيها، وخدامها، من جديد. ويبدو أن يوحنا كان يشعر أن خير طريقة يخدم بها الله هي أن يضم إله المال إلى جانبه، وكانت عاداته الشخصية تنزع إلى التقشف والزهد في الطعام والشراب. وكان مع هذا كله يناصر العلوم، وأسهم في إنشاء مدارس للطب في بروجيا وكوهور، وأعان الجامعات، وأنشأ كلية لدراسة اللغة اللاتينية في أرمينيا، وشجع دراسة اللغات الشرقية، وحارب الكيمياء القديمة الزائفة والسحر، وكان يقضي الأيام والليالي في الدراسات العلمية، وختم حياته رجل دين متهماً بالخروج عليه. ولعل الذي دعا يوحنا أن ينشر على الناس أن إنساناً ما- حتى أم الله نفسها- لا يستطيع أن يرقى إلى مرتبة "الرؤيا السعيدة" إلا في يوم الحساب، لعل الذي دعاه إلى هذا هو رغبته في أن يقاوم انتشار نوع من التصوف يَدًّعى الآخذون به الاتصال المباشر بالله. وقامت عليه ثورة بين من يدعون العلم بشئون الدار الآخرة، ونددت جامعة باريس بآراء البابا، واعلن مجلس مقدس اجتمع في فنسن Vincenne أنها مخالفة للدين، وأمره فليب السادس ملك فرنسا أن يعود في آرائه الدينية إلى الصراط المستقيم(4). ولكن المعمر الداهية الذي كان وقتئذ قد بلغ سن التسعين أفسد عليهم جميعاً أمرهم بأن مات في عام 1334.

وكان الذي خلف يوحنا رجلاً لطيف المزاج. وكان بندكت الثاني عشر ابن خباز، حاول أن يكون مسيحياً وبابا معاً, وقاوم إغراء توزيع المناصب الكنسية على أقاربه، ونال شرف عداء الناس لأه بأن اختار لهذا المناصب الأكفاء الجديرين بها، لا من يشترونها بالمال، وقطع دابر الرشوة والفساد في جميع فروع الإدارة الكنسية، وكسب عداء الرهبان المتسولين بدعوتهم إلى اصلاح طوائفهم، ولم تعرف عنه القسوة أو إراقة الدماء في حرب، ولهذا ابتهجت جميع قوى الفساد لموته المبكر في عام 1342.

وانحدر كلمنت السادس من بيت شريف في ليموزن Limousin، وقد ألف الترف، والمرح، والفنون، ولم يكن يستطيع أن يفهم لم يكون البابا جادا صارما إذا كانت خزائن البابوية عامرة بالمال، وكاد كل من جاءه يطلب وظيفة أن ينالها، لأنه كان يقول أن أحدا يجب ألا يخرج من عنده غير راض، وأعلن في وقت ما أن كل رجل من رجال الدين يفد إليه في خلال شهرين سينال نصيباً من رفده، ويقدر شاهد عيان عدد من وفدوا عليه بمائة ألف(5). وأجزل العطاء للفنانين والشعراء، واحتفظ باسطبل من الجياد الكريمة يضارع أكبر اسطبل آخر في العالم المسيحي، وأجاز للنساء أن يدخلن البلاط البابوي، ,استمتع بمفاتنهن واختلط بهن اختلاط العشاق الفرنسيين. وبلغ من اتصال كونة تورن Turenne به أن كانت تبيع المناصب الكنسية جهارا لا تخشى في ذلك لومة لائم (6). وترامت طيبة كلمنت إلى أهل روما فبعثوا يرجونه أن يقيم في بلدهم، ولم ير الخير ولكنه ترضاهم بأن أعلن أن العيد الذي قرر بنيفاس الثامن في عام 1300 أن يقام في كل مائة عام يجب أن يقام كل خمسين عاماً. وابتهجت روما حسن سمعت هذا الخبر، وخلعت ريندسو، واعادت خضوعها السياسي للبابوية.

وأصبحت أفنيون في عهد كلمنت السادس الحاضرة الدينية للعالم اللاتيني، وكذلك حاضرة سياسته، وثقافته، وملذاته، وفساده. واتخذت الأداة الإدارية للكنيسة وقتئذ صورتها الواضحة المحددة، فكان لها مجلس رسولي (Camera apostolica) يشرف على شئونها المالية، يرأسه حاجب بابوي (camerarius) لا يعلو عليه في المنزلة إلا البابا نفسه، ثم ديوان التوقيعات (Cancelleria) وله سبعة دوائر يديرها كردنال نائب عن البابا ويشرف على مراسلات الكرسي البابوي الكثيرة المعقدة، ثم مجلس القضاء البابوي المكون من رجال الدين وغير رجال الدين المتضلعين في قانون الكنيسة، ويشمل أيضاً مجمع الكرادلة- المكون من البابا وكرادلته والذي كان بمثابة محكمة استئناف، ثم مجلس التوبة الرسولي- وهو هيئة من رجال الدين تنظر في شئون الزواج، والحرمان من حظيرة الدين، واللعنة، ويستمع إلى اعترافات من يطلبون الغفران البابوي. واراد بندكت الثاني عشر أن يوجد مسكنا للبابا وأعوانه، ولتلك الوزارات، والهيئات، والموظفين، والخدم، فبدأ بتشييد قصر البابوات، وطائفة من الأبنية القوطية الطراز- تشمل حجرات للنوم، وأبهاء للمجالس، وأماكن للصلاة، ومكاتب- وتضم فنائين كبيرين، وتحيط بها أسوار قوية منيعة، يوحي ارتفاعها، وسمكها، وضخامة أبراجها، بأن البابوات إذا حوصروا لا يعتمدون في الدفاع عن أنفسهم على معجزة من السماء، وأتم إربان الخامس هذا البناء الضخم. ودعا بندكت الثاني عشر جيتو إلى القدوم لتزيين القصر والكنيسة الملاصقة له. واعتزم جيتو أن يجيب طلبه، ولكن المنية عاجلته، فاستدعى سيمون مارتيني من سينا، وأنشأ فيهما المظلمات التي محيت الآن والتي بلغ بها فن التصوير في أفنيون ذروة مجده. واجتمع حول هذا القصر، في قصور أخرى أقل منه شأنا، وبيوت كبيرة وصغيرة، وأكواخ حقيرة، عدد كبير من رجال الدين، والمبعوثين، والمحامين، والتجار، والفنانين، والشعراء، والخدم، والجنود والمتسولين، والعاهرات على أختلاف طبقاتهن من المحظيات المثقفات إلى عاهرات الحانات. وسكن هنا لأول مرة أساقفة الطائفة غير المؤمنة الذين عينوا في المراكز التي آلت إلى غير المسيحيين.

وفي وسعنا نحن الذين اعتدنا الضخامة في كل شيء أن تتصور مقدار المال الذي لا بد منه لإقامة هذا الصرح الضخم وكل ما يحيط به: لقد كان عدد البابوات لا تكاد ترسل إليهم شيئاً، واقتصرت ألمانيا التي شجر النزاع بينها وبين يوحنا الثاني والعشرين على إرسال نصف الخراج الذي اعتادت أن ترسله، وأما فرنسا التي كادت البابوية تصبح أسيرة لها تحت رحمتها فقد خصت جزءاً كبيراُ من إيراد الكنيسة الفرنسية بالأغراض الدنيوية، واستدانت المبالغ الطائلة من البابوية لتمول بها حرب مائة السنين، وفرضت إنجلترا اشد القيود على تسرب الأموال إلى كنيسة كانت في واقع الأمر حليفة لفرنسا، واضطر بابوات أفنيون كي يواجهوا هذا الموقف 'لى أن يستغلوا كل مورد من موارد الثروة مهما يكن ضئيلا، ففرضت على كل أسقف أو رئيس دير، سواء كان معينا من قبل البابا أو أي أمير زمني، أن ينزل لمحكمة الكرسي البابوي عن كل إيراده لمدة سنة نظير تعيينه في منصبه، وأن يقدم هبات أخرى باهظة 'لى الوسطاء الذين أيدوا ترشيحه لمنصبه. فإذا ما أصبح رئيس أساقفة كان عليه أن يؤدي مبلغا كبيرا من المال ثمناً لصلبان الأسقفية- وهي منطقة من الصوف الأبيض يلبسها فوق الملحقة لتكون شعارا لمنصبه، فإذا ما اختير بابا جديد أرسل أصحاب كل مرتبة، وكل منصب من مراتب الكنيسة ومناصبها دخلهم كله مدة عام، ثم تابعوا بعد ذلك إرسال عشر إيرادهم كل عام، وكان ينتظر منهم فوق ذلك أن يرسلوا له تبرعات أخرى من آن إلى آن. وإذا ما مات كردنال، أو كبير أساقفة، أو أسقف، أو رئيس دير عادت أملاكه الشخصية ,امواله المنقولة إلى البابوية، وفي الفترة التي يظل فيها المنصب شاغراً بين موت شاغله القديم وتعيين صاحبه الجديد كان البابوات يستولون على المراتب المقرر لهذا المنصب، ويؤدون نفقاته، وكان البابوات يتهمون بأنهم يتعمدون إطالة هذه الفترة. وكان كل من يعين في منصب من مناصب الكنيسة يعد مسئولاً عن الرسوم التي لم يؤدها سلفه. ولما كان الأساقفة ورؤساء الأديرة في كثير من الأحيان سادة إقطاعيين يمتلكون ضياعا أقطعها إياهم الملوك، فقد كان عليهم أن يؤدوا لهم الخراج، ويمدوهم بالجنود، ولهذا كان الكثيرين منهم يواجهون صعابا جمة في الوفاء بالتزاماتهم الدنيوية والدنيوية، وإذا كانت مطالب البابوية أشد صرامة من مطالب الدولة، فإننا نجد رجال الدين في بعض الأحيان يؤيدون الملوك ضد البابوات، وكان بابوات أفنيون يتجاهلون تجاهلاً تاما ما كان لمجالس الكنائس والأديرة من حقوق قديمة في اختيار الأساقفة ورؤساء الأديرة، وكانت هذه النصوص القديمة سببا آخر من اسباب غضب رجال الدين، وكانت القضايا التي تنظر فيها جهات القضاء البابوية تتطلب في العادة الاستعانة بالمحامين، وهي استعانة كبيرة النفقة، وكان على هؤلاء المحامين أن يؤدوا أجراً باهظاً في كل عام نظير حصولهم على ترخيص بالمرافعة أمام المحاكم البابوية. وإذا ما اصدر المجلس البابوي حكما أيا كان نوعه أو أدى خدمة ما لأي إنسان، فقد ينتظر ممن يفيد من هذا الحكم أو تلك الخدمة أن يقدم هدية للبابوية اعترافا منه بما عاد عليه من نفع، وحتى الإذن لشخص ما بأن يرسم قسا كان يبتاع بالمال. وكانت الحكومات الزمنية في أوربا تنظر بعين الخوف والسخط إلى أداة البابوات المالية(7).

وثار الاحتجاج من كل ناحية، ولم يكن أقلها عنفا ما جاء من رجال الكنيسة أنفسهم. من ذلك ما كتبه الحبر الأسباني ألفارو بلايو Alvaro Pelayo هو من انصار البابوية الموالين لها في رسالة رثاء الكنيسة يظهر فيها اسفه ويقول "كلما دخلت حجرات رجال الدين في البلاط البابوي، رأيت السماسرة والقساوسة منهمكين في وزن المال وعده وهو مكدس أكداسا أمامهم... إن الذئاب هي المسيطرة على الكنيسة، وهي تطعم من دماء القطعان المسيحية(8(. وهال الكردينال نابليوني أرسيني Nopoleone Orsini أن يجد جميع أسقفيات إيطاليا موضعا للمبادلة أو دسائس الأسر في أيام كلمنت الخامس. وكتب إدورد الثالث ملك إنجلترا، وكان هو نفسه بارعا في فرض الضرائب- كتب يذكر كلمنت السادس أن "خليفة الرسل إنما جاء ليقود خراف الرب إلى المرعى لا ليجزها(9)، وسن البرلمان الإنجليزي عدة قوانين يحد بها من حق البابوات في فرض الضرائب في إنجلترا. وكان الجباة البابويون في ألمانيا يطاردون، ويقبض عليهم، ويسجنون، وتبتر أطرافهم ويشنقون في بعض الأحيان. وأقسم قساوسة كولوني، وبُن، وأكسانتن Xanten، ومينز في عام 1372 ألا يؤدوا العشور التي طلبها إليهم جريجوري الحادي عشر. وفي فرنسا حل الخراب بكثير من أملاك الكنيسة بسبب ما أصابها من كوارث الحرب، والموت الأسود، ونهب اللصوص وقطاع الطرق، وما كان يفرضه عليها جباة البابا، وهجر كثير من الأساقفة أبرشياتهم. ورد البابوات على هذه الشكاوي بقولهم ان الإدارة الكنسية تتطلب هذه الأموال كلها، وإن العمال الصالحين الذين لا يرتشون يندر وجودهم، وإنهم أنفسهم يخوضون بحارا من المتاعب. وأكبر الظن أن كلمنت السادس حين أقرض فليب السادس ملك فرنسا 592.000 فلورين ذهبي، (14.800.000 دولار) والملك جون الثاني 3.517.000 فلورين أخرى (أي 87.925.000 دولار) إنما فعل ذلك مرغما(10). واحتاج البابوات نفقات طائلة لاسترداد الولايات البابوية التي فقدوها في إيطاليا، ولذلك كانت الخزانة البابوية تعاني عجزا دائما في إيرادها على الرغم من جميع ما فرضته من الضرائب، وأنقذ البابا يوحنا الثاني عشر تلك الخزانة بأن أدى إليها 440.000 فلورين من أمواله الخاصة، وباع إنوسنت السادس صحافة القضية، وجواهره، وتحفه الفنية، وأضطر إربان الخامس أن يقترض 30.000 فلورين من كرادلته، وكان جريجوري الحادي عشر عند موته مدينا بمائة وعشرين ألف فرنك. ويقول الناقدون إن عجز مالية البابوات لا يرجع إلى النفقات المشروعة بل يرجع إلى ضروب البذخ التي كانت سائدة في بلاط البابوات وصنائعهم. فقد كان كلمنت السادس مثلا محوطاً بأقاربه من الذكور والإناث يرتدون أثمن الثياب والفراء، وبطائفة من الفرسان، والأتباع والجنود المسلحين، والقساوسة، والحجاب، ورجال التشريعات، والموسيقيين، والشعراء، والفنانين، والاطباء، والعلماء، والخياطين، والفلاسفة، والطباخين من كانوا موضع حسد الملوك. وكان هؤلاء جميعاً البالغ عددهم قرابة أربعمائة شخص يطعمون، ويكتسون، ويسكنون، ويتقاضون مرتبات من بابا مولع بالإسراف لم يعرف في يوم من الأيام ماذا يتطلبه جمع. وكان كلمنت يرى نفسه حاكما من واجه أن يقذف الرعب في قلوب رعاياه، وأن يؤثر في نفوس السفراء بضروب "الاستهلاك البادي للعيان" كما يفعل الملوك. وكان لا بد للكرادلة أيضاً، وهم مجلس الدولة الملكي وأمراء الكنيسة في الوقت عينه، أن يكون لهم ما يليق بمكانتهم وسلطانهم من مظاهر، فكانت حاشيتهم، وبطانتهم، ومآدبهم حديث أهل المدينة. ولعل الكردنال برنارد الجرفيزي Bernard of Garves قد جاوز في التنعم والأبهة الحد المعقول حين أستأجر واحدا وخمسين مسكنا تقيم فيها حاشيته، وفعل فعله الكردنال بطرس البنها كي Peter of Banhac الذي كان في خمسة من اسطبلاته العشرة تسعة وثلاثون حصاناً من أحسن طراز منعمة مستريحة. ونهج هذا النهج عينه الأساقفة أنفسهم، وكانت لهم هم أيضاً قصور فخمة مليئة بالمهرجين، والبزاة، والكلاب، على الرغم من احتجاج المجالس المقدسة في الأقاليم.

وتخلقت أفنيون وقتئذ بأخلاق حاشية الملوك وآدابها. فانتشرت فيها ضروب الخسة والسفالة، يشهد بذلك ما كتبه جويوم دوران Guillaume Durand أسقف مندى Mende إلى مجلس فينا يقول: قد يكون إصلاح الكنيسة كلها مستطاعا إذا بدأت كنيسة روما تطهر نفسها مما فيها من قدوة سيئة... تصم رجالها وصمة تتسرب عدواها إلى الناس كلهم... ذلك أن كنيسة الله المقدسة، وخاصة كنيسة روما أقدسها جميعا، قد ساءت سمعتها... في كل مكان، وأخذ الناس جميعا يصيحون ويذيعون في الخارج أن كل من تضمهم إلى صدرها من أعلاهم إلى أقلهم شأنا قد امتلأت قلوبهم طمعا... ومن الأمور الواضحة التي تلوكها الألسنة أن جميع المسيحيين يتخذون رجال الدين أسوأ قدوة لهم في الجشع، لأن هؤلاء الرجال يأكلون من موائد اشد ترفا وأعظم فخامة، وأكثر صحافا من موائد الأمراء والملوك(11). واستنفد بترارك، وهو من دانت له أساليب البلاغة، كل ما في معاجم اللغة من الفاظ السباب التي وصم بها أفنيون فقال عنها إنها:

بابل العاصية، جحيم الأرض، بالوعة الرذيلة، ومستودع أقذار العالم. لا تجد فيها إيماناً، ولا إحساناً، ولا ديناً، ولا خوفاً من الله...لقد تجمعت فيها جميع أقذار العالم وخباثته... ترى كبار السن من رجالها يندفعون غير مبالين إلى أحضان فينوس، لا يبالون بكبر سنهم أو كرامتهم، أو مالهم من سلطان، بل يرتكبون كل عار، كأن مجدهم كله لا يعتمد على صليب المسيح، بل يقوم على المأكل والمشرب، والسكر، والدعارة ... فالفسق، ومضاجعة المحارم، وهتك الأعراض، والزنا هي أعظم المباهج الشهوانية لمهازل رؤساء الكنيسة(12).

وليس في مقدورنا أن نغض الطرف عن هذه الشهادة الصادرة من شاهد عيان لم يحد طوال حياته عن طريق الدين، وإن لم تخل من المبالغة والحقد الشخصي. ومن واجبنا فوق ذلك أن نقص منها بعض الشيء لصدورها من رجل يبغض أفنيون لأنها اختطفت البابوبة من إيطاليا، وكان يطلب الهبات من بابوات أفنيون، وينال منها الكثير، ويطلب المزيد، رجل رضى أن يعيش مع السفاح فيكونتي عدو البابوية، وكان له هو نفسه ولدان غير شرعيين. ولم تكن الأخلاق في روما، التي كان بترارك يلح على البابوات في أن يعودوا إليها، خيراً مما كانت في أفنيون وقتئذ، إلا لأن الفقر كان معواناً على العفة. ولم تصف القديسة كترين السنائية أفنيون بالوضوح الذي وصفها به بترارك، ولكنها أخبرت جريجوري الحادي عشر أنها إذا جاءت إلى البلاط البابوي كانت "خياشيمها تقتحمها روائح الجحيم"(13).

ووجد في هذا الانحلال الأخلاقي بابوات كثيرون خليقون بمنصبهم الرفيع، يفضلون آداب المسيح على آداب زمانهم. وإذا ذكرنا أنه لم يوجد بين بابوات أفنيون السبعة إلا واحد عاش معيشة اللذة الدنيوية، وواحد آخر هو يوحنا الثاني والعشرون، أخذ نفسه بحياة الزهد والتقشف مهما يكن من شراهته وقسوته، وآخر هو جرجوري الحادي عشر كان في السلم مضرب المثل في التقوى وسمو الأخلاق وإن كان في الحرب قاسياً لا يرحم، وأن ثلاثة-بندكت الثاني عشر، وإنوسنت السادس، وإربان الخامس يكادون يكونون في حياتهم قديسين أطهاراً- إذا ذكرنا هذا لم يكن من حقنا أن نلقى تبعة جميع الرذائل التي تجمعت في أفنيون البابوية على كاهل البابوات. لقد كانت الثروة سبب هذه الرذائل، وقد كانت لها هي هذه النتائج بعينها في أماكن أخرى- في روما أيام نيرون، وروما أيام ليو العاشر، وباريس في عهد لويس الرابع عشر، ونيويورك وتشكاجو في هذه الأيام، وكما أننا نجد الكثرة الغالبة من رجال هاتين المدينتين الأخيرتين ونسائهما تعيش عيشة صالحة طيبة، أو ترتكب ما ترتكبه من الآثام في اعتدال، فإن من حقنا أن نفترض أن المحامي المعوج، والقاضي غير النزيه، والكردنال الذي يريد الدنيا، والقس الذي لا يراعى واجبات مهنته، كانوا شواذاً يبرزون في وضوح أكثر مما يبرز أمثالهم في أي مكان آخر، لنه كان يشرف عليهم ويصفح عنهم في بعض الأحيان كرسي الرسول، غير أن هذه الفضائح كان فيها من الحقيقة ما يكفي إذا ضم إلى فرار البابوات من روما للقضاء على منزلة الكنيسة وسلطانها. وكأنما أراد بابوات أفنيون أن يحققوا ظن الناس فيهم، بأنهم لم يعودوا كما كانوا قوة عالمية، بل أضحوا آلات طيعة في يد فرنسا، فاختاروا 113 كردنالا فرنسياً لمجمع الكرادلة المؤلف من 134 كردنالا(14). وكان هذا من أسباب تغاضي الحكومة الإنجليزية عن هجمات ويلكف Wyclif القاسية على البابوية. كذلك رفض الناخبون الألمان بعد ذلك الوقت كل تدخل من جانب البابوات في انتخاب ملوكهم وأباطرتهم، ولما أن رفض رؤساء الأديرة في اسقفية كولوني عام 1372 أن يؤدوا العشور إلى البابا جريجوري الحادي عشر، أعلنوا جهرة أن الكرسي الرسولي قد أنحط إلى الدرك الأسفل من الاحتقار، حتى بدأ أن المذهب الكاثوليكي في تلك الديار مهدد باشد الأخطار. أما غير رجال الدين فهم في حديثهم عن الكنيسة يظهرون لها ضروب الاحتقار، لأنها تخلت عما تعودته في الأيام الماضية، فلا تكاد تختار رسلها من الواعظين أو المصلحين، بل تختارهم من الرجال المتباهين، الماكرين، الأنانيين، الشرهين. ويقد بلغت الحال من السوء درجة ينذر معها أن تجد مسيحيين إلا بالاسم"(15).

لقد كان الأسر البابلي للبابوات في أفنيون، وما تلاه من انقسام في البابوية، هو الذي مهد السبيل إلى الإصلاح الديني، وكانت عودة البابوات إلى إيطاليا هي التي أرجعت لهم مكانتهم وأجلت الكارثة التي حلت بهم قرنا من الزمان.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثاني: الطريق إلى روما

وكانت منزلة الكنيسة في إيطاليا أقل منها في أي بلد آخر. وكان من أسباب ذلك أن بندكت الثاني عشر أراد أن يخضد شوكه لويس صاحب بافاريا الثائر فايد في عام 1342 جميع السلطات التي انتحلها طغاة المدن اللمباردية متحدياً بذلك دعوى الإمبراطورية وثار لويس لهذا العمل فأيد من قبل الإمبراطورية الطغاة الذين اغتصبوا الولايات البابوية(16). وسخرت ميلان من البابوات، علانية، ولما أن أرسل إليها إريان الخامس في عام 1362 مندوبين يحملان قرارات الحرمان للفسكونتي أرغمهم برنابو Bernabo على أن يأكلوا القرارات بما فيها من رقوق، وخيوط حريرية، وأختام من الرصاص(17). وكانت صقلية منذ عام 1282 قد ظلت تعادي البابوات جهرة. وجهز كلمنت السادس جيشاً ليسترد به الولايات البابوية، ولكن خليفته إنوسنت السادس هو الذي ردها إلى طاعته مؤقتاً. ويكاد إنوسنت هذا أن يكوناً طيباً للبابوات. ذلك أنه بعد أن حبا عدداً قليلاً من أهله ببعض المناصب اعتزم أن يقف سيل المحسوبية الكهنوتية والفساد، وقضى على مظاهر الترف والفخفخة والإسراف في البلاط البابوي، وأقصى الجيش العرمرم من الخدم الذين كانوا يحيطون بكلمنت السادس، وطرد العدد الجم من طلاب المناصب، وأمر كل قس أن يقيم في مقر عمله، وعاش هو نفسه معيشة الاستقامة والاعتدال. وكان يعتقد أن السبيل الوحيدة لإعادة سلطان الكنيسة هي تحريرها من سلطان فرنسا، وعودة البابوية إلى إيطاليا. ولكن الكنيسة إذا خرجت من فرنسا يتعذر عليها الاحتفاظ بكيانها بغير الإيراد الذي كان يصل إليها من الولايات البابوية، ومع أن أنوسنت نفسه رجل سلم فقد رأى أن لا سبيل لاستعادة تلك الولايات إلا الحرب.

وعهد بهذه المهمة إلى رجل أوتى إيمان الأسبان وحماستهم، ونشاط الدمنيك، وفروسية عظماء قشتالة. ذلك هو جيل ألفارز كارلوده ألبرنوز Gil Alvarez Carillo de Albernoz. وكان جيل هذا جندياً في جيش الفنسو الحادي عشر صاحب قشتالة، ولم ينقطع عن الحرب بعد أن صار كبير اساقفة طليطلة، والآن وقد اصبح الكردينال إجديو دالبرتوز Egidio d'Albornoz فقد صار قائداً بارعاً. وقد اقنع جمهورية فلورنسا- وكانت وقتئذ تخشى الطغاة وقطاع الطرق الذين كانوا يحيطون بها- أقنعها بأن تمده بما يلزمه من المال لتنظيم جيش. وافلح بالمفاوضات البارعة، الشريفة رغم براعتها، لا بالقوة، أن يخلع الطغاة الصغار الذي اغتصبوا الولايات البابوية طاغية بعد طاغية، ووضع لهذه الولايات "الدساتير الإجيدي" (1357) التي ظلت قانونها الأساسي حتى القرن التاسع عش، والتي كانت حلا وسطا عمليا بين الحكم الذاتي والولاء للبابوية. وتغلب على جون هوكوود John Hawkwood المغامر الإنجليزي الذائع الصيت، واسره، وقذف في قلوب زعماء عصابات المغامرين الخوف من مندوب البابا إن لم يكن من الله، واستعاد بولونيا من رئيس أساقفتها المتمرد، وأقنع أمراء ميلان أن يعقدوا الصلح مع الكنيسة، وتهيأت بذلك السبيل لعودة البابوات إلى إيطاليا.

وواصل إربان الخامس سياسة إنوسنت السادس الصارمة الإصلاحية، وبذل كل ما في وسعه لإعادة النظام والأمانة إلى رجال الدين وإلى البلاط البابوي، وقاوم شرف الكرادلة، وقضى على خداع المحامين، وجشع المرابين، وابتزازهم أموال المدنيين، وعاقب من يتجرون بالمقدسات وبالمناصب الكهنوتية، وضم إلى خدمته رجالاً من ذوي الأخلاق الممتازة، والعقول الراجحة، وأنفق من ماله الخاص على ألف طالب في الجامعات، وأنشأ كلية جديدة في منبلييه، وأمد بالمال كثيرين من العلماء، وأراد أن يتوج أعماله البابوية فأعتزم أن يعبد مقرها إلى روما. وارتاع الكرادلة حين علموا بهذه النية، لأن الكثيرين منهم كانت أصولهم ومواضع حبهم في فرنسا، وكانوا مكروهين في إيطاليا، وتوسلوا إليه ألا يلقي بالا إلى مطالب القديسة كترين أو إلى بلاغة بترارك. وشرح لهم إربان الفوضى التي كانت ضاربة أطنابها في فرنسا- التي كانت مليكها أسيراً في إنجلترا، وجيوشها محطمة، والإنجليز يستولون على أقاليمها الشمالية، ويقتربون يوماً بعد يوم من أفنيون، ترى ماذا تعمل إنجلترا إذا انتصرت البابوية التي كانت تخدم فرنسا وتمدها بالمال؟

ونفذ البابا ما اعتزمه فأبحر من مرسيليا في اليوم الثلاثين من إبريل عام 1367 تحرسه عدة سفن شراعية إيطالية مفعمة قلوب من فيها بهجة، ودخل روما في السادس عشر من شهر إكتوبر وسط مظاهر الترحيب الذي وصل إلى عنان السماء، ومن العامة، ورجال الدين، والأشراف، وأمسك الأمراء الإيطاليون بزمام البغل الأبيض الذي كان يمتطيه، وانطلق لسان بترارك بالشكر للبابا الفرنسي الذي جرؤ على الإقامة في إيطاليا. وكانت روما وقتئذ مقفرة وإن كانت سعيدة: فقد أفقرها انفصالها الطويل الأمد عن البابوية، وهجر المصلون نصف كنائسها وتهدمت، وتخربت كنيسة القديس بولس، وكانت كنيسة القديس بطرس توشك أن تنهار في أية لحظة، وقصر لاتيران قد دمرته النار منذ عهد قريب، والقصور لا تقل تهدماً عن المساكن الصغيرة، وانتشرت المستنقعات فحلت محل البيوت، وتكدست الأقذار في الشوارع والميادين(18). وأصدر إربان الخامس الأوامر ببناء القصور البابوية ورصد لها الأموال. ولم يطق صبراً على منظر روما، فاتخذ مسكنه في مونتي فياسكوني Montefiascone ولكن ذكريات أفنيون وترفها وفرنسا المحبوبة أقضت مضجعه ونغصت عليه حياته. وترامت أنباء تردده إلى بترارك، فأخذ يحثه على أن يصر على ما عقد عليه نيته، وتنبأ القديس بردجت St Bridget السويدي بأن البابا سيموت من فوره إذا غادر إيطاليا، وعمل الإمبراطور شارل الرابع على تقوية عزيمته، فأيد استعادة البابا لإيطاليا الوسطى، وجاء خاشعا إلى روما (1368)، ليقود جواد البابا من كنيسة القديس إنجيلو إلى كنيسة الرسول بطرس، ووقف على خدمته أثناء القداس. وتوجه البابا في حفل خيل إلى الجمع المحتشد المبتهج أنه يحسم النزاع القديم بين الإمبراطورية والبابوية. فلما كان اليوم الخامس من سبتمبر عام 1370 أقلع إربان إلى مرسيليا، ولعله بعمله هذا قد خضع إلى رغبة كرادلته الفرنسيين، وادعى أنه يريد إعادة السلام بين إنجلترا وفرنسا. ووصل في السابع والعشرين من هذا الشهر نفسه إلى أفنيون حيث وافته المنية في التاسع عشر من ديسمبر، وهو يرتدي ثياب راهب بندكتي، ويرقد على أريكة حقيرة، وكان قد أمر بأن يسمح بكل من شاء بالدخول عليه، حتى يستطيع الناس جميعاً أن يروا أن عظمة أجل الناس مقاما ليست إلا بهرجا كاذبا قصير الأمد.

وكان كلمنت السادس البابا الظريف قد عين جريجوري الحادي عشر أبن أخيه كردنالا وهو في الثامنة عشر من عمره، ورسم قسا في التاسع والعشرين من ديسمبر عام 1370، ثم اختير بابا في الثلاثين من ديسمبر وهو في سن التاسعة والثلاثين. وكان غزير العلم، مولعا بشيشرون، وقد جعلته الأقدار رجل حرب وكفاح، قضى مدة بابويته في إخماد الثورات العنيفة. ذلك أن إربان الخامس كان يخشى ألا يثق البابا الفرنسي بالإيطاليين، فاختار عدداً كبيراً من الفرنسيين مندوبين عنه لحكم الولايات البابوية. ووجد هؤلاء الحكام أنفسهم في بيئة معادية لهم فشادوا الحصون لمقاومة الشعب، وجاءوا بأعوان لهم كثيرين من الفرنسيين، وفرضوا ضرائب باهظة، وآثروا الغطرسة على الكياسة والدهاء. وحدث أن أخذ ابن أخ للمندوب البابوي في بروجيا يطارد امرأة متزوجة مطاردة بلغ من عنفها أن سقطت المرأة من نافذة وقضت نحبها وهي تحاول الفرار منه. ولما جاء وفد إلى المندوب البابوي يطلب إليه عقاب أبن أخيه رد عليه بقوله "علام هذه الجلبة كلها؟ هل تظنون أن الفرنسي خصى؟"(20) وأثار مندوبو البابا بوسائل كثيرة متنوعة كراهية الشعب إلى حد دفع كثيراً من الولايات إلى الانتفاض عليهم في عام 1375 واحدة بعد واحدة. ورفعت القديسة كترين صوتها نائبة عن إيطاليا فألحت على جريجوري أن يعزل أولئك "الرعاة الأشرار الذين يسممون حديقة الكنيسة ويعيثون فيها فسادا"(21): وتزعمت فلورنس هذه الحركة وهي التي كانت في العادة حليفة البابوية، ونشرت راية حمراء كتبت عليها بأحرف ذهبية كلمة الحرية، فلم يحل عام 1376 حتى لم يبق مواليا للبابا من مدن إيطاليا إلا واحدة بعد أن كان عدد المدن التي تعترف للبابا بزعامته المدنية والروحية أربعا وستين مدينة في عام 1375، وخيل إلى العالم أن جميع ما عمله ألبرنوز قد ذهب أدراج الرياح، وأن البابوية قد خسرت مرة أخرى جميع إيطاليا الوسطى:

واتهم جريجوري، بإيعاز الكرادلة الفرنسيين، أهل فلورنس بأنهم يتزعمون الثورة عليه، وأمرهم بالخضوع إلى المندوب البابوي، فلما عصوا امره حرمهم من الدين، ومنع إقامة الخدمات الدينية في مدينتهم، واصدر مرسوماً يعلن فيه أن جميع الفلورنسيين خارجون عن القانون، وأحل لأي إنسان في أي مكان أن يستولي على أملاكهم ويتخذهم أرقاء. وحاق الخطر الانهيار بصرح التجارة والمال الفلورنسي كله، واعتقلت إنجلترا وفرنسا من فورهما من فيهما من الفلورنسيين واستولتا على أملاكهم وكان رد فلورنس على هذا أن صادرت جميع أملاك الكنيسة الموجودة في أراضيها، وهدمت مباني محكمة للتفتيش، وأغلقت أبواب المحاكم البابوية، وزجت في السجن، وشنقت في بعض الأحيان، القساوسة المعاندين، وبعثت بنداء إلى أهل روما تدعوهم فيه أن ينضموا إلى الثورة، ويقضوا على جميع ما للكنيسة في إيطاليا من سلطة زمنية. وبينما كانت روما لا تزال تتردد في الأمر، إذ قطع جريجوري لزعمائها وعدا صريحا بان يعيد البابوية إلى روما إذا ظلت موالية له. وقبل أهل روما هذا الوعد واعتصموا بالسلم.

وكان البابا في خلال ذلك قد سير إلى إيطاليا قوة من الجنود البريطانيين المرتزقين الجفاة بقيادة "الكردنال المندوب البابوي ربرت من أهل جنيفا"(22). وخاض ربرت غمار الحرب بوحشية لا يكاد يصدقها عاقل، من ذلك أنه لما استولى على كازينا Casena بعد أن قطع على نفسه عهدا بالعفو عن أهلها قتل بالسيف كل من كان فيها من رجال ونساء وأطفال(23). وكان جون هوكودك يقود جنود المرتزقة في خدمة الكنيسة، فذبح هو الآخر في فائندسا Faenza أربعة آلاف من أهلها لارتيابه في أن البلدة تريد الانضمام إلى الثورة. وارتاعت القديسة كترين السينائية من هذه الأعمال الوحشية، ومن مصادرة الأملاك من الجانبين، ومن انقطاع الخدمات الدينية في جزء كبير من إيطاليا، فكتبت إلى جريجوري تقول:

نعم أن عليك أن تسترد الاملاك التي خسرتها الكنيسة، ولكن عليك أكثر من هذا أن تسترد جميع الخراف التي هي كنز الكنيسة الحقيقي والتي تحل بها الفاقة بحق إذا خسرتها... عليك أن تضرب الناس بسلاح الصلاح، والحب، والسلم، فإذا فعلت كسبت به أكثر مما تكسب بسلاح الحرب. وأنا حين أسال الله عن خير الطرق لنجاتك، وإعادة الكنيسة إلى حالها الأولى، وعودة العالم أجمع، لا أجد جواباً غير كلمة السلم! السلم! فبحق المنقذ المصلوب عد إلى السلم(34)! ودعتها فلورنس إلى أن تكون مع وفدها المرسل إلى جريجوري، فقبلت الدعوة، وسافرت، وانتهزت هذه الفرصة لتندد بأخلاق أفنيون، وبلغ من صرامتها في هذا التنديد أن طالب الكثيرون بالقبض عليها، ولكن جريجوري حين ترامى إليه أن روما تنظم إلى الثورة إذ لم يعجل بالمجيء إليها اقلع من مرسيليا ووصل إلى روما في السابع عشر من يناير سنة 1377، وربما كان من اسباب سفره أنه تأثر بدعوة كترين. ولم يرحب بعودته جميع الأهلين لأن نداء فلورنس أثار في هذه المدينة المنحلة ذكريات للجمهورية القديمة، وجاءت النُّذر إلى جريجوري أن حياته غير آمنة في عاصمة العالم المسيحي القديمة. فانتقل منها إلى أناني في شهر مايو.

وكأنه الآن قد خضع آخر الأمر إلى رجاء كثيرين، فتحول من الحرب إلى الدبلوماسية. وأخذ عماله يشجعون الجماهير في المدن على أن يقبلوا حكوماتهم المتمردة. وكانت تلك الجماهير تتوق إلى مصالحة الكنيسة، ووعد جميع المدن التي تعود إلى الولاء له بأن تكون لها حكومة ذاتية تحت رياسة نائب عن البابا تختاره هي بنفسها. وقبلت المدن هذه الشروط واحدة في أثر واحدة، واتفقت فلورنس مع جريجوري في عام 1377 على أن يحكم برنابو فيكونتي في النزاع القائم بينهما. وأقنع برنابو البابا بأن يهبه نصف الغرامة التي قد يفرضها على فلورنس، فلما وافق على ذلك أمر المدينة بأن تؤدي للكرسي المقدس غرامة قدرها 800.000 فلورين (20.000.000 دولار). ورأت فلورنس أن حلفائها قد تخلوا عنها فخضعت لهذا الأمر وهي كارهة مغضبة، ولكن البابا إربان السادس خفض الغرامة إلى 250.000 فلورين.

ولم يعش جريجوري حتى يشهد نصره، فقد عاد إلى روما في السابع من نوفمبر عام 1377، وكان يعاني آلام المرض حتى وهو في أفنيون، وتأثر بالشتاء الذي قضاه في إيطاليا الوسطى، وأحس بدنو أجله، وخشي أن يقطع النزاع القائم بين فرنسا وإيطاليا للسيطرة على البابوية أوصال الكنيسة، فأعد العدة في التاسع عشر من مارس عام 1378 لاختيار خلفه على الفور، وتوفى بعد ثمانية أيام من ذلك الوقت وهو يحن إلى أرض فرنسا الجميلة.

الفصل الثالث: الحياة المسيحية 1300 - 1424

سنرجئ إلى باب آخر بحثنا في دين الشعب وأخلاق رجال الدين، ولكننا نلاحظ في هذا الفصل ظاهرتين مختلفتين من ظواهر الحياة المسيحية في إيطاليا خلال القرن الرابع عشر هما محكمة التفتيش والقديسون. والإنصاف يقتضينا أن نذكر أن الكثرة الغالية من المسيحيين كانت تعتقد وقتئذ أن الكنيسة التي أقامها أبن الله، وأنه هو الذي وضع عقائدها الأساسية، ومن ثم فأن أية حركة تقوم للقضاء عليها- أياً كانت الأخطاء التي يرتكبها الآدميون الذين يصرفون شئونها-إنما هي خروج على السلطة القدسية وخيانة للدولة الزمنية التي كانت الكنيسة درعها الأخلاقي الواقي. وإذا لم تثبت هذه الفكرة الأساسية في عقولنا لم نستطع فهم تلك الوحشية التي دفعت رجال الدين وغير رجال الدين إلى الاشتراك معا في القضاء على دعوة الإلحاد التي أثار عجاجها (حوالي عام 1303) دلتشينو النوفاري Dolcino of Novara وأخته الحسناء مرجريتا Margherita.

وقد قسم دلتشينو التاريخ، كما قسمه يواقيم الفلوري Joachim of Flora إلى فترات شهدت الفترة الثالثة منه الممتدة من عهد البابا سلفستر الأول (314-335) إلى 1280 فساد الكنيسة بسبب ما كان لها من ثراء دنيوي. ويقول دلتشينو إن البابوات جميعا من أيام سلفستر كانوا غير مخلصين إذا استثنينا منهم سلستين الخامس Celestine وكان الرهبان بندكت، وفرانسس، ودمنيك قد بذلوا محاولات نبيلة لتخليص الكنيسة من عبادة المال وإعادتها إلى عبادة الله، ولكنهم أخفقوا في هذه المحاولات، وأضحت البابوية في عهد بنيفاس الثامن هي العاهر التي وصفها سفر الرؤيا. وتزعم دلتشينو طائفة جديدة من الأخوان تدعى "إخوان بارما الرسوليين" رفضت سلطات البابوات، وورثت خليطاً من العقائد عن الباتارينيين Patarines، والولدنسيين Weldenses، والفرنسيس الروحيين. وكانوا يدعون أنهم يلتزمون بالعفة المطلقة، ولكن كل واحد منهم كان يعيش مع امرأة يسميها أخته. وأمر كلمنت الخامس محكمة التفتيش أن تحاكمهم، ولكنهم رفضوا المثول أمامها، وسلحوا أنفسهم، واتخذوا موقفهم في أسفل جبال الألب البيدمنتية. وسيرت محكمة التفتيش عليهم جيشا، ونشبت بين الجانبين معارك حامية الوطيس، وانسحب الإخوان إلى ممرات في الجبال حوصروا فيها حتى نفذ طعامهم، فأخذوا يأكلون الفئران والكلاب، والأرانب البرية، والكلأ، ثم هوجم معقلهم الجبلي أخيراً، وخر ألف منهم قتلى وهم يحاربون، وحرق منهم عدة آلاف (1204). ولما سيقت مرجريتا إلى مكان الحرق، كانت لا تزال رائعة الجمال على الرغم من ذبول جسدها، وبلغ من جمالها أن عرض عليها رجال من ذوي المكانة أن يتزوجوها إذا تخلت عن إلحادها، ولكنها رفضت تلك العروض وأكلتها النار على مهل. واستبقى دلتشينو وزميل له يدعى لنجينو ليحاكما محاكمة خاصة، وأركبا عربة طافت بهما فرتشلي Vercelli، وقطع لحمهم جزءاً فجزءاً بالكلاليب أثناء هذا الموكب، وانتزعت أطرافهما وأعضاء تناسلهما من جسميهما ثم تركا آخر الأمر ليموتا(26).

ويلذ لنا أن نتحول عن هذه الوحشية إلى ما عكفت عليه المسيحية من بث روح التقوى والصلاح في نفوس الرجال والنساء. ذلك أن القرن الذي شهد ما حل بأفنيون من ضروب المحن والفساد أخرج أيضاً مبشرين أمثال جيوفني دا مونتي كرفينو Giovanni da Monte Corvino وأودريك البردينوني Oderic of Pordenone اللذين حاولا أن يهديا الهنود والصينيين إلى الدين المسيحي، ولكن الصينيين كما يقول إخباري فرنسيسي أصروا على اعتقادهم "الخاطئ بأن في وسع أي إنسان أن ينجو وهو في مذهبه(27). وكان ما أفاده العالم من هذين المبشرين في علم الجغرافية أكثر مما أفاده منهما في شئون الدين".

وولدت القديسة كترين السينائية، وعاشت، وماتت في غرفة وضيعة لا يزال يؤخذ إليها الزائرون. وساعدت من هذه البقعة الصغيرة من الأرض على تحريك البابوية وعلى أن تبث في أهل إيطاليا من التقوى ما بقى بعد ريناشيتا Rinascita وريزر جمنتو Risorgimento. وانضمت وهي في الخامسة عشرة من عمرها إلى طائفة التوبة التابعة للقديس دمنيك، وكانت هذه الطائفة منظمة "ثلاثية" لا تتألف من رهبان او راهبات، بل تتألف من رجال ونساء يعيشون كما يعيش أهل الدنيا، ولكنهم يخصصون حياتهم قدر استطاعتهم لأعمال الدين والبر. وكانت كترين تعيش مع أبويها، ولكنها جعلت حجرتها أقرب ما تكون إلى خلود الزهاد، وانهمكت في الصلوات والتأملات الصوفية لا تكاد تترك حجرتها إلا للذهاب إلى الكنيسة. وقلق ابواها واضطربا لتفكيرها المتصل في شئون الدين وخشيا أن يؤثر ذلك في صحتها، فكانا يعهدان إليها بأشق أعمال البيت، ولكنها كانت تؤديها بلا ملل ولا شكوى وتقول: "أني أخصص في قلبي ركناً صغيراً ليسوع"(28). وظلت محتفظة بصفاء كصفاء الأطفال. وبينما كان غيرها من البنات يبحثن عن جميع المباهج، والشكوك، والنشوة في الحب "الدنس"، كانت هي تبحث عنها وتجدها في الخشوع للمسيح، وكانت وهي في عنفوان هذه التأملات المتزايدة أثناء عزلتها تفكر في المسيح وتتحدث اليه كأنه حبيبها السماوي، وتتبادل القلب معه، وترى نفسها في الرؤيا كأنها قد تزوجته، وأطالت التفكير في جراح المصلوب الخمسة، كما أطال التفكير القديس فرانسس، حتى كانت تشعر بهذه الجراح في يديها وقدميها وجنبيها. ونبذت كل شهوات البدن، وكانت ترى فيها وسوسة من الشيطان، وأساليب خبيثة لحرمانها من ذلك الحب الذي تنهمك فيه وحده.

وقفت ثلاث سنين لا تكاد تتصرف فيها عن وحدتها وتقواها، أحست بعدها أن في مقدورها أن تخرج آمنة إلى حياة المدينة، وكما أنها كرست أنوثتها للمسيح، فقد خصت ما انطوت عليه من حنان الأمهات إلى العناية بالمرضى، والمعوزين من اهل سينا، فكانت تبقى إلى آخر لحظة مع ضحايا الطاعون، وتواسي بروحها المحكوم عليهم بالإعدام من المجرمين حتى ينفذ فيهم حكم الإعدام(29). ولما توفى والداها وتركا لها ميراثاً صغيراً، وزعته على الفقراء، وكان وجهها، وإن شوهه الجدري، نعمة وبركة لكل من شاهدها. وكان الشبان ينبذون، بكلمة تصدر منها، ما اعتادوه من تجديف، كما كان الكبار يستمعون إلى فلسفتها الساذجة الصادقة فتذوب منها شكوكهم. وكان من رأيها أن جميع شرور الحياة إنما هي نتيجة لخبث الإنسان، ولكن جميع خطايا البشر ستمحى وتزول في بحر الله، وستزول شرور العالم كله إذا رضى الناس أن يعتادوا حب المسيح. وآمن كثيرون من الناس بها، وبعثت إليها مونتي بلشيانو Montepulciano تدعوها لتزيل الخصام بين أسرتيها المتعاديتين، وكانت مدينتا بيزا ولوكا تستنصحانها، ودعتها فلورنس لأن تنضم إلى وفد ترسله إلى أفنيون، وهكذا استدرجت شيئاً فشيئاً إلى شؤون العالم.

وهالها ما شهدته في إيطاليا وفرنسا: فقد رأت روما قذرة، مهجورة، ورأت إيطاليا وقد انفصلت عن كنيسة هجرتها إلى فرنسا، ورأت رجال الدين وقد فقدوا بحبهم الدنيا احترام غير رجال الدين، ووجدت فرنسا وقد خربت نصفها الحروب، وحملتها ثقتها برسالتها القدسية على أن تندد بالمطارنة والأحبار في وجوههم، وتقول لهم إن عودتهم إلى روما وإلى الحياة الصالحة هي وحدها التي يمكن أن تنقذ الكنيسة مما هي فيه، وإذ كانت هي نفسها عاجزة عن الكتابة، فقد أخذت وهي فتاة في السادسة والعشرين من عمرها تملئ بلغتها الإيطالية البسيطة الرنانة رسائل صارمة ولكنها يسري فيها الحب تبعث بها إلى البابوات، والأمراء، والحكام، وتكاد تظهر في كل صفحة من صفحاتها تلك الكلمة التي كانت تنبئ بما سيكون وهي كلمة الإصلاح. وأخفقت في مسعاها مع رجال الحكم، ولكنها أفلحت مع الشعب. وابتهجت حين جاء إربان الخامس إلى روما، وحزنت حين غادرها، ثم عادت إلى الحياة النشيطة حين جاء إليها جريجوري الحادي عشر، وأسدت النصح الرشيد إلى إربان السادس، ولكنها روعت من وحشيته، ولما أن مزق أنقسام البابوية العالم المسيحي وفرقه شيعتين، كانت بين الضحايا الأولى لهذا النزاع الذي لا مبرر له، ذلك أنها قللت طعامها حتى لم يكن يزيد على بضع لقمات، وأوغلت في النسك إيغالا بلغ من شدته، كما تقول القصة، أن كان غذاؤها الوحيد هو الخبز المقدس الذي تتناوله أثناء العشاء الرباني. وكان من أثر هذا أن فقدت قدرتها على مقاومة المرض، كما أن الانقسام الديني أفقدها ارادة الحياة، فانتقلت إلى الدار الآخرة بعد عامين من هذا الانشقاق، وكانت وقتئذ في الثالثة والثلاثين من عمرها (1380). ولا تزال حتى اليوم قوة تعمل للخير في إيطاليا التي كانت تحبها لا تزيد عليها في ذلك إلا قوة المسيح والكنيسة.

وولد في ذلك العام نفسه وفي المدينة التي توفيت فيها كترين القديس برنردينو St. Bernerdino وصاغته وشكلته التقاليد التي خلفتها، فكان يقضي أيامه ولياليه أثناء الطاعون الذي فشا في عام 1400 في العناية بالمرضى، ولما انضم إلى طائفة الرهبان الفرنسيس ضرب لهم المثل في العمل بقوانين الطائفة والتقيد الشديد بها. وحذا كثيرون من الرهبان حذوه، وأنشأ من هؤلاء (1405) طائفة الفرنسيس الممتثلين Obbervantine Franciscans أي الأخوان اللذين يتقيدون تقيداً صارماً بقوانين تلك الطائفة، وخضعت له قبل موته ثلاثمائة من الأديرة.

وخلعت طهارة حياته ونبلها على مواعظه بلاغة لا تستطاع مقاومتها وكان في روما نفسها، التي كان أهلها أشد خروجاً على القانون من أهل أية مدينة أخرى في أوربا، يستدرج المجرمين إلى الاعتراف بجرائمهم، والخاطئين إلى التوبة من خطاياهم، والمتخاصمين الذين اعتادوا الخصام إلى أن يجنحوا للسلم. وأقنع برنردينو رجال روما ونساءها، قبل أن يحرق سقنرولا الأباطيل في فلورنس بسبعين عاماً، أن يلقوا بورق اللعب، والنرد، وتذاكر اليانصيب، والشَّعر المستعار، والصور والكتب البذيئة، وآلاتهم الموسيقية نفسها، في كومة كبيرة جنائزية على الكبتول حيث أشعلت فيها النار (1424). وأحرقت بعد ثلاثة أيام من ذلك العمل وفي الميدان نفسه فتاة اتهمت بالسحر، واحتشدت روما على بكرة أبيها لتشاهد المنظر(31).وكان القديس برنردينو نفسه "من أشد الناس اضطهاداً للإلحاد إرضاء لضميره". وهكذا اختلط الطيب والخبيث، والجميل والمروع القبيح، في تيار الحياة المسيحية وفوضاها. وظلت الجماهير الساذجة من أهل إيطاليا قانعة بحالها التي كانت عليها في العصور الوسطى راضية عنها، أما الطبقتان الوسطى والعليا، وقد كادت تسكرهما خمرة الثقافة القديمة التي طال اختزانها في البلاد، فقد كان أفرادهما يغدون ويروحون تملأ أعطافهم الروح المتحمسة النبيلة لخلق النهضة والإنسان الحديث.