قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 3 ب 17

صفحة رقم : 4915

قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة اليهودية -> عقل اليهودي وقلبه -> الأدب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب السابع عشر: عقل اليهودي وقلبه 500-1300

الفصل الأول: الأدب

لقد ظلت روح اليهودي يتنازعها عاملان هما اعتزامه أن يشق طريقه في عالم معاد له وشغفه بثمار العقل. فالتاجر اليهودي عالم فقده العلم؛ يحسد الرجل الذي نجا من حمى الثراء، والذي شغف في هدوء واطمئنان بحب العلم وضرب بسهم في آفاق الحكمة، ولكنه لا يحسده فحسب بل يكرمه كذلك. وشاهد ذلك أن التجار ورجال المصارف الذاهبين إلى أسواق ترويس Troyes، كانوا يقفون في طريقهم ليستمعوا إلى راشي العظيم وهو يشرح التلمود(1). وبفضل هذه الروح ظل يهود العصور الوسطى وهم في غمار المشاغل التجارية، والفقر المذل، والازدراء القاتل، ظلوا ينتجون النحويين، وفقهاء الدين، والمتصوفة، والشعراء، والعلماء، والفلاسفة، ولم يضارعهم في آدابهم الواسعة وثرائهم العقلي إلا المسلمون فيما بين 1150 و1200(2). وكان مما يسر لهم أسباب هذا النبوغ أنهم يعيشون بين المسلمين أو على اتصال بهم، وإن كثيرين منهم كانوا يعرفون اللغة العربية، فكان عالم الثقافة الإسلامية الثري بأجمعه في العصور الوسطى مفتوحاً أمامهم يغترفون من بحره الطامي في العلوم والطب، والفلسفة، وبفضل وساطتهم أثاروا عقل العالم الغربي المسيحي بما بثوا فيه من تفكير المسلمين.

وكان اليهود في بلاد الإسلام يستخدمون اللغة العربية في حديثهم ونثرهم المكتوب، أما شعراؤهم فقد استمسكوا في شعرهم باللغة العبرية ولكنهم استخدموا فيه الأوزان العربية والصور الشعرية؛ وفي البلاد المسيحية كان اليهود يتحدثون بلغة الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها، ويكتبون في آدابهم، ويعبدون يهوه بلسانهم القديم. وأخذ يهود أسبانيا بعد ابن ميمون يكتبون أدبهم باللغة العبرية بدل العربية بعد فرارهم من اضطهاد الموحدين. وقد استطاع اليهود بفضل جهود فقهاء لغتهم وإخلاصهم أن يحيوا اللغة العبرية من جديد؛ وكان قد تعذر عليهم فهم نصوص العهد القديم لعدم وجود الحركات المستقلة وعلامات الترقيم في اللغة العبرية، ولكن علماءهم استطاعوا بعد دراسة دامت ثلاثة قرون أن يضعوا النص المسورتي Masoretic (الذي قدسته التقاليد) وذلك بإضافة علامات للحركات، وإشارات للنبر، وعلامات للترقيم، وفواصل للشعر، وشروح الهوامش؛ وبفضل هذا العمل أصبح في مقدور كل يهودي بعد ذلك الوقت أن يقرأ كتبه الدينية. واضطرتهم هذه الدراسات إلى وضع النحو العبري والمعجمات العبرية. ولفت شعر مناشة بن سروق (910-970) وعلمه نظر حسداي بن شبروط، فاستدعاه الوزير العظيم إلى قرطبة وشجعه على وضع قاموس لألفاظ الكتاب المقدس العبرية. ووضع يهوذا بن داود حيوج (حوالي عام 1000 م) النحو العبري على أساس علمي، في ثلاثة كتب باللغة العربية لغة الكتاب المقدس. وبزه في هذا العمل تلميذه يونا بن جناح (995-1050) السرقسطي حين وضع بالعربية كتابه في النقد الذي تقدم به النحو العبري والمعجمات العبرية خطوات واسعة. ووضع يهوذا بن قريش علم فقه اللغات السامية المقارن بدراسته اللغات العبرية، والآرامية، والعربية. وتقدم أبراهام الفارسي (حوالي عام 980) اليهودي القرائي خطوة أخرى على هذا العمل بوضعه معجماً أرجع فيه جميع ألفاظ كتاب العهد القديم إلى أصولها ورتبها على الحروف الأبجدية. وبز ناثان بن يحيل من علماء روما (المتوفي عام 1160) سائر علماء المعاجم اليهود بوضعه معجماً للتلمود. وفي نربونة ظل يوسف قمحي وولداه موسى وداود (1160-1235) يعملون عدة أجيال في هذه الميادين، وظل محلول أو موجز Michlol داود قروناً عدة المرجع المعترف به في النحو العبري، وطالما أعان مترجمي الملك جيمس للكتاب المقدس(3). تلك كلها أسماء اخترناها من بين ألف اسم من أدباء اليهود.

وأفاد الشعر اليهودي من هذه الدراسات الواسعة فتحرر من الصيغ العربية، وأنشأ أشكاله وموضوعاته الخاصة به، وأنتج في أسبانيا وحدها ثلاثة رجال يضارعون أي ثلاثة غيرهم من الأدباء المسلمين أو المسيحيين في عصرهم. وأول هؤلاء الثلاثة هو سليمان بن جبيرول المعروف في العالم المسيحي باسم الفيلسوف أفسبرون Avlcebron. وقد هيأته مأساته الشخصية لأن يكون هو المعبر عن مشاعر إسرائيل. وكان مولد هذا "الشاعر بين الفلاسفة والفيلسوف بين الشعراء" على حد قول هيني في مالقه حوالي عام 1021. وتوفي أبواه وهو صغير السن فنشأ في جو من الفقر نزع به إلى التفكير المكتئب. وأعجب بشعره يقويتايل ابن حسان وهو رجل كان يشغل منصباً رفيعاً في دولة-مدينة سرقسطة الإسلامية. وفي هذه المدينة وجد ابن جبيرول الحماية والهناءة إلى حين، وأخذ يتهنى بمباهج الحياة. ولكن بعض أعداء الأمير قتلوا يقويتايل فاضطر ابن جبيرول إلى الفرار من المدينة وظل عدة سنين يهيم على وجهه في بلاد الأندلس الإسلامية، فقيراً عليلاً، هزيلاً إلى حد "يسهل معه على ذبابة أن تحملني". وأولاه صمويل بن نجدلا، وهو شاعر مثله، حمايته وأواه في غرناطة وفيها كتب سلّمان كتبه الفلسفية وخص الحكمة بشعره:



 صفحة رقم : 4918   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة اليهودية -> عقل اليهودي وقلبه -> الأدب



وكيف أتخلى عن الفلسفة؟



لقد عقدت معها عهداً.



فهي أمي وأنا أعز أبنائها؛



لقد طوقت عنقي بجواهرها....



وستظل روحي تصبو إلى



مراقيها السماوية، ما دمت حياً..



ولن يقر لي قرار حتى أكشف منبعها.


وربما كان كبرياؤه قد أدى إلى الشقاق بينه وبين صمويل: فعاد، وهو لا يزال شاباً في أخريات العقد الثالث من عمره، إلى الفقر والتجوال، حتى أذلت النكبات نفسه، فهجر الفلسفة إلى الدين:


رباه، ما الإنسان؟ إنه جيفة دنسة تطأها الأقدام.



إنه مخلوق كريه، يفيض مكراً وخداعاً.



إنه زهرة ذواية، تدبل إذا مسها الحر(6).


وينجو شعره في بعض الأحيان منحى عظمة المزامير المكتئبة الحزينة:


أنشر علينا السلام يا الله،



وأسبغ علينا نعمتك السرمدية.



ولا تجعلنا ممن يحل عليهم غضبك،



يا من نسكن إليه.



وسواء كنا نطوف بالأرض جيئة وذهاباً.



أو نقيم مكبلين بالأغلال في المنفى الموحش.



فسنظل نجهر أينما ذهبنا قائلين.



ها هنا مجدك يا رباه.


وخير كتبه كلها هو كيتير ملخوت (التاج الملكي) الذي ينادي فيه بعظمة الله كما كانت قصائده الأول تنادي بعظمته هو:



 صفحة رقم : 4919   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة اليهودية -> عقل اليهودي وقلبه -> الأدب



افر منك إليك لأجد



مكاناً ألجأ إليه. وفي ظلك



أختبئ من غضبك



إلى أن تهدأ سورتك،



حتى تستمع إلي وترثي لي،



ولن أفك قبضتي



حتى تهبط عليَّ نعمتك.


وقد اجتمع في أسرة ابن عزرا بغرناطة ما كان للثقافة اليهودية في أسبانيا الإسلامية من ثراء متعدد المناحي. وكان يعقوب ابن عزرا يشغل منصباً رفيعاً تحت رياسة شمويل بن نجدلا في بلاط الملك. وكان بيته ندوة للآداب والفلسفة ونبغ ثلاثة من أولاده الأربعة الذين نشئوا في هذا الجو العلمي، فكان اسحق شاعراً، وعالماً طبيعياً، ومتبحراً في التلمود، وكان موسى ابن عزرا (1070-1139) عالماً وفيلسوفاً، وكان أعظم شعراء اليهود قبل هلوي. وقد انتهت سعادة شبابه حين أحب بنت أخ له حسناء زوَّجها أبوها اسحق أخوه الأكبر بأخيه الأصغر أبراهام. فما كان من موسى إلا أن هاجر من غرناطة، وهام على وجهه في بلاد نائية يغذي بالشعر عواطفه المكبوتة البائسة: "ألا فعيشي، وإن كانت شفتاك يسيل منهما الشهد ليمتصه غيري، وتنفسي بالند يستنشقه سواي. وسأظل وفياً لك حتى تستعيد الأرض الباردة وديعتها، وإن لم تكوني أنت وفية لي. إن قلبي ليطرب لغناء العندليب، وإن كان المغنى يعلو على وينأى عني"(9). ووجَّه قيثارته آخر الأمر، كما وجهها ابن جبيرول. إلى الأغاني الدينية، وأخذ ينشد مزامير من الاستسلام الصوفي. وكان أبراهام بن مإير بن عزرا-الذي يعده بروننج Browning



 صفحة رقم : 4920   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة اليهودية -> عقل اليهودي وقلبه -> الأدب


المعبر عن فلسفة العصر الفكتوري-يمت بصلة القرابة البعيدة لموسى بن عزرا، ولكنه كان من أصدقائه المقربين. وقد ولد في طليطلة عام 1093، وعرف في شبابه الفقر والجوع، ولكنه كان شديد التعطش إلى العلم في كل ميادينه. وأخذ هو أيضاً يتنقل من مدينة إلى مدينة، ومن مهنة إلى مهنة، ولازمه سوء الحظ في كل مهنة وفي كل مدينة، وقال في هذا بسخرية اليهودي المريرة: "لو اتجرت في الشمع لما غربت الشمس، ولو بعت أكفان الموتى لعاش الناس إلى أبد الدهر". وسافر إلى إيران مجتازاً مصر والعراق، ولعله قد ذهب أيضاً إلى بلاد الهند، ثم عاد إلى إيطاليا، ومنها إلى فرنسا، وإنجلترا. وبينما كان عائداً إلى أسبانيا في الخامسة والسبعين من عمره إذا وافته منيته، وكان لا يزال فقيراً ولكنه ذو شهرة واسعة بين اليهود أجمعين لبلاغة شعر ونثره. وكانت مؤلفاته لا تقل تنوعاً عن البلاد التي طاف بها-ألف في العلوم الرياضية، والفلكية، وفي الفلسفة، والدين؛ وكانت قصائده تختلف من الحب إلى الصداقة، ومن مناجاة الله إلى مناجاة الطبيعة، والفصول، ومن الحديث عن الشطرنج إلى التغني بجمال النجوم. وقد صاغ في صور شعرية أفكاراً لم يكن يخلو منها مكان ما في عصر الإيمان، واستبق نيومن Newman بهذه الترنيمة العبرية:


يا إله الأرض والسماء، منك الروح والجسد!



لقد وهبت الإنسان بعظيم حكمتك ما في الإنسان من ضياء قدسي...



إن أيامي بين يديك، وأنت تعرف الخير لي



وتهبني بقوتك خير عن لي حيث أخشى الوقوف



وسترك يحجب عن العيون آثامي ورحمتك رعي الواقي



ولست تريد جزاء على نعمك وأفضالك(10)


وخير ما يشتهر به عند معاصريه هو تعليقه على كل كتاب من كتب العهد



 صفحة رقم : 4921   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة اليهودية -> عقل اليهودي وقلبه -> الأدب


القديم. وقد دافع عن صدق الكتب العبرية المقدسة، وأنها موحى بها من عند الله، ولكنه فسر العبارات الممجدة للخالق تفسيراً مجازياً. وكان أول من قال أن سفر إشعيا لم يكتبه نبي واحد بل كتبه اثنان من الأنبياء؛ ويعده اسبنوزا واضع أساس النقد العقلي للكتاب المقدس(11). وكان أعظم شعراء عصره على بكرة أبيهم يهودا هليفي (1086-1147). وقد ولد في طليطلة بعد عام من استيلاء الفنسو السادس ملك قشتالة عليها. فنشأ فيها آمناً في كنف أعظم الملوك المسيحيين استنارة وتسامحاً في أيامه. وأعجب ابن عزرا بإحدى قصائده الأولى فدعاه إلى الإقامة معه في غرناطة، حيث استضافه موسى واسحق ابني عزرا في منزلهما. وأخذ شعره ينتشر ونكاته تذيع في جميع الأوساط اليهودية في أسبانيا. وكان ينعكس على شعره مزاجه المرح، وشبابه الموفق السعيد، وأخذ يتغنى بالحب، بكل ما عرف من الشعراء الجوالين المسلمين أو البروفنساليين، وبكل ما في نشيد الأنشاد من قوة ورنين. وقد حوت "حديقة بهجته" مقطوعة من الشعر الملتهب حماسة تعد أمرح الفقرات في هذه الطرفة الهزلية الرائعة:


ادن منها أيها الحبيب، لِمَ تتوانى أن تطعم بين حدائقها؟



انثن إلى مخدع الحب لتقطف سوسنها.



إن تفاحتي صدرها المحجوبتين ليفوح شذا عطرهما،



وهي تخبئ لك في قلائدها ثماراً شهية تتلألأ كالنور....



لولا قناعها لاستحت منها نجوم السماء


وترك هليفي ضيافة ابني عزرا وسخاءهما وذهب إلى أليسانة وواصل الدرس عدة سنين في الجمع العلمي اليهودي بهذه المدينة، فدرس الطب، وأصبح من الأطباء غير النابهين، ثم أسس معهداً للغة العبرية في طليطلة وأخذ يحاضر فيه عن الكتاب المقدس. ثم تزوج وأنجب أربعة أبناء. فلما تقدمت به السن طغى شعوره بما حل باليهود من نوائب على ما كان يرفل فيه من نعيم، فأخذ يتغنى بشعبه، وبأقرانه، ودينه، وكان يتوق كما يتوق غيره من اليهود لأن يختتم حياته في فلسطين:


أي مدينة الدنيا (أورشليم) يا ذات الجمال والجلال والكبرياء!



ليت لي جناحي نسر أطير بهما إليك حتى أبلل بدمعي ثراك!



إن قلبي في الشرق، وإن كنت مقيماً في الغرب(13).


ولم يكن يهود أسبانيا المنعمون فيها يرون في هذه الأشعار أكثر من ألفاظ مقفاة موزونة، ولكن هليفي كان مخلصاً في أقواله. فقد استودع أسرته في أيد أمينة عام 1141، وبدأ رحلة شاقة إلى أورشليم. وأتت الرياح بما لا تشتهي سفينته فحولتها عن طريقها ودفعتها إلى الإسكندرية حيث استقبلته الجالية اليهودية، ورجته ألا يجازف بالذهاب إلى أورشليم وكانت وقتئذ في أيدي الصليبيين. وبعد أن أقام في الإسكندرية وقتاً ما غادرها إلى دمياط ومنها إلى صور ثم انتقل منها لسبب لا نعلمه إلى مشق حيث اختفى ذكره من التاريخ. وتقول إحدى الأقاصيص أنه ذهب إلى أورشليم، فلما وقعت عينه عليها أول ما وقعت خرَّ راكعاً، وقبَّل الأرض، فداسته حوافر جواد يركبه أعرابي وقضت على حياته(14). ولكننا لا نعرف هل وصل حقاً إلى مدينة أحلامه، وكل الذي نعلمه علم اليقين أنه كتب في دمشق "أغنية لصهيون" ولعله كتبها في آخر سنة من حياته، وكان جوت الشاعر الألماني يعدها من أعظم القصائد في أدب العالم كله(15):


ألا ترغبين يا صهيون في أن تبعثي بتحياتك من صخورك المقدسة



إلى شعبك الأسير الذي يحييك لأنه البقية الباقية من أبنائك؟...



ألا ما أجش صوتي وأنا أندب أحزانك ولكني حين أبصر حريتك في



أوهام أحلامي تنساب من صوتي النغمات حلوة شجية كنغمات القيثارة المعلقة



على شاطئ نهر بابل... ألا ليتني أستطيع أن أصب روحي حيث صبت



روح الله في أبنائك القديسين في الأزمان السابقة! لقد كنت منزل الملوك



وعرش الله، ولست أدري كيف يحتل العبيد الآن العرش الذي جلس عليه



أبناؤك من قبل؟



من ذا الذي يرشدني لبحث عن الأماكن التي أطل منها الملائكة بجلالهم



على سلك وأنبيائك في الأزمان القاصية؟



ومن ذا الذي يهب لي جناحين أطير بهما لأضع حطام قلبي بين خرائبك



وأستريح ن تجوالي؟



سأولّي وجهي نحو أرضك وأمسك بحجارتك أعتز بها كما يعتز الناس



بالذهب الثمين...



إن هواءك يبعث الحياة في نفسي، وذرات ترابك هي المسك الشذي،



وأنهارك تفيض بالعسل المصفى.



وما أعظم بهجتي إذا استطعت أن أجيء إلى معابدك المخربة عارياً حافي



القدمين! حيث احتفظ بالتابوت، وحيث سكن الملائكة المكرمون في



المخابئ المظلمة...



يا صهيون يا ذات الجمال الذي ليس بعده جمال، لقد اجتمع فيك الحب



والبهاء، إن أرواح أبنائك تتجه في حنان نحوك؛ وكانت أفراحك بهجتها



ومسراتها، وها هي ذي الآن تبكي في منفاها البعيد أسى وحسرة على خرائبك،



وتتوق لرؤية مرتفعاتك المقدسة، وتسجد في صلواتها خاشعة نحو أبوابك، إن



الرب ليحب أن يختارك لتكوني مسكنه الأبدي، وطوبى لمن اختاره الرب



وأنعم عليه بالراحة في داخل أبهائك.



وما أسعد من يرقبك وهو يقترب منك حتى يرى أضواءك المجيدة



تنتشر، ومن يطلع عليه فجرك الوضَّاء كاملاً صافياً من سماء المشرق.



وأسعد من هذا وذاك من يشهد بعينيه المتهللتين نعيم أبنائك المحررين،



ويرى شبابك يتجدد كعهدنا به في قديم الزمان(16).


الفصل الثاني: مغامرات التلمود

لقد بلغ رخاء يهود العصر الذهبي في أسبانيا مبلغاً يمنعهم أن يكونوا شديدي التمسك بالدين كما كان شعراؤهم في سني الاضمحلال، فقد كانوا يقرضون شعراً مطرباً، حسياً، رقيقاً، وينطقون بفلسفة توفق في ثقة بين الكتاب المقدس والتفكير اليوناني. ولقد ظل اليهود يزدادون رخاء حتى بعد أن طردهم الموحدون المتشددون في دينهم من بلاد الأندلس الإسلامية إلى أسبانيا المسيحية، وازدهرت المجامع العلمية اليهودية في ظل التسامح المسيحي في طليطلة وبرشلونة خلال القرن الثالث عشر. لكن اليهود لم يكن حظهم في فرنسا وألمانيا كما كان حظ يهود أسبانيا، فقد كانوا يزدحمون في أحيائهم الضيقة وهم جلون، ويبذلون خير مواهبهم في دراسة التلمود، ولم يكونوا يهتمون بتبرير عقائدهم للعالم غير المتدين، ولم يشكوا قط في أصوله، بل انهمكوا في دراسة الشريعة. وأضحى المجمع العلمي الذي أنشأه جرشوم في مينز من أوسع المدارس نفوذاً في ذلك العصر، اجتمع فيه مئات من طلاّب العلم واشتركوا مع جرشوم في نشر نصوص التلمود وتوضيحها بعد أن ظلوا يكدحون في هذا العمل جيلين من الزمان. وقام بمثل هذا العمل في فرنسا الحاخام شلومو بن يصحق (1040-1105)، ويسميه بنو ملته راشي تدليلاً له وقد أخذوا هذا الاسم من الحروف الأولى من لقبه واسمه. وقد ولد راشي في تروي من أعمال شمبانيا، وتعلم في المدارس اليهودية في ورمز، ومينز، وأسبير، ثم عاد إلى تروي وأخذ يعول أسرته ببيع الخمور، ولكنه خص الكتاب المقدس والتلمود بكل ساعة من ساعات فراغه. وقد أنشأ مجمعاً علمياً في تروي مع أنه لم يكن حاخاماً رسمياً، وظل يعلم فيه أربعين سنة، ووضع بالتدريج شروحاً للعهد القديم ومشنا. والجمارا ولم يحاول، كما حاول بعض العلماء الأسبان، أن يجد في النصوص الدينية آراء فلسفية، بل كل ما فعله أن فسر هذه النصوص تفسيراً اغترفه من بحر علمه الصافي الخضم، بلغ من تقدير بني دينه أن طبع هذا التفسير مع التلمود نفسه. وقد أكسبته طهارة حياته مضافة إلى تواضعه احترام شعبه فرفعوه إلى مقام القديسين، وأخذت الجماعات اليهودية في جميع أنحاء أوربا يرسلون إليه يستفتونه في المسائل الدينية والشرعية، وجعلوا لأجوبته الصفة القانونية. وأحزنته في شيخوخته مذابح الحملة الصليبية الأولى. وواصل عمله بعد وفاته أحفاده شمويل، ويعقوب، واسحق أبناء مإير، وكان يعقوب أول "التوسافيت"، وظل علماء التلمود الفرنسيون والألمان خمسة أجيال من بعد وفاته يراجعون ويعدلون شروحه بما يضيفون إليها من توسافوت أو "إضافات".

وما كاد التلمود يتم حتى أصدر جستنيان قراراً بتحريمه (553) لأنه "خليط من الصغائر، والخرافات، والمظالم، والإهانات، والسباب، والكفر، والتجديف"(17). ويلوح أن الكنيسة قد نسيت بعدئذ وجود التلمود؛ ذلك أنه قلّما كان يوجد من رجال الكنيسة اللاتينية من يستطيع قراءة اللغة العبرية أو الآرامية اللتين كتب بهما، وظل اليهود سبعمائة عام كاملة يقرءون ويدرسون مجلداته العزيزة عليهم بكامل حريتهم-يقرءونه بجد يخيل إلينا معه أنه قد نسوا معه الكتاب المقدس. لكنه حدث في عام 1239 أن رفع لقولاس دونين Nicholas Donin، وهو يهودي اعتنق المسيحية، إلى البابا جريجوري التاسع معروضاً يتهم فيه التلمود بأنه يحتوي على إهانات فاضحة للمسيح والعذراء، وتحريض على الغش والخداع في معاملة المسيحيين. وما من شك في أن بعض هذه التهم صحيح، لأن جامعي الكتاب في جدهم المتواصل قد عظموا التنائيم والأمورائم تعظيماً جعلهم يضمون إلى الأجزاء الشعبية من الجمارا وفي أجزاء متفرقة منها ملاحظات يرد بها الأحبار الغضاب على نقد المسيحيين للدين اليهودي(18). ولكن دونين، وقد صار أكثر مسيحية من البابا نفسه، أضاف من عنده عدة تهم أخرى، لا يمكن إثباتها: منها أن التلمود يجيز غش المسيحي، ويحبذ قتله، مهما بلغ من صلاحه، وأن أحبار اليهود يجيزون لهم أن ينكثوا عهودهم التي أقسموا على الوفاء بها، وأن يقتلوا كل مسيحي يدرس الشريعة اليهودية. فما كان من جريجوري إلا أن أمر بأن يرسل إلى الرهبان الدومنيك أو الفرنسيس كل ما يمكن العثور عليه من نسخ التلمود في فرنسا، وإنجلترا، وأسبانيا، ثم أمر أولئك الرهبان بأن يفحصوا تلك الكتب بدقة وعناية، فإذا تبينوا أن هذه التهم صحيحة فليحرقوها. ولم نعثر فيما وصل إلينا من المعلومات المسجلة على ما حدث بعد ذا الأمر، ولكنا نعرف أن لويس التاسع أمر يهود فرنسا بأن يسلموا كل ما لديهم من نسخ التلمود وإلا كان جزاؤهم الإعدام، ثم استدعى أربعة من أحبارهم إلى باريس ليدافعوا عن الكتاب في نقاش علني أمام الملك، والملكة بلانش Blanche، ودونين، واثنين من الفلاسفة المدرسين-وليم الأوفرني William of Auvergne، وألبرتس مجنس Albertus Magnus(19). ودام البحث ثلاثة أيام أمر بعدها الملك أن تحرق جميع نسخ التلمود (1240)، وشفع ولتر كرنوتس Walter Cornutus كبير أساقفة سان Sens لليهود فأمر الملك بإعادة كثير من نسخ التلمود إلى أصحابها، فلما مات كبير الأساقفة بعد ذلك بقليل اعتقد بعض الرهبان أن موته هو حكم الله على لين الملك. واقتنع الملك برأيهم هذا فأمر بمصادرة جميع نسخ التلمود، فجيء بها إلى باريس محملة على أربعة وعشرين عربة وألقيت في النار (1242). ثم صدر أمر بابوي في عام 1248 يحرم تملك التلمود في فرنسا، وضعفت بعد ذلك دراسة التلمود والآداب العبرية في جميع أنحاء فرنسا عدا برفاتس.

وحدث مثل هذا النقاش في برشلونة عام 1263، ذلك أن ريمند البنيافورتي Rayond of Penafort وهو راهب دومنيكي يشرف على محكمة التفتيش في أرغونة وقشتالة أخذ على عاتقه أن ينصر يهود هاتين المقاطعتين. وأراد أن يعد واعظيه لهذا الغرض فنظم دراسات في اللغة العبرية في معاهد اللاهوت بأسبانيا المسيحية، وساعده في هذا يهودي متنصر يدعى بول المسيحي Paul the Christian وأمدا فيما بينهما ريمند بكثير من المعلومات عن الدينين المسيحي واليهودي فنظم الراهب نقاشاً بين بول والحاخام موسى بن نحمان الجيروني أمام جيمس الأول ملك أرغونة. وجاء ابن نحمان إلى النقاش على كره منه، لأنه كان يخشى النصر بقدر ما كان يخشى الهزيمة. ودام الجدل أربعة أيام كان الملك في أثنائها مبتهجاً، ويبدو أن الطرفين قد حافظا على آداب المناظرة. وفي عام 1264 أمرت لجنة دينية بجمع كل ما في أرغونة من نسخ التلمود، ومحت كل ما فيها من فقرات تطعن الدين المسيحي ثم ردت الكتب إلى أصحابها(20)، وتحدث ابن نحمان عن الدين المسيحي في تقريره الذي كتبه للمعابد اليهودية في أرغونة يصف فيه المناظرة بعبارات خيل إلى ريمند أن فيها طعناً شديداً على هذا الدين(21)، فاحتج الراهب لدى الملك على هذا العمل، ولكن جيمس لم يحرك ساكناً إلا في عام 1266 حين خضع لإلحاح البابا فنفى ابن نحمان من أسبانيا. وتوفي ذلك الحبر في فلسطين بعد عام من نفيه.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: العلوم عند اليهود

تكاد العلوم الطبيعية والفلسفة عند اليهود أن تنحصر كلها في بلاد الإسلام، ذلك أن المقيمين في البلاد المسيحية في العصور الوسطى كانوا بمعزل عن جيرانهم معرضين للاحتقار وإن كانوا متأثرين بأولئك الجيران، ولهذا لجأوا إلى التصوف والخرافات وأخذوا يمنون أنفسهم بمجيء مسيح ينقذهم مما هم فيه. وتلك كلها ظروف هي أسوأ ظروف يمكن أن ينشأ فيها العلم. غير أن الدين اليهودي كان يشجع على دراسة الفلك، لأن تحديد أيام الأعياد تحديداً دقيقاً إنما يعتمد على هذه الدراسة. وبفضل هذه الدراسة استبدل علماء الهيئة اليهود في بابل في القرن السادس التقديرات الفلكية بالأرصاد المباشرة للقبة السماوية. وقد حسبوا السنة على أساس الحركة الظاهرية للشمس، والشهور على أوجه القمر، وسموا الشهور بأسماء بابلية، وجعلوا بعض الشهور "كاملة" عدة كل منها ثلاثون يوماً، وبعضها "ناقصة" عدة كل منها تسعة وعشرون، ثم وفقوا بين التقويمين القمري والشمسي بإضافة شهر ثالث عشر إلى كل سنة ثالثة، وسادسة، وثامنة، وحادية عشرة، ورابعة عشرة، وسابعة عشرة، وتاسعة عشرة في كل دورة مؤلفة من تسعة عشر عاماً. وكان يهود في الشرق يؤرخون الحوادث على أساس التقويم السلوقي الذي يبدأ في عام 312 ق. م. أما في أوربا فقد اتخذوا في القرن التاسع "التاريخ اليهودي" الحال المعروف باسم "سنة العالم Anno Mundi والذي يبدأ بتاريخ خلق الدنيا كما يظنون في عام 3761 ق. م. وبهذا كله أصبح التقويم اليهودي لا يقل سخفاً وقدسية عن تقويمنا نحن .


وكان من أوائل علماء الهيئة اليهود في بلاد الإسلام العالم ما شاء الله (المتوفى حوالي عام 815). وقد ترجم جيرار القريموني Gerard of Cremona كتابه في الفلك من العربية إلى اللاتينية واستقبل أحسن استقبال في العالم المسيحي. ورسالته في الأثمان هي أقدم مؤلف علمي موجود الآن باللغة العربية. وكانت أعظم رسالة في العوم الرياضية في ذلك العصر(22) هي رسالة أبراهام بن حيا البرشلوني (1065-1136) في الجبر، والهندسة، وحساب المثلثات وهي المعروفة باسم هيورها مشيحه. وقد ألف أيضاً موسوعة مفقودة في علوم الرياضة، والهيئة، والبصريات، والموسيقى، كما ألف في التقويم أقدم رسالة باللغة العبرية باقية إلى الآن. ولم يجد أبراهام ابن عزرا، في الجيل التالي، تعارضاً بين كتابه الشعر، والتبحر في التحليل التركيبي. وكان أبراهام هذا وذاك أول من كتب من اليهود رسائل علمية باللغة العبرية لا العربية. وبفضل هذه الكتب، وفيض من الكتب الأخرى التي ترجمت من العربية إلى العبرية غزت العلوم والفلسفة الإسلامية المجتمعات اليهودية في أوربا ووسعت نطاق حياتها الذهنية إلى ما وراء المعارف الدينية الخالصة.

وأفاد يهود ذلك العهد إلى حد ما من علوم المسلمين الطبيعية، وإن كانوا قد عادوا أيضاً إلى تقاليدهم القديمة الخاصة بفن العلاج، فكتبوا عدة رسائل قيمة في الطب، وأصبحوا هم أعظم الأطباء إجلالاً في أوربا المسيحية. ولقد ذاعت شهرة اسحق إسرائيلي (855-955؟) في طب العيون بمصر ذيوعاً عين بسببه الطبيب الخاص للأغالبة في القيروان. وكانت مؤلفاته الطبية، بعد أن ترجمت من العربية غلى العبرية واللاتينية، تعد أهم المراجع الطبية في أوربا بأجمعها؛ وكانت تستعمل كتباً للدراسة في سالرنو، وباريس، ونقل عنها بيرتن Burton، بعد حياة دامت سبعمائة عام، فيما كتبه عن تشريح السوداء (1621). وتصف الروايات المتواترة اسحق بأنه لم يكن يأبه بالمال، وبأنه عازب عنيد في عزوبته، وبأنه عاش مائة عام كاملة. وأكبر الظن أنه كان من معاصريه آساف ها يهودي، وهو المؤلف الخامل الذكر لمخطوط كشف منذ وقت قريب، ويعد أقدم مؤلف طبي باللغة العبرية باق إلى الآن من الزمن القديم. ويشتهر هذا الكتاب بما جاء فيه من أن الدم يجري من الشرايين إلى الأوردة، ولو أنه طافت بعقله وظيفة القلب لاستبق بذلك هارفي Harvey(23) إلى كشف الدورة الدموية بأكملها.

وسيطر على فن الطب في مصر بعد قدوم ابن ميمون إليها (1165) الأطباء اليهود والمؤلفات اليهودية. فكتب أبو الفداء عن علماء القاهرة أهم رسالة في الرمد في القرن الثاني عشر، وألف الكوهين العطار (1275؟) كتاباً في الأقراباذين لا يزال يستعمل حتى الآن في العالم الإسلامي. وكان الأطباء اليهود في جنوبي إيطاليا وفي صقلية إحدى المسالك التي انتقل بها الطب العربي إلى سالرنو. ذلك أن شباتاي بن أبرهام (913-970) المعروف باسم ونولو والمولود في أترانتو وقع أسيراً في يد المسلمين، فدرس الطب العربي في بالرم، ثم عاد ليمارس مهنته في إيطاليا. ودرس بنفنوتس جراسس، أحد يهود أورشليم، في سالرنو، وأخذ يعلم فيها وفي منبلييه وكتب رسالة في طب العيون (1250؟) كان العالم الإسلامي والعالم المسيحي على السواء يريانها أهم رسالة في أمراض العين. وقد اختيرت هذه الرسالة بعد 224 عاماً من نشرها أول كتاب يطبع في موضوعها.

وكانت مدارس الأحبار اليهود وبخاصة في جنوبي فرنسا تدرس منهاجاً في الطب، وكان من بين الأغراض التي تبتغيها من هذه الدراسة أن تمكن رجال الدين من كسب المال من غير طريق الدين. وقد ساعد الأطباء اليهود الذين تدربوا في منبلييه على إقامة مدرسة منبلييه الطبية الشهيرة؛ ولما عين يهودي مديراً لتلك الكلية في عام 1300 جر ذلك على الشعب اليهودي حقد الأطباء في جامعة باريس، واضطرت جامعة منبلييه أن تغلق أبوابها في وجه اليهود (1301) ونفى الأطباء العبرانيون فيمن نفى من اليهود من فرنسا في عام 1306. غير أن الطب المسيحي كان في ذلك الوقت قد حدث به انقلاب عظيم بتأثير الأطباء اليهود والمسلمين وما ضربوه لغيرهم من مثل طيبة. ذلك أن الأطباء الساميين كانوا قد نبذوا من زمن بعيد النظرية التي تقول إن المرض ينشأ من حلول الشياطين بالجسم، وكان نجاح تشخيصهم للمرض تشخيصاً قائماً على العقل وعلاجهم إياه قد أضعف إيمان الناس بقوة مخلفات الأولياء والصالحين وغيرها من وسائل العلاج المبنية على خوارق الطبيعة.

وكان من أصعب الأشياء على الرهبان والقساوسة الذين تضم أديرتهم وكنائسهم تلك المخلفات والتي تجتذب إليها الحجاج أن يرضوا بهذا الانقلاب فحرمت الكنيسة استقبال الأطباء اليهود في داخل بيوت المسيحيين، فقد كانت ترتاب في أن طب هؤلاء الناس أقوى من عقيدتهم، وكانت تخشى تأثيرهم في العقول المريضة. وفي عام 1246 حرم مجلس بزيير على المسيحيين استخدام أطباء يهود، وفي عام 1267 حرم مجلس فينا على الأطباء اليهود أن يعالجوا مسيحيين، غير أن هذه الأوامر وأمثالها لم تمنع بعض كبار المسيحيين من الانتفاع بمهارة اليهود، مثال ذلك أن البابا بنيفاس Boniface الثامن حين مرض بعينيه استدعى لعلاجه اسحق بن مردخاي(24)، وكان ريمند للي Raymond Lullys يشكو من أن بكل دير طبيباً يهودياً، وهال مبعوث بابوي أن يجد أن هذه الحال أيضاً في كثير من أديرة النساء، وكذلك ظل ملوك أسبانيا المسيحيون يستمتعون بعناية الأطباء اليهود حتى أيام فرديناند وإزبلا، وكتب ششت بنفنيست Sheshet Benveniste البرشلوني طبيب جيمس الأول ملك أرغونة (1231-1276) أهم رسالة في أمراض النساء في زمانه، ولم يفقد اليهود زعامتهم الطيبة في البلاد المسيحية إلا بعد أن استخدمت الجامعات المسيحية في القرن الثالث عشر الأساليب الطيبة القائمة على العقل.


ولم يفد علم الجغرافية إلا قليلاً من الشعب اليهودي، وكان من حقه أن يفيد من لسعة انتشاره وكثرة تنقله. بيد أن اثنين من اليهود كانا أعظم الرحالة في القرن الثاني عشر. وهذان هما بناحيا الراتسبوني Petschya of Ratisbon وبنيمين التطيلي، وقد كتبا قصصاً عبرية قيمة عن رحلاتهما في أوربا والشرق الأدنى. فقد غادر بنيمين سرقسطة في عام 1160، وطاف على مهل ببرشلونة، ومرسيلية، وجنوا، وبيزا، وروما، وسالرنو، وبرنديزي، وأترنتو، وكورفو، والقسطنطينية، ولجزائر الإيجية، وإنطاكية، وكل مدينة هامة في فلسطين، وبعلبك، ودمشق، وبغداد، وبلاد الفرس. ثم عاد بطريق البحر مجتازا المحيط الهندي، والبحر الأحمر إلى مصر، وصقلية، وإيطاليا ومنها براً إلى أسبانيا. ووصل إلى موطنه في عام 1173 حيث مات بعد قليل. وكان أكثر ما يهتم به هو الجماعات اليهودية ولكنه وصف المظاهر الجغرافية لكل بلد مر به والخصائص الجنسية لسكانه وصفاً يمتاز بكثير من الدقة والموضوعية. وقصته أقل طرافة ومتعة من قصص ماركوبولو التي كتبها بعد مائة عام من ذلك الوقت، ولكنها في أغلب الظن أقرب منها إلى الحقيقة. وقد ترجمت هذه الرحلة إلى جميع اللغات الأوربية تقريباً، ولا تزال إلى يومنا هذا من الكتب المحببة إلى اليهود(25).


الفصل الرابع: نشأة الفلسفة اليهودية

حياة العقل مزيج من قوتين أولاهما ضرورة الإيمان ليستطيع الإنسان الحياة. والأخرى ضرورة الاستدلال ليستطيع التقدم. وتكون إرادة الإيمان هي المسيطرة على العقل في عهود الفقر والفوضى لأن الشجاعة في تلك العصور هي كل ما يحتاجه الناس، أما في عهود الثراء فإن القوى الذهنية تبرز إلى الأمام لتفرض على الناس الرقي والتقدم، وعلى هذا فإن الحضارة في انتقالها من الفقر إلى الثراء تنزع إلى خلق النزاع بين العقل والإيمان، "والصراع بين العلم والدين". وفي هذا الصراع تعمل الفلسفة عادة على التوفيق بين الأضداد وإيجاد سلام وسط لأن وظيفتها هي أن ترى الحياة في كلتيها، ونتيجة ذلك أن يحتقرها العلم ويرتاب فيها الدين. وفي عصر الإيمان حين تجعل الصعاب الحياة شاقة لا تحتمل بغير أمل، تميل الفلسفة إلى الدين، وتستخدم العقل في الدفاع عن الإيمان، وتصبح ديناً متنكراً. وإذا نظرنا إلى الأديان الثلاثة التي اقتسمت فيما بينها حضارة البيض في العصور الوسطى رأينا ذلك القول أقل انطباقاً على المسلمين أكثر الناس ثراء، ورأيناه أكثر انطباقاً على المسيحيين وهم أقل من المسلمين ثراء، وأشد ما يكون انطباقاً على اليهود أقل أصحاب الأديان الثلاثة ثراء. وأكثر ما ابتعدت الفلسفة اليهودية عن الدين عند اليهود الأثرياء في بلاد الأندلس الإسلامية.

والفلسفة الإسلامية في العصور الوسطى مصدران هما الدين العبراني، والتفكير الإسلامي. وكانت كثرة المفكرين اليهود ترى أن الدين والفلسفة متشابهان في محتوياتهما ونتيجتهما، وأن كل ما يختلفان فيه هو الوسيلة والصورة: فالذي يعلمه الدين بوصفه عقيدة موحى بها من عند الله تعلمه الفلسفة على أنه حقيقة يثبتها العقل، وقد قام معظم المفكرين اليهود من سعديا إلى ابن ميمون بهذه المحاولة في بيئة إسلامية، وأخذوا معلوماتهم عن الفلسفة اليونانية من التراجم العربية، ومن شروح المسلمين؛ وكتبوا بالعربية لليهود والمسلمين على السواء. وكما أن الأشعري وجه سلاح العقل ضد المعتزلة، وأنقذ بذلك العقيدة السنية في الإسلام، كذلك فعل سعديا الذي غادر مصر إلى بابل في نفس العام (915) حين تحول الأشعري من الشك إلى اليقين، وأنقذ الدين العبراني بطول جدله ومهارته فيه، ولم يستخدم سعديا أساليب المتكلمين المسلمين فحسب، بل استخدم كذلك دقائق مناقشاتهم نفسها(26).

وكان لانتصار سعدياً من الأثر في الدين اليهودي ببلاد الشرق، ما كان لانتصار الغزالي في الإسلام ببلاد الشرق، فقد عمل هذا الانتصار، مضافاً إلى الاضطراب السياسي والاضمحلال الاقتصادي، على خنق روح الفلسفة العبرانية في الشرق. وكملت القصة في أفريقية وأسبانيا، في القيروان وجد اسحق إسرائيلي بين مشاغله في الطب والكتابة متسعاً من الوقت يؤلف فيه كتباً فلسفية ذات تأثير كبير. فقد وضع رسالة في التعاريف أفاد منها منطق المدرسين مصطلحات جمة، وعَرَّفت رسالته في العناصر التفكير العبراني بكتاب أرسطو في الطبيعة، وأحل كتابه في النفس والروح نظرية مأخوذة من الأفلاطونية الحديثة عن الفيض الإلهي التقدمي من الله إلى العالم المادي، أحل هذه النظرية محل قصة الخلق كما وردت في سفر التكوين؛ وكان هذا من مصادر القبة اليهودية. وكان أثر ابن جبيرول فيلسوفاً أكبر من أثره شاعراً. ولقد كان من الطرف التاريخية أن المدرسين كانوا ينقلون أقواله في هالة من الإجلال والتقدير ويسمونه أفسبرون ويحسبونه مسلماً أو مسيحياً، ولم يعرف الناس أن ابن جبيرول وأفسبرون رجل واحد إلا حين كشف ذلك سلومون منك Salomon Munk في عام 1846(27). وكاد ابن جبيرول نفسه أن يهيئ عقول الناس لهذا الخلط إذ حاول أن يكتب الفلسفة بعبارات بعيدة كل البعد عن الدين اليهودي. فقد أخذ كل مقتبساته في مجموعة أمثاله المسماة مختار اللآلي من مصادر غير يهودية إذا استثنينا عدداً قليلاً من هذه المقتبسات، وإن كانت القصص الشعبية اليهودية تحتوي على ثروة كبيرة من الحكم القوية التي تعد من جوامع الكلم. ومن هذه اللآلي لؤلؤة كنفوشية إلى أبعد حد: "كيف يستطيع الإنسان أن يتأثر من عدوه؟ بزيادة صفاته الطيبة"(28). وتكاد هذه الحكمة أن تكون خلاصة رسالته في إصلاح الصفات الخلقية التي ألفها ابن جبيرول كما يلوح وهو في سن الرابعة والعشرين حين تكون الفلسفة موضوعاً غير لائق بالإنسان. وقد اشتق الشاعر بأساليب في الاشتقاق اصطناعية جميع الفضائل والرذائل من الحواس الخمس، فأدى به هذا إلى نتائج غاية في السخف. ولكن الذي يمتاز به هذا الكتاب هو أنه حاول أن يضع في عصر الإيمان قانوناً للأخلاق لا يعتمد على العقيدة الدينية(29).

وبهذه الجرأة عينها امتنع جبيرول عن أن يقتبس في أهم كتبه كلها وهو كتاب "مقور حايم" من الكتاب المقدس، أو التلمود، أو القرآن. وكان هذا البعد عن القومية هو الذي جعل الكتاب بغيضاً لأحبار اليهود، كما جعله في ترجمته اللاتينية المسماة "منبع الحياة Fous Vitae" عظيم الأثر في العالم المسيحي. وقد قبل ابن جبيرول في هذا الكتاب أصول الأفلاطونية الحديثة التي تسري في الفلسفة الإسلامية كلها، ولكنه فرض على هذه الأصول الفلسفية مبدأ الاختيار الذي يؤكد عمل الإرادة عند الله والإنسان. ويقول ابن جبيرول في كتابه إن علينا أن نفترض وجود الله بوصفه الهيولي الأول، والجوهر الأول، والإرادة الأولى إذا شئنا أن نفهم وجود الحركة في أي شيء على الإطلاق، ولكننا لا نستطيع قط معرفة صفات الله. ولم يخلق الله الكون في زمان معين، بل هو ينساب في فيض متصل متدرج من ذات الله. وكل شيء في الكون، ماعدا الله وحده يتكون من مادة وصورة، وهما تظهران مجتمعتين على الدوام، ولا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى إلا في الفكر وحده(30). وقد رفض أحبار اليهود هذه الآراء الكونية الشبيهة بآراء ابن سينا، وقالوا إنها هي المادية المقنعة، ولكن الكسندر الهاليسي Alexandre of Hales، والقديس بونافنتور St. Bonaventure ودنز اسكوتس Duns Scotus قبلوا فكرة كونية المادة تحت سيطرة الله وأولية الإرادة, وقال وليم الأوفروني عن ابن جبيرول إنه "أنبل الفلاسفة أجمعين" وظنه مسيحياً صالحاً.

أما يهودا هليفي فقد رفض كل تفكير فلسفي وقال عنه إنه من عبث العقل، وكان يخشى كما يخشى الغزالي أن تقوض الفلسفة دعائم الدين؛ وليس هذا لأنها تشك في عقائده، أو لأنها فوق ذلك تتجاهله، أو أنها تفسر الكتاب المقدس تفسيراً مجازياً فحسب، بل لأنها فوق هذا وأكثر منه تستبدل الجدل بالخشوع والإيمان. وقد قاوم هذا الشاعر غزو أفلاطون وأرسطو للدين اليهودي، وتسرب الآراء الإسلامية إلى اليهود، وهجمات اليهود القرائين المتواصلة على التلمود، نقول قاوم الشاعر هذا كله بتأليف كتاب في الفلسفة يعد أمتع كتب العصور الوسطى الفلسفية بأجمعها، ونعني به كتاب الخزري (1140؟) الذي عرض فيه آرائه في صورة قصة شبيهة بالمسرحيات تدور حول اعتناق ملك الخزر للدين اليهودي. وكان من حسن حظ هليفي أن الكتاب قد استخدمت فيه الحروف العبرية وإن كان قد كتب باللغة العربية، وبذلك لم يقرؤه غير اليهود المتعلمين؛ ذلك أن القصة تجمع أمام الملك أسقفاً، ومُلاَّ، وكوهناً؛ ثم تتخلص من الإسلام والمسيحية بعد قليل. فحين يقتبس المسلم والمسيحي من كتاب اليهود المقدس ويقران أنه كلام الله يصرفهما الملك ويستبقي الكوهن اليهودي ويصبح معظم الكتاب حديثاً للكوهن يعلم فيه ملكاً مطواعاً مختتناً أصول الدين اليهودي وشعائره. ويقول التلميذ الملكي لمعلمه: "لم يجد جديد منذ نزل دينكم اللهم إلا تفاصيل عن الجنة والنار"(31). ويشجع هذا القول الكوهن فيقول إن اللغة العبرية لغة الله، وإن الله لم يتحدث بنفسه إلا لليهود، وإن أنبياء اليهود وحدهم هم الملهمون من عند الله ويسخر هليفي من الفلاسفة الذين ينادون بتفوق العقل ويخضعون الله والسموات لقياسهم المنطقي ومقولاتهم، مع أن العقل البشري لا يعدو أن يكون جزءاً من عالم المخلوقات المعقد وهو جزء هش متناه في الصغر.. والعاقل (وليس حتماً أن يكون متعلماً) هو الذي يقر بضعف العقل وعجزه عن إدراك الشئون غير الدنيوية، ويستمسك بالعقيدة التي جاءه بها الكتاب المقدس، ويؤمن ويصلي ببساطة الطفل(32). ولكن افتتان الناس بالعقل قد أبقى على الرغم من هليفي، وظلت آراء أرسطو تغزو الدين اليهودي. فلقد كان أبراهام بن داود (1110-1180) مستمسكاً بدينه استمساك هليفي، يدافع عن التلمود ضد اليهود القرائين ويقص بكبرياء وفخار تاريخ الملوك اليهود في الدولة الثانية، ولكنه كان يتطلع، كما تطلع العدد الذي يخطئه الحصر من المسيحيين، والمسلمين، واليهود في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، إلى استخدام الفلسفة لإثبات أصول دينه. وقد ولد كما ولد هليفي في طليطلة، وكان يكسب عيشه من مهنة الطب. وقد رد على هليفي في كتابه العربي كتاب العقيدة الرفيعة بمثل ما رد به أكويناس فبما بعد على أعداء الفلسفة المسيحيين، فقال إن الدفاع السلمي عن الدين ضد غير المؤمنين يتطلب المحاجة المنطقية، ولا يمكن أن نعتمد هذا الدفاع على الإيمان بهذا الدين، وقد فعل ابن داود ما فعله ابن رشد بعده بزمن قليل (1126-1198)، وما فعله ابن ميمون بعده بجيل من الزمان (1135-1204)؛ والقديس تومس أكويناس بعده بمائة عام (1224-1274)، فبذل كل ما في وسعه من جد للتوفيق بين دين آبائه وبين فلسفة أرسطو. ولو أن الفيلسوف اليوناني شهد ذلك لسره أن يتلقى هذه التحية الثلاثية، أو أن يعرف أن الفلسفة اليهودية لم تعرفه إلا من مخلصات الفارابي وابن سينا اللذين لم يعرفاه إلا عن طريق الترجمة المشوهة والأفلاطونية الحديثة المزورة. وكان ابن داود أكثر من القديس تومس إخلاصاً لمصدرهما الأرسطاطيلي المشترك فقال كما قال ابن رشد إن النفس الكلية وحدها، لا النفس الفردية، هي الخالدة(33). وهنا كان يحق لهليفي أن يشكو من أن أرسطو قد انتصر على التلمود، فلقد بدأت الفلسفة اليهودية، كما بدأت فلسفة العصور الوسطى بوجه عام، بالأفلاطونية الحديثة وبالتقوى، وها هي ذي تبلغ ذروتها بفلسفة أرسطو وبالشك. وسيبدأ ابن ميمون فلسفته من هذا الموقف الأرسطاطيلي الذي وقفه ابن داود، ويواجه في شجاعة ومهارة جميع مشكلات العقل في صراعه مع الدين.


الفصل الخامس: ابن ميمون 1135-1204

ولد أعظم عظماء اليهود في العصور الوسطى بمدينة قرطبة لأب من أكابر العلماء الممتازين هو الطبيب والقاضي ميمون بن يوسف. وسمي الغلام موسى، وكان من الأقوال المأثورة بين اليهود قولهم: "لم يظهر رجل كموسى من أيام موسى إلى موسى". وقد عرف بين الناس باسم موسى بن ميمون أو باسم أقصر من هذا وهو ميموني. ولما أن أصبح من أحبار اليهود الذائعي الصيت جمعت الحروف الأولى من لقبه واسمه فصارت رميم، وعبر العالم المسيحي عن أبوته بتسميته ميمونيدس Maimonides. وتقول إحدى القصص التي يغلب على الظن أنها من الخرافات الذائعة إن الغلام أظهر عدم الميل للدرس، وإن أباه الذي خاب فيه رجاؤه سماه "ابن الجزار" وبعثه ليعيش مع معلمه السابق الحاخام يوسف ابن مجاشن(34). ومن هذه البداية الفقيرة برع موسى الثاني في آداب الدين وآداب الكتاب المقدس، والطب، والعلوم الرياضية والهيئة، والفلسفة. وكان ثاني اثنين هما أعلم أهل زمانه، ولم يكن يضارعه في علمه إلا ابن رشد. ومن أغرب الأشياء أن هذين المفكرين البارزين اللذين ولدا في مدينة واحدة ولم يكن بين مولدها إلا تسع سنين لم يجتمع أحدهما بالآخر كما يلوح. ويبدو أن بن ميمون لم يقرأ لابن رشد إلا حين بلغ هو سن الشيخوخة وبعد أن ألف كتبه(35). واستولى البربر على قرطبة في عام 1148 وهدموا الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية، وخيروا المسيحيين واليهود بين الإسلام والنفي، فغادر ابن ميمون أسبانيا في عام 1159 هو وزوجته وأبناؤه، وأقاموا في فاس تسع سنين مدعين أنهم مسلمون(36)، لأن المسيحيين واليهود لم يكن يسمح لهم بالإقامة هناك أيضاً.

وبرر ابن ميمون تظاهره بالإسلام بين اليهود المهددين بالخطر في مراكش بقوله إنهم لم يكن يطلب إليهم أن يؤدوا شعائر هذا الدين أداءً عملياً بل كل ما كان يطلب إليهم أن يتلوا صيغة لا يؤمنون بها، وإن المسلمين أنفسهم يعرفون أنهم غير مخلصين في النطق بها وإنما يفعلون ذلك ليخادعوا جماعة من المتعصبين(37). لكن كبير أحبار اليهود في فاس لم يوافقه على هذا القول، وكان جزاؤه أن قتل في 1165. وخشي ابن ميمون أن يلقى هذا المصير نفسه فسافر إلى فلسطين، ثم انتقل منها إلى الإسكندرية (1165) ومصر القديمة حيث عاش حتى وافته منيته. وسرعان ما عرف المصريون أنه من أعظم أطباء زمانه، فاختير طبيباً خاصاً لنور الدين على أكبر أبناء صلاح الدين، وللقاضي الفاضل البيساني وزير صلاح الدين. واستخدم ابن ميمون نفوذه في بلاط السلطان لحماية يهود مصر، ولما فتح صلاح الدين فلسطين أقنعه ابن ميمون بأن يسمح لليهود بالإقامة فيها من جديد(38). وفي عام 1177 عين ابن ميمون نجيداً أو زعيماً لليهود في القاهرة، ثم أفهمه أحد الفقهاء المسلمين (1187) بأنه مرتد عن الإسلام وطالب بأن توقع عليه عقوبة القتل التي هي جزاء المرتدين. ولكن الوزير أنقذ ابن ميمون إذ قال إن الرجل لذي أرغم على اعتناق الإسلام لا يمكن أن يعد مسلماً بحق(39). وفي سني العمل المتواصل التي أقامها بالقاهرة ألف معظم كتبه. ومن هذه المؤلفات عشرة كتب في الطب باللغة العربية نقل فيها آراء أبقراط، وجالينوس، وديسقوريدس، والرازي وابن سينا. وقد اختصر في كتاب الأمثال الطبية كتاب جالينوس إلى ألف وخمسمائة عبارة قصيرة تشمل كل فرع من فروع الطب، وترجم هذا الكتاب إلى اللغتين العبرية واللاتينية، وكثيراً ما كان ينقل عنه في أوربا ويصدر ما ينقل بتلك العبارة: "قال الحبر موسى". ووضع مقالة في تدبير الصحة للملك الأفضل على بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب؛ ومقالة أخرى في الجماع لسلطان حماة الملك المظفر تقي الدين أبي سعيد عمر ابن نور الدين تحدث فيها عن الجماع من الوجهة الصحية، وعن عجز القوة الجماعية، وعن الانتصاب الدائم، وعن الأدوية المقوية للباه.

وقد أضاف ابن ميمون إلى هذه الرسائل عدة مقالات كل منها في موضوع واحد منها مقالة في السموم والتحرز من الأدوية القتّالة ، ومقالة في الربو ، وأخرى في البواسير، ورابعة في السوداء-ومقالة جامعة في شرح العقار. وتحتوي هذه الكتب الطبية، كما تحتوي سائر الكتب، على أقوال لا تتفق مع عقائد هذا لزمان السريعة التبدل-المعصومة من الخطأ-كقوله إنه إذا كانت الخصية اليمنى أكبر من اليسرى كان المولود الأول ذكراً(41)؛ ولكنها تمتاز برغبة صادقة في مساعدة المرضى، ببحثها الذي يمتاز بالتسامح والمجاملة في الآراء المتعارضة، وبما يسري فيها من طابع الحكمة والاعتدال في النصح ووصف الدواء. ولم يكن ابن ميمون يصف العقاقير إذا ما أغنى عنها تنظيم الغذاء(42). وقد حذر الناس من كثرة الطعام بقوله إن المعدة يجب ألا تنتفخ كأنها خراج(43). وكان يظن أن الخمر تفيد الصحة إذا شربت باعتدال(44)، ونصح بدرس الفلسفة لأنها تدرب على الاتزان العقلي والخلقي وعلى الهدوء وهما الصفتان اللتان تؤديان إلى صحة الجسم وطول العمر(45). وبدأ ابن ميمون في الثالثة والعشرين من عمره شرحاً للمشنا، وظل يكدح في هذا العمل عشر سنين بين مشاغله التجارية، والطبية، والأسفار الخطرة براً وبحراً. ولما نشر هذا الشرح في القاهرة عام 1158 باسم كتاب السراج رفع ابن ميمون من فوره-وكان لا يزال شاباً لم يتجاوز الثالثة والثلاثين من عمره-إلى منزلة بين شراح التلمود عليها إلا منزلة راشي، وذلك بفضل ما يمتاز به من الوضوح، وغزارة المادة، وصدق الأحكام. وبعد عشرين سنة من ذلك الوقت نشر أعظم كتبه كلها باللغة العبرية الجديدة وسماه متحدياً مستشيراً مشنا التوراة، وقد رتب فيه نظام منطقي، وإيجاز واضح، كل ما حوته أسفار موسى الخمسة من القوانين وجميع قوانين المشنا والجمارا ما عدا النزر اليسير. ويقول في مقدمة الكتاب: "لقد سميت هذا الكتاب مشنا التوراة (تكرار الشريعة) لأن من يقرأ الشريعة المسطورة (الأسفار الخمسة) لأول مرة، ثم يقرأ هذه المجموعة، يعرف الشريعة الشفوية جميعها من غير أن يحتاج في ذلك إلى الرجوع إلى أي كتاب آخر"(46)، وقد أغفل فيه بعض ما ورد في التلمود من قواعد خاصة بالفأل والطيرة، والتمائم، والتنجيم، فكان ذلك من بين مفكري العصور الوسطى القلائل الذين لم يؤمنوا بالتنجيم(47). وقد قسم الأوامر الواردة في الشريعة والبالغ عددها 613 أربعة عشر قسماً وضع لكل واحد منها عنواناً وخص كل عنوان "بكتاب". ولم يكتف بشرح كل قانون بل أخذ على نفسه بيان ضرورته المنطقية أو التاريخية. ولم يترجم إلى الإنجليزية من هذه الكتب الأربعة عشر إلا كتاب واحد، وهو مجلد ضخم نستطيع به أن نتبين ضخامة الكتاب الأصلي كله.

ويتضح من هذا الكتاب ومن كتابه الآخر الذي صدر بعده وهو: دلالة الحائرين، أن ابن ميمون لم يكن من الذين يجهرون بالإلحاد. بل إنه قد حاول جهده لكي يرجع المعجزات الواردة في الكتاب المقدس إلى علل طبيعية، ولكنه كان يدعو إلى الاعتقاد بأن كل لفظ في أسفار موسى الخمسة موحى به من الله، وإلى العقيدة الدينية القائلة بأن الشريعة الشفوية قد نقلها موسى إلى كبار رجال إسرائيل(48). ولعله كان يشعر بأن اليهود لا يستطيعون أن يكون اعتقادهم في الكتاب المقدس أقل شأناً من اعتقاد المسيحيين والمسلمين فيه، ولعله هو أيضاً كان يرى أن لا قيام للنظام الاجتماعي بغير الاعتقاد في قدسية أصل القانون الأخلاقي. وكان ابن ميمون وطنياً شديد الحب لوطنه لا يقبل في عقيدته جدلاً "يجب على جمع بني إسرائيل أن يتبعوا كل ما ورد في التلمود البابلي، وعلينا أن نرغم اليهود في جميع أنحاء الأرض على أن يستمسكوا بالعادات والأساليب التي قررها حكماء التلمود"(49). وكان أكثر حرية إلى حد ما من معظم المسلمين والمسيحيين في أيامه، فكان يعتقد أن غير اليهودي المتمسك بأهداب الفضيلة، المؤمن بوحدانية الله، يدخل الجنة، ولكنه لم يكن يقل قسوة على كفرة اليهود من سفر التثنية أو التركمادا، ويقول إن اليهود الذين ينبذون الشريعة اليهودية يجب أن يقتلوا، و "من رأيي أن جميع أفراد العشيرة اليهودية التي بلغت من القحة والجرأة ما جعلها تخالف أمراً من أوامر الله يجب أن يعدموا"(50). وقد استبق أكويناس في الدفاع عن القتل جزاء للإلحاد بحجة "أن القسوة على من يضلون الناس سعياً وراء الزهو والخيلاء إنما هي رحمة بالعالم"(51)، وارتضى دون عناء عقوبة الإعدام التي يفرضها الكتاب المقدس جزاء للسحر، والقتل، ومضاجعة المحارم، وعبادة الأوثان، والسرقة بالإكراه، وخطف الأشخاص، وعصيان الأبناء للآباء، وخرق حرمة السبت(52). ولعل أحوال اليهود حين هاجروا من مصر القديمة، وحاولوا أن يؤسسوا لهم دولة من جماعة معدمة لا وطن لها، تقول لعل أحوال هؤلاء اليهود كانت تبرر وضع هذه القوانين. ولقد كانت حالة اليهود المزعزعة المضطربة في أوربا المسيحية أو أفريقية المسلمة كانت تتطلب قانوناً صارماً يخلق فيهم النظام والوحدة، ولكن الآراء المسيحية، والعادات اليهودية أيضاً في أغلب الأحيان، كانت أرحم من القوانين اليهودية في هذه الأمور (قبل أيام محكمة التفتيش). وإن في نصيحة ابن ميمون التي يسديها إلى يهود زمانه لجانباً من هذه الروح أفضل من الجانب الصارم السالف الذكر: "إذا قال للكفرة لبني إسرائيل:

أسلمونا أحدكم لنقتله وجب عليهم أن يتحملوا جميعاً آلام القتل ولا يسلموا إليهم واحداً من أبناء إسرائيل"(53).

وأظرف من هذه الصورة صورة هذا العالِم وهو ينحدر إلى الشيخوخة، فقد أيد في هذه السن قول أحبار اليهود إن "اللقيط العالم (بالشريعة) يسبق الكوهن الأكبر الجاهل". وهو ينصح العالم بأن يخصص من وقته ثلاث ساعات في كل يوم لكسب العيش وتسعاً لدراسة التوراة. وكان يعتقد أن البيئة أقوى أثراً من الوراثة، ولذلك أشار على طالب العلم أن يسعى إلى صحبة الصالحين العقلاء من الناس. وينصح طالب العلم بألا يتزوج حتى يكتمل علمه، ويتخذ له حرفة، ويشتري له منزلاً(55)، وعندئذ يصح له أن يتزوج أربع نساء، ولكن لا يصح له أن يباشرهن إلا مرة واحدة في كل شهر.

"نعم إن مباشرة الإنسان لزوجته مسموح به على الدوام، ولكن من واجب العالم أن يصطنع القداسة في هذه العلاقة أيضاً، فعليه ألا يكون على الدوام مع زوجته كما يفعل الديك، بل يجب عليه أن يؤدي الواجب الزوجي في ليلة الجمعة... ويجب على الزوج والزوجة وقت المضاجعة ألا يكونا في حالة سكر، أو فتور، أو حزن، وألا تكون الزوجة نائمة في ذلك الوقت(56)".

وهكذا ينشأ آخر الأمر الحكيم الذي:

"يتصف بالتواضع الجم، ولا يكشف رأسه أو جسمه... ولا يرفع صوته فوق الحد الواجب إذا تكلم، حديثه مع الناس جميعاً ظروف... بتجنب المبالغة والتصنع في الحديث، يعدل في حكمه على الناس، يؤكد فضائل غيره، ولا يتحدث عن أحد بسوء(57)".

ولا يذهب إلى المطاعم إلا عند الضرورة القصوى: "فالرجل الحكيم لا يأكل في بيته ومن مائدته"(58). وهو يدرس التوراة في كل يوم حتى يموت، ويحذر ألا يخدعه أحد بأنه المسيح، ولكنه لن يفقد إيمانه بأن المسيح الحق سيأتي ويعيد إسرائيل إلى صهيون، ويقود العالم كله إلى الدين الحق، وإلى الوفرة، والأخوة، والسلام: "تفنى جميع الأمم أما اليهود فباقون غلى أبد الدهر"(59). وغضب أحبار اليهود من مشنا التوراة، فقلما كان في وسع أحد منهم أن يعفو عما يرمي إلى من إحلال كتابه محل التلمود مع ما في هذا من جرأة، وقد استاء كثيرون من اليهود مما عزى إلى ابن ميمون من القول بأن من يدرس الشريعة أعلى مقاماً ممن يعمل بها. ولكن الكتاب رغم هذا كله قد جعل صاحبه أعظم اليهود جميعاً في عصره، فارتضاه جميع يهود المشرق مستشاراً لهم وبعثوا إليه بمسائلهم ومشاكلهم، وخيل الناس في جيل من الزمان أو الجاؤنية قد عادت إلى الوجود. ولكن ابن ميمون لم ينتظر حتى يستمتع بهذا الصيت، بل شرع من فوره يؤلف كتابه التالي، فبعد أن قنن الشريعة ووضوحها لليهود المؤمنين، وجه جهوده للعمل على أن يعيد إلى حظيرة الدين اليهودي من أغرتهم الفلسفة أو أغوتهم جماعات الملاحدة من اليهود القرائين في مصر، وفلسطين، وشمال أفريقية، وأصدر إلى العالم اليهودي بعد عشر سنين من الكد أشهر كتبه كلها وهو: دلالة الحائرين (1190)، وقد كتبه باللغة العربية بحروف عبرية ثم ترجم إلى اللغة العبرية وسمى: مودة نبو حيم، ثم ترجم كذلك إلى اللاتينية وأثار عاصفة من أشد العواصف الذهنية في القرن الثالث عشر.

ويقول في مقدمة الكتاب إن غرضه الأول من وضعه أن يشرح بعض الألفاظ الواردة في الكتب المتنبئة، أي في العهد القديم. ذلك أن كثيراً من ألفاظ الكتاب المقدس وفقراته ذات معان متعددة، حرفية، ومجازية، ورمزية فمنها ما إذا أخذ بمعناه الحر في كان عقبة كؤوداً في سبيل المخلصين لدينهم، ولكنهم إلى هذا يحترمون العقل أعظم مواهب الإنسان. أولئك ينبغي ألا يخيروا بين الدين بلا عقل وبين العقل بلا دين. وإذا كان العقل قد غرسه الله في الإنسان، فإنه لا يمكن أن يتعارض مع الوحي الإلهي، فإذا ما حدث هذا التعرض فسبب هذا-في رأي ابن ميمون-أننا نأخذ بمعناها الحرفي بعض العبارات الموائمة للعقلية الخيالية التصويرية التي هي من خصائص السذج غير المتعلمين الذين وجه إليهم الكتاب المقدس. ولقد قال أحبارنا إن من المحال أن نصف خلق الإنسان وصفاً كاملاً... ولقد وردت قصة هذا الخلق بعبارات مجازية حتى يستطيع فهمها غير المتعلمين كل بقدر ما له من مواهب، وما عليه إدراكه من ضعف. أما المتعلمون فيفهمونه فهماً مختلفاً عن فهم هؤلاء(61). ثم ينتقل ابن ميمون من هذه النقطة الأولى إلى البحث في الذات الإلهية فيستنتج مما في الكون من شواهد التنظيم المحكم أن عقلاً سامياً يسيطر على هذا الكون، ولكنه يسخر من الرأي القائل إن الأشياء جميعها قد صنعت من أجل الإنسان(62)؛ فالأشياء لم توجد إلا لأن الله، وهو مصدرها وحياتها، موجود: "ولو أمكننا أن نفترض أنه غير موجود لا ستتبع هذا أن لا شيء غير ممكن الوجود". وإذ كان لا بد بهذه الطريقة من وجود الله، فإن وجوده متلازم مع جوهره. و "الشيء الذي يحتوي في ذاته على ضرورة وجوده، لا يمكن أن يكون لوجوده علة أياً كانت " . وإذ كان الله عاقلاً، فلا بد أن يكون غير ذي جسم؛ وعلى هذا فكل ما ورد في الكتاب المقدس من عبارات تشير إلى شيء من أعضاء الجسم أو أية صفة من صفاته يجب أن يفسر تفسيراً مجازياً. والحق، كما يقول ابن ميمون (ولعله يحذو في قوله هذا الحذو المعتزلة)، أننا لا نستطيع معرفة شيء عن الله إلا أنه موجود، بل إن الصفات غير الجسمية التي نصفه بها-كالعقل، والقدرة على كل شيء، والرحمة، والحب، والوحدة والإرادة-كلها من نوع الجناس فهي إذا وصف بها الله كان لها معنى غير معناها إذا ما وصف بها الإنسان. ولن نستطيع قط أن نعرف معناها بالضبط إذا وصف بها الله، وليس في وسعنا أن نعرفه، ولا ينبغي لنا أن نعزو إليه خواص أو صفات أو نثبت له شيئاً من أي نوع كان. فإذا قيل في الكتاب المقدس إن الله أو المَلَك "كلم" الأنبياء"، فليس لنا أن نتخيل لفظاً أو صوتاً، والنبوة هي تنمية المخيلة إلى أقصى درجات النماء"، وهي فيض "الذات الإلهية" عن طريق الحلم أو النشوة الإبصارية، فالذي يقصه الأنبياء لم يحدث في الواقع وإنما حدث في هذه الرؤيا أو الحلم، وعلينا أن نفسره في معظم الأحوال تفسيراً مجازياً(64) "ولقد قال بعض حكمائنا في وضوح إن أيوب لم يكن له قط وجود، وإنما خلقه الشعراء خلقاً... ليكشفوا بهذا عن أهم الحقائق"(65). وهذا الإلهام التنبؤي في مقدور أي إنسان إذا نمى مواهبه إلى أقصى حدود النماء، ذلك بأن العقل البشري إلهام مستمر، لا يختلف اختلافاً جوهرياً عن بصيرة الأنبياء الواضحة الساطعة.

وبعد فهل خلق الله العالم في زمان معين، أو أن الكون ذا المادة والحركة، كما يظنه أرسطو، أزلي؟ يقول ابن ميمون إن هذا ما يحتار فيه العقل؛ فليس في وسعنا أن نثبت أزلية العالم أو خلقه؛ وإذن فالمتمسك بعقيدة آبائنا القائلة بخلقه(66)، ثم ينتقل من هذا إلى تفسير قصة الخلق الواردة في سفر التكوين تفسيراً مجازياً رمزياً: فآدم عنده هو الصورة الفعّالة أو الروح، وحواء هي المادة المنفعلة وهي مصدر كل شر، والأفعى هي الخيال(67). ولكن الشر ليس له وجود ذاتي موجب، وإنما هو انتفاء الخير؛ وترجع معظم مصائبنا إلى ما ترتكبه من أخطاء؛ ومن الشرور ما ليس شراً إلا من وجهة نظر الإنسان أو وجهة النظر الضيقة؛ وقد تكشف النظرة الكونية في كل شر ما هو خير للكل أو ما هو في حاجة إليه(68). وقد أباح الله للإنسان الإرادة الحرة التي تجعل منه إنساناً بحق؛ وقد يختار الإنسان الشر أحياناً؛ والله تعلم مقدماً بهذا الاختيار، ولكن ليس هو الذي يقرره ويحتمه.

وهل الإنسان مخلد؟ هنا يستخدم ابن ميمون كل ما وهب من قدرة للتعمية على قرّائه، فهو يتجنب هذا السؤال في كتاب دلالة الحائرين، ولا يشير إليه إلا بقوله "إن النفس التي تبقى بعد الموت ليست هي النفس التي تعيش في الإنسان حين يولد"(69). وهذه النفس أو العقل "المنفعل" وظيفة من وظائف الجسم تموت بموته؛ أما الذي يبقى فهو "العقل المكتسب" أو "العقل الفعّال" الذي وجد قبل الجسم، وليس وظيفة من وظائف على الإطلاق(70). وهذه النظرة نظرة أرسطو وابن رشد تنكر كما يبدو الخلود الفردي. ولقد أنكر ابن ميمون في مشنا التوراة فكرة بعث الجسم وسخر من تصوير المسلمين للجنة تصويراً جسمانياً أبيقورياً، وقال إن تصويرها على هذا النحو في الإسلام واليهودية ليس إلا تمثيلاً لها بما يناسب خيال جمهرة الناس وحاجاتهم(71). وأضاف في دلالة الحائرين إلى قوله هذا أن: الموجودات غير الجسمية لا يمكن إحصاؤها إلا حين تكون قوى كائنة في الجسم ؛ وينطوي قوله هذا، كما يبدو، على أن الروح غير المادية التي تبقى بعد فناء الجسم ليست بذات إدراك فردي. وقد أثارت هذه الإشارات المتشككة كثيراً من الاحتجاجات لأن بعث الأجسام كان قد أصبح من العقائد الأساسية في الإسلام واليهودية. ولما كتب دلالة الحائرين بالحروف العربية أثار عقول العلماء في العالم الإسلامي؛ فقام عبد اللطيف، وهو عالم من علماء المسلمين، يسفهه لأنه "يهدم أركان جميع الأديان بنفس الوسائل التي يخيل إلى الناس أنه يدعمها بها"(73). وكان صلاح الدين وقتئذ منهمكاً في حرب حياة أو موت من الصليبيين؛ وكان السلطان من المستمسكين طول حياته بأصول الدين، وكان في هذا الوقت، بنوع خاص، أكثر بغضاً للإلحاد منه في أي وقت آخر لأن الإلحاد في ذلك الوقت يهدد الروح المعنوية الإسلامية، والمسلمون منهمكون في حرب مقدسة، بأشد الأخطار. ولهذا أمر في عام 1191 بإعدام السهرودي، وهو صوفي زنديق؛ ونشر ابن ميمون في الشهر نفسه مقالة في بعث الموتى عبّر فيها مرة أخرى عن تشكه في عقيدة الخلود الجسمي ولكنه أعلن أنه يؤمن بها على أنها من قواعد الدين فحسب.

وسكنت هذه الزوبعة إلى حين، وانصرف هو إلى عمله الطبي وإلى كتابة فتاوي دينية أو أخلاقية وصلت إليه من العالم اليهودي. ولما عرض عليه شمويل ابن يهوذا بن تبون، وكان وقتئذ يترجم دلالة الحائرين إلى اللغة العبرية، أنه يرغب في زيارته حذره من أن يظن أنه سيحدثه في أي موضوع علمي ولو مدة ساعة واحدة باللي أو بالنهار لأن عمله اليومي يجري على النحو الآتي: "فأنا أقيم في القسطاط بينما يقيم السلطان في القاهرة على بعد مسيرة يومي سبت (ميل واحد ونصف ميل). وواجباتي نحو نائب السلطان جد ثقيلة؛ فعليَّ أن أزوره في كل يوم في الصباح الباكر، وإذا ما كان هو، أو أحد أبنائه، أو أي فرد في داخل حريمه، منحرف المزاج، فلن أجرؤ على مغادرة القاهرة بل عليَّ أن أقيم معظم النهار في القصر... ولا أعود إلى الفسطاط إلى ما بعد الظهر... وأكون وقتئذ قد أوشكت أن أموت من الجوع. ولكني أجد غرفة الاستقبال مزدحمة بالناس، من رجال الدين، وموظفي الدولة، والأصدقاء، والأعداء... فأنزل عن دابتي، وأغسل يدي، وأرجو مرضاي أن يصبروا عليَّ حتى أتناول بعض المرطبات-وتلك هي الوجبة الوحيدة التي أتناولها كل أربع وعشرين ساعة. ثم أستقبل مرضاي... وأظل كذلك إلى أن يحل الليل، وقد أستمر على ذلك في بعض الأحيان حتى تمضي من الليل ساعتان أو أكثر من ساعتين، فأصف لهم الدواء وأنا مستلق على ظهري من فرط التعب، حتى إذا جن الليل تكون قواي قد خارت حتى لا أستطيع الكلام. ولهذا لن يستطيع إسرائيل أن يجتمع بي على انفراد إلا في يوم السبت. ففي ذلك اليوم يقبل عليَّ جميع المصلين، أو الكثرة الغالبة منهم على أقل تقدير، بعد صلاة الصبح، ليتلقوا عليَّ بعض العلم... ونظل ندرس معاً حتى الظهر ثم نفترق(74). وقد أنهك هذا الجهد قواه قبل الأوان. وقد طلب إليه رتشرد الأول ملك إنجلترا أن يكون طبيبه الخاص، ولكن ابن ميمون لم يستطع تلبية طلبه.

وأدرك وزير صلاح الدين ما حل به من الضعف فسمح له أن يعتزل منصب ورتب له معاشاً، ثم توفي عام 1204 في التاسعة والستين من عمره، ونقلت رفاقه إلى فلسطين ولا يزال قبره قائماً في طبرية.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السادس: الحرب الميمونية

لقد أحس العالم الإسلامي والعالم المسيحي بتأثير ابن ميمون كما أحس به العالم اليهودي، فقد أخذ الفلاسفة المسلمون يدرسون دلالة الحائرين بإشراف معلمين من اليهود؛ وكانت تراجم لاتينية للكتاب تدرس في جامعتي منبلييه وبدوا، وكثيراً ما كان ألكسندر الهاليسي ووليم الإوفرني يقتبسان منه في جامعة باريس. واقتفى ألبرنس ماجنس أثر ابن ميمون في كثير من المسائل، وكثيراً ما كان القديس تومس ينظر في آراء الحبر موسى ليفندها إن لم يكن لغرض آخر. وكان اسبنوزا ينتقد التفسير المجازي للكتاب المقدس الذي يقول به ابن ميمون ويصفه بأنه محاولة غير شريفة للمحافظة على منزلة الكتاب المقدس، ولعله وهو يفعل هذا كان ينقصه الإدراك السليم للتاريخ؛ ولكنه مع ذلك كان يصف الحبر العظيم بأنه "أول من جهر بأن الكتاب المقدس يجب أن يواءم بينه وبين العقل"(75)، وقد أخذ عن ابن ميمون بعض آرائه عن النبوءات والمعجزات وصفات الله(76). أما في الدين اليهودي نفسه فقد كان تأثير ابن ميمون تأثيراً انقلابياً؛ وقد واصل أبناؤه وحفدته عمله فكانوا مثله علماء ويهوداً: فقد خلفه ابنه أبراهام ابن موسى في منصب النجيد وطبيب البلاط عام 1205؛ وخلفه أيضاً حفيدة داود بن أبراهام، وابن حفيده سليمان بن أبراهام في زعامة يهود مصر. واحتفظ هؤلاء الثلاثة كلهم بتقاليد ابن ميمون في الفلسفة، وأتى على الناس حين من

الدهر أصبح فيه تطبيق آراء أرسطو على الكتاب المقدس واستخدام المجاز والاستعارة في تفسيره استخداماً يبلغ حد الشعوذة، ورفض ما جاء فيه من القصص والقول بأنها غير صحيحة من الوجهة التاريخية، نقول أصبح هذا كله من الطراز الحديث. فقيل مثلاً إن قصة إبراهيم وسارت ليست إلا خرافة تمثل المادة والصورة، وإن قواعد الطقوس اليهودية ليس لها إلا عرض رمزي وحقيقة رمزية(77). وبدا أن صرح الدين اليهودي كله يوشك أن ينهار على رأس أحبار اليهود. وقاوم بعضهم هذه النزعة مقاومة عنيفة: قاومها شمويل الفلسطيني، وأبراهام بن داود البسكوييري of Posqi(res، ومإير بن نادرس هليفي أبو العافية الطليطلي، ودون أستروك اللونلي Don Asteuc of Lunell، وسليمان بن أبراهام من يهود منبلييه، وجناح بن أبراهام جيروندي الأسباني، وكثيرون غيرهم. واحتج هؤلاء وأمثالهم على ما سموه "بيع الكتاب المقدس للإغريق"، وشنوا الغارة على المحاولة التي تهدف إلى إحلال الفلسفة محل التلمود، ونددوا بتشكك ابن ميمون في عقيدة الخلود، ورفضوا فكرته عن الإله غير المعروف وقالوا إنها تجديد مجازي لا يحرك أية نفس نحو التقي ولصلاح. وانضم أتباع القبلة الصوفية إلى المهاجمين ودنسوا قبر ابن ميمون(78).

وفرقت الحروب الميمونية شمل الجماعات اليهودية في جنوبي فرنسا في الوقت الذي أخذت فيه المسيحية الصادقة تشن حرباً شعواء لا هوادة فيها على الزندقة الألبجنسية. وكما أن المسيحية الصادقة قد أخذت تدافع عن نفسها ضد العقلية، بتحريم كتب أرسطو وابن رشد في الجامعات، كذلك خطا الكوهن سليمان ابن أبراهام من يهود منبلييه خطوة لم تكن مألوفة من قبل فصب لعنته على كتب ابن ميمون الفلسفية وحرَّم من الدين كل اليهود الذين يدرسون العلوم والآداب النجسة، أو يفسرون الكتاب المقدس تفسيراً مجازياً-ولعله قد استبق بعمله هذا هجوم المسيحيين على الجماعات اليهودية بحجة أنها تحمي جماعة العقليين. ورد على هذا أنصار ابن ميمون بزعامة داود قمحي، ويعقوب بن مخير تبون بأن أقنعوا يهود لونل، وبزيير ونربونة في بروفانس، ويهود سرقسطة في أسبانيا بأن يحرموا سليمان وأتباعه من الدين. فلما فعلوا هذا خطا سليمان خطوة أجرأ من الأولى وأكثر منها إثارة للدهشة: ذلك أنه وشى إلى محكمة التفتيش في منبلييه بكتب ابن ميمون وقال إن فيها آراء خارجة على الدين شديدة الخطر على المسيحية وعلى اليهودية معاً. ووافقه الرهبان على رأيه وأحرقت جميع الكتب الفلسفية التي أمكن الحصول عليها في احتفال عام في منبلييه عام 1234 وفي باريس عام 1242 ثم أحرق التلمود نفسه في باريس بعد أربعين يوماً.

وأثارت هذه الحوادث حنق أنصار ابن ميمون ودفعتهم إلى أشد أعمال العنف، فقبضوا على كبار المشايعين لسليمان في منبلييه، واتهموهم بالوشاية بأبناء دينهم اليهود، وحكموا عليهم بقطع ألسنتهم؛ ويلوح أن سليمان نفسه قد قتل(79). وندم الكوهن جناح على اشتراكه في إحراق كتب ابن ميمون فقدم إلى منبلييه، وكفر عن عمله هذا علناً في كنيسها، وحج تائباً إلى قبر موسى بن ميمون. ولكن الدون أستروك واصل الحرب باقتراحه أن يصدر الأحبار قراراً يحرم دراسة أي علم من العلوم النجسة. وأيده في هذا ابن نحمان وآشر بن يحيل، حتى إذا كان عام 1305 أصدر سليمان بن أبراهام بن أردوط، الزعيم القوي المبجل ليهود برشلونة، قراراً بحرمان كل يهودي يعلم أي علم من العلوم غير الدينية ما عدا الطب، أو أية فلسفة غير يهودية، أو يجرؤ على دراسة شيء منها قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره. وكان رد أحرار منبلييه أن حرموا كل يهودي يمنع ابنه من دراسة العلوم الطبيعية(80). ولم يكن لكلا القرارين أثر في دائرة واسعة، فقد ظل شبان اليهود في أماكن متفرقة يدرسون الفلسفة، غير أن ما كان لأردوط وأشر في أسبانيا من نفوذ: وازدياد الاضطهاد والخوف في جميع أنحاء أوربا الخاضعة وقتئذ لمحاكم التفتيش، دفعا الجاليات اليهودية إلى ما كانت عليه من عزلة عقلية وعنصرية. وضعفت عندهم دراسة العلوم، وأضحت العلوم الدينية الخالصة هي المسيطرة على المدارس العبرية، وتوارت الروح اليهودية بعد أن انفصلت عن العقل وانتابها الفزع الديني والعداء الشامل، توارت هذه الروح في الصوفية والتقوى الدينية.


الفصل السابع: القَبلة

تكتنف بحار الصوفية جزائر العلم والفلسفة أينما كانت، ذلك أن العلم يضيق الآمال، ولا يستطيع أن يتحمل عبأه راضين إلا من أسعدهم الحظ. وقد بسط يهود العصور الوسطى على الحقيقة، كما بسط عليها المسلمون والمسيحيون، ستاراً من آلاف الخرافات، وصوروا التاريخ تصويراً مسرحياً بما أدخلوه فيه من المعجزات ومن البشائر والنذر، وملأوا الهواء بالملائكة والشياطين، ومارسوا فنون السحر وتلاوة الرقي والتمائم، وأخافوا أنفسهم وأبنائهم بالحديث عن الساحرات والأغوال، وأضاءوا ظلمة النوم وغموضه بما وضعوه من تفسير للأحلام، وتبينوا في الكتابات القديمة أسراراً خفية باطنية. والتصوف اليهودي قديم قدم اليهود أنفسهم، تأثر بالأثينية الزرادشتية القائلة بالظلمة والنور، وبالأفلاطونية الحديثة وباستبدالها الفيض الإلهي بعملية الخلق، وما تقول به الفيثاغورية الحديثة من أن للأعداد قوى خفية وأسراراً، وبالثيوصوفية الغنوسطية (مذهب الاتصال بالله أو الفناء بالذات والبقاء بالله) السائدة في سوريا ومصر؛ والكتب المسيحية الأولى الدينية المشكوك في صحتها (الأبوكريفا)، وبالشعراء والمتصوفة في الهند ومصر، وبكنيسة العصور الوسطى المسيحية. لكن مصادرها الأساسية كانت كامنة في عقلية اليهود أنفسهم وتقاليدهم. ولقد انتشرت بين اليهود قبل مولد المسيح نفسه، شروح سرية لقصة الخلق الواردة في سِفر التكوين وفي الإصحاحين الأول والعاشر من سِفر حزقيال؛ وقد حرمت المشنا شرح هذه الخفايا إلا لعالم منفرد موثوق به. وكان الخيال حراً طليقاً يتصور ما كان قبل خلق آدم، وما سوف يكون بعد فناء العالم. وكانت نظرية فيلون القائلة بأن الحكمة الإلهية هي أداة الله الخالقة للكون مثلاً سامياً لهذه الأفكار الفلسفية. وكان للإسينيين كتابات سرية، يحرصون على كتمانها عن سواهم، وكانت الكتب العبرانية غير المعترف بصحتها ككتاب الأعياد تنشر بين الناس أقوالاً خفية عن خلق العالم. وجعلت أسماء يهوه التي لا يصح النطق بها ذات قوى خفية، وكانت حروفه الأربعة-التترجرام-تهمس في الآذان على أن لها معنى خفياً، وتأثيراً معجزاً، لا تنقل إلا العقلاء ذوي الأفهام الناضجة. وكان عقيبا يقول إن أداة الله في خلق العالم هي التوراة أو أسفار موسى الخمسة، وإن لكل كلمة ولكل حرف من هذه الأسفار المقدسة معنى خفياً وقوة خفية. وكان بعض الجأونيم البابليين يعزون إلى الحروف العبرية وإلى أسماء الملائكة أمثال هذه القوى الخفية، فمن عرف هذه الأسماء استطاع أن يسيطر على جميع قوى الطبيعة. وكان العلماء يعبثون بضروب السحر الأسود والأبيض-أي القوى العجيبة التي يحصل عليها بعض الناس عن طريق اتصال الروح بالملائكة أو الشياطين. وكان لاستحضار الأرواح ومعرفة الحظ بفتح الكتاب المقدس والتعاويذ، والتمائم، والرقي، ومعرفة الغيب، والقرعة، كان لهذه كلها شأنها في الحياة المسيحية. وقد شملت كتب اليهود جميع عجائب التنجيم؛ فكانت النجوم في هذه الكتب حروفاً هجائية وكتابات في السماء خفية لا يستطيع قراءتها إلا المطلعون على أسرارها(81). وظهر فيوقت ما في القرن الأول بعد الميلاد كتاب من هذه الكتب ذات الأسرار الخفية في بابل يعرف باسم سِفر يصيرا أي كتاب الخلق. وكان الأتقياء المتصوفة من اليهود ومنهم يهودا هليفي يقولون إن واضعه هو إبراهيم أو الله نفسه. ومما جاء فيه أن عملية الخلق قد تمت بوساطة عشرة سفروتات Sefiroth-أعداد أو أصول هي: روح الله، وفيوض ثلاث منها: الهواء، والماء، والنار، وثلاثة أبعاد مكانية إلى اليسار، وثلاثة أبعاد إلى اليمين. وهذه الأصول هي التي حدت محتويات العالم، كما حددت الحروف الهجائية العبرية الثلاثة والعشرون الصور والأشكال التي يستطيع بها العقل البشري فهم عملية الخلق. وتوالت على الكتاب شروح العلماء من أيام سعديا إلى القرن التاسع عشر.

ونقل أحد أحبار اليهود البابليين حوالي عام 840 هذه العقائد الخفية إلى إيطاليا، ثم انتقلت منها إلى ألمانيا، وبروفانس، وأسبانيا. وأكبر الظن أن ابن جبيرول قد تأثر بها في نظريته القائلة بوجود كائنات وسطى بين الله والعالم. واتخذ أبراهام بن داود "التقاليد السرية" وسيلة لإبعاد اليهود عن نزعة ابن ميمون العقلية. وأكبر الظن أن ابنه اسحق الضرير وتلميذه عزرائيل هما مؤلفا سِفر هباهير أو كتاب الضوء (1190؟)، وهو شروح صوفية للإصحاح الأول من سِفر التكوين. وقد استبدلا في هذا الكتاب فكرة خلق العالم عن طريق الفيض الرباني الواردة في سِفر بصيرا لمفكرة الضوء، والحكمة، والعقل. وعرض هذا التثليث للعقل الإلهي بوصفه ثالوثاً يهودياً(82). وعرض ألعزر من يهود ورمز (1176-1238)، وأبرام بن شمويل أبو العافية (1240-1291) هذه العقيدة السرية على أنها دراسة أعمق وأكثر نفعاً من التلمود. وقد استخدما وصف الصلة بين الله والنفس البشرية لغة الحب الشهواني والزواج التي كان يستخدمها المتصوفة المسلمون والألمان. وقبل أن يستهل القرن الثالث عشر كانت كلمة قبلة قد عم استعمالها لوصف العقيدة السرية في جميع مظاهرها ونتائجها وفي عام 1295 نشر موسى بن شم طوب من علماء ليون الكتاب الثالث من الكتب القبلية الهامة المسمى سِفر زوهر أو كتاب المجد وعزا تأليفه إلى شمعون بن يوحاي أحد علماء القرن الثاني، فقال إن الملائكة قد ألهمت شمعون والسفروت العشرة أن يكشفوا لقرائه المستترين الأسرار التي كانت من قبل محتفظاً بها إلى أيام المسيح المنتظر.

وقد جمعت في الزوهر كل عناصر القبلة: فكرة الإله الشامل لكل شيء الذي لا يعرف إلا عن طريق الحب، والحروف الأربعة المكونة لاسم يهوه-التتراجوامتون-، والأوساط الخالقة، والفيوض الربانية، والاستعارات الأفلاطونية الخاصة بالعالم الكبير والعالم الصغير، وتاريخ ظهور المسيح وكيفية ظهوره، وأزلية الروح وتنقلها، والمعاني الصوفية للطقوس الدينية والأعداد، والحروف، والنقط، والشرط، واستعمال الكتابات الجفرية، والحروف الأولى من العبارات التي إذا جمعت كونت اسماً خاصاً، وقراءة الكلمات عكساً لا طرداً، والتفسير الرمزي لنصوص الكتاب المقدس، والقول بأن حَمل المرأة وإن كان في تجسيد لسر عملية الخلق. وقد شوه موسى الليوني عمله حين جعل شمعون بن يوحاي يشير إلى خوف حدث في روما عام 1264 ويقول بعد آراء لم تكن، كما يلوح، معروفة قبل القرن الثالث عشر، وقد خدع بذلك كثيرين من الناس، ولكنه لم يخدع زوجته، وقد اعترفت أن زوجها موسى كان يرى في شمعون خدعة مالية بارعة(83). وأدى نجاح هذا الكتاب إلى ظهور عدة كتب أخرى مضللة، وجازى بعض القبليين المتأخرين موسى بمثل أعماله فنشروا آرائهم هم معزوة إليه.

وكان للقبلة أثر شامل واسع المدى، وظل الزوهر وقتاً ما كتاباً يدرسه اليهود كدراستهم للتلمود، بل إن بعض القبليين قد هاجموا التلمود ووصفوه بأنه كتاب بال قديم، مفرط في التقطيع المنطقي؛ وتأثر بعض علماء التلمود، ومنهم ابن نحمان العالم التحرير تأثراً شديداً بالمدرسة القبلية. وانتشر الاعتقاد بصدق القبلة، وبأنها وحي من عند الله انتشاراً واسعاً بين يهود أوربا(84). وبقدر هذا الانتشار كان أثرها السيئ في مؤلفاتهم العلمية والفلسفية، وانقضى عصر ابن ميمون الذهبي في سخف الزوهر الوضاء. وتعدى أثر القبلة اليهود إلى المسيحيين فافتتن بها بعض مفكريهم؛ فأخذ عنها ريمند للي Raymond Lully (1235؟-1315) أسرار الأعداد والحروف من كتابه Ars Magna وحسب بيكو دلا ميرندولا Pico della Mirandola (1463-1494) أنه قد وجد في القبلة أدلة قاطعة على ألوهية المسيح(85)، واغتذى براسلسس Pracelsus، وكورنليوس Cornelius، وأجربا Agrippa، وربرت فلد Robert Fludd وهنري مور Henry More وغيرهم من المتصوفة المسيحيين ببحوثها، وأقر يوهانس روشلين Johonnes Rcuchlin (1455-1523) بأنه قد سرق من القبلة بحوثه الدينية، ولعل بعض الآراء القبلية قد سرت إلى يعقوب بوهم Jakob B(hme (1575-1624). وإذا كانت نسبة اليهود الذين وجدوا السلوى في الإلهامات الصوفية إلى مجموعهم أكبر من هذه النسبة عند المسلمين أو المسيحيين، فما ذلك إلا لأن الدنيا قد كشرت عن نابها لليهود، وأرغمتهم في سبيل الحياة إلى أن يخفوا الحقائق وراء ستار من نسيج الخيال والرغبة، والبائسون السيئو الحظ هم وحدهم الذين لا بد لهم أن يعتقدوا أن الله قد اصطفاهم لنفسه.


الفصل الثامن: العَتق

لقد وجد يهود العصور الوسطى في عزلة جماعاتهم، وفيما تسبغه عليهم شعائرهم وعقائدهم من سلوى، ملجأ لهم من تمجيد الصوفية، وزوال خداع عقيدة المسيح المنقذ المنتظر، ومما كان ينتابهم من الاضطهاد حيناً بعد حين، ومن ملل الحياة الاقتصادية الرتيبة. فكانوا يحتفلون بمظاهر التقي بالأعياد التي تذكرهم بتاريخهم، وخطوبهم، ومجدهم التليد، وعدلوا في صبر وأناة احتفالاتهم التي كانت من قبل تقسم السنة الزراعية لتوائم حياتهم الحضرية. فكان القراءون المنقرضون يحتفلون بالسبت في البرد والظلمة حتى لا يخالفوا الشريعة بإيقاد النار أو إضاءة السراج، ولكن معظم اليهود كانوا يستقدمون أصدقاء لهم من المسيحيين أو زائرين ليبقوا لهم النار متقدة والمصابيح مضيئة، وكان أحبارهم يغضون النظر عن هذه المخالفة؛ وكانوا يغتنمون كل فرصة لإقامة المآدب يظهرون فيها سخائهم وأبهتهم: فكانت الأسرة تقيم وليمة يوم ختان ابن لها أو بلوغه سن الرشد، وفي خطبة ابن أو بنت وزواجهما، أو زيارة عالم أو صديق مشهور أو حلول عيد ديني. وأصدر رجال الدين أوامر بتحديد نفقات هذه الحفلات فنهوا من يقيمونها عن أن يدعوا إليها أكثر من عشرين رجلاً، وعشر نساء، وخمس بنات؛ وجميع أقارب الداعي حتى الطبقة الثالثة. وكانت حفلات الزواج تدوم أحياناً أسبوعاً كاملاً، لا يسمحون أن يقطعها يوم السبت نفسه. وكان العروسان يتوجان بالورد، والريحان، وأغصان الزيتون، وينثر في طريقهما النقل والقمح وتنثر فوقهما حبوب الشعير رمزاً للإخلاص؛ وكانت الأغاني والنكات تصاحب كل مرحلة من مراحل هذا الحادث، وفي أواخر العصور الوسطى كان مهرج ممتهن يستأجر ليتم للحاضرين سرورهم. وكانت نكات هذا المهرج في بعض الأحيان صادق إلى حد القسوة، ولكنه يكاد على الدوام أن يعمل بقول هلل الظريف: "إن كل زوجة جميلة"(86).

وبهذه الطريقة كان الجيل المنقضي يحتفل بانقضائه وحاول جيل آخر مكانه، ويبتهج. ولد أبناء أبنائه، ويستكن إلى الشيخوخة المتعبة الرحيمة. ونحن نشاهد وجوه أولئك اليهود الشيوخ في صور رمبرانت Rembrandt. نشاهد ملامحهم الناطقة بتاريخ الشعب والفرد، ولحاهم تنفث الحكمة، وعيونهم قد انطبعت فيها الذكريات الحزينة، ولكنها قد رتقها الحب الحنون. وليس في صفات السلمين والمسيحيين الخلقية ما يفوق الحب المتبادل بين الشباب والشيب عند اليهود، الحب الذي يتغاضى عن جميع الزلات، وهداية العقول المجربة للعقول غير الناضجة، والكرامة التي تحمل من عاشوا حياتهم كاملة على أن يرتضوا الموت ويروه النهاية الطبيعية للحياة. واليهودي إذا مات لا يترك لأبنائه متاع الدنيا فحسب، بل يترك لهم فوق ذلك نصائحه الروحية: "كن أول من يذهب إلى الكنيس"، وها هي ذي وصية ألعزر (1337) من أهل مينز تقول: "لا تتكلم في أثناء الصلاة وردد الاستجابات، واعمل الخير بعد الصلاة".

وها هي ذي آخر وصايا اليهودي:

غسَّلوني، ومشّطوا شعري ودرموا أظافري، كما كنت أفعل في حياتي، كي أسير طاهراً إلى مقري الأبدي كما كنت أسير إلى الكنيس كل سبت وضعوني في الثرى على يد أبي اليمنى، فإذا ضاق المكان قليلاً فإني واثق من أنه يحبني حباً يجعله يفسح لي مكاناً بجانبه(87).

فإذا ما لقط الشخص نفسه الأخير أقفل الابن الأكبر للميت أو أكبر أبنائه أو أقربائه مقاماً فاهه وأغمض عينيه، ثم تغسل جثته وتضمخ بالأدهان العطرة، وتلف في قماش التيل النقي النظيف. ويكاد كل يهودي أن يكون عضواً في جمعية للدفن، تأخذ الجثة، وتعنى بها، وتقوم بآخر الشعائر الدينية، وتصحبها إلى قبرها. وكان حملة بساط الرحمة يسيرون في الجنازة حفاة، وتسير النساء أمام النعش، ينشدن نشيداً حزيناً، ويدققن طبلة. وكان ينتظر من كل غريب تمر به الجنازة أن ينضم إليها ويسير فيها إلى المقبرة. وكان تابوت الميت يوضع عادةً بالقرب من توابيت الموتى من أقاربه، حتى لقد كان معنى الدفن عندهم هو "الرقود مع الآباء" و "الاجتماع بالأهل". ولم يكن المشيعون يستولي عليهم اليأس، فقد كانوا يقولون أنه وإن مات الأفراد فإن بني إسرائيل لن يموتوا.