قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 1 ب 5

صفحة رقم : 4327

قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الدولة الببيزنطية في أوج مجدها -> جستنيان -> الإمبراطور


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الخامس: جستنيان 527-565

الفصل الأول: الإمبراطور

توفي أركاديوس في عام 408 وخلفه ابنه ثيودوسيوس الثاني، إمبراطوراً على الشرق ولما يتجاوز السابعة من العمر. وقامت بلشيريا Pulcheria، وكانت تكبره بعامين، بتربيته، وكانت طوال المدة التي أشرفت فيها على تربيته تظهر من الجزع والإشفاق عليه مما جعله غير أهل للحكم، ولهذا ترك شئون الدولة لرئيس الحرس ولمجلس الشيوخ، وانهمك هو في نسخ المخطوطات القديمة وتزيينها، ويبدو أنه لم يقرأ قط كتاب القوانين الذي خلد اسمه. وفي عام 414 أصبحت بلشيريا وصية على العرش وهي في السادسة عشر من عمرها، وظلت تصرف شؤون الإمبراطورية ثلاثاً وثلاثين سنة، ونذرت هي وأختها أنفسهن بأن يضللن عذارى. ويبدو أنهن قد أوفين بالنذر، فقد كن يلبسن ملابس بسيطة تنم عن الزهد والتقشف. ويؤلفن وينشدن الترانيم الدينية، ويصلين، وينشئن المستشفيات، والكنائس، والأديرة، ويغدقن عليها العطايا. واستحال القصر ديراً، وحرم دخوله إلا على النساء وعدد قليل من رجال الدين. وفي وسط هذه المظهر الدينية حكمت بلشيريا، وبوديسيا زوجة أخيها، ووزراؤهما، البلاد حكما صالحاً، وهب الإمبراطورية الشرقية في خلال نيابتهما عن ثيودسيوس التي دامت اثنتين وأربعين سنة هدوءاً لم تعهده من زمن بعيد، بينما كانت الفوضى ضاربة أطنابها في الغرب. وكانت أهم حوادث ذلك العهد الذي لم يمح ذكراها من صفحات التاريخ نشر شرائع ثيودوسيس (438). فقد عهد في عام 429 إن طائفة من فقهاء القانون بأن يجمعوا كل ما شن في الإمبراطورية من قوانين مذ جلس قسطنطين على العرش، ونفذت الشرائع الجديدة في الشرق والغرب على السواء، وظلت هي الشرائع المعمول بها في الإمبراطورية حتى نشرت شرائع جستنيان التي كانت أعظم منها وأوسع.

وحكم الإمبراطورية الشرقية بين ثيودوسيوس وجستنيان الأول حكام كثيرون، كان الناس يلهجون بذكرها في أيامهم، أما الآن فلا يكاد يعرف عنهم اكثر من أسمائهم. إن يسر العظماء كلهم لتذكرنا بأن الخلود قصير الأجل! وحسبنا أن نذكر من هؤلاء الحكام ليو الأول (457-774) الذي أرسل لمحاربة جيسريك (467) أكبر أسطول حشدته حكومة رومانية، ولكن هذا الأسطول هزم ودمر. وأحدث زينون الإصوري Zenothe Isaurian زوج ابنته شقاقاً كبيراً بين الكنيستين اليونانية واللاتينية بسبب رغبته في تهدئة ثائرة اليعقوبين، وذلك حين قرر في رسالته "التوحيدية" المعروفة باسم الهنوتيكون Henoticon أن ليس للمسيح إلا طبيعة واحدة، وكان أناستاسيوس (491-518) رجلا قديراً، شجاعاً، محباً للخير، دعم مالية الدولة بإدارته الاقتصادية الحكيمة، وخفض الضرائب، وألغى صراع الآدميين مع الوحوش في الحفلات والألعاب، وجعل القسطنطينية أمنع من عقاب الجو بإنشاء الأسوار الطويلة، التي كانت تمتد أربعين ميلا من بحر مرمرة إلى البحر الأسود، وانفق الكثير من أموال الدولة في غير هذه من الأعمال العامة الكثيرة، وترك في خزائنها 000ر320 رطل من الذهب (900ر400ر131 ريال أمريكي) هي التي مهدت السبيل لفتوح جستنيان. لكن الشعب لم يعجبه اقتصاده وميوله اليعقوبية، فحاصر الغوغاء قصره، وقتلوا ثلاثة من أعوانه. ثم أشرف عليهم تعلوه مهابة الشيوخ التي قاربت الثمانين، وعرض عليهم أن ينزل عن العرش إذا اتفق الشعب على من يختاره خليفة له. وكان هذا شرطاً مستحيل التنفيذ. انتهى الأمر بعده بأن طلبت إليه الجماهير الثائرة أن يحتفظ بالتاج. ولما توفي بعد قليل من ذلك الوقت اغتصب الملك جستين، وهو شيخ أمي (518-527)، يحب الراحة التي يميل إليها ابن السبعين، ولذلك ترك حكم الإمبراطورية إلى جستنيان نائبه وابن أخيه.

ولم يكن هذا الاختيار ليروق فيما بعد، ومن يوم أن ولد جستنيان نفسه, في عين بركبيوس مؤرخه وعدوه. ذلك بأن الإمبراطور قد ولد في عام 482 من أبوين مزارعين من أصل إليرى -أو لعله صقلبي(1)- يقيمان بالقرب من سرديكا Sardica وهي مدينة صوفيا الحالية. وجاء به عمه جستين الى القسطنطينية ورباه تربية صالحة. ولما أصبح جستنيان ضابطاً في الجيش ولبث تسع سنين ياوراً ومساعداً لجستين، أظهر في عمله براعة عظيمة. ولما مات عمه (527) خلفه على عرش الإمبراطورية، وكان وقتئذ في الخامسة والأربعين من عمره، متوسط القامة والبنية، حليق الذقن، متورد الوجه، متجعد الشعر، رقيق الحاشية، تعلو ثغره ابتسامة تكفي لأن تخفي وراءها ما لا يحصى من الأغراض، وكان متقشفاً في طعامه وشرابه تقشف الزهاد، لا يأكل إلا قليلا، ويعيش معظم أيامه على الخضر(2). وكثراً ما كان يصوم حتى تكاد تخور قواه. وكان في أثناء صيامه لا ينقطع عما اعتاده من الاستيقاظ مبكراً، وتصريف شئون الدولة "من مطلع الفجر إلى الظهيرة، وإلى غسق الليل"، وكثيراً ما كان يظن أعوانه أنه قد آوى إلى مضجعه، بينما كان هو منهكماً في الدرس، يبذل جهده ليكون موسيقياً ومهندساً ومعمارياً، وشاعراً ومشترعاً، وفقيهاً في الدين وفيلسوف، وإمبراطوراً يجيد تصريف شئون الإمبراطورية. ولكنه رغم هذا كله لم يتخل عن خرافات عصره. وكان ذا عقل نشيط على الدوام، عظيم الإلمام بالشؤون الكبرى والتفاصيل الصغرى. ولم يكن قوي الجسم أو شجاعاً، وقد حدثته نفسه بالتخلي عن الملك في أثناء المتاعب التي قامت في بداية حكمه ولم ينزل قط إلى الميدان في حروبه الكثيرة. ولعل من عيوبه الناشئة من دماثة خلقه ورقة طبعه، أن كان من السهل على أصدقائه أن يؤثروا فيه ومن أجل هذا كان كثيراً ما يتقلب في سياسته. ويخضع في أحكامه لزوجته. وقد خص بروكبيوس جستنيان بمجلد كامل من تاريخه، يصفه بأنه "عديم الإخلاص، مخادع، منافق، يخفي عن الناس غضبه، يظهر غير ما يبطن، حاذق، قادر كل المقدرة على التظاهر بالرأي الذي يدعي أنه يعتنقه، بل إنه يستطيع في كثير من الأحيان أن يذرف الدمع من عينيه 000 إذا اقتضت الظروف ذلك"(3). وغير هذا كله يصح أن يكون وصفاً للدبلوماسي القدير. ويواصل بروكبيوس وصفه فيقول : "وكان صديقاً متقلباً في صداقته، عدواً إذا عقد هدنة لا يحافظ على عهده، حريصاً كل الحرص على الاغتيال والنهب" ويلوح أنه كان يتصف بهذا كله في بعض الأوقات، ولكنه كان يستطيع أن يكون رحيماً كريماً. ومن ذلك أن قائداً يدعى بروبوس Probus قد اتهم بسبه، فجئ به ليحاكم بتهمة الخيانة، ولما عرض التقرير الذي وضع عن محاكمته على جستنيان قام من مقعده وأرسل رسالة إلى بروبوس يقول فيها : "إني أغفر لك ما ارتكبته من ذنب في حقي، وأدعو الله أيضاً أن يسامحك"(4). وكان يقبل النقد الصريح ولا يغضب منه "وكان هذا الرجل الظالم"، الذي رزئ بمؤرخه "أسهل منالاً من أي إنسان آخر في العالم، وكان أحقر الناس في الدولة، ومن لا شأن لهم فيها على الإطلاق، يستطيعون كلما شاءوا أن يأتوا إليه ليتحدثوا معه"(5).

ومع هذا فقد عمل على أن يجعل ما كان يقام في بلاط الإمبراطور من مراسيم وحفلات غاية في الأبهة والفخامة، حتى فاقت ما كان يحدث منها في أيام دقلديانوس وقسطنطين. وكان كنابليون يعوزه التأييد الذي يناله المليك الشرعي، وذلك لأنه ورث الملك من مغتصب له. ولم يكن مهيباً في مظهره ومنشئه، ومن أجل هذا عمد إلى طقوس ومراسيم تبعث الرعب في القلوب كلما ظهر أمام الجماهير أو السفراْء الأجانب. ولهذا السبب عينه شجع فكرة الملكية المقدسة، واستخدم لفظ مقدس في وصف شخصه وملكه؛ وكان يطلب إلى من يمثلون أمامه أن يركعوا ويقبلوا أطراف ثوبه الأرجواني، أو أصابع قدميه من فوق حذاءيه . وعمل على أن يعمده ويتوجه بطريق القسطنطينية، ولبس قلادة اللؤلؤ. وقصارى القول أنه ما من حكومة قد عملت ما عملته الحكومة البيزنطية لتنال إجلاء الشعب له عن طريق المراسيم الفخمة، ولقد كان لهذه السياسة أثرها إلى حد كبير؛ ولسنا ننكر أنه قد حدثت انقلابات كثيرة في تاريخ البيزنطية ولكنها كانت في معظم الأحوال انقلابات مفاجئة قام بها موظفو القصر، لأن الحاشية نفسها لم تكن ترهبها ما وضعته لنفسها من مراسيم وطقوس.

وكانت أكبر فتنة قامت في عهد جستنيان هي التي حدثت في بدايته (532) وكادت أن تقضي على حياته. وكان سببها أن الخضر والزرق- وهم الحزبان اللذان انقسم إليهما أهل القسطنطينية حسب الثياب التي كان يلبسها راكبو خيول السباق المحببون- قد بلغت الخصومة بينهم حد العنف، حتى أصبحت شوارع العاصمة غير مأمونة، وحتى أضطر الأغنياء إلى أن يرتدوا ملابس الفقراء المساكين لينجوا بذلك من طعنات الخناجر في الليل. وانقضت الحكومة آخر الأمر على الطائفتين المتنازعتين، وقبضت على عدد كبير من زعمائهما، فما كان من هذين الحزبين إلا أن ضما صفوفهما وقاما بفتنة مسلحة ضد الحكومة، وأكبر الظن أن بعض الشيوخ قد اشتركوا في هذه الفتنة أو حاول رعاع المدن أن يقلبوها ثورة عارمة، فهجموا على السجون، وأطلقوا سراح المسجونين، وقتلوا عدداً من رجال الشرطة والموظفين، وأشعلت النار في المباني، وحرقت كنيسة أياصوفيا وأجزاء من قصر الإمبراطور، وهتفت الجماهير قائلة "Niha" أي النصر- وبذلك أطلق هذا الاسم على تلك الفتنة. وأفقد هذا النصر العظيم وعيه، فطالب إبعاد اثنين من أعضاء مجلس جستنيان ، لم يكن يحبهما، ولعل سبب ذلك انهما كانا من ظلمة الحكام، ووافق الإمبراطور على هذا الطلب، فازداد العصاة جرأة وأقنعوا هيباشيوس Hypatius، أحد الشيوخ ، بأن يقبل التاج، فقبله على الرغم من معارضته زوجته وتوسلها إليه ألا يقبله، وخرج بين هتاف الجماهير ليجلس على مقعد الإمبراطور في الألعاب التي كانت قائمة على قدم وساق في الميدان الكبير. واختبأ جستنيان أثناء ذلك في القصر، وأخذ يدبر أمر الهرب، ولكن الإمبراطورة ثيودورا أقنعته بالعدول عن هذه الفكرة، وأشارت عليه بالمقاومة. وتعهد لبساريوس قائد الجيش أن يقوم بهذا العمل، واختار من بين جنوده عدداً من القوط، وسار على رأسهم إلى ميدان الألعاب، وقتل ثلاثين ألفاً من العامة، وقبض على هيباشيوس، وأمر بقتله في السجن. وأعاد جستنيان الموظفين المفصولين إلى عملهما، وعفا عن المتآمرين من أعضاء مجلس الشيوخ، ورد إلى أبناء هيباشيوس ما صودر من أملاكهم(6). وظل جستنيان بعد هذه الفتنة آمناً على نفسه وملكه خلال الثلاثين عاماً التالية، ولكن يبدو أن إنساناً واحداً لا أكثر هو الذي كان يحبه.


الفصل الثاني: ثيودورا

وصف بروكبيوس في كتاب له عن فن البناء تمثالا لزوجة جستنيان فقال : "إنه جميل، ولكن جماله أقل من جمال الإمبراطورة؛ ذلك بأن التعبير عن جمالها بالقول، أو إبرازه في تمثال عمل لا يستطيعه مخلوق من البشر"(7). ولسنا نجد في كل ما كتب هذا المؤرخ- وهو أعظم المؤرخين بالبيزنطيين على بكرة أبيهم- إلا الثناء على ثيودورا، إذا استثنينا موضعاً واحداً لا أكثر من هذا التعميم. ولكن بروكبيوس قد كشف في كتاب له لم ينشر في أثناء حياته- ولهذا سمى الأنكدوتا Anecdota "أي الذي لم يخرج" _ عن فضيحة للملكة قبل زواجها. وقد بلغت هذه القصة عن الشناعة حداً بعث على الشك فيها وجعلها مثاراً للجدل مدى ثلاثة عشر قرناً. وهذا "التاريخ السري" موجز لما كان في صدر المؤرخ من حقد دفين صريح، وقد كتبه من وجهة نظر واحدة، وخصه كله بتسوءة سمعة جستنيان وثيودورا، وبليساريوس بعد وفاتهم. وإذا كان بروكبيوس هو أهم المراجع التي نعتمد علها في تأريخ ذلك العصر، وإذا كان هو نفسه يبدو في مؤلفاته الأخرى دقيقاً نزيهاً، فإنا لا نستطيع أن نرفض الأنكدوتا ونعدها كلها تزييفا وافتراء، وكل ما نستطيع أن نقوله فيها هو أنها انتقام عمد إليه رجل غاضب من رجال الحاشية لم تتحقق مطامعه. وها هو ذا جون الإفسوسي، الذي كان يعرف الإمبراطورة حق المعرفة، لا يطعن عليها بأكثر من قوله فيها : "ثيودورة العاهر"(6). وفيما عدا هذا فإنا قلما نجد في أقوال المؤرخين المعاصرين ما يؤيد التهم التي رماها بها بركبيوس. نعم إن كثيرين من رجال الدين ينددون بمروقها. ولكن ما من أحد منهم يذكر شيئاً عن فجورها - وهو كرم منهم لا يقبله العقل إذا كانت فاجرة بحق. وقد يكون في مقدورنا أن نستنتج من كل ما يقال عن ثيودورا أنها بدأت حياتها سيدة غير مكملة، واختتمتها ملكة متصفة بجميع صفات الملوك الطيبة .

ويقول بروكبيوس قول الواثق إنها ابنة مدرب دببة، وإنها نشأت في جو حلبة ألعاب الوحوش، ثم صارت ممثلة ومومساً، تثير مشاعر أهل القسطنطينية، وتدخل البهجة في قلوبهم بتمثيل المسرحيات الصامتة الخليعة. ونجحت أكثر من مرة في إجهاض نفسها، ولكنها ولدت أبناً غير شرعي، وصارت عشيقة رجل سوري يدعى هسبولوس Hecebolus ثم هجرها هذا العشيق، واختفت عن الأعين فترة من الزمان في الإسكندرية، عادت بعدها إلى الظهور في القسطنطية فقيرة ولكنها عفيفة شريفة، تكسب قوتها بغزل الصوف، ثم أحبها جستنيان، فاتخذها عشيقة له، ثم تزوج بها وجعلها ملكة(9). وليس في وسعنا الآن أن نعرف على وجه التحقيق ما في هذه الأقوال من صدق وكذب؛ ولكن الذي نستطيع أن نقوله إذا كانت هذه المقدمات لم تقلق بال إمبراطور فهي خليقة بألا نقف عندها طويلاً. وتوج جستنيان في كنيسة القديسة صوفيا بعد أن تزوجها بزمن قليل، وتوجت ثيودورا إمبراطورة إلى جانبه، ويقول بركبيوس إنه "من قسيس أظهر غضبه لهذا الإجرام الشنيع"(10).

وأيا كان منشأ ثيودورا فإنها أضحت بعد زواجها بالإمبراطور سيدة لا يستطيع أحد أن يتهمها في عفافها. وكانت تحب المال والسلطان حباً جماً، وتثور في بعض الأحيان ثورة جامحة، وتدبر المؤامرات لتصل إلى أغراضها التي لا تتفق مع أغراض جستنيان. وكانت نؤوما، تكثر من الطعام والشراب ، وتحب الترف، والحلي، والمظاهر، وتقضي عدداً كبيراً من اشهر السنة في قصورها القائمة عل شاطئ البحر. لكن جستنيان ظل طول حياته يحبها رغم هذه الصفات، ويصبر صبر الفلاسفة على تدخلها في خططه وأعماله. لقد خلع عليها وهو كلف بها حلة من السيادة لا تقل من الوجهة النظرية عن سيادته هو، ولم يكن في مقدوره أن يشكو إذا مارست هذه السيادة. وقد اشتركت اشتراكاً فعلياً في السياسة الخارجية والشئون الكنسية. وكانت تنصب البابوات والبطارقة وتخلعهم، وتعزل أعداءها من مناصبهم. وكانت في بعض الأحيان تصدر من الأوامر ما يتعارض وأوامر زوجها، وكثيراً ما كانت أوامرها هي في صالح الدولة، ذلك أن ذكائها كان يتناسب مع سلطانها. ويتهمها فبروكبيوس بقسوتها على معارضيها، وبأنها ألقت بعضهم في الجب وقتلت عدداً قليلاً منهم، وكان الذين يسيئون إليها إساءات شديدة يختفون دون أن يقف لهم أحد على أثر، وكانت تسير في هذا على المبادئ الأخلاقية السائدة بيننا في هذا القرن الذي نعيش فيه. لكنها لم يخل قلبها من الرحمة، من ذلك أنها بسطت حمايتها على البطريق أنثميوس الذي أمر جستنيان لنفيه لمروقه من الدين وأخفته في جناحها عامين كاملين. ولعلها كانت لينة فوق ما ينبغي مع زوجة بليساريوس التي عرفت بالزنى. ولكنها كفرت عن هذا بإقامة "دير للتوبة" جميل تلجأ إليه العاهرات التائبات. على أن بعض التائبات قد تبن من توبتهن، وألقين بأنفسهن من النوافذ لأنهن ضقن ذرعاً وفضلن عليه الموت(12). وكانت تعنى عناية الجدات بزواج صديقاتها، وكان لها هي الفضل في ترتيب هذه الزيجات، وكثيراً ما كانت تجعل الزواج شرطاً أساسياً للرقي في بلاطها. وقد صارت في شيخوختها حارسة قوية الشكيمة للأخلاق الكريمة وهو ما ينتظره الإنسان من أمثالها.

ثم وجهت عنايتها في آخر حياتها لدراسة الدين، وكانت تناقش زوجها في طبيعة المسيح. فقد كان جستنيان يبذل غاية جهده ليوحد الكنيستين الشرقية والغربية لاعتقاده أن الحدة الدينية لابد منها لوحدة الإمبراطورية. غير أن ثيودورا لم تكن تستطيع أن تفهم وجود طبيعتين في المسيح. وإن لم تجد صعوبة ما في وجود ثلاثة أقانيم في الله. ومن أجل هذا اعتنقت مذهب اليعاقبة، وهي تعلم أن الشرق لا يمكن أن يخضع للغرب في هذه العقيدة. لكنها كانت ترى أن قوة الإمبراطورية ومستقبلها إنما يعتمدان على ولايتها الغنية في آسية وسوريا، ومصر، لا على ولايتها الغربية التي خربها البرابرة وأهلكتها الحروب. وكان لها الفضل في تخفيف حدة تعصب جستنيان للمذهب الديني الأصيل، وبسطت حمايتها على الخارجين على هذا المذهب، وتحدت البابوية، وشجعت خفية قيام كنيسة يعقوبية مستقلة في الشرق؛ ولم تترد في سبيل تحقيق هذه الغايات في أن تعارض بكل ما تستطيع من قوة الإمبراطور والبابا على السواء.


الفصل الثالث: بليساريوس

في وسعنا أن نغتفر لجستنيان شغفه العظيم بالوحدة، لأن هذا الشغف من أعظم ما يولع به الفلاسفة ورجال الحكم على السواء؛ ولقد اقتضاهم في بعض الأحيان أكثر مما اقتضتهم الحرب. ولم تكن استعادة أفريقية من الوندال، وإيطاليا من القوط الشرقيين، وأسبانيا من القوط الغربيين، وغالة من الفرنجة، وبريطانيا من السكسون؛ ولم يكن طرد البرارة إلى مرابضهم، وإعادة الحضارة الرومانية إلى جميع ميادينها القديمة، ونشر الشريعة الرومانية مرة أخرى في جميع بقاع الرجل الأبيض من الفرات إلى سور هدريان، لم تكن هذه المطامع كلها مطامع غير نبيلة، وإن كانت قد أنهكت المنقذين ومن أريد إنقاذهم على السواْء. وكان من الوسائل التي اتبعها جستنيان لبلوغ هذا الغرض أن أزال ما بين الكنيستين الشرقية والغربية من نزاع حول مسألة البابوية، وكان من أكبر أمانيه أن يرد الأريوسيين واليعاقبة وغيرهما من الخارجين على الدين إلى حظيرته، ولم يكن أحد قد فكر في هذا كله منذ أيام قسطنطين.

ولقد كان من حسن حظ جستنيان أن وهب قادة عظماء، ومن سوء حظه أنه كانت موارده المالية قليلة - فلقد كان شعبه غير راغب في الحروب التي كان يريد أن يخوض غمارها، وغير قادر على أداء ما تطلبه من نفقات. وسرعان ما استنفذ الثلاثمائة والعشرين ألف رطل من الذهب التي تركها أسلاف جستين في خزانة الدولة، واضطر بعد استنفادها أن يلجأ إلى الضرائب التي نفرت من قلوب الشعب، وإلى ضروب الاقتصاد التي عرقلت أعمال قواده. وكانت الخدمة العسكرية الإجبارية العامة قد امتنعت قبل عهده بنحو مائة عام، وأصبح جيش الإمبراطورية يتألف كله تقريباً من جنود مرتزقة من البرابرة يؤتى بهم من مائة قبيلة ودولة، ويعيشون على النهب والسلب، ويحلمون بالثراء والاغتصاب؛ وكثيراً ما كانوا يشقون عصا الطاعة في أشد أزمات القتال، وكثيراً ما فقدوا ثمار النصر لاشتغالهم بجمع الغنائم والأسلاب، ولم يكن شئ يجمعهم ويؤلف بينهم، أو يشحذ هممهم إلا أداء أجورهم بانتظام أو خضوعهم لقواد عظام.

وكان بليساريوس، كما كان جستنيان، منحدراً من أسرة من الفلاحين الإليريين، ويذكرنا بالأباطرة البلقانيين_ أورليوس، وبروبوس، ودقلديانوس- الذين أنجو الإمبراطورية في القرن الثالث. ولسنا نعرف من أيام قيصر قائداً قبل بليسلريوس انتصر في وقائع كالتي انتصر فيها هذا القائد بمثل موارده القليلة من الرجال والمال. وما أقل من تفوقوا عليه في رسم الخطط الحربية أو الحركات العسكرية، وفي حب رجاله له وشفقته على أعدائه. ولعل مما يجدر ذكره في هذا المقام أن أعظم القواد - كالإسكندر، وقيصر، وبليساريوس، وصلاح الدين، ونابليون - قد وجدوا أن الرحمة أقوى من اسلحة الحروب، ولقد كان بليساريوس، كما كان أولئك القواد، ذا احساس مرهف وقلب رقيق يجعلان من الجندي محباً وإلهاً بمجرد فراغه من واجباته الدموية. ومصداق هذا أن بليساريوس كان يشغف بحب أنطونيا كما كان الإمبراطور يشغف بحب ثيودورا. وكان هذا القائد يتحمل خيانتها له، ولا يلبث أن ينسى غضبه من هذه الخيانة، وكان يصحبها معه في حروبه لكثير من الأسباب. وكان أول ما نال من النصر في حروبه مع الفرس. ذلك أن الحرب قد تجددت بين الإمبراطوريتين بسبب المنافسة القديمة بينهما للسيطرة على الطرق التجارية المؤدية إلى أواسط آسية وبلاد الهند، وبعد أن جنحا للسلم مدى مائة وخمسين عاماً. وبينما كان بليساريوس يتابع انتصاراته المجيدة إذ أستدعى فجأة إلى القسطنطينية، وكان سبب استدعائه أن جستنيان عقد الصلح مع بلاد الفرس (532) بأن أدى إلى كسرى أنوشروان 000ر11 رطل من الذهب، ثم أرسل قائده ليسترد أفريقية الوندال. وكان جستنيان قد استقر رأيه على أنه لا يستطيع الاحتفاظ بفتوح دائمة في بلاد الشرق لأسباب كثيرة : منها أن السكان سيظلون معادين له، وأن الحدود يصعب عليه أن يدافع منها. أما الغرب ففيه أمم اعتادت الحكم الروماني من عدة قرون، وهي تبغض سادتها البرابرة الخارجين على الدين، وتمد يد المساعدة للدولة الرومانية بالتعاون معها عليهم في الحرب وبأداء الضرائب لها في السلم. ومن أفريقية يستطاع أخذ الحبوب التي تسد أفواه أهل العاصمة فيسكتون عن توجيه اللوم للإمبراطور.

وكان جيسريك قد توفى بعد حكم دام تسعة وثلاثين عاما (477)، وعادت أفريقية الوندالية بعد موته إلى معظم أساليبها الرومانية. فكانت اللاتينية لغتها الرسمية، وكان الشعراء يكتبون فيها شعراً ميتاً ليكرموا به الملوك المنسيين. وأعيد بناء دار التمثيل في قرطاجة، وعاد الأهلون يمثلون المسرحيات اليونانية(14)، ويعظموا آثار الفن القديم، ويقيمون مباني جديدة فخمة. ويصف بركبيوس الطبقات الحاكمة بأنها من رجال مهذبين متحضرين، تظهر عليهم في بعض الأحيان مسحة من البرنزية ولكنهم في الأغلب الأعم قد أهملوا فنون الحرب، وأخذوا يضعفون ويضمحلون شيئاً فشيئاً تحت أشعة الشمس(15).

واجتمعت في البسفور في شهر يونية من عام 533 خمسمائة سفينة نقالة، وتسع وتسعون بارجة حربية، وتلقت أوامر الإمبراطور، وبركات البطريق، وأبحرت إلى قرطاجة. وكان بركبيوس من الذين صحبوا بليساريوس، وكتب وصفاً رائعاً "لحرب الوندال". ونزل بليساريوس في أفريقية بما لا يزيد على خمسمائة من الفرسان، واكتسح وسائل الدفاع الواهية عن قرطاجة، ولم تمض أكثر من بضعة أشهر حتى قضى على قوة الوندال. وعجل جستنيان فدعاه إلى احتفال بالنصر يقام بالقسطنطينية، فانقض المغاربة من التلال على الحاميات الرومانية، وأسرع بليساريوس بالعودة في الوقت المناسب القضاء على فتنة قامت بين جنوده، وقادهم بعدها للنصر، وبقيت أفريقية القرطاجة من ذاك الحين خاضعة للحكم الروماني إلى أن جاء العرب فاتحين.

وكان جستنيان قد هداه دهاؤه السياسي إلى عقد حلف مع القوط الشرقيين حين كان بليساريوس يهاجم أفريقية؛ فلما تم هذا الفتح أغرى الفرنجة بأن يعقدوا معه حلفاً آخر، في الوقت الذي أمر فيه بليساريوس بفتح إيطاليا التي كانت بليساريوس بلاد تونس قاعدة له، هاجم منها صقلية، ولم يجد صعوبة في الاستيلاء عليها، ثم عبر البحر منها إلى إيطاليا في عام 536، واستولى على نابلي بأن أمر بعض جنوده أن يدخلوا المدينة زحفاً في قنوات المياه المغطاة. وكانت قوات القوط الشرقيين ضعيفة منقسمة على نفسها، ورحب سكان روما ببليساريوس وحيوه تحية المحرر المنقذ، كما رحب به رجال الدين لأنه من القائلين بالتثليث، فدخل روما دون أن يلقى مقاومة. وأمر ثيوداهاد Theadahad بقتل أمالاتنسا Amalathunsa، فخلع القوط الشرقيون ثيوداهاد وأختاروا وتجيس Witigis ملكاً عليهم. وحشد وتجيس جيشاً مؤلفاً من 000ر105 رجل حاصر به بليساريوس في روما. ولما اضطر أهلها إلى الاقتصاد في الزاد والماء، والامتناع عن الاستحمام في كل يوم، بدءوا يتذمرون من بليساريوس الذي لم يكن معه إلا خمسة آلاف رجل مسلح، دافع بهم عن المدينة بمهارة وشجاعة، اضطر معهما وتجيس أن يعود إلى رافا بعد ما بذل من الجهد الكبير مدة عام كامل. وظل بليساريوس ثلاث سنين يلح على جستنيان بأن يمده بعدد آخر من الجند، حتى أرسلهم آخر الأمر ولكنه عقد لواءهم لقواد معادين لبليساريوس. وعرض القوط الشرقيون المحاصرون في رافا، والذين أوشكوا على الهلاك جوعاً، أن يسلموا المدينة إذا رضى بليساريوس أن يكون ملكاً عليهم. وتظاهر بليساريوس بالقبول حتى استولى على المدينة، ثم أسلمها إلى جستنيان (540). وشكر له الإمبراطور حسن صنيعه وداخلته فيه الريبة. ذلك أن بليساريوس قد كافأ نفسه على عمله بالاستيلاء على قدر كبير من الغنائم، هذا إلى أنه كسب ولاء جنوده إلى حد أزعج الإمبراطور وأنه قد عرضت عليه مملكة كاملة، فهل يستبعد عليه مع هذا كله أن يتطلع إلى الاستيلاء على العرش من ابن أخي رجل أغتصبه من صاحبه الشرعي؟ لهذا استدعاه جستنيان، وشاهد وهو قلق مرتاب حاشية القائد العظيم ومظهرها الفخم، ويقول بركبيوس "إن سكان بيزنطة كانوا يبتهجون حين يشهدون بليساريوس يخرج من بيته كل يوم ... ذلك بأن خروجه منه وسيره في الطريق كان شبيهاً بموكب في عيد احتشد فيه كثير من الخلق، لأنه كان يصحبه عدد كبير من الوندال، والقوط، والمغاربة، يضاف إلى هذا أنه كان بهي الطلعة، طويل القامة، جميل الوجه، ولكنه كان وديعاً رقيق الحاشية، دمث الأخلاق، حتى لقد كان يبدو كأنه رجل فقير لا يعرفه أحد"(16).

ولم يعن القواد الذين خلفوه في إيطاليا بنظام الجند، وتنازعوا فيما بينهم، فكسبوا لأنفسهم احتقار القوط، فنادوا برجل قوطي، جم النشاط، موفور العقل، رابط الجأش، ملكاً على الشعب المغلوب. وجمع توتيلا Totila الملك الجديد مجندين ذوي بأس شديد من البرابرة الجوالين الذين لا مأوى لهم في إيطاليا واستولى بهم على نابلي (543) وتيبور وضرب الحصار على روما. وقد أدهش الناس برحمته ووفائه بوعده، وعامل الأسرى معاملة طيبة انضووا بفضلها تحت لوائه، واستمسك بما قطعه على نفسه من العهود التي استسلمت بها نابلي، حتى بدأ الناس يتساءلون من هو البربري ومن هو اليوناني المتحضر. ولما وقعت زوجات بعض اعضاء مجلس الشيوخ أسيرات في يده عاملهن بلطف وشهامة واطلق سراحهن، وأما البرابرة الذين في خدمة الإمبراطور فلم يظهروا مثل هذه الرقة في المعاملة؛ بل أخذوا يعيثون في البلاد فساداً لأن جستنيان لم يؤد اليهم أجورهم لنفاذ ما كان في خزائنه من المال، حتى أخذ الناس يتذكرون في أسى وحنان حكم ثيودريك وما كان يسوده من عدل ونظام(17). وأمر بليساريوس أن يعود لإنقاذ الموقف. فلما عاد إلى إيطاليا تسلل وحده إلى روما المحاصرة مخترقاً صفوف توتيلا لكنه وصلها بعد فوات الوقت، فقد فقدت الحامية اليونانية روحها المعنوية، لأن ضباطها كانوا جبناء عاجزين؛ وفتح بعض الخونة أبواب المدينة، ودخلها جنود توتيلا البالغ عددهم عشرة آلاف رجل (546). وبعث بليساريوس وهو خارج منها رسالة إلى توتيلا يطلب إليه ألا يدمر المدينة التاريخية. وسمح توتيلا لجنوده الجياع الذين لم ينالوا أجورهم أن ينهبوها، ولكنه منعهم من إيذاء السكان وحمى النساء من شهوات الجنود الجامحة ثم أخطأ إذ غادر روما ليحاصر رافنا.فلما غاب عنها استردها بليساريوس، ولما عاد توتيلا وحاصرها مرة أخرى عجز عن أن يخرج منها القائد اليوناني الموهوب.وظن جستنيان أن الغرب قد خضع له فأعلن الحرب على بلاد الفرس، واستدعى بليساريوس ليذهب إلى الشرق . فلما ذهب استولى توتيلا على روما من جديد (549) ومن بعدها صقلية، وكورسكا، وسردينية، وشبه الجزيرة كلها تقريباً.

وأخيراً أعطى جستنيان قائداً من الخصيان يدعى نارسيز Narses "مبلغاً كبيراً جداً من المال" وأمره أن يحشد جيشاً جديداً يطرد به القوط من إيطاليا. وأدى نارسيز هذه المهمة بمهارة وسرعة، فهزم توتيلا، وقتل في أثناء فراره، وسمح لمن بقى من القوط أن يخرجوا من إيطاليا سالمين، وانتهت بذلك "الحرب القوطية" بعد أن دامت ثمانية عشر عاماً (553).

وأتمت هذه السنون خراب إيطاليا. ذلك أن روما قد وقعت في أيدي الجيوش المحاربة خمس مرات متوالية، وحوصرت ثلاث مرات، ونفذ منها الطعام، وتعرضت للنهب والسلب، ونقص عدد سكانها من مليون إلى أربعين ألفاً(18). نصفهم تقريباً من المعدمين الذين يعيشون على الصدقات البابوية، ودمرت ميلان وقتل أهلها على بكرة أبيهم. وتدهورت مئات من المدن والقرى إلى هوة الإفلاس بسبب اغتصاب الحكام ونهب الجنود، وبارت الكثير من الأراضي التي كانت من قبل خصبة وهجرها السكان، ونقصت موارد الطعام. ويقول الرواة إن خمسين ألفاً ماتوا من الجوع في بيسينوم Picenum وحدها في خلال هذه الأيام الثمانية عشر(19). وتحطم كيان الأشراف، فقد قتل كثيرون منهم في المعارك الحربية وفي أعمال النهب، وفر عدد كبير منهم إلى خارج البلاد حتى لم يبق منهم من يكفى لقيام مجلس شيوخ روما، فلم تعد تسمع عنه شيئاً ما بعد عام 579(20). وتهدمت قنوات مياه الشرب التي أصلحها ثيودريك من قبل وأهملت، واستحالت الكمبانيا مرة أخرى مناقع واسعة تتفشى فيها الملاريا، ولا تزال كذلك حتى يومنا هذا. وبطل استعمال الحمامات الفخمة التي كانت تمدها هذه القنوات بالماء وتهدمت، وحطمت مئات من التماثيل التي نجت من عبث ألريك وجيسريك، أو صهرت لتصنع من معادنها قذائف وعدد حربية في أثناء الحصار. وكانت آثار الخراب والدمار هي كل ما يشهد بما كان لروما القديمة عاصمة نصف العالم من عظمة وجلال. ولبث الإمبراطور الشرقي زمناً قليلاً حاكماً على إيطاليا بعد هذا الخراب، ولكن ما ناله من النصر كان نصراً عديم القيمة كلفه الكثير من المال والرجاء والعناء، ولم تنج روما من آثار هذا النصر حتى عصر النهضة.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: قانون جستنيان

لقد نسي التاريخ حروب جستنيان، وحق له أن ينساها، ولا يذكر اسمه إلا مقترناً بقوانينه. وكان قد مضى قرن من الزمان منذ نشر قانون ثيودوسيوس، وأضحت كثير من أصوله عتيقة لا تطبق لتغير الظروف التي شرعت فيها، وسنت قوانين جديدة كثيرة اختلطت بعضها ببعض في كتب القوانين، ووجد تناقض كثيرين بعض القوانين والبعض الآخر عاق أعمال المحاكم والسلطة التنفيذية. يضاف إلى هذا أن تأثير المسيحية قد بدل كثيراً من الشرائع وغير تفسيرها. ثم إن قوانين روما المدنية كثيراً ما كانت تتعارض مع قوانين الأمم التي تتألف منها الإمبراطورية، وإن كثيراً من التشريعات لم تكن تتفق مع تقاليد الشرق المصطبغ بالصبغة اليونانية. وقصارى القول أن شريعة روما كلها أضحت أكداساً من المواد القانونية التجريبية لا قانوناً منطقياً واحداً. ولم يكن جستنيان، وهو صاحب النزعة القوية إلى الوحدة، ليرضى عن هذه الفوضى كما لم يكن يرضى عن تمزيق أوصال الإمبراطورية. ولهذا عين في عام 528 عشرة من فقهاء القانون لينظموا قوانين الدولة، ويوضحوها، ويصلحوها. وكان أكثر أعضاء هذه اللجنة نشاطاً ونفوذاً هو الكوستر تريبونيان Tribonian الذي ظل إلى أن مات أشهر الموحين بخطط جستنيان التشريعية، والناصحين له، والمنفذين لآرائه، وذلك رغم حرصه الشديد على المال ومظنة الكفر بالله. وأممت اللجنة الجزء الأول من عملها بسرعة أكثر مما كان خليقاً بها، وأصدرته في عام 529 باسم القانون الدستوري، وأعلن الإمبراطور أنه هو قانون الإمبراطورية، وأنه يلغي جميع ما سبقه من التشريعات إلا ما تضمنه منها، وصُدِّر بهذه العبارة الجميلة:

إلى الشبان الراغبين في دراسة القانون: يجب ان يسلح جلالة الإمبراطور بالقانون كما يجب أن يعلو مجده بقوة السلاح، حتى يسود بذلك الحكم الصالح في الحرب والسلم على السواء، وحتى يتبين للناس أن الحاكم... لا تقل عنايته بالعدالة عن عنايته بالنصر على أعدائه(21).

ثم أنتقل اعضاء اللجنة إلى القسم الثاني من مهمتهم، وهي أن يضموا في مجموعة واحدة آراء فقهاء القانون الرومان، التي رأوا أنها لا تزال خليقة بأن تكون لها قوة القانون، ونشرت هذه الآراء باسم مجموعة القوانين والفتاوى المدنية (533)؛ وقالت اللجنة إن آراء الفقهاء والشروح التي وردت في هذه المجموعة ستصبح من ذلك الحين واجبة الطاعة على جميع القضاة، وإن جميع ما عداها من الآراء قد فقدت ما كان لها من قوة شرعية، وامتنع من ذلك الحين نَسْخ ما عدا هذه من آراء فقهاء القانون واختفى معظمها، ويستدل مما بقي منها على أن المحررين قد حذفوا ما كان من آراء مناصرة للحرية، وأنهم عمدوا إلى الغش والتزوير فبدلوا بعض أحكام فقهاء القانون الأقدمين حتى تكون أكثر ملاءمة للحكم المطلق.

وبينا كانت اللجنة تقوم بهذا العمل الكبير أصدر تريبونيان Tribonian واثنان من زملائه كتاباً موجزاً في القانون المدني سمياه القانون Institutiones (533). وكان هذا الكتاب في جوهره عبارة عن شروح جايوس Gius معدلة ومصححة حتى تلائم روح ذلك العصر. وكان جايوس هذا قد لخص في القرن الثاني بعد الميلاد القوانين المدنية المعمول بها في أيامه. وأظهر في هذا العمل من البراعة ما يثير الإعجاب. وكان جستنيان في هذه الأثناء يصدر قوانين جديدة. فلما كان عام 534 ضم تريبونيان وأربعة من مساعديه هذه القوانين إلى النسخة الجديدة المعدلة من كتاب القوانين. وبعد صدورها أصبحت النسخة الأولى غير ذات موضوع، ولم يعثر عليها بعدئذ. ولما مات جستنيان نشر ما سنّه من قوانين جديدة باسم التشريعات الجديدة. ولم تنشر هذه باللغة اللاتينية كما كانت تنشر الكتب السابقة بل نشرت باللغة اليونانية، وكانت هي آخر ما صدر باللاتينية من كتب القانون في الإمبراطورية البيزنطية. وقد أطلق على هذه المؤلفات كلها فيما بعد اسم مجموعة القوانين المدنية. وكان يشار إليها في غير دقة باسم قانون جستنيان.

وجرى هذا القانون على ما جرى به قانون ثيودوسيان فجعل الشريعة المسيحية الأصلية قانون الدولة. وقد بدأ بتقرير التثليث وصب اللعنات على نسطوريوس، وأوتبكيس، وأبولينارس. واعترف بالزعامة الدينية للكنيسة الرومانية وأمر كل الهيئات المسيحية بالخضوع إلى سلطانها. ولكن الفصول التي جاءت بعد المقدمة أعلنت سلطة الإمبراطور على الكنيسة فقالت إن جميع القوانين الكنسية كجميع القوانين المدنية تصدر عن العرش، ثم مضى كتاب القانون يذكر القوانين الخاصة بالمطارنة، والأساقفة، ورؤساء الأديرة، والرهبان، ويحدد العقوبات التي توقع على القساوسة الذين يقامرون، أو يرتادون دور التمثيل أو يشهدون الألعاب(22). وجعل عقوبة المانيين والمارقين المرتدين هي الإعدام. أما الدوناتيون، والمنتانيون، واليعقوبيون وغيرهم من الطوائف المنشقة فكان عقابهم أن تصادر املاكهم، وأن يحكم عليهم بأنهم غير أهل لأن يبيعوا أو يشتروا، أو يرثوا أو يُورَثوا. وحرمت عليهم الوظائف العامة، والاجتماعات، كما حرموا من حق مقاضاة المسيحيين أتباع الدين القويم للحصول على ما لديهم قِبَلهم من الديون. وأباح القانون في بعض مواده الرحيمة للأساقفة أن يزُوروا السجون، ليحموا المسجونين من سوء استعمال القانون.

وبدل القانون الميزات القديمة التي كانت تتمتع بها بعض الطبقات. من ذلك أن المعاتيق لم يعودوا يعاملون على أنهم طائفة خاصة قائمة بنفسها، بل أصبحوا يتمتعون من ساعة تحريرهم بجميع مميزات الأحرار، فيباح لهم أن يكونوا أعضاء في مجلس الشيوخ وأن يكونوا أباطرة. وقسم الأحرار جميعاً إلى طبقة ذوي الشرف أو الرتبة، وإلى طبقة عامة. وأقر القانون نظام الطبقات الذي نشأ منذ أيام دقلديانوس فقسمها إلى أشراف Patricii، وممتازين Illustres ومحترمين Specabites (وهي التي أخذ منها لفظ Respecabls أي محترم الإنجليزية)، وأصفياء Claricsimi، وأمجاد Gloriosi ولقد كان في هذا القانون الروماني كثير من العناصر الشرقية. وظهرت فيما ورد في هذه الشرائع من قوانين خاصة بالرق بعض آثار المسيحية أو الرواقية. مثال ذلك أن اغتصاب أمّة كان عقابه الإعدام كاغتصاب الحرة سواء بسواء؛ كذلك كان يحق للعبد أن يتزوج من حرة إذا وافق سيده على هذا الزواج. وكان جستنيان يشجع العتق كما تشجعه الكنيسة، لكن القانون كان يجيز بيع الطفل حين يولد في سوق الرقيق إذا كان أبواه معدمين(23). وكان في قانون جستنيان فقرات تشجع استرقاق رقيق الأرض، وتمهد السبيل لنظام الإقطاع. مثال ذلك أن الرجل الحر إذا زرع قطعة من الأرض ثلاثين عاماً كان يطلب إليه أن يبقى هو وأبنائه إلى أبد الدهر مرتبطين بهذه الأرض(24). وكان القانون هذا بأن يمنع الزارع من ترك الأرض؛ وإذا هرب رقيق الأرض أو صار من رجال الدين من غير رضاء سيده، جاز لهذا السيد أن يطالب به كما يطالب السيد بعبده.

رفع هذا القانون من منزلة المرأة إلى حد ما. وكان إخضاعها للوصاية عليها طول حياتها قد انتهى في القرن الرابع، وبطل المبدأ القديم القاضي بأن الأبناء الذكور هم وحدهم الذين يحق لهم أن يرثوا آباءهم، وبذلت الكنيسة جهوداً كبيرة لتأييد المبدأ الجديد لأن كثيرات من النساء كن يوصين لها بأملاكهن. وحاول جستنيان أن ينفذ آراء الكنيسة الخاصة بالطلاق، وحرمه إلا إذا أراد أحد الزوجين أن يدخل ديراً للنساء أو الرجال. غير أن هذا العمل كان خروجاً متطرفاً على العادات والقوانين القائمة وقتئذ ولذلك عارضه كثيرون من الشعب بحجة أنه سيزيد من حوادث التسميم، وذكرت فيما سن بعدئذ من القوانين في الإمبراطورية الرومانية حالات كثيرة مختلفة يباح فيها الطلاق، وظلت هذه معمولاً بها، في الإمبراطورية البيزنطية حتى عام 1453 فيما عدا فترات منقطعة(25). ومحى من القانون ما فرضه أغسطس من عقوبات على العزوبة والعقم. وكان قسطنطين قد جعل الزنى من الجرائم التي يعاقب مرتكبها بالإعدام، وإن لم ينفذ هذا العقاب إلا في حالات نادرة، أما جستنيان فقد احتفظ بعقوبة الإعدام للزنى من الرجال، اما الزانية فقد جعل عقابها الإقامة في دير للنساء. وأباح القانون للزوج أن يقتل عشيق زوجته إذا وجدها في منزله أو شاهدها تتحدث معه في حانة بعد إنذارها ثلاث مرات أمام شهود. كذلك فرض القانون عقوبات صارمة على من يزني بامرأة غير متزوجة أو بأرملة إلا إذا كانت حظية أو عاهراً. وكان هتك العرض غصباً يعاقب عليه بالإعدام ومصادرة الأملاك، وكان ثمن هذه الأملاك المصادرة يعطى للمرأة المغتصبة. ولم يكتف جستنيان بتقرير عقوبة الإعدام للواط، بل كان في كثير من الأحيان يضيف إليها التعذيب، وبتر الأعضاء، وعرض المذنبين على الجماهير في الشوارع قبل إعدامهما، وإنا لنحس في هذا التشريع الصارم ضد الشذوذ الجنسي بأثر المسيحية التي روعتها آثام الحضارة الوثنية فدفعتها إلى هذا التزمت الوحشي.

وغير جستنيان قانون الملكية تغييراً أساساً. من ذلك أنه ألغى ما كان ينص عليه القانون القديم من حق الأقارب من العصب أن يرثوا من يموت دون أن يترك وصية؛ وجعل حق الميراث لأبناء الميت وأحفاده الخ من الظهور والبطون، وشجع قانون الهبات والوصايا لجهات البر؛ وأعلن أنه لا يجوز النزول عن شيء من أملاك الكنيسة، سواء كانت ثابتة أو منقولة، أو كانت أجور أملاك، أو رقيق أرض، أو عبيد؛ فلم يكن يحق لأي رجل من رجال الدين أو غير رجال الدين ولا لأية جماعة دينية أو غير دينية النزول عن أي شيء تمتلكه الكنيسة أو بيعه أو الإيصاء به. وأضحت هذه القوانين التي وضعها ليو الأول وأنثميوس وأيدها قانون جستنيان هي الأساس الشرعي لثروة الكنيسة المتزايدة. فقد كانت أملاك غير رجال الدين تنقسم وتتفرق، أما أملاك الكنيسة فظلت تتراكم وتزداد جيل بعد جيل. وحاولت الكنيسة أن تحرم الربا، ولكنها عجزت عن تحريمه؛ وأجاز القانون القبض على المدينين الذين يتخلفون عن جلسات المحاكمة، ولكنه أجاز إطلاق سراحهم بالكفالة أو إذا أقسموا أن يعودوا حين يطلبون للمحاكمة.

وحرم القانون سجن أي شخص إلا بأمر أحد كبار القضاة، وحدد الزمن الذي يمكن أن ينقضي بين القبض عليه ومحاكمته تحديداً دقيقاً لا يتعداه. وبلغ عدد المحامين من الكثرة حداً جعل جستنيان يشيد لهم باسلقا خاصة نستطيع أن نتصور مساحتها إذا عرفنا أن مكتبتها كانت تضم 150.000 مجلد أو ملف. وكان المتهم يحاكم أمام قاضي يعينه الإمبراطور، غير أنه كان من المستطاع تحويل القضية إلى محكمة الأسقف إذا رغب في ذلك الطرفان المتقاضيان. وكانت نسخة من الكتاب المقدس توضع أمام القاضي في كل جلسة. وكان وكيلا الطرفين يقسمان على الكتاب أنهما سيبذلان كل ما في وسعهما للدفاع عن موكليهما بذمة وامانة، ولكنهما يتخليان عن القضية إذا وجداهما مما يخل بالشرف والأمانة. وكان المدعي والمدعي عليه يلزمان أيضاً بأن يقسم كل منهما على الكتاب المقدس أن قضيته عادلة. وكانت العقوبات التي ينص عليها القانون صارمة ولكنها قلما كانت ملزمة فقد كان في وسع القاضي مثلاً أن يخفف العقاب عن النساء والقُصَّر، والسكارى الذين يقدمون للقضاء. وكان السجن للمحافظة على المتهمين حتى يحاكموا، ولكنه قلما كان يستخدم لعقاب المدنيين.

وقد أجاز قانون جستنيان عقاب المجرم ببتر اعضائه، فكان في هذا أكثر رجعية من قانون هدريان وأنطونينوس بيوس. مثال ذلك أن جباة الضرائب الذين يزورون فى حساباتهم، والذين ينسخون الآداب الدينية اليعقوبية كان يجوز عقابهم بقطع يدهم، اتباعاً للنظرية القائلة بأن العضو الذي اقترف ذنباً يجب أن يجازى بما أقترفه. وكثيراً ما يذكر القانون عقوبة جدع الأنف أو قطع الرقبة، وأضافت القوانين البيزنطية إليهما سلم العينين، وأكثر ما يكون ذلك لتشويه وجه الوارثين للعرش أو المتطلعين له. وكانت عقوبة الإعدام تنفذ في الأحرار بقطع رءوسهم، وفي بعض الأرقاء بصلبهم؛ وكان السحرة والفارون من الجيش يحرقون أحياء؛ وكان في وسع المواطن المحكوم عله أن يستأنف الحكم أمام محكمة أعلى درجة من المحكمة التي أصدرته، ثم إلى مجلس الشيوخ ثم إلى الإمبراطور نفسه آخر الأمر.

وإنا لنعجب بقانون جستنيان إذا نظرنا إليه في مجموعه أكثر مما نعجب به لو نظرنا إلى كل جزء من أجزائه على انفراد. وأكثر ما يختلف فيه عن القوانين التي صدرت قبله هو تشدده في اتباع المبادئ والسنن المقررة، وسد الطريق على التعديل والإصلاح، وما يسري فيه من ميل إلى القسوة في الانتقام، حتى لقد كان في وسع الروماني المتعلم أن يجد الحياة في حكم الأنطونيين أكثر حضارة منها في حكم جستنيان. وكان سبب هذه العيوب أن الإمبراطور لم يكن يستطيع التخلص من البيئة التي يعيش فيها والزمن الذي وجد فيه، وقد اضطرته رغبته الملحة في ان يوحد كل شيء على أن يقنن ما في عصره من الخرافات والوحشية كما يقنن ما فيه من عدالة ورحمة. وكان القانون شديد التمسك بالقديم والمحافظة عليه، شأنه في هذا شأن كل ما هو بيزنطي، وكان موائماً كل المواءمة لحضارة خيل إلى أهلها أنها لن تموت أبداً. لكنه سرعان ما نقص الخاضعون له فلم يتعدوا أهل مملكة صغيرة آخذة في النقصان. ذلك أن الشرقيين الخارجين على الدين والذين أذاقهم هذا أشد العذاب قد فتحوا صدورهم للمسلمين وكانوا أكثر رخاء في ظل القرآن منهم في ظل هذا القانون. وأغفلت إيطاليا تحت حكم اللمبارد، وغلاة تحت حكم الفرنجة وإنجلترا تحت حكم الأنجليسكسون، وأسبانيا تحت حكم القوط الغربيين، أغفلت هذه البلاد كلها أوامر جستنيان. لكن هذا القانون بالرغم من هذا كله، ظل بضعة أجيال يبسط النظام والأمن على خليط من الشعوب، وبفضله استطاع الناس أن يجتازوا حدود كثير من الأمم وينتقلون في شوارع مدنها وهم أكثر أمناً وأعظم حرية مما يستمتع به الذين ينتقلون في ذلك الإقليم نفسه في هذه الأيام. ولقد ظل هو قانون الإمبراطورية إلى آخر أيامها، ولقد أحيا سنته مسترعو بولونيا بعد خمسة قرون من اختفائه في الغرب. وعمل به الأباطرة والبابوات، وسرى في نظم كثير من الدول الحديثة، فكان هو الهيكل الذي قام عليه نظامها.


الفصل الخامس: الفقيه الديني الإمبراطوري

لم يبق بعدئذ أمام جستنيان إلا أن يوحد العقيدة الدينية، وأن يجعل الكنيسة أداة متجانسة يتخذها وسيلة للحكم. وأكبر الظن أن جستنيان كان مخلصاً في عقيدته الدينية، وأن غرضه من توحيد الدين لم يكن سياسياً فحسب، فقد كان هو نفسه يعيش في قصره عيشة الراهب في ديره على قدر ما تسمح له بذلك ثيودورا؛ يصوم، ويصلي، وينكب على دراسة المؤلفات الدينية، ويناقش دقائق العقائد الدينية مع الفلاسفة، والبطارقة، والبابوات. وينقل بروكبيوس في هذا المعنى قول أحد المتآمرين على جستنيان دون أن يخفي موافقته التامة على ما ينقله: "إن من أوتي أقل قسط من عزة النفس لا يليق به أن يرفض العمل على قتل جستنيان؛ وخليق به ألا يداخله أقل خوف من رجل يجلس على الدوام في ردهة قصره من غير حرس ويقضي الجزء الأكبر من الليل يقلب صفحات الكتب المسيحية المقدسة هو وجماعة من القساوسة الطاعنين في السن"(26). ويكاد يكون من أول الأعمال التي استعان فيها جستنيان بسلطته وهو نائب عن جستين أنه رتق الفتق الذي اتسع بين الكنيستين الشرقية والغربية على أثر نشر رسالة الإمبراطور زينون المعروفة باسم هنوتوكون Henotucon وقد استطاع جستنيان أن يكسب تأييد القساوسة الإيطاليين أتباع الدين الأصلي ضد القوط، وإخوانهم في الشرق ضد اليعقوبين، بقبوله وجهة نظر البابوية في المسائل التي كانت موضوع الخلاف.

وكانت هذه الشيعة الأخيرة التي تقول بأن ليس للمسيح إلا طبيعة واحدة قد كثر عددها في مصر حتى كاد يعادل عدد الكاثوليك. وبلغ من كثرتهم في الإسكندرية أن انقسموا هم أيضاً إلى طائفتين يعقوبيتين إحداهما تؤمن بنصوص الكتاب المقدس وأخرى لا تؤمن به. وكان أفراد الطائفتين يقتتلون في شوارع المدينة بينما كانت نساؤهم يتبادلن القذائف من سطوح المنازل. ولما ان أجلست قوات الإمبراطور المسلحة أسقفاً كاثوليكياً في كرسي أثناسيوس كانت أول تحية حياه به المصلون أن رجموه بوابل من الحجارة، ثم قتله جنود الإمبراطور وهو جالس على كرسيه. وبينما كانت الكثلكة تسيطر على أسقفية الإسكندرية، كان الخارجون عليها يزداد عددهم زيادة مطردة في ريف مصر، فكان الفلاحون لا يأبهون بقرارات البطريق أو بأوامر الإمبراطور، وكانت مصر قد خرجت عن طاعة الإمبراطورية أو أوشكت أن تخرج عن طاعتها قبل أن يفتتحها الغرب بقرن كامل.

وتغلبت ثيودورا بثباتها على جستنيان المتردد في هذه المسألة كما تغلبت عليه في كثير من المسائل الأخرى، فأخذت تأمر مع شماس روماني يدعى فيجلوس Vligilius وتعرض عليه أن تنصبه بابا إذا قبل بعض مطالب اليعقوبيين. وأثمرت هذه المؤامرة ثمرتها، فأخرج بليساريوس البابا سلفريوس من روما (537) ونفي إلى جزيرة بلماريا Palmaria حيث مات مما لقيه من قسوة، ونصب فيجليوس بابا في مكانه بأمر الإمبراطور. وقبل جستنيان آخر الأمر رأي ثيودورا القائل بأن مذهب اليعاقبة لا يمكن القضاء عليه، فحاول أن يسترضي أتباعه في وثيقة دينية إمبراطورية تعرف باسم الفصول الثلاثة. ثم استدعى فيجليوس إلى القسطنطينية وألح عليه بأن يوافق على هذه الوثيقة. وأجابه فيجليوس إلى طلبه في كره منه، فما كان من رجال الدين الكاثوليك في أفريقية إلا أن أعلنوا طرده من الكنيسة وتجريده من رتبه الكهنوتية (550). وحينئذ قام جستنيان بمحاولة سافرة للسيطرة على البابوية لم يقم بها إمبراطور غيره من قبله. ذلك أنه دعا مجلساً عاماً للاجتماع في القسطنطينية (553) لم يكد يحضره أحد من أساقفة الغرب، ووافق المجلس على المبادئ التي وضعها جستنيان، ولكن الكنيسة الغربية رفضتها ، وعاد النزاع بين الكنيستين الشرقية والغربية إلى ما كان عليه من قبل، ولم يخمد لظاه مدة قرن من الزمان.

وتغلب الموت آخر الأمر على كل هذا الجدل، فقد توفيت ثيودورا في عام 548، وكانت وفاتها أشد الضربات التي حطمت شجاعة جستنيان، وصفاء ذهنه، وقوة بدنه. وكان وقتئذ في الخامسة والستين من عمره، وكان قد أضعفه نسكه وما حل به من ازمات متعاقبة. فترك شؤون الحكم لعماله، وأهمل وسائل الدفاع التي بذل غاية جهده لإقامتها، وانهمك في البحوث الدينية، وحلت بالبلاد كوارث لا حصر لها عليه نغصت عليه حياته في السبعة عشر عاماً التي عاشها على حافة القبر. فقد امتاز حكمه بكثرة ما حدث فيه من الزلازل التي دمرت اثنتي عشرة مدينة وكادت تمحو آثارها من الوجود، ونضب معين خزانة الدولة من جراء النفقات التي تطلبتها إعادة بنائها، وفشا الطاعون في البلاد في عام 542، وجاء بعده القحط في عام 556، وعاد الطاعون مرة أخرى في عام 558. وفي عام 559 اجتاز الهون الكتريجور Kutrigur Huns نهر الدانوب، وهتكوا أعراض الأمهات والعذارى الراهبات، وألقوا إلى الكلاب بالأطفال الذين ولدتهم السبايا اللائي أخذوهن معهم في زحفهم، وتقدموا حتى بلغوا أسوار القسطنطينية. واستغاث الإمبراطور في هلعه الشديد بالقائد العظيم الذي طالما أنجاه من الكوارث من قبل. وكان بليساريوس وقتئذ ضعيفاً منهوك القوى، ولكنه انتضى سيفه ولبس درعه، وجمع ثلاثمائة من جنوده المحنكين الذين حاربوا معه في إيطاليا، وضم إليهم بضع مئات من الجنود غير المدربين، وسار بهم ليلاقي الهون البالغ عددهم سبعة آلاف رجل. وزع قواه بما تعوّد من حذق وبُعد نظر، فأخفى مائتين من خيرة جنوده في غابات قريبة من ميدان القتال، فلما أن تقدم الهون لقتاله انقض هؤلاء على جناحهم، بينما كان بليساريوس يتلقى هجوم أعدائه على رأس جيشه الصغير.

وارتد البرابرة على أعقابهم وولوا الأدبار قبل أن يصاب روماني واحد بجرح خطير. وغضبت الجماهير في العاصمة لأن بليساريوس لم يقتف أثر العدو ويقبض على قائد الهون ويأت به أسيراً. ودأبت الغيرة في قلب الإمبراطور فاستمع إلى وشاية الواشين بقائده الكبير، واتهمه بالتآمر عليه، وأمره بأن يسرح جنوده المسلحين. ولما مات بليساريوس في عام 565 صادر جستنيان نصف ممتلكاته.

وعاش الإمبراطور بعد قائده ثمانية أشهر. وأثمرت دراسته للدين في سنيه الأخيرة ثمرة عجيبة! وهل أعجب من أن يخرج على الدين حامي حمى الدين. فقد أعلن جستنيان أن جسد المسيح غير قابل للدنس، وأن طبيعة المسيح البشرية لم تتعرض في يوم من الأيام لحاجة من حاجات الجسد الفاني، ولا لشيء من مساوئه. وأنذره رجال الدين بأنه إذا مات قبل أن يرجع عن هذه الخطيئة "فسيلقى في نار جهنم ويبقى فيها إلى أبد الآبدين"(27). ولكنه مات قبل أن يتوب من ذنبه (556)، بعد حياة دامت ثلاثة وثمانين عاماً، جلس منها على العرش ثمانية وثلاثين. وكان موت جستنيان نقطة أخرى من النقاط التي يمكن أن تعد خاتمة التاريخ القديم. لقد كان في حياته إمبراطور رومانياً بحق، يفكر في جميع شؤون الإمبراطورية شرقيها وغربيها على السواء، ويبذل كل ما وسعه من جهد ليصد عنها البرابرة. وليعيد إلى الإمبراطورية الواسعة حكماً منظماً وشرائع متجانسة. ولقد أفلح في تحقيق جانب كبير من هذا الغرض: فقد استرد أفريقية، ودلماشيا، وإيطاليا، وقورسقة، وسردينيا، وصقلية، وبعض أسبانيا، وطرد الفرس من سوريا، وتضاعفت رقعة الإمبراطورية في عهده ضعفين. وتمثل شريعته بما فيها من وحدة، ووضوح، واتساع في الأفق، ذروة في تاريخ القانون. ولسنا ننكر أن إدارته لشؤون الإمبراطورية قد لوّثها فساد الموظفين، ورشوة الحكام، وفدح الضرائب، وتدخل الأهواء، والنزوات في العفو والعقاب؛ ولكنها مع ذلك كانت تمتاز بالعمل المتواصل على تنظيم حكم الإمبراطورية وشئونها الاقتصادية؛ ولقد أفلحت في إقامة صرح من النظام إن يكن معادياً للحرية فإنه قد حفظ كيان الحضارة في ركن من أركان أوربا في الوقت الذي غرقت فيه سائر القارة في ظلمات العصور المظلمة. هذا إلى أنه قد خلد اسمه في تاريخ الصناعة والفن كما يشهد بذلك جامع أياصوفيا الذي هو أثر من آثاره. وما من شك في أن أشياعه من معاصريه قد بدا لهم أن الإمبراطورية استطاعت مرة أخرى أن تصد تيار التدهور وأن تبعد عنها يد الردى إلى حين.

غير ان الذي يؤسف له لم يكن أكثر من مهلة جد قصيرة. فقد ترك جستيان خزائن الدولة خاوية، وكان قد وجدها عامرة، وكانت شرائعه القاسية الخالية من التسامح الديني، وكان جباته اللصوص، سبباً في نفور الأمم التي استولت جيوشه على بلادها، فلم يطل ولاؤها له، وكانت هذه الجيوش قد ضعفت مِرتَّها، وتبدد شملها، ولم تنل أجورهاـ فلم يكن في وسعها أن يطول دفاعها عن البلاد التي افتتحتها وأحلت بها الخراب والدمار. وسرعان ما تركت أفريقية للبربر، وسوريا؛ وفلسطين، ومصر، ثم أفريقية وأسبانيا للعرب، وإيطاليا للمبارد. وقبل أن ينقضي قرن واحد على موت جستنيان خسرت الإمبراطورية أكثر مما كسبه هو لها. وإذا ما عدنا إلى الماضي أدركنا من خلال ثناياه، وامتلأت نفوسنا زهواً بهذا الإدراك، ما كان في نظام حكم الإمبراطورية من أخطاء. وبدا لنا أنه كان من الخير أن تجمع القوميات والمذاهب الدينية الناشئة في نظام اتحادي، وأن تمد يد الصداقة إلى القوط الشرقيين الذين حكموا إيطاليا حكاً صالحاً إلى حد كبير. وأن تكون الدولة أداة لحفظ الثقافة القديمة من الضياع ومَعِيناً غزيراً تستمد منه الدول الجديدة أسباب حضارتها ورفاهيتها.

وليس ثمة ما يضطرنا إلى قبول حكم بروكبيوس على جستنيان، فقد كفانا بروكبيوس نفسه مؤونة دحض هذا الحكم(28) لقد كان الإمبراطور حاكماً عظيماً، نشأت أخطاؤه من إخلاصه لعقيدته وجريه فيها على سنن مطلقة: فنشأ اضطهاده من ثقته، ونشأت حروبه من نزعته الرومانية، ومصادرته للأملاك من هذه الحروب. فنحن نأسف أشد الأسف لضيق أفقه وعنف أساليبه، ونطرب لتحقيقه أغراضه. لقد كان هو وبليساريوس، لابنياس وإبتيوس، آخر الرومان.