قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 3 ب 16

صفحة رقم : 4858

قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة اليهودية -> يهود العصور الوسطى -> المجتمعات الشرقية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب السادس عشر: يهود العصور الوسطى (565-1300)

الفصل الأول: المجتمعات الشرقية

كان لليهود وقتئذ شريعة ولكن لم تكن هناك دولة، كان لهم كيان، ولم يكن لهم وطن. ذلك أن أورشليم ظلت إلى عام 614 مدينة مسيحية، وإلى عام 629 فارسية، وإلى عام 637 مسيحية مرة أخرى، ثم ظلت من ذلك الوقت إلى عام 1099 حاضرة إسلامية. وفي ذلك العام الأخير حاصرها الصليبيون، وانضم اليهود إلى المسلمين في الدفاع عنها، فلما سقطت في أيدي الصليبيين سيق من بقي فيها حياً من اليهود إلى إحدى بيعهم وأحرقوا عن آخرهم(1)، ولما استولى صلاح الدين على المدينة عام 1187 أعقب ذلك ازدياد سريع في عدد اليهود، واستقبل السلطان العادل أخو صلاح الدين ثلاثمائة من أحبارهم الذي فروا من إنجلترا وفرنسا في عام 1211 استقبالاً حسناً. لكن ابن نحمان لم يجد فيها بعد خمسين عاماً من ذلك الوقت إلا حفنة صغيرة من اليهود(2)، ذلك أن سكان بيت المقدس كانوا قد أصبحوا كلهم تقريباً مسلمين.

وظل اليهود كثيري العدد في سوريا والعراق وفارس الإسلامية رغم ما لاقوه في بعض الأحيان من الاضطهاد ورغم اعتناق عدد منهم دين الإسلام. وأضحت لهم في ربوعها حياة اقتصادية وثقافية ناشطة قوية. ولقد ظلوا في شئونهم الداخلية، كما كانوا في عهد الملوك الساسانيين، يتمتعون بالحكم الذاتي تحت إشراف الإجزيلارك (رئيس اليهود في المهجر) ومديري المجامع الدينية. واعترف الخلفاء المسلمون بالإجزيلارك في كل من بلاد بابل. وأرمينية، والتركستان، وفارس، واليمن، رئيساً لجميع اليهود فيها؛ ويقول بنيامين التطيلي إن جميع رعايا الخليفة كان يفرض عليهم أن "يقوموا واقفين في حضرة أمير الأسر، وأن يحيوه باحترام"(3). وكان منصب الإجزيلارك وراثياً في أسرة واحدة ترجع بنسبها إلى داود، وكان سلطانه سياسياً أكثر منه روحياً، وقد أدى ما بذله من الجهود للسيطرة على رجال الدين إلى اضمحلاله ثم إلى سقوطه، وأصبح مديروا المجامع العلمية بعد عام 762 هم الذين يختارون الإجزيلارك ويسيطرون عليه.

وكانت الكليات الدينية في سورا Snra وبمبديثا Pumdeditha تخرج الزعماء الدينيين والعقليين لليهود في بلاد الإسلام، وتخرج أمثالهم بدرجة أقل لليهود في البلاد المسيحية. وحدث في عام 658 أن أخرج الخليفة مجمع سورا العلمي من اختصاص الإجزيلارك القانوني، فلما حدث هذا اتخذ رئيس المجمع لنفسه لقب جاؤن Gaon (صاحب السعادة) وابتدأ من ذلك الحين نظام الجاؤنية، وعهد الجاؤنيم في الدين والعلم البابليين(4). ولما ازدادت موارد كلية بميديثا وعظمت منزلتها لقربها من بغداد، اتخذ مديروها أيضاً لأنفسهم لقب جاؤن؛ وكاد اليهود في جميع أنحاء العالم فيما بين القرن السابع إلى القرن الحادي عشر يستفتون الجأنيم في المدينتين فيما يعرض لهم من مسائل التلمود القانونية، ونشأ لليهودية من أجوبتهم على هذه المسائل أدب قانوني جديد.

وحدث في الوقت الذي قامت فيه الجاؤنية انشقاق ديني فرق العالم اليهودي في الشرق وزلزلت له أركانه-أو لعل هذا الانشقاق نفسه هو الذي حتم قيام الجاؤنية في ذلك الوقت. ذلك أنه لما توفي الإجزيلارك سليمان، طالب ابن أخيه عنن بن داود بحقه في أن يخلفه في منصبه، ولكن زعماء سورا وبمبديثا طرحوا مبدأ الوراثة وراءهم ظهرياً ونصبوا حنانياً أخا عنن الأصغر إجزلاركا في مكانه. فما كان من عنن إلا أن طعن في الجاؤنين، وفر إلى فلسطين وأنشأ فيها كنيساً خاصاً به، وطالب اليهود أينما كانوا أن ينبذوا التلمود وألا يطيعوا إلا قوانين أسفار موسى الخمسة. وكان هذا العمل من جانبه عودة إلى الوضع الذي كان عليه الصدوقيون؛ وكان شبيهاً بما ينادي به بعض الشيعة في الإسلام من نبذ "السنة" النبوية واتباع القرآن وحده، وما يطالب به البروتستنت من نبذ التقاليد الكاثوليكية والعودة إلى الأناجيل. على أن عنن لم يكتف بهذا بل أخذ يعيد النظر في أسفار موسى الخمسة ويشرحها شرحاً يعد خطوة جريئة في سبيل الدراسة النقدية لنصوص الكتاب المقدس. واحتج على ما أدخله علماء التلمود من تبديل في الشريعة الموسوية وما يحاولونه في تفسيرهم وشرحهم من توفيق بينها وبين الظروف القائمة في أيامهم، وأصر على اتباع ما جاء في الأسفار الخمسة من أوامر وتنفيذها بنصها، ولهذا سمي أتباعه بالقرائين -أي "المتمسكين بالنصوص" وامتدح عنن عيسى وقال أنه رجل صالح لم يرغب في نبذ شريعة موسى المدونة، بل كل ما كان يطلبه أن ينبذ الناس قوانين الكتبة والفريسيين الشفوية. ويرى عنن أن عيسى لم يكن يرغب في وضع دين جديد، بل كان يرغب في تطهير الدين اليهودي وتدعيمه(5). وكثر اليهود القراءون في فلسطين، ومصر، وأسبانيا، ثم نقص في القرن لثني عشر، ولم يبق منهم الآن إلا أقلية آخذة في الانقراض في تركيا وجنوبي روسيا؛ وبلاد العرب. ونبذ القراءون في القرن التاسع ما كان ينادي به عنن من تفسير حرفي لنصوص الشريعة، وقالوا إن بعث الأجسام وما جاء في الكتاب المقدس من أوصاف جسمانية لله، يجب أن تؤخذ على سبيل المجاز، ولعلهم في قولهم هذا كانوا متأثرين بآراء المعتزلة المسلمين.

فلما فعلوا هذا عاد اليهود الربانيون إلى القول بأخذ عبارات التلمود بنصها، وقالوا إن ما ورد في الكتاب المقدس من عبارات أمثال "يد الله" وجلوس الله. يجب أن تؤخذ بمعناها الحقيقي، بل إن بعضهم قد تغالى في هذا فقدر بالدقة مقاييس جسم الله، وطول أطرافه، ولحيته(6). ونشأت فئة قليلة من اليهود حرة التفكير منها صبي البلخي Chivi al-Balchi كانت تنادي بأن أسفار موسى الخمسة نفسها ليست شريعة واجبة الطاعة(7). في هذه البيئة التي تمتاز بالرخاء الاقتصادي، والحرية الدينية، والجدل العنيف أنجبت اليهودية أول فيلسوف يهودي ذائع الصيت في العصور الوسطى.

ولد سعديا بن يوسف في قرية من قرى الفيوم في عام 892. وشب في مصر وتزوج فيها ثم هاجر إلى فلسطين في عام 915، ثم هاجر بعدئذ إلى بابل. وما من شك في أنه كان طالباً مجداً ومعلماً قديراً، لأنه عين وهو شاب في السادسة والثلاثين من عمره جاؤنا أي مديراً لكلية سوراً. وشاهد ما أدخله القراءون والمتشككة من بدع في الدين اليهودي القديم، فآلى على نفسه أن يفعل لهذا الدين ما فعله المتكلمون في الدين الإسلامي-فيبين أن هذا الدين القديم يتفق كل الاتفاق مع العق والتاريخ. وأخرج سعديا في حياته القصيرة التي لم تتجاوز خمسين عاماً مقداراً ضخماً من المؤلفات-معظمها-لا يماثلها في سجل التفكير اليهودي في العصور الوسطى إلى مؤلفات ابن ميمون. ومن هذه المؤلفات "الأجرون" وهو معجم آرامي للغة العبرية يعد أساساً للفلسفة العبرية؛ ومنها "كتاب اللغة" وهو أقدم ما عرف من كتب في نحو اللغة العبرية. وقد ظلت ترجمته العربية للعهد القديم إلى يومنا هذا الترجمة التي يستخدمها جميع اليهود الذين يتكلمون اللغة العربية، وإن شروحه لأسفار الكتاب المقدس "لتكاد تجعله" أعظم شارح للكتاب المقدس في جميع العصور(8)"؛ ويعد "كتاب الأمانات والاعتقادات" (933) أعظم رد في الدين اليهودي على الخارجين على هذا الدين.

ويؤمن سعديا بالوحي والتواتر معاً أي بالشريعة المكتوبة وغير المكتوبة، ولكنه يؤمن أيضاً بالعقل، ويطالب بأن يثبت استناداً إلى العقل صدق الوحي والتواتر. فإذا ما تعارضت نصوص الكتاب المقدس تعارضاً صريحاً مع حكم العقل، فلنا أن نفترض أن النص المتعارض لا يقصد به أن تأخذه العقول الناضجة بحرفيته. كذلك يجب أن تؤخذ أوصاف الله الجسمانية على أنها مجاز لا حقيقية؛ ذلك أن الله ليس إنساناً يتصف بما يتصف به البشر ويدل نظام العالم وقوانينه على وجود خالق عاقل مدبر. وليس من العقل في شيء أن يظن أن الله العاقل المدبر يعجز عن أن يثيب على الفضيلة، ولكن الفضيلة، كما هو واضح، لا يثاب عليها دائماً في هذه الحياة؛ ومن ثم لا بد أن تكون هناك حياة أخرى تعوض ما يبدو في هذه الحياة الدنيا من ظلم ظاهري؛ ولعل آلام الصالحين في هذه الدنيا ليست إلا عقاباً لبعض ما ارتكبوه من ذنوب حتى يدخلوا الجنة من فورهم بعد موتهم، كما أن ما يظفر به الأشرار من نعم إنما هو مثوبة على أعمالهم الصالحة العارضة، حتى... ولكن الناس كلهم حتى الذين يقومون بأحسن الأعمال الصالحة في هذا العالم وينالون فيه أعظم الخير والسعادة يحسون في أعماق قلوبهم أن ثمة حالاً خيراً من حالهم هذه الواسعة الآمال القليلة الممتعة، وكيف يجوز لله الذي اقتضت حكمته العظيمة خلق هذا العالم العجيب أن يبعث هذه الآمال في النفس إذا لم يشأ أن تتحقق؟(9)، ولقد تأثر سعديا إلى حد ما بفقهاء الإسلام وسار على نهجهم في الشرح والإيضاح، بل إن استعار منهم في بعض الأحيان أساليب الجدل والنقاش. وقد انتشرت آراؤه في جميع أنحاء العالم اليهودية وتأثر بها ابن ميمون، وهل أدل على هذا من قول ابن ميمون: "لولا سعديا لكادت التوراة أن تختفي من الوجود"(10).

وهنا يجب أن نقر بأن سعدياً كان رجلاً فظاً إلى حد ما، وأن نزاعه مع الإجزيلارك داود بن زكاي قد أضر بيهود بابل. وكانت نتيجة هذا النزاع أن أعلن داود في عام 930 حرمان سعديا، وأن أعلن سعديا حرمان داود. ولما مات داود في عام 940 نَصَّب سعديا إجزيلاركاً جديداً، ولكن المسلمين قتلوا هذا الإجزيلارك لأنه طعن في النبي محمد. فما كان من سعديا إلا أن عيّن ابن القتيل خلفاً، وقُتل هذا الشاب أيضاً؛ وحينئذ قرر اليهود بعد أن فت في عضدهم على هذا النحو أن يبقوا هذا المنصب شاغراً، وبذلك انتهى عهد الإجزيلاركية البابلية الذي دام سبعة قرون. وكان تفكك الخلافة العباسية في بغداد وقيام دوق إسلامية مستقلة في مصر، وشمالي أفريقية، وأسبانيا سبباً في ضعف الروابط بين يهود آسية وأفريقية وأوربا وأصيب يهود بابل بما أصيب به الإسلام في الشرق من ضعف اقتصادي بعد القرن العاشر الميلادي، فأغلقت كلية سورا أبوابها في عام 1034 وحذت حذوها بمبديثا بعد أربع سنين، وانتهى عهد الجاؤنية في عام 1040؛ وزادت الحروب الصليبية الهوة بين يهود بابل ويهود مصر، وأوربا، ولما خرب المغول بغداد في عام 1228 كادت الجالية اليهودية البابلية أن تختفي من صفحات التاريخ.

وكان كثيرون من يهود الشرق قد هاجروا قبل هذه الكوارث إلى أقاصي آسية الشرقية، وبلاد العرب، ومصر، وشمالي أفريقية وأوربا؛ فكان في سيلان 23.000 عبراني في عام 1165(11)، وبقيت في بلاد العرب عدة جاليات يهودية بعد أيام النبي؛ ولما فتح عمرو بن العاص مصر في عام 641 كتب إلى الخليفة يقول إن في الإسكندرية أربعة آلاف من اليهود "أهل الذمة". ولما اتسعت مدينة القاهرة ازداد عدد من فيها من اليهود أصحاب العقيدة القديمة والقرائين. وكان يهود مصر يستمتعون بالحكم الذاتي في شئونهم الداخلية بزعامة النجيد أو أمير اليهود، وازدادت ثروتهم من الأعمال التجارية وارتفعوا إلى المناصب العالية في حكومات الدول الإسلامية(12). وتقول إحدى الروايات إن أربعة من أحبار اليهود أبحروا على ظهر إحدى السفن من باري Bari في إيطاليا، ولكن أحد أمراء البحر الأندلسيين المسلمين أسر سفينتهم وباعهم بيع الرقيق، فبيع الحبر موسى وابنه حنوخ في قرطبة، وبيع سحرية في الإسكندرية، وبيع الحبر هو سيل في القيروان. ثم اعتنق كل واحد من هؤلاء الأحبار، كما تقول الرواية، وأنشأ في المدينة التي بيع فيها مجمعاً علمياً. والشائع على الألسنة، وإن لم يكن هذا مؤكداً، أنهم كانوا من علماء سورا؛ وأياً كانت فقد نقلوا العلم من يهود الشرق إلى الغرب؛ وبينما كانت اليهودية في آسية آخذة في الضعف بدأت أيام عزها وسعادتها في مصر وأسبانيا.


الفصل الثاني: الجماعات اليهودية في أوربا

اتخذ اليهود طريقهم إلى بلاد الروسيا في العصور الوسطى من بابل وفارس مجتازين ما وراء جيحون والقوقاز، وإلى ساحل البحر الأسود من آسية الصغرى مجتازين القسطنطينية. وظل اليهود في تلك العاصمة يستمتعون بالرخاء النكد من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر. وكان في بلاد اليونان جماعات يهودية كبيرة وبخاصة في طيبة حيث كانت لمنسوجاتهم الحريرية شهرة عظيمة. وهاجر اليهود شمالاً إلى بلاد البلقان مجتازين تساليا وتراقية ومقدونية، ثم ساروا بمحاذاة نهر الدانوب إلى بلاد المجر. وجاءت حفنة من التجار العبرانيين من ألمانيا إلى بولندة في القرن العاشر لأن اليهود كانوا في ألمانيا من قبل ميلاد المسيح. فكان في متز Metz، واسبير Speyer، ومينز Mainz، وورمز Worms، واسترسبورج Strassbourg، وفرنكفورت Fraokfort، وكولوني جاليات يهودية كبيرة في القرن التاسع، وإن كانت هذه الجاليات قد شغلتها التجارة وما تستلزمه من كثرة الترحال فلم يكن لها شأن كبير في تاريخ اليهود الثقافي. ومع هذا فقد أنشأ جرشوم بن يهودا (960-1027) مجمعاً علمياً للأحبار في مينز وكتب بالعبرانية شرحاً للتلمود، وبلغ من سلطانه أن كان يهود ألمانيا يستفتونه فيما يعرض لهم من مسائل في شريعة التلمود بدل أن يستفتوا في ذلك جأونيم بابل. وكان في إنجلترا يهود في عام 691(13)، وجاء إليهم عدد آخر كبير منهم مع وليم الفاتح Willam the Conquelor، وبسط عليهم النورمان الفاتحون في أول الأمر حمايتهم لما كانوا يمدونهم به من رؤوس الأموال وما كانوا يقومون به من جباية الإيراد. وكانت جماعاتهم المقيمة في لندن، وتورتش Norwch، ويورك، وغيرها من المراكز الإنجليزية خارجة عن اختصاص ولاة الأمور المحليين في شئونها القانونية، فكانت لا تخضع إلا للملوك أنفسهم. ووسعت هذه العزلة القضائية الهوة بين المسيحيين واليهود، وكانت سبباً من أسباب المذابح المدبرة التي حدثت في القرن الثاني عشر.

وكان في غالة تجار يهود من عهد يوليوس قيصر، وقبل أن يحل عام 600 بعد الميلاد وجدت جاليات يهودية في جميع المدن الكبرى في غالة؛ واضطهدهم الملوك المروفنجيون بوحشية، وأمرهم كلبريك Chilperic أن يعتنقوا الدين المسيحي على بكرة أبيهم وإلا فقأ أعينهم (581)(14)، أما شارلمان فإنه بسط عليهم حمايته لأنه وجد فيهم زراعاً، وصناعاً، وأطباء، ورجال مال نافعين، واختار يهوديا ليكون طبيبه الخاص، وإن كان قد أبقى على القوانين التي تحرم اليهود من بعض الحقوق التي يتمتع بها غيرهم. وتقول إحدى الروايات المشكوك في صحتها أنه استقدم في عام 787 أسرة فلونيموس Kalonymos من لكا Lucea إلى مينز ليشجع الدراسات اليهودية في دول الفرنجة، ثم أرسل في عام 797 يهودياً مترجماً أو مفسراً مع بعثة سياسية إلى هارون الرشيد. وكان لويس التقي Leuis the Pieus يميل إلى اليهود لعملهم في تنشيط التجارة؛ وعين موظفاً خاصاً للدفاع عن حقوقهم، واستمتع اليهود في فرنسا في القرنين التاسع والعاشر بقدر من الرخاء والطمأنينة لم يستمتعوا به بعدئذ قبل أيام الثورة الفرنسية؛ وذلك رغم ما كان يذاع ضدهم من الأقاصيص، وما يفرض عليهم من القيود الرومانية، وما يصيبهم أحياناً من الاضطهاد القليل(15) وكانت في إيطاليا من أقصاها إلى أقصاها جاليات يهودية منتشرة من تراني Trani إلى البندقية وميلان، وكان اليهود كثيرين في بدوا بنوع خاص، ولعلهم كان لهم أثر في نشر فلسفة ابن رشد في جامعتها. وكان في سالرنو Salerno، حيث أنشئت في البلاد المسيحية اللاتينية أولى مدارس الطب في العصور الوسطى، ستمائة يهودي(16). ومنهم عدد من مشهوري الأطباء، وكان في بلاد فردريك الثاني في فجيا Foggia طائفة من العلماء اليهود، وعين البابا الكسندر الثالث (1159-1181) عدداً من اليهود في المناصب الكبرى في بيته(17)، ولكن فردريك اشترك مع البابا جريجوري التاسع في اتخاذ إجراءات ظالمة ضد يهود إيطاليا.

وكان يهود أسبانيا يلقبون أنفسهم سفرديم Sephardim، ويرجعون بأصولهم إلى قبيلة يهوذا الملكية ؛ ولما اعتنق الملك ريكارد Recared الدين المسيحي الأصيل، انضمت حكومة القوط الغربيين إلى رجال الدين الأقوياء أتباع الكنيسة الأسبانية في مضايقة اليهود وتنغيص حياتهم عليهم، فحرمت عليهم المناصب العامة، ومنعوا بالزواج من المسيحيات أو اقتناء أرقاء مسيحيين. وأمر الملك سيزبوت Sisebut جميع اليهود أن يعتنقوا المسيحية أو أن يخرجوا من البلاد (613)، وألغى الملك الذي خلفه على العرش هذا الأمر، ولكن مجلس طليطلة الذي عقد في عام 633 أصدر قراراً ينص على أن اليهود الذين عمدوا ثم عادوا إلى الدين اليهودي يجب أن يفصلوا عن أبنائهم، وأن يباعوا أرقاء. وأعاد الملك شنتيلا Chtntla العمل بمرسوم سيزبوت (635)؛ وحرم الملك إجيكا Egica على اليهود امتلاك الأراضي كما حرم على عمل مالي وتجاري بين أي مسيحي ويهودي (693). وكانت نتيجة هذا أن ساعد اليهود العرب حين جاءوا أسبانيا فاتحين في كل خطوة من خطوات الفتح.

وأراد الفاتحون أن يعمروا البلاد فدعوا إلى الهجرة إليها، وقدم إليها فيمن قدم خمسون ألف يهودي من آسية وأفريقية(18)، وكاد سكان بعض المدن مثل أليسانة أن يكونوا كلهم من اليهود. ولما أن تحرر اليهود في أسبانيا الإسلامية من القيود المفروضة على نشاطهم الاقتصادي انتشروا في جميع ميادين الزراعة، والصناعة، والمال، والمناصب العامة، ولبسوا ثياب العرب، وتكلموا بلغتهم، واتبعوا عاداتهم، فلبسوا العمامة والأثواب الحريرية الفضفاضة، وركبوا العربات حتى أصبح من العسير تمييزهم من بني عمومتهم الساميين. واستخدم عدد من اليهود أطباء في بلاط الخلفاء والأمراء وعين أحد هؤلاء الأطباء مستشاراً لأعظم خليفة من خلفاء قرطبة.

فقد كان حسداي بن شبروط (915-970) بالنسبة لعبد الرحمن الثالث ما كانه نظام الملك في القرن التالي لملك شاه. وقد ولد حسداي في أسرة ابن عزرا المثرية المثقفة؛ وعلمه أبوه اللغات العبرية، والعربية، واللاتينية، ودرس الطب، وغيره من العلوم في قرطبة، وداوى الخليفة من أمراضه، وأظهر من واسع المعرفة وعظيم الحكمة في الأمور السياسية ما جعل الخليفة يعينه في الهيئة الدبلوماسية للدولة، ولما يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره كما يلوح. ثم عهدت إليه تباعاً أعمال أخرى ذات تبعات متزايدة في حياة الدولة المالية والتجارية. على أنه لم يكن له لقب رسمي لأن الخليفة تردد في منحه رسمياً لقب وزير خشية أن يثير عليه النفوس. ولكن حسداي قام بمهام منصبه الكثيرة بكياسة أكسبته محبه العرب، واليهود، والمسيحيين على السواء، وقد شجع العلوم والآداب، ومنح الطلاب الهبات المالية والكتب بلا ثمن، وجمع حوله ندوة من الشعراء، والعلماء، والفلاسفة، فلما مات تنافس المسلمون واليهود في تكريم ذكراه.

وكان ثمة رجال غيره في أنحاء أخرى من أسبانيا الإسلامية وإن لم يبلغوا ما بلغه. ففي أشبيلية دعا المعتمد إلى بلاطه إسحق بن بروك العالم والفلكي، ومنحه لقب أمير، وجعله حاخاماً أكبر لكل المجامع اليهودية فيها(19)؛ وفي غرناطة نافس شمويل هلوي ابن نجدلا Samuel Nalevi idn Naghdela حسداي ابن شبروط في سلطانه وحكمته وفاقه في عمله. وقد ولد شمويل في قرطبة عام 993 ونشأ فيها، وجمع بين دراسة التلمود والأدب العربي، وجمع بين هذين وبين الاتجار في التوابل. ولما أن سقطت قرطبة في أيدي البربر، انتقل إلى مالقة، وفيها زاد دخله القليل بكتابة العروض إلى ملك غرناطة. وأعجب وزير الملك بما كانت عليه هذه العروض من جمال الخط وحسب الأسلوب فزار شمويل، وصحبته إلى غرناطة، وأسكنه في قصر الحمراء، وجعله أمين سره. وما لبث شمويل أن أصبح أيضاً مستشاره، وكان مما قاله الوزير نفسه أنه إذا أشار شمويل بشيء فإن صوت الله يسمع فيما يشير به(20). وأوصى الوزير وهو على فراش الموت أن يخلفه شمويل، وبذلك أصبح شمويل في عام 1027 اليهودي الوحيد الذي شغل منصب وزير في دولة إسلامية وحظي بهذا اللقب. ومما يسر هذا الأمر في غرناطة أكثر منه في أي بلد آخر أن نصف سكان هذه المدينة في القرن الحادي عشر كانوا يهوداً(20). وسرعان ما رحب العرب بهذا الاختيار، لأن الدولة الصغيرة ازدهرت في عهد شمويل من النواحي المالية، والسياسية، والثقافية. وكان هو نفسه عالماً، وشاعراً، ونابغة في الفلك، والرياضة، واللغات، يعرف سبعاً منها، وقد ألف عشرين رسالة في النحو (معظمها بالعبرية) وعدة مجلدات في الشعر والفلسفة، ومقدمة للتلمود، ومجموعة من الأدب العبري. وكان يقتسم ماله مع غيره من الشعراء، وأنجد الشاعر والفيلسوف ابن جبيرول، وأمد بالمال طائفة من شباب الطلاّب، وأعان الجماعات اليهودية في قارات ثلاث وكان وهو وزير الملك حاخاماً لليهود يحاضر عن التلمود. ولقبه بنو ملته-اعترافاً منهم بفضله-بالنجيد-الأمير (في إسرائيل). ولما توفي عام 1055 خلفه في الوزارة، والنجادة ابنه يوسف بن نجدلا.

وكانت هذه القرون الثلاثة-العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، هي العصر الذهبي ليهود أسبانيا، وأسعد عصور التاريخ العبري الوسيط، وأعظمها ثمرة. ولما أن افتدى موسى بن شنوك (المتوفي عام 975 وأحد المهاجرين من باري) من الأسر في قرطبة، أنشأ فيها بمجموعة حسداي مجمعاً علمياً، ما لبث أن أصبحت له الزعامة الفعلية على يهود العالم كله. وافتتحت مجامع مثله في أليسانة، وطليطلة، وبرشلونة، وغرناطة...، وبينما كانت المدارس اليهودية في الشرق تقصر نشاطها على التعليم الديني، كانت هذه المدارس الأسبانية تعلم فيما تعلمه الأدب. والموسيقى، والرياضيات، والهيئة، والطب، والفلسفة(21). وبفضل هذا التعليم نالت الطبقات العليا من يهود أسبانيا في ذلك الوقت سعة وعمقاً في الثقافة والظرف لم ينلهما إلا معاصروهم من المسلمين، والبيزنطيين، والصينيين. وكان مما يسربل الرجل المؤثر أو صاحت المركز السياسي بالعار ألا يلم بالتاريخ، والعلوم الطبيعية، والفلسفة، والشعر(22). ونشأت في ذلك الوقت أرستقراطية يهودية تزدان بما فيها من النساء الحسان، ولعلها قد أفرطت في الاعتداء بتفوقها على غيرها، ولكن كان يقابل هذا الاعتداد ويخفف من وقعه اعتقادها أن شرف المحتد وكثرة الثراء يفرضان على صاحبهما واجبات من السخاء والفضل. ويمكننا أن نؤرخ بداية تدهور يهود أسبانيا من سقوط يوسف بن نجدلا. ذلك أنه كان يخدم الملك بكفاية لا تكاد تقل عن كفاية أبيه، ولكنه لم يكن له كما كان لأبيه من تواضع وكياسة جعلتا سكان البلاد-ونصفهم من المسلمين الأندلسيين-يرتضون أن يتولى أمورهم يهودي. من ذلك أنه جمع السلطة كلها في يده، وتشبه بالملك في لباسه، وسخر من القرآن، وتحدث الناس بأنه لا يؤمن بالله. ولهذا ثار العرب والبربر في عام 1066 وصلبوا يوسف، وذبحوا أربعة آلاف من يهود غرناطة، ونهبوا بيوتهم، وأرغم الباقون من اليهود على بيع أراضيهم ومغادرة البلاد. وجاء المرابطون من أفريقية بعد عشرين عاماً من ذلك الوقت متأججة صدورهم بالحماسة الدينية ومتمسكين بأصول السنة، وانتهى بقدومهم عصر أسبانيا الإسلامية الزاهر الطويل الأمد. ونادى أحد رجال الدين من المسلمين أن اليهود قد وعدوا النبي بأن يعتنقوا الإسلام بعد خمسمائة عام من الهجرة، إذا لم يظهر في ذلك الوقت مسيحهم المنقذ المنتظر، وأن هذه الأعوام الخمسمائة تنتهي بالحساب الهجري في عام 1107، وطلب الأمير يوسف إلى جميع يهود أسبانيا أن يعتنقوا الإسلام، ولكنه أعفاهم من هذا الأمر حين أدوا لبيت المال مبالغ طائلة(23). ولما خلف الموحدون المرابطين في حكم مراكش وبلاد لندلس الإسلامية (1148)، خيروا اليهود والمسيحيين كما خير الملك سيزبوت اليهود قبل خمسمائة وخمسة وثلاثين عاماً من ذلك الوقت بين الارتداد عن دينهم أو الخروج من البلاد. وتظاهر الكثيرون من اليهود باعتناق الإسلام، وهاجر كثيرون منهم مع المسيحيين إلى شمالي أسبانيا.

وهنا وجد اليهود في بادئ الأمر من التسامح العظيم ما لا يقل جلالاً عما ظلموا يلقونه مدى أربعة قرون تحت حكم المسلمين. وأحسن الفنسو السادس والسابع ملكا قشتالة (الأذفونش) معاملة اليهود، وجعلاهم هم والمسيحيين سواء أمام القانون، ولما قامت حركة مناهضة للسامية (1107) في طليطلة، حيث كان 72.000 يهودي، قمعها بصرامة(24). وحدث أرغونة مثل هذا التآلف بين الديانتين، الأم والابنة، وبلغ من هذا التآلف أن دعا الملك جيمس الأول اليهود أن ستوطنوا ميورقة، وقطلونية، وبلنسية، وكثيراً ما كان يمنح المستوطنين اليهود بيوتاً وأرضين من غير ثمن(25). وكانت لهم في برشلونة السيطرة على التجارة في القرن الثاني عشر، كما كان لهم نصف أراضيها الزراعية(26). نعم إن يهود أسبانيا قد فرضت عليهم ضرائب باهظة، ولكنهم مع ذلك أثروا، واستمتعوا فيها بالاستقلال في شئونهم الداخلية. وكانت التجارة تتبادل بحرية بين المسيحيين واليهود والمسلمين الأندلسيين، وكان بنو الأديان الثلاثة يتبادلون الهدايا في الأعياد، وكان بعض الملوك من إلى حين يشترك بالمال في بناء المعابد اليهودية(27)، وكان في وسع الإنسان أن يجد بين عامي 1085 و1492 يهودا يشغلون المناصب الكبرى في دول أسبانيا المسيحية منهم القائمون على شئون المال ومنهم الدبلوماسيين، ومنهم الوزراء أحياناً(28). واشترك رجال الدين المسيحيون في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في هذه الألفة المسيحية(29).

وكانت بداية عدم التسامح الديني بين اليهود أنفسهم. ذلك أن يهودا ابن عزرا المتولي شئون قصر الفنسو السابع ملك ليون وقشتالة وجه في عام 1149 قوة حكومة ملكية ضد اليهود القرائين في طليطلة. ولسنا نعرف تفاصيل ما حدث وقتئذ، ولكن اليهود القرائين الأسبان الذي كانوا إلى ذلك الحين طائفة كبيرة لم يعد يسمع لهم خبر(30). ودخل بعض الصليبيين أسبانيا في عام 1212 ليساعدوا أهلها على طرد المسلمين منها، وكانوا في أغلب الأحوال يحسنون معاملة اليهود؛ ولما أن اعتدت طائفة منهم على يهود طليطلة وقتلت كثيرين منهم، هب أهل المدينة المسيحيون للدفاع عن مواطنيهم، ووضعوا حداً لاضطهادهم(31)؛ وأدخل الفنسو العاشر ملك قشتالة بعض المواد المجحفة باليهود في قانونه الصادر عام 1265، ولكن هذا القانون لم يطبق حتى عام 1348، وكان ألفنسو في ذلك الوقت يستخدم طبيباً وخازناً لبيت المال يهودياً، واهدى إلى يهود إشبيلية ثلاثة من مساجد المسلمين ليجعلوها معابد لهم(32). واستمتع بما خلعه العلماء اليهود والمسلمون على حكمه اللطيف من مجد. ولما احتاجت مغامرات بدرو الثالث Pedro ملك أرغونة إلى فرض الضرائب الفادحة على رعاياه، كان وزير ماليته وعدد آخر من موظفيه يهودا، ولما ثار أعيان البلاد ومدنها على الملكية، اضطر الملك إلى إقصاء أعوانه اليهود عن مناصب الدولة، وتوقيع قرار أصدره مجلس الكورتير Cortes (1283) بألا يعين بعد ذلك الوقت أي يهودي في المناصب الحكومية.

وكانت خاتمة عهد التسامح الديني حين أصدر مجلس زمورا Zmora الديني (1313) قراراً بأن يلبس اليهود شارة تميزهم من غيرهم، وألا يختلط اليهود بالمسيحيين، ويحرم على المسيحيين استخدام أطباء من اليهود وعلى اليهود أن يكون لهم خدم مسيحيون(33).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: الحياة اليهودية في البلاد المسيحية

1- الحكومة


لم تحتم المدن المسيحية في العصور الوسطى-إذا استثنينا بالرم وقليلاً من المدن الأسبانية-أن يعيش من فيها من اليهود منعزلين عن سائر السكان. لكن اليهود كانوا في العادة يعيشون في عزلة اختيارية عن غيرهم من الأهلين لتيسر لهم هذه العزلة حياتهم الاجتماعية وسلامتهم الجسمية ووحدتهم الدينية. وكان كنيسهم مركز الحي اليهودي الجغرافي، والاجتماعي، والاقتصادي، يجتذب إليه معظم مساكن اليهود، ولهذا ازدحمت المساكن حوله ازدحاماً كبيراً، وأضر ذلك الازدحام بالصحة العامة والخاصة. وكانت الأحياء اليهودية في أسبانيا تحتوي على مساكن جميلة وعمارات كما تحتوي على أكواخ قذرة، أما في غيرها من بلاد أوربا فكادت المساكن أن تكون أحياء قذرة وبيئة مزدحمة بالسكان(34).

وكانت الجماعات اليهودية طوائف منعزلة شيه ديمقراطية وسط عالم ملكي مطلق، إذا استثنينا من هذا التعميم ما للثراء من أثر في الانتخابات وفي الاختيار للوظائف في جميع أنحاء العالم. وكان دافعوا الضرائب من الجماعات اليهودية يختارون أحبار الكنيس وموظفيه. وكانت فئة قليلة العدد من الكبار المنتخبين تكون بيت الدين أو المحكمة الشعبية، وهذه المحكمة هي التي كانت تجبي الضرائب، وتحدد الأثمان، وتتولى القضاء، وتصدره القرارات الخاصة بالطعام، والرقص، والأخلاق، والملبس، ولم تكن هذه القرارات تطاع على الدوام. وكان من حقها أن تحاكم من يعتدون على القانون اليهودي من اليهود أنفسهم، وكان لها موظفون ينفذون أوامرها، وكانت العقوبات التي توقعها تختلف من الغرامات إلى الحرمان الديني أو التقي، وقلّما كان الحكم بالإعدام من اختصاص بيت الدين أو كان من العقوبات التي توقعها، وكانت المحكمة اليهودية تستعيض عن هذا الإعدام بالحرمان التام؛ يصدر في احتفال فخم مرعب توجه فيه التهم، وتصب فيه اللعنات، وتطفأ فيه الشموع واحدة بعد واحدة رمزاً إلى موت المجرم الروحي. وكان اليهود يسرفون في استخدام الحرمان، كما كان يفرط فيه المسيحيون، ولهذا فقدت هذه العقوبة ما كان لها من رهبة وتأثير. وكان رؤساء اليهود الدينيون-كما كان رؤساء الكنيسة المسيحيون-يضطهدون الملاحدة، ويحرمونهم من حماية القانون، ويحرقون كتبهم في حالات نادرة(35).

ولم تكن الجماعات اليهودية في الأحوال العادية خاضعة للسلطات المحلية وكان سيدها الوحيد هو الملك، تؤدي إليه الماء بسخاء لتبتاع منه الميثاق الذي يحمي حقوقها الدينية والاقتصادية؛ وكان فيما بعد تؤدي المال إلى الحكومات المحلية المحررة لتؤيد استقلال اليهود الذاتي بشئونهم الداخلية. إلا أن اليهود مع ذلك، كانوا يخضعون لقوانين الدولة، وجعلوا طاعة هذه القوانين مبدأ من مبادئهم الواجبة الطاعة، وقد ورد في التلمود أن "قانون البلد شريعة"(36)، وتقول إحدى فقراته: "صلوا لسلامة الحكومة، فلولا خوف الناس منها لابتلع بعضهم بعضاً"(37).

وكانت الدولة تجبي من اليهود "الفرضة" أو ضريبة الرءوس، وعوائد الأملاك، وكانت تصل أحياناً إلى 33% من قيمتها، وضرائب على اللحم، والخمور، والحلي، والواردات، والصادرات، فضلاً عن التبرعات "الاختيارية" للمساعدة على تمويل الحروب، أو تتويج الملوك، أو "مقدمهم" أو رحلاتهم. وكان اليهود الإنجليز البالغ عددهم في القرن الثاني عشر 1slash4 % في المائة من السكان يؤدون للدولة 8% من الضرائب العامة. وقد أدوا هم ربع ما جمع من المال لحرب رتشارد الأول الصليبية، وأدوا فيما بينهم 5000 مارك ليفتدوه من أسر الألمان وهو ثلاثة أمثال ما أدته مدينة لندن(38). كذلك كانت الهيئات اليهودية تفرض ضرائب أخرى على اليهود، كما كان يطلب إليهم من حين إلى حين صدقات وإعانات للتعليم ولمساعد اليهود المضطهدين في فلسطين. وكان الملك في أي وقت من الأوقات يصادر أملاك "يهوده" بعضها أو كلها لسبب أو لغير سبب؛ ونقول يهوده لأنهم كانوا جميعاً بمقتضى قانون الإقطاع "رجال" الملك. وكان الملك إذا مات ينتهي العهد الذي قطعه بحماية اليهود، ولم يكن من يخلفه على العرش يرضى بأن يجدد العهد إلا إذا قدم إليه قدر كبير من المال، قد يبلغ في بعض الأحيان ثلث جميع ما يمتلكه اليهود في الدولة(39). من ذلك ما فعله ألبرخت الثالث Albrecht lll مارجريف برندبرج Margrave of Brander burg في عام 1463 إذ أعلن أن كل ملك ألماني جديد "يجوز له، عملاً بالسنن القديمة، إما أن يحرق جميع اليهود، أو يظهر لهم رحمته، فينقذ حياتهم، ويأخذ ثلث أملاكهم"(40) ولقد لخص براكتن Bracton كبير المشترعين اليهود في القرن الثالث عشر هذه النقطة بعبارة موجزة فقال: "ليس من حق اليهودي أن يكون له ملك خاص، لأن ما يحصل عليه أياً كان نوعه لا يحصل عليه لنفسه بل للمِلك"(41).


2- الشئون الاقتصادية


وكانت هناك فضلاً عن هذه المتاعب السياسية قيود اقتصادية. نعم إن اليهود لم يكونوا يمنعون بحكم القانون من تملك العقار، ولم يكونوا يمنعون من تملكه بوجه عام، وقد كانوا في أوقات مختلفة في العصور الوسطى يمتلكون أراضي واسعة في بلاد الأندلس الإسلامية وأسبانيا المسيحية، وفي صقلية، وسيليزيا، وبولندة، وإنجلترا، وفرنسا(42)؛ ولكن ظروف الحياة جعلت هذا التملك أمراً غير ميسر من الوجهة العلمية يزداد صعوبة على مر الأيام. ذلك أن اليهودي، وقد حرمت عليه الشريعة المسيحية أن يستأجر أرقاء مسيحيين، وحرمت عليه الشريعة اليهودية أن يستأجر أرقاء من اليهود، لم يكن أمامه إلا أن يفلح أرضه باستئجار عمال أحرار يصعب الحصول عليهم ويتطلب الاحتفاظ بهم نفقات طائلة. يضاف إلى هذا أن الشريعة اليهودية تحرم على اليهودي أن يعمل في يوم السبت، وأن الشريعة المسيحية كانت عادة تمنعه عن العمل في يوم الأحد، وكان هذا التعطل عقبة كبيرة في سبيله؛ وكانت العادات أو القوانين الإقطاعية تجعل من المستحيل على اليهودي أن يكون له منزلة في النظام الاقتصادي لأن هذه المنزلة تتطلب منه أن يقسم يمين الولاء للمسيحية، وأن يقوم بالخدمة العسكرية، مع أن شرائع الدول المسيحية كلها تقريباً تحرم على اليهود حمل السلاح(43). ولما حكم القوط الغربيون أسبانيا ألغى الملك سيزبوت جميع ما منحه أسلافه من الأرض لليهود، "وأمم" الملك إيجيكا جميع أملاك اليهود التي كانت ملكاً للمسيحيين في أي وقت من الأوقات، وفي تمام 1293 حرم مجلس الكورتيز في بلد الوليد بيع الأراضي لليهود؛ وفوق هذا كله فإن ما كان يتعرض له اليهود في كل وقت من الأوقات من احتمال طردهم من البلاد، أو مهاجمتهم، قد أقنعهم بعد القرن التاسع أن يتجنبوا امتلاك الأرضين أو العيش في الريف. كل هذه الصعاب ثبطت همة اليهود في الاشتغال بالزراعة ومالت بهم إلى حياة الحضر، وإلى العمل في الصناعة والتجارة والشئون المالية.

ونشط اليهود في الشرق الأدنى وجنوبي أوربا في الصناعة، والحق أن اليهود كانوا في معظم الأحوال هم الذين أدخلوا الفن الصناعي الراقي من بلاد الإسلام إلى بيزنطية وإلى البلاد الغربية، ولقد وجد بنيامين التطيلي Beniamin of Tudela مئات من صانعي الزجاج في إنطاكية، وصور؛ واشتهر اليهود في مصر وبلاد اليونان بجمال منسوجاتهم المصبوغة والمطرزة وتفوقها على سائر المنسوجات من نوعها، وكان فردريك الثاني في القرن الثالث عشر لا بعد يستقدم إلى بلاده الصناع اليهود ليشرفوا على صناعة نسيج الحرير التابعة للدولة في صقلية. وكان اليهود في تلك الجزيرة وفي غيرها من البلاد يشتغلون في الصناعات المعدنية وبخاصة في الصباغة وصناعة الحلي، وظلوا يعملون في مناجم القصدير في كورونوول إلى عام 1290(44). وانتظم الصناع العبرانيون في أوربا الجنوبية في طوائف للحروف قوية، وكانوا ينافسون الصناع المسيحيين منافسة شديدة، أما في أوربا الشمالية فقد احتكرت طوائف أرباب الحرف المسيحية كثيراً من الصناعات؛ وأخذت الدول المختلفة واحدة في إثر واحدة تحرم على اليهود الاشتغال حدادين، ونجارين، وخياطين، وحذائين، وطحانين، وخبازين، وأطباء؛ كما حرمت عليهم بيع الخمور، والدقيق، والزبد، والزيت في الأسواق(45)، وابتياع مساكن لأنفسهم في أي مكان خارج عن الأحياء اليهودية.

وإزاء هذه القيود الثقيلة لجأ اليهود إلى التجارة وكان رب Rab، العالم التلمودي البابلي، قد وضع لبني ملته شعاراً يدل على ثاقب فكره: "تاجر بمائة فلورين تحصل على لحم وخمر؛ أما إن استغلت هذا القدر نفسه في الزراعة فأكبر ما تحصل عليه هو الخبز والملح"(46). وكان البائع اليهودي الجائل معروفاً في كل مدينة وبلدة، والتاجر اليهودي معروفاً في كل سوق ومولد؛ وكانت التجارة الدولية عملاً تخصصوا فيه، وكادوا أن يحتكروه قبل القرن الحادي عشر، فكانت أحمالهم، وقوافلهم، وسفائنهم تجتاز الصحراوات، والجبال، والبحار، وكانوا في معظم الحالات يصبحون بضائعهم. وكانوا هم حلقة الاتصال التجاري بين بلاد المسيحية والإسلام، وبين أوربا وآسية، وبين الصقالبة والدول الغربية؛ وكانوا هم القائمين بمعظم تجارة الرقيق(47)؛ وكان يعينهم على النجاح في التجارة مهارتهم في تعلم اللغات، وقدرة الجماعات اليهودية البعيدة بعضها عن بعض على فهم اللغة العربية، وتشابه عادات اليهود وقوانينهم، واستضافة الحي اليهودي في كل مدينة لأي يهودي غريب. ولهذا استطاع بنيامين التطيلي أن يجتاز نصف العالم وأن يجد له أينما حل موطناً. ويحدثنا ابن خرداذبة صاحب البريد في الدولة العباسية عام 870 في كتابه المسالك والممالك عن التجار اليهود الذين يتكلمون اللغات الفارسية، واليونانية، والعربية، والفرنجية، والإسبانية، والصقلية، ويصف المسالك البرية والبحرية التي ينتقلون بها من أسبانيا وإيطاليا إلى مصر، والهند، والصين(48). وكان هؤلاء التجار يحملون الخصيان، والعبيد، والحرير المطرز، والفراء، والسيوف إلى بلاد الشرق الأقصى، ويعودون منها بالمسك، والند، والكافور، والتوابل، والمنسوجات الحريرية(49). ثم كان استيلاء الصليبيين على بيت المقدس، واستيلاء أساطيل البندقية وجنوى على بلاد البحر المتوسط، فأصبحت للتجار الإيطاليين ميزة على اليهود، وقضى في القرن الحادي عشر على زعامة اليهودي التجارية. وكانت مدينة البندقية قد حرمت حتى قبل الحروب الصليبية نقل التجار اليهود على سفنها، ولم يمض بعد ذلك إلا قليل من الوقت حتى أغلقت عصبة المدن الهلسية The Hansatic League موانيها الواقعة على بحر الشمال والبحر البلطي في وجه التجارة اليهودية(50)، وقبل أن يحل القرن الثاني عشر أضحى الجزء الأكبر من التجارة اليهودية تجارة محلية، وكانت هذه التجارة حتى في هذا المجال الضيق تحددها القوانين التي تحرم على اليهود أن يبيعوا عدة أنواع من السلع(51). فلم يكن لهم بد من العودة إلى شئون المال. ذلك أنهم وجدوا أنفسهم في بيئة معادية لهم معرضين لأن يتلف عنف الجماهير أملاكهم الثابتة، أو أن يصادرها الملوك الجشعون، فأرغمتهم هذه الظروف على أن يجعلوا مدخراتهم من النوع السائل السهل التحرك؛ فعمدوا أولاً غلى ذلك العمل السهل وهو مبادلة النقد، ثم انتقلوا منه إلى تلقي المال لاستثماره في التجارة؛ ثم إلى إقراض المال بالربا.

وكانت أسفار موسى(52) والتلمود(53) قد حرمت التعامل بالربا بين اليهود أنفسهم ولكنها لم تحرمه بين اليهودي وغير اليهودي. ولما أضحت الحياة الاقتصادية أشد تعقيداً مما كانت قبل، وصارت الحاجة إلى تمويل المشروعات أشد إلحاحاً نظراً لاتساع نطاق التجارة والصناعة، أخذ اليهود يقرض بعضهم بعضاً المال عن طريق وسيط مسيحي(54) أو عن طريق جعل صاحب المال شريكاً موصياً في المشروع وأرباحه-وهي وسيلة أجازها أحبار اليهود، وعدد كبير من رجال الدين المسيحيين(55). وإذ كان القرآن وكانت الكنيسة المسيحية يحرمان الربا، وكان المقرضون المسيحيون لهذا السبب نادري الوجود قبل القرن الثالث عشر، فإن المقترضين المسلمين والمسيحيين-ومنهم رجال الدين المسيحيون، والكنائس والأديرة(56)-كان هؤلاء المقترضون يلجئون إلى اليهود ليقرضوهم ما يحتاجونه من المال. وحسبنا دليلاً على هذا أن هارون اللنكلني Aaron of Lincoln هو الذي قدم ما يلزم من المال لبناء تسعة أديرة سترسيه Cistercian، وبناء دير سانت أولبنز St. Albans(57) العظيم. ثم غزا رجال المصارف المسيحيون هذا الميدان في القرن الثالث عشر، واستعانوا بالوسائل التي أوجدها وسار عليها اليهود، وما لبثوا أن تفوقوا عليهم في الثراء واتساع نطاق الأعمال. "ولم يكن المرابي المسيحي أقل صرامة" من زميله اليهودي "وإن لم يكن أولهما في حاجة إلى حماية نفسه بالقدر الذي يحتاجه الثاني من خطر القتل والسلب والنهب"(58) فكان كلاهما يشدد النكير عن المدين بما عرف عن الدائنين الرومان من القسوة، وكان الملاك يستغلونهم جميعاً لمصلحتهم الخاصة.

فكان المرابون جميعاً تفرض عليهم ضرائب باهظة، وكان اليهود منهم يتعرضان من حين إلى حين إلى مصادرة أموالهم بأجمعها. وقد سار الملوك على سنة السماح للمرابين بأن يتقاضوا رباً فاحشاً، ثم يلجئون من حين إلى حين إلى اعتصار هذه المكاسب من أصحاب المال. وكان المرابون يتحملون نفقات كبيرة في سبيل الحصول على أموالهم، وكثيراً ما كان الدائن يضطر إلى أداء الرشا للموظفين لكي يسمحوا له بالحصول على ما ماله(59). وحدث في عام 1198 حين كانت أوربا تستعد للحرب الصليبية الرابعة أن أمر البابا إنوسنت الثالث Innocent III جميع الأمراء المسيحيين بإلغاء جميع فوائد القروض التي يطالب بها اليهود مدينيهم المسيحيين(60). وأعنى لويس التاسع، ملك فرنسا القديس، جميع رعاياه من ثلث ما كانوا مدينين به لليهود لكي "يستنزل الرحمة على روحه وروح أسلافه"(61). وكان ملوك الإنجليز في بعض الظروف يصدرون خطابات إعفاء-يلغون بمقتضاها فائدة الدين أو رأس المال أو كليهما لرعاياهم-المدينين لليهود. ولم يكن من النادر أن يبيع الملوك هذه الخطابات، وأن يدونوا في سجلاتهم المبالغ التي حصلوا عليها نظير وساطتهم في هذا البر بالإنسانية(62). وكانت الحكومة البريطانية تطلب أن ترسل إليها صورة من كل تعاقد على قرض، وأنشأت ديواناً خاصاً باليهود يجمع هذه العقود، ويراقبها، ويستمع غلى القضايا الخاصة بها؛ فإذا ما عجز صاحب مصرف يهودي عن أداء الضرائب أو المطالب المفروضة عليه، رجعت الحكومة إلى ما لديها من سجلات عن قروضه، وصادرتها كلها أو بعضها، وأنذرت مدينيه بأن يؤدوا إليها هي لا إليه ما عليهم من الديون(63). ولما أن فرض هنري الثاني على سكان إنجلترا ضريبة خاصة في عام 1187، أرغم اليهود على أداء ربع أملاكهم، والمسيحيون على عشرها، وبذلك أدى اليهود وحدهم ما يقرب من نصف الضريبة كلها(64). وكان اليهود في بعض الأحيان "هم الذين يمولون المملكة"(65). وأمر الملك يوحنا في عام 1210 أن يزج في السجون يهود إنجلترا على بكرة أبيهم-رجالاً كانوا أو نساءً أو أطفالاً-ثم جمعت منهم ضريبة للملك بلغت 66.000 مارك(66)، وعذّب الذين ظنوا أنهم لم يبوحوا بكل ما كان لديهم من أموال مكنوزة بأن اقتلعت سن من أسنانهم كل يوم حتى يقرروا بحقيقة مدخراتهم(67). وفي عام 1230 اتهم هنري الثالث اليهود بقطع جزء من عملة الدولة (ويبدو أن بعضهم قد فعل ذلك حقاً)، فصادر ثلث ما يمتلكه يهود إنجلترا من ثروة منقولة، ولما تبين أن هذه الوسيلة مربحة، أعيدت في عام 1231؛ وبعد عامين من ذلك التاريخ انتزع اليهود 20.000 مارك فضي، ثم انتزع منهم في عام 1244 ستون ألف مارك - وهو مبلغ يوازي مجموع إيرادات التاج البريطاني السنوية. ولما استدان هنري الثالث 5000 مارك من دوق كورنوول رهن له جميع يهود إنجلترا ضماناً لدينه(68). وتوالت على اليهود فيما بين عامي 1252 و1255 سلسلة من القروض المالية دفعتهم إلى حال من اليأس لم يروا معها بداً من أن يطلبوا أن يؤذن لهم بمغادرة إنجلترا جملة، ولكن طلبهم هذا لم يلق قبولاً(69). وحرم إدوارد الأول في عام 1275 التعامل بالربا تحريماً باتاً، ولكن الانقطاع لم ينقطع رغم هذا التحريم. وإذا كان خطر ضياع المال قد أزاد بسببه، فقد ارتفع سعر الفائدة، ولذلك أمر إدورد بالقبض على جميع اليهود ومصادرة جميع أملاكهم؛ وقبض كذلك على كثيرين من المرابين المسيحيين وشنق ثلاثة منهم. أما اليهود فإن مائتين وثمانين منهم قد شنقوا، وطيف بجثثهم في شوارع لندن ثم مزقت، وقتل عدد آخر منهم في المقاطعات الإنجليزية. وصودرت أملاك مئات منهم لصالح الدولة(70).

وأثرى أصحاب المصارف اليهود في الفترات القلقة التي تخللت أوقات المصادرة، وظهرت علائم الثراء المفرط على بعضهم أكثر مما يجب أن تظهر؛ فلم يقتصروا على تقديم المال اللازم لبناء القصور، والكنائس الكبرى، والأديرة، بل شادوا لأنفسهم فوق ذلك بيوتاً فخمة، فكانت تلك البيوت في إنجلترا من أول ما بني من البيوت بالحجارة. وكان بين اليهود أغنياء وفقراء على الرغم من قول إلعزر: "الناس كلهم أكفاء عند الله-النساء والعبيد، والأغنياء والفقراء"(71). وحاول رجال الدين أن يخففوا الفقر، وأن يمنعوا الاستغلال الجشع للمال بوضع عدة نظم اقتصادية مختلفة، فأخذوا يؤكدون ما على الجماعة من تبعات لجميع أفرادها، وخففوا آلام الشدائد بالصدقات المنظمة؛ نعم إنهم لم ينددوا بالغنى، ولكنهم أفلحوا في رفع مكانة العلم حتى سلوت مكانة الثراء؛ ووسموا الاحتكار والائتمار على التحكم في الأسعار بميسم الخطايا(72). وحرموا على بائع الأشتات أن يكسب أكثر من سدس ثمن الجملة(73)؛ وكانوا يراقبون الموازين والمقاييس، ويحددون أقصى الأثمان وأقل الأجور؛ لكن كثيراً من هذه النظم. قد عجزت عن تحقيق الغرض المقصود منها، لأن رجال الدين لم يستطيعوا فصل حياة اليهود الاقتصادية عن حياة جيرانهم في البلاد الإسلامية أو المسيحية، ووجد قانون العرض والطلب في السلع والخدمات له طريقاً ينفذ منها حول جميع التشريعات.


3- الأخلاق


وحاول الأغنياء أن يكفروا عن ثرائهم بالصدقات الكثيرة، فكانوا يقرن يما على الثراء من واجبات اجتماعية، ولعلهم أيضاً خافوا ثورة الفقراء أو لعنهم فلم يعرف قط أن يهودياً مات من الجوع وهو يعيش في بيئة يهودية(75). ومن بداية القرن الثاني المسيحي كان مشرفون رسميون يفرضون في فترات محددة على كل فرد من أفراد العشيرة اليهودية مهما يكن فقيراً أن يكتتب بشيء من ماله "لصندوق العشيرة" الذي يعني بالشيوخ، والفقراء، والمرضى، وبتعليم اليتامى وزواجهم. وكانت واجبات الضيافة تقدم بالمجان وبخاصة للعلماء الجائلين. وفي بعض الجماعات كان المسافرون اليهود إذا قدموا على بلد آواهم موظفون من الجماعات اليهودية في بيوت الأفراد اليهود. وزاد عدد الجمعيات الخيرية اليهودية زيادة كبيرة كلما تقدمت العصور الوسطى، فلم تكن هناك فقط كثير من المستشفيات، وملاجئ للأيتام وبيوت للفقراء والطاعنين في السن، بل كانت هناك أيضاً منظمات تؤدي أموال الفداء للمسجونين، وبائنات للعرائس الفقيرات، وأجور الأطباء للمرضى، وتعني بالأرامل المعدمات، وتدفن الموتى من غير أجر(77). وكان المسيحيون يشكون من شره اليهود ويحاولون أن يثيروا حماسة المسيحيين للصدقة بأن يضربوا لهم أمثلة من اليهود(78).

وكانت الفروق بين الطبقات عند اليهود تظهر في ثيابهم، وطعامهم، حديثهم وفي مائة أخرى من أساليب حياتهم. فكان اليهودي البسيط يلبس قفطاناً طويل الكمين فوقه حزام، وكان أسود اللون في العادة، كأنه رمز للحزن على هيكله المهدم وعلى بلاده، لكن أثرياء اليهود في أسبانيا كانوا يظهرون ثرائهم بلبس الثياب الحريرية، وطالما حذرهم الفقراء دون جدوى من أثر هذا التظاهر في إثارة البغضاء والأحقاد. ولما أن حرم ملك قشتالة هذا التجمل في الملبس أطاع الرجال اليهود أمره ولكنهم ظلوا يلبسون أزواجهم أفخر الثياب؛ ولما أن سألهم الملك في ذلك أكدوا له أن الشهامة الملكية لم تكن تقصد قط أن يطبق هذا القيد على النساء(79)، وظل اليهود طوال العصور الوسطى يجملون نساءهم بفاخر الثياب ولكنهم حرموا عليهن أن يظهرن أمام الجماهير عاريات الرأس، وأنذروهن بأن مخالفة هذا الأمر تصبح سبباً للطلاق، وأمر اليهودي أن لا يصلي في حضرة امرأة يرى الناس شعرها(80).

وكانت نواحي التلمود المنصلة بالقوانين الصحية مما خفف من آثار الازدحام في أحياء المدن؛ فعملية الختان، والاستحمام كل أسبوع، وتحريم الخمر وأكل اللحم الفاسد، كلها وسائل وقت اليهود شراً الأمراض المنتشرة في البيئات المسيحية المجاورة لهم أكثر من غيرهم من السكان(81). مثال ذلك أن الجذام كان منتشراً بين فقراء المسيحيين الذين يأكلون اللحم أو السمك المملح، ولكنه كان نادر الحدوث بين اليهود؛ ولعل هذه الأسباب نفسها هي التي جعلت إصابة اليهود بالكوليرا وما شابهها من الأوبئة أقل من إصابة المسيحيين(82). لكن اليهود والمسيحيين على السواء كانوا يعانون الأمرين من الملاريا في أحياء روما القذرة الموبوءة بالبعوض من منافع كمبانيا Campagna.

وكانت حياة اليهودي تنعكس عليها من الناحية الأخلاقية تراثه الشرقي والقيود التي يفرضها عليه الأوربيون؛ ففي كل مناحي الحياة حقوق له مهضومة، وأمواله معرضة للنهب وحياته للخطر والإذلال، يتهم بجرائم ليست له يد فيها، ولهذا كله لجأ كما يلجأ الضعيف الجسم في كل مكان إلى الدهاء يتقي به الأذى. نعم إن أحبار اليهود كانوا ينادون في كل حين أن خداع "غير اليهودي شر من خداع اليهودي نفسه(83)"؛ ولكن بعض اليهود كانوا يخالفون هذه النصيحة(84)؛ ولعل المسيحيين أيضاً كانوا يخادعون بكل ما يعرفونه من خداع. فرجال المصارف اليهود منهم والمسيحيون لم يكونوا يرحمون مدينيهم بل كانوا يتقاضون منهم كل ما عليهم من ديون، وإن كنا لا ننكر أنه كان في العصور الوسطى، كما كان في القرن الثامن عشر، دائنون لا يقلوا أمانةً وإخلاصاً عن مإير أنسلم من آل روتشليد. وكان بعض اليهود والمسيحيين ينحتون النقود، أو يقبلون البضائع المسروقة(85). ولكن كثرة استخدام اليهود في المناصب المالية الكبرى توحي بأن من يستخدمونهم من المسيحيين كانوا يثقون بأمانتهم واستقامتهم، وقلّما كان اليهود يرتكبون جرائم العنف-كالقتل، والسطو، والسلب-، وكان السكر أقل انتشاراً بينهم في البلاد المسيحية في البلاد الإسلامية. وكانت حياتهم الجنسية عفيفة إلى حد عجيب على الرغم من أخذهم بمبدأ تعدد الزوجات، وكانوا أقل ميلاً للواط من غيرهم من الشعوب الشرقية الأصل . وكانت نساؤهم عذارى ذوات خفر وحياء، وأزواجاً عاملات مجدات، وأمهات مخصبات ذوات ضمائر حية، وكان من أثر التبكير بالزواج أن قلت الدعارة بينهن إلى أقل حد يستطاع الوصول إليه عند بني الإنسان(86). وكان العزاب نادري الوجود بين رجالهم، وكان من القواعد التي وضعها الحاخام آشير بن يحيال أن من حق المحاكم أن ترغم الأعزب على الزواج إذا بلغ العشرين من العمر، ولم يكن منهمكاً في دراسة الشريعة(87). وكان الآباء هم الذين ينظمون أمور الزواج، وتقول إحدى الوثائق اليهودية الباقية من القرن الحادي عشر إنه كان يندر وجود فتيات "يبلغن من قلة الذوق أو من الوقاحة ما يجرأن معه على أن يبدين هواهن أو خيارهن" في هذه الناحية(88). ولكن الزواج لا يكون قانونياً إلا برضاء الزوجين(89). وكان من حق الوالد أن يزوج ابنته لمن يشاء وهي صغيرة السن حتى وإن كانت في السادسة من عمرها؛ ولكن زواج الأطفال على هذا النحو لم يكن يتم إلا إذا بلغ الزوجان سن الرشد، وكان من حق الفتاة أن تلغي هذا الزواج إذا شاءت(90). وكانت الخطبة إجراءً رسمياً تجعل الفتاة زوجة للرجل من الوجهة القانونية، ولا يمكن التفرقة بعدها بعد الزوجين إلا بوثيقة طلاق قضائية. وكان عقد يوقع عند الزواج (كتوبة) يحدد فيه بائنة الزوجة ومهر الزوج. وكان هذا المهر مبلغاً من المال يُتَجنَّب من مال الزوج ويؤدي للزوجة إذا طلقها أو مات عنها. وبغير هذا المهر الذي لم يكن يقل عن مائتي زوزا Zuza (وهو قدر يكفي لشراء بيت تسكنه أسرة واحدة) لا يصبح الزواج بعذراء صحيحاً من الوجهة القانونية.

وكان تعدد الزوجات سنّة جرى عليها أغنياء اليهود في البلاد الإسلامية ولكنها كانت نادرة بينهم في البلاد المسيحية(91). وتشير الآداب الدينية التي وصلت إلينا من عهد ما بعد التلمود ألف إشارة وإشارة إلى "زوج" الرجل، ولا تشير قط إلى "أزواجه". وأصدر جرشم بن يهوذا حاخام مينز في عام 100 م أمراً بحرمان كل يهودي يتزوج أكثر من واحدة، وما لبث تعدد الزوجات بعد هذا القرار أن انقرض أو كاد بين اليهود في جميع أنحاء أوربا ما عدا أسبانيا. على أن حالات من هذا التعدد ظلت تحدث من حين إلى حين إذا ظلت الزوجة عقيماً بعد عشر سنين من زواجها وسمحت هي للرجل أن يتخذ له حظية أو زوجة ثانية(92)، ذلك أن الأبوة كانت مسألة حيوية عند اليهود. وقد ألغى هذا القرار نفسه-قرار جرشم-ما كان للزوج قديماً من حق طلاق زوجته بغير رضاها ومن غير جريمة ارتكبتها؛ وأكبر الظن أن الطلاق بين اليهود في العصور الوسطى كان أقل منه في أمريكا في هذه الأيام.

وكانت الأسرة أكبر أسباب نجاة الحياة اليهودية وإن لم تكن رابطة الزواج قوية محكمة من الوجهة القانونية. ذلك أن الخطر المحدق باليهود من خارجهم قد قوى وحدتهم الداخلية، ويشهد أعداؤهم أنفسهم بما كانت تمتاز به الأسرة اليهودية، وما تمتاز به الآن، من "حرارة، وكرامة... وتفكير، وتدبر، وحب أبوي وأخوي"(94). فقد كان الزوج الشاب يشترك مع زوجته في العمل، وفي السرَّاء والضراء، وكان شديد الحب لها لأنه يراها جزءاً من نفسه الكبرى، وإذا أصبح أباً وكبر أطفاله من حوله أثاروا فيه قواه المدخرة وبعثوا فيه أعمق الوفاء. وأكبر الظن أنه لم يكن قبل الزواج قد مس جسم امرأة غير زوجته دون الشعار، ولم تكن تتاح له في تلك البيئة الصغيرة الوثيقة الصلات إلا أقل الفرص للخيانة الزوجية بعد الزواج. ويكاد منذ ولادة أطفاله يبدأ بائنات لبناته ومهور لأولاده، وكان من البدائة عنده أن من واجبه أن يساعد البنين والبنات بماله في السنين الأولى من حياتهم وحياتهن الزوجية. وكان ذلك يبدو له أكثر حكمة من ترك الشاب يستعد لقيود الزواج المفرد بفترة من الاختلاط الجنسي الطليق. وكثيراً ما كان العريس يعيش مع عروسه في بيت أبيها-وقلّما كان ذلك سبباً في ازدياد سعادة الأسرة. وكان سلطان الأب الأكبر في البيت سلطاناً مطلقاً لا يكاد يقل في ذلك عن سلطانه في روما الجمهورية. فكان من حقه أن يحرم أبناءه دينياً، وأن يضرب زوجته ضرباً غير مفرط، فإذا ما أصابها بأذى جسيم فرضت عليه العشيرة غرامة تتناسب مع موارده، وكان في العادة يمارس سلطانه بصرامة لا تطغى قط على عاطفة الحب القوية.

وكان مركز المرأة منحطاً من الوجهة القانونية، عالياً من الناحية الأخلاقية. ولكن الرجل اليهودي يحمد الله، كما يحمد أفلاطون، لأنه لم يولد أنثى، وكانت المرأة تجيب عن ذلك بتواضع جم: "وأنا أحمد الله الذي خلقني كما أراد"(95). وكان للنساء في المعبد موضع منعزل في الرواق أو خلف الرجال وتلك تحية سمجة لمفاتنهن التي تلهي العابدين عن العبادة، ولم يكن يحسبن في العدد الواجب اكتماله لأداء الصلاة. وكانت الأغاني التي يمتدح بها جمال المرأة تعد عملاً غير لائق وإن كان التلمود قد أباحها(96). أما التغازل-إذا وجد-فلم يكن إلا عن طريق المراسلة، ولقد نهى الأحبار عن التخاطب بين الرجال والنساء-حتى بين الزوجين-أمام الناس(97)، وقد أبيح الرقص ولكنه كان مقصوراً على رقص المرأة مع المرأة والرجل مع الرجل(98).

وكان القانون يجعل الزوج هو الوارث الوحيد لزوجته، أما الأرملة فلم يكن من حقها أن ترث زوجها، فإذا مات حصلت على قيمة بائنتها، ومهر الزواج، أما فيما عدا هذا فقد كانت تعتمد على أبنائها الذكور، ورثة أبيهم الطبيعيين، في أن ييسروا لها سبل الحياة الطيبة. ولم تكن البنات يرثن آبائهن إلا إذا لم يكن له أبناء ذكور، فإذا كان له اعتمدن على حبهم الأخوي، وقلّما كان يخيب فيهم رجاؤهن(99). ولم تكن البنات يرسلن إلى المدارس؛ فقد كان العلم مهما قل يعد بالنسبة إليهن أمراً شديد الخطورة. على أنهن رغم هذا كن يسمح لهن بأن يدرسن في بيوهن؛ فنحن نسمع عن عدد من النساء يلقين محاضرات عامة في الشريعة-وإن كانت صاحبة المحاضرة تستتر أحياناً عن المستمعين(100). ولكن المرأة اليهودية الجديرة بالتكريم والإخلاص، كانت تلقي بعد زواجها كل ما هي خليقة به منهما رغم ما كان يحيط بها من إجحاف مادي وقانوني، وقد نقل يهوذا بن موسى بن تيبون Tibbon عن حكيم مسلم قوله: "لا يكرم النساء إلا الكريم، ولا يحقرهن إلا الحقير(101)". وكانت صلات الأب بأبنائه أقرب إلى الكمال من الصلات الزوجية. فقد كان اليهودي بما عرف عن الرجل الساذج العمادي من كبرياء، يفخر بأبنائه وبقدرته على إنجاب الأبناء. وكان يقسم أغلظ إيمانه بأن يضع يده على خصيتي من يتلقى منه اليمين، ومن هنا اشتقت كلمة testimony الأوربية ، ومعناها الشهادة أو البيّنة أو الشاهد نفسه. وكان كل رجل يؤمر بأن يكون له طفلان على الأقل، وكان له في العادة أكثر من اثنين. وكان الطفل يلقى الإجلال الذي يليق بزائر قدم من السماء، ومن مَلَك تجسد، وكان الأب يلقى من التبجيل ما كان يجعله رسولاً من عند الله، فكان الولد يقف في حضرة أبيه حتى يأمره بالجلوس، ويطيعه طاعة جزعة قلقة تتناسب مع كبرياء الشباب. وكان الولد أثناء الاحتفال بالختان يكرس إلى يهوه بمقتضى عهد أبراهام، وكانت كل أسرة تشعر بأن تعد واحداً من أبنائها على الأقل ليتولى المناصب الدينية. وكان الولد، إذا بلغ الثالثة عشرة من عمره، يدخل ميدان الرجولة، ويفرض عليه كل ما تفرضه الشريعة على الرجال، ويحدث ذلك في حفل رهيب يثبت فيه هذا ويؤكد وكان الدين يخلع رهبته وقداسته على كل مرحلة من مراحل نموه، ويخفف بذلك من واجبات الآباء.


4- الدين


كذلك كان الدين رقابة روحية في كل ناحية من نواحي القانون الأخلاقي. لا ريب إنه كانت في الشريعة ثغرات، وأن الحيل القانونية كانت تتلمس لكي تعاد إلى الشعب حرية التطبيق التي لا غنى عنها لكل شعب مغامر. ولكن يلوح أن الرجل اليهودي في العصور الوسطى كان يقبل الشريعة بوجه عام ويتخذها درعاً لا يقيه اللعنة الأبدية فحسب، بل يقيه فوق ذلك وبصفة أظهر للعيان تفكك جماعاته وانحلالها. نعم إنها كانت تضيق عليه في جميع مناحي الحياة، ولكنه كان يعظمها لأنها موطن نشأته ومدرسة تربيته والوسيلة التي لا بد منها لحياته. وكان كل بيت في بلاد اليهود كنيساً، وكل مدرسة معبداً، وكل أب كوهناً. فصلوات الكنيس وطقوسه كان لها مثيلات موجزة في البيت. وكان الصوم والأعياد الدينية يحتفل بها فيه احتفالات تعليمية تربط الماضي بالحاضر والأحياء بالأموات وبمن لم يولدوا بعد. وكان من عادة الأب في مساء يوم الجمعة أي ليلة السبت من كل أسبوع أن يجمع حوله زوجته، وأولاده، وخدمه، ويباركهم فرداً فرداً، ويؤمهم في الصلاة، وفي القراءة من الكتب الدينية، والأغاني المقدسة. وكانت تعلق على باب كل حجرة كبيرة من حجرات البيت أنبوبة (مزوزا) محتوية على ملف من الرق كتبت عليه فقرتان من سفر تثنيه الاشتراع (الآيات 4-9 من الإصحاح السادس، 13-21 من الإصحاح الحادي عشر) تذكر اليهودي أن إلهه "واحد يجب عليه أن يحبه من كل قلبه وروحه وبكل قوته". وكان يجاء بالوالد على الكنيس من سن الرابعة وما بعدها، حيث ينطبع الدين في نفسه في أكثر السنين تأثيراً في تكوينه.

ولم يكن الكنيس معبداً دينياً فحسبن بل كان فوق ذلك المركز الاجتماعي للعشيرة اليهودية؛ والمعنى الحرفي للفظ سناجوج، وإكليزيا، وسينود، وكلية هو مجتمع؛ ولقد كان الكنيس قبل المسيحية مدرسة ولا يزال يسمى شوله Schule عند اليهود الإشكنازيين، ثم أخذ على عاتقه في عهد التشتت عدداً كبيراً من الواجبات العجيبة المختلفة، فكان من عادة بعضها أن ينشر في كل سبت ما يصدره بيت الدين من قرارات خلال الأسبوع المنصرم، وأن يجبي الضرائب، وأن يعلن عن الأمتعة المفقودة، وأن ينظر في شكاوي بعض الأفراد من البعض الآخر، وأن يذيع أخبار الأملاك قبل موعده حتى يستطيع من له حقوق في هذه الأملاك أن يعترض عليه. وكان الكنيس يوزع الصدقات العامة، وكان في بلاد آسية مسكناً لأبناء السبيل. وكان مبناه على الدوام أجمل المباني في الحي اليهودي، وكان في بعض الأحيان وبخاصة في أسبانيا وإيطاليا آية من آيات العمارة، مزداناً أعظم زينة وأجملها؛ وكثيراً ما كان ولاة الأمور المسيحيون يحرمون على اليهود إقامة معابد تطاول أعلى كنيسة مسيحية في المدينة، وأمر البابا هونوريوس الثالث في عام 1221 بهدم معبد بهذا الوصف في بورج Bourges(102). وكان في أشبيلية في القرن الرابع عشر ثلاثة وعشرون كنيساً، وفي طليطلة وقرطبة ما لا يكاد يقل عن هذا العدد، منها واحد شيد في قرطبة عام 1315 تحتفظ به الحكومة الأسبانية على أنه أثر قومي.

وكان بكل كنيس مدرسة (بيت الدرس Beth ha Midrash) بالإضافة إلى المدارس الخاصة والمعلمين الخصوصيين، وأكبر الظن أن نسبة من كانوا يعرفون القراءة والكتابة بين يهود العصور الوسطى كانت أكبر منها بين المسيحيين(104) وإن كانت أقل منها بين المسلمين. وكانت أجور المدرسين تؤديها الجماعات اليهودية عامة أو يؤديها الآباء، ولكنهم كلهم كانوا خاضعين لرقابة الجماعة المشتركة. وكان الأولاد يخرجون غلى المدارس مبكرين-قبل مطلع الفجر في الشتاء؛ ثم يعودون غلى بيوتهم بعد بضع ساعات لتناول الفطور، ثم يرجعون إلى المدرسة حيث يبقون حتى الساعة الحادية عشرة، ثم يأتون إلى المنزل للغذاء، ويعودون إلى المدرسة ظهراً، ثم يستريحون بين الساعة الثانية والثالثة، ثم يذهبون مرة أخرى غلى المدرسة ويبقون فيها إلى المساء، ثم يطلق سراحهم أخيراً ليعودوا إلى بيوتهم ليتعشوا، ويصلوا، ويناموا، وكذلك كانت حياة الغلام اليهودي حياة جدية شاقة(105). وأول ما كان يدرسه الغلام اليهودي هو اللغة العبرية وأسفار موسى الخمسة؛ فإذا بلغ العاشرة من عمره بدأ يدرس المشنا، وفي الثالثة عشرة يأخذ في دراسة الأجزاء الرئيسية من التلمود، ومن شاء منهم أن يكون من العلماء واصل دراسة المشنا والجمارا من الثالثة عشرة غلى العشرين من عمره أو ما بعدها. وكان الطالب يتعلم عن طريق دراسته لموضوعات التلمود المختلفة مقداراً قليلاً من العلوم المختلفة تبلغ عشرة أو تزيد، ولكنه لا يكاد يدرس شيئاً من تاريخ اليهود(106). وكان أكثر ما يتعلمه عن طريق التكرار، وكانت التلاوة الجماعية قوية عالية غلى حد جعل بعض البيئات تمنع وجود المدارس فيها(107). أما التعليم العالي فكان مكانه اليشيبة أو المجمع العلمي، وكان خريج هذا المجمع يسمى تلميذ حاخام أي عالماً بالشريعة؛ وكان يعفى عادة من الضرائب المفروضة على سائر أفراد العشيرة، وكان ينتظر من غير العلماء أن يهبوا واقفين إذا أقبل أو أدبر وإن لم يكن حتماً من الأحبار الرسميين(108).

أما الحبر الرسمي فكان معلماً وقاضياً، وكاهناً. وكان يطلب إليه أن يتزوج، ولك يكن يتقاضى نظير القيام بواجباته الدينية إلا القليل من الأجر إذا تقاضى شيئاً منه على الإطلاق؛ وكان في العادة يكسب عيشه بعمل من الأعمال التي لا تمت بصلة إلى الدين؛ وقلّما كان يعظ، لأن الوعظ كان متروكاً لوعاظ متنقلين (مجديم) يدربون على فنون البلاغة المرهبة ذات الأصوات المنغمة الطنانة الرنانة. وكان في مقدور كل فرد من المصلين أن يؤوم الجماعة، ويقرأ فقرات من الكتاب المقدس، ويعظ؛ ولكن هذا الشرف كان يختص به في العادة أحد اليهود البارزين أو الذين لهم يد طولي في الصدقات والأعمال الخيرية. وكانت الصلاة عند اليهود المتمسكين بالدين عملاً شديد التعقيد، لا تؤدي على الوجه لصحيح إلا إذا غطى المصلي رأسه دليلاً على الخشوع، وربط على ذراعيه وجبته علباً صغيرة، تحتوي فقرات من سفر الخروج (الآيات 1-16 من الإصحاح الثالث عشر) وتثنية الاشتراع (الآيات 4-9 من الإصحاح السادس، و13-21 من الإصحاح الحادي عشر)، وثبت في أطراف ثيابه أهداباً نقشت عليها أهم وصايا الرب. وكان رجال الدين يفسرون هذه الإجراءات الشكلية بأنها أمور لا بد منها لتذكر اليهود بوحدانية الله، ووجوده، وشرائعه. أما السذج من اليهود فقد أصبحوا يحسبونها تمائم سحرية ذات قوى معجزة خارقة للطبيعة. وكانت الصلاة تختم بقراءة من ملف الشريعة الموضوع في تابوت صغير فوق المذبح. وكان اليهود في المنفى لا يوافقون على إدخال الموسيقى في الشعائر الدينية، ويرون أنها قلّما تتفق مع حزنهم على وطنهم الضائع، ولكن الواقع أن بين الموسيقى والدين من الصلات القوية مثل ما بين الشعر والحب. ذلك أن التعبير المتحضر عن أقوى العواطف وأكثرها عمقاً يتطلب أشد الفنون إثارة للانفعالات النفسية؛ ولقد عادت الموسيقى إلى الكنيس عن طريق الشعر؛ ذلك أن البيتانيم Paitanim أو "الشعراء الجدد" العبرانيين شرعوا يكتبون أشعاراً دينية مثقلة بالزخرف الصناعي كالأبيات المتجانسة أول حروفها أو التي إذا جمعت الحروف الأولى منها كونت اسماً خاصاً أو جملة بعينها، ولكنها يرفع من قدرها رنين اللغة العبرية وفخامة نغماتها وامتلاؤها بالحماسة الدينية التي أضحت عند اليهودي وطنية وديناً معاً. ولا تزال ترانيم إلعزر بن قلير (من القرن الثامن) الفجة القوية تجد لها مكاناً في طقوس بعض المعابد اليهودية. ولقد أظهرت أشعار مثلها عند يهود أسبانيا، وإيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، منها واحدة يترنم بها كثيرون من اليهود يوم عيد الكفارة.


إذا أقبلت ملكوتك تشققت التلال عن أناشيد.



وضحكت الجزائر متهللة لأنها تنتسب إلى الله.



وتغنى كل من فيها من المصلين بأعلى أصواتهم يثنون عليك.



حتى إذا سمعتها أبعد الشعوب نادت بك ملكاً متوجاً عليها(109).


ولما أن أدخلت هذه القصائد المقدسة (البيوطيم) في الصلوات التي تقام في المعابد، كان ينشدها مرتل القداس، وبذلك عادت الموسيقى إلى الشعائر الدينية. يضاف إلى هذا أن تلاوة الكتاب المقدس والأدعية كان ينشدها في كثير من المعابد رئيس فرقة المرتلين أو ينشدها النرتلون إنشاداً ترتجل معظم نغماته ارتجالاً، ولكنها تتبع في بعض الأحيان نماذج النغمات البسيطة الموضوعة للترانيم المسيحية(110). من ذلك أن النغمات المعقدة للأغنية العبرانية الذائعة الصيت المعروفة باسم كل نيدري Kol Nidre (جميع الإيمان)(111)، قد أخذت من مدرسة ديرسنت جول St. Gail الغنائية بسويسرا في وقت ما قبل بداية القرن الثاني عشر. على أن الكنيس اليهودي لم يحل في قلب اليهودي محل الهيكل بكل معاني الحلول، بل ظل أمله في أن يقدم القربان ليهوه في يوم من الأيام أمام قدس الأقداس على تل صهيون، يلهب خياله، ويتركه عرضة لخداع "المسيح الكذاب" في مختلف الأوقات. من ذلك ما حدث في عام 20 حين أعلن شيريم Sereme وهو رجل سوري، أنه هو المنقذ المنتظر، وسير حملة لانتزاع فلسطين من المسلمين. وغادر اليهود مواطنهم في بابل وأسبانيا ليشتركوا في هذه المغامرة، ولكن القائم بها أسر، وعرضه الخليفة يزيد الثاني على الجماهير على أنه مهرج دجال، ثم أمر به فقتل. وبعد بضع سنين من ذلك الوقت تزعم عبوديا بن عيسى بن إسحق الأصفهاني ثورة أخرى مثلها امتشق فيها عشرة آلاف يهودي الحسام، واستبسلوا في الحرب بقيادته، ولكنهم هزموا، وقتل ابن عيسى في المعركة وعوقب جميع يهود أصفهان بلا تمييز بينهم لانضمامهم إليه. ولما أثارت الحملة الصليبية الأولى ثائرة أوربا حسبت الجماعات اليهودية أن انتصار المسيحيين سيعيد فلسطين إلى اليهود(112)، ولكنهم أفاقوا من أحلامهم على سلسلة من المذابح المدبرة. وفي عام 1160 أثار دافيد الرؤى يهود العراق إذ نادى فيهم أنه هو المسيح المنتظر وأنه سيعود بهم إلى أورشليم ويرد إليهم حريتهم؛ لكن حماه خشي أن يحيق الهلاك باليهود بسبب هذه الأفكار فما كان منه إلا أن ذبحه وهو نائم. ثم ظهر مسيح آخر في جنوبي جزيرة العرب عام 1225 وأثار اليهود إثارة حمقاء. وكتب ابن ميمون "رسالة إلى الجنوب" ذائعة الصيت فند فيها مزاعم هذا الداعي، وذكر يهود العرب بما أعقب هذه المحاولات الطائشة في ماضي الأيام من هلاك ودمار(113)، ولكنه رغم هذا ارتضى الأمل في المسيح المنتظر، على أنه دعامة لا بد منها للروح اليهودية في تشتتهم، وجعل هذا الأمل إحدى العقائد الثلاث عشرة الأساسية في الديانة اليهودية(114).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: كراهية اليهود

ترى ما هو منشأ العداء القائم بين غير اليهود واليهود؟ لقد كانت الأسباب الرئيسية الباعثة على هذا العداء أسباباً اقتصادية، ولكن الخلافات الدينية كانت على الدوام سبباً في زيادة المنافسات الاقتصادية وستاراً لها، فالمسلمون المؤمنون برسالة محمد يغضبهم من اليهود عدم إيمانهم بهذه الرسالة، والمسيحيون الذين يؤمنون بألوهية المسيح يؤلمهم أن يجدوا شعبه نفسه لا يؤمن بهذه الألوهية. ولم يكن كثيرون من المسيحيين الصالحين يرون أن مما يخالف تعاليم دينهم أو يخالف التعاليم الإنسانية بوجه عام أن يلقوا على شعب بأسره، خلال القرون الطوال، تبعة أعمال فئة قليلة العدد من يهود أورشليم في آخر أيام المسيح، ويحدثنا إنجيل لوقا أن جماعات من اليهود رحبت بدخول المسيح أورشليم (الآية 37 من الإصحاح 29) وكيف حمل صليبه بيلاطس: "تبعه جمهور كبير من الشعب والنساء اللائي كن يلطمن وينحن عليه" (الآية 27 من الإصحاح 23)، وكيف أن كل الجموع الذين "كانوا مجتمعين لهذا المنظر لما أبصروا ما كان رجعوا وهم يقرعون صدورهم" (الآية 48 من الإصحاح 23)، ولكن هذه الشواهد القاطعة بعطف اليهود على عيسى كانت تنمحي ذكراها حين تتلى على المسيحيين قصة الآلام المريرة كل أسبوع مقدس من فوق ألف منبر ومنبر، فكانت نيران الحقد تضطرم في قلوب المسيحيين، وكان بنو إسرائيل في تلك الأيام يحبسون أنفسهم في أحيائهم وبيوتهم خشية أن تثور عواطف السذج من الناس فتؤدي إلى المذابح.

ونشأت حول هذا السبب الرئيسي من أسباب سوء التفاهم عشرات المئات من أسباب الريبة والعداء. وتحمل رجال المصارف اليهود أكبر آثار العداء الناشئ من أسعار فائدة القروض، وهي أسعار ترتفع كلما قلت ضماناتها. ولما أن نمت الشئون الاقتصادية المسيحية، وغزا التجار ورجال المصارف من غير اليهود ميادين كان اليهود هم المسيطرين عليها من قبل، أثارت المنافسة الاقتصادية الأحقاد في الصدور، وأخذ بعض المرابين المسيحيين يبذرون بذور الحقد على السامية(115). وكان اليهود الذين يشغلون مناصب رسمية وبخاصة في المصالح المالية للحكومات المسيحية هدفاً طبيعياً لمن يكرهون الضرائب واليهود كليهما. وتأصلت هذه الأحقاد الاقتصادية والدينية في الصدور فأصبح كل ما هو يهودي بغيضاً لبعض المسيحيين، وكل ما هو مسيحي بغيضاً لبعض اليهود، فأخذ المسيحيون يعيبون على المسيح عزلتهم، ولم يغفروا لهم هذه العزلة التي كانت رد فعل لتمييز غيرهم عليهم. وما كان يوجه إليهم من اعتداء في بعض الأحيان، وبدت ملامح اليهود، ولغتهم، وآدابهم، وأطعمتهم، وشعائرهم، بدت هذه كلها في أعين المسيحيين غريبة كريهة. ثم إن اليهود كانوا يطعمون حين يصوم المسيحيون، ويصوم أولئك حين يفطر هؤلاء، وظل يوم راحتهم وصلواتهم يوم السبت كما كان في قديم الأيام، على حين أن يوم الراحة والصلوات عند المسيحيين قد تبدل فأصبح يوم الأحد، وكان اليهود يحتفلون بنجاتهم السعيدة من مصر في عيد فصح قريب قرباً يراه المسيحيون غير لائق من يوم الجمعة الذي يحزنون فيه لموت المسيح. ولم تكن الشريعة اليهودية تبيح لليهود أن يأكلوا طعاماً مسته يد غير يهودية، أو يشربوا خمراً عصرته، أو يستعملوا آنية لمستها(116)، أو أن يتزوجوا إلا من يهوديات(117). وكان المسيحي يفسر هذه القواعد القديمة-التي وضعت قبل نشأة المسيحية بزمن طويل-بأن اليهود يرون أن كل شيء مسيحي نجس، ويرد على هذا بأن الإسرائيلي نفسه لم يكن في أغلب الأحيان يمتاز بنظافة جسمه أو أناقة ثيابه. ونشأت من عزلة هؤلاء وأولئك بعضهم أقاصيص سخيفة محزنة انتشرت بين كلا الطرفين. وكان قبل الرومان قبل ذلك الوقت يتهمون المسيحيين بأنهم يذبحون أطفال الوثنيين ليقدموا دماءهم في السر قرباناً لإله المسيحيين، ثم أخذ المسيحيون في القرن الثاني عشر يتهمون اليهود باختطاف أطفال المسيحيين ليقدموهم قرباناً إلى يهوه، أو ليتخذوا دماءهم دواء، أو يستعملوه في صنع الخبز الفطير لعيد الفصح. واتهم اليهود بأنهم يسممون الآبار التي يشرب منها المسيحيون ويسرقون الرقاق المقدس ليثقبوه ويخرجوا منه دم المسيح(118). ولما أن تباهى عدد قليل من تجار اليهود بثرائهم وأظهروا هذا الثراء بارتداء الملابس الغالية الثمن اتهم الشعب اليهودي على بكرة أبيه بأنه يستنزف أموال المسيحيين جملة ويضعها في أيدي اليهود. واتهمت اليهوديات بأنهم ساحرات، وقبل إن كثيرين من اليهود من حزب الشيطان(119). ورد اليهود على هذه الأقاصيص بأخرى مثلها عن المسيحيين، وبقصص مهينة عن مولد المسيح وشبابه. وكان التلمود ينصح بأن تشمل الصدقات اليهودية غير اليهود(120)، وكان بحيا Bahya يثني على الرهبنة المسيحية، وكتب ابن ميمون يقول إن تعاليم المسيح والنبي محمد تنزع بالإنسانية إلى الكمال(121)، ولكن اليهودي العادي لم يكن يستطيع فهم هذه المجاملات الفلسفية، وبادل أعداءه حقداً بحقد.

وكانت هناك فترات صفاء بين أوقات الجنون السالفة الذكر، فكثيراً ما كان اليهود يختلطون بالمسيحيين اختلاط الأصدقاء متجاهلين قوانين الدولة والكنيسة التي تحرم هذا الاختلاط، وكانوا أحياناً يتزاوجون وبخاصة في أسبانيا وجنوبي أوربا. وكان العلماء المسيحيون واليهود يتعاونون فيما بينهم، ميكائيل اسكت Michael Scot مع أناتولي Anatoh، ودانتي مع عمونيل(122)، وكان المسيحيون يقدمون الهبات للمعابد اليهودية، وفي مدينة وورمز Worms كانت هناك حديقة يهودية كبرى ينفق عليها من هبة وهبتها امرأة مسيحية(123). وبُدّل يوم السوق في ليون من السبت إلى الأحد تيسيراً لليهود، ووجدت الحكومات غير الدينية أن اليهود عنصر نافع في الأعمال التجارية والمالية فأولتهم حمايتها في بعض الأوقات؛ وإذا كانت دولة من الدول قد قيدت حركات اليهود أو أخرجتهم من بلادها فقد كان سبب ذلك في بعض الأحيان أنها لم يعد في مقدورها أن تحميهم من التعصب والعدوان(124).

وكان موقف الكنيسة من هذه الأحداث يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. ففي إيطاليا كانت تحمي اليهود بوصفهم "حراس الشريعة" الواردة في العهد القديم وبوصفهم شهدوا أحياء على صحة الكتاب المقدس من الوجهة التاريخية وعلى "غضب الله". لكن مجالس الكنيسة كانت من حين إلى حين تعمل على زيادة متاعب الحياة اليهودية، وكثيراً ما كان يصدر عنها ذلك بحسن نية، وقلّما كانت تعتمد في عملها هذا على ما لها من سلطان عام. من ذلك أن قانون ثيودوسيوس Thedosian Code (439)، ومجلس كليرمنت Clermont (535)، ومجلس طليطلة (589) كلها حرمت تعيين اليهود في المناصب التي من حق شاغلها أن يوقع عقوبة على المسيحيين. وأمر مجلس أورليان Orleans (538) جميع اليهود ألا يخرجوا من بيوتهم طوال الأسبوع المقدس، ولعل ذلك الأمر كان يقصد به حمايتهم، وحرم استخدامهم في المناصب العامة. وحرم مجلس لاتران Lateran الثالث (1179) على القابلات أو المرضعات المسيحيات أن يخدمن اليهود، وندد مجلس بزيير Beziers (1246) باستخدام المسيحيين أطباء من اليهود؛ ورد مجلس أفنيون Avignon (1209) على قوانين الطهارة اليهودية بتحذير "اليهود والعاهرات" من لمس الخبز أو الفاكهة المعروضة للبيع؛ وأعاد القوانين الكنسية الصادرة بتحريم استئجار اليهود الخدم المسيحيين، وحذر المؤمنين من تبادل الخدمات مع اليهود، وأمر بتجنبهم لنجاستهم(125). وأعلنت بعض المجالس إلغاء كل زواج بين المسيحيين واليهود، وأحرق شماس في عام 1222 على القائمة الخشبية لأنه اعتنق الدين اليهودي وتزوج بيهودية(126). وحرمت أرملة يهودية في عام 1234 من بائنتها بحجة أن زوجها اعتنق الدين المسيحي قبل وفاته وأن هذا يلغي زواجهما(127). وأصدر مجلس لاتران الرابع في عام 1215 قراراً يحتم "على اليهود والمسلمين-ذكوراً كانوا أو إناثاً-في كل ولاية مسيحية وفي جميع الأوقات أن يميزوا أنفسهم عن غيرهم في أعين الجمهور بلبس أثواب خاصة لأن المسيحيين يخطئون أحياناً فيتصلون بنساء اليهود والمسلمين، ويتصل اليهود والمسلمون بالنساء المسيحيات". ولهذا يجب على اليهود والمسلمين متى جاوزوا الثانية عشرة من العمر أن يميزوا ملابسهم بيوم خاص-ويكون ذلك بالنسبة للرجال في غطاء الرأس أو الجبة، وبالنسبة للنساء في أقنعتهن. وكان من أسباب صدور هذه الأوامر أنها رد على قوانين قديمة مماثلة لها أصدرها المسلمون ضد اليهود أو المسيحيين. وكان نوع الشارة المميزة تعينه محلياً حكومات الولايات أو المجالس الإقليمية للكنيسة المسيحية. وكانت في العادة تتخذ صورة عجلة أو دائرة من النسيج الأصفر، طول قطرها نحو ثلاث بوصات تخاط في مكان ظاهر فوق الملابس. ونفذ هذا للقرار في إنجلترا عام 1279؛ أما في أسبانيا وإيطاليا وألمانيا فلم ينفذ إلا في أوقات متباعدة قبل القرن الخامس عشر حين أخذ نيقولا القوزاوي Nickolas of Cusa وسان جيوفاني داكبسترانو San Giovanni Capistrano يدعوان إلى التشدد في تنفيذه بأكمله. وكان من أثر تلك الدعوة أن هدد يهود قشتالة في عام 1219 بمغادرة البلاد جملة إذا نفذ هذا القانون؛ ووافق ولاة الأمور الدينيون على إلغائه، وكثيراً ما كان الأطباء والعلماء، ورجال المال، والرحالة اليهود يعفون منه، ثم أخذ العمل به يضعف قبل القرن السادس عشر وامتنع نهائياً حين قامت الثورة الفرنسية.

ويمكن القول بوجه عام إن البابوات كانوا أكثر رجال الدين تسامحاً في العالم المسيحي. مثال ذلك أن جريجوري الأول، نهى عن إرغام اليهود على اعتناق الدين المسيحي رغم تحمسه الشديد لنشر هذا الدين، وحافظ على مالهم من حق المواطنية الرومانية في البلاد الخاضعة لحكمه(128)؛ ولما أن استولى الأساقفة في طرشونة Terracina وبالرم على معابد اليهود لكي ينتفع بها المسيحيون أرغمهم جريجوري على أن يردوها إليهم كاملة(129)، وكتب إلى أسقف نابلي يقول: "لا تسمح بأن يضيق على اليهود في أداء صلواتهم، ودع لهم الحرية الكاملة في مراعاة أعيادهم وأيامهم المقدسة والاحتفال بها، كما كانوا هم وآباؤهم يفعلون من زمن بعيد"(130). وحث جريجوري السابع الحكام المسيحيين على إطاعة قرارات مجلس الكنيسة التي تحرم استخدام اليهود في المناصب؛ ولما قدم إنجنيوس الثالث إلى باريس عام 1145، وسار في موكب حافل إلى الكنيسة الكبرى التي كانت وقتئذ في الحي اليهودي، بعث اليهود إليه بوفد ليهدي إليه التوراة أو ملف الشريعة، فباركهم وعادوا إلى بيوتهم مغتبطين، وطعم البابا حمل عيد الفصح مع الملك(131). وكان البابا اسكندر الثالث على وئام مع اليهود واستخدم واحداً منهم في إدارة شئونه المالية(132)؛ وتزعم إنوسنت Innocent الثالث مجلس لاتران الرابع فيما طلبه من أن يكون لليهود شارة خاصة، ووضع هو المبدأ القائل بأن اليهود على بكرة أبيهم قد فرضت عليهم العبودية الأبدية لأنهم صلبوا عيسى(133)، ثم كرر في ساعة كان فيها أرق مزاجاً الأوامر البابوية التي تحرم إرغام اليهود على ترك دينهم وقال: "لا يحق لمسيحي أن يؤذي اليهود في أجسامهم... أو يسلبهم أملاكهم... أو يتسبب في إقلاقهم أثناء الاحتفال بأعيادهم... أو يبتز منهم المال بتهديدهم بإحراق موتاهم(134). وأعفى جريجوري التاسع منشئ محكمة التفتيش اليهود من إجراءاتها أو اختصاصها إلا إذا حاولوا تهديد المسيحيين، أو ارتدوا إلى الدين اليهودي بعد أن تنصروا(135)، ونبذ إنوسنت الرابع (1247) القصة القائلة بأن من شعائر اليهود ذبح أطفال المسيحيين وقال:

لقد ابتدع بعض القساوسة، والأمراء، والنبلاء، وكبار الأشراف... أساليب تتنافى مع الدين ضد اليهود خداعاً منهم وتضليلاً، فحرموهم بلا حق من أملاكهم قوة واقتداراً، واستولوا عليها لأنفسهم، واتهموهم زوراً وبهتاناً بأنهم يقتسمون فيما بينهم في يوم عيد الفصح اليهودي، قلب غلام مذبوح... والحق أنهم في حقدهم يعزون إلى اليهود كل حادث قتل أياً كان المكان الذي يقع فيه. وبسبب هذه التهم المختلفة وأمثالها تمتلئ قلوبهم غلاً على اليهود، فينهبون أموالهم... ويضطهدونهم بتجويعهم وسجنهم، وتعذيبهم، وإيذائهم بغير تلك الوسائل، ويقضون عليهم أحياناً بالإعدام، وبذلك أصبحت حال اليهود أسوأ مما كان عليه آباؤهم تحت حكم الفراعنة، وإن كانوا يعيشون الآن تحت حكم أمراء مسيحيين. وهم لهذا يضطرون إلى مغادرة البلاد التي عاش فيها آباؤهم من أقدم العهود التي يذكرها الإنسان. وإذ كان يسرنا ألا يلحقهم أذى، فإنا نأمركم أن تعاملوهم معاملة ودية رقيقة؛ فإذا وصل إلى علمكم نبأ اعتداء ظالم وقع عليهم، فردوا عنهم ما لحقهم من أذى، ولا تسمحوا بأن يصيبهم مثل هذا الظلم في المستقبل(137). غير أن هذه الدعوة النبيلة لم تلق إلا أذناً صماء، واضطر جريجوري العاشر في عام 1272 أن يكرر ما جاء فيها من تنديد بقصة قتل أطفال المسيحيين استجابة لبعض الشعائر الدينية اليهودية، وأراد أن يزيد أقواله قوة وتأثيراً فقرر ألا تقبل شهادة مسيحي على يهودي إلا إذا عززها يهودي. وإن ما أصدره البابوات بعد هذا العهد حتى عام 1763 من أوامر مماثلة لهذا الأمر ليشهد بما كانت تمتلئ به قلوب البابوات من شفقة وإنسانية كما تشهد بأن هذا الشر لم تجتث جذوره. ومما يدل على أن البابوات كانوا مخلصين في دعوتهم ما كان يستمتع به اليهود في الدويلات البابوية من طمأنينة إذا قيست حالهم بحال بني دينهم في غير هذه الدويلات، ونجاتهم النسبية من الاضطهاد. ذلك أنهم لم يطردوا قط من روما أو من أفنيون البابوية مثل ما طردوا في أوقات مختلفة من كثير من البلاد؛ وفي ذلك يقول مؤرخ يهودي عالم: "لولا الكنيسة الكاثوليكية لما بقي لليهود وجود في أوربا بعد العصور الوسطى"(139).

وكان اضطهاد اليهود بقوة في أوربا أثناء العصور الوسطى متقطعاً؛ فقد جرى الأباطرة البيزنطيون مائتي عام على خطة العسف التي جرى عليها جستنيان ضد اليهود، وطردهم هرقل من أورشليم عقاباً لهم على ما قدموا للفرس من معونة، وبذل كل ما في وسعه لإبادتهم، وحاول ليو الإسوري Leo the Isaurian أن يفند الإشاعة القائلة بأن اليهودي بقرار أصدره عام 723 يخير فيه اليهود البيزنطيين بين اعتناق الدين المسيحي أو النفي، فمن اليهود من خضع لهذا القرار ومنهم من أحرقوا أنفسهم في معابدهم مفضلين هذا على الخضوع له. وواصل باسيل الأول Basil (867-886) الحملة القاضية بإرغام اليهود على التعميد، وطالب قسطنطين السابع (912-959) اليهود بأن يقسموا أمام المحاكم المسيحية ويميناً مذلة ظلت باقية في أوربا حتى القرن التاسع عشر(141).

ولما دعا البابا إربان Urban الثاني إلى الحرب الصليبية الأولى في عام 1095 ظن بعض المسيحيين أنه يحسن بهم أن يقتلوا يهود أوربا قبل أن يخرجوا لقتال الأتراك في أورشليم، فلما قبل جدفري البويلوني Gosfrey of Bouillon قيادة الحملة أعلن أنه سيثأر لدماء المسيح من اليهود ولن يترك واحداً منهم حياً، وجهر رفاقه بعزمهم على أن يقتلوا كل من لا يعتنق المسيحية من اليهود. وقام أحد الرهبان يثير حماسة المسيحيين أكثر من هذا فأعلن أن نقشاً على الضريح المقدس في أورشليم يجعل تنصير جميع اليهود فريضة أخلاقية على جميع المسيحيين(142). وكانت خطة الصليبيين أن يزحفوا جنوباً بمحاذاة نهر الرين حيث توجد أغنى مواطن اليهود في أوربا الشمالية. وكان يهود ألمانيا قد اضطلعوا بدور رئيسي في إنماء تجارة نهر الرين وانتهجوا خطة حميدة من الصلاح وضبط النفس أكسبتهم احترام المسيحيين عامتهم ورجال دينهم على السواء. وكان الأسقف رودجر الأسبيري R(diger of Speyer ذات صلة وثيقة بيهود أبرشيته، وقطع لهم عهداً يضمن لهم استقلالهم وسلامتهم، وأصدر الإمبراطور هنري الرابع في عام 1095 عهداً مماثلاً لهذا العهد لجميع اليهود المقيمين في مملكته(143)، لذلك وقعت أنباء الحرب الصليبية، والطريق الذي قررت إتباعه، وتهديدات زعائمها، وقع الصاعقة على تلك الجماعات اليهودية الآمنة المسالمة، فتملكهم الرعب حتى شل تفكيرهم، ودعا أحبارهم إلى الصوم والصلاة عدة أيام.

ولما وصل الصليبيون إلى أسبير جروا أحد عشر يهودياً إلى إحدى الكنائس وأمروهم أن يقبلوا التعميد، فلما أبوا قتلوهم عن آخرها (3 مايو سنة 1096)، ولجأ غيرهم من يهود المدينة إلى الأسقف جوهنسن Johannsen، فلم يكتف هذا الأسقف بحمايتهم، بل أمر بقتل عدد من الصليبيين الذي اشتركوا في مقتله الكنيسة. ولما اقترب بعض الصليبيين من تريير Trier استغاث من فيها من اليهود بالأسقف إجلبرت Egilbert، فعرض عليهم أن يحميهم على شريطة أن يعمدوا، ورضى معظم اليهود بهذا الشرط، ولكن بعض النساء قتلن أطفالهن وألقين بأنفسهن في نهر الموزل Moselle (أول يونية سنة 1096). وفي مينز خبأ روتارد Ruthard كبير الأساقفة 1300 يهودي في سراديبه، ولكن الصليبيين اقتحموها عليهم وقتلوا منهم 1014، واستطاع الأسقف أن ينقذ عدداً قليلاً منهم بإخفائهم في الكنيسة الكبرى (27 مايو سنة 1096)، وقبل التعميد أربعة من يهود مينز، خبأ المسيحيون اليهود في منازلهم، وأحرق الغوغاء الحي اليهودي، وقتلوا من وقع في أيديهم من اليهود القلائل، فما كان من الأسقف هرمان Hermann إلا أن نقل اليهود سراً من مخابئهم عند المسيحيين إلى منازل المسيحيين في الريف وعرض بذلك حياته هو لأشد الأخطار. وكشف الحجاج الصليبيون هذه الحيلة، وصادوا فريستهم في القرى وقتلوا كل من عثروا عليه من اليهود (يونية سنة 1096) وكان عدد من قتلوا في إحدى القرى مائتي يهودي؛ وحاصر الغوغاء اليهود في أربع قرى أخرى، فقتل اليهود بعضهم بعضاً، مفضلين هذا على التعميد، وذبحت الأمهات من ولدن من الأطفال في أثناء هذه الاعتداءات وقت مولدهم. وفي وورمز أخذ الأسقف ألبرانشز Alebranches من استطاع أن يأخذهم من اليهود إلى قصره وأنقذ حياتهم، أما من لم يستطع أخذهم فقد هاجمهم الصليبيون هجوماً خالياً من كل رحمة. فقتلوا الكثيرين منهم، ثم نهبوا بيوت اليهود وأحرقوها، وفيها انتحر كثيرون من اليهود مفضلين الموت على ترك دينهم. ثم حاصرت جماعة من الغوغاء مسكن الأسقف بعد سبعة أيام، وأبلغ الأسقف اليهود أنه لم يعد في وسعه أن يصد أولئك الغوغاء، وأشار عليهم بقبول التعميد، وطلب إليه اليهود أن يتركوا وشأنهم لحظة قصيرة، فلما عاد السقف وجدهم جميعاً إلا قليلاً منهم قد قتل بعضهم بعضاً، ثم اقتحم المحاصرون الدار وقتلوا الباقين أحياء، وبلغ مجموع من قتل في مذبحة وورمز (20 أغسطس سنة 1096) نحو ثمانمائة من اليهود. وحدثت مذابح مثلها في متز Metz ورنجزبرج Regensburg وبراهة Prague(144).

وأنذرت الحرب الصليبية الثانية بأنها ستفوق الحرب الأولى من هذه الناحية، فق أشار بطرس المبجل Peter The Venerabie، القديس رئيس دير كلوني Cluny على لويس السابع ملك فرنسا أن يبدأ بمهاجمة اليهود الفرنسيين، وقال له: "لست أطالبك بأن تقتل أولئك الخلائق الملاعين... لأن الله لا يريد محوهم من الوجود، ولكنهم يجب أن يقاسوا أشد ألوان العذاب كما قاساه قائين قاتل أخيه، ثم يبقوا ليلاقوا هواناً أقسى من العذاب، وعيشاً أمر من الموت"(145).

واحتج سوجر Suger رئيس دير سانت دنيس St. Denis على هذا الفهم الخاطئ للمسيحية، واكتفى لويس التاسع، بفرض ضرائب باهظة على أغنياء اليهود؛ غير أن اليهود الألمان لم يخرجوا من هذه المحن بالمصادرة وحدها، فقد خرج راهب فرنسي يدعى رودلف من ديره بغير إذن، وأخذ يدعو إلى ذبح اليهود في ألمانيا. وفي كولوني قُتل شمعون "التقي" وبترت أطرافه، وفي أسبير عذبت امرأة على العذراء لكي يقنعوها باعتناق المسيحية. وبذل الرؤساء الدينيون مرة أخرى كل ما في وسعهم لحماية اليهود، فأعطاهم الأسقف آرناند أسقف كولوني قصراً حصيناً يجتمعون فيه وأجاز لهم أن يتسلحوا؛ وامتنع الصليبيون عن مهاجمة الحصن، ولكنهم قتلوا كل من في أيديهم من اليهود الذين لم يعتنقوا المسيحية. وأدخل هنري كبير أساقفة مينز في بيته يهودا كان الغوغاء يطاردونهم، ولكن الغوغاء اقتحموا البيت وقتلوهم أمام عينيه. واستغاث كبير الأساقفة بالقديس برنارد St. Bernard أعظم المسيحيين سلطاناً في أيامه، وأجاب برنارد بأن ندد برودلف تنديداً شديداً وطلب أن يوضع حد لأعمال العنف الموجهة إلى اليهود. ولما واصل رودلف حملته عليهم جاء برنارد بنفسه إلى ألمانيا وأرغم الراهب على العودة إلى الدير. ولما أن جدت جثة أحد المسيحيين بعد ذلك بقليل مشوهة في ورزبرج Wurzburg؛ اتهم المسيحيون اليهود بأنهم هم الفاعلون، وهاجموهم رغم احتجاج الأسقف أمبيكو Embicho وقتلوا عشرين منهم، وعني المسيحيون بكثيرين غيرهم أصابتهم جروح في هذا العدوان منهم (1147)، ودفن الأسقف القتلى في حديقته(146). وعادت إلى فرنسا فكرة بدء الحرب الصليبية في بلاد المسيحيين قبل انتقالها إلى الشرق، وذبح اليهود في كارنتان Carentan، ورامرو Rameru، وسلي Sully. وفي بوهيميا ذبح الصليبيون 150 يهودياً، ولما أن انتهت موجة الذعر بذل رجال الدين المسيحيون المحليون كل ما في وسعهم لمساعدة من يقوا أحياء من اليهود، وأجيز لمن قبلوا التعميد مرغمين أن يعودوا إلى الدين اليهودي، دون أن توقع عليها عقوبات الردة القاسية(147).

وكانت هذه المذابح إيذاناً بسلسلة من الهجمات الطويلة العنيفة لا تزال باقية إلى هذه الأيام. من ذلك أن حادثة قتل وقعت في بادن Baden عام 1235 ولم يعرف مرتكبها اتهم بها اليهود، فأدى ذلك إلى مذبحة منهم؛ وفي عام 1243 حرق جميع اليهود سكان بلتز Beltz القريبة من برلين وأهم أحياء بحجة أن بعضهم قد دنسوا خبزاً للتقدمة مقدساً(148). وفي عام 1283 أثيرت في مينز فكرة ذبح أطفال المسيحيين في بعض الشعائر اليهودية، وقتل عشرة من اليهود ونهبت البيوت اليهودية على الرغم مما بذله ورنر كبير الأساقفة من جهود. وفي عام 1285 أهاجت مثل هذه الشائعة أهل ميونخ Munich، ولجأ 180 يهودياً إلى كنيس لهم، فأشعل فيه الغوغاء النار، واحترق المائة والثمانون بأجمعهم. وبعد عام من ذلك الوقت قتل أربعون يهودياً في أبرويزل Oberwesel بحجة أنهم امتصوا دماء مسيحي، وفي عام 1298 حرق كل يهودي في روتنجن Rottingen حتى قضى نحبه بحجة أن بعضهم قد دنس الخبز المقدس. ونظم رندفلشخ Rindfleisch وهو بارون متمسك بدينه جماعة من المسيحيين الذين أقسموا أن يقتلوا جميع اليهود وأمدهم بالسلاح، وأبادوا جميع الجالية اليهودية في ورزبرج، وذبحوا 698 يهودياً في نورمبرج Nuremerg، ثم انتشرت موجة الاضطهاد فلم يمض إلا نصف عام حتى محي 140 كنيساً يهودياً(149). وملأ اليأس بعد هذه الاعتداءات المتكررة يهود قلوب ألمانيا، وكانوا قد أعادوا تنظيم جماعاتهم مراراً وتكراراً، فغادرت أسر يهودية كثيرة مينز، وورمز، وأسبير، وغيرها من المدن الألمانية وهاجرت إلى فلسطين لتعيش في بلاد المسلمين. وإذا كانت بولندة ولتوانيا تطلبان الهجرة إليها، ولم تكن قد حدثت فيهما مذابح حتى ذلك الوقت، فقد بدأت هجرة بطيئة من يهود بلاد الرين إلى بلاد القالبة في شرقي أوربا.

وأضحى اليهود في إنجلترا تجاراً ورجال مال بعد أن حرم عليهم تملك الأرض والانضمام إلى نقابات الصناع. ومنهم من أثروا من الربا وأصبحوا على بكرة أبيهم موضع الكراهية لأكله. وقد استعان الأشراف ملاك الأرض وأتباعهم على التسلح للحروب الصليبية بالمال المقترض من اليهود، ورهنوا لهم في نظير هذا المال ريع أرضيهم، واستشاط الزارع المسيحي غيظاً لرؤيته المرابين يثرون من كدحه. وحدث في عام 1144 أن وجد الشاب وليم من أهل نروخ Norwich قتيلاً، واتهم اليهود بمقتله لاستعمال دمه، وهوجم الحي اليهودي في المدينة ونهب وأحرق(150). وحمى الملك هنري الثاني اليهود، وحذا حذوه هنري الثالث، ولكنه جمع منهم 422.000 جنيه ضرائب وقروضاً أخرى على رؤوس أموالهم في سبع سنين. وحدثت في الاحتفال بتتويج رتشرد الأول في إنجلترا (1190) مشاحنة تافهة شجعها الأشراف الذين يريدون أن يتخلصوا مما عليهم من ديون لليهود(151)، فتطورت إلى مذبحة امتدت إلى لنكولن Lincoin، واستامفورد Stamford، ولن Linn. وقتل الغوغاء 350 منهم في مدينة يورك في العام نفسه وكان يقودهم رتشرد دي ملابستيا Richard de Malabestia، وكان مستغرقاً في الدين لليهود. ثم قام مائة وخمسون من يهود يورك يتزعمهم الحبر توم طوب Tom Tob بقتل أنفسهم(153). وفي عام 1211 غادر ثلاثمائة من أحبار اليهود إنجلترا وفرنسا ليبدءوا حياة جديدة في فلسطين، وبعد سبع سنين من ذلك العام هاجر كثيرون من اليهود حين نفذ هنري الثالث أمر الشارة اليهودية. وفي عام 1255 راجت شائعة في أنحاء لنكولن تقول إن غلاماً يدعى هيو Hugh قد أغرى بدخول الحي اليهودي، ثم جلد، وصلب، وطعن بحربة، بحضور جمع من اليهود المبتهجين. وعلى أثر هذه الشائعة هاجمت عصابات مسلحة مقر اليهود، وقبضت على الكوهن الذي قيل إنه كان على رأس الاحتفال، وشدوه إلى ذيل جواد، وجروه في الشوارع، ثم شنقوه. ثم قبض على واحد وتسعين يهودياً وشنق منهم ثمانية عشر، ونجا كثير من المسجونين بفضل تدخل جماعة من الرهبان الدمنيكيين البواسل . وأفلتت الجماهير من أيدي ولاة الأمور في أثناء الحرب الأهلية التي نشرت الاضطراب في إنجلترا بين عامي 1257، 1267، وكادت المذابح أن تمحو من الوجود يهود لندن، وكنتربري Canterbury، ونورثمبتن Northampton، وونشستر Winchtester، وورسستر Woecester، ولنكولن، وكيمبردج، فنهبت بيوتهم ودمرت، وأحرقت العقود، والسفاتج، وأصبح من بقوا أحياء من اليهود لا يملكون شروى نقير(155). وكان ملوك الإنجليز وقتئذ يقرضون المال من أصحاب المصارف المسيحيين في فلورنس وكاهورس Cahors، وأصبحوا في غير حاجة إلى اليهود، ومن ثم وجدوا أن من الصعب عليهم حمايتهم. ولهذا أمر إدوارد الأول من كان باقياً في إنجلترا من اليهود وكانوا حوالي 16000 يهودي أن يغادروا البلاد قبل أول نوفمبر من ذلك العام، وأن يتركوا وراءهم جميع أملاكهم الثابتة وما يمكن استرداده من الديون. وعرق الكثيرون منهم في القناة الإنجليزية التي أرادوا أن يعبروها في قوارب صغيرة، وسرق ملاحو السفن متاعهم وأموالهم، فلما وصل بعضهم إلى فرنسا أبلغتهم الحكومة الفرنسية أن عليهم أن يغادروا البلاد قبل بداية الصوم الكبير من عام 1291(156).

وفي فرنسا أيضاً تبدلت الحالة النفسية بالنسبة لليهود حين قامت الحروب الدينية على الأتراك في آسية، والملاحدة الألبجنسين Albigensian في النجويدك Languedoc. فقام الأساقفة يلقون الخطب الدينية المثيرة للنفوس، وكان من الشعائر المعتادة في بزيير أيام أسبوع الآلام أن يهاجم الغوغاء الحي اليهودي، وأخيراً دعا أحد رجال الدين المسيحيين في عام 1160 بالكف عن هذه المواعظ الدينية، ولكنه طلب إلى الجالية اليهودية أن تؤدي ضريبة خاصة في أحد السعف من كل عام(157). وفي طلوشة (طولوز) أرغم اليهود على أن يبعثوا بممثل لهم إلى الكنيسة في يوم الجمعة الحزينة من كل عام ليتلقى صفعة على أذنه لتكون بمثابة تذكرة لهم خفيفة بخطيئتهم الأبدية(158). وفي عام 1171 أحرق عدد من اليهود في بلوا Blois بحجة استخدامهم دماً مسيحياً في شعائر عيد الفصح اليهودي(159). ورأى الملك فيليب أغسطس الفرصة سانحة ليبتز منهم المال محتجاً بالدين، فأمر بأن يسجن جميع من في مملكته من اليهود لأنهم يسممون آبار المسيحيين(160)، ثم أمر بالإطلاق سراحهم بعد أن افتدوا أنفسهم بمال كثير (1180)، غير أنه طردهم من البلاد بعد عام واحد، وصادر جميع أملاكهم الثابتة، وأهدى معابدهم للمسيحيين. وفي عام 1190 أمر بقتل ثمانين يهودياً في أورنج Orange لأن ولاة الأمور في المدينة شنقوا أحد عماله لقتله أحد اليهود(161)، ثم استدعى اليهود إلى فرنسا في عام 1198 ونظم أعمالهم المصرفية تنظيماً يضمن به لنفسه أرباحاً طائلة(162). وفي عام 1236 دخل الصليبيون المسيحيون الأحياء اليهودية في أنجو Anjou وبواتو Poitou-وبخاصة ما كان منها في بوردو Bordeaux وأنجوليم Angoul(me-وأمروا بأن يعمد اليهود جميعاً، فلما أبوا داسوا بحوافر خيولهم ثلاثة آلاف منهم حتى قضوا نحبهم(163). وندد البابا جريجوري التاسع بهذه المذبحة، ولكنه لم ينج اليهود من الموت. وأشار القديس لويس على رعاياه بألا يجادلوا اليهود في أمور الدين، وقال لجوانفيل Joinville إن من واجب كل شخص من غير رجال الدين: "إذا سمع إنساناً يذكر الدين المسيحي بما لا يليق أن يدافع عنه بالسيف لا باللفظ، ينفذه في بطن الآخر إلى أبعد مدى ينفذ فيه(164). وفي عام 1254 نفى اليهود من فرنسا، وصادر أملاكهم ومعابدهم، ثم عاد فسمح بدخولهم إياها، ورد إليهم معابدهم، وبينما كانوا يعيدون بناء جماعاتهم إذ أمر فيليب الجميل Philip the Fair (1306) بسجنهم، وصادر ما كان لهم من ديون، وجميع ما كان لهم من متاع لم يستثن إلا ما كان عليهم من الثياب، ثم طردهم جميعاً من فرنسا وكانوا يبلغون مائة ألف، ولم يسمح لهم بأكثر مما يكفيهم من الطعام يوماً واحداً. وقد بلغ ربح الملك من عمله هذا قدراً أغراه بأن يهدي معبداً يهودياً إلى سائق عربته(165).

وهكذا تجمعت طائفة متقاربة من الحوادث الدموية دامت نحو مائتي عام تكونت منها صورة ذات وجه واحد. ولم يقع على اليهود في برفانس Provence، وإيطاليا، وصقلية، والإمبراطورية البيزنطية بعد القرن التاسع إلا حوادث اضطهاد صغرى، واستطاعوا وقاية أنفسهم مها بالالتجاء إلى أسبانيا المسيحية، وكانت فترات الطمأنينة حتى في إنجلترا، وألمانيا، وفرنسا طويلة، وكان اليهود يكثرون مرة أخرى ويثري بعضهم بعد كل مأساة تنزل بهم. غير أن قصصهم كانت تنقل إليها ما كان لهذه الفترات المحزنة من ذكريات مُرة، وكانت أيام السلام مليئة بخوفهم من خطر المذابح الذي لا ينفك يهددهم، وكان على كل يهودي أن يحفظ عن ظهر قلب الدعاء الواجب عليه أن يتلوه في ساعة الاستشهاد(166). وكانت حمى السعي إلى جمع المال ترتفع حرارتها بقدر ما كان يحيق بكسبه من أخطار، وكان لابسو الشارة الصفراء يقابلون في الطرقات بسخرية الساخرين على الدوام، كما كان يحيق بهذه الأقلية المنعزلة العديمة الحول والطول تحقير يحز في نفوسها وبذل من كبرياء أفرادها ويقطع ما بينها وبين العناصر الأخرى من مودّة، ويترك في أعين يهود الشمال تلك النظرة المعروفة بأحزان اليهود Judenschmerz التي تذكرهم بعشرات المئات من الإهانات والاعتداءات ألا ما أكثر من صلبوا انتقاماً لحادث صلب وحيد!