قصة الحضارة - ول ديورانت - م 3 ك 3 ب 19

صفحة رقم : 3627

قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> الزعامة -> الملوك الفلاسفة -> نيرفا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب التاسع عشر: الملوك الفلاسفة 96-180

الفصل الأول: نيرفا

اختفى من تاريخ الملكية الرومانية مبدأ وراثة العرش بعد اغتيال دومتيان قرناً من الزمان. ذلك أن مجلس الشيوخ لم يعترف قط بأن الوراثة وسيلة لارتقاء العرش، والآن بعد 123 سنة من خضوعه لهذا المبدأ، عاد فأثبت سلطانه، ورشح عضواً من أعضاءه ليكون زعيماً وإمبراطوراً، كما كان يختار ملوك رومة في بداية عهدها. وكان هذا عملاً جريئاً ينطق بالشجاعة ولا يستطاع فهمه إلا إذا ذكرنا أن حيوية الأسرة الفلافية قد نضب معينها، في نفس الجيل الذي شهد تجدد حيوية مجلس الشيوخ بما طعم به من دم إيطالي وإقليمي.

وكان ماركس ككسيوس نيرفا في السادسة والستين من عمره حين فوجيء بدعوته إلى هذا المركز السامي. ويظهره تمثاله الضخم المحفوظ في متحف الفاتيكان رجلاً ذا وجه وسيم تتجلى فيه صفات الرجولة الكاملة، ويتعذر على من يشاهده أن يعتقد أن صاحبه كان من أئمة فقهاء القانون المبجلين، وأنه كان رجلاً محموداً، وشاعراً رقيقاً ظريفاً، حياه مواطنوه في وقت من الأوقات ولقبوه "تيبلس زماننا"(1). ولعل مجلس الشيوخ قد اختاره لشيبته وبعده عن الأذى؛ وكان يستشير هذا المجلس في جميع خططه السياسية، وحافظ على العهد الذي قطعه على نفسه بألا يكون قط سبباً في موت أي عضو من أعضائه. وقد أعاد إلى البلاد من نفاهم منها دومتيان ورد إليهم أملاكهم، وخفف من رغبتهم في الانتقام من أعدائهم، ووزع على الفقراء ما قيمته 60.000.000 سسترس من الأراضي الزراعية، وأنشأ الألمنتا- وهي رصيد من مال الدولة- ليشجع بها تناسل الفلاحين ويمدهم بما يحتاجونه من المال. وألغى عدداً كبيراً من الضرائب وخفض ضريبة التركات، وأعفى اليهود من الجزية التي فرضها عليهم فسبازيان ودعم في الوقت نفسه مالية الدولة بمراعاة الاقتصاد في بيته وحكومته. وكان يعتقد بحق أنه كان يراعي العدل في معاملته جميع الطبقات؛ ومن أقواله في هذا المعنى: "إنني لم أفعل شيئاً يحول بيني وبين إلقاء منصبي الإمبراطوري عن كاهلي وعودتي آمناً مطمئناً إلى الحياة الخاصة"(2). ولكن حدث بعد عام من توليته أن حاصر الحرس البريتوري قصره، وطالبه بتسليم قتلة دومتيان، وقتل عدداً من مستشاري نيرفا. وكان هذا الحرس قد فوجئ باختياره لمنصبه، واستاء من سياسة الاقتصاد التي كان يسير عليها. ومد نيرفا عنقه لسيوف الجند ولكنهم أبقوا عليه. وآلمه هذا الإذلال فأراد أن ينزل عن العرش، ولكن أصدقاءه أقنعوه أن يقتدي بأغسطس فيتبنى رجلاً يرضى عنه مجلس الشيوخ، ويخلفه على العرش، ويكون في مقدوره أن يحكم الإمبراطورية وأن يحكم الحرس أيضاً. وأعظم ما تدين به رومة لنيرفا أنه اختار ماركس ألبيوس ترايانس Marcus Ulpius Trajanus خلفاً له. وتوفي بعد ذلك بثلاثة أشهر في عام 98 بعد حكم دام ستة عشر شهراً.

وكان معنى مبدأ التبني الذي عاد سيرته الأولى بهذه الطريقة الغير منتظرة أن يشرك كل إمبراطور من الأباطرة، حين يحس بالضعف يدب في قواه، معه في الحكم أقدر من يستطيع أن يجده من الرجال، وأكثرهم جدارة بهذا المنصب الخطير، حتى إذا وافاه الأجل لم تتعرض البلاد إلى أن يجلس على عرشها رجل يرفعه الحرس البريتوري وإلى ما في هذا من سخف، أو يرث هذا العرش وارث طبيعي ولكنه غير جدير به، أو أن تتعرض إلى حرب أهلية بين المتنافسين على العرش. وكان من المصادفات الطيبة أن تراجان، وهدريان، وأنطونينس بيوس لم يكن لهم أبناء، وأن كان في مقدور كل واحد منهم أن يعمد إلى مبدأ التبني من غير أن يحط من شأن أبناء له أو يكشف عن نقص في الحب الأبوي. ولقد كسبت رومة من هذا المبدأ، طوال المدة التي طبق فيها، طائفة من الأباطرة العظام خلف بعضهم بعضاً على العرش، وكانوا خير من شهده العالم من الحكام وأجلهم شأناً.


الفصل الثاني: تراجان

تلقى تراجان نبأ جلوسه على العرش وهو يتولى قيادة جيش روماني في كولوني Cologne؛ فلما أن تلقاه واصل عمله عند الحدود وأجل عودته إلى رومة ما يقرب من عامين. وكان مولد تراجان في أسبانيا من أسرة إيطالية استوطنت تلك البلاد من زمن بعيد، وقد وصلت أسبانيا الرومانية على يديه وعلى يد هدريان إلى الزعامة السياسية، كما ارتفعت على يدي سنكا، ولوكان، ومارتيال إلى الزعامة الأدبية. وكان هو بداية سلسلة طويلة من القواد يبدو أن مولدهم وتدريبهم في الأقاليم أكسبهم قوة الإرادة التي فقدها العنصر الروماني الأصيل. ولم تحتج رومة على ارتقاء رجل من رجال الأقاليم عرش الإمبراطورية، وكان عدم احتجاجها هذا في حد ذاته حادثاً خطيراً ومؤذناً بتطور جديد في التاريخ الروماني.

وظل تراجان قائداً حتى بعد جلوسه على العرش. فقد كان ذا قامة عسكرية، وكان مظهره مظهر السادة المؤمرين، وكانت ملامحه قوية وإن لم تكن بادية متميزة. كان طويل القامة، ممتلئ الجسم، وكان من عادته أن يسير مع جنوده على قدميه، وأن يخوض بعتاده الحربي الكامل ما يضطرون إلى عبوره من مئات الأنهار. وكان رجلاً شجاعاً يصبر على الألم ولا يفرق بين الحياة والموت. ولما قيل له إن لوسنيوس سوراً كان يأتمر به، ذهب إلى منزل سورا، وأكل من كل ما قدم إليه دون أن يفحص عما يأكل، وحلق له حلاق سورا(4). ولم يكن تراجان فيلسوفاً بأي معنى فني من معاني هذا اللفظ. وكان من عادته أن يصحب معه في عربته ديوكريسستوم Dio Chrysostom الخطيب "صاحب الفم الذهبي" ليتحدث إليه في الفلسفة، ولكنه يعترف بأنه لم يكن يفهم كلمة واحدة مما يقوله ديو(5)- وبذلك خسرت الفلسفة الشيء الكثير. وكان صافي الذهن صريحاً ليس فيه التواء، وكان ما نطق به من الهراء قليلاً إلى أبعد حد؛ وكان فيه ما في سائر البشر من اغترار بالنفس، ولكنه كان مبرأً من العجرفة والادعاء ولم يكن يتخذ منصبه السامي وسيلة للتعاظم على الناس أو أداة ينفع بها نفسه، فكان يجلس مع أصدقاءه على الطعام ويصحبهم في الصيد، ويشرب معهم بكثرة، ويرتكب ما يرتكبونه من لواط في بعض الأحيان، كأنه يريد بذلك ألا يخالف عادات زمانه، وترى رومة من مفاخره التي يستحق عليها الثناء أنه لم يسيء قط إلى زوجته بلوتينا بأن يعشق إمرأة أخرى.

ولما وصل تراجان إلى رومة وهو في الثانية والأربعين من عمره، كان قد بلغ من النضوج العقلي غايته، وسرعان ما اكتسب ببساطته، ودماثة أخلاقه، واعتداله، قلوب الشعب الذي جرب الاستبداد من عهد قريب. واختار مجلس الشيوخ بلني الأصغر ليرحب به. وألقى ديو كريسستوم أمام الإمبراطور في الوقت نفسه خطبة فيما يجب على الملوك في نظر الفلسفة الرواقية. ولكن بلني وديو فرقاً بين السيادة والزعامة فقالا إن الزعيم يجب ألا يكون سيد الدولة، بل خادمها الأول، ومندوب الشعب لتنفيذ إرادته، ينتخبه عن طريق ممثليه أعضاء مجلس الشيوخ. "ومن أراد أن يؤمر على الناس جميعاً، وجب أن يختاروه جميعاً"(6) واستمع الناس إلى أقوالهما ورحبوا بها.

ولم تكن هذه البدايات الطيبة جديدة في التاريخ، ولكن الذي دهش رومة أن تراجان أوفى بهذا الوعد إلى حد بعيد، فأعطى أعوانه ورفاقه القصور الريفية التي كان أسلافه يقيمون فيها أسابيع قليلة في كل عام، ويقول بلني "إنه لم يكن يرى أن شيئاً ما ملك له إلا إذا كان أيضاً ملكاً لأصدقائه"(7). وكان هو نفسه بسيطاً في معيشته بساطة فسبازيان، فكان يسأل الشيوخ رأيهم في كل المسائل ذات البال، وقد تبين أن في وسعه أن يكون ذا سلطة مطلقة إذا لم يستخدم ألفاظ ذوي السلطة المطلقة. وكان مجلس الشيوخ يرضى أن يترك له مقاليد الحكم إذا راعى الشكليات التي تحفظ له مكانته وهيبته؛ وكان هذا المجلس، كما كانت رومة كلها، يحب في ذلك الوقت الأمن والطمأنينة حباً لا يستطيع معه أن يحتفظ بحريته. ولعله كان يسره أيضاً أن يرى تراجان رجلاً محافظاً لا ينوي أن يشتري رضاء الفقراء بمال الأغنياء. وكان تراجان إدارياً قديراً لا يمل من العمل، حسن التدبير لشئون المال، وقاضياً عادلاً. ويعزو إليه موجز جستنيان المبدأ القائل "إن فرار المجرم من العقاب أفضل من عقاب البريء"(8). وقد استطاع بالإشراف الدقيق على مصروفات الدولة (وبعض الفتوح التي عادت عليها بالربح) أن يتم كثيراً من المنشآت العامة من غير أن يزيد أعباء الضرائب، بل إنه فعل عكس هذا فخفض الضرائب، ونشر على الشعب اعتمادات الميزانية ليعرف إيرادات الحكومة ونفقاتها، فيبحثها وينتقدها. وكان يطلب إلى الشيوخ الذين يستمتعون بصحبته أن يكون إخلاصهم في أعمالهم الإدارية مماثلاً لإخلاصه أو قريباً كل القرب منه. واشترك الأشراف في مناصب الدولة وعملوا فيها بجد، ولم يكتفوا بأن يقضوا أوقاتهم في الوقت واللعب. وإن ما بقي لدينا من الرسائل المتبادلة بينهم وبين تراجان ليوحي بأنهم كانوا يعملون بجد وعناية تحت قيادته الرقيبة الملهمة. وكانت مدن كثيرة في بلاد الشرق قد أساءت التصرف في أموالها حتى أشرفت على الإفلاس، فأرسل لها تراجان حراساً أمناء أمثال بلني الأصغر ليساعدوها على إصلاح أمرها. وأضعف هذا العمل استقلال البلديات وقلل من شأن أنظمتها، ولكنه عمل لم يكن منه بد، فقد قضى الحكم الذاتي على نفسه بإسرافه وعجزه.

وكان تراجان قد نشأ في مهاد الحرب، فكان لذلك استعمارياً صريحاً يفضل النظام على الحرية، والقوة على السلم. ولم يكد يمضي على قدومه إلى رومة عام واحد حتى خرج لفتح داشيا. وكانت داشيا في ذلك الوقت تنطبق حدودها بوجه عام على حدود رومانيا الحاضرة، وكانت تمتد كقبضة اليد في قلب ألمانيا، فكانت إذا استولى عليها تصبح عظيمة النفع من الوجهة العسكرية في الكفاح الذي كان تراجان يتوقع قيامه بين الألمان وإيطاليا. يضاف إلى هذا ضمها إلى الدولة الرومانية يمكنها من الإشراف على الطريق الذي يسير على ضفتي نهر الساف إلى ملتقاه بنهر الدانوب ومن ثم إلى بيزنطية- وهو طريق بري نحو الشرق لا يمكن تقدير قيمته، دع عنك ما في داشيا من مناجم الذهب. وأعد تراجان لفتحها حملة عسكرية رسم خطتها بمهارة فائقة ونفذها بأكبر سرعة، فقاد فيالقه، وتغلب على كل ما اعترضه من الصعاب والمقاومة، حتى وصل إلى سرمزجتوسا Sarmizegetusa عاصمة تلك البلاد وأرغمها على الاستسلام. وقد ترك لنا مثال روماني صورة رائعة لدسبالس Decebalus ملك داشيا- ينم وجهه فيها عن قوة الجسم ومتانة الخلق. وثبته تراجان على عرشه، وجعله قيلاً من أقياله، ثم عاد إلى رومة (102)؛ ولكن دسبالس لم يلبث أن نقض عهده واستعاد استقلاله؛ فسير تراجان جيشه إلى داشيا (105)، وعبر الدانوب على جسر كان من أعجب المنشآت الهندسية في ذلك القرن، وهاجم عاصمة داشيا مرة أخرى واستولى عليها عنوة، وقتل دسبالس. وأقيمت حامية عسكرية قوية في سرمزجتوسا، وعاد تراجان إلى رومة ليحتفل بنصره بعشرة آلاف من المجالدين (أكبر الظن أنهم من أسرى الحرب) احتفالاً دام 123 يوماً أقيمت فيها ألعاب عامة. وأصبحت داشيا بعد هذا الفتح ولاية رومانية، وجاءها مستعمرون من الرومان، تزوجوا من نسائها، وأفسدت اللغة اللاتينية على طريقتها الخاصة. ووضعت مناجم الذهب في ترنسلفانيا تحت إشراف رقيب من قبل الإمبراطور، استطاع أن يسترد منها في وقت قصير ما أنفقه في الحرب من أموال. وأراد تراجان أن يكافأ نفسه على جهوده فأخذ من داشيا مليون رطل من الفضة ونصف مليون من الذهب- وكانت هذه آخر الغنائم القيمة التي استولت عليها الفيالق الرومانية لتعد بها للرومان مهاد الراحة والخمول.

وبفضل هذه الغنائم وزع الإمبراطور 650 ديناراً (نحو 260 ريالاً أمريكياً) على كل مواطن تقدم بطلب هذه المنحة- وأكبر الظن أن عدد من طلبوها بلغ حوالي 300,000- وبقي منها ما يكفي لعلاج مشكلة التعطل الناشة عن تسريح الجنود بالإقدام على منهاج من المنشآت العامة، والمساعدات الحكومية وتزيين إيطاليا بالمباني الفخمة، لم تر له البلاد نظيراً من أيام أغسطس. وأصلح تراجان قنوات مياه الشرب القديمة وأنشأ قناة جديدة لا تزال تؤدي عملها إلى هذا اليوم، وأقام في أستيا مرفأً واسعاً تصله عدة قنوات بنهر التيبر وبمرفأ كلوديوس القديم، وزينه بالمخازن التي كانت نماذج في الجمال كما كانت نماذج في النفع. وأصلح مهندسوه الطرق القديمة، وشقوا طريقاً جديداً في وسط المناقع البنتية، ووضعوا مشروع طريق تريانا Traiana من بنفنتم إلى برندزيوم. وأعادوا فتح نفق كلوديوس الذي جففت به بحيرة فوستس، وأنشأوا مرتين عند سنتمسلا Centumcellae وأنكونا Ancona، وطريقاً لجر مياه الشرب إلى رافنا، ومدرجاً في فرونا Verona. وأدى تراجان النفقات التي تطلبها إنشاء الطرق، والجسور، والمباني الجديدة في كافة أنحاء الإمبراطورية، ولكنه كان يقاوم تنافس المدن في إقامة المباني، ويحثها أن تنفق ما لديها من الأموال الزائدة على حاجتها في إصلاح أحوال الفقراء وبيئتهم. وكان مستعدا على الدوام لمديد المعونة إلى أية مدينة نكبتها الزلازل، أو النيران أو العواصف. وحاول أن يعمل على تقدم الزراعة في إيطاليا بأن طلب إلى أعضاء مجلس الشيوخ أن يستثمروا ثلث رؤوس أموالهم في الأراضي الإيطالية. ولما رأى أن هذا العمل سيزيد من عدد الضياع الكبيرة، شجع صغار الملاك بأن قدم لهم أموالاً من قبل الدولة بفوائد قليلة، ليشتروا بها بيوتاً وأراضي زراعية ويصلحوها(9). وعمل على رفع نسبة المواليد بزيادة مال الألمنتا Alimenta أي المال المخصص للإطعام. وتفصيل هذا أن الدولة كانت تقدم عروضاً عقارية بسعر 5% (وهو نصف السعر العادي وقتئذ) للزراع الإيطاليين، وأجازت للجان الصدقات المحلية أن توزع ما يتجمع من فوائد هذه القروض على الفقراء من الآباء بمعدل ستة عشر سسترساً (1.6 ريال أمريكي) كل شهر لكل ولد ذكر، وأثني عشر سسترساً لكل بنت. وقد يبدو هذا المبلغ صغيراً، ولكن الشواهد الباقية من ذلك العصر تدل على أن مبلغاً يتراوح بين 16 سسترساً وعشرين كان يكفي لرعاية طفل مدة شهر في ضيعة من ضياع إيطاليا أثناء القرن الأول(10). وقد بعثه هذا الأمل نفسه لأن يجيز لأطفال رومة أن يحصلوا على إعانات من القمح زيادة على ما يحصل عليه آباؤهم منه. وقد وسع هدريان والأنطونيون نطاق نظام الإطعام هذا حتى شمل عدة أجزاء من الإمبراطورية، يكمله الإحسان القروي. ومن أمثلة هذا النوع الأخير ما أخرجه بلني من ماله لهذا الغرض إذ تبرع من ماله للألمنتا بثلاثين ألف سسترس لتوزع على أطفال كومم Comum، وأوصى كيليا مكرينا Caelia Macrina بمليون سسترس لمثل هذا الغرض لتنفق على أطفال تراسينا Terracina في أسبانيا.

وكان تراجان، مثل أغسطس، يفضل إيطاليا على الولايات، ويفضل رومة على إيطاليا نفسها. وقد انتفع إلى أقصى حد بعبقرية أبلودورس ومهارته في العمارة. وكان أبلودورس هذا يونانياً من أهل دمشق خطط الطرق وقنوات مياه الشرب الجديدة وجسر نهر الدانوب. ثم كلفه الإمبراطور وقتئذ بأن يزيل طائفة كبيرة من البيوت، ويقطع مائة وثلاثين قدماً من قاعدة التل الكويرينالي Quirinal، وينشئ في الفضاء الناشئ من إزالتها والفضاء المجاور لها سوقاً جديدة تعادل مساحتها مساحة الأسواق السابقة كلها مجتمعة، ويحيط هذا السوق بمباني فخمة جديرة بعاصمة العالم التي بلغت في عهده أوج سلطانها وثرائها. وكان المدخل الموصل إلى هذه السوق الجديدة هو قوس نصر تراجان. وكانت مساحتها 370 قدما في 354؛ وكانت مرصوفة بالحجارة الملساء ومحوطة بسور عال، وأمامها صف من العمد، وكان سوراها الشرقي والغربي تتخللهما كوات نصف دائرية غير نافذة مكونة من عمد دورية. وقامت في وسطها باسلقا ألبيا التي سميت باسم عشيرة تراجان والتي كان الغرض منها أن تكون مكاتب للأعمال التجارية والمالية، وكانت مزينة من الخارج بخمسين عموداً، نحت كل منها من حجر واحد؛ وكانت أرضها من الرخام، وتحيط بصحنها الرحب عمد من الحجر الأعبل، وسقفها القائم على كتل ضخمة مغطى بالبرنز. وأنشئت بالقرب من الطرف الشمالي للسوق الجديدة مكتبتان إحداهما للمؤلفات اللاتينية، والأخرى للمؤلفات اليونانية. وقام بينهما عمود تراجان وخلفهما هيكله. وكانت السوق بعد أن تمت من عجائب العمارة في العالم كله.

وكان العمود الذي لا يزال قائماً إلى اليوم في بداية أمره شاهداً على البراعة في نقل الحجارة. وكانت حجارته منحوتة من ثمان عشرة كتلة مكعبة من الرخام زنة كل منها خمسين طناً، وقد حملت الكتل على ظهور السفن من جزيرة باروس، ثم نقلت على مواعين عند آستيا Aestia، ثم جرت مصعدة في النهر ضد التيار، ثم حملت على اسطوانات إلى ضفة النهر وفي الشوارع إلى المكان الذي أقيم فيه العمود. وقطعت المكعبات بعد نقلها إلى اثنتين وثلاثين كتلة، شيدت قاعدة العمود من ثمان منها، وزينت ثلاثة من أوجه هذه القاعدة بتماثيل منحوتة، أما الوجه الرابع فكان يوصل إلى سلم مكون من 185 درجة رخامية، وأما جذع العمود، وكان طول قطره من أسفل اثنتي عشرة قدماً، وارتفاعه سبعاً وتسعين، فيتكون من إحدى وعشرين كتلة حجرية، وفي أعلاه تمثال لتراجان يمسك بيده كرة أرضية. وقد زينت الكتل قبل تثبيتها في مواضعها بنقوش بارزة تمثل حروب تراجان في داشيا. وكانت هذه النقوش أعلى ما وصلت إليه الواقعية الفلافية وفن النحت القديم التاريخي. ولم تكن تهدف إلى الجمال الهادئ إلى أنماط فن النحت اليوناني التي كانت عند اليونان مثلاً علياً يحتذيها المثالون، بل كانت تهدف إلى أن تنقل للناظر إليها صورة واضحة للأفراد الأحياء وسط مناظر الحرب وضوضائها. فكانت والحالة هذه هي بلزاك Balzac وزولا Zola بعد كورني Corneille وراسين. وفي وسعنا أن نتتبع في الألفي صورة المنقوشة على المائة والأربع والعشرين لوحة لولبية فتوح داشيا خطوة خطوة، فنرى الكتائب الرومانية خارجة من ثكناتها المسلحة أكمل تسليح، ونشاهدها تعبر نهر الدانوب على جسر عائم، ونبصرها تقيم معسكراً في أرض العدو، ثم نرى المعركة التي اختلطت فيها الحراب والسهام والمناجل والحجارة، وفيها قرية داشية تشتعل فيها النار، ونساؤها وأطفالها يطلبون إلى تراجان أن يرحمهم، ونرى نساء داشيات يعذبن أسرى الرومان، وجنوداً يعرضن على الإمبراطور رؤوس من قتلوهم من الأعداء، وجراحين يضمدون الجروح، ونرى الأمراء الداشيين يشربون كؤوس السم واحداً بعد واحد. وهاهو ذا الرأس دسبالس يؤتى به إلى تراجان ضمن غنائم الحرب، وهاهو ذا صف طويل من الأسرى، من رجال ونساء وأطفال، قد انتزعوا من بيوتهم ليكونوا عبيداً للرومان في أرض القرية- كل هذا وكثير غيره يحدثنا به العمود القاتم اللون منقوشاً أحسن نقش وممثلاً لأروع قصة في تاريخ النحت في العالم كله. ولم يكن الفنانون الذين قاموا بهذا العمل، ولم يكن من استخدموهم للقيام به، مدفوعين إليه بنعرة وطنية عارمة؛ فهم قد مثلوا ما أظهره تراجان من ضروب الرحمة والرأفة، ولكنهم كشفوا كذلك عن أعمال البطولة التي قامت بها أمة تجاهد في سبيل حريتها؛ وأجمل صورة في النقش كله هي صورة ملك داشيا. وتلك بلا شك وثيقة عجيبة مزدحمة إلى حد يقلل من قوة تأثيرها. وبعض ما فيها من الصور فجة حسنة بدرجة يظن الإنسان معها أن محارباً داشياً هو الذي نحتها، ونرى فن المنظور يستبدل به وضع الصور بعضها فوق بعض، وقد رسم المنظر كله كان الإنسان يشاهده كما يشاهد نقش فدياس، من ركن بعيد مخبوء على الأرض. ولكنه رغم هذه العيوب خروج طريف على الطراز المقرر الذي لم يستطع لوداعته وهدوئه أن يعبر عما في الخلق الروماني من جد غامر ونشاط فياض. "وطريقة الأستمرار" التي جرى عليها- أي تدخل كل منظر في الذي يليه وفناؤه فيه- لتخرج إلى حيز الوجود ما يوحي به قوس تيتس وتمهد السبيل إلى النقوش البارزة الوسطى. وقد قلد المثالون هذه القصة، رغم ما فيها من عيوب، المرة بعد المرة من عمود أورليوس في رومة وعمود أركديوس في القسطنطينية إلى العمود النابليوني في البلاس فنديه Place Vendée في باريس.واختتم تراجان منهاجه البنائي بأن أكمل بناء الحمامات التي بدأها دومتيان وحرص على أن يجعلها حمامات عظيمة فخمة. وكان في هذه الأثناء قد مل السلم بعد أن دامت ست سنوات؛ ذلك أن العمل الإداري لم يكن يوقظ مما يكمن فيه من نشاط كما توقظه الحرب، ولم يكن يحس وهو في قصره أنه حي، وقال في نفسه لم لا أبدأ في تنفيذ خطط قيصر من حيث أخفق أنطونيوس، فأسوى المسألة البارثية تسوية نهائية، وأجعل الدولة- الرومانية- حدوداً أكثر مناعة وصلاحية من جهة الشرق، وأسيطر على الطرق التجارية التي تخترق أرمينية وبارثيا إلى أواسط آسية والخليج الفارسي وبلاد الهند؟

وبعد أن أتم استعداده بدأ يزحف مرة أخرى على رأس فيالقه (113). فاستولى على أرمينية بعد عام واحد من بداية زحفه؛ ولم يمض عام آخر حتى كان قد اخترق بلاد النهرين؛ ووصل إلى المحيط الهندي- فكان أول من وقف أمام ذلك البحر من القواد الرومان وأخرهم. وكان الرومان في ديارهم يتعلمون الجغرافية بتتبع انتصاراته؛ وكان يسر مجلس الشيوخ أن يسمع في كل أسبوع تقريباً أن أمة أخرى قد غلبت أو أنها تعجل بالاستسلام: البسبور Bosporus، والكلشي، وأيبيريا الأسيوية؛ وألبانيا الأسيوية، وأسرهويني Osrhoene ومسينيا، وميديا، وأشور، وبلاد العرب الشمالية، وبارثيا نفسها في آخر الأمر. وقد جعل بارثيا، وأرمينية، وأشور، وبلاد النهرين ولايات، وكان من مفاخر هذا الإسكندر الجديد أن اختار لكل بلد من هذه البلاد التي كانت قديماً ن أعداء رومة، ملكاً خاضعاً لسلطانه وأجلسه على عرشه. ووقف تراجان على شواطئ البحر الأحمر وقال إنه يؤسفه أشد الأسف أن شيخوخته تحول بينه وبين مواصلة الزحف إلى نهر السند كما فعل القائد المقدوني العظيم، واكتفى بأن أنشأ في البحر الأحمر أسطولاً يسيطر به على طريق الهند وعلى تجارتها، ووضع حاميات في جميع النقط ذات الأهمية الحربية وعاد وهو كاره إلى رومة.

لكن تراجان كان قد عدا طوره فذهب كما ذهب أنطونيوس إلى أبعد مما يجب وبأسرع ما يجب، وأهمل تنظيم فتوحه وخطوط اتصاله. فلما وصل إلى أنطاكية علم أن أسروس Asroes ملك بارثيا الذي خلعه قد حشد جيشاً جديداً استعاد به ما بين النهرين، وأن نار الفتنة اشتعلت في جميع الولايات الجديدة، وأن يهود الجزيرة، ومصر، وقوريني قد خرجوا عليه وأشعلوا نار الثورة في البلاد، وأن الاستياء قد عم بلاد لوبيا، ومورتانيا، وبريطانيا. وأراد المحارب الشيخ أن ينزل إلى ميدان القتال مرة أخرى، ولكن قوته الجسمية لم تسعفه. ذلك أنه أنهك جسمه بأن عاش في الشرق الحار بنشاط الغرب البارد، فأصيب بداء الاستسقاء، وعدت عليه ضربة شلل جعلت إرادته القوية لا حول لها ولا طول في جسمه المهدم. ومن أجل ذلك عهد وهو مكتئب حزين إلى لوسيوس كويتس Lucius Quietus أن يقلم أظفار الفتنة الناشبة في أرض الجزيرة، وأرسل مارسيوس تربا Marcius Turba لإخضاع اليهود في أفريقية؛ وولى هدريان ابن أخيه قيادة الجيش الروماني الرئيسي في سوريا. ثم أمر أن يحمل هو إلى ساحل قليقية Cilicia، على أمل أن يبحر منها إلى رومة حيث كان مجلس الشيوخ يعد له أعظم احتفال بالنصر أقيم لقائد من القواد من عهد أغسطس. ولكن منيته وافته في الطريق عند سلينس Selinus (117)، وهو في الرابعة والستين من عمره، بعد أن حكم تسعة عشر عاماً. وحمل رماده إلى عاصمة ملكه، حيث دفن تحت العمود العظيم الذي اختير ليكون له قبراً.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: هدريان

1- الحاكم

لعلنا لن نعرف قط هل جلس هدريان أروع شخصية في الأباطرة الرومان على عرش الإمبراطورية بأساليب العشق والغرام، أو لوثوق تراجان بكفايته وعظيم قدرته. فأما ديوكاسيوس فيقول إن "سبب تعيينه أنه مات تراجان ولم يكن له وارث، عملت أرملته بروتينا، وكانت تحب هدريان، على أن يخلفه على العرش(12). ويعيد اسبارتيانس Spartianus هذه القصة، ولكن بلوتينا وهدريان يكذبان هذه الشائعة، غير أنها رغم تكذيبها إياها ظلت تلوكها الألسن طوال حكمه، وقد فصل هو في الأمر بأن وزع هبات سخية على جنوده.

ويقول بيبليوس إيليوس هدريانس إن اسمه واسم أسرته مشتقان من مدينة أدريا الواقعة على البحر الأدرياوي، وتقول سيرته التي كتبها بنفسه إلى أسلافه هاجروا من هذه المدينة إلى أسبانيا. وشهدت مدينة إتلكا Italica الأسبانية التي ولد فيها تراجان في عام 52 مولد ابن أخيه هدريان في عام 76. ولما مات والد الغلام في عام 86 كفله عمه تراجان وكيليوس أتيانس Caelius Attianus. وتولى ثانيهما تعليمه وغرس فيه حباً شديداً للأدب اليوناني جعل الناس يلقبونه به من قبيل الفكاهة غريقيولس Graeculus. ودرس أيضاً الغناء، والموسيقى، والطب، والعلوم الرياضية، والتصوير، والنحت، ثم مارس فيما بعد عدة فنون أخرى. واستدعاه تراجان إلى رومة (91) وزوجه بابنة أخيه (100) فيفيا سبينا. وكانت هذه الفتاة، كما تدل عليها صور تماثيلها النصفية، إن لم تكن هذه التماثيل قد صورتها كأنها مثل أعلى للفتيات، نقول كانت هذه الفتاة ذات جمال بارع تحس به هي وتفخر به، ولكن هدريان لم يجد في هذا الجمال سعادة باقية. ولعل سبب شقائه أنه كان مولعاً بالكلاب والجياد فوق الحد الواجب، وأنه كان يقضي في الصيد مع هذه الكلاب والجياد وفي بناء القبور لها حين تموت أكثر مما يجب أن يقضيه من الوقت في هذين العملين، أو لعله كان زوجاً غير أمين أو بدا أنه كذلك. ومهما يكن من شيء فإنها لم تلد له أبناء، وعاشا طوال حياتهما متنافرين متباعدين وإن كانت قد رافقته في كثير من أسفاره، وكان يظهر لها كل أنواع الرقة والمجاملة، ووهبها كل خير ما عدا الحب. ولما أن نطق سوتونيوس Seutonius أحد أمناء سره بما لا يليق عنها فصله عن منصبه.

وكان أول قرار أصدره هدريان بعد ارتقائه عرش الإمبراطورية أن نقض سياسة عمه الإمبراطورية. وكان قد نصح تراجان بعدم المضي في حملته في بارثيا، لأنها تكلفه الكثير من المال والرجال، ولأنها تجيء في أعقاب حروب داشيا، وأنها في أحسن الظروف تبشر بمكاسب يصعب الاحتفاظ بها، ولم يغفر له قواد تراجان الحريصين على المجد هذه النصيحة قط. فلما أصبح صاحب الأمر سحب الفيالق الرومانية من أرمينية، وأشور، وبلاد النهرين، وبارثيا، وجعل أرمينية مملكة تابعة له بعد أن كانت ولاية خاضعة للدولة، ورضي أن يكون نهر الفرات حد الإمبراطورية من جهة الشرق. وكان مسلكه بعد تراجان كمسكن أغسطس بعد قيصر، فنظم بإدارته السلمية ما يستطيع تنظيمه من الدولة التي لم يكن لها في سعتها مثيل من قبل، والتي كسبتها الجيوش الباسلة المغامرة. وظن القواد الذين كانوا على رأس جيوش تراجان- بالما، وسلس، وكويتس، ونجرينس- أن هذه خطة مبعثها الجبن، وأنها بعيدة كل البعد عن الحكمة والسداد، وكانوا يشعرون أن وقف الهجوم، معناه الاقتصار على الدفاع، وأن الاقتصار على الدفاع هو بداية الموت. وبينما كان هدريان مع فيالقه على ضفاف الدانوب، أعلن مجلس الشيوخ أن القواد الأربعة يدبرون مؤامرة لقلب الحكومة، وأنهم أعدموا بأمر المجلس. وكان إعدامهم دون محاكمة صدمة شديدة لأهل رومة؛ ومع أن هدريان عاد مسرعاً إليها وأعلن أنه لم تكن له يد في الأمر كله فإن أحداً لم يصدقه، حتى بعد أن أقسم أنه لم يقتل شيخاً إلا بأمر المجلس. ولقد وزع على الشعب هبة سخية من المال، وأقام له كثيراً ًمن الألعاب ليسليه بها، وألغى من الضرائب المتأخرة ما قيمته 900,000,000 سسترس وحرق سجلات الضرائب علناً، وظل عشرين عاماً يحكم البلاد حكماً عادلاً، حكيماً تحت راية السلم ، ولكنه رغم هذا كله لم يكن له في قلوب الشعب كل ما يرجوه من حب.

ويصفه كاتب سيرته القديم بأنه كان طويل القامة، رشيقاً، متثني الشعر، "ذا لحية طويلة يخفي تحتها ما في وجهه من عيوب طبيعية"(14). واقتدى به أهل مات رومة فأطالوا من ذلك الوقت لحاهم، وكان قوي البنية، وقد حافظ على قوته بممارسة الكثير من ضروب الرياضة البدنية، وأهمها كلها الصيد، وكثيراً ما قتل السباع بيده(15). وقد امتزجت في خلقه عناصر بلغت من الكثرة حداً يتعذر معه وصفها. فيقول لنا كتاب سيرته إنه كان "صارماً وبشوشاً، فكها وقوراً، شهوانياً وحذراً، شديداً وكريماً، قاسياً ورحيماً، بسيطين بساطة خادعة، جمع المتناقضات في كل شيء"(16). وكان ذا بصيرة نافذة سريعة، وكان نزيهاً متشككاً؛ ولكنه كان يحترم التقاليد، ويرى أنها النسيج الذي يربط الأجيال بعضها ببعض، وكان يقرأ كتب إبكتتس الرواقي ويعجب به، ولكنه كان يطلب اللذة ويتذوقها دون حياء. وكان رجلاً غير متدين، يعتقد بالخرافات، ويسخر من النبوءات، ويمارس السحر والتنجيم، ويشجع الاستمساك بالدين القومي، ولا ينقطع عن القيام بواجباته بوصفه الكاهن الأكبر للدين الروماني. وكان مجاملاً وعنيداً، قاسياً في بعض الأحيان، ورحيماً في العادة؛ وربما كانت هذه المتناقضات أعمالاً اقتضتها مختلف الظروف. وكان يعود المرضى، ويساعد المنكوبين، وقد وسع نطاق أعمال الإحسان القائمة في وقته حتى شملت اليتامى والأرامل؛ وكان سخياً في مناصرة الفنانين، والكُتّاب، والفلاسفة؛ وكان يجيد الغناء والرقص، والعزف على القيثارة؛ وكان مصوراً قديراً، ومثّالاً وسطاً. وقد ألف عدة كتب- منها كتاب في النحو وآخر في سيرته. ومنها قصائد مؤدبة وأخرى بذيئة(17)، باللغتين اللاتينية واليونانية؛ وكان يفضل الأدب اليوناني على اللاتيني ويفضل لغة كاتو الشيخ البسيطة على لغة شيشرون الفصيحة السلسة الفياضة. وقد حذا كثير من كتاب ذلك الوقت حذوه، فأخذوا يكتبون بأسلوب عتيق متكلف. وقد جمع الأساتذة الذين كانت تؤجرهم الدولة، وأنشأ منهم جامعة علمية، ورفع مرتباتهم، وشاد لهم مجمعاً علمياً فخماً لينافس به متحف الإسكندرية. وكان يسره أن يجمع حوله العلماء ورجال الفكر، ويلقي عليهم الأسئلة المحيرة، ويضحك من متناقضاتهم ومجادلاتهم العلمية. وكان فافورينس Favorinu الغالي أعظم فلاسفة هذه الندوة حكمة، وكان إذا ما سخر منه أصدقاؤه لأنه يوافق هدريان على آرائه، أجابهم بأن كل رجل يشد أزره ثلاثون فيلقاً لا بد أن يكون على حق(18). ولقد جمع إلى هذه المتع العقلية الجمة إحساساً سليماً بالواجبات العملية. من ذلك أنه حذا حذو دومتيان، فلم يول معاتيقه إلا المناصب الصغيرة، واختار رجال الأعمال ذوي الكفايات المجربة، ليتولوا الإدارات الحكومية، وألف منهم ومن بعض الشيوخ وفقهاء القانون مجلساً Concilium يجتمع في أوقات منتظمة للنظر في سياسة الدولة. وعين كذلك وكيلاً للخزانة Advocatus Fisci ليكشف عما عساه أن يرتكب من فساد أو غش في شئون الضرائب، وكانت نتيجة هذا أن زادت إيرادات الدولة زيادة ملحوظة من غير زيادة في الضرائب. وكان يراقب نفسه كل إدارة من إدارات الحكومة، وقد أدهش رؤساءها، كما أدهش نابليون رؤساء إدارته، لألمامه الدقيق بتفاصيل أعمالها، ويقول إسبارتيانس إنه "كان قوي الذاكرة، وإنه كان يكتب، ويملي، ويستمع، ويتحدث إلى أصدقائه كل ذلك في وقت واحد(19)- وإن كان تكرار هذه القصة يبعث على الريبة في صدقها. وبفضل عنايته، وبمعونة إدارة المدنية الواسعة النطاق، نعمت الإمبراطورية بحكم لعلها لم تنعم بمثله قبله أو بعده. وكان الثمن الذي أداه لهذا النظام المحكم هو قيام بيروقراطية مطردة الاتساع وإسرافاً في إصدار الأوامر والنظم يبلغ حد الجنون، قرب الزعامة أكثر من ذي قبل إلى الملكية المطلقة. وقد حرص هدريان على كل مظاهر التعاون مع مجلس الشيوخ، ولكن موظفيه كانوا يزدادون كل يوم اعتداء على اختصاصات تلك الهيئة التي كانت تبدو من قبل "جمعية من الملوك". ولقد كان هو قريباً من المشكلة قرباً يحول بينه وبين التنبؤ بأن بيروقراطيته القديرة المطردة التكاثر قد تصبح على مدى الأيام عبئاً باهظاً ينوء به دافعو الضرائب، بل كان بعكس هذا يعتقد أن لكل شخص في الإمبراطورية سيجد لنفسه في داخل هذا النطاق من القانون والفرائض الذي أنشأته الحكومة طريقاً يظهر فيه مواهبه، وأن في وسع كل إنسان أن يرقى من طبقة إلى طبقة أعلى منها.

ولم يكن عقله الصافي المنطقي يطيق فوضى ما تجمع من القوانين الغامضة المتناقضة، ولهذا كلف يوليانس بأن ينسق قرارات البريتورين السابقين، ويصدر بها مرسوماً دائماً، وشجع غير هذا من أعمال التقنيين التي مهدت السبيل لجستنيان. وكان يجعل من نفسه محكمة عليا سواء كان في رومة أو في أثناء تجواله في الولايات، واشتهر بأنه قاض عالم نزيه. وكان رحيماً على الدوام بقدر ما يجيزه القانون من رحمة؛ وقد أصدر طائفة لا عديد لها من المراسيم، ينصر معظمها الضعفاء على الأقوياء والعبيد على الأسياد، والفلاح الصغير على صاحب الضيعة الكبيرة ، والمستأجر على مالك الأرض، والمستهلك على بائعي الأشتاب الغاشين، ويقاوم بها كثرة الوسطاء بين المنتجين والمستهلكين(20). وكان يرفض ما يوجه إلى الناس من تهمة الخيانة، ولا يقبل الوصايا من الآباء، أو ممن لا يعرفهم من الأشخاص، وأمر بأن يراعى التسامح في تطبيق القانون على المسيحيين(21). وقد ضرب بنفسه المثل بما اتبعه في أراضي الدولة من وسائل إصلاح الأراضي البور، فكان يشجع الملاّك على تأجير الأراضي غير المستصلحة إلى الزراع ليغرسوا فيها الحدائق من غير أن يؤدوا عنها إيجاراً حتى تثمر الأشجار. ولم يكن هدريان مصلحاً متطرفاً في إصلاحاته، بل كان إدارياً قديراً يسعى في نطاق ما يكبل الطبيعة البشرية من قيود، وما يعتورها من تفاوت في الكفايات، إلى أن يوفر للناس جميعاً أكبر خير مستطاع. ولقد أبقى على الأشكال القديمة ولكنه صب فيها بالتدريج محتويات جديدة كلما دعته الضرورة إلى هذا. وحدث ذات مرة، حين ضعفت رغبته في الأعمال الإدارية، أن رفض الاستماع إلى امرأة جاءت تعرض عليه شكواها، وكانت حجته أن "ليس لدي وقت". فصاحت قائلة: "إذن فلا تكن إمبراطوراً" فما كان منه بعدئذ إلى أن استمع إلى شكواها.


2- الجوال

كان هدريان على نقيض من سبقوه، يهتم بالإمبراطورية اهتمامه بالعاصمة. ومن أجل سار سيرة أغسطس الحميدة، فقرر أن يزور كل ولاية من ولاياتها، ويفحص عن أحوالها، ويتعرف حاجاتها، ويبادر بتخفيف أعبائها بما في يديه من موارد الإمبراطورية. وكان إلى هذا شغوفاً بمعرفة ما لدى الشعوب المختلفة في الإمبراطورية من فنون، وما تتبعه في حياتها من أساليب، وما تكتسي به من ثياب، وما تدين به من عقائد. وكان يتوق إلى رؤية الأماكن الشهيرة التي ذاع صيتها في تاريخ اليونان، وأن يضرب بسهم تلك الثقافة اليونانية التي كانت العامل الأكبر في تهذيب عقله كما كانت هي زينته. ويصفه فرنتو Fronto بقوله: "إنه لم يكن يحب أن يحكم العالم فحسب، بل كان يحب فوق ذلك أن يطوف به"(23) ففي عام 120 غادر رومة، ولم يغادرها بأبهة الملك وزينته، بل كلن يصحبه فيها الخبراء، والمهندسون المعماريون، والبناءون، والمهندسون والفنانون. وذهب أولاً إلى غالة "وأعان جميع ما فيها من العشائر بما أفاض عليها من سخائه وجوده"(24)، ثم انتقل منها إلى ألمانيا، وأدهش كل من فيها بما أظهره من الدقة والعناية في تفتيش وسائل الدفاع عن الإمبراطورية ضد من قضوا عليها في مستقبل الأيام، وأعاد تنظيم الطرق الحصينة الممتدة بين الرين والدانوب، وزاد من أطوالها، وأصلحها.

ومع أنه كان رجل سلام فإنه كان متمكناً من فنون الحرب، وكان يعتزم ألا يجعل ميوله السليمة تضعف من قوة جيوشه أو تغري به أعداءه. وقد أصدر أوامر مشددة للمحافظة على النظام العسكري، وكان هو نفسه يخضع لما وضعه من القواعد أثناء زيارات المعسكرات، فكان إذا حل بها عاش عيشة الجنود، وأكل من طعامهم، ولم يركب قط مركبة، بل كان يسير على قدميه يحمل عتاده ويواصل السير عشرين ميلاً بلا انقطاع، ويظهر من الجلد ما لا يعتقد معه من يراه أنه عالم وفيلسوف. وكان في الوقت نفسه يكافئ المتفوقين، وقد رفع من شأن منزلة الفيالق من الناحيتين القانونية والاقتصادية، وأمدها بالجيد من الأسلحة وبكفايتها من المؤن. وخفف عنها شدة النظام في أوقات الفراغ؛ وكل ما كان يصر عليه في هذه الأوقات، أن تكون وسائل التسلية مما لا يضعف من قدرتها على أداء واجباتها، حتى لم يكن الجيش الروماني في وقت من الأوقات أحسن حالاً مما كان عليه في أيامه.

وانحدر بعدئذ في نهر الرين نحو مصبه وأبحر من هناك إلى بريطانيا (122). ولسنا نعلم عن نشاطه في تلك الكتاب أكثر من أنه أمر أن يقام سور من خليج سلواي Solway Firth إلى مصب نهر التين Tyne "ليفصل بين البرابرة والرومان". وعاد من هناك إلى غالة ومر على مهل بأفنيون Avignon، ونيمر Nimes، وغيرهما من بلاد تلك الولاية، وألقى عصا التسيار ليقضي الشتاء في طرقونة Tarragona في شمالي أسبانيا، وبينما هو سائر بمفرده في حديقة مضيفه إذ هجم عليه عبد وسيفه مسلول في يده وحاول أن يقتله. ولكن هدريان تغلب عليه وأسلمه في هدوء إلى الخدم، فوجده مختل العقل.

وفي ربيع عام 123 قاد بعض الفيالق ليحارب المغاربة الضاربين في شمالي أفريقية الغربي، والذين كانوا يغيرون على مدن مورتانيا الرومانية، فهزمهم وردهم على أعقابهم إلى تلاهم؛ ثم أبحر إلى إفسوس، حيث قضى فصل الشتاء، ثم زار مدن آسية الصغرى واستمع إلى مطالب أهلها وشكواهم، وأنزل العقاب بمن أساءوا استخدام سلطتهم من الموظفين، وكافأ القادرين منهم، وأعد المال والرسوم، والعمال لتشييد الهياكل والحمامات ودور التمثيل. وكانت سزكس Cyzicus ونيقية Nicaea، ونيقوميديا Nicomedia قد نكبت بزلزال شديد، فأصلح هدريان ما تخرب منها بنفقات من أموال الدولة، وشاد في سزكس هيكلاً عد من فوره بين عجائب الدنيا السبع(25). ثم اتجه شرقاً محاذياً ساحل بحر اليكسين إلى طرابزوس Trapezus، وأمر حاكم كبودكيا- المؤرخ أريان Arrian- أن يبحث أحوال جميع الثغور الواقعة على البحر الأسود، وأن يعد له تقريراً عنها؛ ثم اتجه نحو الجنوب الغربي، واخترق بفلجونيا Paphlagonia، وقضى الشتاء في برجموم. وفي خريف عام 125 أبحر إلى رودس ومنها إلى أثينة حيث قضى شتاء طيباً سعيداً عاد بعده إلى وطنه. ولم تفارقه الرغبة في الاستطلاع وهو في الخمسين من عمره فانتقل من إيطاليا إلى صقلية، وتسلق جبل إتنا، يشاهد شروق الشمس من فوق صخرة ناتئة تعلو فوق البحر 11000 قدم.

ومما هو جدير بالذكر أنه استطاع أن يغيب من عاصمة ملكه خمس سنين وهو واثق من أن مرؤوسيه سيصرفون شئون الدولة كما يحب، ذلك أنه قد عمل ما يجب أن يعمله الحاكم القدير، فأنشأ ودرب أداة حكومية صالحة تكاد تسير من تلقاء نفسها. وأقام في رومة، بعد عودته إليها أكثر قليلاً من عام، ولكن حب الأسفار كان يسري في دمه ولحمه، وكان لا يزال في العالم أجزاء كثيرة تتطلب البناء والإصلاح. فغادر إيطاليا مرة أخرى في عام 128، وقصد في هذه الرحلة يتكا Utica، وقرطاجنة، والمدن الجديدة المزدهرة في شمالي أفريقية. ثم عاد إلى رومة في فصل الخريف، ولكنه غادرها بعد قليل، وقضى شتاء آخر في أثينة (128-129). واختير فيها أركونا، ورأس وهو مبتهج سعيد حفلات الألعاب والأعياد، وسره أن يلقب بالمحرر، وبهليوس Helios وزيوس، ومنقذ العالم. وفيها اختلط بالفلاسفة، ورجال الفن، وأظهر ما أظهره نيرون وأنطونيوس من ظرف ولطف دون أن ينزل إلى ما نزلوا إليه من حماقة وسخف. وساءه ما في قوانين أثينة من فوضى فكلف جماعة من كبار المشترعين أن يجمعوا هذه القوانين وينسقوها. وإذ كان هو على الدوام من المهتمين بشئون الدين المتشككين فيه، فقد أن يتطلب الطقوس الإلزيانية الخفية. ولما وجد التعطل يهدد أثينة، وكان يعتزم في الوقت نفسه أن يعيد المدينة إلى ما كانت عليه من الفخامة في عصر بركليز، استدعى رجال العمارة، والمهندسين، ومهرة الصناع، وبدأ مشروعاً ضخماً من المباني يفوق مبانيه العامة في رومة. فقد شاد عماله في مساحة مربعة من الأرض تحيط بها طائفة كبيرة من العمد مكتبة عامة جدرانها من الرخام بها 120 عموداً، ولها سقف مذهب وحجرات رحبة تتلألأ فيها أحجار المرمر والصور والتماثيل. ثم بنوا ملعباً رياضياً، وقناة لماء الشرب، وهيكلاً لهيرا، وآخر لزيوس "إله اليونان أجمعين". وكان أعظم هذه الأعمال كلها هو إتمام الأولمبيوم- أي الهيكل الفخم المقام لزيوس الأولمبي والذي بدأه بيستراتس قبل ذلك الوقت بستة قرون وعجز أنتيوخس إبفانيز عن إتمامه. ولما غادر هدريان أثينة غادرها وهي أنظف وأكثر رخاء وجمالاً مما كانت عليه في أي عهد من عهودها السابقة(26).

وفي ربيع عام 129 أبحر إلى إفسوس. ثم رحل مرة أخرى إلى آسية الصغرى، وكان ينشئ المدن ويشيد المباني أينما حل. وسافر إلى كبدوكيا، وفتش حاميتها. ولما جاء إلى أنطاكية وهبها المال اللازم لبناء قناة لماء الشرب، وهيكل، ودار للتمثيل، وحمامات عامة. وزار في خريف ذلك العام تدمر وبلاد العرب، ثم رحل في عام 130 إلى أورشليم. وكانت المدينة المقدسة لا تزال مخربة، لا تكاد تفترق في شيء عما تركها عليه تيتس قبل ذلك الوقت بستين عاماً، يسكنها عدد قليل من اليهود الفقراء المساكين يقيمون في حظائر وأكواخ بين الصخور. وتأثر قلب هدريان وخياله بما شاهده من آثار الدمار والتخريب بمكانها المقفر. لقد كان يرجو بما شاهده في بلاد اليونان والشرق الهلنستي وما أعاده إليهما من مظاهر الفخامة أن يقيم الحواجز بين الحضارة اليونانية- الرومانية وبين العالم الشرقي إلى أعلى مما كانت قبل؛ أما الآن فقد أصبح يحلم بأن يحول صهيون نفسها إلى قلعة وثنية، فأمر أن يعاد بناء أورشليم لتكون مستعمرة رومانية وأن تسمى إبليا كبتولينا، تخليداً لذكرى قبيلة هدريان وكبتول جوبتر في رومة.وارتكب بعمله هذا خطأ نفسانياً وسياسياً كان خليقاً أن لا يرتكبه رجل من أوسع الساسة عقلاً وأعظمهم حكمة في التاريخ كله. ثم انتقل إلى الإسكندرية (130)، وابتسم ابتسامة الرجل المتسامح الواسع الأفق حين أبصر أهلها المتخاصمين المتشاحنين. وزاد محتويات المتحف، وأعاد بناء ضريح بمبي، ثم عمل ما لم يعمله قيصر، فأرخى لنفسه العنان وصعد في النيل على مهل بصحبة زوجه سبينا، وحبيبه أنتنؤوس Antino(s. وكان قد التقى بالفتى اليوناني في بيثينيا قبل ذلك الوقت ببضع سنين، وأعجبه جمال الشاب ذي الوجه المستدير، والعينين الرقيقتين، والشعر الملتوي، واتخذه خادماً خاصاً له، وشعر نحوه بعاطفة قوية وحب عظيم. ولم يصل إلينا ما يدل على أن سبينا احتجت على هذه الصلة، ولكن ألسنة السوء في المدينة كانت تقول إن الغلام كان جنميدي Gednyme زيوس الجديد. وربما كانت الحقيقة أن الإمبراطور الذي لا ولد له قد أحب الغلام لأنه يرى أن الآلهة قد حبته به ليكون ولداً له. وفي هذه الرحلة وبينما كان هدريان في أوج سعادته مات أنتنؤوس في الثامنة عشرة من عمره- ويلوح أنه غرق في نهر النيل وحزن ملك العالم "وبكى كما تبكي النساء" على حد قول اسبارتيانس؛ وأمر بأن يقام له هيكل على شاطئ النهر، ودفن فيه الغلام، وأعلن للعالم أنه إله. ثم أنشأ حول ضريحه مدينة هي مدينة أنتينوبوليس التي قدر لها أن تكون فيما بعد عاصمة من عواصم الدولة البيزنطية. وبينما كان هدريان يعود محزوناً إلى رومة بدلت الأساطير القصة: فقالت إن الإمبراطور عرف عن طريق السحر أن أعظم خططه لن تفلح إلا إذا مات أحب الأشياء إليه. وسمع أنتنؤوس بهذه النبوءة فأمات نفسه طائعاً مختاراً. ولعل هذه الخرافة قد نشأت بالسرعة التي تكفي لأن تمر عيش هدريان وتهد ركنه في سني ضعفه وشيخوخته.

ولما عاد إلى رومة (131) كان يحس بأنه قد جعل الدولة خيراً مما كانت حين جلس على عرشها. ولقد كان على حق في هذا الإحساس، فإن الدولة في واقع الأمر لم تبلغ في وقت من الأوقات، ولا في عهد أغسطس نفسه، ما بلغته وقتئذ من الرخاء. ولم يصل عالم البحر الأبيض في يوم من الأيام إلى مثل ما وصل إليه في عهده من الاستمتاع بالحياة الكاملة، ولم يعد مرة أخرى موطناً لحضارة بلغت ما بلغته حضارة تلك الأيام من رقي، وسعة انتشار، وعمق أثر في جميع السكان. ولم يكن في الحكام جميعهم حاكم أكثر من هدريان حباً لخيرها، وعملاً لرفاهيتها. لقد كان أغسطس يرى أن الولايات توابع لإيطاليا تفيد منها مالاً وثراء، وكان يحكمها حكماً صالحاً لتدر الخير على إيطاليا. أما الآن فقد نضجت آراء قيصر وكلوديوس وآتت أكلها كاملة لأول مرة، فلم تكن رومة جابية الضرائب لإيطاليا؛ بل كانت الحاكم المسئول عن دولة يستمتع كل جزء من أجزائها بقسط من عناية الحكومة مكافئ لما تستمتع به سائر الأجزاء، وتحكم فيها الروح اليونانية بلاد الشرق، ويحكم فيها العقل الروماني الواسع الأفق سعة الروح الرومانية الدولة والغرب، لقد رأى هدريان قبله موته الدولة كلها بعينيه وجمع شتاتها ووحدها، وكان قد وعد أنه "سيدبر شئون هذه المجموعة من الأمم تدبير من يدرك أنها ملك الشعب لا ملكه الخاص"(37)؛ وقد أنجز ما وعد.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- البنّاء

ولم يكن باقياً إلا شيء واحد- إذا حصلت عليه رومة كانت أيضاً أجمل مما كانت قبل. لقد كان هدريان الفنان لا ينفك يناقش هدريان الحاكم، فقد أعاد بناء البانثيون في الوقت الذي كان يعيد فيه تنسيق القانون الرماني. ولسنا نعرف رجلاً غيره أكثر منه بناء، ولا حاكماً شاد من المباني مثل ما شاد هو. لقد كان في بعض الأحيان يضع بنفسه تصميم ما يشاد له من المباني، وكان يفحص عنها بنفسه ويقومها بخبرته في أثناء تشييدها، وقد أمر بإصلاح نحو مائة مبنى أو إعادة بنائها، ولم ينقش اسمه على أي واحد منها. وقد جنت رومة الشيء الكثير من حكمته وقدرته مجتمعين وهما قلّما تجتمعان في إنسان. أما هو فقد اجتمعت فيه قوة الشباب وحكمة الشيوخ.

وأشهر ما أعاده كن المباني حرم البانثيون- وهو أحسن بناء احتفظ بشكله من أبنية العالم القديم، ولقد دمرت النار الهيكل الرباعي الذي بناه أجربا، ويلوح أنه لم يبق منه إلا مدخله الكورنثي الأمامي المعمدز والآن أمر هدريان مهندسيه أن يقيموا شمالي هذا الهيكل القديم هيكلاً دائرياً، وألا يخرجوا في بنائه على الأنماط اليونانية الأصيلة وكان ينزع بحكم ذوقه اليوناني إلى تفضيل الأشكال اليونانية على الأشكال الرومانية فيما ينشئه من مباني في عاصمة ملكه. ولم يكن الهيكل الجديد هو ومدخله المعمد وحدة منسجمة متناسقة، أما داخله- وهو دائرة قطرها 132 قدماً، خالية من الدعائم التي تعترض السائر فيها- فكان بفراغه يوحي للسائر فيه بإحساس من الحرية لا يجد له نظيراً إلا في الكنائس القوطية. وكان سمك جدرانه عشرين قدماً، وكانت مشيدة من الآجر ومغطاة في جزئها الأسفل الخارجي بالرخام، وفي أجزائها الأخرى بالمصيص، تبرز منها الفصوص من حين إلى حين. وكان سقف المدخل من صفائح البرنز، وقد بلغ من سمكها أنها حين أزالها البابا إربان الثامن وجدها تكفي لصب مائة مدفع وعشرة مدافع، وإقامة المظلة المرفوعة فوق المذبح العالي في كنيسة القديس بطرس(29). وكانت أبوابه البرنزية الضخمة مغطاة في بادئ الأمر بصفائح الذهب. وأنشئت في الأجزاء السفلى من جدرانه الداخلية الخالية من النوافذ سبعة محاريب زينت بعمد عالية ترتكز عليها دعامات هي والعمد من الرخام، وكانت هذه المحاريب في أول الأمر كوات غير نافذة وضعت فيها تماثيل، أما الآن فهي محاريب صغيرة في كنيسة فخمة. وقد غطيت بعض الأجزاء العليا من الجدار بألواح من الحجارة الغالية تفصلها بعضها عن بعض عمد من الحجر السماقي. وكانت أعظم روائع الهندسة الرومانية هي القبة المصندقة التي ترتفع في الداخل فوق أعلى الجدران. وكانت طريقة إنشائها أن صب الأسمنت المسلح في أقسام مضلعة، ثم تركت حتى تتماسك فيتكون منها كلها كتلة قوية صلبة، كأنها حجر ضخم واحد، وكانت بهذه الطريقة في غنى من الدعامات الجانبية، ولكن المهندس الذي أقامها أراد أن يزداد ثقة بقوتها، فأنشأ لها أكتافاً في الجدران. وكانت مشكاة (يسمونها العينOculus)، يبلغ قطرها 20 ميلاً، هي الفتحة الوحيدة التي تمد الضريح بحاجته من الضوء. ويبلغ طول قطر هذه القبة الفخمة الضخمة 26 قدماً، وهي أكبر قباب العالم كله قديمة وحديثة، وقد أنشئت على غرارها سلسلة من القباب تختلف من الطراز البيزنطي إلى الطراز الروماني وإلى طراز قبة القديس بطرس إلى قبة الكبتول في واشنجتن، وما بين هذه من طرز تماثلها أو تختلف عنها تماثلاً واختلافاً متفاوتين في القرب والبعد.

وأكبر الظن أن هدريان نفسه هو الذي وضع تصميم هيكل فينوس وروما Roma ذي القباءين الذي كان يقوم أمام الكلوسيوم، لأن الخرافات تروي أنه أرسل تصميم الهيكل إلى إبلودورس، وأنه أمر أن يعدم هذا الفنان الشيخ لأنه أرسل إليه يسخر من هذا التصميم(30). ولقد اشتهر هذا الهيكل بعدة صفات انفرد بها عن كثير من الهياكل: منها أنه كان أكبر هيكل غي رومة، فقد كان له محرابان، كل منهما لأحدى الآلهتين، وكانتا تجلسان فيه على عرشين متصلين وظهر كل منهما في ظهر الأخرى؛ ومنها أن سقفه المقبي المصنوع من ألواح البرنز والمغطى بصفائح الذهب كان من أجمل مناظر المدينة وأكثرها لألاء. وبنى الإمبراطور لنفسه بيتاً أوسع من هذا الهيكل نفسه، وهو القصر الريفي الذي لا تزال بقاياه تستهوي الزائرين إلى الضاحية الجميلة التي كانت تعرف في أيام الإمبراطور باسم تيبور والتي تعرف لنا اليوم باسم تيفولي Tivoli. فقد أقيم في هذا المكان، وسط ضيعة يبلغ محيطها سبعة أميال، قصر احتوى كافة أنواع الحجرات والحدائق التي ازدحمت بالروائع الفنية الذائعة الصيت والتي بلغ من كثرتها أن اغتنى ببقاياها كل متحف من متاحف أوربا في هذه الأيام. وقد أظهر واضع تصميم هذا القصر ما اعتاده المهندسون الرومان من عدم المبالاة بتناسب الأجزاء، فقد كان يضيف إليه بناء إثر بناء كلما دعته إلى ذلك الحاجة أو استهواه الخيال، ولم يحاول أن يجعل فيه من التناسق أكثر مما في مباني السوق الرومانية من فوضى معمارية. ولعل الرومان قد ملوا التناسب كما مله اليابانيون، ولعلهم كانت تعجبهم مفاجآت الشذوذ وعدم الانتظام. وقد أضاف المهندس ذو الخيال الفياض إلى ما فيه من أروقة ذات عمد ومكتبات، وهياكل، وملهى، وردهة رقص، ومضمار سباق، أضاف إلى هذا كله نماذج مصغرة من مجمع أفلاطون العلمي، ولوفيون أرسطو، واستوازينون، كان الإمبراطور، وهو متغمس في هذا الثراء الباطل، أن يظهر شيئاً من التقدير للفلسفة ويرد إليها بعض اعتبارها.

ولقد تم بناء هذا القصر في السنين الأخيرة من حياة هدريان، ولسنا نعلم أنه وجد فيه ما كان ينشده من سعادة، فقد أقضت ثورة اليهود التي شبت في عام (135) مضجعه وأمرت عيشه، غير أنه أخمدها بوسائل رحيمة، وساءه كثيراً أنه لم يستطع أن يختتم حياته من غير حرب، وأصيب في ذلك العام نفسه، ولم يكن قد تجاوز التاسعة والخمسين من عمره، بداء عضال- ربما كان هو ذات الرئة أو داء الاستقساء- هد كيانه، وبرحت به آلامه، وأنهك شيئاً فشيئاً جسمه وروحه وعقله، وزاد مزاجه حدة، وأخلاقه شكاسة، فأخذ يرتاب في أصدقائه القدامى، ويظنهم يأتمرون به ليقتلوه ويجلسوا على العرش بعده، وأخيراً أمر أن يعدم جماعة منهم- ولسنا نعلم أكان على حق في ريبته، أم أنه أصدر أمره هذا في ساعة ذهب فيها عقله.

وأراد أن يخمد حرب الوراثة التي كانت نارها مشتعلة وقتئذ في بلاطه، فتبنى صديقه لوسيوس فيرس Lucius Verus واختاره خليفة له. ولمامات لوسيوس بعد قليل من ذلك الوقت، استدعى هدريان إليه وهو على سريره في تيبور رجلاً أبيض الصحيفة اشتهر بين الناس باستقامته وحكمته وهو تيتس أورليوس أنطونينس Titus Aurelius Antoninus وتبناه وجعله وارثاً لملكه من بعده. ثم شاء أن يكون أبعد من هذا نظراً فأشار على أنطونينس أن يتبنى هو الآخر شابين كانا يعيشان وقتئذ في بلاطه ويربيهما تربية تجعلهما أهلاً لهذا المنصب السامي، وهما ماركس أنينس فيرس Marcus Aninus Verus وكان وقتئذ في السابعة عشرة من عمره، ولوسيوس إيليوس فيري Lucius Aelius Verus، وهو غلام في الحادية عشرة من عمره. وكان أولهما ابن شقيق أنطونينس وثانيهما ابن لوسيوس فيرس. ومنح هدريان أنطونينس في ذلك الوقت لقب قيصر ولم يكن يلقب به قبل ذلك الوقت إلا الأباطرة وأبناؤهم ومن تناسل من أبنائهم الذكور. أما بعده فقد كان الأباطرة يمنحون هذا اللقب كل من وارث للعرش مفترض، ويحتفظون لأنفسهم بلقب أغسطس.

واشتد المرض وقتئذ على هدريان وبرح به الألم، وكثيراً ما كان الدم ينزف من منخاريه. وضاق ذرعاً بالحياة، وأخذ يتمنى الموت. وكان قد أعد لنفسه قبراً على الضفة الأخرى من نهر التيبر- وهو ذلك الضريح الضخم الذي أضحت بقاياه الآن قلعة القديس أنجيلو Castel Sant, Angelo والذي لا يزال الناس يصلون إليه فوق جسر إبليوس الذي أقامه هدريان. وكان قد تأثر بالمثل الذي ضربه الفيلسوف الرواقي يفراتيز Euphrates، وكان وقتئذ في رومة. ذلك أن هذا الفيلسوف لما وجد أن المرض قد هد جسمه والشيخوخة قد أنهكته طلب إلى هدريان أن يأذن له بأن يقتل نفسه، فلما أذن له تجرع عصير الشوكران(31). ورجا الإمبراطور أن يقدم له سماً أو سيفاً، ولكن أحداً ممن كانوا حوله لم يجب رجاءه،فأمر عبداً من بلاد الدانوب أن يطعنه طعنة قاتلة، ولكن العبد فرمنه؛ ثم أمر طبيبه أن يسمه، فلم يكن من الطبيب إلا أن انتحر(32). ثم عثر بعدئذ على خنجر وهم بقتل نفسه، ولكن الخنجر انتزع منه. وحزن أشد الحزن لأنه، وهو الذي يستطيع أن يقتل أي إنسان، لا يسمح له هو نفسه أن يموت. فلما ضاقت به الحيل صرف أطباءه وأوى إلى بايا Baiae وتعمد أن يأكل ويشرب الأطعمة والأشربة التي تعجل منيته؛ وأخيراً خارت وقواه وجن من شدة الألم ومات (138)، بعد أن عاش ستين عاماً وحكم واحداً وعشرين. وقد خلف وراءه قصيدة صغيرة تعبر كما تعبر قصيدة دانتي عما ينتاب الإنسان من الأسى حين يذكر في أيام حزنه ما مر به من أيام السعادة:

أيا نفسي، أيا نفسي الجميلة، أيا نفسي الخفاقة، أيا شريكة جسمي الطيني وضيفه، إلى أين أنت مسرعة- أيتها النفس الشاحبة، أيتها النفس الجاسية، أيتها النفس العارية- إلى حيث لا تعودين، إلى حيث لا تعودين؟(33).


الفصل الرابع: أنطونينس بيوس

يكاد أنطونينس ألا يكون له تاريخ، وذلك لأنه لا يكاد يقع في أخطاء أو يرتكب قط جرائم. وكان آباؤه الأولون قد جاءوا من نيمز قبل ذلك العهد بجيلين، وكانت أسرته من أغنى الأسر في رومة، ولما اعتلى عرش الإمبراطورية في الحادية والخمسين من عمره وهبها حكومة هي أعدل حكومة شهدتها طوال تاريخها، ولم تكن أقل هذه الحكومات كفاية. وكان أسعد من لبس التاج حظاً. ويقول مؤرخوه إنه كان طويل القامة، وسيماً، جيد الصحة، وقوراً، دمث الأخلاق، حازماً، متواضعاً، صادق البأس، فصيح اللسان، يحتقر بلاغة الألفاظ، محبباً إلى الشعب، يكره الملق. وإذا صدقنا ما يقوله فيه متبناه ماركس، كان علينا أن نرفض ما وصف به من أنه "كان الجبار المعصوم من الخطأ الذي لم يعرفه العالم قط". ولقد لقبه مجلس الشيوخ "بالتقي "Pius لأنه رأى فيه مثالاً للفضائل الرومانية الهادئة، كما وصفه بأنه أفضل الزعماء. ولم يكن له أعداء مطلقاً، وكان له مئات من الأصدقاء؛ غير أنه لم يكن بمنأى من الأحزان، فقد ماتت كبرى ابنتيه وهو يستعد للسفر إلى آسية ليكون والياً عليها، وكانت صغراهما زوجة مريبة لأورليوس، واتهم الناس زوجته بأن خيانتها لزوجها كانت تعدل جمالها. وتحمل أنطونينس هذه الشائعات وهو صامت صابر، ولما ماتت زوجته فوستينا Faustina أرصد باسمها وتكريماً لها أموالاً طائلة لمساعدة الفتيات وتعليمهن، وخلّد ذكراها بإنشاء هيكل في السوق العامة كان من أجمل هياكل رومة. وزاد على ذلك أنه لم يتزوج غيرها حتى لا يشقي أبناؤه أو ينقص ميراثهم بهذا الزواج واكتفى بأن اتخذ له حظية.

ولم يكن رجلاً ذكياً، بالمعنى الضيق لهذا اللفظ، فلم يكن له حظ من العلم، وكان ينظر إلى رجال الأدب والفلسفة والفن نظرة الأرستقراطي الذي يتركهم وشأنهم ولا يتدخل في أعمالهم، لكنه مع ذلك كان يساعدهم بالمال الكثير، وكثيراً ما كان يدعوهم إلى قصره. وكان يفضل الدين على الفلسفة، ويعبد الآلهة القدامى بإخلاص ظاهر، وضرب لمن تبناهم مثلاً في التقي والصلاح. كان له أعظم الأثر في ماركس فلم ينس قط قوله: "إفعل كل شيء كما يجب أن يفعله تلميذ أنطونينس". وقد أمر نفسه بأن "يذكر استمساكه بكل عمل معقول، واعتداله في كل شيء، وتقواه، وصفاء ملامحه، واحتقاره للشهرة التي لا قيمة لها... واكتفاءه بالقليل؛ وجده وصبره، واستمساكه بالدين مع بُعده عن الخرافات"(34). وكان مع هذا متسامحاً مع أصحاب الأديان غير الرومانية، فخفف من الإجراءات التي اتخذ هل هدريان ضد اليهود، وجرى على سنة أسلافه من التساهل مع المسيحيين. ولم يكن بالرجل المتزمت الذي يضيق صدراً بالمرح، بل كان يحب النكتة، وكثيراً ما كانت تصدر منه الفكاهة اللطيفة. وكان يلعب، ويصيد السمك والوحوش مع أصدقائه، ولم يكن في وسع الإنسان أن يستدل من سلوكه على أنه إمبراطور. وكان يفضل هدوء بيته الريفي في لنوفيوم Lanuvium على ترف قصره الرسمي، وكان يقضي كل لياليه تقريباً مع أسرته. ولما أن ورث العرش امتنع عن التفكير فيما كان يتوق إليه من راحة وهدوء يجعلهما سلواه في شيخوخته. ولما تبين أن زوجته تتوقع أن تزداد بعد ارتقائه العرش أبهة وعظمة أنبها على ذلك بقوله: "ألا تعلمين أننا قد فقنا الآن ما كان لنا من قبل؟"(35). فقد كان يعرف أنه ورث هموم العالم ومشاغله.

وكان أول ما عمله بعد اعتلائه العرش أن وهب ثروته الشخصية الكبيرة إلى خزانة الدولة. ثم ألغى المتأخر من الضرائب، ونفح المواطنين بهبات من المال، وأقام على نفقته كثيراً من الألعاب والحفلات، وسد ما كان يعانيه الأهلون من نقص في الخمر، والزيت، والقمح، بشراء هذه الأصناف وتوزيعها على الناس من غير ثمن. وواصل تنفيذ منهاج هدريان في البناء في إيطاليا، وفي الولايات، ولكنه سار فيه باعتدال؛ ومع هذا كله فقد دبر مالية الدولة بكفاية كانت نتيجتها أن وجد في خزانتها كلها بعد وفاته 2,700,000,000 سسترس، وكان ينشر على الناس إحصاء بجميع الإيرادات والنفقات، ويعامل مجلس الشيوخ على أنه هو عضو من أعضائه لا أكثر، ولم يقدم قط على عمل خطير إلا بعد استشارة زعمائه. وكان يعني بدقائق الشئون الإدارية عنايته بالمشاكل السياسية؛ "فكان يهتم بجميع الناس وبجميع الأشياء كأنهم أهله وكأنها ملكه الخاص"(36). وواصل سياسة هدريان بصبغ القانون بصبغة الحرية، وجعل عقوبة الزنى متساوية على الرجال والنساء، وحرم السادة القاسين من عبيدهم، وقيد تعذيب العبيد في المحاكمات بقيود شديدة، وفرض أشد العقوبات على كل سيد يقتل عبداً له. وشجع التعليم برصد المال له من قبل الدولة، وعلم أبناء الفقراء على نفقتها، ومنح المعلمين والفلاسفة المعترف بهم كثيراً من امتيازات طبقة أعضاء مجلس الشيوخ.

وحكم الولايات أحسن حكم مستطاع دون أن يطوف بها، فلم يغب قط عن رومة أو ما جاورها يوماً واحداً في أثناء حكمه الطويل؛ وكان يكتفي بأن يعين لحكم الولايات رجالاً من ذوي الكفاية المخبورة والشرف الموثوق به. وكان يحرص على سلامة الإمبراطورية دون الاشتباك في حروب؛ "ولم يكن ينقطع قط عن ترديد قول سبيو إنه يفضل الاحتفاظ بحياة مواطن واحد على قتل ألف عدو"(37). على أنه قد اضطر أن يخوض غمار بعض الحروب الصغرى ليخمد ما نشب من الثورات في داشيا، وآخبة، ومصر؛ ولكنه عهد بهذه الواجبات إلى مرؤوسيه، ولم يسع إلى توسيع رقعة الدولة بل اكتفى بالحدود التي رسمها لها هدريان وراعى في رسمها جانب الحذر. وحسبت بعض القبائل الألمانية لينة هذا ضعفاً، ولعل هذا اللين قد شجعها على أن تتأهب لتلك الغزوات التي اهتزت لها دعائم الإمبراطورية بعد وفاته؛ وكان هذا هو الخطأ الوحيد الذي ارتكبه في سياسته. أما في ما عدا ذلك فقد كانت الولايات سعيدة في أيامه، ورضيت بحكم الإمبراطورية ورأت فيه البديل الوحيد من الفوضى والشقاق. وأمطرته الولايات سيلاً من الملتمسات والمطالب، أجابها إليها جميعاً إلا القليل الذي لا يستحق الذكر؛ وكان في وسعها أن تعتمد عليه ليعوضها عن كل ما يصيبها من الخسائر بسبب الكوارث العامة. وتغنى المؤرخون من أهل هذه الولايات أمثال أسترابون، وفيلو، وأفلوطرخس، وأبيان، وإبكتتس، وإيليوس أرستيديز بمديح السلم الرومانية؛ ويؤكد لنا أبيان أنه شاهد في رومة مندوبي الدول الأجنبية يرجون عبثاً أن توضع بلادهم تحت الحكم الروماني لكي تستمتع بمزاياه(38). ولم يعرف قط قبل ذلك الوقت أن حكومة ملكية مطلقة تركت الناس أحراراً كما تركتهم حكومة بيوس، أو احترمت حقوق رعاياها كما احترمتها هذه الحكومة(39). ولاح أن العالم قد أدرك المثل الأعلى في نظم الحكم. فقد كان هذا الحكم وقتئذٍ للعقل والحكمة، وكأن العالم يحكمه أب شفيق رحيم.

ولم يكن باقياً على أنطونينس بعد هذا كله إلا أن يختم حياته الصالحة بموت هادئ. ولقد أصيب في السنة الرابعة والسبعين من عمره بزلة معدية، وانتابته حمى شديدة، فدعا ماركس أورليوس إلى فراشه، وعهد إليه العناية بشئون الدولة، وأمر خدمه أن ينقلوا إلى حجرة ماركس تمثال فرتونا Fortuna (الحظ) الذهبي، وكان الزعيم قد احتفظ بهذا التمثال في حجرته عدداً كبيراً من السنين. وأسر إلى ضابط ذلك اليوم كلمة السر "الهدوء". ثم أدار وجهه لساعته كما لو كان يريد النوم، وأسلم الروح (161). وأخذت جميع الطبقات وجميع المدن تتبارى في تكريم ذكراه.


الفصل الخامس: الفيلسوف إمبراطور

يقول رينان Renan: "لو أن أنطونينس لم يعين ماركس أورليوس خليفةً له من بعده لما استطاع أحد قط أن ينافسه فيما اشتهر به من أنه خير الملوك على الإطلاق"(41). ويقول جبن Gibbon: "لو أن إنساناً طلب إليه أن يحدد في تاريخ العالم وقتاً كان فيه الجنس البشري أعظم ما يكون سعادة ورخاء، لما تردد في أن يقول أنه هو الفترة التي تمتد من جلوس نيرفا إلى موت أورليوس. ولعل حكمهم مجتمعاً هو الفترة الوحيدة في تاريخ العالم التي كانت فيها سعادة شعب عظيم هدف الحكومة الوحيد"(42).

ولد ماركس أورليوس فيرس في رومة عام 121، وكانت أسرة أنياي Annii قد وفدت قبل ذلك الوقت بمائة عام من سكوبا Succuba القريبة من قرطبة إلى رومة، ويلوح أن ما اشتهروا به في هذا البلد من شرف قد أكسبهم لقب فيرس أي "الحق". ومات والد الغلام بعد ثلاثة أشهر من مولده فكفله جده الثري، وكان قنصلاً في ذلك الوقت، وأخذه إلى بيته. وكثيراً ما كان هدريان يتردد على هذا البيت زائراً، فأعجب الغلام، ورآه من طراز الملوك. ولم يعرف قط أن غلاماً مثله كان شبابه ينم عما ينتظره من مستقبل عظيم، أو كان يدرك ما هيأته له الأقدار من حظ حسن. وقد كتب بعد ذلك الوقت بخمسين عاماً يقول: "إني مدين للآلهة بما وهبتني من جدود طيبين، وآباء طيبين، وأخت طيبة، ومدرسين طيبين، وأقارب وأصدقاء طيبين، وكل شيء تقريباً طيب"(43). وأراد الدهر أن يفرض عليه شيئاً من التوازن فجعل له زوجة مريبة وابناً سافلاً. وقد أحصى في تأملاته ما يتصف به أولئك الناس من فضائل وما تلقاه عنهم من دروس في التواضع، والصبر، والرجولة، والتعفف، والتقوى، وحب الخير، و "بساطة الحياة البعيدة كل البعد عن عادات ذوي الثراء"(44)، وإن كان الثراء يحيط به من كل جانب.

ولم يلق غلام قط ما لقيه هذا الغلام من حرص ومثابرة على تربيته وتعليمه. فقد التحق في شبابه بخدمة الهياكل والكهنة، وحفظ عن ظهر قلب كل كلمة من كلمات الطقوس الدينية القديمة الغامضة المتعذرة الفهم، ولم تنقص الفلسفة في مستقبل الأيام من مثابرته على أداء تلك الطقوس القديمة المفروضة على الأتقياء الصالحين، وإن كانت هذه الفلسفة قد زعزعت عقيدته الدينية. وكان ماركس يحب المباريات والألعاب الرياضية ومنها صيد الطير والحيوان، وقد بذلت بعض الجهود لتقوية جسمه كما كانت الجهود تبذل لتنمية عقله وتقويم خلقه، ولكن سبعة عشر مدرساً خاصاً يحيطون بطفل عبء ثقيل وعقبة كؤود في سبيله. فقد كان أربعة نحاة، وأربعة من علماء البلاغة، وواحد من علماء القانون، وثمانية من الفلاسفة يقتسمون رومة فيما بينهم. وكان أشهر هؤلاء الأساتذة كلهم م. كورنليوس فرنتو Cornelius Fronto .M معلم البيان. وكان ماركس يحبه ويحبوه بكل ما يحبو به التلاميذ أبناء الملوك أساتذتهم من عطف ولطف، ويتبادل معه رسائل تفيض ؤقة ووفاء، ولكن الغلام رغم هذا أدار ظهره إلى فن الخطابة ورآه فناً باطلاً غير شريف وأنهمك في دراسة الفلسفة.

وهو يشكر لأساتذته أنهم لم يلزموه بدراسة المنطق والتنجيم، ويشكر لديجنيتس Diognetus الرواقي أنه حرر عقله من الخرافات، وليونيوس رستكس Junius Rusticus أنه عرفه بإبكتتس، ولسكستس القيرونيائي Sextus of Chaeronea أنه علمه أن يعيش عيشة تتفق والطبيعة. وهو يحمد لأخيه سفيرس Severus أنه علمه أخبار بروتس، وكاتو اليتكائي، وثراسيا Thrasea، وهلفديوس Helvidius ويقول: "إني تلقيت عنه فكرة الدولة التي يكون فيها قانون واحد لجميع الناس، والتي يتمتع أهلها جميعاً بحقوق متكافئة، وبحرية الكلام؛ وأخذت عنه فكرة الحكومة الملكية التي تحترم حرية المحكومين أكثر من احترامها كل شيء سواها"(45) وفي هذا القول يستحوذ المثل الأعلى الرواقي للحكومة الملكية على العرش. ويشكر أورليوس لمكسمس Maximus أن علمه "أن يحكم نفسه، وألا يسمح لشيء ما أن يضله، وأن يكون بشوشاً في كل الظروف، وأن يجمع قدراً متكافئاً من اللطف والكرامة، وأن يؤدي ما عليه من الواجبات من غير تذمر"(46). وجدير بنا أن نشير هنا إلى أن من الأمور الجلية أن كبار الفلاسفة في ذلك الوقت كانوا كهنة بلا دين، ولم يكونوا ميتافيزيقيين بلا حياة. غير أن ماركس آمن بأقوالهم إيماناً جدياً كاد وقتاً ما يفقد بسببه صحته التي كانت ضغينة بطبيعتها لانهماكه في حياة الزهد والتقشف. فقد ارتدى وهو في الثانية عشرة من عمره رداء الفلسفة، وأخذ ينام على قليل من القش المنثور على الأرض، وظل زمناً طويلاً لا يأبه برجاء أمه له أن ينام على فراش. ذلك أنه كان رواقياً قبل أن يصير رجلاً، ويحمد ربه: "لأني احتفظت بزهرة شبابي، وأني لم أطمع في أن يكون رجلاً قبل الأوان، بل أجلت هذا أكثر مما كنت أحتاج إلى تأجيله... وأني لم تكن لي صلات جنسية قط... وأني حين انتابتني فيما بعد نوبات من الحب، لم ألبث أن شفيت منها بعد زمن قليل"(47).

وقد حوله عن احتراف الفلسفة والكهنوت عاملان كان لهما أثر بالغ في حياته. أولهما ما تولاه من المناصب السياسية الصغرى منصباً في إثر منصب، وذلك لأن واقعية الرجل الإداري تعارضت لديه مع مثالية الشاب الغارق في التأملات. وكان العامل الثاني هو صلته الوثيقة بأنطونينس بيوس. ولم تكن حياة أنطونيتس الطويلة سبباً في مضايقته بل ظل يحيا حياته الرواقية البسيطة، ويواصل دراساته الفلسفية، وواجباته الرسمية، وهو يعيش في القصر، ويمارس مرانه الطويل. وكان للمثل الذي ضربه له متبنية في الإخلاص والنزاهة في الحكم أقوى الأثر في نضوج عقله وخلقه. وكان الاسم الذي نعرفه به وهو أورليوس هو اسم القبيلة التي ينتمي إليها أنطونينس، وقد ماركس ولوسيوس كلاهما بعد أن تبناهما. فأما لوسيوس فقد أصبح رجلاً مرحاً محباً لمفاتن العالم، خبيراً بملذات الحياة ومباهجها. ولما أن رغب بيوس عام 146 أن يكون له زميل يشترك معه في أعباء الحكم، اختار لذلك ماركس وحده، وترك للوسيوس دولة الحب. ولما أن مات أنطونينس جلس ماركس على العرش بمفرده، ولكنه تذكر رغبة هدريان فاتخذ لوسيوس فيرس زميلاً له وزوجاً بابنته لوسلا Lucilla. فارتكب الفيلسوف بسبب حنوه ورأفته من الخطأ في بداية حكمه ما ارتكبه في نهايته. ذلك أن تقسيم الحكم على هذا النحو كان سابقة سيئة، فرقت شمل الدولة وأضعفتها فيما بعد أيام خلفاء دقلديانوس وقسطنطين.

وطلب ماركس إلى مجلس الشيوخ أن يخلع على بيوس مراسم التكريم القدسية، وأتم الهيكل الذي شرع بيوس في أن يقيمه تخليداً لذكرى زوجته، وأظهر فيه أحسن الذوق وأكمله، ووهبه لذكرى أنطونينس وفوستينا معاً . وحبا مجلس الشيوخ بكل أنواع المجاملة، وسره أن يجد الكثيرين من أصدقائه الفلاسفة قد شقوا طريقهم إلى عضويته، وحيته إيطاليا بأجمعها والولايات على بكرة أبيها، ورأت فيه تحقيقاً لحلم أفلاطون: لقد أصبح الفيلسوف ملكاً. ولكنه لم يفكر قط في أن يجعل من الإمبراطورية "مدينة فاضلة". فقد كان مثل أنطونينس محافظاً مستمسكاً بالقديم؛ ذلك أن المتطرفين لا ينشأون في القصور، وكان ملكاً- فيلسوفاً بالمعنى الرواقي لا الأفلاطوني لهذا اللفظ. وقال يحذر نفسه: "لا تؤمل قط أن تقيم جمهورية أفلاطون. وحسبك أنك أصلحت أحوال البشر إلى حد ما، ولا تظن أن هذا الإصلاح أمر قليل الخطر. ومنذا الذي يستطيع تغيير آراء الناس؟ وإذا لم تستطع تغيير عواطفهم، فإنك لا تستطيع أن تجعل منهم إلا عبيداً متمردين ومنافقين متلونين". وكان قد تبين أن الناس لا يرغبون كلهم أن يكونوا قديسين أطهاراً، ووطن النفس على أن يعيش في عالم مليء بالخبث والفساد، ومن أقواله في هذا: "إن الآلهة المخلدين يرضون أن يصبروا آجالاً طوالاً على هذه الكثرة من الأشرار وعلى ما ترتكبه من آثام كثيرة، دون أن يغضبوا، بل إنهم يحيطون هؤلاء الأشرار بالنعم الموفورة، فهل يليق بك على قصر أجلك أن يسرع إليك الملل؟"(48): وقد وطد العزم على أن يعتمد على القدوة الحسنة لا على سطوة القانون، فجعل نفسه بالفعل خادماً للدولة، وأخذ على عاتقه جميع أعباء الإدارة والقضاء، بما في ذلك القسم الذي وافق لوسيوس على أن يتحمله ولكنه أهمله؛ ولم يسمح لنفسه بشيء من الترف، وعامل الناس جميعاً معاملة الزملاء لا أكثر ولاأقل، وأنهك نفسه بكثرة العمل بأن يسر للناس مقابلته. ولم يكن ماركس بالسياسي العظيم، فقد أنفق كثيراً من أموال الدولة في الهبات النقدية التي كان ينفح بها الشعب والجيش، ومنح كل فرد من أفراد الحرس البريتوري عشرين ألف سسترس. وزاد عدد الذين كان من حقهم أن يطلبوا الحبوب من غير ثمن، وأكثر من الألعاب الباهظة النفقة، وأعفى الناس والولايات من كثير من الضرائب والجزية المتأخرة. لقد كان هذا كرماً له سوابقه، ولكنه كان عملاً غير حكيم في وقت كانت الثورات والحروب تهدد الدولة تهديداً لا يخفى على عين الحاكم البصير، وكانت نيرانها مشتعلة بالفعل في كقير من الولايات وعلى أطراف الحدود العظيمة الأمداد.

وواصل ماركس ذلك الإصلاح القانوني الذي بدأه هدريان وبذل في ذلك الإصلاح كثيراً من الجد والنشاط. فزاد أيام جلسات المحاكم، وقصر آجال المحاكمات، وكثيراً ما كان يجلس بنفسه في مجلس القضاء، ولا يرحم من يرتكب جريمة من الجرائم الكبرى، ولكنه كان في العادة رحيماً. وقد ابتكر وسائل قانونية لحماية عديمي الأهلية من جشع الأوصياء، ولحماية المدينين من الدائنين، والولايات من الحكام، وغض الطرف عن عودة الجماعات الدينية التي كانت محرمة قبل عهده، وبسط حماية القانون على الهيئات التي كانت في حقيقة أمرها جماعات تعني بدفن الموتى، وأكسبها الشخصية المعنوية التي يحق لها بمقتضاها أن تقبل الوصايا، وأنشأ صندوقاً لينفق منه على دفن الموتى من الفقراء. وبلغ عدد المستفيدين من نظام الألمنتا أي من الأموال التي خصصتها الدولة لتشجيع النسل بين الفلاحين أكبر عدد وصل إليه في تاريخ هذا النظام كله. ولما ماتت زوجته أنشأ صندوقاً لمساعدة الفتيات الفقيرات، ولدينا نقش منخفض يمثل أولئك الفتيات وقد أحطنا بفوستينا الصغرى وهي تصب القمح في حجورهن. وألغى الاستحمام المختلط، وحرم دفع أجور عالية للمثلين والمجالدين، وفرض على ما تنفقه المدن على الألعاب قيوداً تحد من هذه النفقات وتجعلها متناسبة مع ثروتها، وأوجب أن تكون الأسلحة التي يستخدمها المجالدون غير ذات أسنة، وفعل كل ما تبيحه له هذه العادة الوحشية أن يفعله لمنع قتل المصارعين. وأحبه الشعب ولكنه لم يحب قوانينه، ولما أن جند المصارعين في جيشه الذي سيّره للحروب المركمانية Marcomannic قال الناس في غضب فكه: "إنه يسلبنا أسباب سرورنا، ويريد أن يرغمنا على أن نكون فلاسفة"(49). لقد كانت رومة تستعد للتزمت، ولكنها لما تصبح مستعدة له.

وكان من سوء حظه أن شهرته في الفلسفة، وأن السلم الطويلة التي دامت أيام هدريان وأنطونينس، قد شجعتا الثوار في داخل البلاد، والبرابرة في خارجها، على العصيان. فاندلعت نيران الثورة في بريطانيا عام 162، وغزا التشاتي Chatti ألمانيا الرومانية، وأعلن فولجاسيز Vologases الثالث ملك بارثيا الحرب على رومة، واختار ماركس أقدر القواد لتقليم أظفار الفتنة في الشمال، ولكنه عهد إلى لوسيوس فيرس بالواجب الأكبر وهو محاربة بارثيا، ولم يتجاوز لوسيوس في زحفة مدينة أنطاكية، لأن تلك المدينة كانت مسكن باتثيا Panthea التي بلغت من الجمال والتهذيب والثقافة حداً ظن معه لوسيان أن كل ما حوته آيات النحت من روعة قد اجتمعت فيها، وأنها وهبت فوق ذلك صوتاً رخيماً عذباً يسلب لب من سمعه، وأنامل تجيد العزف، وعقلاً ملماً بروائع الأدب والفلسفة. فلما رآها لوسيوس نسي كما نسي جلجميش متى ولد، فأطلق العنان لذاته، للصيد أولاً ثم للدعارة بعدئذٍ، بينما كان البارثيون يزحفون على بلاد سوريا الت ياستولى عليها الرعب. ولم يعلق ماركس بكلمة على أعمال لوسيوس ولكنه أرسل إلى أفديوس كاسيوس Avidius Cassius الذي يلي لوسيوس في قيادة جيشه خطة للحملة كانت من الاتقان بحيث أعانت القائد القدير المحنك على صد البارثيين إلى ما بين النهرين، وإلى رفع الراية الرومانية مرة أخرى على سلوقية وطقشونة. وأحرقت المدينتان في هذه المرة عن آخرهما، لكيلا تتخذا مرة أخرى قاعدتين لحملات البارثيين. وعاد لوسيوس من أنطاكية إلى رومة حيث أقيم له إحتفال بالنصر، أصر كرماً منه وشهامة على أن يشاركه فيه ماركس.

وجاء لوسيوس معه بالمنتصر الخلفي في هذه الحرب- وهو الوباء. وكان قد ظهر في باديء الأمر بين جنود أفديوس حينما استولوا على سلوقية، ثم انتشر بسرعة اضطرته أن يسحب أولئك الجند إلى بلاد النهرين بينما كان البارثيون يطربون لأن الآلهة قد انتقمت لهم من أعدائهم. ونقلت الفيالق المنسحبة الوباء معها إلى سوريا، وأخذ لوسيوس معه جنوداً من هذه الفيالق لتشترك في موكب النصر، فنقلوا العدوى إلى كل مدينة مروا بها، وإلى كل صقع من أصقاع الإمبراطورية انتقلوا إليه فيما بعد. ويحدثنا المؤرخون القدامى عن فتك هذا الوباء أكثر مما يحدثونا عن طبيعته، ولكن ما يقولونه عنه يوحي بأنه قد يكون مرض التيفوس الطفحي أو الطاعون الدملي(32). ويظن جالينوس أنه من نوع الوباء الذي فتك بالأثينيين في عهد بركليز. وسواء أكان هذا أم ذاك فقد كانت بثرات سوداء تنتشر في الجسم، ويصاب المريض بسعال جاف مبحوح، ويكون "نفسه ذا رائحة خبيثة"(53). وفشا الوباء سريعاً في آسية الصغرى، ومصر، وبلاد اليونان، وغالة، وأهلك خلال عام واحد (166-67) أكثر ممن أهلكتهم الحرب. ومات منه في رومة ألفان في يوم واحد، ومنهم عدد كبير من أشراف المدينة(54)، وكانت الجثث تخرج منها أكواماً. وعجز ماركس عن مقاومة هذا العدو الخفي، ولكنه بذل كل ما يستطيع ليخفف عن شره، غير أنه لم يجد معونة من علم الطب في ذلك الوقت، وجرى الوباء في مجراه حتى أوجد في الناس معونة منه أو أهلك كل من حمل جراثيمه. وكانت له في البلاد آثار يخطئها الحصر. فقد أقفرت كثير من الأنحاء من سكانها حتى أضحت صحاري أو غابات، ونقص إنتاج الغذاء، واضطربت وسائل النقل، وأتلفت فيضانات الأنهار مقادير كبيرة من الحبوب، وجاء القحط في أعقاب الوباء. واختفت مظاهر البهجة التي امتازت بها بداية حكم ماركس، واستسلم الناس للحيرة والتشاؤم، وهرعوا إلى العرافين والمتنبئين، وغمروا المذابح بالبخور والضحايا، وطلبوا العزاء في الملاذ الوحيد الذي أتيح لهم، في الدين الجديد دين خلود النفس والسلام السماوي.

وبينما كانت هذه الكوارث تجتاح البلاد في الداخل جاءت الأنباء (167) بأن القبائل الضاربة على ضفاف الدانوب- التشاتي، والقادي، والمركماني، واللازيجي Lezygcs- قد عبرت النهر، وفتكت بحامية رومانية عدتها عشرون ألفاً، وأخذت تزحف على داشيا، وريتيا Rretia، وباتونيا، ونوركم، وأن بعضها قد شقت طريقها فوق جبال الألب، وهزمت كل الجيوش التي أرسلت لصدها، وحاصرت أكويليا Aquileia (القريبة من البندقية)، وأخذت تهدد فرونا Veroua، وتتلف الحقول الغنية في شمال إيطاليا. ولم تكن القبائل الألمانية في وقت من الأوقات أكثر مما كانت وقتئذٍ إتحاداً وتماسكاً في زحفها، ولم تهدد رومة في يوم ما أشد من تهديدها إياك في ذلك الوقت. وأقدم ماركس على العمل الحاسم بسرعة أدهشت الناس جميعاً، فنبذ ملاذ الفلسفة، وقرر أن ينزل بنفسه إلى الميدان ليخوض غمار الحرب التي تنبأ بأنها ستكون أخطر الحروب التي خاضتها رومة منذ أيام هنيبال، وروع إيطاليا بتجنيد رجال الشرطة، والمجالدين والعبيد، وقطاع الطرق، ومرتزقة البرابرة، في فيالقه التي حصدتها الحروب والأوبئة. وحتى الآلهة نفسها قد جندها لأغراضه: فقد أمر كهنة الأديان الأجنبية أن يقربوا القرابين إلى رومة حسب طقوسهم المختلفة، وحرق هو نفسه من الضحايا على المذابح ما جعل أحد الفكهين يذيع رسالة بعثت بها إليه ثيران سود، ترجوه فيها ألا يسرف في الانتصار وتقول فيها: "ما أشد خسارتنا إذا انتصرت"(55). وأراد أن يوفر المال اللازم للحرب دون أن يفرض لها ضريبة خاصة فباع بالمزاد العلني في السوق العامة ما في القصور الإمبراطورية من خزانات الثياب، والتحف الغنية، والحلي. وأعد العدة للدفاع بعناية عظيمة- فحصن المدن القائمة على الحدود من غالة إلى بحر إيجة، وسد الممرات الموصلة إلى إيطاليا، وأغرى القبائل الألمانية والسكوذية بالرشا السخية على الهجوم على مؤخرة الغزاة. ثم درب جيشه ونظمه أحسن تدريب وتنظيم بجد وشجاعة تثيران أعظم الإعجاب لمجيئهما من رجل يكره الحرب. ثم قاد الجيش بنفسه في حرب عوان وضع خططها بمهارة وقدرة حربية فنية، وفك الحصار عن أكويليا، وطارد المحاصرين وبدد شملهم عند نهر الدانوب، حتى لم يكد ينجو منهم من القتل إلا من وقع في الأسر.

ولم يكن يخفي عليه أن أعماله هذه لم تقض على الخطر الألماني، ولكنه حسب أن ما أدركه يجعل الموقف آمناً إلى حين، فعاد إلى زميله إلى رومة؛ ولكن لوسيوس قضى نحبه في الطريق بالسكتة القلبية، غير أن الشائعات، كالسياسة، لا تعرف سبيلاً إلى الرحمة، فقالت إن ماركس دس له السم. وقضى الإمبراطور الفترة الواقعة بين يناير وسبتمبر عام 169 في رومة ليستريح من الجهود التي أضنت بنيته الضعيفة حتى كادت تقضي عليه، وكان يشكو نزلة معوية كثيراً ما كانت تتركه ضعيفاً لا يقوى على الحركة. ولكنه عالج هذا الداء بالاقتصاد في الطعام فكان لا يأكل إلا أكلة خفيفة في اليوم. وكان الذين يعرفون حالته الصحية وغذاءه القليل يدهشون مما كان يبذله في القصر والحقل من جهود، كل ما يعللونها به أنه كان يعوض بعزيمته ما يعوزه من قوة جسمه. وقد استدعى إليه عدة مرار جالينوس البرجمومي أشهر أطباء زمانه، وأثنى عليه لبساطة ما كان يصفه له من العلاج(56).

ولعل ما توالى عليه من المتاعب المنزلية مضافة إلى الأزمات السياسية والعسكرية قد ساعد على اشتداد علته حتى أصبح شيخاً منهوكاً في الثامنة والأربعين من عمره. ولعل زوجته فوستينا، التي ترى وجهها الجميل في كثير من التماثيل، لم يكن يسرها أن تشارك في الطعام والفراش رجلاً يكاد يكون هو الفلسفة متجسدة، ذلك أنها كانت إمرأة مرحة نشيطة، تتوق إلى حياة أكثر بهجة مما تستطيع أن تهبها إياها فطرته الرزينة الوقور. غير أن النمامين في المدينة كانوا يتهمونها بخيانة زوجها؛ وهجته المسرحيات التقليدية الصامتة ووصفته بأنه ديوث، بل ذهبت إلى أبعد من هذا فذكرت أسماء من ينافسونه على زوجته(57). لكن ماركس فعل ما فعله أنطونينس مع أمه فوستينا فصمت ولم يقل شيئاً، ولم يكتف بالصمت بل عين عشاقها المزعومينفي مناصب عالية، وأظهر إلى فوستينا كل دلائل العطف والاحترام، وألّهها لما ماتت (175) وشكر في تأملاته الآلهة لأنها وهبته "زوجة محبة مطيعة"(58). وليس لدينا قط دلائل ندينها بمقتضاها(59)، ولقد ولدت له أربعة أبناء، كان يحبهم حباً لا نزال نحس بحرارته في رسائله التي كتبها لفرنتو. وقد ماتت منهم بنت في طفولتها، وأما الثانية فكانت حياة لسيوس سبباً في حزنها، ووفاته سبباً في ترملها. وكان الاثنان الآخران توأمين ولداً في عام 161، مات أحدهما أثناء ولادته، وأما الثاني فهو كمودس Commodus، وقالت ألسنة السوء إنه كان هدية إلى فوستينا من مجالد(60)، وقد ظل هو طول حيلته يجاهد لتوكيد هذه القصة. لكنه كان غلاماً وسيماً قوياً نشيطاً، وكان ماركس يحبه ويحنو عليه حنواً بالغاً لا يستطيع أحد أن يلومه عليه، وقدمه إلى الفيالق بطريقة ترمز إلى أنه سيختاره خليفة له من بعده، واستخدم خير المدرسين في رومة ليجعلوه صالحاً للحكم. ولكن الشاب كان يفضل الشرب، والرقص، والغناء، والصيد، والمثاقفة، ونشأت فيه روح الكراهية للكتب والعلماء والفلاسفة، وهي كراهية نستطيع فهم أسبابها، ولكنه كان يسر بصحبة المجالدين وهواة الألعاب الرياضية؛ وسرعان ما بز جميع رفاقه من الكذب، والقسوة، والألفاظ القذرة. وكان ماركس أشد طيبة من أن يبلغ من العظمة قدراً يستطيع معه أن يؤدبه، أو يتبرأ منه، وظل يأمل أن التعليم والتبعة التي ستلقى على عاتقه سيهذبان من طبعه ويغرسان فيه صفات الملوك. وأخذ الإمبراطور في عزلته يهزل جسمه، ويطول شعر لحيته دون أن يعنى به، وتضعف عيناه من الهم والأرق، ويولي ظهره إلى زوجه وولده، ليعنى بشئون الحكم والحرب.

ولم تكن هجمات القبائل الضاربة في وسط أوربا قد وقفت إلا إلى حين قصير، ولم تكن السلم في هذا الصراع القائم لتدمير الإمبراطورية وتحرير البرابرة إلا هدنة مؤقتة، ثم أقدم ألتشاتي في عام 169 على غزو الأقاليم الرومانية عند مجرى الرين الأعلى، وفي عام 170 هاجم ألتشوسي بلجيكا، وحاصرت قوة أخرى سرمزجتسوسا، وعبر الكتسبآي جبال البلقان وانقضوا على بلاد اليونان، ونهبوا هيكل الطقوس الخلفية في إلوسيس التي تبعد عن أثينة بأربعة عشر ميلاً، وغزا المغاربة أسبانيا من موطنهم في أفريقية، وظهرت لأول مرة على نهر الرين قبيلة جديدة تدعى اللنجباردي أو اللمبارديين. وكان البرابرة المخصبون يزدادون في كل يوم قوة رغم ما منوا به من الهزائم الكثيرة، بينما كان الرومان العقيمون يزدادون في كل يوم ضعفاً. ورأى ماركس أن الحرب وقتئذٍ حرب حياة أو موت، يهلك فيها أحد الطرفين عدوه أو يذل له. ولم يكن في وسع مخلوق أن يبدل نفسه تبديلاً تاماً من فيلسوف متصوف إلى قائد ناجح قدير إلا من نشأ نشأة رومانية عرف فيها معنى الواجب المقدس كما يفهمه الرواقيون. ولقد بقي الفيلسوف متخفياً تحت دروع الإمبراطور؛ فبينما كانت هذه الحرب المركمانية الثانية (169-75) حامية الوطيس، وبينما كان ماركس في معسكره المواجه لقبائل القاديين على نهر جرنا Granna شرع يكتب ذلك الكتاب الصغير كتاب التأملات وهو أهم ما يذكره العالم به. وهذه اللمحة التي تكشف لنا عن قديس ضعيف غير معصوم من الزلل يقلب في ذهنه مشكلتي الأخلاق والأقدار، وهو يقود جحفلاً عظيماً في صراع يقف على نتيجته مصير الإمبراطورية، نقول إن هذه اللمحة لهي صورة من أدق الصور التي حفظها الزمان لأعاظم رجاله وأصدقها. لقد كان يطارد السرماتيين بالنهار ولكنه كان في وسعه أن يكتب عنهم بالليل كتابة من يعطف عليهم: "إن العنكبوت إذا أمسك بذبابة، ظن أنه أقدم على عمل عظيم، وكذلك يظن من صاد أرنباً... أو أسر السرماتيين... أليس هؤلاء جميعاً لصوصاً؟"(61).

ولكنه رغم هذا ظل يحارب السرماتيين Sarmatians، والمركمانيين، والقاديين، واليزجيين، حرباً عواناً دامت ست سنين طوالاً، ذاق فيها الأمرين. ثم هزمهم، ودفع بفيالقه إلى الشمال حتى بلغت بوهيميا. ويبدو أنه كان يبغي أن يجعل سلاسل جبال هرسينيا Hercynian والكربات الحدود الجديدة للإمبراطورية. ولو أنه نجح في تحقيق غرضه، لكان من المحتمل أن تجعل الحضارة الرومانية ألمانيا، كما جعلت غالة، لاتينية في لغتها، ويونانية في تراثها الثقافي، ولكنه روع وهو في أوج ظفره، إذ علم أن أفديوس كاسيوس قد أعلن نفسه إمبراطوراً بعد أن أخمد ثورة شبت في مصر. وأدهش ماركس البرابرة بأن عقد معهم صلحاً سريعاً، واكتفى بأن ضم إلى الإمبراطورية شريطاً من الأرض لا يزيد عرضه على عشرة أميال على ضفة الدانوب الشمالية، ووضع حاميات قوية على الضفة الشمالية. ثم جمع جنوده، وأخبرهم أنه يسره أن يترك مكانه لأفديوس إذا رغبت رومة في ذلك، ووعد أن يعفو عن القائد المتمرد، ثم سار إلى آسية ليواجهه. وحدث في تلك الأثناء أن اغتال كاسيوس ضابط صغير، وخمدت على أثر مقتله نار الثورة. واخترق ماركس آسية الصغرى وسوريا، وجاء إلى الإسكندرية، وحزن كما حزن قيصر لأنه لم تتح له فرصة يظهر فيها رحمته. وكان وهو في أزمير، والإسكندرية، وأثينة يمشي في الشوارع بلا حرس، ويلبس عباءة الفلاسفة، ويستمع إلى محاضرات كبار الأساتذة، ويشترك معهم في المناقشات، ويتكلم اللغة اليونانية؛ وأنشأ وهو في أثينة أستاذية في كل مذهب من المذاهب الفلسفية الكبيرة-الأفلاطونية، والإرسطاطيلية، والرواقية، والأبيقورية.

ووصل أورليوس إلى رومة في خريف عام 176، بعد حرب دامت قرابة سبع سنين، واستقبل فيها بموكب نصر عظيم حيى فيه بأنه منقذ الإمبراطورية. وأشرك كمودس معه في نصره، وأجلسه، وهو لا يزال غلاماً في الخامسة عشرة من عمره معه على العرش. وكانت هذه هي المرة الأولى منذ قرن من الزمان التي لم يراع فيها مبدأ التبني، والتي عاد فيها مبدأ الوراثة. ولم يكن ماركس يجهل الخطر الذي سيحيق بالإمبراطورية من جرّاء فعلته هذه، لكنه فعل ما فعل لأنه رأى أن يختار ضرراً أخف من ضرر الحرب الأهلية التي يخشى أن يخوض كمودس وأصدقاؤه غمارها إذا حرمه من العرش. وليس من حقنا أن نحكم عليه بعد أن عرفنا عاقبة فعلته، كما أن رومة لم تكن تتوقع عواقب هذا الحب الأبوي، ذلك أنها كانت قد نسيت فتك الوباء بأهلها، وأخذ أبناؤها يذوقون طعم السعادة من جديد، يضاف إلى هذا أن العاصمة لم تقاس إلا القليل من ويلات الحرب التي دبر لها ما يلزمها من المال تدبيراً روعي فيه الاقتصاد الشديد، ولم يفرض عليها فيه إلا القليل الذي لا يستحق الذكر من الضرائب الإضافية؛ وبينما كانت نار الحرب مشتعلة عند الحدود، كانت التجارة رائجة في داخل المدينة، وكان رنين النقود يسمع في كل مكان فيها، لقد بلغت رومة في ذلك الوقت أوج عزها، وبلغ حب الشعب للإمبراطورية غايته، وحياه العالم كله، وكان في نظره جندياً، وحكيماً، وقديساً في وقت واحد.

ولكنه لم ينخدع بهذا النصر المؤزر، فقد كان يعرف أن مشكلة ألمانيا لم تحل بعد. وكان على ثقة من أن الإمبراطورية لن تستطيع صد الغزوات في المستقبل إلا إذا اتبعت سياسة نشيطة دفعت بها حدودها إلى جبال بوهيميا. ولذلك أقدم كمودس في عام 178 على الحرب المركمانية الثالثة، واجتاز نهر الدانوب وهزم القاديين مرة أخرى بعد حملة طويلة قاسية، لم يلق بعدها مقاومة، وأوشك أن يضم إلى الإمبراطورية بلاد القاديين، والمركمانيين، والسرماتيين (وهي بوجه التقريب بوهيميا وغاليسيا المجاورة لنهر الدانوب)، ويجعلها ولايات جديدة تابعة للإمبراطورية. ولكن المرض انتابه وهو في معسكره في فندوبونا Vindobona (فينا). ولما أحس بدنو أجله، دعا كمودس إلى جانبه، وأنذره أن يواصل السير على الخطة التي أوشكت أن تثمر ثمرتها، ويحقق حلم أغسطس، ويدفع حدود الإمبراطورية إلى نهر الإلب . ثم امتنع عن الطعام والشراب، ومرت به وهو على هذه الحال خمسة أيام، وفي اليوم لسادس استجمع آخر ما كان عنده من قوة، ووقف على قدميه، وقدم كمودس للجيش على أنه الإمبراطور الجديد. ثم عاد إلى فراشه، وغطى رأسه بملاءة الفرش، وأسلم الروح بعد قليل. وقبل أن يصل جثمانه إلى رومة، كان أهلها قد عبدوه واتخذوه إلهاً رضى أن يعيش على الأرض زمناً قصيراً.