قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 5 خ

صفحة رقم : 6288


قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> تراث العصور الوسطى


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الخاتمة: تراث العصور الوسطى

إن من الخير أن نختتم بدانتي قصتنا الطويلة المتشعبة، فقد ظهر في القرن الذي توفي فيه أولئك الرجال الذين شرعوا بعدئذ في تحطيم الصرح العظيم صرح الإيمان والأمل الذي عاش فيه: فمن هؤلاء ويكلف Wyclif، وهوس Huss اللذان مهدا السبيل للإصلاح الديني؛ وجيتو Giotto وكريسلاراس Chrysolaras، وبترارك، بوكاشيو الذين بشروا بالنهضة، وقد يبقى إلى زمن طويل خلال تاريخ الإنسان - ذي العدد الكبير والطبائع المختلفة - مزاج من نوع ما في بعض النفوس وبعض الأماكن بعد أن ينشأ المزاج الذي يخلفه أو يناقضه في نفوس وأماكن أخرى. ففي أوربا مثلاً وصل عصر الإيمان إلى عنفوان مجده، في دانتي، ثم أصابته طعنة نجلاء من يد أكام Occam في القرن الرابع عشر؛ ولكنه ظل يغالب والنصف حتى أقبل برونو Bruno وجلليو وديكارت واسبنوزا، وبيكن، وهُبز Hobbs؛ وقد يعود عصر الإيمان إذا ما حلت بعصر العقل كارثة ؛ ولقد بقيت مساحات واسعة تحت شعار الإيمان وسلطانه بينا كانت أوربا الغربية تسير بسفينة العقل في البحار الغير مطروقة. إن العصور الوسطى حال من أحوال الزمان كما هي فترة من فتراته: ومن واجبنا أن نختتمها في أوربا الغربية بكولمبس؛ ولكنها دامت في الروسسيا إلى زمن بطرس الأكبر (المتوفى عام 1725)؛ أما في الهند فلا تزال باقية إلى اليوم.

ولقد نساق إلى التفكير في العصور الوسطى على أنها فترة مجدبة محصورة بين سقوط الإمبراطورية الرومانية في الغرب (476) وكشف أمريكا؛ بيد أننا يجب ألاّ ننسى أن أتباع أبلار كانوا يسمون أنفسهم محدثين moderni، وأن أسقف إكستر Exeter قد وصف في عام 1287 القرن الذي يعيش فيه بأنه "الزمن الحديث moderni tempores"(1). أضف إلى هذا الحد الفاصل بين العصور "الوسطى" والعصور "الحديثة" يتقدم على الدوام؛ وأن عصر الفحم والزيت والأحياء القذرة المليئة بالدخان والكَتَن، إذا حل محله عصر أكثر منه نظاماً وأرحم مه حياة، قد يعد من العصور الوسطى. كذلك لم تكن العصور الوسطى مجرد فترة بين حضارة وحضارة. ذلك أننا إذا أرخنا بداية هذه العصور بقبول روما للمسيحية وبمؤتمر نيقية في عام 325، رأيناها تشمل القرون الأخيرة من حياة الثقافة اليونانية - الرومانية القديمة، ونضوج المسيحية الكاثوليكية حتى أضحت حضارة كاملة غنية في القرن الثالث عشر،وانقسام تلك الحضارة إلى الثقافتين المتعارضتين وهما النهضة والإصلاح الديني. وشيء آخر خليق بالذكر، وهو أن رجال العصور الوسطى كانوا ضحية للهمجية، ثم صاروا هم أنفسهم الغالبين للهمجية، وأمسوا بعدئذ المنشئين لمدنية جديدة. وليس من الحكمة أن ننظر بعين الكبرياء إلى عصر أنجب هذا العدد الجم من عظماء الرجال وعظمات النساء، ورفع منار البابوية فوق أنقاض العصور الوسطى، وأقام الدول الأوربية وجمع بالكدح الدائب تلك الثروة التي خلفتها لنا تلك العصور . وقد جمع هذا التراث بين الشر والخير. فأما عن الشر فنقول إننا لم نفق بعد كل الإفاقة من العصور المظلمة: من اضطراب الأمن الذي يثير المطامع والشهوات، والخوف الذي يولد القساوة، والفقر الذي يوجد القذارة والجهل، والقذارة التي تتفشى بسبها الأمراض، والجهل الذي يؤدي إلى سرعة التصديق وإلى الإيمان بالخرافات، والسحر - كل هذا لا يزال باقياً بيننا؛ وإن العقائد التحكمية القائمة على غير أساس من العقل، والتي أدت إلى التعصب وإلى محاكم التفتيش لا تزال تنتهز الفرص أو الإذن لكي تظلم، وتقتل، وتدمر، وتخرب. وليست "العصرية" بهذا المعنى إلاّ ستاراً يغشى مبادئ العصور الوسطى وعاداتها، ولا تزال هذه المبادئ والعادات باقية في الخفاء؛ وليست الحضارة في أي جيل من الأجيال إلاّ ثمرة من ثمار الكدح الذي تقوم به قلة مزعزعة مغمورة وميزة اضطرارية لهذه القلة. ولقد خلفت محاكم التفتيش آثارها السيئة في المجتمع الأوربي: فقد جعلت التعذيب جزءاً مقرراً معترفاً به في الإجراءات القضائية، وردت الناس من مغامرات العقل إلى الاتفاق الراكد المنبعث من الخوف.

والدين أهم ما ورثنا إياه عصر الإيمان: أورثنا يهودية ظلت حتى القرن الثامن عشر يستوعبها التلمود؛ وأورثنا الإسلام الذي هدأت عقول أصحابه بعد انتصار السُنَّة على الفلسفة في القرن الثاني عشر، ومسيحية انقسمت بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، ولكنها لا تزال رغم هذا الانقسام أقوى الأديان وأعظمها أثراً في تاريخ الرجل الأبيض. فعقيدة كنيسة العصور الوسطى يدين بها الآن 330.000.000 من الرومان، و 128.000.000 من الأرثوذكس والكاثوليك؛ ولا تزال شعائرها تحرك النفوس بعد أن أخفقت كل الحجج المنطقية. ولقد خلفت جهد الكنيسة في ميادين التعليم، والصدقات، وبث الأخلاق الفاضلة في نفوس الهمج من الناس، خلفت هذه الجهود إلى العالم الحديث تراثاً ثميناً من النظام الاجتماعي، والتأديب الخلقي. ولسنا ننكر أن ما كانت تحكم به البابوية من قيام دولة أوربا الموحدة قد قضى عليه النزاع الذي قام بين الإمبراطورية والبابوية؛ ولكن ما من جيل من الأجيال لا تستثيره رؤى نظام أخلاقي دولي يسمو على النظم الأخلاقية المتضاربة السائدة في الدول المستقلة ذات السيادة.

ولما أن قضى على ذلك الحلم البابوي اتخذت الأمم الأوربية الشكل الذي لا تزال تحتفظ به في جوهر حتى هذا القرن، وتأهب مبدأ القومية لكتابة التاريخ السياسي للأزمنة الحديثة. وابتدع عقل العصور الوسطى في هذه الأثناء أنظمة من القانون المدني والكنسي، ودساتير بحرية وتجارية، وعهوداً لحرية المدن، ونظام المحلفين، وحق القضاء في إطلاق سراح المسجون بلا محاكمة. وفي العصور الوسطى وضع نبلاء الإنجليز العهد الأعظم، واعَدَّت المحاكم والمجالس القضائية للدول والكنيسة أساليب الحكم ودواليب الإدارة الباقية إلى هذه الأيام. وظهر نظام الحكم النيابي في الكورتيز Cortes مجلس أسبانيا النيابي، والألثنج Althign مجلس أيسلندة، وجمعية الطبقات الفرنسية، والبرلمان الإنجليزي.

وكان أعظم من هذا كله تراث العصور الوسطى الاقتصادي: فقد استغلت هذه العصور البراري المقفرة، وكان لها النصر في مغالبة الغابات، والحراج، والمستنقعات، والبحار، وأخضعت تربة الأرض لإرادة الإنسان. وقضت العصور الوسطى على الاسترقاق في معظم أجزاء أوربا الغربية، وكادت تقضي أيضاً على نظام رقيق الأرض. ونظمت العمال المنتجين في نقابات الحرف، وهي النقابات التي لا تزال من المثل العليا عند رجال الاقتصاد الذين يسعون لإيجاد طريق وسط بين الأفراد غير المسئولين والدولة الأتوقراطية. ولقد ظل الخياطون، والأساكفة، وصناع الملابس إلى وقتنا هذا يقومون بأعمالهم اليدوية في حوانيت خاصة كما كانوا يقومون بها في العصور الوسطى؛ وكان خضوعهم لنظام الإنتاج الكبير وللتنظيم الرأسمالي على مرأى ومسمع منا. وإن المواسم الكبرى التي تعقد في المدن الحديثة ويجتمع فيها الناس والسلع لمن مخلفات تجارة العصور الوسطى؛ كما أن من هذا التراث أيضاً ما نبذله من جهد لمنع الاحتكار، وتحديد الأثمان والأجور؛ ولقد ورثنا عمليات المصارف الحديثة كلها تقريباً من نظم العصور الوسطى المالية، وحتى منظماتنا الأخوية، وجمعياتنا السرية تمتد جذورها وشعائرها إلى العصور الوسطى نفسها.

وكانت مبادئ العصور الوسطى الخلقية وليدة الهمجية ومنشأ نظام الفروسية. وإن فكرتنا عن السيد الكامل (السيذع) لمن خلق تلك العصور؛ ولا تزال مثل الفروسية العليا؛ وإن بعدت عن أساليب الفرسان القدامى، من أنبل الأفكار التي طافت بالعقل البشري؛ وربما كانت عبادة مريم العذراء قد جاءت بعناصر جديدة من الرقة والحنان إلى أخلاق الرجل الأوربي. وإذ كانت القرون المتأخرة قد ارتقت بأخلاق الناس عمّا كانت عليه في العصور الوسطى، فقد ذلك الرقي على أسس من وحدة الأسرة، والتربية الخلقية، والانتشار البطيء لعادات الشرف، والأمانة، والمجاملة، وهي الأسس التي أرست دعائمها العصور الوسطى، شأنها في هذا شأن الحياة الأخلاقية للمتشككين المحدثين التي لا يبعد أن تكون صدى للمبادئ الأخلاقية المسيحية التي اعتنقها الناس في شباب هذا الدين. أما تراث العصور الوسطى الذهني فهو أضعف مما ورثناه عن اليونان الأقدمين كما أنه يختلط به كثير من المعارف الخفية الفاسدة التي ترجع أصولها إلى الأزمنة القديمة. ولكنه على الرغم من هذا يشمل اللغات الحديثة، والجامعات ومصطلحات الفلسفة والعلوم. وكانت الطريقة الجدلية المدرسية تدريباً في المنطق لا فتحاً فلسفياً دائماً، وإن كانت هذه الطريقة تسيطر على ألف كلية. ولسنا ننكر أن بعض العقائد الدينية في العصور الوسطى قد عاقت كتابة التاريخ الصحيح؛ فقد كان الناس في تلك العصور يحسبون أنهم يعرفون منشأ العالم والإنسان ومسيرهما، وحاكوا نسيجاً من الأساطير كاد يقصر التاريخ على مؤرخي الأديرة الإخباريين. لكن ليس صحيحاً أن مؤرخي العصور الوسطى لم يكونوا يعرفون شيئاً عن التطور والتقدم؛ وكان القرن الثالث عشر، كما كان القرن التاسع عشر، متأثراً أشد التأثر بما تم فيه من جليل الأعمال. كذلك لم تكن العصور الوسطى زمن ركود وجمود كما كنا نظن ذلك مزهوين؛ ذلك أن بعد ما بيننا وبين تلك العصور يجعلنا نظم الحركة سكوناً، والفروق معدومة من الوجود، ونحسب التغير جموداً؛ ولكن الرغبة في التغيير كانت تلح وقتئذ، كما تلح الآن، في تبديل العادات والثياب، واللغة والأفكار، والشرائع ونظم الحكم، وأساليب التجارة والمال، والأدب والفن. غير أن مفكري العصور الوسطى لم يكونوا يعلقون أهمية كبرى على ارتقاء الوسائل غير المصحوبة بإصلاح الغايات كما يفعل المحدثون غير المفكرين أهل هذه الأيام.

وفي الحق ا،تراث العصور الوسطى العلمي تراث متواضع،ولكنه يشمل فيما يشمل الأرقام الهندية، والطريقة العشرية، وفكرة العلوم التجريبية، وقسطاً كبيراً من العلوم الرياضية والجغرافيا، والفلك، والبصريات. وفي العصور الوسطى كشف البارود، واخترعت النظارات، والبوصلة البحرية، والساعة ذات الرقاص ، وتقطير الكحول - الذي يبدو أشد المخترعات لزوماً للإنسان! وفيها ارتقى أطباء العرب واليهود بالطب اليوناني، وحرر الرواد المسيحيون الجراحة من فنون الحلاقين؛ ونصف المستشفيات التي تقوم الآن في أوربا أنها من منشئات العصور الوسطى وإما أنها مؤسسات باقية من ذلك العهد جددت في العصور الحديثة، ولقد ورث العلم الحديث من طريقة التفكير في العصور الوسطى نزعته الدُّوَلية، وقسطاً غير قليل من لغته الدُّوَلية.

وأجل ما ورثه العالم من العصور الوسطى بعد التأديب الأخلاقي هو الفن.نعم إن بناء إمبير استيت Empire State Building لا يقل روعة وجلالاً عن كتردائية شارتر،وأنه يدين بعظمته لهندسته وحدها - لثباته رغم ارتفاعه وعتوه ودقة تخطيطه. ولكن اجتماع فنون النحت، والتصوير، والشعر، والموسيقى مع فن العمارة في حياة الكتدرائية القوطية يكسب كتدرائيات أميان، وريمس، ونتردام سعة وعمقاً في التوافق الروحي،وثروة وتنوعاً في الزخرف، يملآن النفس غبطة أكثر مما تملؤها عظمة البناء الحديث، ولا تفتر معهما متعة الإنسان على مر السنين. وإن من واجب الإنسان أن يغفر الشيء الكثير لذلك العصر الذي أحب بملء قلبه رموز دينه، وأعمال يديه - من أبواب، وأبراج ومنارات مستدقة، وقباب من حجارة تناطح السماء، وتماثيل ومذابح للقربان وواجها، ومقابر عني بنحتها أعظم عناية، وشبابيك تنافس بألوانها قوس قزح، وتتقي أشعة الشمس قبل أن تنقذ فيها. ومن أجل الكتدرائيات نشأت الموسيقى المتعددة النغمات، ووضعت العلامات الموسيقية والسلم الموسيقي؛ ومن الكنيسة نشأ في فن التمثيل الحديث.

ولا يقل تراث العصور الوسطى في الأدب عن تراث الرومان وإن لم يبلغ في علو قدره ما بلغه الأدب اليوناني. ففي وسعنا أن نضع دانتي في مرتبة فرجيل، وبترارك إلى جانب هوراس، وشعراء العرب والفروسية الغزلين إلى جانب أوفد، وتيبلس، وبروبرتيوس؛ وإن روايات آرثر الغرامية لأشد عمقاً وأكثر نبلاً من كل ما حواه كتابا التناسخ أو الهرويدات، ولا يقل عنهما ظرفاً وجمالاً؛ وإن الترانيم الكبرى التي كانت تنشد في العصور الوسطى لأرقى من أجمل الأغاني الشعرية الرومانية. ولا يقل القرن الثالث عشر رقياً من عصر أغسطس أوليو العاشر؛ وقلّما شهد قرن من القرون ما شهده ذلك القرن من ازدهار فني أو ذهني كامل متعدد الألوان؛ وقد اتسع فيه نطاق التجارة اتساعاً لا يقل عمّا وصل إليه في أواخر القرن الخامس عشر؛ وكانت هذه التجارة سبباُ في اتساع رقعة العالم المعروف وازدياد ثروته ويقظته. وكان في القرن الثالث عشر بابوات أقوياء من طراز إنوسنت الثالث وبنيفاس الثامن، رفعوا مقام الكنيسة مدى قرن كامل إلى أعلى درجات النظام والقانون في جميع البلاد الأوربية. ولم يكن القديس فرانسس يخشى أن يكون مسيحياً؛ وأعاد الرهبان المتسولون المثل العليا للأديرة، ورفع الحكام العظام أمثال فيليب أغسطس، والقديس لويس، وفليب الرابع، وإدور الأول، وفردريك الثاني، وألفنسو العاشر، رفع هؤلاء دولهم من بلاد تجري على العادات والتقاليد إلى دول تتبع القوانين، كما رفعوا شعوبهم إلى مستويات جديدة من الحضارة في العصور الوسطى. وانبعثت في القرن الثالث عشر فلسفة وعلوم جديدة تغلبت على النزعات الصوفية التي كانت سائدة في القرن الثاني عشر، وكان انبعاثها بحماسة وشجاعة لا يفوقهما ما كان منها في عصر النهضة. وفي الأدب خطا ":القرن العجيب" من بارزيفال تأليف ولفرام فن إسشنباخ إلى فكرة الملهاة المقدسة، ولاح أن عناصر حضارة العصور الوسطى وصلت في خلال ذلك القرن إلى الوحدة والوضوح وإلى صورتها النهائية.

وبعد فإنّا لن نستطيع تقدير العصور الوسطى حق قدرها إلاّ إذا نظرنا إلى النهضة الأوربية على أنها إتمام لما بدأته لا نقض له. فقد واصل كولمبس ومجلان Magellan مثلاً رحلات الارتياد التي قام بها التجار والملاحون من أهل البندقية، وجنوى، ومرسيليا، وبرشلونة، ولشبونة، وقادس، والتي تقدمت على أيديهم تقدماً عظيماً؛ وإن الروح التي كانت متأججة في أثناء القرن الثاني عشر لهي نفسها التي أثارت روح الكبرياء والكفاح في المدن الإيطالية خلال عصر النهضة؛ كذلك كان النشاط والخلق القوي اللذان امتاز بهما إنريكو دوندولو Enrico Dnodolo، وفردريك الثاني، وجريجوري التاسع هما اللذين تلتهب بهما صدور رجال النهضة؛ وكان منشأ زعماء عصابات المغامرين العسكريين الذين يبيعون خدماتهم لأي حزب في كل نزاع من الخطة التي اتبعها ربرت جسكارد Robert Guiscard؛ ومنشأ الحكام "الطغاة" مثل إزلينو Ezzelino وبلافشينو Pallavicino؛ وسار المصورون في الدرب الذي شقه لهم سمابيو Cimabue [M. M. A1] ودوتشيو Duccio؛ وكانت بلسترينا Palestrine همزة الوصل بين الترنيم الجريجوري وباخ Bach. كذلك كان بترارك وارثاً لدانتي وشعراء الفروسية الغزلين، كما كان بوكاشيو قصاصاً إيطالياً جواباً. وقد ظلت الروايات الغرامية مزدهرة في أوربا أثناء النهضة على الغم من كتاب دن كيشوت، وبلغت أساليب كريتيان ده تروي Chretien de Troyes حد الكمال على يد مالوري Malory. وكانت بداية "إحياء الآداب" في مدارس العصور الوسطى؛ وكل ما امتازت به النهضة في هذه الناحية أنها وسعت دائرة هذا الإحياء حتى شملت الآداب اليونانية بعد أن كان مقصوراً على اللاتينية، وأنها نبذت الفن القوطي لتنهض بالفن اليوناني. لكننا يجب ألاّ ننسى أن نقولو بيزانو Niccolo Pisano اتخذ فن النحت اليوناني في القرن الثالث عشر نموذجاً له ينسج على منواله، ولمّا أن جاء كريسلوراس Chrysoloras باللغة اليونانية وآدابها إلى إيطاليا (1393)، كان لا يزال باقياً من عمر العصور الوسطى مائة عام كاملة.

وكان الدين الذي شاد الكنائس الكبرى وألّف الترانيم الجميلة هو الدين السائد في إيطاليا، وأسبانيا، وفرنسا في عهد النهضة مع فارق واحد، وهو أن الكنيسة الإيطالية، التي كان لها نصيب كبير في ثقافة ذلك الوقت، وهبت العقل الإيطالي حرية في التفكير ولدت في جامعات العصور الوسطى، وظلت باقية، بشرط أن يكون مفهوماً فهماً ضمنياً أن يسير الفلاسفة والعلماء في بحوثهم دون أن يحاولوا القضاء على دين الجماهير.

ومن أجل هذا لم تشترك إيطاليا ولا فرنسا في حركة الإصلاح الديني، بل انتقلتا من ثقافة القرن الثالث عشر الكاثوليكية إلى ثقافة القرنين الخامس عشر والسادس عشر "الإنسانية"، ثم انتقلتا من هذه الثقافة الأخيرة إلى عصر الاستنارة في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وكان هذا الاطراد المستمر مضافاً إلى تجارة البحر المتوسط قبل كشوف كولمبس هي التي أكسبت الشعوب اللاتينية ميزة ثقافية مؤقتة على الأمم الشمالية التي اجتاحتها الحروب الدينية، والتي كان لها فيها من الآثار المدمرة أكثر مما كان في البلاد اللاتينية. وتمتد أصول هذا الاطراد مجتازة العصور الوسطى إلى روما القديمة ومجتازة جنوبي إيطاليا إلى بلاد اليونان القديمة. وكان تيار واحد عظيم من الثقافة يجري خلال المستعمرات اليونانية في صقلية، وإيطاليا، وفرنسا، وخلال الفتح الروماني لفرنسا وأسبانيا واصطباغهما بالصبغة اللاتينية مبتدئاً من سابفو وأنكريون إلى فرجيل وهوراس، وإلى دانتي وبترارك، وإلى ربليه ومنتائي، وإلى فلتير وأناتول فرانس. ونحن في انتقالنا من عصر الإيمان إلى عصر النهضة إنما نتقدم من الطفولة المزعزعة غير الواثقة بنفسها إلى الشباب البهيج للثقافة التي قرنت ما كان عند الرومان واليونان الأقدمين من ظرف ورقة إلى ما كان عند البرابرة من قوة؛ وهي ثقافة نقلت إلينا تراثاً متجدد الشباب موفور الغنى لحضارة من حقها علينا أن نعمل على الدوام لزيادتها وألاّ نتركها تموت. شكراً لك مرة أخرى أيها القارئ الصديق انتهى المجلد الرابع ويليه المجلد الخامس في حضارة عصر النهضة



 صفحة رقم : 6298