قصة الحضارة - ول ديورانت - م 3 ك 2 ب 8

صفحة رقم : 3120 قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> الثورة -> الأدب في عهد الثورة -> لكريشيوس

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثامن: الأدب في عهد الثورة 145-30 ق.م

الفصل الأول: لكريشيوس

لم يغفل الناس الأدب وسط هذا الانقلاب العنيف في أحوال البلاد الاقتصادية ونظم حكمها وأخلاقها، كما أنه لم يكن بمنجاة من حمى ذلك العهد وما فيه من دوافع قوية. من ذلك أن فارو Varro ونيبوس Nepos قد وجدا السلامة في دراسة الآثار القديمة وفي البحوث التاريخية. وعاد سلست من حروبه ليدافع عن حزبه ويغشى أخلاقه بستار من المقالات الأدبية الرائعة. ونزل قيصر من عليائه على رأس الإمبراطورية ليكتب في النحو ويواصل حروبه في شروحه Commentaries، وحاول كاتلس وكلفس Calvus أن يجدا في الحب وفي الغزل ملجأ يعصمهما من أعاصير السياسة، وفر لكريشيوس وأمثاله من ذوي القلوب الضعيفة والنفوس المرهفة الحس إلى حدائق الفلسفة، وغادر شيشرون من آن إلى آن حرارة السوق العامة ليهدئ أعصابه ويروح عن نفسه بين صفحات الكتب. ولكن أحداً من هؤلاء لم يجد ما ينشده من السلام لأن الحروب والثورات كانت تطغى عليهم جميعاً. وما من شك في أن لكريشيوس نفسه قد أحس بالقلق الذي يصفه في الفقرة الآتية:

"إن عبئاً يثقل عقولهم وجبلاً من الشقاء يرسو فوق قلوبهم... ذلك أن كلاً من لا يعرف ما يريد فيعمل دائباً لتبديل مكانه ظناً منه أن في استطاعته أن يلقى حمله عن عاتقه. فهاك رجلاً قد مل الحياة في منزله، فتراه يخرج من قصره بين الفينة والفينة، ولكنه لا يجد نفسه في خارج الدار أحسن منه حالاً في داخلها فيعود إليها فجأة، فتراه مسرعاً يسوق جياده إلى بيته الريفي لا يلوي على شيء.. ولكنه لا يكاد يجتاز عتبة الدار حتى يتثاءب أو يحاول نسيان متاعبه في النوم العميق. وقد بلغ به الأمر أن يعود من فوره إلى المدينة. وهكذا يفر كل امرئ من نفسه، ولكن نفسه التي لا يستطيع الفرار منها تزيد التصاقاً به رغم إرادته كما هو المنتظر منها، وهو يكره نفسه لأنه وهو إنسان مريض لا يعرف سبب شكواه. وكل من يستطيع أن يرى هذا بوضوح يطرح عمله من ورائه ظهرياً، ويسعى قبل كل شيء لفهم طبيعة الأشياء.

وكل ما نعرفه عن حياة تيتس لكريشيوس كارس Titus Lucretius carus هو قصيدته. ولم يشأ أن يذكر في هذه القصيدة شيئاً عن نفسه؛ أما فيما عداها فإن الأدب الروماني يغفل إغفالاً عجيباً شأن رجل من أعظم رجاله إذا استثنينا إشارات قليلة في مواضع منه مختلفة. وتحدد الرواية المأثورة تاريخ مولده بعام 99 أو 95، وتاريخ وفاته بعام 55أو 51 ق.م، أي أنه عاش نحو خمسين سنة من سني الثورة الرومانية: سني الحرب الاجتماعية، ومذابح ماريوس، وإرهاب صلا، ومؤامرة كاتلين، وقنصلية قيصر. وكانت الأرستقراطية التي ينتمي إليها في الأغلب الأعم آخذة في الانحلال البادي للعيان؛ وكان العالم الذي يعيش فيه يتصدع ويتردى في الفوضى التي لا يأمن فيها أحد على حياته أو ماله. وقصيدته حنين منه إلى الراحة الجسمية والسلامة العقلية.

ولجأ لكريشيوس من متاعب العالم إلى الطبيعة والفلسفة والشعر. ولعله أيضاً قد عرج على الحب، فإذا كان قد وقع له شيء منه فما من شك في أنه لم يوفق فيه، لأنه يقسو في كتابته على النساء، ويشهر بفتنة الجمال، وينصح الشباب المتعطش لإشباع شهواته بأن يسد مطالب الجسد بالاختلاط الجنسي الهادئ الطليق(2). وكان يجد في الغابات والحقول، وفي النبات والحيوان، وفي الجبال والأنهار والبحار، كان يجد في هذه كلها بهجة لا يعادلها إلا شغفه بالفلسفة. وكان مرهف الحس سريع التأثر كوردسورث Wordsworth، قوي الإدراك مثل كيتس Keats، توحي إليه المدرة أو ورقة الشجرة، كما توحي لشلي Shelley، علم ما وراء الطبيعة. وكان لجمال الطبيعة ورهبتها وكل ما يتصل بهما أثره فيه، فكانت تحرك عواطفه صور الأشياء وأصواتها، ورائحتها ومذاقها؛ وكان يحس بصمت المرابض الخفية، وسدول الليل الهادئ، وطلوع النهار المتثاقل. وكان كل شيء طبيعي أعجوبة الأعاجيب في نظره- ماء ينساب على مهل، ونبات يخرج من البذور، وتغير دائم في الجو، ونجوم في السماء ثابتة لا تحول، وكان يرقب الحيوانات في شغف وعطف، ويحب ما فيها من صور القوة والجمال، ويحس بآلامها، ويعجب من فلسفتها التي لا تعبر عنها الألفاظ. ولم ير قبله شاعر عبر عن جلال العالم وما حواه من تباين دقيق وقوة متناسقة ملتئمة، بمثل ما عبر عنه هو. فهنا كسبت الطبيعة في آخر الأمر معاقل الأدب، وأفاضت على شاعرها قدرة على الوصف لم يفقه فيهما إلا هومروس وشكسبير.

وما من شك في أن هذه الروح الحساسة التي تستجيب إلى ما حولها من المؤثرات قد تأثرت تأثراً عميقاً بخفايا الدين ومظاهره الخلابة، ولكن الدين القديم الذي كان فيما مضى دعامة قوية لكيان الأسرة والنظام الاجتماعي قد فقد ما كان له من سيطرة على الطبقات المتعلمة في رومه، فقد كان قيصر مثلاً يبتسم في لطف وهو يمثل دور الكاهن الأكبر، كما كانت مآدب الكهنة متعة الأبيقوريين الرومان. وكان من الأهلين أقلية صغيرة تكفر بالآلهة الرومانية جهرة، وكان بعض الساسة الرومان يقوم بالليل ويحطم أصنام الآلهة، كما كان يفعل ألقبيادس Alcibiades في أثينا(3). أما الطبقات الدنيا فإن الطقوس الرسمية لم تعد تلهم الكثيرين من أفرادها أو تخفف عنهم أحزانهم، فأخذوا يهرعون إلى الهياكل الملطخة بالدماء والتي كانت تعبد فيها "الأم الكبرى" الفريجية، أو الإلهية ما الكبدوكية، أو بعض الآلهة الشرقية التي جاء بها الجنود أو الأسرى من بلاد الشرق إلى إيطاليا. وتطورت الفكرة الرومانية القديمة عن "أوركوس" Orcus، وهي التي كانت تمثلها في صورة مكان تحت الأرض يأوي إليه الموتى بلا تمييز بينهم، فصاروا يعتقدون بوجود جحيم حقيقي "ثرتاروس Tartarus" أو أكيرون Acheron يعذب فيه الناس جميعاً عذاباً أبدياً إلا طائفة قليلة تولد من جديد وتبدأ حياة جديدة في مجتمع جديد(4). وقد نظر الشمس والقمر على أنهما إلهين، وكان كل كسوف وخسوف يحدث لهما يبعث الرعب في القرى المنعزلة وفي قلوب الكثيرين من الأهلين، وأقبل العرافون والمتنبئون الكلدان على إيطاليا يجوسون خلالها ويستطلعون طلع المعدمين والأثرياء على السواء، ويكشفون عن الكنوز المخبأة وعما يخبئه المستقبل، ويفسرون الأحلام والفؤول تفسيراً ماؤه الحذر والغموض، أو الملق النافع. وكانوا يبحثون كل ظاهرة طبيعية غير مألوفة، ويدعون أنها نذير تنذرهم به الآلهة. وكان الدين الذي يعرفه لكريشيوس هو هذا الحسد العظيم من الخرافات والطقوس والنفاق.

فلا عجب والحالة هذه إذا اشمأزت نفسه منها، وثارت عليه، وهاجمه بكل ما في قلب المصلح الديني من جرأة وحماسة.

وفي وسعنا أن نحكم على مقدار ما كان يعمر قلبه أيام شبابه من تقي وإيمان، وما أصابه بعدئذ من خيبة رجاء، إذا عرفنا مقدار ألمه الشديد من حال الدين وقتئذ. فقد أخذ يبحث لنفسه عن دين يعوضه عما فقده من إيمانه بالدين القديم، فتنقل من تشكك إنيوس Ennius إلى قصيدة أنبادقليس الرائعة التي شرح فيها مبدأ التطور وتنازع الأضداد. ولما عرف آراء أبيقور خيل إليه أنه عثر على جواب المسائل التي كانت تحير عقله، وبدا له أن الرجل الحر يجد في ذلك الخليط العجيب من المادية وحرية الإدارة، ومن الآلهة المرحة والعالم الذي لا يؤمن بالآلهة، جواباً عما ينتابه من شكوك ومخاوف. ولاح أن نسمة من نسمات التحرر من المخاوف السماوية تنبعث من حدائق أبيقور، وتكشف عن سلطة القانون العليا واستقلال الطبيعة بشؤونها وسلطانها على مصائرها، ومن أن الموت أمر طبيعي لا تلام عليه. ولذلك اعتزم لكريشيوس أن ينتزع هذه الفلسفة من النثر القبيح الذي صاغها فيه لكريشيوس ويصهرها فيخرجها شعراً، ثم يقدمها لمعاصريه على أنها هي الطريقة المثلى، وهي الحقيقة، بل هي الحياة نفسها. وكان يحس أن في نفسه قوة نادرة مزدوجة- فيها إدراك العالِم الموضوعي، وعاطفة الشاعر الذاتية؛ ويرى في نظام الطبيعة بأكمله سمواً، وفي عناصرها جمالاً، بشجعان ويبرران هذا التزاوج بين الفلسفة والشعر. وقد أبرز هذا الهدف العظيم الذي كان يعلم له جميع قواه الكامنة وسما به إلى مستوى رفيع فذ من الرقي الفعلي، ثم تركه قبل أن يبلغ هذا الهدف منهوكاً خائر القوى، أو لعله تركه ناقص العقل مخبولاً. غير أن كدحه الطويل المبهج المطرب قد حباه بسعادة استحوذت عليه فصب فيها كل ما كان كامناً في روحه الدينية من إخلاص عميق.

ولم يختر لكريشيوس لقصيدته عنواناً شعرياً بل اختار لها عنواناً فلسفياً هو: De Rerum Natura "في طبيعة الأشياء"، وهي ترجمة بسيطة لعبارة Peri Physeos (عن الطبيعة) التي اختارها الفلاسفة قبل سقراط اسماً عاماً لرسالاتهم. وبعد أن كتبها قدمها لأبناء كيوس مميوس Caius Memmius في عام 58 ق.م لتكون لهم سبيلاً هادياً يخرجهم من الخوف إلى الإدراك. وقد حذا في طريقة عرضه لما احتوته من الآراء طريقة أنبادقليس في ملحمته، كما احتذى في تعبيره لغة إثيوس العجبية الخالية من الزخرف والتجميل، واختار لها الوزن السهل الصالح للتعبير عن مختلف الأغراض، وهو الوزن السداسي الأوتاد. ثم نسي إلى حين إهمال الآلهة شؤون الناس وتباعدها عنهم فبدأ بدعوة حارة موجهة إلى فينوس إذ خالها رمزاً للرغبة المبدعة، ولطرائق السلم كما كانت محبوبة أنبادقليس فقال:

يا أم شعب إنياس، يا بهجة الخلق والآلهة، أي فينوس المغذية المربية!.. إن جميع الأحياء تحمل بها أمهاتها وتلدها، ثم تنظر إلى الشمس عن طريقك أنت. وإذا أقبلت فرت الرياح أمامك، وتبددت سحب السماء؛ إليك ترفع الأرض ذات المعجزات أزهارها الجميلة، وإليك تضحك أمواج البحر وتتلألأ السماء الصافية بالضياء الشامل. ذلك أنه إذا ما بدت تباشير النهار في فصل الربيع وهبت ريح الجنوب المخصبة فأكسبت كل الأشياء نضارة وخضرة، هللت لك طيور الهواء أولاً ورحبت بقدومك، أيتها الإلهة المقدسة، لأن قوتك قد نفذت في قلبها، ثم أخذت القطعان البرية تقفز فوق المراعي التي تفرح بقفزها، وتعبر الجداول السريعة الجريان، وهكذا يصبح كل واحد منها أسير جمالك ويسير في ركابك أينما سرت، ثم تبعثين بالحب الجميل في صدور كل المخلوقات من خلال البحار والجبال والأنهار الجارية، وأوكار الطير بين أوراق الشجر والحقول الخضراء؛ وتوحين إليها بأن تتناسل وتخلد أنواعها. وإذ كنت أنت وحدك تتحكمين في طبيعة الأشياء، وبغيرك لا يرتفع شيء إلى شواطئ الضوء اللامعة، ولا يوجد شيء بهيج أو جميل؛ فإن نفسي تتوق إليك لتكوني شريكتي في كتابة هذه الأبيات.. ألا فامنحي أيتها الإلهة ألفاظي جمالاً لا يدركها الفناء، واجعلي في خلال ذلك الوقت أعمال الحرب الوحشية تنام وتسكن... وإذا ما استند المريخ إلى جسمك المقدس فانحني حوله من عليائك، وصُبِّي الألفاظ الحلوة من فمك، واطلبي نعمة السلام إلى الرومان(5).


الفصل الثاني: في طبيعة الأشياء

إذا حاولنا أن نصوغ ما في جدل لكريشيوس من اضطراب حماسي في صورة منطقية، فإن فكرته الأساسية تتمثل في ذلك البيت المشهور:

Tantum religio potint suadere malorum

ما أكثر ما بعثه الدين في قلوب الناس من شرور!

فهو يروي قصة إفجينيا في أوليس، والضحايا البشرية التي يخطئها الحصر، والذبائح التي تقدم قرباناً للآلهة التي يمثلونها في صورة البشر النهمين، ويذكرنا بالأهوال التي تحيط بالسذج والشبان حين يضلون في أجام الآلهة المنتقمة الجبارة، وما يقذفه في قلوبهم الرعد والبرق والموت والجحيم من رعب، وبالأهوال السفلى التي يصورها الفن الإتروري والقصص الشرقية الغامضة الخفية. وهو ينحى باللائمة على بني الإنسان لأنهم يفضلون مراسم التضحية على التعقل الفلسفي ويقول:

"أيها الخلائق البائسون ما بالكم تعزون إلى الآلهة هذه الأعمال الشائنة وهذا الغضب المرير! كم من أحزان يهيئها الناس لأنفسهم (بهذه العقائد) وكم من جراح تثخن بها أجسامنا، ودموع تذرفها أعين أبنائنا! ذلك أن التقوى لا تكون في كثرة توجيه الرأس المقنع إلى الأحجار، ولا في الاقتراب من جميع مذابح القربان، ولا في الركوع والسجود... أمام هياكل يكون في طاقة الإنسان أن ينظر إلى الأشياء جميعها بعقل هادئ مطمئن"(7).

ولا ينكر لكريشيوس وجود الآلهة، ولكنه يقول إنها تقيم بعيدة عنا، سعيدة كل السعادة في عزلتها وبعدها عن أفكار البشر ومتاعبهم، هنالك "وراء أسوار العالم المشتعلة" (extar flammantia moeine mundi) بمنأى عن ضحايانا وصلواتنا، وهي تعيش كما يعيش أتباع أبيقور بعيدة عن الشؤون الدنيوية، فائقة بتأمل الجمال وعمل ما تتطلبه الصداقة والسلام(8). وليست الآلهة في رأيه هي التي خلقت العالم، وليست هي سبب ما يقع فيه من الأحداث، فمن ذا الذي يظلمها ذلك الظلم الصارخ فيتهمها بأنها سبب ما في الحياة على الأرض من تلف، واضطراب، وآلام، ومظالم؟ كلا إن هذا الكون اللانهائي الذي يشمل عدة عوالم مستقل عما سواه، ولا شأن له بغيره، ولا يسيطر عليه قانون خارج عنه؛ فالطبيعة تفعل كل شيء من نفسها. من ذا الذي أوتي من القوة ما يستطيع به أن يتصرف في الأشياء مجتمعة، ويقبض بيده على ذلك العنان القوي عنان الأبدية التي لا قرار لها؟ من ذا الذي يستطيع أن يحرك السموات كلها دفعة واحدة.. ويهز السماء الصافية بالرعد القاصف، ويقذف بالبرق فيزلزل به في كثير من الأحيان هياكل الآلهة، ويرسل الصواعق فيقضي بها على البريء وينجو منها المجرم"(9). إن إله الكون الذي لا إله سواه هو القانون، وأصدق العبادات، والسبيل الوحيد إلى السلام أن يعرف الناس ذلك القانون ويحبوه. إن مخاوف العقل وظلمته لا تبددها أشعة الشمس... بل يبددها النظر في قوانين الطبيعة(11).

وهكذا "يمس" لكريشيوس "برحيق ربات الشعر" مادية دمقريطس الخشنة، ويصرح بأن مبدأه الأساسي المقرر أن لا وجود إلا للذرات والفراغ"(12) أي المادة والفضاء، ثم ينتقل من فوره إلى مبدأ جوهري (وافتراض) من مبادئ العلم الحديث، وهو أن ما في العالم من مادة وحركة لا يتغير أبداً، وألا شيء ينشأ من لا شيء، وأن ليس الإتلاف والتحطيم إلا تغيراً في الشكل، وأن الذرات لا تتحطم، ولا تتبدل، وأنها صلبة، مرنة، عديمة الصوت والرائحة والذوق واللون، وأنها لا حدود لها، يتدخل بعضها في بعض ليتكوّن منها مُركبات وصفات لا حصر لها، وتتحرك حركة لا انقطاع لها، في سكون الأشياء العديمة الحركة البادي للأنظار: "فكثيراً من نرى على سفوح الجبال.. الأغنام ذات الأصواف تزحف حيث يغريها بالزحف الكلأ الذي تتلألأ عليه قطرات الندى، وترى الحملان التي شبعت ورويت تلعب وتتناطح في لعبها برؤوسها. ولكن هذه كلها تنطمس للبعيد عنها حتى لا تستطيع العين أن تميزها، وتبدو لطخة بيضاء على تل أخضر. وتنتشر الجيوش الجرارة في بعض الأحيان في ميادين واسعة؛ وتتحرك حركات تمثل بها الحروب، تسطع دروعهم البرنزية فتضيء ما حولها، وتنعكس على قبة السماء، وتزلزل الأرض وتجلجل تحت أقدام الجند وسنابك الخيل، وتصطدم هذه الأصوات بالجبال فتدفع بها مرة أخرى إلى نجوم السماء. ومع هذا فإن في تلل الجبال مكاناً تبدو منه هذه الجيوش كأنها ساكنة لا تتحرك؛ ولا تعدو أن تكون بقعة صغيرة بيضاء مستقرة فوق السهل"(13).

وتحتوي الذرات على المنيمات minima أو "أصغر الأشياء"، وكل منيمة minimum جسم نهائي صلب، لا يقبل الانقسام، ولعل اختلاف ترتيب هذه الأجزاء هو السبب في اختلاف أحجام الذرات وأشكالها، وهو الاختلاف الذي ينشأ منه تباين الطبيعة تبايناً يسر النفوس وينعشها. والذرات لا تتحرك في خطوط مستقيمة أو منتظمة، بل إن في حركتها انحرافاً أو زيغاً دقيقاً لا يستطاع قياسه، وفيها تلقائية عنصرية تسري في جميع الأشياء وتصل إلى غايتها في إرادة الإنسان الحرة .

لقد كانت كل الأشياء من قبل عماء، ولكن التوزيع التدريجي للذرات المتحركة حسب أحجامها وأشكالها قد أنتج- عن غير قصد- الهواء والنار والماء والتراب ومن هذه كلها نشأت الشمس والقمر والكواكب والنجوم؛ وفي الفضاء اللانهائي تنشأ باستمرار عوالم جديدة وتفتحت عوالم أخرى قديمة، والنجوم نيران مثبتة في حلقة من الأثير (وهو ضباب من ذرات أرق من الذرات السابقة) المحيطة بكل مجموعة كوكبية. وهذا الجدار الكوني الناري هو الذي يكون "أسوار العالم الملتهبة". ثم انفصل جزء من الضباب البدائي عن هذه الكتلة وأخذ يدور وحده وبرد فتكونت منه الأرض. وليست الزلازل ناشئة من صراخ الآلهة بل من تمدد الغازات والمجاري التي تحت الأرض. كما أن الرعد والبرق ليسا صوت الإله وأنفاسه بل هما نتيجتان طبيعيتان لتكاليف السحب واصطدامها بعضها ببعض. وليس المطر مرحمة من جوف بل هو رجوع الرطوبة التي بخرتها الشمس إلى الأرض.

والحياة في رأيه لا تختلف في جوهرها عن غيرها من خصائص المادة، فهي نتيجة الذرات التي لا حياة في كل منها بمفردها. وكما أن الكون قد اتخذ صورته الخاصة به طوعاً لقوانين المادة المتأصلة فيها، فكذلك أخرجت الأرض كل أنواع الكائنات الحية وأعضاءها بطريقة الانتخاب الطبيعي لا بغيرها من الطرق.

لا شيء ينشأ في الجسم ويقصد به أن نستخدمه، ولكن ما ينشأ فيه ينتج بعد وجوده الغرض الذي يستخدم فيه(14).. فلم يكن هدف الذرات هو الذي جعلها ترتب نفسها ترتيباً قائماً على الذكاء والفطنة، بل السبب في ترتيبها هذا أن كثيراً من الذرات منذ الأزل قد تحركت والتقت بطرق مختلفة لا حصر لها، وجربت كل التراكيب المختلفة.. ومن ثم نشأت مبادئ الأشياء العظيمة... وأجيال الكائنات الحية(15). وما أكثر ما حاولت الأرض أن توجده من الهولات، فمنها ما لم تكن له أقدام، ومنها ما لم تكن له يدان أو فم أو وجه أو أطراف ملتصقة بجسمه.. ولكن هذه المحاولات كلها ذهبت أدراج الرياح، فقد ضنت عليها الطبيعة بالنماء، ولم تستطيع هي أن تجد لنفسها الطعام، أو أن تتصل بعضها ببعض اتصالاً مبعثه الحب.. وما من شك في أن كثيراً من الحيوانات قد بادت في ذلك الوقت لأنها عجزت عن الاحتفاظ بأنواعها عن طريق التزاوج والتناسل، وسبب ذلك أن الأنواع التي لم تهبهما الطبيعة صفات "تحميها من أعدائها" كانت تحت رحمة غيرها، وسرعان ما هلكت وانقرضت(16). وليس العقل (Animue) إلا عضواً كالقدمين والعينين، وهو مثلهما أداة أو وظيفة لتلك الروح (Anime) أو النسمة الحيوية، وهي مادة جداً رقيقة تنتشر في الجسم كله، وتبعث الحياة في كل جزء من أجزائه. وعلى الذرات الشديدة الحساسية التي يتكون فيها العقل تسقط الصور أو الأشرطة التي لا ينقطع خروجها من سطوح الأشياء. وهذا هو منشأ الإحساس. وينشأ الذوق والشم والسمع والبصر واللمس من جزيئات تخرج من هذه الأشياء وتقع على اللسان أو الحالق أو الخياشيم أو الاذنيين أو العينيين أو الجلد. والحواس كلها صور اللمس. وهي المحك النهائي للحقائق، فإذا ما ظن أنها أخطأت فليس ذلك إلا نتيجة لسوء التفسير، ولا يصحح خطأ إحدى الحواس إلا حاسة أخرى، ولا يمكن أن يكون العقل محك الحقائق لأن العقل يعتمد على التجارب أي على الإحساس.

وليست النفس شيئاً روحياً، ولا هي خالدة، فهي لا تستطيع تحريك الجسم إلا إذا كانت ذات جسم، وهي تنمو وتشيخ مع الجسم، وتتأثر بما يتأثر به من مرض ودواء وخمر، وتتبدد ذراتها تبدداً ظاهرياً حين يموت، ولو وجدت النفس بغير الجسم لكانت عديمة الإحساس عديمة المعنى؛ وما فائدة النفس بغير أعضاء اللمس والذوق والشم والسمع والبصر؟ والحياة لا توهب لنا لتكون ملكاً خالصاً لنا بل عارية نستعيرها ونحتفظ بها ما دمنا على الانتفاع بها، فإذا ما استنفدنا قوانا وجب علينا أن نغادر مائدة الحياة مغتبطين شاكرين، كما يغادر الضيف الوليمة. وليس الموت نفسه أمراً مخيفاً رهيباً، بل الذي يسبب رهبته هو خوفنا مما نلقاه في الدار الآخرة. ولكن الدار الآخرة لا وجود لها، والجحيم هو جحيم هذه الدنيا، فهو العذاب الناشئ من الجهل والانفعالات والتخاصم والشره؛ والجنة توجد على ظهر هذه الأرض، وهي معابد الحكماء الصافية sapientum templa serena(17).

وليست الفضيلة في خوف الآلهة، ولا في تجنب الملذات وخشيتها، بل هي في تناسق أعمال الحواس والمواهب بإرشاد العقل؛ ومن الناس من يفنون أعمارهم من أجل تمثال يقام لهم، أو شهرة يتحدث بها الناس عنهم، ولكن "ثروة الإنسان الحقة هي أن يعيش عيشة بسيطة وعقله في سلام" (vivere parce Aequo Animo)(18)، وخير من العيش الجامد المعنت في الأبهاء المذهبة "الرقود في جماعات على الكلأ الناعم بجوار غدير تحت أشجار باسقة"(19)، أو سماع الألحان الموسيقية العذبة اللطيفة، أو أن يفقد الإنسان ذاته في حب أطفاله والعناية بهم، والزواج خير ولكن الحب المثير للعواطف جنون، يجرد العقل من صفائه وتدبيره. "فإذا أصابت الإنسان سهام فينوس- سواء أطلق هذه السهام غلام له أعضاء فتاة، أو أطلقتها امرأة يشع الحب من جسمها كله- فإنه ينجذب نحو مصدر الضربة ويتوق إلى الاتحاد معه"(20). ولا يستطيع زواج ولا مجتمع أياً كان نوعه أن يجد قاعدة سليمة يقوم عليها في هذا الغرام الجنوني.

ولما كان لكريشيوس قد وجه عواطفه كلها نحو الفلسفة ولم يجد في قلبه متسعاً للحب، فإنه أبى أن يعود إلى العهد الروائي العاطفي القديم الذي يقول به اليونان الذين كانوا يمجدون الحياة البدائية، وينادون بالعودة إلى الطبيعة، كما مجدها روسو ونادى بالعودة إليها.

نعم لقد كان الناس في ذلك الوقت أصلب عوداً، ولكنهم كانوا يعيشون في الكهوف، ولا يعرفون الناس، ويتناكحون بلا زواج، ويقتل بعضهم بعضاً بغير قانون، ويموت منهم جوعاً بقدر من يموت من المحتضرين بالتخمة(21).

أما الطريقة التي تمت بها الحضارة فيشرحها لكريشيوس في خلاصة موجزة لتاريخ الإنسان الطبيعي يقول فيها إن التنظيم الاجتماعي قد وهب الإنسان القدرة على البقاء بعد أن بادت الحيوانات التي كانت أشد منه قوة وبطشاً. وقد اهتدى إلى النار حين رآها تندلع من احتكاك أوراق الأشجار وأغصانها، وأنشأ من الإشارات والحركات لغة، وتعلم الغناء من الطير، وأنس الحيوان لمنفعته، كما استأنس هو بالزواج والقانون؛ ثم شق الأرض، ونسج الملابس، وصهر المعادن وصنع منها أدواته؛ ثم رصد كواكب السماء، وقاس الزمن وتعلم الملاحة؛ ثم رقى فن القتل، وتغلب على الضعفاء، وشاد المدن، وأقام الدول.

وليس التاريخ إلا موكب الدول والحضارات التي تنشأ وتزدهر ثم تضمحل وتفنى، ولكن كلاً منها تخلف وراءها تراثاً من العادات والأخلاق والفنون تتلقاه عنها الحضارات التي تأتي من بعدها "فهي كالعدائين في سباق يسلم كل منهم مصباح الحياة إلى غيره"(22)

(et quasi cursores vitai lampada tradut) وكل ما ينمو من الأشياء يضمحل: الأعضاء، والكائنات الحية، والأسر، والدول، والأجناس، والكواكب، والنجوم. والذرات وحدها هي التي لا تموت أبداً، وتوجد إلى جانب قوى الخلق والنماء قوى أخرى تعادلها وتوازنها وهي قوى التدمير، وهذه لا تنقطع عن العمل ما بين دفع وجذب وتراخ وانقباض، وحيات وموت. وفي الطبيعة خير وشر، والآلام يلقاها كل كائن حي وإن لم يستحقها، والانحلال يتبع خطى كل تطور، وأرضنا نفسها في طريقها إلى الموت والفناء، وها هي ذي الزلازل تخربها وتدمرها، والأرض تفقد قدرتها على الإنتاج والأمطار والأنهار تقرضها وتفتتها، وتنقل الجبال نفسها آخر الأمر إلى البحار، وسيأتي على عالمنا النجمي كله يوم يفنى فيه كما تفنى هذه الجبال؛ فتهاجم جدران السماء من كل جوانبها وتتصدع ثم تتهدم وتخرب(23). ولكن ساعة الفناء نفسها تكشف عما في العالم من حيوية لا تقهر "ويمتزج بالعويل على الموتى البكاء على الطفل الوليد"(24) وتتكون عوالم جديدة ونجوم وكواكب جديدة، وتنشأ أرض أخرى وحياة غير الحياة الأولى، ويبدأ التطور من جديد.

وإذا ألقينا نظرة عامة على هذه القصيدة التي تعد "أروع نتاج الأدب القديم كله"(25)، فقد نلاحظ لأول وهلة ما فيها من عيوب: كاضطراب موضوعاتها التي حال موت الشاعر في مقتبل العمر دون مراجعتها، وتكرار عباراتها وأبياتها وفقرات منها برمتها، واعتقاده أن الشمس والقمر والنجوم ليست في حقيقتها أكبر مما تبدو للناظر إليها(26)، وعجز النظام الذي تشرحه القصيدة عن أن يفسر كيف تستحيل الذرات الميتة إلى حياة وإدراك، وإغفال الشاعر ما يبعثه الإيمان في المؤمن من نظر ثاقب وطمأنينة وساوى، وإلهام وشاعرية قوية محركة، كما أغفل ما للدين من آثار اجتماعية. ولكن ما أقل هذه الأغلاط وما أضعف شأنها أمام المحاولة الجريئة التي بذلها الشاعر لتفسير العالم والتاريخ والدين والمرض تفسيراً منطقياً معقولاً ، وأمام ما صور به الطبيعة من أنها عالم يسيطر عليه القانون لا يعتري المادة والحركة فيه زيادة أو نقصان. وأمام عظمة الموضوع الذي تحدث عنه ونبل الطريقة التي عرض بها؛ وأمام قوة الخيال المتصلة التي تشعر في كل مكان "بجلال الأشياء" وتسمو برؤى أنبادقليس، وعلم دمقرطيس، ومبادئ أبيقور الأخلاقية، إلى شعر يبلغ من الروعة والجمال أسمى ما بلغه الشعر المعروف في جميع العصور. فها هي ذي لغة كانت لا تزال بعد غير مصقولة ولا ناضجة تكاد في ذلك الوقت أن تكون خلواً من المصطلحات الفلسفية والعلمية، بل خلقها ثم وجه الكلام القديم وجهات جديدة من حيث الوقع والجرس، وصاغ الوزن السداسي صياغة أكسبته حيوية وقوة لم تكن له في أية لغة أخرى من اللغات المعروفة، وسما به بين الفينة والفينة إلى درجة من الرقة والجمال والسلاسة لا تقل من نظائرها في شعر فرجيل. وإن ما في القصائد لكريشيوس من حيوية لا نفارقه في وقت من الأوقات ليدل على أنه قد استمتع بحياته كلها، لم يكد يترك فيها فترة قصيرة أو طويلة من يوم مولده إلى يوم وفاته إلا عاش خلالها على الرغم مما كان يحيط به من آلام متعددة وخيبة مريرة.

وكيف مات لكريشيوس؟ يقول القديس جيروم Saint Jerome إن "لكريشيوس قد جن على أثر تجرعه دواء يولد الحب، بعد أن كتب عدة كتب.. م مات منتحراً في الرابعة والأربعين من عمره"(28). وليس لهذه القصيدة ما يؤيدها، ويشك الكثيرون في صحتها، ولسنا نعتقد أن قديساً يستطيع أن يروي رواية عن حياة لكريشيوس منزهة عن الهوى. وقد وجد بعضهم ما يؤيد هذه القصة في قصيدته نفسها؛ ذلك أن منها شواهد على الذهن المكدود غير الطبيعي، فضلاً عن أن موضوعاتها مهوشة غير منظمة، وأنها مقتضبة تنتهي انتهاء فجائياً غير متوقع(29). ولكن الإنسان ليس في حاجة إلى أن يكون لكريشيوس- ولكريشيوس دون غيره- لكي يكون حاد المزاج سريع التهيج، مهوشاً، ولكي يموت.

لقد كان لكريشيوس كما كان يوربديز رجلاً من الطراز الحديث، وكان تفكيره وإحساسه يوائمان عصرنا الحاضر أكثر مما يوائمان القرن الأول قبل ميلاد المسيح. وقد تأثر به هوارس وفرجيل في أيام شبابهما، وهما يذكرانه من غير أن يبوحا باسمه في كثير من عباراتهما الجزلة، ولكن الجهود التي كان يبذلها أغسطس لإعادة الدين القديم قد جعلت هذين الشاعرين وهما صنيعتا أغسطس يريان أن ليس من الحكمة أن يعبرا في صراحة عن إعجابهما بلكريشيوس ويعترفا بما في عنقهما له من دين يضاف إلى هذا أن الفلسفة الأبيقورية لن تكن توائم العقل الروماني، كما كانت أعمال الأبيقوريين توائم الذوق الروماني في عصر لكريشيوس ، فقد كانت رومه في حاجة إلى رجل ذي فلسفة ميتافيزيقية يمجد القوى الصوفية الباطنية لا القوانين الطبيعية، والى عالم أخلاقي ينشئ شعباً حربياً كامل الرجولة لا شعباً من أصحاب النزعة الإنسانية المحبين للسلم والهدوء؛ وكانت في حاجة إلى فلسفة سياسية شبيهة بفلسفتي فرجيل وهوراس، تبرر سيطرة رومه الإمبراطورية. ولما بعث الدين من جديد بعد سنكا كاد الناس ينسون لكريشيوس، ولم يبدأ يظهر أثره في الفكر الأوربي إلا بعد أن كشفه بجيو Poggio من جديد في عام 1418 ب.م. وقد أخذ طبيب من مدينة فيرونا Varona يدعى جيرولامو فراكستورو Girolamo Fracastoro (1483-1553) عن الشاعر نظريته التي يقول فيها إن المريض ينشأ من "بذور" Semina خبيثة تسبح في الهواء، وفي عام 1647 أحيا جاسندي Gassndi الفلسفة الذرية. وكان فلتير يقرأ في طبيعة الأشياء في خشوع ويقول كما قال أوفد Ovid إن ما فيها من أبيات ثورية سيبقى ما بقيت الأرض(30).

وقد خاض لكريشيوس بمفرده أقسى الوقائع في زمانه ونعني بها إحدى وقائع الحرب الأبدية بين الشرق والغرب، بين "القلب الحنون" والإيمان الباعث للسلوى المخفف للأحزان من جهة، والعقل العنيد الجاسي والعلم المادي من جهة أخرى. ولسنا في حاجة إلى القول بأنه أعظم الشعراء الفلاسفة، وأنه هو الذي سما بالأدب اللاتيني ما سما به كاتلس وشيشرون إلى ذروة مجده؛ وبه انتقلت زعامة الأدب نهائياً من بلاد اليونان إلى رومه.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: حبيب لزبيا

في عام 57 ق.م غادر رومه كيوس مميوس Caius Memmius الذي أهدى إليه لكريشيوس قصيدته ليكون بريتوراً أولاً في بثينيا Bithynia، وكان حكم حكام الولايات الرومان قد أخذوا في ذلك الوقت يعتادون عادة جديدة هي أن يصطحب كل منهم عند سفره إلى ولايته أحد المؤلفين. ولم يأخذ هذا الحاكم معه لكريشيوس بل أخذ شاعراً يختلف عنه في كل شيء عدا قوة عاطفته ويدعى كونتس (أوكيوس) فليريوس كاتلس Quintus Valerius Catullus. وكان كونتس هذا قد قدم إلى رومه من مدينة فيرونا موطنه الأصلي، وكان لأبيه فيها من المنزلة ما يجيز له أن يكون ضيفاً كثير التردد على قيصر، وما من شك في كونتس نفسه كان على جانب كبير من الثراء، فقد كانت له بيوت ذات حدائق بالقرب من تيبور Tibur وعلى شواطئ بحيرة جاردا Garda، وكان له بيت جميل في رومه. وهو يقول عن هذه الأملاك إنها كانت مستغرقة في الدين، ولا ينفك يعلن أنه فقير، ولكن الصورة التي نستطيع أن نرسمها له من قصائده هي صورة الرجل المهذب الذي لا يهتم بكسب العيش، ولكنه يمتع نفسه بطيبات الدنيا من غير حساب في صحبة أمثاله المترفين في عاصمة الدولة. وكانت هذه الفئة تضم طائفة من العقول وأبرع الخطباء السياسيين من الشبان أمثال ماركس كثيليوس Marcus Caeliua وهو شريف أصبح فيما بعد شيوعياً، وليسينيوس كلفس Licinius Calvus الشاعر النابه والقانوني الضليع؛ وهلفيوس سنا Helvius Cinna الشاعر الذي كاد الغوغاء من أنصار أنطونيوس يحسبونه أحد قتلة قيصر وينهالون عليه ضرباً حتى يقضي نحبه. وكان هؤلاء يعارضون قيصر ويوجهون له كل ما تسعفهم به عقولهم من نكات لاذعة، وهو لا يعرفون أن ثورتهم الشعرية إنما تعبر عن الثورة التي يعيشون في جرها. وكان هؤلاء جميعاً قد ملوا الأدب القديم، ولم يطيقوا فجاجة نيفيوس Naevius وإنيوس Ennius وألفاظهما الطنانة المزوقة. وتاقت نفوسهم لأن يغنوا عواطف الشبان في أوزان جديدة غنائية في لفظ عذب رقيق عرف يوماً من الأيام في الإسكندرية أيام كلمكس Calimachus ولكن رومه لم تشهد مثله قبل أيامهم هذه. ولم يكونوا راضين عن المبادئ الأخلاقية القديمة وعن تقاليد السلف التي كانت تلقى على أسماعهم في كل حين من أفواه الكبراء المنهوكين. وكانوا ينادون بقدسية الغرائز، وبراءة الشهوات وعظمة التهتك والانغماس في الملاذ، ولم يكونوا هم وكاتلس أسوأ من غيرهم من أدباء الشبان الذين كانوا يعيشون في ذلك الجيل وفي الجيل الذي يليه: من هوراس Horace وأوفد Ovid وتيبلس Tibullus وبروبريتوس Propertius، بل ومن فرجيل الخجول في أيام شبابه، أولئك الذين جعلوا الشعر يدور حول كل امرأة متزوجة أو غير متزوجة، تقدم لربات شعرهم حباً سهلاً عابراً.

وكانت كلوديا Clodia أرشق فتاة في هذه الفئة، وهي من سلالة أسرة كلوديوس التي لم تذهب عنها حتى تلك الأيام عظمة الأباطرة . ويؤكد لنا أبوليوس Apeulius(31) أنها هي التي سماها كاتلس باسم لزبيا Lesbia إحياء لذكرى سابفة Sappho التي كان يترجم قصائدها أحياناً، ويحاكيها كثيراً، ويحبها دائماً. ولما جاء كاتلس إلى رومه في الثانية والعشرين من عمره اتخذها صديقة له، بينما كان زوجها حاكماً في بلاد غالة الإيطالية. وقد سحرت لبه من ساعة أن وضعت "قدمها البراقة على عتبة داره التي أبلتها أعتاب الناس من قبل، وكان يدعوها إلهته المتألقة ذات الخطوة الرشيقة". ولا غرابة في أن تفتنه خطاها، فإن مشية المرأة قد تكفي وحدها لتفتن الرجل كما يفتنه صوتها. وقد عطفت عليه فرضيت أن يكون من بين عبادها. ولم يكن في وسع الشاعر الهائم بها أن يضارع في غير ميدان الشعر مواهب منافسه فوضع تحت قدميها أجمل ما في اللغة اللاتينية من القصائد الغنائية، وترجم لها أحسن ترجمة وصفت بها سايفو لجنون المحبين وهو الجنون الذي كان يمتلكه وقتئذ(32). وكتب في الطائر الذي كانت تضمه إلى صدرها أبياتاً تعد من خير ما كتب في وصف الغيرة:


أيها الطائر يا بهجة حبيبتي



التي تلعب معك وتضمك إلى صدرها



والتي تمد لك سبابتها إذا طلبتها،



وتغريك بأن تعضها عضة قوية.



لست أدري أية دعابة لطيفة يلذ لحبيبتي الوضاءة



أن تداعب بها أمنيتي... .


وقد أحس وقتاً ما بأن السعادة قد غمرته، وظل يتردد عليها كل يوم ينشدها قصائده، ونسى كل شيء إلا حبه إياها وافتنانه بها.


أي لزبياي حبيبتي هيا بنا نعيش،



ولا تلق بالاً إلى شيء مما ينطق به العجائز القساة



ونراه حقيراً غير جدير بالاعتبار.



قد تغرب الشموس ثم تعود؛



أما نحن فإذا غربت شمسنا القصيرة الأجل



غلب علينا السبات الطويل في ليلنا الأبدي.



ألا فاعطني ألف قبلة ثم مائة



ثم ألفاً أخرى، ثم مائة ثانية


ثم ألفاً بعدها، ثم مائة



حتى إذا بلغت القبلات آلافاً مؤلفة



تعمدنا الخطأ في العد والحساب لكيلا نعرف نحن عديدها



أو تحسدنا عليه نفس حقيرة



إن عرفت عدد قبلاتنا الكثيرة.


ولسنا نعرف كم من الوقت دامت هذه النشوة؛ وأكبر الظن أنها قد ملت آلافه المؤلفة، فرأت أن تراوح عن نفسها بعد أن خانت زوجها من أجله بأن تستبدل به عاشقاً غيره. واتسعت وقتئذ دائرة عشاقها حتى خالها كاتلس في نوبة من نوبات الجنون "تعانق ثلاثة آلاف زان مرة واحدة"(35). وأبغضها في الوقت الذي كانت فيه نار الحرب تلتهم فؤاده (adi et Amo)(36)، وأبى أن يستمع إلى ما كانت فيه تحدثه به من وفاء وإخلاص، وصور لنا هذا الإباء بالصورة المأثورة عن كيتس Keats:


إن الألفاظ التي تفوه بها المرأة للمحب الواله الجائع،



يجب أن تنقش على صفحة الرياح السافية،



وتحفر على مجاري الماء الدافقة(27).


ولما أصبح الشك اللاذع يقيناً لا مرية فيه، استحال هيامه بها حقداً عليها ورغبة قوية في الانتقام منها، فاتهمها بأنها تسلم نفسها لرواد الحانات، وأخذ يندد بمحبيها الجدد ولا يتورع عن سبهم بأفحش الأقوال وفكر في الانتحار، على حد قوله في شعره. وقد أظهر في الوقت نفسه عواطف أشرف من هذه وأدل منها على نبله: فقد وجه إلى صديقه مانليوس في يوم عرسه أغنية يقول فيها إنه يحسده على ما يتيحه له زواجه من صحبة طيبة صالحة، وبيت آمن مستقر، ومن متاعب سعيدة هي متاعب الأبوة. ثم انتزع نفسه من مكان مأساته بأن صحب مميوس Memmius إلى بيثينيا Bithynia، ولكنه لم يحقق ما كان يرجوه فيها من استعادة نشاطه وماله. ثم خرج عن طريقه يوماً من الأيام ليبحث عن قبر أخ له مات بجوار طروادة، وادى لهذا الأخ الميت في خشوع مراسم الدفن التي يؤديها الأبناء لآبائهم، ثن أنشد بعدئذ بقليل أبياتاً رقيقة من الشعر أضحت بعض ألفاظها من الأقوال الخالدة:


أيها الأخ العزيز لقد تنقلت في كثير من الدول وجبت البحار.



وجئت لأقدم لك هذا القربان المحزن.



وأهدي إليك آخر ما يهدي إلى الأموات.



فتقبل هذه الهدايا التي تبللها دموع الأخوة؛



ووداعاً يا أخي إلى أبد الدهر.


وبدل مقامه في آسيا حاله، وهدأ من طبعه، وأثرت أديان الشرق القديمة واحتفالاته في هذا المتشكك الذي وصف الموت من قبل بأنه "سبات الليل الأبدي"، فوصف في "أتيس" Atys وهي أعظم قصائده كلها وأعذبها لفظاً وأوضحها تصويراً عبادة شيبيل Cybele وصفاً رائعاً قوياً، وامتلأت نفسه حمية وحماسة وهو يقرأ عويل عبادها الذين يضحون من أجلها برجولتهم، وحزنهم على متع الصبا وأصدقاء الشباب. وقد قص في قصيدته "بليوس وثيتس Peelus and Thetis" قصة بليوس وأردياني Ariadne في شعر سداسي الأوتاد حلو النغم لا يكاد يجاريه شعر فرجيل نفسه. وابتاع بعدئذ في بلده أمستريس Amastris يختاً صغيراً طاف به البحر الأسود وبحر الأرخبيل والبحر الأدرياوي وسار به صعداً في نهر البو Po حتى وصل إلى بحيرة جاردا Garda والى بيته في سرميو Sirmio. وهنا أخذ يسأل نفسه قائلاً: "وهل ثمة سبيل للفرار من متاعب فوق فرشنا من أن نعود إلى مواطننا الأولى ومعابدنا، وأن نستريح فوق فرشنا المحبوبة؟"(39) إن الناس يبدأون حياتهم بالبحث عن السعادة ثم يقنعون آخر الأمر بالسلام.

إن علمنا بكاتلس لأوفى من علمنا بمعظم شعراء الرومان لأنه يكاد في جميع الأحوال يتخذ من نفسه موضوعاً لشعره؛ وإن هذه الصرخات الغنائية، صرخات الحب والكره، لتكشف عن نفس رحيمة حساسة قادرة على أن تكون ذات عواطف كريمة حتى للأهل والأقارب؛ ولكن الذي لا يسرنا منه أنه يجعل نفسه على الدوام موضوع شعره، ويتعمد الفحش في القول، ويقسو على أعدائه فينشر على الناس أخص خصائصهم، ويشنع على ميلهم للواط، وعلى رائحة أجسامهم النتنة، ويقول عن واحد منهم إنه يغسل أسنانه بالبول متبعاً في ذلك عادة أسبانية قديمة(40)، ويقول عن آخر إنه أبخر إذا فتح فاه مات في ذلك كل من حوله(41). فهو والحالة هذه يتذبذب في غير عناء بين الحب والقذارة، يقبل ويلوط، وينافس مارتيال Martial في قيادة الناس إلى أقذار رومه ومباذلها في أركان شوارعها. ويمثل ما يتصف به معاصره وأبناء طبقته من مزيج بين خشونة البداوة ورقة الحضارة، كأن الرومان المتعلمين مهما برعوا في آداب اليونان لم يستطيعوا قط أن ينسوا الإسطبلات والمعسكرات. ويدافع كاتلس عن نفسه بمثل ما يدافع به مارتيال فيقول إنه لابد له أن يمزج أبياته الشعرية بالأقذار لكي يسترعي بها انتباه مستمعيه. على أنه قد كفر عن هذه السيئات بما كان يبذل من العناية الفائقة في الوصول بشعره إلى درجة الكمال. ففي أبياته الإحدى عشرية الأوتاد من الجمال الطبيعي غير المتكلف ما تعجزه عنه صنعة هورامس وتكلفه، وما يسمو في بعض الأحيان فوق أناقة فرجيل نفسه، وقد كلفه إخفاء فنه كثيراً من التفنن. وكثيراً ما يشير كاتلس إلى ما كان يعانيه من الجهد المؤلم والعناية الشديدة اللذين جعلا شعره سريع الفهم بين السهولة. وقد يسر له بلوغ هذه الغاية ما كان يعرفه من مفردات اللغة فقد كان يصوغ الألفاظ التي يتداولها الناس شعراً رقيقاً. وقد أغنى الآداب اللاتينية بألفاظ التصغير الرقيقة، كما أغناها بلغة الحانات الدارجة.

وكان يتجنب قلب الألفاظ وتبديل مواضعها، كما كان يتجنب الإبهام والغموض؛ وكانت أبياته سلسة سهلة، خفيفة على السمع، ترحب بها الآذان. وقد عكف على دراسة شعراء الإسكندرية الهلنستيين ، وشعراء أيونيا الأقدمين، وأتقن ما يمتاز به شعر كلمكس Callimachus من عبارات سهلة وأوزان متعددة، وما في شعر أركلوكس Archelochus من قوة واتجاه مباشر نحو الغرض، وما في شعر أنكريون Anacreon من خمريات قوية، وما في شعر سابفو من حب ونشوة. والحق أننا إذا أردنا أن نحذر كيف كان أولئك الشعراء يكتبون معظم أشعارهم، فإن علينا أن ندرس كاتلس، فقد درس هذا الشاعر أشعارهم، وأجاد فهم دروسهم إجادة رفعته من مرتبة تلاميذهم حتى أصبح في مرتبتهم. وقد فعل في الشعر اللاتيني ما فعله شيشرون في النثر اللاتيني، تسلمه قوة فجة فسما به حتى أصبح فناً لا يفوقه فيه أحد غير فرجيل.


الفصل الرابع: العلماء

كيف كانت الكتب اللاتينية تكتب وتوضح بالرسوم، وتجلد وتنشر وتباع؟ لقد كان الرومان من أقدم الأزمان يكتبون التمارين المدرسية، والرسائل القصيرة، والسجلات التجارية التي لا يقصد بها أن تبقى طويلاً؛ كانوا يكتبون هذه كلها بقلم معدني ذي طرف رفيع على ألواح مطلية لطيفة من الشمع، ويمحون ما يكتبونه عليها بإبهامهم. وأقدم ما وصل إلينا من الأدب اللاتيني مكتوب بريش الطير والحبر على ورق مصنوع في مصر من أوراق نبات البردي التي يضم بعضها إلى بعض ويضغط ويلصق بالغراء. ثم بدأ الرق المتخذ من جلود الحيوان المجففة ينافس نبات البردي في القرن الأول الميلادي لكتابة الآداب والوثائق الهامة. وكانت الدبوما (المزدوجة) تتكون من ورقة مطوية من الرق. وكان الكتاب الأدبي يصدر عادة في صورة ملف (Volumen أي الملفوف) وتفك طياته في أثناء قراءته. وكان النص يكتب عادة في عمودين أو ثلاثة أعمدة في كل صفحة، خالياً في كثير من الأحيان من علامات الترقيم والفواصل بين الجمل أو بين الكلمات نفسها. وكانت بعض المخطوطات توضحها رسوم بالحبر، فقد كان كتاب Imagines لفارو Varro مثلاً يتألف من سبعمائة صورة لعظماء الرجال، ومع كل صورة ترجمة لصاحبها. وكان في وسع أي إنسان أن ينشر أي مخطوط يشاء باستئجار الأرقاء لنسخ صور منه، وأن يبيع النسخ بعد كتابتها. وكان للأغنياء كتبة ينسخون لهم ما يشاءون من الكتب، ويطعمونهم، ولكنهم يأجرونهم على عملهم، ولذلك كانت الكتب رخيصة، وقد جرت العادة في أول الأمر أن تكتب ألف نسخة من كل مخطوط. وكان بائعو الكتب يشترون النسخ جملة من الناشرين أمثال أتكس Atticus ثم يبيعونها فرادى في محال بيعها. ولم يكن الناشر أو البائع يعطي المؤلف شيئاً، اللهم إلا كلمة طيبة أو هدية في بعض الأحيان، ذلك أن الرسوم التي تؤدي الآن إلى مالك الكتاب لم تكن معروفة في ذلك الوقت. وكانت المكتبات العامة كثيرة العدد، وقد جعل أسنيوس بليو Asinius Pollio في عام 40 ق.م مجموعته الخاصة أولى المكتبات العامة في رومه. وفكر قيصر بإنشاء مكتبة أخرى أكبر منها وجعل فارو مديراً لها، ولكن هذه الفكرة لم تنفذ إلا في عهد أغسطس، شأنها شأن كثير من أفكار قيصر ومشروعاته.

وكان من أثر هذه الوسائل المشجعة التي خففت كثيراً من المتاعب عن طلاب العلم، أن أخذ الأدباء والعلماء الرومان ينشطون نشاط علماء الإسكندرية وأدبائها، فغمر البلاد سيل جارف من القصائد والنشرات، وكتب التاريخ، والكتب المدرسية، لا يقل في قوته عن فيضان نهر التيبر نفسه. فكان كل شريف يزين مغامراته بالشعر، وكانت كل سيدة تكتب وتلحن، وكل قائد يدون مذكرات، وكان العصر عصر "الملخصات"، تخرج في كل موضوع من الموضوعات لتفي بحاجات ذلك العصر التجاري السريع. وقد اتسع وقت ماركس ترنتيوس فارو Marcus Terentius Varro، رغم حملاته الحربية الكثيرة، خلال حياته التي دامت تسعة وثمانين عاماً (116-26 ق.م)، لتخليص كل فرع من فروع العلم يعرفه أهل زمانه. وكانت ملفاته البالغ عددها 620 ملفاً (نحو 74 كتاباً) دائرة معارف عصره كتبها رجل بمفرده. وقد افتتن بالبحث في أصول الكلمات فكتب مقالاً "في اللغة اللاتينية" لا يزال حتى الآن أكبر ما يهدينا إلى معرفة لغة الرومان الأولى. ولعله أراد أن يعاون أغسطس على تحقيق بعض أغراضه فحاول في رسالته " عن الحياة الريفية" De Re Rustica (36 ق.م) أن يشجع الناس على العودة إلى الأرض لتكون خير ملجأ يعصمهم من فوضى النزاع المدني. وقد جاء في مقدمة هذه الرسالة: "إن السنة الثمانين تنذرني بان على أن أحزم متاعي وأستعد للخروج من هذه الحياة"(42)، وهو يرى أن تكون آخر وصيته له مرشداً يهديه إلى الحياة الريفية الهادئة السعيدة، ويعجب بالنساء القويات اللائي يلدن في الحقول ثم يواصلن عملهن من فورهن(43). ثم يبدي حزنه وأسفه على نقص نسبة المواليد بين المواطنين، وهو النقص الذي اخذ يبدل سكان رومه ويقول: "لقد كانت نعمة الأطفال سبب فخر المرأة وإعجابها بنفسها، أما الآن فإنها تفخر بما يفخر به إنيوس Ennius فتفضل أن تواجه الحرب ثلاث مرات على أن تلد طفلاً واحداً". ويقول في "عادياته المقدسة" Divine Antiquities إن كثرة النسل والنظام والشجاعة في أمة ما تتطلب مبادئ أخلاقية تؤيدها عقيدة دينية. ويأخذ بقول المشرع العظيم كونتس موسيوس أسكيفولا Q. Muciu Scarvola إن الدين نوعان- أحدهما للفلاسفة والثاني لعامة الشعب، وينادي بأن ثانيهما يجب أن يقوي وتثبت دعائمه، على الرغم مما فيه من عيوب ونقائص لا يرتضيها العقل، ويشير إلى بذل الجهود لإرجاع عبادة آلهة رومه القديمة إلى عهدها الأول، وإن كان هو نفسه يؤمن بنوع غامض من وحدة الوجود . ولقد تأثر بكاتو وبولبيوس فألقى بنفسه في تيار سياسة أغسطس الدينية وإن لم يكن من المؤمنين بمبادئها، كما نهج منهج فرجيل في تقواه الريفية.

وكأنما أراد فارو أن يتم أعمال كاتو الأكبر في جميع الميادين فاكمل كتاب الرقيب المعروف باسم "الأصول Oirgines" في كتابه هم المسمى "حياة الشعب الروماني"- وهو كتاب في تاريخ الحضارة الرومانية. ومما يؤسف له أن الدهر لم يبق على هذا الكتاب بل أباده كما أباد كل مؤلفات فارو تقريباً، على حين أنه أبقى التراجم التي كتبها كرنليوس نيبوس Cornelius Nepos، والتي لا تزيد قيمها على ما يكتبه صبية المدارس. لقد كان التاريخ في رومه فناً، لم يضم إلى صفات الفن خصائص العلم، ولم يرق حتى في كتابات تاستس Tacitus إلى درجة البعث الإنتقادي والى تلخيص المصادر. ولكن التاريخ بوصفه ميداناً من ميادين البلاغة قد وجد في ذلك العصر من يمارسه على خير وجه ونعني به كيوس سلستيوس كرسبس Caius sallustius Crispus (86-35 ق.م)، وقد قام كيوس بعمل هام في السياسة والحرب إلى جانب قيصر، وحكم نوميديا وبرع في السرقة، وأنفق كثيراً من المال على النساء، ثم ركن إلى حياة الترف والآداب في بيت له في رومه اشتهر فيما بعد بحدائقه الغناء وأصبح مسكناً للأباطرة. وكانت كتبه كما كانت سياسته مواصلة للحرب بوسائل غير وسائلها. فقد كانت "التواريخ وحرب جوجوثين، وكتلين" كلها دفاعاً مجيداً عن العامة وهجوماً عنيفاً على "الحرس القديم". وقد أظهر فيها ما كان في رومه من انحلال خلقي ، واتهم مجلس الشيوخ والمحاكم بأنها ترفع حقوق الملكية فوق الحقوق الإنسانية، وينطق ماريوس Marius بخطبة يؤكد فيها ما لطبقات الناس جميعاً من حقوق متساوية، ويطالب بان تفتح السبيل لذوي المواهب أياً كان مولدهم(46). ويزيد في تأثير قصصه بما يورده فيها من تعليقات فلسفية وتحاليل أخلاقية نفسية. وأوجد أسلوباً من الهجاء وجزءاً واضحاً سريعاً أصبح هو المثل الذي احتذاه تاستس Tacitus.

وقد استمد هذا الأسلوب لونه ونغمته من الخطب التي كانت تلقى السوق العامة وفي الحكم، شأنه في هذا شأن جميع النثر الروماني في القرن الذي كان يعيش فيه سلست وفي القرن الذي يليه. ذلك أن تقدم مهنة القضاء ونشأة الديمقراطية الكلامية قد زادا حاجة الناس إلى الخطابة العامة، فأخذت مدارس الخطابة يتضاعف عددها على الرغم من عداء الحكومة لها. وفي هذا يقول شيشرون إنك تجد "الخطابة في كل مكان"، وكان أول ظهور أساتذة هذا الفن في النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد، ومن أشهرهم ماركس أنطونيوس (ابن أنطونيوس الشهير)، ولوسيوس كراسس Lucius Crassus، وسلبسيوس روفوس Sulpicius Rufus، وكونتس هورتنسيوس Quintus Hortensius. وفي وسعنا أن نتصور ما كان لهؤلاء الخطباء من رئات قوية إذا علمنا أن الذين يستمعون لهم كانت لا تتسع لهم السوق العامة، بل كانت تغص بهم الهياكل والشرفات المجاورة لها. وكانت بلاغة هورتنسيوس واستعداده لأن يبيع مواهبه وضميره بالمال مما جعله محبوب الأشراف كما جعله من أغنى أغنياء رومه. وترك لورثته بعد وفاته عشرة آلاف دن من الخمر(46)، وكان إلقاؤه قوياً حباً حياً حتى كان روسيوس وإبسيوس وغيرهما من كبار الممثلين الذائعي الصيت يحضرون المحاكمات التي يترافع فيها ليتعلموا ما ينقصهم من فن التمثيل بدراسة حركاته وطريقة إلقائه؛ وقد حذا حذو كاتو الكبر فراجع خطبه ونشرها، وهو الفن الذي وصل به منافسه شيشرون إلى ذروة الكمال، والذي جعل للخطابة أبلغ الأثر في النثر الروماني كله. ولقد بلغت اللغة اللاتينية عن طريق الخطابة الدرجة القصوى في البلاغة والرونق والقوة والحمال الذي يبلغ جمال اللغات الشرقية؛ والحق أن الخطباء الشبان الذين جاءوا من بعد هورتنسيوس وشيرشرون كانوا يعيبون على ما يسمونه الأسلوب "الأسيوي" إسرافه في المحسنات اللفظية، وفي إثارة عواطف السامعين، حتى لقد أخذ قيصر وكلفس Calvus وبروتس Brutus وبليو Polio على أنفسهم أن يلتزموا أسلوب الخطابة "الأتكي" الذي يمتاز بالهدوء والعفة والاعتدال. وهنا قام الخلاف من زمن بعيد بين النزعتين "الإبداعية" و"الاتباعية" أي بين النظرة العاطفية والنظرة العقلية إلى الحياة، وما تستلزمه هذه النظرة الأخيرة من سيطرة على الأسلوب. وكان الشباب أصحاب المذهب الاتباعي يجأرون بالشكوى من أن الشرق قد أخذ يغلب رومه على أمرها في كل شيء حتى في الخطابة نفسها.


الفصل الخامس: قلم شيشرون

كان شيشرون يفخر بخطبه ويدرك أن هذه الخطب تهيئ السبيل إلى الأدب الروماني، ولذلك أحس بوقع انتقادات المدرسة الأتيكية، فلم يعه إلا أن يدافع عن نفسه، فكتب عدة رسائل طويلة في فن الخطابة، وقد لخص في بعضها تاريخ البلاغة الرومانية في حوار واضح بارع وضع فيه القواعد التي يجب اتباعها في تأليف الخطب وفي الإيقاع والإلقاء. ولم يسلم في هذه الرسائل بأن أسلوبه "أسيوي"، وقال إنه قد حذا فيه حذو دمستين Demosthenes واتهم "الأتيكيين" بأن خطبهم الفاترة الخالية من العواطف تنيم السامعين أو تجعلهم يفرون منهم.

وتوضح السبع والخمسون التي وصلت إلينا من خطب شيشرون جميع الحيل التي يلجأ إليها من خطب الخطباء الناجحون. فهي توفي على الغاية في عرض ناحية واحدة من نواحي الموضوع الذي يتحدث عنه الخطيب عرضاً يفيض حرارة وحماسة؛ وفي إدخال السرور على المستمعين بالفكاهات والنوادر؛ وفي إثارة كبريائهم وأهوائهم، وعواطفهم، ووطنيتهم، وتقواهم؛ وفي عرض أخطاء المعارض له أو أخطاء مولاه سواء كانت صحيحة أو مما يرويها الناس عنه، وسواء كانت تمس الشؤون العامة أو تمسه هو نفسه؛ ويحذقه في تحويل انتباه السامعين من النقط التي في غير صالحه، وغمرهم بفيض من الأسئلة الخطابية يضعها بحيث تكون الإجابة عنها صعبة أو مؤذية، ثم يكيل التهم في جمل تكون عباراتها قوية قوة السياط، وتيارها الجارف يغمر المستمعين؛ ولا تدعى هذه الخطب أنها عادلة منصفة بل إن فيها من التجريح أكثر مما فيها من التصريح، وهي خلاصات يستغل من يلقيها حرية القذف التي كانت محرمة في المسارح، ولكنها مباحة في السوق العامة وفي ساحات القضاء. ولا يتردد شيشرون في أن يصف ضحاياه بألفاظ مثل "الخنزير" و"الوباء" و"الجزار" و"القذارة"؛ ويقول لبيزو Piso إن العذارى يقتلن أنفسهن ليتقين شر عُهره، ويصب اللعنات على أنطونيوس لأنه يظهر حبه لزوجته على ملأ الناس؛ وكانت هذه المثالب تسر المستمعين والمحلفين ولم يكن أحد من الناس يأخذها مأخذ الجد. ولم يأنف شيشرون نفسه من أن يكتب إلى بيزو رسائل تفيض وداً وصداقة بعد بضع سنين من هجومه الوحشي عليه في In Pisonem. وجدير بنا فوق هذا أن نقر بأن في خطب شيشرون من الأنانية والبلاغة الخطابية أكثر مما فيها من الإخلاص الخلقي أو الحكمة الفلسفية، بل إن فيها من الأنانية والبلاغة أكثر مما فيها من الفطنة أو التعمق القانوني، ولكنها بلاغة ليست كمثلها بلاغة قط. إن خطب ديموستين نفسه لم يكن فيها هذا التصوير الواضح، الحيوي، وهذه الفكاهة الغزيرة، وهذا القذف اللاذع لبني الإنسان؛ ومما لا جدال فيه أنا لا نجد أحداً قبل شيشرون أو بعده قد أكسب اللغة اللاتينية ما أكسبها هو من سحر وسلامة فاتنة، وقوة عاطفية وجمال. لقد كانت خطبه أسمى ما وصل إليه النثر اللاتيني؛ وقد كتب إليه قيصر الكريم وهو يهدي إليه كتابه "في التشبيه" يقول: "لقد كشفت كل كنوز الخطابة، وكنت أنت أول من استخدمها، وبذلك كانت لك اليد الطولي على جميع الرومان، وكنت مفخرة وطنك؛ لقد نلت نصراً دونه نصر أعظم القواد، لأن الذهن البشري أنبل من توسيع رقعة الإمبراطورية الرومانية"(47).

وتكشف خطب شيشرون عن أخلاقه السياسية، أما رسائله فتكشف عن إنسانيته، وتجعل المرء يعفو عن جميع عيوبه السياسية. لقد أملى هذه الخطب كلها إلا قلة منها على أمين سره، ولم يراجعها بنفسه، ولم يكن يفكر وهو يكتب معظمها أنها ستنشر على الملأ، ومن أجل هذا فإن الناس لم تعرض عليهم نفسية إنسان وسريرته كاملتين، كما عرضت عليهم نفسية شيشرون وسريرته. وفي ذلك يقول نيبوس Nepos "لا حاجة لمن يقرأ هذه الرسائل بقراءة تاريخ تلك الأيام"، ذلك أن في وسع قارئها أن يطلع على أهم الفصول الحيوية من المسرحية الثورية من داخلها، والستائر كلها مرفوعة عنها. وأسلوبها في الغالب صريح قديم، خال من الفن والتكلف، ملئ بالملح والفكاهات(49)، ولغتها مزيج جذاب من الرقة الأدبية، وسلاسة اللغة الدارجة. وهي أكثر ما بقي من آثار شيشرون بل من النثر اللاتيني كله طرافة ومتعة؛ ومن الطبيعي أن نجد في هذه المجموعة الكبيرة من الرسائل (وهي تشمل 864 رسالة تسعون منها كتبت لشيشرون) بعض المتناقضات وغير قليل من الشواهد الدالة على عدم الإخلاص. وليس فيها كلها أثر واحد للتقي والإيمان اللذين يطالعاننا كثيراً في مقالات شيشرون أو في تلك الخطب التي يجعل الآلهة فيها ملجأه الأخير، ويتبين لنا من هذه الرسائل أن رأيه الخاص في كثير من الناس، وخاصة في قيصر، لا يتفق على الدوام مع ما يصفهم به جهرة(50)، وفيها يظهر غروره الشديد الذي لا يكاد يصدقه العقل ألطف وأحب إلى النفس مما يظهر في خطبه، حيث يبدو لنا وكأنه يحمل معه تمثالاً أينما ذهب. وهو يقر مبتسماً بأن "تقديري لنفسي وثنائي عليها أعظم الأشياء قدراً عندي"(51). ويؤكد لنا في سذاجة ساحرة أنه "إذا كان في الناس من لا يتصف بالغرور فهو أنا"(52). ومما يلهو به القارئ ما يجده فيها من رسائل كثيرة عن المال، ومن أقوال كثيرة عن بيوته المتعددة. فقد كان له فضلاً عن بيوته ذات الحدائق في أربينوم Arpinum وأستوري Asturae وبتيولي وبمبي Pompeii كان له فضلاً عن هذه البيوت ضيعة في فورميا Formiae تبلغ قيمتها 250.000 سترس، وأخرى في تسكولوم Tusculum تساوي 500.000، وقصر عل تل بلاتين Palatine كلفته 3.500.000 ألا إن هذه المتع وأسباب الترف لتبدو شنيعة مشينة إذا ما أتصف بها الفيلسوف.

ولكن هل في الناس من بلغت فضائله تبقى معها سمعته إذا ما نشرت رسائله الخاصة؟ والحق أن الإنسان إذا أمعن في قراءة هذه الرسائل يكاد يحب هذا الرجل. إنه في واقع الأمر لم يكن له من الأغلاط، ولعله لم يكن له من الغرور، اكثر مما لنا، ولكنه أخطأ إذ خلد هذه الأغلاط وهذا الغرور في نثر أوفى على الكمال. وخير ما نستطيع أن نصفه به أن كان عاملاً مجداً، وأباً رحيماً، وصديقاً وفياً؛ وفي وسعنا أن نراه في بيته مولعاً بكتبه وبأبنائه، يحاول أن يحب زوجه ترنتيا Terentia الغضوب المصابة بالرثية والتي لم تكن تقل عنه ثروة أو فصاحة. ولقد أوتى هو وزوجه من الثروة ما يبعد عنهما السعادة، وكانت متاعبهما ومنازعاتهما تنشأ على الدوام من حساباتهما الضخمة، وظلت هذه المنازعات تزداد حتى طلقها بسبب تشاحن على المال نشأ بينهما. ولم يلبث بعد أن طلقها أن تزوج بيليا Publia؛ وقد اسفلت نظره إليها أنها ذات ثروة طائلة وليست كبيرة السن، فلما أن أظهرت بغضها لابنته تليا Tullia طلقها هي الأخرى. وكان يحب تليا أشد الحب، فلما ماتت حزن عليها حزناً كاد يذهب بعقله، وأراد أن يشيد لها معبداً كمعابد الآلهة. ومن ألطف رسائل شيشرون التي كتبها إلى تيرو Tiro كبير أمناء سره والتي كتبها عنه. وكان تيرو يكتب ما يمليه عليه مختزلاً، ويشرف له على أمواله بقدرة وأمانة كافأه عليهما شيشرون بتحريره من الرق. وأكثر الخطابات عدداً هي التي كتبها إلى أتكس Atticus الذي كان يستثمر لشيشرون أمواله المدخرة والذي أنجاه من عدة ورطات مالية، ونشر له مؤلفاته، وأسدى إليه من النصح السديد ما لم يعمل به. وقد كتب شيشرون إلى أتكس، وكان غائباً في بلاد اليونان عن حكمة وفطنة حين بلغت الثورة عنفوانها، خطاباً يعد مضرب المثل في الوفاء وعذوبة اللفظ قال فيه: لست اشعر بحاجة أشد من حاجتي إلى من أستطيع أن أفضي إليه بكل ما يتصل بي، ومن يحبني، ومن أثق بحزمه وحصافة رأيه، ومن أستطيع أن أتحدث إليه بلا ملق ولا رياء ولا تحفظ. إن أخي الذي يفيض صراحة وحناناً غائب عني... وأنت يا من أنجيتني من متاعبي وأسباب قلقي برأيك السديد، ويا من كنت رفيقي في الشؤون العامة وموضع ثقتي في جميع شؤوني الخاصة. وشريكي في جميع أقوالي وأفكاري- أين أنت؟(54).

وبينما كانت بلاد الرومان تمر بتلك الأيام العصيبة حين عبر قيصر الروبكون وهزم بمبي، ونصب نفسه حاكماً بأمره، اعتزل شيشرون الحياة العامة إلى حين وأخذ ينشد الراحة من عنائها في قراءة الفلسفة والكتابة فيها. وقد كتب إلى أتكس في ذلك الوقت يقول له: "تذكر ما وعدتني به فلا تعط كتبك لإنسان ما بل احتفظ بها لي. إني أحبها أعظم الحب، وتشمئز نفسي أشد الاشمئزاز من كل ما عداها"(55). وقد عمل وقتئذ بما كان ينصح به غيره، وأصدر في فترة لا تزيد إلا قليلاً على سنتين ما يكاد يكون مكتبة في الفلسفة .ذلك أن ضعف العقيدة الدينية لدى الطبقات العليا قد خلف وراءه فراغاً أخلاقياً لاح معه أن رومه تتردى في مهاوي الانحلال الخلقي والاجتماعي. وكان شيشرون يأمل أن تحل الفلسفة محل الدين متهدي هذه الطبقات إلى الحياة الطبية، وتحفزها لأن تحيا هذه الحياة، ولم يكن يعتزم أن يضيف إلى النظم الفلسفية السابقة نظاماً جديداً، بل كان كل ما يهدف له هو تلخيص تعاليم حكماء اليونان وتقديمها للرومان لتكون آخر ما يهديه لهم في حياته(57). وقد بلغ من أمانته العلمية أن أقر في غير خفاء أنه يستمد فلسفته من رسائل بانتيوس Panaetiue وبوسيدونيوس Poseidonius وغيرهما من فلاسفة اليونان المحدثين(58)، وأن عمله لا يزيد على تكييف رسائلهما تكييفاً جديداً؛ بل إنه في بعض الأحيان لا يفعل أكثر من ترجمة هذه الرسائل. ولكنه قد حول نثر هؤلاء الفلاسفة الجاف الممل إلى لغة لاتينية سهلة، واضحة، جذابة، وجمل بحوثه بالحوار.

وكان ينتقل فيها تنقلاً سريعاً من بيداء المنطق وما وراء الطبيعة الجدباء، إلى المشاكل الحية، مشاكل السلوك وحكم البلاد. وقد اضطر كما اضطر لكريشيوس إلى ابتكار مصطلحات فلسفية جديدة، ونجح في هذا نجاحاً جعله صاحب الفضل على اللغة والفلسفة كلتيهما. والحق أن الحكمة لم يزنها من أيام أفلاطون هو الذي استمد منه شيشرون معظم أفكاره؛ ذلك بأنه لم يكن يحب تحكم الأبيقوريين الذين "يتحدثون عن الأمور الإلهية حديث الواثقين، حتى ليخيل إليك أنهم قد جاءوا لساعتهم من مجتمع للآلهة". وكذلك لم يكن يعجبه تحكم الرواقين الذين يلوون الحجج عن قصد وتعمد حتى ليخيل إليك أن الآلهة أنفسها إنما وجدت لمنفعة الآدميين(59) وتلك نظرية لم ير شيشرون نفسه في بعض أطواره أنها بعيدة عن حكم العقل. وكانت النقطة التي بدأ منها فلسفته هي بعينها بداية فلسفة الأقديمية الجديدة The New Academy- أي التشكك الهين الذي لا يعترف بأن شيئاً ما مؤكداً كل التأكيد، والذي يرى في الاحتمالات الراجحة ما يكفي مطالب الحياة البشرية؛ وفي ذلك يقول في بعض كتاباته: "إن فلسفتي في معظم الحالات هي فلسفة الشك(61).. ولعلكم تأذنون لي ألا أعرف ما لا أعرفه"(61). ويقول في موضع آخر: "إن الذين يريدون أن يعرفوا رأيي الشخصي يظهرون قدراً من التشوف لا يقره العقل"(62). ولكن ما أوتي من قدرة فائقة على التعبير سرعان ما كان يتغلب على حيائه: فيهزأ بالتضحيات الدينية، والهاتفين والعرافين. ويخصص رسالة بأكملها لإنكار القدرة على التنبؤ بالغيب، ويتساءل في معرض استنكار الاعتقاد بالتنجيم، وهو الاعتقاد الذي كان واسع الانتشار في تلك الأيام، هل كان من قتلوا في واقعة كاني قد ولدوا في مطلع نجم واحد(63). بل إنه ليشك في أن العلم بالمستقبل خير لمن يعلمه، وذلك لأن المستقبل نفسه قد يكون كريهاً كغيره من الحقائق الكثيرة التي يدفعنا حمقنا إلى الجري وراءها. ويظن شيشرون أن في مقدوره أن يقضي على العقائد القديمة كلها قضاء مبرماً بالسخرية منها والاستهزاء بها. فيقول مثلاً: "إذا سميت الحب سيريز Ceres وسميت الخمر باخوس Bachus كانت هذه التسمية استعارة من الاستعارات المألوفة، ولكن هل تظن أن أحداً من الناس قد بلغ به الجنون إلى الحد الذي يعتقد معه أن ما يأكله إله بحق"(63). على أن شكه في الإلحاد لم يكن يقل عن شكه في أية عقيدة تحكمية أخرى. فهو يرفض العقيدة الذرية التي كان يقول بها دمقريطس ولكريشيوس، ويقول إن من أبعد الأشياء أن تنظم الذرات نفسها بلا هاد يهديها ولو ظلت تفعل كذلك أبد الدهر، ثم ينشأ من هذا التنظيم عالمنا الذي نعيش فيه. وشأنها في ذلك شأن الحروف الهجائية فإن من أبعد الأشياء كذلك أن تتجمع هذه الحروف من تلقاء نفسها فينشأ من تجمعها "حوليات إنيوس"(64). ويقول إن جهلنا بالآلهة ليس بالدليل القاطع على عدم وجودها، بل إنه ليذهب إلى أبعد من هذا فيقول إن إجماع الناس على وجودها يكفي في حد ذاته لترجيح وجود قوة مدبرة. ويستخلص من هذا أن الدين نظام لابد منه للأخلاق الشخصية والنظام العام، وأنه نظام لا يمكن أن يهاجمه إنسان عاقل(65)؛ ولذلك فإنه ظل يقوم بواجبات العراف الرسمي في الوقت الذي كان يكتب فيه ضد التنبؤ والعرافة. ولم يكن يعد هذا نفاقاً بمعناه الصحيح، ولعله كان يسميه سياسة وحسن التصرف. ذلك أن الأخلاق الرومانية، والمجتمع الروماني، ونظام احكم فيه، كانت كلها وثيقة الارتباط بالدين القديم، وأنه إذا أريد لها البقاء وجب ألا يترك هذا الدين كي يموت. (وكان الأباطرة يبررون اضطهاد المسيحيين بمثل هذه الحجج). ولما توفيت تليا التي كان يحبها أعظم الحب، اشتدت به نزعة الأمل في الخلود. وكان قبل ذلك بعدة سنين كثيرة قد استعار من فيثاغورس وأفلاطون وإيكسودس في "حلم سبيو" الذي اختتم به "جمهورية" أسطورة معقدة بليغة عن حياة بعد الموت، ينعم فيها الموتى العظماء الصالحين بالنعيم الأبدي. أما في رسائله الخاصة- وحتى في رسائله التي يواسي فيها الثاكلين من أصدقائه- فإنه لا يذكر قط شيئاً عن الحياة الآخرة.

وإذ كان على علم بما يسري في أيامه من نزعة التشكك فإن الأسس التي أقام عليها بحوثه في الأخلاق والسياسة كانت أسساً دنيوية محضة، لا تعتمد قط على تأييد غير القوى الطبيعية. فهو يبدأ (في De Finbus) بالتساؤل عن الطريق الموصل إلى السعادة. ثم يوافق الرواقيين في شيء من التردد على أن الفضيلة وحدها لا تكفي للوصول إليها. ومن أجل هذا تراه (في De Effcüs) يبحث عن طريق الفضيلة، ويفلح بفضل جمال أسلوبه في أن يجعل الواجب محبباً ممتعاً إلى حين، وفي ذلك يقول: "الناس جميعاً أخوة، وخليق بنا أن نعد العالم كله مدينة مشتركة للآلهة والبشر على السواء"(66). ثم يواصل حديثه قائلاً إن أسمى المبادئ الخلقية هي الولاء لهذا الكل، ولاء يكون الحافز له هو الضمير الحي. وأول ما يجب على الإنسان لنفسه وللمجتمع، أن يقيم حياته على أساس اقتصادي سليم، وعليه بعدئذ أن يؤدي واجباته بوصفه مواطناً في بلده. والسياسة الحكيمة أعظم شرفاً من أعمق البحوث الفلسفية(67).

وهو يرى أن الملكية المطلقة خير أنواع الحكومات إذا كان الملك صالحاً، وأكثرها شراً وفساداً إذا كان الملك فاسداً- وتلك حقيقة سرعان ما تأيدت في رومه نفسها. وعنده أن الحكومات الأرستقراطية تصلح إذا كان الحاكمون فيها هم أحسن الناس حقاً. ولكن شيشرون، وهو من أفراد الطبقة الوسطى، لا يسلم تسليماً مطلقاً بأن الأسر القديمة المحافظة على أرستقراطيتها خير الأسر. والحكم الديمقراطي في رأيه يصلح إذا كان الشعب فاضلاً، وهذا في ظنه لا يكون أبداً. هذا إلى أن هذا الحكم يفسده الافتراض الكاذب بأن الناس متساوون. ولذلك كان خير الحكومات هي التي تقوم على دستور يجمع بين هذه الأنواع كلها كحكومة رومه قبل عهد ابني جراكس، فقد جمعت بين سلطة الجمعيات الديمقراطية، وسلطة مجلس الشيوخ الأرستقراطية، وسلطة القنصلين التي لا تكاد تقل عن سلطة الملوك في السنة التي يتوليان فيها منصبهما, والملكية إذا لم تكن لها ضوابط وموازين تصبح حكومة استبدادية، كما أن هذه الظروف نفسها تجعل الأرستقراطية ألجركية، وتجعل الديمقراطية حكم الغوغاء وتستحيل إلى فوضى وطغيان. وقد كتب بعد خمس سنين من تولى قيصر منصب القنصلية، وكأنه فيما كتب كان يصّوب السهم إلى صدر قيصر:

يقول أفلاطون إن الحكام المستبدين ينبتون من مغالاة الناس في التحلل من القيود تحللاً يسميه حرية، كما ينبت النبات من الجذور... وإن هذه الحرية تهوى بالأمة آخر الأمر إلى درك الاستعباد.. إن كل شيء يزيد على حده ينقلب إلى ضده.. وذلك لأن العامة التي ليس لها حاكم يسيطر عليها تختار من بينها في العادة زعيماً يقودها.. وهو إنسان جرئ لا ضمير له.. يسعى لنيل رضاء الناس بما يعطيهم من أموال غيرهم. ولما كان هذا الرجل يخشى أشد الخشية أن يظل فرداً كغيره من الأفراد فإنهم يخلعون عليه حماية المنصب العام، ويجددون له هذه الحماية على الدوام، فيحيط نفسه بحرس مسلح، وينتهي به الأمر إلى أن يصبح طاغية يستبد بالشعب الذي حباه القوة والسلطان(68).

ولكن قيصراً رغم هذا نال بغيته، ورأى شيشرون أن خير ما يفعله هو أن يكظم غيظه ويرفه عن نفسه بالقول المعاد في القانون، والصداقة، والمجد، والشيخوخة، وبأن "القوانين تلتزم الصمت في أيام الحرب" Silent lege enter arma على حد قوله هو نفسه. على أنه كان في وسعه على الأقل أن يستسلم للتفكير في فلسفة القانون، وقد عرفه كما عرفه الرواقيون بأنه "التفكير الصحيح المتفق مع الطبيعة"(69) أي أن القانون يعمل لجعل الصلات التي تنشأ من دوافع الناس الاجتماعية صلات منظمة مستقرة. وفي ذلك يقول إن "الطبيعة قد غرست في نفوسنا الميل إلى حب الناس" (المجتمع)، "وهذا هو أصل القانون"(70) ويرى شيشرون أن الصداقة يجب ألا تقوم على المنافع المتبادلة بل على المصالح المشتركة التي تدعمها، وتحدوها الفضيلة والعدالة، وأن قانون الصداقة هو "ألا يطلب الإنسان إلى صديقه أن يعمل أشياء غير شريفة، وألا يعملها هو إذا طلب إليه عملها(71)، وعنده أن الحياة الشريفة هي خير ضمان للشيخوخة السارة، وأن الاستهتار والإسراف في أيام الصبا يتركان الشيخوخة جسماً والعقل منهوكا قبل الأوان. أما الحياة التي تقضي على خير وجه فقد يبقى الجسم والعقل فيها سليمين حتى يبلغ المرء مائة من السنين، ولنضرب لذلك ماسينسا Masinassa. والانكباب على الدرس قد يجعل الإنسان "يغفل عن اقتراب الشيخوخة منه خفية(72). والشيخوخة أمجادها كما للشباب أمجاده- ففيها الحكمة المتسامية، وفيها حب الأطفال آباءهم وإجلالهم إياهم، وفيها تهدأ حمى الرغبات والمطامح. وقد تخشى الشيخوخة الموت ولكن ذلك لا يحدث إذا كان العقل قد كونته الفلسفة، فأدرك أن وراء القبر، في أحسن الأحوال، حياة جديدة أسعد من الحياة وفي أسوئها من عنائها(73).

وفي وسعنا أن نحكم على مقالات شيشرون في الفلسفة بأنها كلها ضئيلة الأثر، وأنها كآرائه في الحكم والسياسة تستمسك فوق ما يجب بالسنن القديمة والتقاليد المرعية. وسبب ذلك أنه وإن أوتي تشوف العالم فقد أوتي معه حذر أبناء الطبقة الوسطى وضعف عزيمتهم، ولذلك ظل في فلسفته نفسها سياسياً يكره أن يسيء إلى شخص واحد من الناس، خشية أن يفقد بذلك صوته يوم الانتخاب. وكان ديدنه أن يجمع آراء غيره ويجيد الموازنة بين ما لها وما عليها، فإذا انتهى من هذه الموازنة خرج السامع بعدها من نفس الباب الذي دخل منه، لا يدري أي الكفتين ترجح على الأخرى. ولولا ما امتازت به هذه الكتب الصغيرة من أسلوب سهل جميل لعفي عليها الزمان، ولما بقي لها ذكر الآن. فما أجمل لاتينية شيشرون وما أسهل قراءتها، وما أسلس لغتها وأوضحها! لقد كان إذا قص حادثة أسبغ عليها من الحيوية التي تسري في خطبه فتسترعي الأسماع وتسحر الألباب. وإذا وصف شخصاً أظهر في هذا الوصف من البراعة ما يجعل القارئ يتأسف معه لأنه لم يجد متسعاً من الوقت يمكنه من أن يكون أعظم مؤرخي رومه(74)، وإذا انطلق في الخطابة أفاض على السامع جُملاً متزنة، جميلة اللفظ، قوية العبارة، مما أخذه عن إيزوقراطيس Isocrates، وجعل السوق العامة تدوي بالتصفيق والاستحسان.

إن آراء شيشرون هي آراء الطبقات العليا، أما أسلوبه فقد أراد به أ يصل إلى قلوب الشعب؛ ومن أجل هذا تراه يبذل جهده لكي يكون هذا الأسلوب واضحاً لا غموض فيه، وأن تكون الحقائق التي يوردها مما يهز مشاعر السامعين هزاً، وهو يمزج المعنويات بالنوادر والفكاهات.

وملاك القول أن شيشرون قد خلق اللغة اللاتينية خلقاً جديداً، فوسع نطاق مفرداتها، وصاغ منها أداة مرنة للتعبير عن الفلسفة، وجعلها صالحة لاستيعاب الآداب والعلوم في أوربا الغربية سبعة عشر قرناً من الزمان. وإن الأجيال التي جاءت بعده لتذكره على أنه مؤلف أكثر منه رجل سياسة. ولما أن نسي الناس ما قام به وهو قنصل من أعمال مجيدة، أو كادوا ينسونها، على الرغم مما فيها من ذكريات طيبة، ظلوا يمجدون فتوحه في عالم الأدب والفصاحة. وإذ كان من عادة الناس أن يمجدوا الصورة كما يمجدون المادة، وأن يعظموا الفن كما يعظمون العلم والسلطان، دون سائر الرومان، من الشهرة ما لم ينل أكثر منه إلا قيصر وحده. ولم يغفر هو لرومه هذا الاستثناء الوحيد.