قصة الحضارة - ول ديورانت - م 3 ك 5 ج 30

صفحة رقم : 4068

قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> انتصار المسيحية -> النزاع بين الكنيسة والدولة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثلاثون: انتصار المسيحية 306 - 325 م

الفصل الأول: النزاع بين الكنيسة والدولة 64 - 311 م

كانت الحكومة الرومانية قبل أيام المسيحية تُظهر في أغلب الأحيان للأديان المعارضة للدين الوثني المقرر تسامحاً تُظهر هذه الأديان مثله للشعائر الرسمية وللإمبراطوريّة؛ فلم تكن تطلب من أتباع العقائد الجديدة إلا حركة يأتونها من حين إلى حين يمجدون بها الآلهة ورئيس الدولة. ولهذا آلم الأباطرة أن يجدوا أن المسيحيين واليهود، دون سائر أتباع الأديان الخارجة على دين الدولة، هو الذين يأبون أن يعظموا عبقرياتهم. ذلك أن إحراق البخور أمام تمثال الإمبراطور كان قد أصبح دليل الولاء للإمبراطوريّة وتوكيداً لهذا الولاء، فهو من هذه الناحية أشبه ما يكون بيمين الولاء التي تُطب إلى من ينالون حق المواطنية في هذه الأيام. لكن الكنيسة كانت ترفض من ناحيتها الفكرة الرومانية القائلة بأن الدين خاضع للدولة، وترى في عبادة الإمبراطور نوعاً من الشرك وعبادة الأصنام، ولذلك أمرت أتباعها أن يرفضوا هذه الشعائر مهما ينلهم من الأذى بسبب هذا الرفض. واستدلت الحكومة الرومانية من هذا على أن المسيحية حركة متطرفة - بل لعلها حركة شيوعية - تعمل في السر على قلب النظام القائم.

وقد استطاعت القوتان قبل عهد نيرون أن تعيشا معاً من غير أن يشتجر بينهما النزاع؛ وكان القانون يعفي اليهود من أن يعبدوا الإمبراطور؛ ونال المسيحيون في أول أمرهم هذه الميزة لأنهم لم يكن يُستطاع التفريق بينهم وبين اليهود. ولكن مقتل بطرس وبولس، وحرق المسيحيين ليزيد حرقهم ألعاب نيرون بهاء، بدلا هذا التسامح المتبادل المشوب بالاحتقار من الجانبين عداء دائماً، وحرباً تندلع نارها بين الفينة والفينة. فلا غرابة أن وجه المسيحيون بعد هذا الإيذاء، أسلحتهم كلها إلى صدر روما - فنددوا بما فيها من فساد وعبادة للأصنام، وسخروا بآلهتها، وأظهروا الشماتة فيها حين حلّت بها الكوارث(1)، وتنبئوا بسقوطها بعد زمن قليل، وأعلنوا؛ في حماسة الدين الذي أخرجه عن تسامحه عدم تسامح الدولة معه، أن كل مَن أتيحت لهم الفرصة لاعتناق المسيحية ثم لم يعتنقوها سيعذبون عذاباً أبدياً؛ وقال الكثيرون منهم إن هذا سيكون أيضاً مصير كل الخلائق الذين وجدوا قبل المسيحية ثم لم يعتنقوها لأي سبب من الأسباب، وإن كان بعضهم قد استثنى سقراط وحده من العذاب. وردّ الوثنيون على هذا بأن سموا المسيحيين "حثالة الناس" و "برابرة الوقحين"، واتهموهم بأنهم "أعداء الجنس البشري" وقالوا أن الكوارث التي حلت بالإمبراطوريّة ليست إلا نتيجة غضب الآلهة الوثنية والسماح لمن يسبونها من المسيحيين بأن يبقوا أحياء(2). وأخذ كل فريق يفتري على الآخر آلاف الإفتراءات، فاتهم المسيحيون بأنهم سحرة متصلون بالشياطين، وأنهم يقترفون الخطايا سراً، ويشربون دماء الآدميين في عيد الفصح(3)، ويعبدون الحمار. لكن النزاع كانت له أصول أعمق من هذا الخصام. ذلك أن الدولة كانت أسا الحضارة الوثنية في حين أن الدين كان هو أساس الحضارة المسيحية. فالروماني كان ينظر إلى دينه أنه جزء من كيان الحكومة وشعائرها، وكانت الوطنية هي الذروة التي تنتهي عندها مبادئه الأخلاقية العليا. أما المسيحي فكان ينظر إلى دينه على أنه شيء منفصل عن المجتمع السياسي، وأنه أسمى من هذا المجتمع مقاماً، وكان يدين أعظم الولاء للمسيح لا لقيصر، وقد وضع ترتليان المبدأ الثوري بأن الإنسان غير ملزم بأن يطيع قانوناً يعتقد أنه ظالم(4)؛ وكان المسيحي يعظم أسقفه، بل يعظم قسيسه، أكثر من تعظيمه الحاكم الروماني، ويعرض ما يقع بينه وبين زملائه المسيحيين من مشاكل قانونية على رؤساء الكنيسة لا على موظفي الدولة(5). وكان اعتزال المسيحي للشئون الدنيوية يبدو للوثني كأنه هروب من الواجبات المدنية وضعف للروح القومي والإرادة القومية. وأشار ترتليان على المسيحيين بأن يرفضوا الخدمة العسكرية؛ وعمل عدد كبير منهم بنصيحته كما يدل على ذلك نداء سلسس لهم بأن يضعوا حداً لهذا الرفض، ورد أرجن عليه بأن المسيحيين سيدعون للإمبراطورية وإن أبوا أن يحاربوا من أجلها(6)، وكان زعماء المسيحيين يحرضونهم على أن يتجنبوا غير المسيحيين، وأن يبتعدوا عن الألعاب الهمجية التي يقيمونها في أعيادهم، وألا يغشوا دور تمثيلهم لأنها مباحة للفجور(7)، وحرم على المسيحي أن يتزوج بغير مسيحية، وعلى المسيحية أن تتزوج بغير مسيحي، واتهم الوثنيون العبد المسيحيين بأنهم يبذرون بذور الشقاق في الأُسر بتحريضهم أبناء أسيادهم وزوجاتهم على اعتناق الدين المسيحي؛ واتهم الدين المسيحي بأنه يعمل لتشتيت شمل الأُسر وخراب البيوت(8). على أن معارضة الدين الجديد قد جاءت من قبل الشعب أكثر مما جاءت من قبل الدولة. ذلك أن الحكام كانوا في كثير من الأحيان رجالاً مثقفين متسامحين، ولكن جمهور السكان الوثنيين قد ساءهم عزلة المسيحيين، وتعاليمهم، وثقتهم بأنفسهم، وأهابوا بحكامهم أن يعاقبوا أولئك الملحدين الذين يهينون الآلهة. ويشير ترتليان إلى "الكراهية العامة التي يحسّون بها نحونا"(9).

ويلوح أن للقانون الروماني منذ أيام نيرون كان يعد الجهر بالمسيحية جريمة يعاقب عليها بالإعدام(10)، ولكن معظم الأباطرة كانوا يتغاضون عن تنفيذ هذا القانون متعمدين(11)، فكان في وسع المسيحي إذا اتهم بمخالفته أن ينجو عادة من العقاب بحرق البخور أمام تمثال الإمبراطور، ويبدو أنه كان يُسمح له بعد ذلك أن يمارس شعائر دينه غير مضيق عليه(12). أما المسيحيون الذين يرفضون تقديم هذا الولاء للإمبراطور فكانوا يسجنون، أو يجلدون، أو ينفون، أو يحكم عليهم بالعمل في المناجم، أو بالإعدام في حالات نادرة. ويبدو أن دومتيان نفى بعض المسيحيين من روما ولكنه "وهو الرجل الرحيم إلى حد ما، لم يلبث أن وقف ما بدأه"(13). ونفّذ بلني هذا القانون مدفوعاً إلى ذلك بفضول الرجل الهاوي الذي يبغي إظهار سلطانه على الناس (111)، إذا جاز أن نحكم عليه من رسالته التي بعث بها إلى تراجان: "إن الطريقة التي اتبعتها مع مَن اتهموا أمامي بأنهم مسيحيون هي هذه: لقد سألتهم هل هم مسيحيون؟ فإذا اعترفوا بأنهم كذلك أعدت السؤال عليهم مرة أخرى، وأنذرتهم في الوقت نفسه بأنهم سيقتلون إذا أصروا على قولهم، فإذا أصروا عليها أمرت بقتلهم... إن الناس بعد أن هجروا المعابد، فلا يكادون يطرقونها، قد أخذوا الآن يعودون إليها... وكثر الطلب على الضحايا من الحيوانات بعد أن قل الإقبال على شرائها" .

وقد رد عليه تراجان بقوله:

"إن الخطة التي سرت عليها يا عزيزي بلني في بحث حالات مَن اتهموا أمامك بأنهم مسيحيون خطة حكيمة... يجب ألا تجد في البحث عن هؤلاء الناس، ولكن إذا ما بلغت أمرهم وتثبت من جرمهم فعاقبهم، فإذا أنكر الواحد منهم أنه مسيحي وأيد ذلك... بالابتهال إلى آلهتنا فاعفِ عنه... فإذا بلغت عن أحدهم ولم يذكر في البلاغ اسم المتهم فلا تتخذه بينة على أحد"(14).

وتوحي الفقرة التي أثبتناها هنا بخط الرقعة بأن ينفذ القانون القائم من قبل أيامه إلا مكرهاً، ولكننا مع ذلك نسمع عن شهيدين بارزين في أيام زعامته: أحدهما سمعان رئيس كنيسة أورشليم، وثانيهما أغناثيوس أسقف إنطاكية، وأكبر الظن أنه قد استشهد غيرهما ممن هم أقل منهما شهرة.

وأمر هدريانُ المتشكك الذي يتسع عقله لقبول كل الآراء، موظفيه بأن يفسروا كل شك في مصلحة المسيحيين(15)، أما انطونينس، الذي كان أكثر منه استمساكاً بدينه، فقد أباح اضطهادهم أكثر من هدريان. وحدث في أزمير أن طالب الغوغاء فليب حاكم ولاية آسية ألا يتهاون في تنفيذ القانون، فأجابهم إلى ما طلبوا وأمر بإعدام أحد عشر من المسيحيين في المجتلد (155). ولكن هذا لم يطفئ من تعطش الغوغاء للدماء بل زادهم ظمأ إليه، فأخذوا يطالبون بإعدام الأسقف بوليكارب وهو أب ورع في السادسة والثمانين من العمر قيل إنه في أيام صباه كان يعرف القدّيس يوحنا، وقد وجد الجنود الرومان هذا الشيخ في بيت في ضاحية من ضواحي المدينة، فجاءوا به إلى الوالي وهو يشهد الألعاب دون أن يبدي الرجل أية مقاومة. وألح عليه فليب أن "أقسم اليمين، وسب المسيح، وسأصفح عنك". ويقول أقدم سفر من أعمال الشهداء إن يوليكارب أجابه بقوله: "لقد ظللت خادماً له ستاً وثمانين سنة، لم يسيء فيها إلي قط، فكيف إذا أسب ملكي الذي أنجاني؟" ونادا الغوغاء بأنه ينبغي أن يحرق حياً. وتقول الوثيقة التي فاض بها قلب مفعم بالتقوى والإيمان إن النار كانت برداً وسلاماً عليه، بل كان فيها كالخبز الذي يخبز، وقد فاحت منه رائحة ذكية كالتي تنبعث من البخور أو غيره من الأفاوية الغالية. وأمر الطغاة آخر الأمر سيافاً أن يجهز عليه بسيفه؛ فلما فعل خرجت منه يمامة، وخرج دم بلغ من غزارته أن انطفأت منه النار وأثار ذلك دهشة الجماهير كلها"(16).

وتجدد الاضطهاد في عهد أورليوس الورع. ذلك أنه لما حلّت بالبلاد الكوارث من فيضان، ووباء، أو حرب في حكمه الذي كان في أول أمره حكماً موفقاً سعيداً، ساد الاعتقاد بأن سبب هذه الكوارث هو إهمال آلهة الرومان أو إنكارها، وشارك أورليوس الجماهير في ذعرها، أو لعله خضع لها، فأصدر في عام 177 مرسوماً يقضي بعقاب الشيع الدينية التي تنشر الاضطراب "باستثارة أصحاب العقول غير المتزنة" بتلقينها عقائد جديدة، وثارت الجماهير الوثنية في تلك السنة نفسها ثورة عنيفة على المسيحيين في فينا وليون ورجموهم بالحجارة كلما تجرءوا على الخروج من بيوتهم. وأمر المرسوم الإمبراطوري بالقبض على زعماء المسيحيين في ليون، ومات الأسقف يوثينس، وهو شيخ في سن التسعين، في السجن من آثار التعذيب. وأرسل رسول إلى روما ليسأل الإمبراطور عما يشير به في معاملة سائر المسجونين، فأشار ماركس بأن يطلق سراح من ينكر الدين المسيحي، وأن يقتل من يعتنقه كما يقضي بذلك القانون.

وكان أهل ليون يحتفلون وقتئذ بعيد الأوغسطاليا كعادتهم في كل عام، وأقبلت الوفود من جميع بلاد الغالة حتى ازدحمت بهم عاصمة الولاية. وبينما كانت الألعاب قائمة على قدم وساق جيء بالمسيحيين المتهمين إلى المدرج ووجهت إليهم الأسئلة، فأما مَن أنكروا فقد أخرجوا من المدرج، وأصر سبعة وأربعون على الاستمساك بدينهم "فقتلوا بعد أن ذاقوا من ألوان العذاب ما لا مثيل له إلا في أيام محاكم التفتيش. من ذلك أن أتلس الذي يلي يوثينس في المراتب الكهنوتية قد أرغم على الجلوس على كرسي من الحديد المحمى الذي شوى جسمه وأزهق روحه(17). وظلت بلندينا Blandina، وهي أَمة صغيرة السن، تعذب يوماً كاملاً، ثم ربطت في زكيبة، وأُلقيت في المجتلد ليفتك بها ثور وحشر، وتحملت الفتاة عذابها وهي صامتة، ولذلك اعتقد كثيرون من المسيحيين أن المسيح كان يُفقد شهداءه قوة الإحساس بالألم؛ ولعل النشوة الدينية والخوف هما علة عدم الإحساس. وفي ذلك يقول ترتليان: "إن المسيحي كان يلهج بالشكر حتى حين يُحكم عليه بالإعدام".

وخفت حدة الاضطهاد في عهد كمودس، ثم عاد إلى ما كان عليه في عهد كبتميوس سفيرس، وبلغ من شدته أن كان التعميد نفسه يُعّد جريمة تستحق العقاب، وفي عام 203 استشهد كثيرون من المسيحيين في قرطاجنة ومن هؤلاء أم في مقتبل العمر تدعى بربتوا Berpetua تركت وراءها وصفاً يفتت الأكباد لأيامها التي قضتها في السجن، ورجاء أبيها لها أن تنكر الدين المسيحي. وقد ألقيت هي وأم شابة أخرى إلى أحد الأثوار الوحشية وافترسهما الثور. ولدينا في أحد أسئلتها الأخيرة "حين ألقي بها إلى الثيران" دليل على ما يحدثه الخوف والغيبوبة من تخدير. وتصف لنا قصتها كيف وجهت بنفسها إلى عنقها خنجر المجالد الذي أمر على الرغم منه أن يقتلها(19). ولم تكن الإمبراطورات السوريات اللائي جلسن على العرش بعد سبتميوس يعنين كثيراً بالآلهة الرومانية. ولقيت المسيحية في أيامهن شيئاً من التسامح الناشئ من عدم اهتمامهن بأمرها: ويبدو أن السلم قد سادت جميع الأديان المتنافسة في أيام ألكسندر سفيرس.

وانتهت الهدنة بتجدد هجمات البرابرة. وإذا شئنا أن نفهم الاضطهاد في عهد ديسيوس (أو أورليوس) على حقيقته وجب علينا أن نصوّر لأنفسنا أمه منهمكة في حرب عوان، تزعجها الهزائم المنكرة، وتتوقع أن يغزو بلادها الأعداء، وتجتاح الإمبراطوريّة موجة من النشوة الدينية القوية في عام 249؛ ويهرع الرجال والنساء إلى الهياكل يحيطون بالآلهة ويضرعون إليها بالصلاة والدعوات؛ وفي وسط هذه الحمى التي تتأجج فيها نيران الوطنية والخوف، يقف المسيحيون عن بعد وقفة المشاهدين الذين لا يعنيهم الأمر، ويظلون كسابق عهدهم يستنكرون الخدمة العسكرية ويقاومونها(20)، ويسخرون من الآلهة، ويفسرون انهيار الإمبراطوريّة بأنه هو البشرى التي وردت في النبوءات عن تدمير "بابل" وعودة المسيح. وأراد ديسيوس أن يتخذ من حال الشعب النفسية فرصة يستعين بها على تقوية روح الحماسة الوطنية والوحدة القومية فأصدر مرسوماً يطلب فيه إلى جميع سكان الإمبراطوريّة أن يتقدموا إلى آلهة روما بعمل يتقربون به إليها ويردون به غضبها. ويلوح أن المسيحيين لم يُطلب إليهم أن ينكروا دينهم بل أُمروا أن يشتركوا في التوسل إلى الآلهة التي طالما أنجت روما من الخطر المحدق بها كما يعتقد العامة. واستجابت كثرة المسيحيين إلى هذا الأمر؛ ففي الإسكندرية "كانت الردة عامة" على حد قول الأسقف ديونيشيوس(21)؛ وحدث ذلك بعينه في قرطاجنة وأزمير؛ وأكبر الظن أن المسيحيين من أهل تلك المُدن وأمثالها كانوا يرون أن هذا التوسل لا يُعد وأن يكون نوعاً من الوطنية، ولكن أسقفي أورشليم وإنطاكيا قضيا نحبهما في غياهب السجن، وأعدم أسقفا روما وطولوز (250)، وألقي مئات من المسيحيين الرومان غياهب الجب، وقُطعت رؤوس بعضهم، ومات الكثيرون منهم على قوائم الإحراق، وألقي عدد قليل منهم إلى الوحوش في حفلات الأعياد، وخفت حدة الاضطهاد بعد عام من ذلك الوقت، ولم يحل عيد الفصح في عام 251 حتى انتهى أمرها أو كاد. وبعد ست سنين من ذلك الوقت أمر فليريان، في خلال أزمة أخرى من أزمات الغزو والرعب، أن "يمثل كل شخص للشعائر الرومانية، وحرم كل الاجتماعات المسيحية، وعصى البابا سكستس Sixtus هذا الأمر فأعدم هو وأربعة من شمامسته، وكذلك قطع رأس سبريان أسقف قرطاجنة، وحرق أسقف طراقونة حياً، وفي عام 261 نشر جالينوس، الذي جلس على العرش بعد أن أزال عنه الفرس فليريان، أول مرسوم يقضي بالتسامح الديني اعترف فيه بأن المسيحية من الأديان المسموح بها وأمر أن يرد إلى المسيحيين ما صودر من أملاكهم، وحدثت اضطهادات خفيفة في السنين الأربعين التالية، ولكن هذه السنين كانت في معظمها سني هدوء ونماء سريع للمسيحية لم ترَ لها مثيلاً من قبل، فقد كان الناس في خلال الفوضى والرعب السائدين في القرن الثالث يفرون من الدولة الواهية المزعزعة الأركان إلى الدين يجدون فيهم سلواهم، وقد وجدوا هذه السلوى في المسيحية أكثر مما كانوا يجدونها في غيرها من الأديان المنافسة لها واعتنق المسيحية وقتئذ عدد من الأغنياء، فشادت كنائس فخمة، وأجازت لأبنائها أن يستمتعوا بطيبات العالم، وخبت نار الأحقاد الدينية بين الأهلين، وأصبح المسيحيون أكثر حرية في الاختلاط بالوثنيين بل انهم تزوجوا منهم، وبدا أن ملكية دقلديانس الشرقية قدر لها أن تعزز الأمن والسلام في الدين وفي السياسة على السواء.

بيد أن جليريوس كان يرى أن المسيحية هي آخر العقبات القائمة في سبيل السلطة المطلقة، فأخذ يحرض رئيسه على أن يجعل العودة إلى العهود الرومانية السابقة عودة كاملة، وذلك بإرجاع الآلهة الرومانية إلى منزلتها القديمة. وتردد دقلديانوس في الأخذ بهذه المشورة، لأنه كان عازفاً عن ركوب أخطار لا موجب لها، ولأنه كان أكثر من جليريوس تقديراً لثقل العبء. ولكن حدث في يوم من أيام القربان الإمبراطوريّة أن رَسَمَ المسيحيون علامة الصليب ليتقوا شر الشياطين الخبيثة؛ ولما أن عجز العرافون عن أن يجدوا في أكباد الحيوانات المذبوحة العلامات التي كانوا يرجون تفسيرها ألقوا الذنب على وجود أشخاص كفار نجسين، فأمر دقلديانوس أن يقرّب جميع الحاضرين القرابين إلى الآلهة أو يجلدوا، وأن يمتثل جميع جنود الجيش لهذا الأمر أو يُفصلوا من الخدمة (302). ومن أغرب الأشياء أن الكتاب المسيحيين يتفقون هنا مع الكهنة الوثنيين فيقول لكتنتيوس Lactantantantius(22) إن صلوات المسيحيين أبعدت الآلهة الرومانية، وكتب الأسقف ديونيشيوس بهذا المعنى ذاته قبل ذلك بجيل. ولم يترك جليريوس فرصة إلا انتهزها للقول بأن الوحدة الدينية ضرورية لتدعيم الملكية الجديدة، وما زال يلح على دقلديانوس حتى خضع له في آخر الأمر. وأمر الحكام الأربعة في عام 303 أن تهدم كل الكنائس المسيحية، وأن تحرق الكتب المسيحية، وتُحل المجتمعات المسيحية وتصادر أملاكها، ويُحرم المسيحيون من جميع المناصب العامة، ويعاقب بالإعدام مَن يُضبط منهم في أي اجتماع ديني. وبدأت كتيبة من الجند هذا الاضطهاد بإحراق كنيسة نقوميديا وتدميرها عن آخرها.

وكان المسيحيون وقتئذ من الكثرة بحيث يستطيعون رد العدوان بمثله، فقامت حركة ثورية في سوريا، وأضرم بعضهم النار مرتين في قصر دقلديانوس بنقوميديا، واتهم جليريوس المسيحيين بجريمة الحرق عمداً، واتهموه هم بنفس التهمة، وقبض على مئات من المسيحيين وعذبوا، ولكن الجريمة لم تثبت على أحد واصدر دقلديانوس في شهر سبتمبر أمراً بأن يطلق سراح المسجونين من المسيحيين الذين يعبدون الآلهة الرومانية، أما من يرفض ذلك منهم فلتسلط عليه جميع أنواع العذاب التي تعرفها روما. فلما قاوم المسيحيون هذه الأوامر بازدراء استشاط غضباً من هذه المقاومة، وأمر جميع كبار الحكام في الولايات بأن يبحثوا عن كل مسيحي، وأن يستخدموا معه كل وسيلة مستطاعة لإرغامه على استرضاء الآلهة. ولعله قد سره أن يترك هذه المقامرة التعسة إلى مَن يخلفه فاعتزل الملك.

ونفذ مكسميان هذا المرسوم في إيطاليا تنفيذاً عسكرياً كاملاً صارماً. وشجع جليريوس بعد أن صار أغسطس الاضطهاد في الشرق بجميع وسائل التشجيع، فزاد عدد الشهداء في كل جزء من أجزاء الإمبراطوريّة عدا غالة وبريطانيا، حيث اكتفى قنسطنطيوس بإحراق عدد قليل من الكنائس. ويؤكد لنا يوسبيوس، ولعله يفعل ذلك في سورة الغضب، أن الناس كانوا يُجلدون حتى تنفصل لحومهم عن عظامهم، أو أن لحمهم كان يقشر عن عظامهم بالأصداف ، وكان الملح أو الخال يصب في جروحهم، ويُقطّع لحمهم قطعة قطعة ويرمى للحيوانات الواقفة في انتظارها، أو يُشدون إلى الصلبان فتنهش لحومهم الوحوش الجياع جزءاً جزءاً. ودست عصى حادة الأطراف في أصابع بعض الضحايا تحت أظافرهم، وسملت أعين بعضهم، وعلق بعضهم من يده أو قدمه، وصُبّ الرصاص المصهور في حلوق البعض الآخر، وقطعت رؤوس بعضهم أو صلبوا، أو ضربوا بالعصى الغليظة حتى فارقوا الحياة؛ ومزقت أشلاء البعض بأن شدت أجسامهم إلى غصون أشجار ثنيت ثنياً مؤقتاً(23). وقد وصل إلينا علم ذلك كله عن المسيحيين أما الوثنيون فلم ينقلوا إلينا شيئاً من هذه الأخبار.

ودام الاضطهاد ثمانية أعوام، وهلك بسببه نحو ألف وخمسمائة من المسيحيين، بعضهم من أتباع الدين القويم، وبعضهم من الملاحدة، وقاسى عدد آخر يخطئه الحصر ألواناً مختلفة من العذاب. وارتد آلاف من المسيحيين عن دينهم؛ وتقول بعض الروايات أن مرسلينس Marcellinus أسقف روما نفسه أرغم بضروب من الإرهاب والتعذيب على أن يرتد عن دينه، ولكن معظم مَن نالهم الاضطهاد ثبتوا على دينهم؛ وكان منظر استبسالهم في الإخلاص لدينهم، أو كانت أخيار هذا الاستبسال؛ رغم ما قاسوه من ألوان العذاب، كان هذا وذاك سبباً في شد عزيمة المترددين، وضم أنصار جدد للجماعات الدينية المضطهدة. وأثارت ضروب الاضطهاد الوحشي المتزايدة الرحمة في قلوب الأهلين الوثنيين؛ ووجد الصالحون في نفوسهم من الشجاعة ما دفعهم إلى التصريح بمقتهم لهذا الظلم الذي لم يكن له مثيل في التاريخ الروماني كله. لقد كان الشعب في الأيام الخالية يدفع الدولة إلى القضاء على المسيحية؛ أما الآن فقد وقف الشعب بعيداً عن الحكومة، وعرض كثيرون من الوثنيين أنفسهم للموت بحماية المسيحيين أو إخفائهم حتى تنجلي هذه العاصفة(24). وقد انجلت فعلاً في عام 311، ففي ذلك العام أصدر جليريوس مرسوماً بالتسامح مع المسيحيين واعترف فيه بالمسيحية ديناً مشروعاً، وطلب إلى المسيحيين أن يدعوا له في صلواتهم نظير "رحمتنا التي وصلت إلى أقصى حدود الرقة"(25). وكان الباعث له على إصدار هذا المرسوم رجاء زوجته وتوسلها له أن يصالح إله المسيحيين الذي لم يهزم؛ وكان جليريوس، وقتئذ يشكو من داء عضال، ويوقن بإخفاقه في القضاء على المسيحية.

وكان اضطهاد دقلديانوس أشد ما ابتليت به الكنيسة المسيحية، كما كان في الوقت نفسه أعظم انتصار نالته على أعدائها. نعم إن هذا الاضطهاد أضعفها إلى حين، بعد أن خرج منها بعض من انضموا إليها أو نشئوا في أحضانها خلال خمسين عاماً من أعوام الرخاء لم يتعرض لهم فيها أحد بسوء؛ ولكن سرعان ما أخذ المرتدون يتوبون عن ذنبهم ويطلبون العودة إلى حظيرتها، ذلك أن أخبار وفاء الشهداء الذين قضوا نحبهم، أو عذبوا في سبيل دينهم، أخذت تنتشر من مكان إلى مكان. ونسجت حول أعمال الاستشهاد هذه قصص خيالية مبالغ فيها مثيرة للعواطف محركة للنفوس، كان لها شأن أيما شأن في إحياء العقيدة المسيحية، وتثبيت دعائمها. وفي ذلك يقول ترتليان "إن دم الشهداء هو البذور" التي نبتت منها المسيحية(26). وليس في تاريخ البشرية قصة أعظم روعة من فئة قليلة من المسيحيين توالت عليها ضروب الظلم والازدراء على يد سلسلة طويلة من الأباطرة، لكنها صبرت على هذه المحن جميعها واستمسكت بدينها، وتضاعف عددها وهي هادئة ساكنة، تقيم النظام وقت أن كان أعداؤها ينشرون الفوضى، تصد القوة بالقوة، والوحشية بالأمل، ثم تُهزِم آخر الأمر أقوى دولة عرفها التاريخ. لقد التقى قيصر والمسيح في المجتلد، فانتصر المسيح على قيصر.


الفصل الثاني: قسطنطين

شهد دقلديانوس، وهو هادئ في قصره بدلماشيا، فشل الاضطهاد والحكومة الرباعية، ذلك أن الإمبراطوريّة لم تشهد قط في أيامها السابقة ما شهدته من الاضطراب بعد نزوله عن العرش. وقد استطاع جليريوس أن يقنع قنستنطيوس بأن يعين سفيرس ومكسمينس دازا "قيصرين" (305). وما لبث مبدأ الوراثة أن أخذ يثبت دعواه، فقد رغب مكسنتيوس Maxentius بن مكسميان أن يخلف أباه في سلطانه، وثارت هذه الرغبة نفسها في قلب قسطنطين.

وكان فلافيوس فليريوس قنسطنطينس قد بدأ حياته في نايسس Naissus ابناً غير شرعي لقنسطنطيوس من محظيته الشرعية هلينا، خادمة إحدى الحانات في بيثينيا(27). فلما أصبح قنسطنطيوس قيصراً طلب إليه دقلديانوس أن يتنحى عن هلينا ويتزوج بثيودورا ربيبة مكسميان. ولم يتلقَ قنسطنطين من العلم إلا قليلاً، فقد انخرط في سلك الجندية في سن مبكرة، وأظهر بسالته في الحروب التي قامت ضد مصر وفارس: ولما خلف جليريوس دقلديانوس أبقى الضابط الشاب بالقرب منه ليكون رهينة لديه يضمن به حسن مسلك قنسطنطيوس. ولما طلب إليه قنسطنطيوس أن يرسل إليه الشاب، تلكأ جليريوس في إجابته إلى طلبه وأظهر في ذلك كثيراً من الدهاء ولكن قسطنطين فر من حراسه؛ واخترق أوربا راكباً ليلاً ونهاراً لينضم إلى أبيه في بولوني Boulogne، ويشترك معه في حرب ضد بريطانيا. وكان جيش غالة شديد الولاء لقنسطنطيوس لما كان يتصف به من الرحمة، ولما أبصر ابنه الوسيم، الشجاع، النشط، أحبه حباً جماً؛ ولما مات والده في يورك York (306)؛ لم يكتفِ الجند بأن ينادوا قسطنطين "قيصراً" فحسب بل نادوا به أغسطساً - إمبراطوراً. لكنه رضي بأصغر اللقبين بحجة أنه لن يأمن على حياته إذا لم يكن وراءه جيش يحميه. ولم يستطع جليريوس أن يتدخل في الأمر لبعده، فاعترف به "قيصراً" وهو كاره. وحارب قسطنطين الفرنجة الذين غزوا الإمبراطوريّة وانتصر عليهم وأطعم وحوش المدرج الغالي ملوك البرابرة.

وفي هذه الأثناء نادى الحرس البريتوري في رومة بمكسنتيوس إمبراطوراً. لأنه كان يتوق لعودة الزعامة إلى العاصمة التليدة (306). وانقضّ عليه سفيرس من ميلان وهاجمه. وضاعف مكسميان الاضطراب والفوضى فعاد إلى لبس الأرجوان إجابة لطلب ولده، واشترك في الحرب التي شبت نارها وقتئذ. وتخلى جنود سفيرس عنه وقتلوه (307)؛ وأراد جليريوس، وكان في ذلك الوقت شيخاً طاعناً في السن أن يقوي مركزه ليواجه الفوضى التي أخذت تضرب أطنابها في البلاد، فعين أغسطساً جديداً - فلافيوس ليسنيوس Flavius Licinius، فلما سمع قسطنطين بهذا اتخذ لنفسه أيضاً هذا اللقب (307)؛ وبعد سنة واحدة لقب مكسمنيوس دازا نفسه باللقب عينه، وبهذا أصبح في الإمبراطوريّة ستة أغاطسة بدل الاثنين اللذين كانا على عهد دقلديانوس، ولم يكتفِ واحد منهم بأن يكون قيصراً فقط. وتنازع مكسنتيوس مع والده، وذهب مكسميان إلى غالة ليستغيث بقسطنطين، وقد كان وقتئذ يحارب الألمان على ضفاف الرين. وحاول مكسميان أن يكون هو قائد الجيوش الغالية بدله، واخترق قسطنطين غالة بجيشه، وحاصر المغتصب في مرسيليا، وأسره، وتفضل عليه بأن أجاز له أن ينتحر (310). وأزال موت جليريوس الحاجز الأخير بين الدسائس والحرب، فائتمر مكسمينس ومكسنتيوس للقضاء على ليسنيوس وقسطنطين، وائتمر الثانيان للقضاء على الأولين. ورأى قسطنطين أن يكون هو البادئ بالعمل، فعبر جبال الألب، وهزم جيشاً لعدويه قرب تورين Turin، وزحف على روما بسرعة مدهشة ونظام عسكري يذكّران الإنسان بزحف قيصر من الربيكون Rubicon، والتقى في السابع والعشرين من شهر أكتوبر عام 312 بقوى مكسنتيوس عند سكسا ربرا Saxa Rubra (الصخور الحمراء) التي تبعد تسعة أميال عن روما جهة الشمال، وأفلح بخططه الحديثة الفائقة أن يرغم عدوه على أن يقاتل ونهر التيبر من ورائه، وليس له من طريق يسلكه إذا تقهقر إلا أن يعبر جسر ملفيوس(28) إن قسطنطين شاهد بعد ظهر اليوم الذي دارت فيه المعركة صليباً ملتهباً في السماء وعليه تلك العبارة اليونانية En touti mika ومعناها "بهذه العلامة أنتصر" .

وفي صباح اليوم الثاني - كما يقول يوسبيوس ولكتنيوس(31) رأى قسطنطين فيما يرى النائم أن صوتاً يأمره بأن يرسم جنوده حرف X على دروعهم وفي وسطه خط يقطعه وينثني حول أعلاه - علامة الصليب. فلما استيقظ من نومه صنع بما أمر وخاض المعركة خلف لواء "عرف من ذلك الوقت باسم اللبارم Labarum" رسم عليه الحرفان الأولان من لفظ المسيح يربطهما صليب. ولعل حقيقة الأمر أن قسطنطين رأى أن يربط حظه بحظ المسيحيين حين رأى مكستنيوس يرفع لواء مثراس أورليان، وهو لواء الشمس التي لا تقهر. وكان عدد جنوده المسيحيين وقتئذ كبيراً، وبهذا جعل هذه المعركة نقطة التحول في تاريخ الأديان. ولم يكن الصليب يسيء إلى جنود قسطنطين من عُبّاد مثراس، لأنهم طالما حاربوا تحت لواء يحمل شعاراً مثراسّياً من الضوء(32). ومهما يكن من شيء فقد انتصر قسطنطين في واقعة جسر ملفيوس وهلك مكسنتيوس هو وآلاف من جنوده في نهر التيبر، ودخل القائد الظافر روما وحبته المدينة وأصبح سيِّد الغرب بلا مُنازع.

وتقابل قسطنطين وليسنيوس في ميلان في أوائل عام 313 لينسقا حكمهما: وأراد أولهما أن يجعل تأييده للمسيحيين عاماً يشمل الولايات جميعها، فأصدر هو وليسنيوس "مرسوم ميلان" يؤكدان فيه التسامح الديني الذي أعلنه جليريروس ووسعا نطاقه حتى شمل الأديان كلها، ويأمران بأن يعاد إلى المسيحيين ما انتزع من أملاكهم في أثناء الاضطهاد الأخير. وعاد قسطنطين للدفاع عن غالة بعد هذا الإعلان التاريخي الذي كان في واقع الأمر اعترافاً بهزيمة الوثنية؛ واتجه ليسنيوس نحو الشرق ليكيل الضربات إلى مكسمينس (313). كلن مكسمينس مات بعد قليل من ذلك الوقت. فأصبح قسطنطين وليسنيوس حاكمي الإمبراطوريّة لا ينازعهما فيها منازع وتزوج ليسنيوس أخت قسطنطين، واختبط الشعب الذي ملّ الحروب بمخايل السلام البادية في الأفق.

ولكن كلا الحاكمين لم يفارقه قط أمله في أن يكون صاحب السيادة وحده على الدولة جميعها؛ ووصل العداء المتزايد بينهما في 313 إلى امتشاق الحسام، فغزا قسطنطين باثونيا، وهُزم لينسيوس، واضطر إلى أن يسلم له جميع أملاك الدولة الرومانية في أوربا ما عدا تراقية. وانتقم ليسنيوس من المسيحيين المؤيدين لقسطنطين بالعودة إلى اضطهادهم في آسية ومصر؛ فطرد المسيحيين من قصره في نقوميديا، وحتم على كل جندي أن يعبد الآلهة الوثنية، وحرم اجتماع الرجال والنساء في أثناء العبادات المسيحية، ثم حرم آخر الأمر جميع الشعائر المسيحية داخل المدينة، وأمر بطرد مَن عصى من المسيحيين من خدمة الحكومة وحرمانهم من حق المواطنية، ومن أملاكهم، أو حريتهم أو حياتهم. وظل قسطنطين يترقب الفرصة التي تمكنه من إنقاذ المسيحيين في بلاد الشرق ومن إضافة الشرق نفسه إلى أملاكه. وأُتيحت له هذه الفرصة حين غزا البرابرة تراقية وعجز ليسنيوس عن الزحف لملاقاتهم، فسار قسطنطين على رأس جيشه إلى تسالونيكي لينقذ ولاية ليسنيوس من الغزاة. فلما أن صد البرابرة احتج ليسنيوس على دخوله تراقية، وتجددت الحرب بين الملكين لأن كليهما لم يكن يجنح للسلم. والتقى حامي المسيحية ومعه 130.000 من رجاله بحامي الوثنية على رأس 160.000 في أدرنة أولاً ثم في كريسوبوليس Chrysopolis (أشقودرة)، وانتصر وأصبح وحده إمبراطوراً على الدولة الرومانية (323). استسلم ليسنيوس بعد أن وعده قسطنطين بالعفو عنه، ولكنه أعدم في السنة الثانية متهماً بأنه عاد إلى دسائسه. واستدعى قسطنطين المنفيين من المسيحيين، وأعاد إلى كل "المؤمنين" ما فقدوه من الامتيازات والممتلكات. ومع أنه كان لا يزال يُعلن أن الناس كلهم أحرار فيما يعبدون، فقد أعلن وقتئذ صراحة اعتناقه الدين المسيحي، ودعا رعاياه أن ينهجوا نهجه في اعتناق الدين الجديد.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: قسطنطين والمسيحية

ترى هل كان قسطنطين حين اعتنق المسيحية مخلصاً في عمله هذا؟ وهل أقدم عليه عن عقيدة دينية، أو هل كان ذلك العمل حركة بارعة أملتها عليه حكمته السياسية؟ أكبر الظن أن الرأي الأخير هو الصواب(33). لقد اعتنقت أمه هلينا الدين المسيحي حين طلقها قنسطنطيوس؛ ولعلها أفضت إلى ولدها بفضائل المسيحية، وما من شك في أنه تأثر بما ناله من انتصارات في المعارك الحربية التي خاض غمارها مستظلاً بلواء المسيح وصليبه. ولكن المتشكك وحده هو الذي يحتال هذا الاحتيال على استخدام مشاعر الإنسانية الدينية لنيل أغراضه الدنيوية. ويقول صاحب كتاب تاريخ أغسطس Historia Augusta على لسانه: "إن الحظ وحده هو الذي يجعل الإنسان إمبراطوراً"(34) - وإن كان قوله هذا تواضعاً منه لا اعتقاداً بسيطرة الظروف على مصائر الناس. وقد أحاط نفسه في بلاطه ببلاد غالة بالعلماء والفلاسفة الوثنيين(35)؛ وكلما كان اعتناقه دينه الجديد يخضع لما تتطلبه العبادات المسيحية من شعائر وطقوس، ويتضح من رسائله التي بعث بها إلى الأساقفة المسيحيين أنه لم يكن يعنى بالفروق اللاهوتية التي كانت تضطرب لها المسيحية - مع أنه لم يكن يتردد في القضاء على الانشقاق محافظة على وحدة الإمبراطوريّة. وقد كان في أثناء حكمه كله يعامل الأساقفة على أنهم أعوانه السياسيون؛ فكان يستدعيهم إليه، ويرأس مجالسهم، ويتعهد بتنفيذ ما تقره أغلبيتهم من آراء. ولو أنه كان مسيحياً حقاً أولاً وحاكماً سياسياً بعدئذ؛ ولكن الآية انعكست في حال قسطنطين، فكانت المسيحية عنده وسيلة لا غاية.

ولقد شهد في حياته كيف أخفق الاضطهاد ثلاث مرات، وانطبع في نفسه بلا ريب انتصار المسيحية رغم كل اضطهاد. نعم إن أتباع هذا الدين كانوا لا يزالون قلة في الدولة، ولكنهم كانوا إذا قيسوا إلى غيرهم قلة متحدة، مستبسلة قوية، على حين أن الأغلبية الوثنية كانت منقسمة إلى عدة شيع دينية، وكان فيها عدد كبير من النفوس التي لا عقيدة لها ولا نفوذ في الدولة. وكان المسيحيون كثيرين في روما بنوع خاص في عهد مكسنتيوس، وفي الشرق في أيام ليسنيوس؛ وقد أفاد قسطنطين من تأييد المسيحية اثنا عشر فيلقاً لاقى بها هذين القائدين. ولقد اعجب بجودة نظام المسيحيين إذا قيسوا بغيرهم من سكان الإمبراطوريّة، وبمتانة أخلاقهم، وحسن سلوكهم، وبجمال الشعائر المسيحية وخلوها من القرابين الدموية، وبطاعة المسيحيين لرؤسائهم الدينيين، وبرضاهم صاغرين بفوارق الحياة رضاء مبعثه أملهم في أنهم سيحظون بالسعادة في الدار الآخرة. ولعله كان يرجو أن يطهر هذا الدين الجديد أخلاق الرومان. ويعيد إلى الأسرة ما كان لها من شأن قديم، ويخفف من حدة حرب الطبقات، وقلما كان المسيحيون يخرجون على الدولة رغم ما لاقوه من ضروب الاضطهاد الشديد، ذلك بأن معلميهم قد غرسوا في نفوسهم واجب الخضوع للسلطات المدنية، ولقنوهم حق الملوك المقدس. وكان قسطنطين يأمل أن يكون ملكاً مطلق السلطان، وهذا النوع من الحكم يفيد لا محالة من تأييد الدين، وقد بدا له أن النظام الكهنوتي وسلطان الكنيسة الدنيوي يقيمان نظاماً روحياً يناسب نظام الملكية، ولعل هذا النظام العجيب بما فيه من أساقفة وقساوسة، يصبح أداة لتهدئة البلاد وتوحيدها وحكمها.

لكن قسطنطين اضطر إلى أن يتحسس كل خطوة يخطوها بحذر، لأن الوثنية كانت هي الغالبة على العالم الذي يعيش فيه. ولذلك ظل يستخدم ألفاظاً توحيدية يستطيع أن يقبلها كل وثني، وقام خلال السنين الأولى من سلطانه المفرد في صبر وأناة بجميع المراسيم التي يتطلبها منه منصب الكاهن الأكبر، والتي تحتمها عليه الطقوس التقليدية، وجدد بناء الهياكل الوثنية، وأمر بممارسة أساليب العرافة؛ واستخدم في تدشين القسطنطينية شعائر وثنية ومسيحية معاً، واستعمل رقى سحرية وثنية لحماية المحاصيل وشفاء الأمراض(36).

ولما توطدت دعائم قوته أخذ يجهر تدريجياً بمحاباة المسيحية، فمحا بعد عام 317 من نقوده واحدة بعد واحدة ما كان على وجهها من صور وثنية، ولم يحل عام 323 حتى كان كل ما عليها من الرسوم نقوشاً محايدة لا هي مسيحية ولا وثنية. ومن المراسيم القانونية الباقية من عهده مرسوم مشكوك فيه ولكنه لم يثبت كذبه، يخول الأساقفة المسيحيين حق الفصل فيما يقوم في أبرشياتهم من منازعات قضائية(37)، وأعفت قوانين أخرى أملاك الكنيسة العقارية من الضرائب(38) وجعلت الجماعات المسيحية شخصيات معنوية قضائية، وأجازت لها امتلاك الأرض وقبول الهبات، وجعلت الكنيسة هي الوارثة لأملاك الشهداء الذين لم يعقبوا ذرية(39). وكذلك وهب قسطنطين أموالاً إلى المجامع الدينية المحتاجة إليها، وشاد عدداً من الكنائس في القسطنطينية وغيرها من المُدن، وحرّم عبادة الأوثان في عاصمته الجديدة. وكأنه نسي مرسوم ميلان فحرّم اجتماع الشيع الدينية الملحدة، وأمر آخر الأمر بتدمير مجامعهم الدينية(40)، وربى أبناءه تربية مسيحية سليمة، وأعان بالمال أعمال البر المسيحية التي كانت تقوم بها أمه. وابتهجت الكنيسة بهذه النعم التي فاقت كل ما كانت تتوقعه؛ وكتب يوسيبوس صحائف كانت في واقع الأمر عقود مدح لقسطنطين وإقراراً بفضله، واحتشد المسيحيون في جميع أنحاء الإمبراطوريّة ليعبروا عن شكرهم لانتصار إلههم.

غير أن سحباً ثلاثاً كدّرت صفو ذلك اليوم الذي "لا سحاب فيه":

تلك هي انشقاق الاديرة، والانشقاق الدوناني ، والإلحاد الأريوسي . وكانت الكنيسة، في الفترة الواقعة بين اضطهادي ديسيوس ودقلديانوس، قد أضحت أغنى الهيئات الدينية في الإمبراطوريّة، وخففت من هجماتها على الثراء. فترى سبريان يشكو من أن أبناء أبرشيته قد أضل حب المال عقولهم، ومن أن النساء المسيحيات يصبغ وجوههن، وأن الأساقفة يتولون مناصب في الدولة تدر عليهم المال الكثير، فأثروا، وأقرضوا المال بربا فاحش، وارتدوا عن دينهم إذا بدت لهم أول علامة من علامات الخطر(41)، ويبدي يوسبيوس حزنه من تناحر القساوسة في تنافسهم على المناصب الكنسية العليا(42).

وقصارى القول أن الدنيا جعلت المسيحيين رجال دنيا في الوقت الذي هدت فيه المسيحية العالم إلى ذلك الدين؛ وأظهرت الدنيا ما في الفطرة البشرية من غرائز وثنية. وقامت الرهبنة المسيحية احتجاجاً على هذا التوفيق المتبادل بين الروح والجسم. ذلك أن أقلية من المسيحيين كانت ترغب في الابتعاد عن كل طاعة للشهوات البشرية، وتطالب بالاستمرار على الانهماك المسيحي القديم في التفكير في الحياة الأبدية الخالدة. وجرى بعض هؤلاء الزهاد على الكلبيين فتخلوا عن جميع أملاكهم، وارتدوا ثوب الفلاسفة الخلق، وعاشوا على ما يقدم لهم من صدقات. وذهب بعضهم ليعيشوا بمفردهم في الصحراء المصرية كما فعل بولس الناسك. وحدث حوالي عام 275 أن بدأ راهب مصري يدعى أنطونيوس ربع قرن من حياة العزلة قضى بعضها أولاً في قبر، وبعضها في حصن جبلي مهجور، وبعضها الآخر في فجوة ضيقة نحتها في الصخور، كانت تنتابه فيها أثناء الليل رؤى مخيفة وأحلام لذيذة تغلب عليها كلها، حتى اشتهر بالقداسة، وعمت هذه الشهرة جميع أنحاء العالم المسيحي، وعمرت الصحراء بالنساك المنافسين له. وأحس باخوميوس في عام 325 أن اعتزال الناس أنانية فجمع الزهاد في دير عند طابين في مصر، وأنشأ الرهبنة الجماعية التي صار لها أعظم الأثر في بلاد الغرب. وقاومت الكنيسة حركة الرهبنة وقتاً ما، ثم رضيت بها لتوازن اهتمامها المتزايد بشئون الحكم.

وقبل أن يمضي عام واحد على اعتناق قسطنطين المسيحية حدث فيها انشقاق شديد الخطورة كاد يقضي عليها في ساعة النصر. ذلك أن دوناتس Donatus أسقف قرطاجنة، يؤيده قسطنطين اسمه كاسمه ومزاجه كمزاجه، أصر على أن الأساقفة الذين أسلموا الكتاب المقدس لرجال الشرطة الوثنيين قد فقدوا بعملهم هذا أهليهم لمنصبهم وسلطتهم، وأن شعائر التعميد ورسامة القساوسة التي تجري على أيدي هؤلاء الأساقفة باطلة، وان صحة العشاء الرباني يقف بعضها على الحالة الروحية للقائم بخدمته. ولما رفضت الكنيسة العمل بهذه العقائد الصارمة نصب الدوناتيون أساقفة جدد في كل مكان رأوا أن الأسقف الذي فيه لا تنطبق عليه شروطهم، وحزن قسطنطين أشد الحزن لما أعقب هذه الحركة من فوضى وعنف، وقد كان يظن أن المسيحية ستكون قوة تعمل على الوحدة؛ ولعله قد تأثر بعض التأثر بالحلف الذي عقد إلى حين بين الدوناتيين وبين القائمين بالحركة المتطرفة بين الزراع الأفريقيين. ولهذا دعا الأساقفة إلى مجلس جامع يعقد في أرليس (314)، وأيد ما أصدره من قرار بالتشهير بالدوناتية، وأمر المنشقين بالعودة إلى الكنيسة، وقرر أن المجامع التي لا تطيع هذا القرار تفقد أملاكها وحقوقها المدنية (316). وبعد خمس سنين من ذلك الوقت طافت بعقله في فترة قصيرة ذكرى مرسوم ميلان، فألغى هذه القرارات، وتسامح مع الدوناتيين تسامحاً مصحوباً بالسخرية. وبقيت هذه الشيعة حتى قضى العرب على أتباع الدين القويم وعلى الملحدين حين فتحوا أفريقية.

وفي هذه السنين نفسها شهدت الإسكندرية قيام أخطر حركة إلحادية في تاريخ الكنيسة. ذلك أن قساً مصرياً تقدم إلى أسقفه حوالي عام 318 بآراء غريبة عن طبيعة المسيح، ويصفه مؤرخ كاثوليكي عالم وصفاً كريماً فيقول: "كان أريوس... طويل القامة، نحيل الجسم، مكتئب المظهر، ذا منظر تبدو فيه آثار خشونة العيش. وكان معروفاً بأنه من الزهاد، كما يستدل على ذلك من ملبسه - وهو جلباب قصير من غير كمين تحت ملحفة يستخدمها عباءة وكانت طريقته في الحديث ظريفة، وخطبه مقنعة. وكانت العذارى اللاتي نذرن أنفسهن للدين، وهن كثيرات في الإسكندرية، يبجلنه أعظم التبجيل، وكان له من بين رجال الدين عدد كبير من المؤيدين"(43).

ويقول أريوس إن المسيح لم يكن هو والخالق شيئاً واحداً، بل كان هو الكلمة أول الكائنات التي خلقها الله وأسماها. واحتج الأسقف ألكسندر على هذا القول، ولكن أريوس أصر عليه وقال إنه إذا كان الابن من نسل الأب، فلابد أن تكون ولادته قد حدثت في زمن، وعلى هذا لا يمكن أن يكون الابن مصقفاً مع وجود الأب في الزمن. يضاف إلى هذا أنه إذا كان المسيح قد خلق فلابد أن يكون خلقه من لا شيء، أي من غير مادة الأب؛ لأن المسيح والأب ليسا من مادة واحدة. وقد ولد الروح القدس من الكلمة، وهو أقل ألوهية من الكلمة نفسها. ونحن نرى في هذه العقائد استمرار للأفكار المنحدرة من أفلاطون عن طريق الرواقيين، وفيلون، وأفلوطينس، وأرجن إلى أريوس. وبذلك أصبحت الأفلاطونية التي كان لها أعظم الأثر في اللاهوت المسيحي في نزاع مع الكنيسة.

وارتاع الأسقف ألكسندر من هذه الآراء، وارتاع أكثر من هذا من سرعة انتشارها بين رجال الدين أنفسهم. ولهذا دعا مجلساً من الأساقفة المصريين إلى الاجتماع في الإسكندرية، وأقنع أعضاءه بأن يحكموا بتجريد أريوس وأتباعه؛ وأبلغ الإجراءات التي اتخذها المجلس إلى سائر الأساقفة، فاعترض عليها بعضهم، وأظهر بعض القساوسة عطفاً على أريوس، واختلفت آراء رجال الدين والدنيا في الولايات الأسيوية في هذه المشكلة، وترددت في المدائن أصداء "الضجيج والاضطراب... حتى كان الدين المسيحي"، كما يقول يوسبيوس "موضوع السخرية الدنسة من الوثنيين، حتى في دور التمثيل نفسها"(45). ولما جاء قسطنطين إلى نقوميديا بعد أن هزم ليسنيوس، سمع هذه القصة من أسقفها، فأرسل إلى الاسكندر وإلى أريوس رسالة شخصية يدعوهما فيها أن يتخلقا بهدوء الفلاسفة، وأن يوفقا بين آرائهما المختلفة في سلام، فإن لم يفعلا فلا أقل من أن يخفيا جدلهما عن آذان الجماهير، ويكشف هذا الخطاب، الذي نقله لنا يوسبيوس، في صراحة عن قلة اهتمام قسطنطين بعلوم الدين، وعن الهدف السياسي الذي كان يبتغيه من سياسته الدينية:

"لقد اقترحت أن أرّد جميع آراء الناس في الله إلى صورة واحد، لأني قوي الاعتقاد بأني إذا استطعت أن أوحد آراءهم في هذا الموضوع سهل علي كثيراً تصريف الشئون العامة. ولكني مع الأسف الشديد أسمع أن بينكما من الخلاف أكثر مما كان قائماً في أفريقية من وقت قريب. ويبدو لي أن سبب هذا الخلاف بينكما صغير تافه غير جدير بأن يثير هذا النزاع الشديد. فأنت يا ألكسندر تريد أن تعرف رأي قساوتك في إحدى النقاط القانونية، في جزء من سؤال هو في حد ذاته عديم الأهمية؛ وأما أنت يا أريوس فقد كان الواجب عليك، إذا كانت لديك أفكار من هذا القبيل، أن تظل صامتاً... ولم يكن ثمة حاجة إلى إثارة هذه المسائل

أمام الجماهير... لأنها مسائل لا يثيرها إلا مَن ليس لديهم عمل يشغلون به أنفسهم، ولا يرجى منها إلا أن تزيد عقول الناس حدة... تلك أعمال سخيفة بالأطفال العديمي التجربة لا برجال الدين أو العقلاء من الناس"(46).

ولم يكن لهذه الرسالة أثر ما لأن مسالة اتفاق الأب والابن في المادة لا مجرد تشابههما كانت في نظر الكنيسة مسألة حيوية من الوجهتين الدينية والسياسية، وكانت ترى أنه إذا لم يكن المسيح إلهاً فإن كيان العقيدة المسيحية كلها يبدأ في التصدع، وإذا ما سمحت باختلاف الرأي في هذا الموضوع فإن فوضى العقائد قد تقضي على وحدة الكنيسة وسلطانها، ومن ثم على ما لها من قيمة بوصفها عوناً للدولة. ولما انتشر الجدل في هذه المسألة، واشتعلت نيران الخلاف في بلاد الشرق اليوناني، اعتزم قسطنطين أن يقضي عليه بدعوة أول مجلس عام للكنيسة. ولهذا عقد مجلساً من الأساقفة عام 325 في نيقية البيثينية بالقرب من عاصمة نقوميديا، وأعد ما يلزم من المال لنفقاتهم. وحضر الاجتماع عدد لا يقل عن 318 "يصحبهم" كما يقول واحداً منهم "حشد كبير من رجال الدين الأقل منهم درجة"(47)، وهو قول يدل على مقدار نماء الكنيسة العظيم. وكان معظم الأساقفة من الولايات الشرقية، لأن كثيراً من الأبرشيات الغربية تجاهلت هذا الجد، واكتفى البابا سلفستر الأول Silvester l بأن مثله بعض القساوسة، لأن المرض حال بينه وبين حضور الاجتماع بنفسه.

واجتمع المجلس في بهو أحد القصور الإمبراطوريّة تحت رياسة قسطنطين، وافتتح هو المناقشات بدعوة موجزة وجهها إلى الأساقفة يطلب إليهم فيها أن يعيدوا إلى الكنيسة وحدتها. ويقول يوسبيوس إنه كان يستمع بصبر عظيم إلى المناقشات، ويهدئ من عنف الجماعات المتنازعة(48)، ويشترك في المناقشات بنفسه. وأكد أريوس من جديد رأيه القائل بأن المسيح مخلوق، لا يرقى إلى منزلة الأب، ولكنه "مقدس بالاشتراك" معه لا غير. وقد أرغمته بعض الاسئلة الحاذقة على أن يعترف بأنه إذا كان المسيح مخلوقاً؛ وأن له بداية؛ فإن في مقدوره أن يتحول، وأنه إذا استطاع أن يتحول، فقد ينتقل من الفضيلة إلى الرذيلة.

وكانت إجاباته عن الأسئلة منطقية، صريحة، قاطعة. وقد أوضح أثناسيوس Athanasiua، رئيس الشمامسة البليغ المشاكس، الذي جاء به الاسكندر معه ليقطع به لسان معارضيه، انه إذا لم يكن المسيح والروح القدس كلاهما من مادة الأب، فإن الشرك لابد أن ينتصر. وقد سلم بما في تصوير أشخاص ثلاثة في صورة اله واحد من صعوبة، ولكنه قال بأن العقل يجب أن يخضع لما فيه الثالوث من خفاء وغموض. ووافقه الأساقفة جميعهم على رأيه عدا سبعة عشر منهم ووقعوا قراراً يعلنون فيه هذا الرأي. ورضي مؤيدو أريوس أن يوقعوا معهم إذا سمح لهم بأن يضيفوا إلى هذا الإعلان نقطة واحدة وهي أن يستبدلوا كلمة همويوسيون Homoiousion (اي مماثلاً في الجوهر) بكلمة همؤوسيون Homoousion أي من جوهر واحد. ولكن المجلس رفض هذا التعديل وأصدر بموافقة الإمبراطور القرار الآتي:

"نحن نؤمن بإله واحد، وهو الأب القادر على كل شيء، خالق الأشياء كلها ما ظهر منها وما بطن، وبسيّد واحد هو يسوع المسيح ابن الله، المولود... غير المخلوق من نفس جوهر الأب... وبأنه من أجلنا نحن البشر ومن أجل نجاتنا نزل وتجسد، وصار إنساناً، وتعذّب، وقام مرة ثانية في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وسيعود ليحاسب الأحياء والأموات... ). ولم يرفض توقيع هذه الصيغة إلا خمسة من الأساقفة، نقصوا آخر الأمر إلى اثنين. وحكم المجلس على هذين الأسقفين وعلى أريوس الذي لم يتزحزح عن عقيدته أو يتوب عما صدر منه، حكم عليهم باللعنة والحرمان، ونفاهم الإمبراطور من البلاد. وصدر مرسوم إمبراطوري يأمر بإحراق كتب أريوس جميعها ويجعل إخفاء أي كتاب منها جريمة يعاقب عليها بالإعدام.

واحتفل قسطنطين بانقضاض المجلس بأن دعا جميع الأساقفة الذين حضروه إلى وليمة ملكية، ثم صرفهم بعد أن طلب إليهم ألا يمزق بعضهم أجساد بعض(51)، ولكنه أخطأ إذ ظن أن النزاع قد وقف عند هذا الحد، أو أنه هو لن يغير رأيه فيه. غير أنه كان على حق حين اعتقد أنه خطا خطوة كبيرة في سبيل وحدة الكنيسة. فلقد أذاع المجلس عقيدة الكثرة العظمى من رجال الدين، وهي أن نظام الكنيسة وبقاءها يتطلبان تحديد العقائد بطريقة ما؛ وقد أثمر آخر الأمر ذلك الإجماع العملي على العقيدة الأساسية التي اشتق منها اسم الكنيسة في العصور الوسطى وهو الكنيسة الكاثوليكية. وكان في الوقت نفسه إيذاناً باستبدال المسيحية بالوثنية وجعلها المظهر الديني والعضد القوي للإمبراطوريّة الرومانية. واضطر قسطنطين أن يكون أكثر تصميماً من ذي قبل على التحالف مع المسيحية؛ وهكذا بدأت حضارة جديدة، ومؤسسة على دين جديد، تقوم على أنقاض ثقافة مضعضعة وعقيدة محتضرة. لقد بدأت العصور الوسطى.


الفصل الرابع: قسطنطين والحضارة

أنشأ قسطنطين بعد سنة واحدة من اجتماع المجلس مدينة جديدة وسط خرائب بيزنطية سماها روما الجديدة Nova Roma وسمتها الأجيال التي أعقبته باسمه. وفي عام 330 أدار ظهره نحو روما ونيقوميدية كلتيهما، واتخذ القسطنطينية عاصمة له، وأحاط نفسه فيها بأبهة الملوك الشرقيين وحاشيتهم، لاعتقاده أن ما تحدثه هذه الأبهة من تأثير نفساني في الجيش والشعب سوف يجعل ما تحتاجه مظاهرها من المال الكثير اقتصاداً حقيقياً في مطالب الحكم. وبسط رعايته على الجيش بما أوتي من حسن السياسة وقوّاه بأن أمده بالسلاح، وخفف من نير الاستبداد بقراراته الرحيمة، وناصر الآداب والفنون، وشجع مدارس أثينة، وأنشأ جامعة جديدة في القسطنطينية، كان فيها أساتذة يتناولون مرتبات من قِبَل الدولة، ويعلّمون اللغتين اليونانية واللاتينية، والآداب والفلسفة، والبلاغة والقانون، ويدربون الموظفين الذين تحتاجهم الإمبراطوريّة(52). وأيد ما كان للأطباء والمدرسين في جميع الولايات من امتيازات ووسّع نطاقها، وأمر الحكام أن ينشئوا في ولاياتهم مدارس للعمارة، وأن يستجلبوا الطلاب إليها بمختلف الامتيازات والمكافآت، وأعفي الفنانين من الواجبات المفروضة على غيرهم من المدنيين حتى يوفر لهم ما يكفي من الوقت لإتقان فنهم وتعليمه أبناءهم. وقد استعان بالكنوز الفنية في جميع أنحاء الإمبراطوريّة على تجميل القسطنطينية حاضرته الجديدة.

وبدأت أعمال البناء في روما في ذلك العهد على يد مكسنتيوس، فقد بدأ هو (306) وأنم قسطنطين باسلقا ضخمة كانت هي تاج العمارة القديمة في الغرب. وعمد في بنائها إلى طراز الحمّامات الكبرى فعدّله وشاد على طرازه المعدل صرحاً عظيماً تشغل قاعدته 330 قدماً في 250. وكانت لردهتها الوسطى التي تبلغ 104 قدماً في 82 سقف مكون من ثلاث قباب متقاطعة مشيدة بالأسمنت المسلح يبلغ ارتفاعها 120 قدماً يستند بعضها إلى ثماني دعامات عريضة تواجهها عمد كورنثية ذات حزوز غائرة يبلغ ارتفاعها ستين قدماً. وكانت أرضها من الرخام الملوَّن؛ ووضعت بين الأعمدة عدة تماثيل، وعلت جدران هذه الأجزاء التي بين الأعمدة فوق سقفها لكي تكون دعامات مرتفعة للقباب الوسطى. ولقد تعلم مهندسو القوط ومهندسو النهضة الشيء الكثير من هذه القباب والدعامات، ولما أراد برامنتي Bramante أن يخطط كنيسة القدّيس بطرس اعتزم أن يتوج صحن الكنيسة الواسع بقبة ضخمة، أو "أن يقيم بناء الكنيسة الكبرى فوق باسلقا قسطنطين".

وشاد أول الأباطرة المسيحيين كنائس كثيرة في روما وأكبر الظن أن الشكل الأول لكنيسة سان لورنزو التي في خارج روما كان من هذه الكنائس. وأراد أن يحتفل بذكرى نصره عند نهر ملفيوس فأقام في عام 315 قوساً لا يزال يشرف على طريق النصر Via del Trionfi؛ وهو من أكمل الآثار الباقية في روما ولم ينقص من عظمته كثيراً ما انتزع من أجزائه آناً بعد آن. ويتركب من أربعة جذوع دقيقة التناسب ترتفع فوق القاعدة المنحوتة، وتقسم الأقواس للثلاثة، وتسند الدعامة المزخرفة المرتكزة عليها. وعلى الطبقة العليا نقوش بارزة وتماثيل مأخوذة من آثار لتراجان وأورليوس، كما أن الحليات الوسطى التي بين الأعمدة مأخوذة من مبانٍ شيدت في عهد هدريان. وربما كان نقشان من النقوش البارزة من عمل فناني قسطنطين، ويشهد ما في هذا الأثر من صور جالسة، ومن اختلاط سمج بين الوجوه المصورة من الجانب والسيقان المصورة من الأمام، ومن تكديس الرؤوس فوق الرؤوس بدل أن يراعي الفنان قواعد المنظور، يشهد كل هذا بخشونة الذوق وعدم الإتقان الفني ولكن الحفر العميق وما يقع عليه من ضوء وظل، يطبع في الخيال صورة واضحة من العمق والسعة، والحادثات التي تقصها تلك النقوش ممثلة بحيوية خشنة كأنما الفن الإيطالي قد اعتزم أن يعود إلى منبعه الأول.

ويبدو تمثال قسطنطين الضخم المحفوظ في الكنسر فتورى بدائياً إلى حد تشمئز منه النفس، ولا يكاد العقل يصدق أن الرجل الذي تفضل فرأس مجمع نيقية يشبه البربري الفظ إلى الحد الذي يطالع الإنسان في هذا التمثال- إلا إذا كان الفنان قد أراد أن يوضح مقدماً العبارة الجامعة الساخرة التي قالها جبن: "لقد وصفت انتصار الهمجية والدين".

وفي أوائل هذا القرن الرابع أخذ فن جديد يتشكل ويزهر في الوجود- ونعني به "تزيين" المخطوطات بصورة ملونة صغيرة. وكان معظم الأدب في ذلك الوقت مسيحي الطابع. ومن أدباء ذلك العصر لوسيوس فرمنيانس لكتنيوس Lucius Firminianus Lactantius الذي شرح شرحاً بليغاً في كتابيه الأنظمة المقدسة Divinae Institutiones (307) وفي الاضطهاد المميت De Mortibus Persecutorum (314) الآلام الأخيرة التي عاناها الأباطرة مضطهدو المسيحيين، ولم يكن هذا الوصف يقل عن وصف شيشرون بلاغة وحقداً. ومن أقواله في هذا المعنى: "إن طبيعة الدين تحتم أن يكون حراً، طليقاً، غير متأثر بأي ضغط"(55)، وتلك بدعة لم تطل حياته حتى يكفّر عنها، وكان يوسبيوس بمفيلي أسقف قيصرية أوسع منه شهرة. وقد بدأ حياته الأدبية كاتباً قسيساً وأمين مكتبة لسلفه الأسقف بمفيلس، وقد بلغ من حبه لهذا الأسقف أن تسمى باسمه. وكان بمفيلس الأكبر قد حصل على مكتبة أرجن وضم إليها أكبر مجموعة من الكتب المسيحية عرفت حتى ذلك الوقت. وعاش يوسبيوس بين هذه الكتب، فأصبح بذلك أكثر رجال الدين علماً في زمانه. وقضى بمفيلس نحبه أثناء اضطهادات جليريوس (310)، وأخذ الناس يتساءلون فيما بعد كيف بقي يوسبيوس حياً بعد هذا الاضطهاد، حتى أقضت هذه الأسئلة مضجع الرجل وآذت سمعته. وقد عاداه الكثيرون لموقفه الوسط بين أريوس والاسكندر، ولكنه رغم هذا أصبح في بلاط الاسكندر كما كان بوسويه Bossuet في بلاط لويس الرابع عشر، وكلف بكتابة سيرة الإمبراطور، وجمعت بعض كتاباته في تاريخ عام- يعد أوفى الكتب التاريخية القديمة. وقد رتب يوسبيوس التاريخين المقدس والدنس في عمودين متوازيين يفصل بينهما صف من تواريخ السنين المشتركة في كليهما، وحاول أن يحدد السنة التي وقعت فيها كل حادثة خطيرة من أيام إبراهيم الخليل إلى أيام قسطنطين. وقد اعتمدت كل التواريخ المتأخرة على "قانونه" هذا.

ثم كسا يوسبيوس هذه العظام لحماً، ونشر في عام 325 تاريخاً كنسياً يصف فيه نماء الكنيسة من أول عهدها إلى مجمع نيقية. ويحتوي الفصل الأول من هذا الكتاب- وكان نموذجاً نسج منواله بوسويه مرة أخرى- على أقدم ما كتب في فلسفة التاريخ- فقد صور الزمان كأنه ميدان القتال بين الله والشيطان كما صور الحوادث جميعها على أنها معينة على انتصار المسيح. والكتاب سيئ الترتيب ولكنه حسن الأسلوب. وقد فحص عن المراجع فحصاً دقيقاً راعى فيه الذمة والضمير، وتبلغ أحكامه من الدقة ما تبلغه أحكام أي كتاب قديم في التاريخ؛ وهو في كل خطوة يخطوها يجعل الخلف مديناً له وذلك بما ينقله عن وثائق خطيرة لولا هذا لما عرف العالم عنها شيئاً. والأسقف المؤلف غزير المادة، واسع الاطلاع إلى حد كبير، وأسلوبه تسري فيه العاطفة القوية، والشعور الفياض، ويسمو إلى أعلى الدرجات في لحظات الكراهية الدينية وهو يعترف صراحة بأنه حذف من كتابه كل ما لا يقوي إيمان قرائه المسيحيين أو يؤيد فلسفته ويحاول أن يكتب تاريخ المجلس العظيم- مجلس نيقية- دون أن يذكر اسم أريوس أو أثناسيوس. وهذا الغش الشريف نفسه هو الذي يجعل كتابه الآخر حياة قسطنطين تسبيحاً بحمد الرجل لا ترجمة له. فهو يبدؤه بثمانية فصول ملهمة عن تقوى الإمبراطور وأعماله الصالحة، ويصف لنا كيف "حكم الإمبراطوريّة حكماً راعى فيه حدود الله أكثر من ثلاثين عاماً". وليس في مقدور الإنسان بعد أن يقرأ هذا الكتاب أن يظن أن قسطنطين قتل ولده وابن أخته وزوجته.

ذلك أن قسطنطين قد أحسن تدبير كل الأمور ما عدا أمور أسرته، شأنه في هذا شأن أغسطس. ولقد كانت صلاته بأمه طيبة سعيدة بوجه عام، ويبدو أنها سافرت بتكليف منه إلى أورشليم ودمرت ذلك الهيكل الشائن، هيكل أفرديتي الذي بني، كما يقول البعض، فوق قبر المسيح المنقذ. ويقول يوسبيوس إن الضريح المقدس ظهر للعين في ذلك المكان، وفيه الصليب بعينه الذي مات عليه المسيح. وأمر قسطنطين أن تشاد كنيسة الضريح المقدس فوق القبر، وحفظت الآثار المعظمة في خزانة مقدسة خاصة. ومن ذلك الحين بدا العالم المسيحي يجمع مخلفات المسيح والقديسين ويعيدها، كما كان العالم الوثني في الأيام القديمة السابقة يعتزب بمخلفات حرب طروادة ويعظمها، وكما كانت روما نفسها تفخر بتمثال أثيني إلهة الحكمة حامية طروادة. وقد غير العالم المسيحي مظهر هذه العبادة وجدد جوهرها كما يفعل الخلائق من أقدم العهود. وشادت هلينا كنيسة صغيرة في بيت لحم في الموضع الذي تقول الرواية أن يسوع وُلد فيه، وقامت في تواضع بخدمة الراهبات اللائي كن يقمن بالخدمة في هذه الكنيسة، ثم عادت إلى القسطنطينية لتموت بين ذراعي ولدها.

وتزوج قسطنطين مرتين: أولاهما بمنيرفينا Minervina التي رزق منها بابنه كرسبس Cripus؛ والثانية بفوستا Fausta ابنة مكسميان التي رزق منها بثلاثة بنين وثلاث بنات. وأصبح كرسبس جندياً ممتازاً، وكان نعم العون لأبيه في حروبه ضد ليسنيوس في عام 326 قُتل كرسبس بأمر قسطنطين؛ وأمر الإمبراطور حوالي ذلك الوقت نفسه بقتل ليسنيانس Licinianus بن ليسنيوس من قسطنطيا أخت قسطنطين؛ وبعد قليل من ذلك الوقت أُعدمت فوستا بأمر زوجها. ولسنا نعرف سبب مقتل هؤلاء الثلاثة، غير أن زوسمس Zosimus يؤكد لنا أن كرسبس غازل فوستا، وإنها شكته إلى الإمبراطور، وإن هلينا، وكانت شديدة الحب لكرسبس، إنتقمت لموته، بأن أقنعت قسطنطين أن زوجته قد استسلمت لولده(57). لكن الأرجح من هذا كله أن فوستا عملت على أن تبعد كرسبس من طريق ابنها الذي كانت تريده وارثاً لعرش الإمبراطوريّة، وربما كان مقتل ليسنيانس أنه كان يحيك المؤامرات ليحصل على نصيب أبيه في الدولة.

ونالت فوستا بغيتها بعد موتها؛ ذلك بأن قسطنطين أوصى في عام 335 بأن تقسم الإمبراطوريّة بين مَن كان حياً من أولاده وأولاد أخته. وبعد سنتين من ذلك الوقت احتفل في يوم عيد القيامة بمرور ثلاثين عاماً من حكمه، وأحس بعد ذلك بدنو أجله. فذهب ليستحم في الحمّامات الحارة في أكويريون Aqurion القريبة من القسطنطينية. ولما اشتد عليه المرض استدعى قساً ليجري له مراسيم التعميد المقدس الذي أخره عمداً إلى تلك الساعة. وكان يرجو أن يطهره هذا التعميد مما ارتكبه من الخطايا في حياته المزدحمة بالأعمال. ثم خلع الحاكم المجهد الأثواب الملكية الأرجوانية وارتدى الثوب الأبيض ثوب المسيح الحديث التنصر وأسلم الروح.

لقد كان قسطنطين قائداً بارعاً، وإدارياً عظيماً، وسياسياً لا يشق له في شئون الحكم غبار ورث الأعمال التي كان يبغي بها دقلديانوس ديانوس إعادة الدولة إلى سابق عهدها وأتمها؛ وبفضله طال عمر الإمبراطوريّة 150 عاماً. وقد واصل أنماط الحكم الملكي المطلق التي سار عليها أورليان ودقلديانوس مدفوعاً إلى هذا بأطماعه وكبريائه وباعتقاده أن الحكم المطلق هو العلاج الذي تتطلبه الفوضى السائدة في ذلك الوقت. وكان أكبر أخطائه تقسيمه الإمبراطوريّة بين أبنائه؛ ولعله قد تنبأ بأن هؤلاء الأبناء سيتنازعون فيما بينهم، يريد كل منهم أن ينفرد بالملك، كما فعل هو من قبل، ولكنه ظن أنهم سيتقاتلون حتماً إذا اختار وارثاً للملك غيرهم؛ وهذا أيضاً هو الثمن الذي تبتاع به الملكية المطلقة. أما أوامره التي أصدرها بالإعدام فليس في مقدورنا أن نصدر حكماً صحيحاً عليها لأنا لا نعرف أسبابها. وربما كانت مشاكل الحكم وأعباءه الثقيلة قد ناءت به فتغلبت المخاوف والغيرة على العقل والحكمة إلى حين، وإن لدينا الشواهد على أنه في سنيه الأخيرة قد ندم أشد الندم على ما فعل. ويبدو أن عقيدته المسيحية، التي كانت في بدايتها خطة سياسية، قد استحالت بالتدريج إلى إيمان صحيح استمسك به بإخلاص، وأصبح أكثر المبشرين في دولته مثابرة على عمله، واضطهد الملاحدة اضطهاد المؤمن المخلص لدينه، وكان يعتمد على الله في كل خطوة يخطوها. وقد وهب الإمبراطوريّة الهرمة حياة جديدة بأن ربط بينها وبين دين فتي، ونظام قوي، ومبادئ أخلاقية جديدة وكان في عمله هذا أعظم حكمة من دقلديانوس. وبفضل معونته أضحت المسيحية دولة وديناً، وأمست هي القالب الذي صبت فيه الحياة الأدبية والفكر الأوربي مدى أربعة عشر عاماً، ولعل الكنيسة التي رأت أن تشكر له فضله عليها كانت محقة حين لقبته بأنه أعظم الأباطرة إذا استثنينا أغسطس وحده.