قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 3 ب 15

صفحة رقم : 4819

قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة اليهودية -> التلمود -> النفي


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الثالث: الحضارة اليهودية 135- 1300

الباب الخامس عشر: التلمود

الفصل الأول: النفي 135-565

بين بلاد الإسلام والمسيحية كان يعيش شعب عجيب احتفظ في خلال كل ما مر به من الشدائد بثقافته الخاصة يعزيه ويلهمه دينه الخاص، ويعيش على هدى شريعته ومبادئه الأخلاقية، ويخرج من بينه شعراؤه، وعلماؤه وأدباؤه، وفلاسفته، وينقل البذور الخصبة بين عالمين متعاديين.

ولم تكن فتنة باركوزشيه Bar Cohebs (132-153) آخر الجهود التي بذلها اليهود ليستعيدوا حريتهم التي قضى عليها بمبي وتيتس Titus. فقد أعادوا الكرة لاستخلاصها في عهد أنطونينس بيوس Antoninus Pius (135-161) وأخفقوا في محاولتهم وحرم عليهم أن يدخلوا المدينة المقدسة إلا في يوم تلك الذكرى المؤلمة، ذكرى تدميرها، فقد كان يسمح لهم نظير جعل معين أن يأتوا إليها ليندبوا ويبكوا أمام جدران الهيكل المهدم. وكان سكان فلسطين التي خرب من مدائنها في فتنة باركوزيبة 985 حتى محيت من الوجود، وقتل من أهلها 580.000 رجل وامرأة قد نقص إلى نصف ما كان عليه من قبل، وانحط الباقون إلى درجة من النماقة كادت الحياة الثقافية معها ألا يبقى لها أثر. ومع هذا فإنه لم يكد يمضي على فتنة باركوزيبة جيل واحد حتى أنشئ في طبرية بيت الدين، أي المجلس اليهودي القومي-وهو هيئة مؤلفة من واحد وسبعين من العلماء الأحبار والمشترعين-وافتتحت المعابد والمدارس ودب الأمل مرة أخرى في النفوس.

غير أن فوز المسيحية قد صحبته متاعب جديدة. ذلك أن قسطنطين كان قبل أن يعتنق المسيحية قد سوى من الوجهة القانونية بين الدين اليهودي وبين سائر الأديان التي يدين بها غيرهم من رعاياه. أما بعد اعتناقه المسيحية فقد اضطهد اليهود وفرض عليهم قيوداً ومطالب جديدة، وحرم على المسيحيين أن يتصلوا بهم(1). ونفى قسطنطين أحبارهم (337) وجعل زواج اليهودي من مسيحية جريمة يعاقب مرتكبها بالإعدام(2) وفرض جالوس Gallus أخو قسطنطين على اليهود من الضرائب الفادحة ما اضطر الكثيرين منهم إلى أن يبيعوا أبناءهم ليوفوا بمطالبه منهم. وثار اليهود مرة أخرى في عام 332 وأخمدت ثورتهم ودكت صبورى دكاً، وخربت أجزاء من طبرية وغيرها من المدن، وقتل آلاف من اليهود، واستعبد آلاف آخرون. وبلغت حال اليهودي الفلسطيني وقتئذ (359) درجة من الانحطاط، كما بلغ الاتصال بينهم وبين غيرهم من الجماعات اليهودية درجة من الصعوبة، اضطر معهما حاخامهم هلل الثاني أن ينزل عما كان ليهود فلسطين من الحق في أن يحددوا لجميع اليهود تواريخ أعيادهم، وأصدر لهم تقويما يحددون هم بمقتضاه تواريخ هذه الأعياد مستقلين عن يهود فلسطين، ولا يزال هذا التقويم الذي أصدره هلل معمولاً به إلى اليوم لدى اليهود في جميع أنحاء العالم.

فلما ارتقى يوليان عرش الإمبراطورية أنقذ اليهود إلى أجل قصير من هذا التعذيب. فقد خفض هذا الإمبراطور الضرائب المفروضة عليهم، وألغى القوانين التي تجعلهم أقل منزلة من غيرهم، وأطرى الصدقات العبرانية، واعترف بأن يهوه "إله عظيم". وسأل زعماء اليهود عن سبب امتناعهم عن الضحايا الحيوانية؛ فلما أجابوه بأن شريعتهم تحرم عليهم هذه التضحية إلا في هيكل أورشليم أمر أن يعاد بناء الهيكل من مال الدولة(3). وأعيد فتح أورشليم لليهود فهرعوا إليها من جميع أنحاء فلسطين ومن كل ولاية في الإمبراطورية، وسخر الرجال والنساء والأطفال جهودهم لإقامة البناء، وتبرعوا بحليهم وما ادخروه من أموالهم لتأثيث الهيكل الجديد(4)، وفي وسعنا أن نتصور سرور القوم الذين ظلوا مائتي عام يدعون ربهم أن يمنّ عليهم بهذا اليوم (361). ولكن بينما كانوا يحفرون الأرض لوضع الأساس إذ خرج من باطنها لهيب أحرق عدداً من العمال القائمين بالعمل(5). غير أن الناس عادوا إلى العمل من جديد-فعادت هذه الظاهرة مرة أخرى-ولعل سببها انفجار بعض الغازات الطبيعية-فأوقفت العمل وثبطت همة القائمين بالمشروع. وفرح المسيحيون إذ بدا لهم أن الله غير راض عن إعادة بناء الهيكل، وعجب اليهود من هذا وحزنوا له. ثم مات يوليان فجأة، فحبست عنهم أموال الدولة، وسنت من جديد القوانين المقيدة لهم وجعلت أشد صرامة مما كانت من قبل، وحرم على اليهود مرة أخرى دخول أورشليم، فعادوا إلى قواهم، وفقرهم، وصلواتهم. وكتب جيروم بعد قليل من ذلك الوقت يقول: إن أهل فلسطين اليهود "لا يزيدون على عُشر ما كانوا عليه من قبل"(6). وفي عام 425 ألغى ثيودوسيوس الثاني الحاخامية الفلسطينية، وحلّت الكنائس المسيحية اليونانية محل المعابد والمدارس اليهودية، وتخلت فلسطين بعد هبة قصيرة في عام 614، عن زعامة العالم اليهودي.

فهل يلام اليهود بعد هذا إذا أملوا أن تكون حالهم أحسن من هذه الحال في بلاد لا تسود فيها المسيحية سيادتها في البلاد التي يخضعون لسلطانها. فمنهم من انتقل نحو الشرق إلى أرض النهرين وإلى بلاد الفرس وقووا العنصر اليهودي البابلي الذي لم ينعدم من تلك البلاد منذ الأسر الذي حدث في عام 597 ق. م. وكانت وظائف الدولة محرمة على اليهود في بلاد الفرس أيضاً؛ ولكن هذه الوظائف كانت محرمة كذلك على جميع الفرس ما عدا طبقة الأشراف، ولذلك لم يكن هذا القيد ثقيلاً على اليهود أنفسهم(7). وقد حاقت باليهود في تلك البلاد عدة اضطهادات، ولكن الضرائب المفروضة عليهم كانت أخف عبئاً منها في غير تلك البلاد، وكانت الحكومة في الأحوال العادية تتعاون معهم، وكان ملوك الفرس يعترفون بالإجزيلارك أي زعيم الطائفة اليهودية ويجلونه. وكانت أرض العراق وقتئذ خصبة تسقيها مياه النهرين، ولذلك أضحى من فيها من اليهود زُرّاعاً أثرياء وتُجاراً ناشطين، ومنهم طائفة من بينها عدد من جلة العلماء الذائعي الصيت أثرت من عصر الجعة(8). وتضاعف عدد الجالية اليهودية في بلاد الفرس بسرعة كبيرة لأن دين الفرس كان يبيح تعدد الأزواج. وكان اليهود يتبعون هذه العادة لنفس الأسباب التي كانت تبيحها الشريعة الإسلامية. وكان الكوهنان الطيبان رب ونحمان أثناء تجوالهما يعلنان في كل مدينة يحلان بها عن رغبتهما في زوجات مؤقوتات، لكي يضربا بذلك مثلاً لشبان تلك المدن للحياة الزوجية ويبعداهم على الحياة الإباحية(9). وفي نحرديا Nehardea، وسورة، ويمبديثا أنشئت مدارس للتعليم العالي، أضحى علماؤها، وأضحت قرارات كواهنها الدينية، موضع الإجلال في جميع أنحاء البلاد التي تشتت فيها اليهود. وظل اليهود في أثناء ذلك الوقت ينتشرون في جميع البلاد الواقعة حول البحر المتوسط. فمنهم من ذهب لينضم إلى الجاليات اليهودية في بلاد الشام وآسية الصغرى، ومنهم من ذهب إلى القسطنطينية، رغم عداء أباطرة الروم وبطارقتهم، ومنهم من اتجهوا من فلسطين جنوباً إلى جزيرة العرب وعاشوا في سلام وحرية دينية مع بني جنسهم الساميين، واحتلوا في تلك البلاد أقاليم برمتها مثل خيبر، وكاد عددهم في يثرب (المدينة) يكون مساوياً لعدد العرب أنفسهم، واستمالوا إلى دينهم عدد من الأهلين، وهيئوا عقول العرب لما جاء به الإسلام من عقائد يتفق بعضها مع العقائد اليهودية. ومنهم من عبروا البحر الأحمر إلى بلاد الحبشة حيث تضاعف عددهم بسرعة حتى قيل إنهم بلغوا في عام 315 نصف سكان تلك البلاد(10). وكان اليهود يمتلكون نصف سفن الإسكندرية، وكان ثراؤهم في تلك المدينة السريعة التأثر والاهتياج مما زاد من حدة العداء الديني.

وانتشرت جاليات يهودية في جميع مدائن أفريقية الشمالية، وصقلية، وسردينية. وكان عددهم كبيراً في إيطاليا، وكان الأباطرة الوثنيون يحمونهم في العادة من الأذى، وإن كان الأهلون المسيحيون والإمبراطور ثيودريك، والبابوات يشددون عليهم النكير في بعض الأحيان. وكان في أسبانيا جاليات يهودية قبل يوليوس قيصر، ونمت تلك الجاليات دون أن يتعرض لها بأذى تحت حكم الأباطرة الوثنيين، وأثروا في عهد القوط الغربيين الآريين، ولكنهم تعرضوا للاضطهاد الميئس بعد أن اعتنق الملك ريكارد (568-601) عقائد مؤتمر نيقية. ولسنا نعرف أن اليهود تعرضوا للاضطهاد في غالة قبل أن تصدر قرارات مجلس أورليان الثالث والرابع (في عامي 538 و541) بعد أن انتصر كلوفس Clovis المسيحي المتمسك بدينه على القوط الغربيين الآريين بجيل من الزمان. وأحرق مسيحيو أورليان كنيساً يهودياً حوالي عام 560، وطلب اليهود إلى جنترام Gunthram ملك الفرنجة أن يعيد بناؤه من أموال الدولة أسوة بما فعله ثيودريك في مثل هذه الحادثة من قبل. ولما رفض جنترام هذا الطلب صاح الأسقف جريجوري التوري Gregory of Tours: "ما أعظمك أيها الملك وما أعجب حكمتك!"(11). وكان اليهود في البلاد التي انتشروا فيها ينتعشون على الدوام بعد هذه الخطوب، فكانوا يعيدون بناء معابدهم في صبر وأناة، وينظمون شئون حياتهم ويكدحون، ويتجرون، ويرابون، ويصلون، ويأملون، ويزدادون ويتضاعفون. وكان يطلب إلى كل جالية في بلد أن تقيم على نفقتها مجتمعة ما لا يقل عن مدرسة ابتدائية وأخرى ثانوية يضمهما في العادة الكنيس نفسه وكان يشار على العلماء ألا يعيشوا في بلد يخلو من هاتين المدرستين. وكانت لغة العبادة والتعليم هي اللغة العبرية، أما لغة التخاطب اليومي العادي فكانت الآرامية في بلاد الشرق، واليونانية في مصر وفي بلاد أوربا الشرقية؛ أما في غير تلك البلاد فكان اليهود يتخاطبون بلغة من يعيشون بينهم من الأهلين. وكان الدين هو الموضوع الذي يدور حول التعليم اليهودي، أما الثقافة غير الدينية فكادت في ذلك الوقت أن تهمل إهمالاً تاماً. ذلك أن اليهود المشتتين لم يكونوا يستطيعون أن يحفظوا كيانهم جسمياً وروحياً إلا عن طريق شريعتهم، وكان الدين عندهم هو دراسة هذه الشريعة والعمل بها. وكان دين آبائهم يزداد قيمة لديهم كلما زاد الهجوم عليه، وكان التلمود والكنيس الدعامتين والملجأين اللذين لا غنى عنهما لشعب حائر تقوم حياته على الرجاء ويقوم رجاؤه على الإيمان بالله.


الفصل الثاني: منشئو التلمود

كان الكهنة ورجال الدين المقيمون في المعابد والمدارس الفلسطينية والبابلية هم الذين ألفوا أسفار الشريعة الضخمة المعروفة بالتلمود الفلسطيني والتلمود البابلي. وكانوا يقولون إن موسى لم يترك فقط لشعبه شريعة مكتوبة تحتويها الأسفار الخمسة، بل ترك له أيضاً شريعة شفوية تلقاها التلاميذ عن المعلمين ووسعوا فيها جيلاً بعد جيل. وكان أهم ما ثار حوله الجدل بين الفريسيين والصدوقيين الفلسطينيين هو: هل هذه الشريعة الشفوية هي الأخرى من عند الله فهي لذلك واجبة الطاعة؟ ولما أن زال الصدوقيون بعد تشتت اليهود عام 70 م وورث رجال الدين تقاليد الفريسيين ورواياتهم قبل جميع اليهود المتمسكين بدينهم الشريعة الشفوية، وأمنوا بأنها أوامر من عند الله وأضافوها إلى أسفار موسى الخمسة، فتكونت من هذه وتلك التوراة أو الشريعة الموسوية التي استمسك بها اليهود وعاشوا بمقتضاها، وكانت حقيقة لا مجازاً هي كيانهم وقواهم وحياتهم. وإن القصة التي تروي تلك العملية الطويلة التي استغرقت ألف عام، والتي تجمعت خلالها الشريعة الشفوية، واتخذت فيها صورتها النهائية المعروفة بالمشنا؛ والقرون الثمانية التي تجمعت فيها ثمار الجدل، والأحكام، والإيضاح فكانت هي الجمارتين ليتألف منهما التلمود الفلسطيني، وإلى أطولهما ليتألف منهما التلمود البابلي-إن القصة التي تروي هذه الأحداث الثلاثة لمن أكثر القصص تعقيداً وأعظمها إثارة للدهشة في تاريخ العقل البشري. وكما كان الكتاب المقدس أدب العبرانيين الأقدمين ودينهم، كانت التوراة حياة العصور الوسطى ودماءهم.

وذلك أن أحكام الشريعة الواردة في الأسفار الخمسة أحكام مسطورة، ولهذا فإنها لم تكن تستطيع الوفاء بجميع حاجات أورشليم بعد أن فقدت حريتها، ولا اليهودية بعد أن فقدت أورشليم، ولا الشعب اليهودي في خارج فلسطين، لم تستطع الوفاء بحاجات هذه أو معالجة الظروف المحيطة بها. ومن ثم كانت مهمة علماء السَّنهدرين قبل التشتت، والأحبار بعده، هي تفسير الشريعة الموسوية تفسيراً يهتدي به الجيل الجديد والبيئة الجديدة ويفيدان منه. وتوارث المعلمون جيلاً بعد جيل تفاسير هؤلاء العلماء ومناقشاتهم وآراء الأقلية والأغلبية في موضوعاتها. على أن هذه لروايات الشفوية لم تدون، ولعل سبب عدم تدوينها أن هؤلاء العلماء أرادوا أن يجعلونها مرنة قابلة للتعديل، أو لعلهم أرادوا بذلك أن يرغموا الأجيال التالية على استظهارها. فكان في وسع الأحبار الذين أخذوا على أنفسهم تفسير الشريعة إذا اضطرتهم الظروف أن يستعينوا بمن قدروا على استظهارها. وكان الأحبار في الستة القرون الأولى بعد ميلاد المسيح يسمون "التنإم Tennaim" أي "معلمي الشريعة" وإذ كانوا هم وحدهم المتضلعين فيها، فقد كانوا هم المعلمين والقضاة بين يهود فلسطين بعد تدمير الهيكل.

وكان أحبار فلسطين وأحبار اليهود "المشتتين أرستقراطية فذة لا مثيل لها في التاريخ. ذلك أن هؤلاء الأحبار لم يكونوا طبقة وراثية أو مغلقة مقصورة على طائفة خاصة من الناس، بل إن الكثيرين منهم قد ارتقوا من أفقر الطبقات، وكان معظمهم يكسبون قوتهم بالعمل في الصناعات المختلفة حتى بعد أن أصبحوا من ذوي الشهرة العالمية، وظلوا إلى ما يقرب من أخريات تلك الفترة التي نتحدث عنها لا يعطون أجوراً على قيامهم بالتدريس أو بأعمال القضاء وكان الأثرياء يجعلونهم في بعض لأحيان شركاء غير عاملين في مشروعاتهم المالية والتجارية، أو يؤوونهم في بيوتهم، أو يزوجونهم من بناتهم، ليوفروا عليهم عناء الكد لكسب قوتهم. ومنهم من عدد قليل أفسدهم ما كان لهم من المنزلة الرفيعة بين أبناء دينهم، ومنهم كانوا كسائر الخلق يغضون، ويغارون، ويحقدون، ويسرفون في النقد، ويتكبرون. ومنهم من كان لا بد لهم أن يذكروا أنفسهم المرة بعد المرة أن العالِم بحق رجل متواضع، لأن الحكيم يرى الجزء في ضوء الكل إن لم يكن لغير ذلك من الأسباب. وكان الناس يحبونهم لفضائلهم ولعيوبهم، ويعجبون بهم لعلمهم وتقواهم، ويروون ألف قصة وقصة تنبئ عن حكمتهم ومعجزاتهم. وقد ظل اليهود إلى يومنا هذا يجلون طلاّب العلم والعلماء كما لا يجلهم شعب آخر في العالم كله. ولما كثرت قرارات الأحبار وتضاعفت أصبحت مهمة استظهارها شاقة غير معقولة. ولذلك حاول هلل وعقيبا Akiba ومإير Meir مراراً عدة أن يصنفوها ويستعينوا على استظهارها ببعض الأساليب والرموز، ولكن هذه التصانيف والرموز والحيل لم يحظ شيء منها بالقبول من جمهرة اليهود. وكانت نتيجة هذا أن أصبح الاضطراب في نقل الشريعة هو القاعدة العامة، ونقص عدد من يحفظون الشريعة كلها عن ظهر قلب نقصاً مروعاً، وكان مما زاد الطين بلة أن تشتت اليهود قد نشر هذه القلة في أقطار نائية. وحوالي عام 189 تابع الحبر يهودا هنسيا Jehuda Hansia في قرية صبورة بفلسطين عمل عقيبا مإير، وعدله، وأعاد ترتيب الشريعة الشفوية بأكملها، ثم دونها، وزاد عليها إضافات من عنده، فكانت هي "مشنا الحبر يهودا" وانتشرت هذه بين اليهود انتشاراً أصبحت معه بعد زمن ما هي المشنا، والصورة المعتمدة لشريعة اليهود الشفوية.

والمشنا (أي التعاليم الشفوية) كما نعرفها اليوم هي الصورة النهائية لطبعات مختلفة كثيرة وحواشي متعددة أدخلت عليها من أيام يهوذا إلى الآن. ولكنها مع هذا خلاصة مدمجة محكمة، وضعت لكي تحفظ عن ظاهرة قلب بكثرة التكرار؛ ولهذا فإن من يقبل على قراءتها يرى أن عباراتها المحكمة الجامعة الغامضة تعذب قارئها بما تبعثه في نفسه من الآمال الخادعة اللهم إلا إذا كان هذا القارئ ملماً بحياة اليهود وتاريخهم. وقد قبلها يهود بابل وأوربا كما قبلها يهود فلسطين، ولكن كل مدرسة فسرت أمثالها وحكمها تفسيراً يخالف ما فسرتها به الأخرى، وجمعت ستة أجيال (220-500 م) من أحبار الأمورائم (الشراح) هاتين الطائفتين الضخمتين من الشروح وهما الجمارا الفلسطينية والبابلية، كما اشتركت من قبل ستة أجيال (10-220 م) من الأحبار التنإم في صياغة المشنا. وبذلك فعل المعلمون الجدد بمشنا يهودا ما فعله التنإم بالعهد القديم: فتناقشوا في النص، وحللوه، وفسروه، وعدلوه، ووضحوه لكي يطبقوه على المشاكل الجديدة، وعلى ظروف الزمان والمكان. ولما قارب القرن الرابع على الانتهاء نسقت مدارس فلسطين شروطها وصياغتها في الصورة المعروفة بالجمارا الفلسطينية. وشرع الكوهن رب آشي رئيس جامعة سورا حوالي ذلك الوقت في تقنين الجمارا البابلية وظل يواصل العمل في ذلك التقنين جيلاً من الزمان. وأتمه ربينا الثاني بار (ابن) شمويل، وهو أيضاً من جامعة سورا بعد مائة عام من ذلك الوقت (499).

وإذا ذكرنا أن الجمارا البابلية أطول من المشنا إحدى عشر مرة، بدأنا نعرف لم استغرق جمعها مائة عام كاملة. وظل الأحبار السبورائم (الناطقة) مائة وخمسين سنة أخرى (500-650) يراجعون هذه الشروح الضخمة، ويصقلون التلمود البابلي الصقل الأخير. بقي أن نقول أن لفظ التلمود يعني التعليم. ولك يكن الأمورائم يطلقون اللفظ إلا على المشنا. أما في الاستعمال الحديث فهو يشمل المشنا والجمارا.. والمشنا في التلمود البابلي هي بعينها مشنا التلمود الفلسطيني، ولا يختلف التلمودان إلا في الجمارا أو الشروح فهي في التلمود البابلي أربعة أمثالها في التلمود الفلسطيني . ولغة الجمارا البابلية والجمارا الفلسطينية هي الآرامية أما لغة المشنا فهي اللغة العبرية الجديدة تتخللها ألفاظ كثيرة مستعارة من اللغات المجاورة.

وتمتاز المشنا بالإيجاز، فهي تعبر عن القانون الواحد بقليل من السطور، أما الجماريان فتتبسطان عن قصد وتعمد، وتذكران مختلف آراء كبار الأحبار عن نصوص المشنا وتصفان الظروف التي قد تتطلب تعديل القانون وتضيفان كثيراً من الإيضاحات. ومعظم المشنا نصوص قانونية وقرارات (هَلَكا)، أما الجماريان فبعضهما هلكا-إعادة نص قانون أو بحثه-وبعضها هجدة (قصص). وقد عرفت الهجدة تعريفاً غير دقيق بأنها كل ما ليس هلكا في التلمود. وأكثر ما تسجله الهجدة هو القصص، والأمثلة الإيضاحية. وأجزاء من السير، والتاريخ، والطب، والفلك، والتنجيم، والسحر، والتصوف، والحث على الفضيلة، والعمل بالشريعة، وكثيراً ما تروج الهجدة عن نفس الطلاّب المتعلمين بعد جدل معقد متعب. ومثال ذلك ما يأتي: بينما كان رب أمي ورب أسى يتحدثان مع الكوهن إسحق منجا إذ قال له أحدهما: "احك لنا يا سيدي قصة لطيفة"، وقال الآخر: "لا بل أرجوك أن تفسر لنا بدلاً من هذا نقطة دقيقة من النقاط القانونية".. فلما بدأ القصة أغضب أحدهما، ولما أخذ يشرح النقطة القانونية أغضب الآخر. فلما رأى ذلك ضرب لهما هذا المثل: "إن مثلي معكما كمثل رجل تزوج باثنتين إحداهما شابة والأخرى عجوز، فاقتلعت الزوجة الشابة جميع شعره الأشيب حتى يبدو شاباً، واقتلعت الزوجة العجوز جميع شعره الأسود حتى يبدو عجوزاً، وكانت نتيجة فعلهما هذا أن أصبح الرجل أصلع"(13).


الفصل الثالث: الشريعة

فإذا حاولنا الآن على الرغم من جهلنا بالموضوع عامة أن نصور باختصار مخل كريه، بعض مناحي هذا التلمود الضخم، الذي تتأثر به كل صغيرة وكبيرة من حياة العبرانيين في العصور الوسطى، إذا حاولنا هذا وجب علينا أن نقر من بداية الأمر أننا إنما نخدش الجيل، وأن معالجتنا إياه من خارجه تعرضنا لا محالة للخطأ.


1- الناحية الدينية


يقول رجال الدين اليهود إن من واجب الإنسان أن يدرس الشريعة مسطورة وشفوية، ومن حكمتهم المأثورة في هذا المعنى قولهم: "إن دراسة التوراة أجل قدراً من بناء الهيكل(14)". و"إن من واجب الإنسان وهو منهمك في دراسة الشريعة أن يقول لنفسه كل يوم: "كأنا في هذا اليوم قد تلقيناها من طور سيناء"(15)، وليست الدراسات الأخرى بعد ذلك واجبة؛ فالفلسفة اليونانية والعلوم الدنيوية لا تصح دراستها إلا في تلك الساعة التي ليست ليلاً ولا نهاراً(16). ويعتقد اليهود أن كلمة من كتابهم المقدس من كلمات الله بالمعنى الحرفي لهذه العبارة، وحتى نشيد الإنشاد نفسه إن هو إلا ترنيمة موحى بها من عند الله-لتصور بصورة مجازية اقتران يهوه بإسرائيل عروسه المختارة . وإذا كان انعدام الشريعة تعقبه حتماً الفوضى الأخلاقية فإن الشريعة وجدت لا محالة قبل أن يخلق العالم "في صدر الله أو عقله" ، وكان إنزالها على موسى لا شيء غيره حادثاً من حوادث الزمان. والتلمود أو بعبارة أدق جزؤه الذي يبحث في الشريعة (الهلكا) هو أيضاً كلمات الله الأزلية، وهو صياغة للقوانين التي أوحاها الله إلى موسى شفوياً ثم علّمها موسى لخلفائه، ولهذا فإن ما فيها من الأوامر والنواهي واجبة الطاعة تستوي في هذا مع كل من جاء في الكتاب المقدس ، لأنها صورة من الشريعة معدلة جاءت متأخرة عنها(18).وكانت بعض قرارات الأحبار تتعارض تعارضاً صريحاً مع قوانين أسفار موسى الخمسة، أو تفسرها تفسيراً يبيح مخالفتها(19).وكان يهود ألمانيا وفرنسا في العصور الوسطى يدرسون التلمود أكثر مما يدرسون الكتاب المقدس نفسه.

ومن المبادئ البديهية في التلمود، كما أن من المبادئ البديهية في الكتاب المقدس وجود إله عاقل قادر على كل شيء. وقد وجد بين اليهود من حين إلى حين عدد من المتشككين أمثال اليشع بن أيوبا العالم الذي اتخذه الكوهن ماير صديقاً له، ولكن يبدو أن أولئك المتشككين كانوا أقلية صغيرة لا تكاد تجهر بآرائها. والله كما يصفه التلمود إله متصف صراحة بصفات البشر، فهو يحب ويبغض ويغضب(20) ويضحك(21) ويبكي(22). وسحي بوخز الضمير، ويلبس التمائم(24)، ويجلس على عرش يحيط به طائفة من الملائكة المختلفي الدرجات يقومون على خدمته، ويدرس التوراة ثلاث مرات في كل يوم(25). ويعترف رجال الدين بأن هذه الصفات البشرية قائمة على الافتراض إلى حد ما، ويقولون: "إننا نستعير له صفات من خلقه نصفه بها لنيسر بذلك فهمه"(26)؛ وإذا لم يكن في مقدور العامة أن يفكروا إلا على أساس الصور المادية فليس الذنب واقعاً عليهم. وهم يصورون الله أيضاً بأنه روح الكون غير المنظورة، السارية فيه كله، تمده بالحياة، تسمو عليه وتلازمه في وقت واحد، تعلو على العالم ولكنها مع ذلك حالة في كل ركن من أركانه وكل جزء من أجزائه. والحضرة الإلهية الكونية المسماة بالسكينا (السَّكَن) تكون بنوع خاص في الأشخاص المقدسين وفي الأماكن والأشياء المقدسة، وفي ساعات الدرس والصلاة. لكن هذا الإله القادر على كل شيء رغم هذا إله واحد. وليس بين الأفكار كلها فكرة أبغض إلى اليهودية من تعدد الآلهة، واليهود لا يفتئون يجهرون بوحدانية الله في حماسة قوية وينددون بشرك الوثنية وبما يبدو في الثالوث المسيحي من تثليث. وهم يجهرون بهذه الوحدانية في أشهر صلواتهم وأكثرها انتشاراً بينهم صلاة شمع يسرائيل: "اسمعي يا اسرائيل، الله إلهنا، الله واحد" (شمع يسرائيل أدوناي إلوهينا أدوناي أحد)(27). وليس ثمة مكان بجواره في هيكله أو عبادته إلى مسيح، أو نبي، أو قديس. وقد نهى أحبار اليهود الناس عن ذكر اسمه إلا في أحوال جد نادرة يقصدون بذلك أن يحولوا بينهم وبين تدنيسه أو اتخاذه وسيلة للسحر، ولكي يتجنبوا النطق بهذا الاسم الرباعي يهوه كانوا يذكرون بدلاً من لفظ أدوناي أي الرب، بل ويشيرون بأن يستعمل بدلاً منه عبارات مثل: "الواحد المقدس" "الواحد الرحيم" "السماوات" "أبينا الذي في السماء". وفي اعتقادهم أن الله قادر على صنع المعجزات وأنه يصنعها فعلاً، وخاصة على أيدي كبار الأحبار؛ ولكن يجب ألا يظن أن هذه المعجزات خرق لقوانين الطبيعة إذ ليس ثمة قوانين إلا إرادة الله.

وقد خلق كل شيء لغرض إلهي طيب: "فقد خلق الله القوقعة لمداواة الجرب، والزجاجة لمداواة لسعة الزنبور، والبعوضة لمداواة عضة الأفعى، والأفعى لعلاج الاحتقان(28) وبين الله والإنسان صلة لا تنقطع وكل خطوة يخطوها إنما يخطوها أمام ناظريه لا تخفي عنه، وكل عمل يعمله الإنسان أو فكرة تجول بخاطره في خلال يومه يمجد بها الذات الإلهية أو يغضبها. والناس كلهم أبناء آدم، ولكن "الإنسان قد خلق أولاً وله ذنب كذنب الحيوان(29) و"كانت وجوه الناس إلى عهد أخنوخ شبيهة بوجوه القردة(30). ويتكون الإنسان من جسم وروح، فروحه من عند الله، وجسمه من الأرض، والروح تدفعه إلى الفضيلة، والجسم يدفعه إلى الخطيئة، أو لعل دوافعه الشريرة وقد أتت إليه من الشيطان، ومن ذلك العدد الجم من الأرواح الخبيثة التي تكمن حوله في كل مكان(31). بيد أن كل شر قد يكون في نهاية الأمر خيراً؛ ولولا شهوات الإنسان الأرضية لما كد الإنسان أو تناسل. وتقول إحدى الفقرات الظريفة "تعال نعز الخير لآبائنا، فإنهم لو لم يأثموا لما جئنا نحن إلى هذه الدنيا"(32). والخطيئة من فطرة الإنسان، ولكن ارتكابها ليس موروثاً، وقد قبل أحبار اليهود عقيدة سقوط الإنسان، ولكنهم لم يقبلوا عقيدة الخطيئة الأولى ولا الكفارة الإلهية. فالإنسان في رأيهم لا يعاقب إلا على ما ارتكبه هو من الذنوب، وإذا ما لقي من العقاب في الحياة الدنيا أكثر مما يبدو له أن يستحقه على ذنوبه، فقد يكون ذلك لأننا لا نعرف مقدار هذه الذنوب كلها، أو قد يكون هذا الإفراط في العقاب نعمة كبرى، تؤهله للخير العميم في الدار الآخرة. ومن أجل هذا يجب على الإنسان كما يقول عقيبا أن يبتهج لكثرة ما يصيبه من سوء(33) أما الموت فقد جاء إلى الدنيا بسبب آثام الإنسان؛ وغير الآثم بحق لا يموت أبداً(34). فالموت دين على البشرية الآثمة لباعت الحياة جميعها. ويقص علينا مدرسنا قصة مؤثرة عن موت الكائن مإير فيقول: بينما كان الكوهن مإير يلقي موعظته الأسبوعية عصر يوم من أيام السبت إذا مات ولداه المحبوبان فجأة في منزله. فغطتهما أمهما بغطاء، وأبت أن تندبهما في اليوم المقدس. ولما عاد الكوهن مإير بعد صلاة المساء سأل عن ولديه لأنه لم يرهما في الكنيس بين المصلين، فطلبت إليه أن يتلو الهبدلة (وهي دعاء يختتم به السبت) وقدمت له العشاء. ثم قالت له: "لدي سؤال أريد أن أسألك إياه. ائتمنني أحد الأصدقاء في يوم من الأيام على جواهر أحفظها له، ثم أراد الآن أن يستعيدها فهل أردها إليه؟". فأجابها الكوهن مإير "ذلك واجب عليك بلا ريب"؛ فأمسكت زوجته حينئذ بيده، وسارت به إلى الفراش ورفعت عنه الغطاء. فأخذ الكوهن مإير ينتحب ولكن زوجته قالت له: لقد كانا وديعة لدينا إلى حين والآن قد أراد سيدهما أن يسترد وديعته". ولم يقل كتاب العبرانيين المقدس إلا الشيء القليل عن خلود الثواب والعقاب، ولكن هذه الفكرة أصبحت ذات شأن كبير في آراء الأحبار الدينية. فقد صوروا النار على أنها جهنم! Ge Hinnom أو شاول ، وقسموها كما قسموا السموات إلى سبع طبقات تتدرج في درجات العذاب. ولا يدخلها من المختتنين إلا أخبثهم(36)، وحتى الآثمون الذين يدامون على الإثم لا يعذبون فيها إلى أبد الآبدين، بل إن "كل من يلقون في النار يخرجون منها مرة أخرى إلا فئات ثلاثاً: الزاني، ومن يفضح غيره أمام الناس، ومن يسب غيره"(37). أما السماء فقد كانوا يسمونها جنة عدن Gen Edon، وكانوا يصورونها في صورة حديقة تحوي جميع المسرات الجسمية والروحية. فخمرها عصرت من كروم احتفظ بها من الستة أيام التي خلق فيها العالم، والهواء فيها معطر بالروائح الزكية، والله نفسه يجتمع بالناجين من العذاب في وليمة أعظم ما يسر أصحابها أن يروا وجهه. بيد أن بعض أحبار اليهود يعترفون بأن أحداً لا يعرف قط ما وراء القبر(38).

وإذا ما فكر اليهود في النجاة كان تفكيرهم فيها أنها نجاة الشعب لا نجاة الفرد. وذلك أنهم وقد شتتوا في أنحاء العالم بضروب من القسوة لا يبررها في ظنهم عقل، وأخذوا يقوون أنفسهم باعتقادهم أنهم لا يزالون شعب الله المحبوب المختار، فهو أبوهم، وهو إله عادل، ولا يمكن أن ينكث عهده لإسرائيل. أليسوا هم الذين أنزل عليهم كتابه المقدس الذي يؤمن به المسيحيون والمسلمون ويعظمونه؟ وقد دفعتهم شدة يأسهم إلى درجة من الكبرياء اضطر معه أحبارهم الذين سموا بهم إلى تلك الدرجة أن ينزلوا بهم عنها بضروب اللوم والتأنيب. وكانوا في ذلك الوقت كما هم الآن يتوقون إلى البلد الذي نشأت فيه أمتهم، وكانوا يعزونها ويرون أنها المثل الأعلى لجميع البلدان، ويقولون "إن من يمشي أربع أذرع في فلسطين يعيش بلا ريب إلى أبد الآبدين، ومن يعش في فلسطين يطهر من الذنوب"(39). وحديث من يسكنون فلسطين في حد ذاته توراة"(40)، وأهم قسم في الصلوات اليومية وهو الشمونة عسراً (الفقرات الثمان عشرة) تحوي دعاء بمجيء ابن داود، الملك المسيح الذي يجعل اليهود كما كانوا أمة متحدة، حرة، يعبدون الله في هيكلهم بشعائرهم وترانيمهم القديمة.


2- الشعائر الدينية


لم يكن ما يميز اليهود من غيرهم من الشعوب في عصر الإيمان الذي نتحدث عنه، والذي يحفظ عليهم وحدتهم وهم مشتتون، هو عقيدتهم الدينية بل شعائرهم، لم يكن هو العقيدة التي لم تفعل المسيحية أكثر من التوسع فيها والتي قبل الإسلام الكثير منها بل هو قواعد الطقوس والمراسم المعقدة تعقيداً ثقيلاً. يكن في مقدور شعب غير هذا الشعب المتكبر، السريع التأثر، أن يظهر من الوداعة والصبر ما تتطلبه إطاعته والعمل بها. لقد كانت المسيحية تنشد الوحدة عن طريق توحيد العقيدة، أما اليهودية فكانت تنشدها عن طريق توحيد الشعائر. وفي ذلك يقول أبا أريكا: "إن الشرائع لم توضع إلا لكي تؤدب الناس وترقق طباعهم بالعمل بها"(41). ولقد كانت الشعائر أولاً وقبل كل شيء هي قانون العبادة. ولما أن حلت المعبد اليهودية محل الهيكل استبدلت بالأضاحي الحيوانية القرابين والصلوات، ولكنهم لم يكونوا يجيزون وضع صورة لله أو للآدميين في المعابد كما لم يكونوا يجيزون وضعها في الهيكل. ذلك أنهم كانوا يتجنبون كل ما يشتم منه عبادة الأوثان، وكذلك كانت الموسيقى الآلية المباحة في الهيكل محرمة من المعابد. وفي هذا تختلف المسيحية عن اليهودية وتتفق مع الإسلام، فقد تكشف الدينان الساميان عن تقوى قائمة وتكشفت المسيحية عن فن مقبض قاتم كذلك.

وكانت الصلاة تجربة دينية يمارسها اليهودي المتدين كل يوم، بل يكاد يمارسها في كل ساعة. وكانت صلوات الصباح تتلى من قلقطيرات (علب صغيرة محتوية على فقرات من الكتاب المقدس) مثبتة على الجباه والأذرع ولم يكونوا يطعمون طعاماً دون أن يتلو دعاء قصيراً قبله وصلاة الشكر طويلة في نهايته. على أنهم لم يكونوا يكتفون بهذه الصلوات المنزلية، ذلك أن الناس لا يرتبطون ويتماسكون إلا إذا اشتركوا معاً في القيام بأعمال واحدة، وكان أحبار اليهود يحاجون بما عرف عن الشرقيين من مبالغة أن "الله لا يستجيب لصلاة الإنسان إلا إذا قام بها في الكنيس"(42). وكان أهم ما تشتمل عليه الطقوس الدينية العامة هو "الشمونة عسراً"، "والشمع يسرائيل، وتلاوة من أسفار موسى الخمسة، ومن سفر الأنبياء، ومزامير داود، وعظة تشتمل على تفسير فقرات من الكتاب المقدس، وعلى "قديس Kaddish" (أدعية حمد وبركة للأحياء والأموات) ثم دعاء ختامي. ولا يزال هذا هو الأساس الجوهري للشعائر التي تقام في المعابد إلى يومنا هذا.

وأدق من هذه الشعائر وأكثر منها تفصيلاً القواعد الخاصة بالنظافة البدنية أو طقوس الطهارة. فقد كان أحبار اليهود يرون أن الصحة البدنية تعين على سلامة الروح(43) ولهذا كانوا يحرمون على بني دينهم أن يعيشوا في مدينة ليس بها حمّام(44)، ويعينون للاستحمام قواعد تكاد تبلغ مرتبة الأوامر الطبية كقولهم: "إذا اغتسل الإنسان بماء ساخن ولم يغتسل بعده بماء بارد كان مثله كمثل الحديد الذي يحمي في تنور ثم لا يوضع بعدئذ في ماء بارد"(45)، فمثل الجسم كمثل الحديد يجب أن يسقى ويُقَسَّى ويجب أن يدهن الجسم بالزيت بعد الاستحمام(46) كذلك يجب غسل اليدين عقب الاستيقاظ مباشرة، وقبل تناول كل وجبة من الوجبات وبعد تناولها، وقبل الصلاة العامة وقبل القيام بكل شعيرة دينية. وكانت جثث الموتى، والاتصال الجنسي، والحيض، والولادة، والحشرات، والخنازير، والجذام (ومختلف الأمراض الجلدية) كانت هذه كلها حسب القواعد الدينية نجسة، ومن مس شيئاً منها أو أصيب به وجب عليه أن يتوجه إلى الكنيس ويؤدى فيه شعائر التطهير. وكانت المرأة تعد نجسة (أي لا يقترب منها زوجها) أربعين يوماً بعد أن تلد ولداً ذكراً، وثمانين يوماً إذا كانت المولودة أنثى(47). ويجب وفقاً لما ورد في الكتاب المقدس (في الآيات من 9 إلى 14 من الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين) أن تجري عملية الختان للمولود الذكر في اليوم الثامن بعد مولده، وكان هذا الختان يعد قرباناً ليهوه وعهداً بينه وبين عباده؛ ولكن انتشار هذه العادة بين المصريين الأقدمين، والأحباش، والفينيقيين، والسوريين، والعرب، يوحى بأنها كانت إجراءاً صحياً يحتمه الجو الذي يساعد على النضوج والاهتياج الجنسي المبكرين، أكثر مما هو وسيلة من وسائل النظافة.

ويؤيد هذا الرأي ما يحتمه أحبار اليهود على بني دينهم ألا يبقوا لديهم عبداً أكثر من اثني عشر شهراً دون ختان(48).

وقد يخيل إلى الإنسان وهو يقرأ بعض أجزاء من التلمود أنه كتاب مبسط في الطب المنزلي أكثر مما هو كتاب في الشرائع الدينية، والحق أنه كان لا بد أن يجعل بمثابة موسوعة من النصائح للشعب اليهودي. ذلك أن يهود القرن الرابع والقرن الخامس بعد الميلاد كانوا كمعظم شعوب البحر المتوسط ينزلون عائدين إلى الخرافات والحيل الطبية التي تسود بين الشعوب المنعزلة الفقيرة؛ ولقد تسرب كثير من هذا الطب الشعبي والخرافي إلى التلمود. غير أننا مع هذا نجد في الجمارا البابلية وصفاً غاية في الجودة للمريء، والحنجرة، والقصبة الهوائية، والرئتين، والأغشية السحائية، وأعضاء التناسل. وقد وصف فيه خراجات الرئتين وتليف الكبد، والحَرَض الجَبَني وكثير غيرها من الأمراض وصفاً دقيقاً؛ ومما أثبته الأحبار أن الذباب وأكواب الشرب قد تنقل العدوى(49)، كما أثبتوا أن التدمام (أي الاستهداف للنزف) داء وراثي يجعل ختان أبناء المصابين به أمراً غير مستحب لكن هذه الآراء قد اختلطت بها رقي سحرية لطرد الأرواح الخبيثة التي يحسبونها سبباً في الأمراض. ولقد كان أحبار اليهود، مثلنا نحن جميعاً، خبراء في التغذية الصحية. ونبدأ القواعد الحكيمة للتغذية عندهم بالأسنان. فهذه في رأيهم يجب ألا تخلع، مهما اشتدت آلامها(50) لأن "الإنسان إذا أجاد مضغ الطعام بأسنانه وجدت قدماه القوة"(51). وهم يمتدحون الخضر والفاكهة ما عدا البلح ويوصون بأكملها. أما اللحم فمن مواد الترف التي يجب ألا يتناولها سوى المتطهرين(52). ويجب أن يذبح الحيوان بحيث تقل آلامه إلى أقصى حد، وبحيث يخرج الدم من اللحم، لأن أكل اللحم بما فيه من الدم رجس. ومن أجل هذا يجب أن يعهد ذبح الحيوان لاتخاذ لحمه طعاماً إلى أشخاص مدربين، عليهم أن يفحصوا عن أحشائه حتى يتأكدوا من أن الحيوان سليم من الأمراض. ويجب ألا يجمع في الوجبة الواحدة بين اللحم واللبن أو بين الأطعمة التي يدخل فيها هذان الصنفان، بل يجب ألا يوضعا قريبين أحدهما من الآخر في المطبخ(53). ولحم الخنزير محرم ممقوت. ولا يصح أكل البيض، أو البصل، أو الثوم إذا كان قد ترك بالليل منزوع القشر(54). ويجب الامتناع عن تناول الطعام في غير أوقاته المحددة: "لا تنقر طول النهار كالدجاج"(55). "والذين يموتون من الإفراط في الأكل أكثر ممن يموتون من نقص التغذية"(56). "والأكل إلى سن الأربعين نافع للصحة، أما بعد الأربعين فالشرب نافع لها"(57)، والاعتدال في الشرب خير من الامتناع عنه بتاتاً، فكثيراً ما يكون الخمر دواء نافعاً(58)، و "ليس ثمة سرور إلا به"(59). وقد أراد أحبار اليهود أن يسيروا في موضوع التغذية إلى غايته فقالوا إن "من يطل المكث في المرحاض يطل عمره" وأشاروا بأداء صلاة شكر كلما استجاب الإنسان لنداء الطبيعة .

وكانوا يقامون التنسك وينصحون بني دينهم أن يتمتعوا بطيبات الحياة إذا لم يكن فيها ما هو محرم(61). وقد فرض عليهم الصيام في مواسم معينة وفي بعض الأيام المقدسة، ولكن لعل الدين هنا قد اتخذ وسيلة للحض على العناية بالصحة. واقتضت حكمة الشعب أن يؤمر اليهود بأن يحتفلوا بالأعياد ويقيموا الولائم من آن إلى آن، رغم نغمات الحزن والأسى التي كانت تسمع منهم حتى في أفراحهم. "يجب على الإنسان أن يدخل السرور في العيد على زوجته وآل بيته". ويجب عليه إن استطاع أن يهيئ لهم ثياباً جديدة(62). ويبدو أن السبت-وهو أعظم ما ابتدعه اليهود-كان عبئاً ثقيلاً عليهم في أيام التلمود، فقد كان ينتظر من اليهودي التقي أن يجعل كلامه أقل ما يستطيع، وألا يوقد النار في منزله، وأن يقضي الساعات عاكفاً على الصلاة في الكنيس. وثمة نبذة طويلة تتحدث بالتفصيل الوافي الممل عما يجوز عمله وما لا يجوز في السبت. ولكن فتاوي الأحبار كانت تهدف إلى التقليل من أهوال التقوى أكثر مما تهدف إلى زيادتها. وكان ما فيها من الدقة يرمي إلى تلمس الأسباب المقنعة لحمل الإنسان على أن يفعل ما يجب عليه أن يفعله في يوم الراحة. يضاف إلى هذا أن اليهودي الصالح كان يجد سعادة خفية في التمسك بشعائر السبت القديمة. فكان يبدؤه بقداس قصير. كان وهو محوط بأفراد أسرته وبأصدقائه (لأن هذا اليوم كان من الأيام التي يحلو فيها دعوة الأصدقاء)، يمسك بيده كأساً مملوءة بالخمر، يتلو عليها بعض الأدعية، ثم يشرب بعضها ويناول الكأس لضيوفه وزوجته وأبنائه. ثم يأخذ بعدئذ الخبز ويباركه، ويحمد الله "الذي يخرج الخبز من الأرض"، ويعطي بعضه لكل من يجلسون معه على المائدة. ولا يجوز الصوم أو الحزن في السبت.

وكانت أيام مقدسة كثيرة تتخلل العام وتتيح لليهود الفرص للاحتفال بالذكريات المقدسة أو الراحة المحببة. فمنها عيد الفصح اليهودي الذي يبدأ في الرابع عشر من شهر نيسان (إبريل) ويستمر ثمانية أيام يحيي فيها ذكرى فرار اليهود من مصر. وكانوا في الأيام الأولى من العهد الذي أوحى فيه بالكتاب المقدس يسمونه عيد الخبز الفطير، لأن اليهود قد فروا ومعهم العجين الذي يصنعون منه خبزهم دون أن يختمر. وكان هذا العيد يسمى في أيام التلمود عيد المرور، لأن يهوه وهو يقضي على البكور من أبناء المصريين قد "مر" بالبيوت التي رش من فيها من اليهود دم الحمل على قوائم أبوابها(63). وكان اليهود يحتفلون في اليوم الأول من هذا العيد بوجبة عيد الفصح (السّدِر)، فكان كل أب يرأس حفلة الصلاة لأسرته المجتمعة عنده. ويقوم معهم بمراسم تذكرهم بأيام موسى البئيسة، ينقل في خلالها عن طريق الأسئلة والأجوبة القصة القيمة العزيزة إلى الأبناء الصغار وفي عيد العنصرة، وموعده بعد سبعة أسابيع من عيد الفصح يحتفل اليهود في عيد شيوعوت بحصاد القمح وتجلي الله لموسى على الجبل في سيناء. وفي اليوم الأول من تشرين-وهو الشهر السابع من السنة اليهودية الدينية، والشهر الأول من سنة اليهود المدنية-وهو يتفق بوجه عام مع الاعتدال الخريفي يحتفل اليهود بعيد رأس السنة، وبهلال الشهر، وينفخون في القرن الحمل (الشفار أي الصفارة) إحياء لذكرى نزول التوراة، ودعوة الناس إلى التوبة من الذنوب، واستعجالاً لذلك اليوم السعيد حين يدعي جميع اليهود العالم ليعبدوا الله في أورشليم. ومن مساء رأس السنة إلى اليوم العاشر من تشرين أيام توبة وتفكير عن الذنوب، وكان أتقياء اليهود في هذه الأيام جميعها ما عدا اليوم التاسع منها يصومون ويصلون؛ فإذا جاء اليوم العاشر المسمى يوم هاكريم (يوم الغفران) لم يكن يجوز لهم فيه أن يأكلوا أو يشربوا أو يحتذوا نعالاً أو يقوموا بعمل أو يستحموا أو يقربوا النساء من مطلع الشمس إلى مغيبها، بل كانوا يقضون النهار كله في الكنيس يصلون، ويعترفون بذنوبهم، ويستغفرون لها هي وذنوب بني دينهم، يستغفرون لهذه الذنوب بما فيها عبادة العجل الذهبي نفسه. وفي اليوم الخامس عشر من شهر تشرين يحل عيد سوكوت أو عيد المظلات. وكان المفروض أن يقضي اليهود هذا العيد في أخصاص إحياء لذكرى الخيام التي يقال إن آباءهم الأقدمين قد ناموا فيها خلال الأربعين يوماً التي قضوها في البيداء. ولما وجد اليهود المشتتون صعاباً جمة في الاحتفال بعيد الحصاد هذا كما هو مفروض عليهم بالدقة، أظهر أحبارهم ما يتصفون به من تسامح بأن فسروا السكة (الخيمة) بأنها كل ما يصح أن يرمز به للمسكن. وفي اليوم الخامس والعشرين من الشهر التاسع شهر كسلو (ديسمبر) والسبعة أيام التالية لهذا اليوم يقع عيد حَنّكة أو التكريس، الذي يذكرهم بتطهير الهيكل من المكابين (165 ق. م)، بعد أن دنسه أنتيوخوس إبفانيز Anfiochuc Epiphanes، وفي الرابع عشر من آذار (مارس) يحتفل اليهود بعيد بوريم الذي أنجى فيه موردكي وإستر الشعب من مكر الوزير الفارسي هامان. وكانوا في ذلك اليوم يتبادلون الهدايا والدعوات أثناء وليمة مرحة يشربون فيها الخمر. وفي ذلك يقول رب ربا Rab Raba إن على الإنسان أن يشرب في ذلك اليوم حتى لا يستطيع التمييز بين قولهم "ملعون هامان" و "ملعون موردكي"(64).

وليس من حقنا أن نظن أن هؤلاء اليهود التلموديين قوم مفرطون في التشاؤم يحز في نفوسهم احتقار من حولهم من الشعوب لمواهبهم، تتقاذفهم أعاصير العقائد المتباينة، يهيمون في بيداء الآمال بالرجوع إلى بلادهم. ذلك أنهم وهم يعانون مرارة التشتت والظلم، والندم والفقر، كانوا يرفعون رؤوسهم عالية، ويتذوقون لذة العمل والكفاح في سبيل الحياة، ويستمتعون بما يتجلى به نساؤهم المثقلات من جمال قصير الأجل وما في الأرض والسماء من جلال مقيم. وفي ذلك يقول كوهنهم مإير: "يجب أن ينطق الإنسان في كل يوم بمائة دعوة صالحة"(65). ويقول كوهن آخر قولاً ما أجدرنا كلنا أن نعمل به "إذا مشي إنسان أربعة أذرع لا أكثر لم يطأطأ فيها رأسه أغضب الله، ألم يرد في الكتاب المقدس "مجده ملئ كل الأرض"(66).


3- المبادئ الأخلاقية في التلمود


ليس التلمود موسوعة من التاريخ، والدين، والشعائر، والطب، والأقاصيص الشعبية وحسب، بل هو فوق هذا كله رسالة في الزراعة، وفلاحة البساتين، والصناعة، والمهن، والتجارة(67)، وشئون المال، والضرائب، والملك والرق، والميراث، والسرقة، والمحاكمات القضائية، والقوانين الجنائية. وإذا شئنا أن نوفي هذا الكتاب حقه من البحث، كان علينا أولاً أن نلم بطائفة كبيرة العدد من العلوم المختلفة، وأن نكتسب منها ما تهيؤه لعقولنا من الحكمة وسداد الرأي، ونستخدم تلك الحكمة الجامعة في الإلمام بأحكام هذا الكتاب في الميادين المختلفة السالفة الذكر.

وأول ما نذكره أن التلمود أولاً وقبل كل شيء قانون أخلاقي، وأن هذا القانون الأخلاقي شديد الاختلاف عن القانون الأخلاقي المسيحي وعظيم لشبه بالقانون الإسلامي، حتى لتكفي نظرة خاطئة إليه لدحض الرأي السائد في العصور الوسطى القائل بأنه ليس إلا قصة المسيحية في تلك العصور. إن الأديان الثلاثة الكبرى متفقة في أن المبادئ الأخلاقية الفطرية-غير الدينية-تصلح لأن تكون قواعد عملية للإنسانية؛ وترى أن الكثرة الغالبة من الناس لا يمكن أن تحمل على المسلك الحسن والخلق القويم إلا عن طريق خوف الله. ولهذا أقامت الأديان الثلاثة قانونها الأخلاقي على مبادئ رئيسية واحدة: أن الله عيناً تبصر كل شيء، وأن القانون الأخلاقي منزل من عند الله، وأن الفضيلة تتفق في آخر الأمر مع السعادة بما يناله المحسن بعد الموت من الثواب والمسيء من العقاب. ولم يكن من المستطاع في الدينين الساميين فصل القوانين الثقافية والأخلاقية من الدين. فلم تكن هذه القوانين تجير التفرقة بين الجريمة والخطيئة، أو بين الشر والشريعة الكنسية، بل إن من مبادئها المقررة أن كل فعل ذميم. يعد إساءة إلى الله وانتهاكاً لحرماته ولاسمه جل جلاله.

وتتفق الأديان الثلاثة فضلاً عن هذا في بعض قواعد الأخلاق: تتفق في حرمة الأسرة والمسكن، وفيما يحب للآباء وكبار السن من تكريم وإجلال وفي حب الأبناء ورعايتهم، وفي مل الخير لجميع الناس. وليس ثمة شعب أكثر من اليهود حرصاً على تجميل الحياة العائلية، ولقد كان عدم الزواج عن قصد من الآثام الكبرى في اليهودية كما هو في الإسلام(68)؛ وكان إنشاء البيت وتكوين الأسرة من الأمور الشرعية التي يحتمها الدين(69)، وتنص عليه القاعدة الأولى من قواعد الشريعة البالغ عددها 613 قاعدة، وفي ذلك يقول أحد المعلمين اليهود(70) "إن من لا ولد له يعد من الأموات"، ويتفق اليهودي، والمسيحي، والمسلم في أن البشرية تصبح مهددة بالزوال إذا ما فقدت قوتها أوامر الدين التي تقضي بوجوب إنجاب الأبناء. على أن أحبار اليهود أباحوا تحديد عدد أفراد الأسرة في بعض الأحوال؛ ويفضلون أن تكون السبيل إلى هذا هي منع الحمل، وفي ذلك يقول بعضهم: "هناك ثلاث طبقات من النساء يجب عليهن أن يستعملن الأدوية الماصة: القاصر خشية أن يقضي الحمل على حياتها؛ كيلا تكون النتيجة هي الإجهاض، والمرضع حتى لا تحمل فتضطر إلى فطام الرضيع قبل الأوان فيموت الطفل"(71).

وكان اليهود، كما كان معاصروهم، يكرهون أن يلدوا بنات ويسرون إذا أنجبوا الذكور، ذلك أن الذكر لا الأنثى هو الذي يحمل اسم أبيه واسم الأسرة، ويرث أملاكه، ويعني بقبره بعد وفاته، أما البنت فسوف تتزوج في بيت غريب وقد يكون بيتاً بعيداً، ولا تكاد تتم تربيتها حتى يفقدها أبواها. لكن الآباء متى رزقوا الأبناء، ذكوراً كانوا أو إناثاً، أعروهم وأدبوهم تأديباً ممزوجاً بالحب وفي ذلك يقول أحد أحبارهم: "إذا كان لا بد لك أن تضرب طفلك، فاضربه برباط حذاء"(72). ويقول آخر "إذا امتنع الإنسان من عقاب طفل، انتهت به الحال إلى الفساد المطلق"(73) وكان من الواجب على الآباء أن يتحملوا كل تضحية تتطلبها تربية الأبناء أي تثقيف العقل، وتقويم الخلق بدراسة "الشريعة وأسفار الأنبياء". وقد جاء في أحد الأمثال العبرية: "إن العالم ينجو بنفس تلاميذ المدارس"(74) فالسكينة أو الحضرة الإلهية تتجلى في وجوههم؛ وفي نظير هذا يجب على الابن أن يعظم والديه ويحميهما بكل ما في وسعه وفي جميع الأحوال.

والصدقات من الواجبات التي لا مفر من أدائها وإن "من يتصدق لأعظم ممن يقدم كل القرابين"(75). ولقد كان بعض اليهود أشحاء، وبعضهم بخلاء إلى أقصى حدود البخل، ولكنهم بوجه عام يفوقون سائر الشعوب في هباتهم وتبرعاتهم، وقد بلغ من سخائهم في هذه الناحية أن اضطر أحبارهم إلى أن ينوههم عن إعطاء أكثر من خمس أموالهم للصدقات، ومع هذا فقد وجد عند وفاة بعضهم أنهم قد أعطوا نصف ما يملكون رغم هذا التحريم(76). "لقد كانت تلوح على وجه أبا أو منا على الدوام هالة من الطمأنينة القدسية، ذلك بأنه كان جرّاحاً ولكنه لم يكن يرضى أن يمسك بيديه أجراً على عمله، بل كان له صندوق في ركن حجرة استشارته يستطيع من كان في مقدوره أداء شيء من المال أن يضع فيه ما يرغب في أدائه... وحتى لا يعتري الخجل من يعجز عن أداء شيء منه"(77). وكان رب هونا "إذا جلس لتناول الطعام فتح أبوابه ونادى: من كان في حاجة أن يدخل ويطعم"(78). وكان شاما بن إلعي Chama ben Elai يطعم الخبز كل من يطلبه ويضع يده في كيس نقوده كلما سار في خارج داره حتى لا يحجم أحد عن سؤاله(79). ولكن التلمود كان يؤنب التظاهر بالبذل ويشير بأن يكون سراً ويقول "إن من يعطي الصدقات سراً أعظم من موسى"(80).

ووجه رجال الدين كل ما أوتوا من علم وبلاغة لامتداح نظام للزواج الذي كان هو والدين الأساس الذي يقوم عليه صرح الحياة اليهودية كلها. ولم ينددوا بالشهوة الجنسية ولكنهم كانوا يخشون قوتها وبذلوا جهدهم في كبح جماحها. فمنهم من كان ينصح بأكل الملح مع الخبز "ليقل المنى"(81)، ومنهم من كان يحس بأن الوسيلة الوحيدة لكبح جماح الشهوة الجنسية هو العمل المجهد مضافاً إلى دراسة التوراة؛ فإذا لم يجد هذه الوسيلة "فليذهب إلى مكان لا يعرفه فيه أحد، وليلبس سود الثياب، وليفعل ما تبتغيه نفسه، ولكن عليه ألا يدنس اسم الله جهرة"(82). وعلى الإنسان أن يبتعد عن كل المواقف التي تثير شهوته، فلا يكثر من الحديث مع النساء، "ولا يمشي في الطريق خلف امرأة"(83) وتظهر فكاهة أحبار اليهود المبهجة مرة أخرى في قصة رب كهنا Red Kahan.

فقد كان مرة يبيع سلال النساء وإذا هو يتعرض لهواية الشيطان. وأخذ يقاوم طبيعته راجياً أن ينطلق هذه المرة على أن يعود إلى نجا. ولكنه بعد أن تغلب على نفسه لم يعد بل صعد إلى سقف بيت وألقى بنفسه من فوقه، وقبل أن يصل إلى الأرض وصل إليه اليشع وأمسك به ولامه على أن اضطره إلى قطع مسافة أربعمائة ميل لكي يحول بينه وبين إهلاك نفسه(84).

ويلوح أن أحبار اليهود يرون أن البكورية لا بأس بها، ولكن البكورية الدائمة هي بعينها وقف النماء الطبيعي، ويعتقدون أن كمال المرأة في كمال الأمومة، كما أن اسمى فضائل الرجل فضيلة الأبوة الكاملة. وكان من الواجب على كل أب أن يدخر بائنة لكل بنت من بناته ومهراً يمهر به كل ولد من أولاده عروسه حتى لا يتأخر زواج الولد والبنت تأخراً يضر بصحتهما. وكانوا يشيرون بالزواج المبكر-في الرابعة عشرة للبنت وفي الثامنة عشرة للولد. وكان القانون يبيح زواج البنت إذ بلغت سنها اثنتي عشرة سنة وستة أشهر وزواج الولد في الثالثة عشرة من عمره. وكان يباح للطلاّب المشتغلين بدراسة الشريعة أن يؤخروا زواجهم بعض الوقت. ومن الأحبار من كانوا يقولون إن على الرجل أن يثبت دعائم مركزه الاقتصادي قبل أن يقدم على الزواج: "على الرجل أولاً أن ينشئ البيت، ثم يغرس الكرمة، ثم يتزوج"(85). -ولكن هذا الرأي هو رأي الأقلية ولعله لا يتعارض مع الزواج المبكر إذا ما تكفل الأبوان بتدبير العون المالي المطلوب. وكانوا ينصحون الشباب بألا يختار زوجته لجمالها بل لصفاتها التي سوف تجعلها في المستقبل أماً صالحة(86)، ويقولون "اهبط درجة في اختيار الزوجة، وأرقى درجة في اختيار الصديق"(87)، ومن يختر لنفسه زوجة من طبقة فوق طبقته يدع الناس إلى احتقاره.

وأجاز التلمود، كما أجاز العهد القديم والقرآن، تعدد الزوجات، ومن أقوال أحد الأحبار في هذا المعنى: "يستطيع الرجل أن يتزوج أي عدد من النساء يشاء" ولكن فقرة ثانية في مقاله هذا تحدد عدد الزوجات بأربع، وتطلب فقرة ثالثة إلى من يريد أن يتخذ له زوجة ثانية أن يطلق زوجته الأولى إذا أرادت هي الطلاق(88). ونظام تعدد الأزواج هذا تفترضه كذلك العادة القديمة التي يطالب اليهودي بمقتضاها أن يتزوج من أرملة أخيه بعد وفاته، وأكبر الظن أن منشأ هذه العادة لم يكن هو العطف والشفقة فحسب، بل كانت تقوم فوق ذلك على الرغبة في الإكثار من النسل في مجتمع ترتفع فيه نسبة الوفيات شأنه في ذلك شأن كل المجتمعات التي قامت في العصور القديمة والعصور الوسطى.

وبعد أن يسر الأحبار للرجل إشباع غريزته الجنسية على هذا النحو جعلوا الزنى من الجرائم التي يعاقب مرتكبها بالإعدام، وكان منهم من يقول مع المسيح إن "الإنسان قد يزني بعينيه"(89)، ومنهم من ذهب إلى أبعد من هذا فقال: "إن من يتطلع إلى خنصر امرأة لا أكثر قد ارتكب إثماً في قلبه"(90)، ولكن رب أريكا أرقى من هؤلاء وأولئك قلباً إذ يقول: "يجد الإنسان في كتاب سيئاته يوم الحشر كل شيء رآه بعينيه وأبى أن يستمتع به(91).

وأبيح الطلاق برضا الطرفين، فأما الزوج (الرجل) فلا يمكن أن يطلّق إلا برضاه، وأما الزوجة فيجوز للرجل أن يطلقها بغير رضاها. وطلاق الزوجة الزانية أمر واجب، كذلك يشار بطلاق الزوجة إذا ظلت عقيماً عشر سنين بعد الزواج(92). ولم تكن مدرسة شماي تبيح طلاق المرأة إلا إذا زنت، أما مدرسة هلل فقد أباحت للرجل أن يطلق زوجته إذا وجد فيها "شيئاً معيباً"، وكانت الغلبة في أيام التلمود لرأي هلل، وقد ذهب فيه عقيبا إلى حد بعيد فقال إن "في وسع الرجل أن يطلّق زوجته، إذا وجد امرأة أخرى أجمل منها"(93). وكان في وسع الرجل أن يطلّق زوجته إذا عصت أوامر الشريعة اليهودية بأن سارت أمام الناس عارية الرأس، أو غزلت الخيط في الطريق العام، أو تحدثت إلى مختلف أصناف الناس أو "إذا كانت عالية الصوت أي إذا كانت تتحدث في بيتها ويستطيع جيرانها سماع ما تقول"(94) ولم يكن عليه في هذه الأحوال أن يرد إليها بائنتها. ولم يكن هجر الرجل زوجته يوجب طلاقها منه(95)، وأباح بعض رجال الدين للزوجة أن تلجأ إلى المحكمة تطلب الطلاق من زوجها إذا قسا عليها، أو كان عنيناً، أو أبى أن يؤدي الواجبات الزوجية، أو لم ينفق عليها النفقة التي تليق بها(96)، أو كان مشوهاً أو نتناً(97). وكان الأحبار يحاولون تقليل الطلاق بأن يضعوا في سبيله إجراءات قانونية معقدة، ويفرضون في جميع الأحوال-إلا القليل النادر منها-استيلاء الزوجة على البائنة والمهر؛ ويقول الحاخام إلعَزَر Eleazar "إن المذبح نفسه ليذرف الدمع على من يطلق زوجة شبابه"(98).

وجملة القول أن قوانين التلمود، بوجه عام، من وضع الرجال وأنها لذلك تحابي الذكور محاباة بلغ من قوتها أن بعثت في نفوس أحبار اليهود الفزع من قوة المرأة، وهم يلومونها، كما يلومها الآباء المسيحيون، لأنها أطفأت "روح العالم" بسبب تشوف حواء المنبعث عن ذكائها. وكانوا يرون أن المرأة "خفيفة العقل"(99)، وإن كانوا يقرون لها بأنها وهبت حكمة غريزية لا وجود لها في الرجل(100). وهم يأسفون أشد الأسف لما جبلت عليه المرأة من ثرثرة: "لقد نزلت على العالم عشرة مكاييل من الكلام؛ أخذت المرأة منها تسعة، وأخذ الرجل واحداً"(101). ونددوا بأنهماكها في السحر وما إليه من الفنون الخفية(102)، وفي الأصباغ والكحل(103). ولم يكونوا يرون بأساً في أن ينفق الرجل بسخاء على ملابس زوجته، ولكنهم كانوا يطلبون إليها أن تجمل نفسها لزوجها لا لغيره من الرجال(104). وفي القضاء-على حد قول أحد الأحبار-"تعدل شهادة مائة امرأة شهادة رجل واحد"(105)؛ وكانت حقوق النساء الملكية محددة في التلمود بالقدر الذي كانت محددة به في إنجلترا في القرن الثامن عشر؛ فمكاسبهن وما يؤول إليهن من ملك لهن حق لأزواجهن(106)، ومكان المرأة هو البيت. ويقول أحد الأحبار المتفائلين إن المرأة في "عصر المسيح الثاني ستلد طفلاً في كل يوم"(107) وإن "الرجل الذي له زوجة خبيثة لن يرى وجه جهنم"(108)؛ ويقول عقيبا من جهة أخرى إنه ليس أغنى من الرجل الذي له امرأة اشتهرت بأعمالها الطيبة(109): ويقول أحد المعلمين اليهود إن "كل شيء يصدر عن المرأة(110)". وقد جاء في أحد الأمثال العبرية: "إن كل ما في البيت من نعم وبركات قد جاء إليه عن طريق الزوجة، ولهذا فإن من الواجب على زوجها أن يكرمها... وليحذر الرجال من أن يبكوا المرأة، فإن الله يعد دموعها"(111). ولقد جمع ناشر غير معروف في أبهج جزء من أجزاء التلمود، وهو الرسالة الصغيرة المسماة برقي أبوت Pirke Aboh (الأصول السياسية)، حكم كبار الأحبار الذين عاشوا في القرنين السابقين لمولد المسيح والقرنين التاليين له. وكثيراً من هذه الأمثال يمتدح الحكمة وبعضها يعرفها ويحدد معناها!

قال بن زوما: من هو الحكيم؟ هو الذي يتعلم من كل إنسان... من هو القوي؟ هو الذي يخضع ميوله (الخبيثة)... من يسيطر على روما خير ممن يستولي على مدينة. من هو الغني؟ هو الذي يسر بما قسم له... من هو الكريم؟ هو الذي يكرم بني جنسه(112)... لا تحتقر إنساناً ولا تحتقر شيئاً؛ فليس ثمة إنسان ليست له ساعته، وليس ثمة شيء ليس له مكانه(113)... لقد نشأت طول عمري؛ بين الحكماء، ولقد وجدت أن لا شيء أحسن للإنسان من الصمت...(114).

وقد اعتاد الكوهن إلعِزَر أن يقول: مثل من تزيد أفعاله على حكمته، كمثل شجرة كثرت فروعها وقلت جذورها، إذا هبت عليها الريح اقتلعتها وألقتها على وجهها... أما من تزد حكمته على أفعاله فمثله كمثل شجرة قلت أغصانها وكثرت جذورها لو أن رياح العالم كلها هبت عليها لما زحزحتها من مكانها(115).



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: الحياة والشريعة

ليس التلمود من التحف الفنية، ذلك بأن جمع أفكار ألف عام كاملة ووضعها في مجموعة مترابطة متناسقة عمل لا يقوى عليه حتى مائة حبر من الأحبار الصابرين. وما من شك في أن كثيراً من المقالات قد وضعت في غير موضعها من الكتاب؛ وأن عدداً من الفصول قد وضع في غير المقالات التي يجب أن يوضع فيها، وأن موضوعات تبدأ، ثم تترك، ثم تبدأ من جديد على غير قاعدة موضوعة. وليس الكتاب ثمرة تفكير بل هو التفكير نفسه، فكل الآراء المختلفة قد دونت فيه وكثيراً ما نترك النقطة المتعارضة دون أن تحل وتفسر. وكأننا قد اجتزنا خمسة عشر قرناً من الزمان لننصف إلى نقاش أشد المدارس إخلاصاً ونستمع إلى عقيبا ومإير ويهودا وهنسيا ورب في أثناء جدلهم العنيف. وإذا ما ذكرنا أننا فضوليون متطفلون، وأن هؤلاء الرجال وغيرهم قد اختطفت ألفاظهم العارضة اختطافاً من أفواههم وقذف بها في نصوص لم تكن معدة لها، ثم أرسلت تجلجل خلال القرون الطوال، إذا ذكرنا هذا استطعنا أن نعفو عما نجده في هذه الأقوال من جدل، وسفسطة، وأقاصيص غير صادقة، وتنجيم وحديث عن الجن والشياطين، وخرافات، ومعجزات، وأسرار الأعداد، وأحلام وحي، ونقاش لا آخر له يتوج نسيجاً مهلهلاً من الخيالات والأوهام، والغرور الذي يغريهم ويأسو جراحهم ويخفف عنهم آلام آمالهم الضائعة.

وإذا ما اشمأزت نفوسنا من قسوة هذه القوانين، ومن دقة هذه النظم وتدخلها فيما لا يصح أن تتدخل فيه، وما يجازي به من يخرقها من شدة وبطش، فإن من واجبنا ألا تحمل هذه المسألة محمل الجد، ذلك أن اليهود لم يدعوا قط أنهم يطيعون هذه الوصايا كلها، وأن أحبارهم كانوا يغضون أبصارهم عما يجدونه في كل صفحتين من كتابهم من ثغرات بين نصائحهم التي تدعو إلى الكمال وبين ما في الطبيعة البشرية من ضعف خفي. وفي ذلك يقول أحد الأحبار الحذرين: "لو أن إسرائيل قد حرصت الحرص الواجب على سبت واحد لجاء ابن داود من فوره"(116). ولم يكن التلمود كتاب قوانين يطلب إلى اليهود إطاعتها جملة وتفصيلاً، بل كان سجلاً لآراء الأحبار، جمعه جامعوه ليهدوا به الناس إلى التقي على مهل، ولم تطع الجماهير غير المثقفة إلا قلة مختارة من الأوامر التي جاءت بها الشريعة.

ويهتم التلمود اهتماماً كبيراً بالشعائر الدينية، ولكن بعض هذا الاهتمام كان رد فعل من اليهود لما بذلته الكنيسة المسيحية والدولة من محاولات لإرغامهم على التخلي عن شريعتهم. ولقد كانت هذه الشعائر سمة تميزهم، ورابطة تجمع شتاتهم وتصل بين مختلف أجيالهم، وشعاراً يتحدون بع عالماً لا يعفو قط عنهم. وإنا لنجد في مواضع متفرقة من مجلدات التلمود العشرين كلمات حقد على المسيحية، ولكنها حقد على مسيحية نسيت رقة المسيح وظرفه، مسيحية اضطهدت المتمسكين بشريعة أمر المسيح أتباعه بالعمل بها، مسيحية يرى أحبار اليهود أنها حادت عن مبدأ التوحيد جوهر الدين القويم وأساسه الذي لا يتبدل. وإنا لنجد بين هذه الشعائر والطقوس المعقدة، وهذا الجدل الشائك الطويل، مئات من النصائح السديدة، والبصيرة النفسانية، تتخللها في بعض الأحيان فقرات تعيد إلى الذاكرة جلال كتاب العهد القديم أو الحنان الصوفي الذي تراه في العهد الجديد. وإن ما يمتاز به اليهودي من فكاهة شاذة غريبة الأطوار لتخفف عنه عبء هذا الدرس الطويل. انظر مثلاً إلى ما يقوله أحد أحبارهم من أن موسى دخل متخفياً إلى الحجرة التي يلقي فيها عقيبا دروسه، وجلس في الصف الأخير، ودهش من كثرة القوانين التي استنبطها المعلم الكبير من الشريعة الموسوية، والتي لم يحلم بها قط كاتبها(117).

ولقد ظل التلمود أربعة عشر قرناً من الزمان أساس التربية اليهودية وجوهرها. وكان الشاب العبراني ينكب عليه سبع ساعات في كل يوم مدى سبع سنين، يتلوه ويثبته في ذاكرته بلسانه وعينه؛ وكان هو الذي يكوِّن عقولهم ويشكِّل أخلاقهم بما تفرضه دراسته من نظام دقيق، وبما يستقر في عقولهم من معرفة، شأنه في هذا شأن كتابات كنفوشيوس التي كان يستظهرها الصينيون كما يستظهر اليهود التلمود. ولم تكن طريقة تعلمه مقصورة على تلاوته وتكراره، بل كانت تشمل فوق ذلك مناقشته بين المدرس والتلميذ، وبين التلميذ والتلميذ، وتطبيق القوانين القديمة على ما يستجد من الظروف، وقد أفادت هذه الطريقة حدة في الذهن، وتقوية للذاكرة، وتثبيتاً للمعلومات، ميزت اليهودي من غيره في كثير من الميادين التي تتطلب الوضوح، وتركيز الذهن، والمثابرة، والدقة، وإن كانت في الوقت نفسه قد عملت على تضييق أفق العقل اليهودي والحد من حريته. ولقد روض التلمود طبيعة اليهودي الثائرة المهتاجة، وكبح جماح نزعته الفردية، وبث فيه روح العفة والوفاء لأسرته وعشيرته؛ ولربما كان "نير الشريعة" عبئاً ثقيلاً على ذوي العقول السامية الكبيرة، ولكنها كانت السبب في نجاة اليهود بوجه عام.

وليس من المستطاع فهم التلمود إلا إذا درس في ضوء التاريخ على أنه العامل الفعّال الذي أبقى على شعب مطرود، معدم، مظلوم، يتهدده خطر التفكك التام. ولقد فعل أحبار اليهود في تشتتهم الواسع ما فعله أنبياؤهم للاحتفاظ بالروح اليهودية في الأسر البابلي. فقد كان لا بد لهم من أن يعيدوا إليهم عزتهم وكبريائهم، وأن يعملوا على أن يستقر بيتهم النظام، ويثبتوا في قلوبهم الإيمان، ويحافظوا على أخلاقهم القويمة، ويعيدوا إليهم سلامة العقول وصحة الأبدان اللتين حطمتهما المحن الطوال(118). وبفضل هذا التأديب الشاق، وغرس أصول التقاليد اليهودية في صدر اليهودي بعد اقتلاعها، عاد الاستقرار وعادت الوحدة، عن طريق التجوال في أطراف القارات والأحزان خلال القرون الطوال. ولقد كان التلمود على حد قول هيني Heine وطناً منتقلاً لليهود يحملونه معهم أينما ساروا. فحيثما وجد اليهود، حتى وهم جالية واجفة في أرض الغربة، كان في وسعهم أن يضعوا أنفسهم مرة أخرى في عالمهم، وأن يعيشوا مع أنبيائهم وأحبارهم، وذلك بأن يرووا عقولهم وقلوبهم من فيض الشريعة. فلا غرابة والحالة هذه إذا أحبوا هذا الكتاب الذي نراه نحن أكثر تنوعاً واختلافاً مما كتبه مائة كاتب من أمثال منتاني Montaigne. ولم يكفهم الاحتفاظ بالكتاب كله، بل احتفظوا بأجزاء صغيرة منه بحب يصل إلى درجة الجنون، وكانوا يتبادلون قراءة نتف من هذا المخطوط الضخم، وأنفقوا في القرون المتأخرة أموالاً طائلة لطبعه كاملاً، وبكوا حين كانت الملوك والبابوات، والمجالس النيابية تحرم تلاوته، أو تصادره، أو تحرقه؛ وابتهجوا حين رأوا روشلين Reuchlin وإرزامس Erasmus يدافعان عنه، وعدوه في أيامنا هذه أثمن ما تمتلكه معابدهم وبيوتهم، واتخذوه ملجأ وسلوى، وسجناً للروح اليهودية.