قصة الحضارة - ول ديورانت - م 2 ك 5 ج 27

صفحة رقم : 2732

قصة الحضارة -> حياة اليونان -> انتشار الهلنستية -> الفن في عهد التشتت -> موضوعات أشتات


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البابُ السَّابع والعِشرون: الفن في عهد التشتت

الفصل الأوَّل: موضوعات أشتات

لقد تأخر اضمحلال الحضارة اليونانية من ناحية الفن زمناً طويلاً. ففي هذه الناحية لا يقل ازدهار العصر الهلنستي، في خصوبة الإنتاج وفي الابتكار، عن ازدهار أي عصر آخر في التاريخ. وما من شك في أن الفنون الصغرى لم يطرأ عليها شيء من الاضمحلال، وأن مهرة الصناع في الخشب والعاج والفضة والذهب انتشروا في جميع أنحاء العالم اليوناني الذي اتسعت رقعته. وفيهِ بلغ الحفر على الجواهر والنقود أعلى درجاته، وكان الملوك الهلنستيون في البلاد الممتدة إلى بكتريا يحلون نقودهم بالكثير من النقوش، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن القطعة ذات العشر الدرخمات من نقود هيرون الثاني كانت أجمل ما رأته العين في فن المسكوكات الذي سجله التاريخ. واشتهرت الإسكندرية بمن فيها من صائغي الذهب والفضة، الذين لم يكن فنهم يقل جمالاً عن اسلوب شرائعها الذي لا تشوبه قط شائبة، كما اشتهرت بأحجارها الثمينة وأصدافها ذات النقوش البارزة الملونة، وبخزفها الأخضر والأزرق، وبفخارها المغطى بطبقة زجاجية بديعة، وبزجاجها الكثير الألوان ذي النقش الدقيق الجميل. ويتجلى هذا الفن بأجلى مظاهره في مزهرية بورتلاند Portland وهي في أغلب الظن من صنع الإسكندرية، فقد نُقشت عليها صور رشيقة محفورة في طبقة زجاجية ناصعة البياض في لون اللبن الصافي فوق جسم من الزجاج الأزرق. وما أشبه هذه التحفة في الزمن القديم بتحف جوسيا ودجود في الزمن الحديث .

وظلت الموسيقى شائعة بلين جميع طبقات السكان، وتبدلت فيها السلالم والأنغام في اتجاه الرقة والجدة(1)؛ وأدخلت الأنغام الناشزة القصيرة في النغمات المتوافقة؛ وازدادت الآلات والتآليف الموسيقية تعقيداً(2). وكبرت "زمارات بان" القديمة حوالي عام 420 في الإسكندرية حتى صارت مجموعة من الزمارات البرنزية، وحسن تسبيوس حوالي عام 175 هذه الآلة فجعلها أرغناً يدار بالماء والهواء مجتمعين ويجعل في مقدور العازف أن يُحدث به نغمات من الصوت جد طويلة. ولسنا نعرف عن تركيب هذه الآلة أكثر مما ذكرنا، ولكننا سنرى كيف تطورت تطوراً سريعاً في أيام الرومان حتى صارت هي أرغن المسيحية وأرغن هذه الأيام(3). وكانت الآلات تجتمع فيتكون منها جوقة العازفين؛ وكانت ألحان من الموسيقى الآلية الخالصة مكونة في بعض الأحيان من خمس حركات تُعزف في ملاهي الإسكندرية وأثينة وسرقوسة(4). ونال عدد من مهرة الموسيقيين شهرة واسعة وأصبحت لهم مكانة اجتماعية تتناسب مع أجورهم العالية. وفي عام 318 كتب أرستكسنوس Aristoxenus التاراسي، تلميذ أرسطو، رسالة صغيرة تُدعى قواعد الألحان صارت هي النص القديم الذي يُرجع إليه في النظريات الموسيقية. وكان أرستكسنوس هذا رجلاً جاداً، لم يستسغ كما لم يستسغ معظم الفلاسفة موسيقى زمانهم. ويروي عنه أثينيوس قوله في عبارات سمعتها أجيال كثيرة من بعده: "بعد أن طغت البربرية على دور التمثيل، وبعد أن فسدت الموسيقى وقُضي عليها القضاء الأخير، وأصبحنا نحن أقلية صغرى في هذا الزمان، نستعيد في عقولنا، ونحن جالسون بمفردنا، ما كانت عليه الموسيقى في الأيام الخالية"(5).

أما عمارة العصر الهلنستي فليس لها وقع في نفوسنا لأن الدهر قد عدا عليها فسواها بالأرض وناصبها العداء بلا تفريق بين بعضها والبعض الأخر. غير أننا نستدل من الأدب ومن آثارها، على أن فن العمارة اليوناني أنتشر في هذا العصر من بكتريا إلى أسبانيا. ولقد نشأ من التأثير المتبادل بين بلاد اليونان والشرق خليط من الأنماط: فغزت الأروقة المعمدة والعرضة الراكزة داخل آسية، ودخلت الأقواس والعقود والقباء بلاد الغرب. ففي ديلوس نفسها، وهي المركز اليوناني القديم، قامت تيجان العمد المصرية والفارسية. وقد بدا الطراز الدوري جامداً كئيباً في عصر أولع بالرقة والزينة، ولهذا أخذ يختفي من مدينة إثر مدينة، في الوقت الذي أخذ فيه الطراز الكورنثي المزخرف يرقى حتى بلغ ذروته. وكانت النزعة الدنيوية في الفن تجاري في سرعة تقدمها النزعة الدنيوية في نظام الحكم، وفي الشرائع والأخلاق، والآداب، والفلسفة؛ وأخذت العمد المقامة حول البيوت، والمداخل الواسعة، والأسواق، ودور القضاء، وقاعات الجمعيات الوطنية، ودور الكتب والتمثيل، ومدارس التدريب الرياضي، والحمامات، أخذت هذه العمد تحل محل المعابد؛ وكانت قصور الملوك والأفراد ميداناً جديداً ظهر فيهِ فن التخطيط والزخرف اليوناني. وصارت مداخل البيوت تزدان بالرسوم، والتماثيل، والنقوش على الجدران، كما أخذت الحدائق الخاصة تحيط بالبيوت الواسعة الفخمة. وأنشئت للملوك بساتين وحدائق، وبحيرات، وسرادقات في حواضر البلاد، وكانت تفتح عادة للجماهير. وتطور فن تخطيط المدن ليجاري فن العمارة، فخططت الشوارع على طراز هبودامس Hippodamus الرباعي، وكان منها شوارع رئيسية لا يقل عرضها غن ثلاثين قدماً-وهو عرض يتناسب مع الخيل والمركبات التي كانت وسائل النقل في تلك الأيام. وكانت مدينة أزمير تزهو بشوارعها المرصوفة(6)، ولكن لأكبر الظن أن معظم شوارع المدن الهلنستية كانت أرضاً معبدة تعرف مساوئ التراب والطين.

وكثرت المباني الجميلة كثرة لم يكن لها مثيل من قبل؛ ففي أثينة شيدت في القرن الثاني العمد الكورنثية المقامة في الأولمبيوم ووضع الروماني كوسوتيوس Cossotius الخطة العامة للصرح الرحب العظيم الذي كان أفحم بناء في أثينة-وكان كوسوتيوس بهذا العمل قلباً للوضع المألوف وهو اعتماد رومة على الفنانين اليونان. ويصف ليفي هيكل زيوس الأولمبي بأنه لم يرَ بناء غيره يليق لأن يكون مسكناً لإله الآلهة(7). ولا تزال ستة عشر عموداً من أعمدته قائمة وهي أجمل النماذج الباقية من الطراز الكورنثي. وفي إلوسيس أتم صلاح أثينة في دور احتضاره، وأتمت عبقرية فليون، هيكل الطقوس الخفية الفخم الذي بدأه بركليز في موضع كان مكاناً مقدساً منذ العصور الميسينية. ولم يبقَ من هذا الهيكل إلا قطع متفرقة، ولكن بعضها يدل على أن التخطيط والنحت اليونانيين كانا لا يزالان وقتئذ في أوجهما. وقد كشف الفرنسيون في ديلوس عن قواعد هيكل أبلو كما كشفوا عن مدينة كانت في أيامها مزدحمة بالمباني الفخمة المحصصة للأعمال التجارية أو لإيواء مائة من الآلهة اليونانية أو الأجنبية. وأقام هيرون الثاني في سرقوسة كثيراً من المباني الضخمة ذات الروعة والجلال، وجدد دار التمثيل التابعة للبلدية وزاد في مساحتها، ولا نزل في هذه الأيام نقرأ اسمه منقوشاً على حجارتها. وزين البطالمة مدينة الإسكندرية بالمباني الشاهقة التي أذاعت اشتهارها بالجمال، ولكن شيئاً من هذه المباني لم يبقَ حتى الآن. وشاد بطليموس الثالث عند إدفو معبداً هو أفحم ما بقي من العمائر من عصر الاحتلال اليوناني، وشاد خلفؤه معبد أيزيس في جزيرة فيلي وجددوا بناءه. وفي أيونيا أقيمت بيوت جديدة للآلهة في ميليطس، وبريني Priene، ومجنيزيا، وغيرها من المدن؛ وتم في عام 300 ق.م بناء المعبد الثالث لأرتميس في إفسوس، وشاد المهندسان بيونيوس Paeonius، ودفنيس في ديديا بالقرب من ميليطس معبداً أوسع من هذا تكريماً لأبلو (332 ق.م.-41م)؛ ولا تزال صفحات الأعمدة الأيونية الفخمة التي كانت قائمة في هذا المعبد باقية إلى اليوم. وفي برجموم أذاع أومنيز الثانث شهرت عاصمته في طول بلاد اليونان وعرضها بما أنشأه فيها من المباني وخاصة مذبح زيوس الذائع الصيت الذي كشفه الألمان في عام 1878، وأعادوا بناءه بحذق عظيم في متحف برجموم القائم في برلين. وكانت مجموعتان فخمتان من الدرج حول بابين عظيمين لهذا المذبح تؤديان إلى بهو رحب ذي عمد؛ وكان حول مائة وثلاثين قدماً من القاعدة إفريز يبلغ في أيامه من الفخامة ما بلغه ضريح الإسكندر في القرن الرابع أو البارثنون في القرن الخامس. وقصارى القول أن بلاد اليونان لم تزدن في وقت من الأوقات بمثل ما ازدانت به في تلك الأيام، وأن حماسة مواطنيها ومهارة فنانيهالم تفعلا مثل ما فعلتاه في ذلك الوقت من تحويل الكثير من مساكن أهلها إلى قصور فخمة ذات روعة وجمال.


الفصل الثاني: التصوير

التصوير في العادة آخر فن عظيم ينضج في الحضارة؛ فهو في المراحل الأولى من مراحل الثقافة يخضع للعمارة الدينية ولعمل التماثيل الدينية، ولا يصبح فناً مستقلاً إلا حين تدعوه الحياة الخاصة والثروة الخاصة إلى زخرفة المنازل أو لتخليد ذكرى اسم من الأسماء. ولما أن أضعفت موت الديمقراطية من معنى الدولة في عقول الناس، عاد الفرد إلى طلب السلوى في منزله، فشاد الأغنياء قصوراً يسكنون فيها، وأدوا أجوراً عالية للفنانين الذين يستطيعون أن يزينوا فسقية أو يجملوا جداراً. فكانت الإسكندرية تتخذ التصوير على الزجاج وسيلة من الوسائل التي تزين بها الجدران؛ وكانت جميع المدن الهلنستية تستخدم لهذا الغرض إطارات متحركة من الخشب؛ وكان الأمراء والكبراء يفضلون عن هذه الإطارات الصور الضخمة المرسومة على ألواح من الرخام يمكن فصلها ووضعها في أي مكان شاءوا. ويصف بوسنياس عدداً لا يُحصى من الصور التي رآه في تجوالهِ ببلاد اليونان، ولكن الدهر لم يبقِ منها إلا على رسوم حائلة من الخشب أو الحجارة، ولهذا لا نجد سبيلاً لمعرفة حقيقة هذه الصور إلا الحدس والتخمين والاعتماد على الصور الحائلة المتوسطة القدر المنقولة عنها والتي عُثر عليها في بمبياي، وهركولانيم Hercolaneum ورومة.

وظلت بلاد اليونان تضع مصوريها في المستوى العالي الذي تضع فيهِ مثاليها ومهندسيها، بل لعلها كانت تضع الأولين في مستوى أعلى من مستوى الآخرين. وكانت تؤدي إليهم من الأجور مثل ما يؤديه الأمريكيون للمصورين في هذه الأيام، وتروي عن حياتهم قصصاً تدل على حبها وتكريمها لهم. ومنها أن ثسكليز الإفسوسي، حين لم ينل من الملكة استرتنيس Stratonice ما كان يرجو من عطاء صورها وهي تعبث مع صائد سمك، وعرض الصورة على الجماهير، ثم ركب البحر لينجو من القتل. ورأت استرتنيس "أن الصورتين قد عبرتا عن ملامحها وملامح الصياد تعبيراً يدعو إلى الإعجاب" فعفت عنه وسمحت له بالعودة(8). ولما استولى أراتس على سكيون أمر بإتلاف جميع صور طغاتها السابقين. وكان ملانثوس Milanthus (وهو مصور من رجال القرن الرابع) قد صور أحد هؤلاء الطغاة واسمه أركستراتوس Archestratus إلى جانب مركبته الحربية تصويراً حياً واضحاً تأثر به الفنان نيكليز Neacles فتوسل إلى أراتس أن يبقي على الصورة، وقبل أراتس رجاءه على شريطة أن يستبدل بصورة أراتس صورة أخرى لا تثير من البغض ما تثيره صورة هذا الرجل(9). ويقول استرابون إن بروتجنيز Poatogenes صور ساتيرة Satyr ، وإلى جانبها صورة حجل وقد بلغت صورة الحجل من الإتقان درجة جعلت أخواته الحية تناديه، ثم محا المصور بعدئذ صورة الطائر حتى يقدر الناس جمال صورة الساتيرة(10). ويقول بلني أن هذا المصور نفسه وضع أربع طبقات من اللون على صورته الذائعة الصيت صورة ياليسوس Ialyisus (الذي يزعم الناس أنه مؤسس المدينة المسماة بهذا الاسم في رودس)، حتى تبقى الألوان ناضرة زاهية إذا ما أزال الدهر الطبقة العليا منها. ويقال إن بروتجنيز قد غضب من عجزه عن أن يصور الزبد الذي يتساقط من فم كلب ياليسوس تصويراً صادقا، فلم يتمالك نفسه ورمى الصورة بأسفنجة يريد أن يتلفها. ووقعت الأسفنجة بطبيعة الحال على المكان، وتركت في ذلك المكان بقعة من اللون شبيهة كل الشبه بالزبد الخارج من فم كلب يلهث. ولما أن حاصر دمتريوس بليورسيتيز جزيرة رودس أبى لأن يشعل النار في تلك المدينة لئلا تتلف هذه الصورة. ولم ينقطع بروتجنيز عن العمل أثناء الحصار في مرسمه، وكان هذا المرسم أما خط زحف المقدونيين مباشرة. واستدعاه دمتريوس إليه وسأله:

لـِمَ لـمْ يحتم داخل أسوار المدينة كما فعل غيره من المقدونيين؟ فأجابه بروتجنيز بقولهِ: "ذلك بأني أعرف أنك إنما تشن الحرب على أهل رودس لا على الفن". فما كان من الملك إلا أن عين له حرساً يحمه، وترك الحصار ليشاهد أعمال الفنان العظيم(11).

وكان المصورون الهلنستيون يعرفون خداع المنظور، وتمثل الأشخاص بارزين في عين الناظر، وسقوط الضوء، وتجمع الأشكال. ومع أنهم لم يستخدموا المناظر الطبيعية إلا لتكون مؤخرة للصورة لتجميلها، وأنهم صوروها حين استخدموها بطريقة خالية من الحياة جارية على العرف (إذا حكمنا عليها مما نقل عنها من الصور في بمبياي)، فإنهم أدركوا على الأقل أن الطبيعة موجودة، وجعلوا لها مكاناً في الفن في الوقت الذي كان ثيوقريطس يجعل لها مكاناً في الشعر. ولكنهم كانوا شديدي الولع بالإنسان وبأعماله كلها إلى حد غفلوا معه عن الأشجار والأزهار. لقد اقتصر أسلافهم على رسم الآلهة والأغنياء من الآدميين أما الفنانون الهلنستيون فقد افتتنوا بكل ما هو آدمي وتبينوا أن الموضع القبيح المنظر قد يصور تصويراً جميلاً أو على الأقل يأتي بأجر كبير، فانقلبوا يصورون الحياة البشرية بحماسة كحماسة الهولنديين، وسرهم أن يصوروا الحلاقين والأساكفة والعاهرات، والخياطات، والحمير، والرجال المشوهين، والحيوانات الغريبة. ثم أضافوا إلى هذه الصور المأخوذة من الحياة المألوفة أو الريفية، صوراً من الحياة الساكنة الجامدة-كالكعك، والبيض، والفاكهة، والخضر، والسمك، والطير، والحيوان المصيد، والخمر، وكل ما يتصل بها من الطقوس القديمة. وكان سوسوس Sosus البرجمومي يسلى معاصريه بأن يمثل لهم أرضاً من الفسيفساء الخادعة لا تزال منتشرة عليها بقايا وليمة(12). لكن المصورين المحافظين قد ساءهم هذا فأخذوا ينددون بهؤلاء الذين يرفعون من شأن الأشياء العادية ويصفونهم بأنهم يصورون الفحش والأقذار Pornographoi and Rhparographoi وحرم القانون في طيبة تصوير الأشياء القبيحة(13).

وقد أنقذت حمم بركان فيزوف بعض روائع ذلك العصر الكبيرة من النسيان وإن لم تحفظ لنا هذه الحمم أسماء أصحابها. وقد وجد في أستيا مظلم يبدو أنه صورة ضعيفة منقولة عن أصل هلنستي، وهي معروفة لدينا باسم عرس الألدر برنديني The Aldorbrandini Wedding نسبة إلى الأسرة الإيطالية التي كانت تمتلكها قبل أن نجد لها مكاناً في متحف الفاتيكان. وفي هذه الصورة تُظهر أفرديتي ممتلئة الجسم شبيهة بصور الرسام الهولندي روبنز Rubens تبعث الشجاعة في قلب العروس الخائفة، على حين ينتظر العريس، وهو في غير حاجة إلى من يستحثه، على أحر من الجمر إلى جانب الفراش. وأجمل هاتين الشخصيتين الرئيسيتين صورة امرأة رشيقة توقع نشيداً على مزهر حائل اللون. وثمة صورة جدار من بمبياي يقول بعض الخبراء، وإن لم يرقَ قولهم إلى مرتبة اليقين، وأنها منقولة عن أصل يوناني رُسِمَ في القرن الثالث. وهي تصور أخيل وإلى جانبهِ بتركلوس، يسلم، وهو غاضب، بريسيس لفجور أجمنون. ويبدو لأذواقنا ومألوف عاداتنا أن في صور الآدميين في هذا الرسم من الجحيم أكثر مما فيها من الجمال؛ ذلك أننا قد ألفنا أن نرى أجسامناً أقل من هذه الأجسام وسيقاناً أطول من تلك السيقان؛ ولكننا يجب أن نسلم أن الفنانين الأقدمين كانوا يعرفون الرجال اليونانيين والنساء واليونانيات، أحسن مما نعرفهم نحن أو يعرفهم من سيأتون بعدنا. وقد ذهب الزمان بنضرة هذه الصورة؛ وما من شيء يستطيع أن يعيد لها ما كان لها من بهاء ونضارة، كانا بلا ريب موضع إعجاب جمهرة الشعب وملوكه، إلا الخيال القوى القادر على تصوير ما كانت عليه في الأيام الخوالي.

وأوقع من هذه في النفس قطع من الفسيفساء الرومانية منقولة على ما يظهر عن رسوم هلنستية. لقد كانت الفسيفساء من النون القديمة في مصر وأرض الجزيرة، ثم أخذها عنهما اليونان وسموا بها إلى أعلى الدرجات، فكانت الصور تقسم بالخطوط إلى مربعات صغيرة، وكانت المكعبات الرخامية الدقيقة تلون بحيث إذا وضع بعضها إلى جانب البعض الآخر مثلت الصورة تمثيلاً لا يبليه الزمان، ولا تزال قطع من الفسيفساء محتفظة بألوانها تقص علينا القصة القديمة وإن كانت قد وطأتها أرجل لا يحصى عديدها. وقد عُثر في بمبياي على صورة تمثل واقعة إسوس، ويرى بعضهم أنها ذات صلة بصورة يونانية من تصوير فلكسينوس (وإن كان هذا مشكوكاً فيهِ). وتتكون هذه الصورة من نحو 1.500.000 حجر، لا تزيد مساحة كل منها على مليمترين مربعين أو ثلاثة مليمترات، ويبلغ طول هذه الفسيفساء كلها ست عشرة قدماً، ويبلغ عرضها ثماني أقدام. وقد ألحق بها الزلزال وثوران البركان اللذان نكبت بهما بمبياي في عام 79م. ضرراً بليغاً، ولكن ما بقي منها يكفي للدلالة على ما كانت تمتاز به هذه الصورة من براعة وقوة. ففيها يرى الإسكندر وقد اسود جسمه وانتفش شعره من وهج الشمس وقذارة الماء، يوجه الهجوم وهو على ظهر جواده بوسفلسوس Bucephalus، ولا يبعد إلا بضع أقدام عن مركبة دارا الحربية. وقد ألقى عظيم من عظماء الفرس نفسه بين الملكين، وتلقى في جسمه طعنة من رمح الإسكندر. وينحني دارا من مركبته نحو صديقه المجندل، غير عابئ بما يتعرض له من الخطر (لأن الإسكندر يوجه إليه طعنته الثانية) ووجهه مليء بالقلق والحزن. ويهجم فرسان الفرس لينقذوا مليكهم، ويظل رمح الإسكندر متزناً في الهواء. وأهم ما في هذه الصورة وأبدعه هو تمثيل العواطف الكثيرة المعقدة في وجه الإسكندر؛ ولكن أجمل رأس في هذه المجموعة كلها هو رأس جواده. وليس في الفسيفساء كلها ما هو أعظم من هذه القطعة.

الفصل الثالِث: النحت

لم تبلغ التماثيل من الكثرة في عصر من العصور مثل ما بلغته في العصر الهلنستي، فقد كانت الهياكل والقصور، والدور والشوارع، والحدائق والبساتين كلها غاصة بالتماثيل التي تصور كل ناحية من نواحي الحياة البشرية وكثيراً من مظاهر العالم النباتي والحيواني. وكانت تمثيل نصفية تخلد إلى وقت ما الموتى من الأبطال والمشهورين من الأحياء؛ وانتهى الأمر بأن نحتت من الحجارة تماثيل للمعاني المجردة كالحظ، والسلام، والنميمة، والفرصة السانحة.

وقد صنع يوتكيديز السكيوني Eutychides of Sicyon تلميذ ليسبوس Lysippus لمدينة أنطاكية أنموذجاً ذائع الصيت لتمثال الحظ ليمثل فيه روح المدينة وأملها. وواصل تماخوس Timachus وسفسودوتسوس Cephisodotus ابنا بركستليز تقاليد النحت الأثيني الظريفة. وفي البلوبونيز طبقت شهرة دمفون المسيني Damphon of Messene الخافقين حين نحت مجموعته الضخمة المكونة من دمتر، وبرسفوني، وأرتميس. غير أن الكثرة الغالبة من المثالين الجدد كانت تتبع أقرب طريق ينقذها من الموت جوعاً ألا وهو تزيين قصور الملوك والعظماء اليونان الشرقيين. ونشأت في جزيرة رودس في القرن الثالث مدرسة في النحت ذات طابع خاص لا مثيل له في غيرها من المدارس. فلقد كان في الجزيرة مائة تمثال ضخم يكفي الواحد منها على حد قول بلني، لأن ينشر في الآفاق شهرة مدينة. وكان أعظمها كلها تمثال ضخم من البرونز لهليوس Helios إله الشمس صنعه كاريز اللندوسي Chares of Lindus حوالي عام 280. وتقول رواية ضعيفة إن كاريز هذا قد انتحر حين رأى أن نفقة التمثال قد زادت كثيراً على ما كان مقدراً لها، وإن لاكيز اللندوسي Laches of Lindus أتم التمثال. ولم يكن هذا التمثال مقاماً إلى جانبه ويعلو إلى ارتفاع مائة قدم وخمس أقدام؛ ويوحي هذا الحجم بأن ذوق أهل رودس كان يتجه نحو المظاهر الفخمة والضخامة، ولكن لعل الرودسيين كانوا يستخدمون منارة للسفن ورمزاً للجزيرة. وإذا جاز لنا أن نصدق ما جاء في قصيدة ديوان الشعر اليوناني(15) فإن هذا التمثال كان يرفع بيده ضوءاً وأنه كان يرمز إلى الحرية التي تستمتع بها رودس-وتلك سابقة عجيبة لتمثال شهير في أحد الثغور الحديثة . وكان هذا التمثال بلا ريب يُعد إحدى عجائب الدنيا السبع؛ ويقول بلني أنه:

"قد ألقاه على الأرض زلزال بعد ست وخمسين عاماً من إقامته؛ وإنه قل ما يوجد من الرجال من يستطيع تطويق إبهامه بذراعيهِ، وإن أصابع يديه أكبر من أجسام معظم التماثيل، وإنه إذا ما كسرت أطرافه شوهد في داخل الجسم كهوف واسعة مفتوحة. ويُرى في داخله أيضاً صخور ضخمة أراد المثال أن يثبت بها التمثال في موضعه أثناء اشتغاله بإقامته. ويقال إنه قضى في نحته اثنتي عشرة سنة، وإن نفقاته بلغت ثلاثمائة وزنة-وقد حصلت الجزيرة على هذا المبلغ من آلات الحرب التي تركها دمتريوس وراءه بعد حصاره الفاشل للجزيرة ".

ويكاد يضارع هذا التمثال في شهرته التاريخية مجموعة أخرى من صنع المدرسة الرودسية تُعرف باسم اللاؤكؤن Laocoon. وقد شاهد بلني هذه المجموعة في قصر الإمبراطور تيتس، وعُثر عليها عام 1506م في حمامات هذا الإمبراطور؛ ولا يكاد يخامرنا أدنى شك في أنها هي المجموعة الأصلية التي نحتها أجسندر Agesander، وبليدوروس Polydorus، وأثينودوروس Athenodorus من قطعتين كبيرتين من الرخام في القرن الثاني أو الثالث قبل الميلاد(18). وقد هز كشفها مشاعر إيطاليا في عهد النهضة وكان لها أعمق الأثر في ميكل أنجلو الذي حاول عبثاً أن يعيد إلى التمثال الأوسط فيها ذراعه اليمنى الضائعة . وكان لاؤكؤون الذي تسمى المجموعة باسمه كاهناً طروادياً نصح الطرواديين بأن لا يقبلو ا الحصان الخشبي حين بعث به اليونان إليهم وقال لهم، كما يروي فرجيل، "أني أخشى اليونان حتى وهم يحملون إلينا الهدايا Timeo Danaos et Dona Ferentes(19)". وأرادت أثينا التي تحب اليونان أن تعاقبه على حكمته فأرسلت إليهِ حيتين لتقتلاه. فقبضتا أولاً على ولديهِ، وأبصرهما لاؤكؤون فهجم عليهما لينقذهما، فوقع بين طيات الحيتين، وانتهى الأمر بأن طُحنت أجسامهم جميعاً وماتوا من سم أنياب الحيتين. ولقد أجاز المثالون لأنفسهم ما أجازه فرجيل لنفسهِ (وما أجازه لنفسه سفكليز في فلكتيتس) فعبروا عن الألم بقوة، ولكن النتيجة لا تتفق وما في طبيعة الحجر من دوام. إن الألم في الأدب وفي الحياة عادةً لا يدوم؛ أما في اللاؤكؤون فأن صرخة الألم قد دامت دواماً غير طبيعي، والناظر إليها لا يتأثر كما يتأثر بحزن دمتر الصامت . على أن الذي يثير إعجابنا هو براعة الفكرة وإتقان التنفيذ. نعم إن العضلات قد بولغَ فيها، ولكن أطراف الكاهن الشيخ، وجسمي ولديهِ قد صيغا صياغة مثلت في كثير من الهيبة والتحفظ ولعلنا لو عرفنا القصة قبل أن نشاهد المجموعة لتأثرنا بها كما تأثر بلني، الذي ظنها أعظم عمل من أعمال الفن اللدن(20).

وقامت في مراكز يونانية أخرى مدارس زاهرة للنحت في هذا العصر الذي لم يقدره الناس حق قدره؛ غير أن الإسكندرية قد انقلبت أرضها وتبدلت مبانيها مراراً كثيرة في أثناء تاريخها الطويل، فلم تحتفظ بما أقامه الفنانون اليونان للبطالمة من أعمال؛ وكل ما بقي من الأعمال الجليلة الشأن هو تمثال النيل الوقور المحفوظ في متحف الفاتيكان والذي يسنده ستة عشر طفلاً ترمز إلى الستة عشر قيراطاً التي يعلوها النهر في فيضانه. وقد نحت مثال يوناني من صيدا عدداً من التوابيت لطائفة غير معروفة من الكبراء أحسنها كلها التابوت المسمى خطأ بتابوت الإسكندر والمحفوظ في متحف اسطنبول. ويضارع ما فيه من الحفر ما في إفريز البارثنون وإن قل عنه في الكم؛ فالصور جميلة متقنة التناسب، والنحت قوي ولكنه واضح، والألوان الهادئة التي لا تزال عالقة بالحجارة تدل على العون الذي كان يلقاه النحت اليوناني من فن التصوير. وصب أبلونيوس وتورسكس في ترالس Trallas من أعمال كاريا Caria حوالي 150ق.م. مجموعة ضخمة من البرنز لرودس تُعرف الآن باسم ثور فارنيز. وتتألف هذه المجموعة من غلامين وسيمين يسيطان درسي Dirce الجميلة ويدفعانها إلى قرني ثور وحشي، لأنها أساءت معاملة أمهما أنتيوبي Antiope التي تنظر إليهما راضية مطمئنة اطمئناناً تعافه النفس . وفي برجموم صب المثّالو ن اليونان من البرنز عدة مجموعات حربية أقامها أتلس أول الأمر في عاصمة ملكه ليخلد بها ذكرى صد غارات الغاليين. وأراد أتلس أن يعبر عما تشعر به الثقافة اليونانية بأجمعها من فضل أثينة عليها، ولعله أراد أيضاً أن يذيع شهرته، فأهدى صوراً من هذه المجموعة لتقام على الأكربوليس بأثينة. وقد بقيت قطع صغيرة منها في صورة الغالي المحتضر المحفوظ في متحف الكبتولين، وفي الصورة المسماة خطأ بيتس وأرّيا -وهي صورة غالي يؤثر الموت على الأسر فيقتل زوجته أولاً ثم يثني بنفسه- وفي قطع أخرى أصغر منها منتشرة الآن في مصر وأوربا. ولعل من هذه المجموعة أيضاً صورة الأمزونة الميتة التي لا عيب في تفاصيلها كلها عدا ثدييها الذين بلغا من الكمال حداً لا يتصوره العقل. وتكشف هذه الصورة عن تحفظ في التعبير عن الانفعالات شبيهة بما كان في عصر اليونان الزاهر. فالرجال المغلوبون يقاسون الآلام والأحزان المبرحة، ولكنهم يموتون وهم صابرون؛ وقد أجاز المنتصرون للفنانين أن يمثلوا فضائل أعدائهم كما يمثلون هزيمتهم. ولسنا نتبين هنا أي دليل على نقص القدرة على التفكير أو دقة ملاحظة أجزاء الجسم، أو مهارة التمثيل أو الصبر عليه. ولا يكاد يقل عن هذه المجموعة كمالاً النقش العظيم الذي كان يمتد على طول قاعدة مذبح زيوس وأكربوليس برجموم، والذي يقص مرة أخرى قصة الحرب التي نشبت بين الآلهة والجبابرة-ويبدو أن هذا النقش تمثيل متواضع للحرب بين أهل برجموم والغاليين. والنقش هنا شديد الازدحام، ويبدو أحياناً عنيفاً عنفاً مسرحياً، ولكن بعض رسومه تضارع خير ما أنتجه الفن اليوناني. فصورة زيوس التي لا رأس لها منحوتة بقوة لا تقل عن قوة اسكوباس Scopas، والإلهة هكتي Hecate مثال في الرشاقة والجمال بين أهوال الحرب وفظائعها.

وكان هذا العصر غنياً بما فيه من روائع الفن التي لا يعرف أصحابها والتي تكاد تشمل صوراً لجميع الآلهة الكبار، ونذكر منها رأس زيوس الفخم الذي عُثر عليه في أتركولي Atricoli وتمثال لودوفيزي هيرا Lodovisi Hera المحفوظ في متحف ترمي، وقد أعجب بهما جيتة في شبابه إعجاباً حمله على أن ينقل معه قالبين لهما إلى ألمانيا كأنهما تذكاران حقيقيان أهداهما إليه جوف ويونو, أما أبلو بلفدير الذي كان من قبل موضع الإعجاب فهو فاتر متكلف خال من دلائل الحياة، ولكنه مع ذلك أزكى نار الحماسة في قلب ونكلمان منذ قرنين من الزمام(21). ويختلف أشد الاختلاف عن هذا التمثال الأملس الضعيف تمثال هرقل الفانيزي الذي نقله جليكون Glycon الأثيني عن أصل له يُعزى إلى ليسبوس-وجسمه الضخم كله عضلات، وكله ملل، وكله حنو، ووجهه كله عجب ودهشة-كأن القوة كانت تسأل نفسها ذلك السؤال الذي لم يجب عن أحد قط: ماذا يجب أن يكون هدفها؟ أما أفرديتي فقد أخرج لها ذلك العصر تماثيل لا يقل عنها في عددها إلا عبادها وحدهم؛ وقد بقي عدد من هذه التماثيل معظمها مما نقله الرومان عن أصولها اليونانية. غير أن تمثال أفرديتي ميلوس المحفوظ في متحف اللوفر والمعروف فيه باسم زهرة ميلو يبدو أنه تمثال يوناني أصيل نُحت في القرن الثاني قبل الميلاد. وقد عثر على هذا التمثال في ميلوس عام 1820 بالقرب من قطعة من القاعدة نقشت عليه الحروف ساندوس Sandos، وربما كان أجسندر الأنطاكي واسمه مأخوذ من سرادق الفاتيكان الذي وضع فيه التمثال أولاً وهو الذي نحت هذا التمثال العادي المتواضع.

وليس لوجه التمثال ذلك الجمال الرقيق الذي يزدان به وجه التمثال الموضوعة صورته في الصفحة الأولى من هذا المجلد، ولكن الجسم نفسه ممتلئ بالصحة التي يكون الجمال ثمرتها الطبيعية. ولسنا نرى فيهِ ذلك الخصر النحيل الذي لا يتفق مع الجسم الملئ والوركين المكتنزتين... ولم يبلغ هذا الكمال كله تمثالا فينوس الكبتولينية، وفينوس الميديشية . وتمثال فينوس كلبيجي Venus Callpyge أو فينوس ذات الإليتين الجميلتين يثير الغريزة الجنسية قوية، وقد غطيت فيه مفاتنها لكي تكشف عنها، وتلتفت لتبدي إعجابها بردفيها في البحيرة. وأوقع من هذه التماثيل كلها في النفس تمثال نَيْكي Nike أو نصر سموثريس الذي وجد في ذلك المكان عام 1863، وهو الآن أروع آيات النحت في متحف اللوفر . وقد مثلت إلهة النصر كأنها تحط وهي طائرة بأقصى سرعتها على مقدم سفينة مسرعة، وتقودها إلى الهجوم. ويخيل إلى الرائي أن جناحيها العظيمتين يجذبان السفينة ضد النسيم الذي يعبث بأثوابها. وهذا أيضاً تسيطر على التمثال فكرة اليونان عن المرأة، وهي أنها ليست متعة حلوة فحسب، بل أنها فوق ذلك أم قوية. فليس جمالها هو جمال الشباب الضعيف الزائل بل هو نداء المرأة الذي يدوم طول الحياة للرجل لكي يسمو إلى الأعمال الجليلة؛ وكأنما أراد الفنان أن يمثل هنا السطور الأخيرة من فوست Faust للشاعر جيته. لعمري أن حضارة تستطيع أن تفكر في هذا التمثال وأن تنحته لحضارة أبعد ما تكون عن الموت.

ولم تكن الآلهة أهم ما يعنى به المثالون الذين ازدان بهم خريف الفن اليوناني؛ لقد كان هؤلاء الفنانون ينظرون إلى أولمبس نظرتهم إلى معين من الموضوعات لا أقل من ذلك ولا أكثر. ولما نضب هذا المعين من كثرة ما أخذ من انتقلوا إلى الأرض نفسها وسرهم أن يمثلوا ما في الحياة البشرية من حكمة وجمال، وغرابة وسخافات. فنحتوا أو صبوا رؤوساً ذات روعة اهومر، ويوربديز، وسقراط. وصنعوا عدداً من التماثيل الملساء الرقيقة لهرمفرديتي Hermaphrodite يستلفت العين جماها الغامض؛ وهي قائمة في متحف العاديات باسطنبول، أو في معرض بورجا في رومة، أو في متحف اللوفر. وكان الأطفال في هذه التماثيل يقفون وقفات طبيعية منشطة، كوقفة الغلام الذي يخرج شوكة من قدمه؛ والغلام الأخر الذي يقاتل إوزة . وأجمل ما في هذا الصنف من التماثيل تمثال الشاب القائم للصلاة والذي يتجلى الإيمان في وجهه، ويعزى هذا التمثال إلى بؤيثس Boëthus تلميذ ليسبوس . وكان المثالون يذهبون إلى الغابات ويصورون جن الغاب كجنية بربريني المحفوظ تمثالها في ميونخ Munich أو الساترات الفرحة كتمثال سلينس السكرى المحفوظ في متحف نابلي. وكانوا يضعون في مواضع متفرقة بين صورهم الوجنتين المتوردتين والحيل الخادعة الماكرة التي يعزوها الأقدمون إلى إله الحب.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرّابع: تعليق

إن إقحام الفكاهة الفجائي على النحو الذي وصفناه في الفصل السابق في موضوعات النحت اليونانية التي كانت من قبل موضوعات مقدسة الطابع، لمن الخصائص التي يمتاز بها الفن الهلنستي. ولقد احتفظ كل متحف من المتاحف بين ما أحتفظ به من آثار ذلك العصر بتمثال لإلهة الحقول يضحك، أو إله الرعاة يغني، أو إله الشراب يصخب، أو لغلام يستخدم فوارة يخرج منها الماء بطريقة يأباها الذوق والأدب. ولعل عودة الفن اليوناني إلى آسية قد أرجعت له ما كاد يفقده في عهد اليونان القديم، حين كان خاضهاً للدين والدولة، من اختلاف في الشكل، ومن شعور وتحمس قويين. لقد بدأ الفنانون وقتئذ يستمتعون بالطبيعة بعد أن كانوا من قبل يعبدونها. ولم يكن هذا لأن الاعتدال القديم قد زال: فها هو ذا تمثال شاب سبياكو Subiaco في متحف ترمي، وتمثال أدريدني النائمة (Adriadne)، في متحف الفاتيكان، والفتاة الجالسة في قصر الكنسرفتوري كلها تواصل تقاليد بركستيليز وما فيها من رقة؛ وظل كثيرون من المثالين في أثينة طوال ذلك العصر يقومون النزعات "الاعتدالية" التي فشت في أيامهم بعودتهم متعمدين إلى أنماط القرن الرابع والقرن الخامس، بل إنهم من حين إلى حين يعودون إلى الوقار القديم وقار القرن السادس. ولكن روح العصر كانت روح التجارب، والفردية، والنزعة الطبيعية، والواقعية، مع وجود تيار قوي خفي نحو الخيال، والمثالية، والعاطفية، والتأثير المسرحي. وأخذ الفنانون يعنون بالإفادة من تقدم التشريح، ويكثرون من استخدام النماذج الحية في مناحتهم ومراسمهم؛ فكان المثالون ينحتون تماثيل لا ينظر إليها الإنسان من الأمام فحسب، بل ينظر إليها من جميع النواحي. وأخذوا يستخدمون مواد جديدة-كالبلور، والعقيق الأبيض، والياقوت، والزجاج، والبازلت القاتم اللون، والرخام الأسود، والرحام السماقي ليقلدوا لون الزنوج، أو وجوه الساترات المتوردة التي تزيد الخمر بريقاً.

وكان خصب اختراعهم يضارع سيطرتهم الفنية؛ ذلك أنهم قد ملوا تكرار الأنماط القديمة، وكأنهم عرفوا مقدماً ما يعيبه رسكن على الفنانين ، فاعتزموا أن يظهروا في صورهم ما للأشخاص والأشياء من وجود حقيقي ومن خواص فردية. ولم يعودوا يقتصرون على تمثيل ما هو كامل وجميل، كالرياضيين والأبطال، والآلهة، بل أخذوا يخرجون صوراً من الحياة الريفية المألوفة، أو تماثيل من الآجر للصناع، وصائدي السمك، والموسيقيين، والبائعين والمشترين في الأسواق، ومدربي الخيول، والخصيان. وبحثوا عن موضوعات غير مطروقة في الأطفال والفلاحين، وفي شخصيات ممتازة كسقراط، وفي رجال شيوخ حاقدين كدمستين، وفي وجوه قوية تكاد تكون وحشية كوجه يوثدموس Euthydemus الملك البكتري اليوناني، وفي أماكن مهجورة منبوذة كتمثال امرأة السوق العجوز المحفوظ في متحف نيويورك. وقد أدركوا وأحبوا تنوع مظاهر الحياة وتعقدها. ولم يترددوا في أن يكونوا في تماثيلهم وتصويرهم شهوانيين؛ فلم يكونوا آباء يحرصون على عفة بناتهم، أو فلاسفة تقض مضاجعهم ما تؤدي إليه النزعة الفردية الأبيقورية من عواقب اجتماعية خطيرة؛ بل كانوا يشاهدون مفاتن الجسم، وينحتونها، ويبرزون الجمال الذي يستطيع أن يسخر إلى حين من الزمن وما يحدثه فيه من آثار. ولقد تحرر هؤلاء المثالون من قيود العرف التي كانت تسود العصر الزاهر القديم، فانهمكوا في إبراز العواطف الرقيقة، وصوروا بإحساس قوي وإخلاص عظيم رعاة يموتون بعد أن تكشفت لبصائرهم حقيقة الحب وآلامه، ورؤوساً جميلة سابحة في أحلام اليقظة، وأمهات يفكرن بحنان في أبنائهن: لقد بدت لهم هذه الموضوعات أيضاً جزءاً من الحقيقة الخليقة بالتسجيل؛ ثم واجهوا في آخر الأمر حقائق الألم والحزن، والفواجع المحزنة، والموت في شرخ الشباب، وعقدوا النية على أن يجدوا لها مكاناً فيما يمثلونه من نواحي الحياة البشرية. وليس ثمة دارس مستقل في تفكيرهِ يطاوعه عقله على أن يصدر حكماً عاماً شاملاً على اضمحلال العصر الهلنستي؛ فما أسهل أن يتخذ حكم عام كهذا حجة يتذرع بها لاختتام قصة بلاد اليونان قبل أن يكشف عما كان لها من شأن في الحضارة العالمية. نعم إننا نشعر في ذلك العصر ببطيء في قوة الابتكار، ولكن هذا يعوضه كثرة منتجات الفن بعد أن أصبحت لها السيطرة التامة على أدواته. وإذ كان الشباب لا يدوم أبداً، وإذ لم يكن لمفاتنه أعلى مقام في الحياة؛ فقد كان لا بد أن يحل الخمود الطبيعي بحياة بلاد اليونان كما يحل الخمود بكل حياة، وأن تتقبل عهد الشيخوخة والنضوج. لقد دب دبيب الاضمحلال في البلاد، وأخذت عوامل الضعف تعمل عملها في الدين والأخلاق والآداب، ووسمت بميسمها أعمالاً فردية في أماكن متفرقة في البلاد؛ ولكن قوة العبقرية اليونانية الدافقة أبقت الفن اليوناني، كما أبقت العلوم والفلسفة اليونانية، قرب ذروته إلى آخر أيام ذلك العصر، ولم يبلغ هيام اليونان بالجمال ولا قدرتهم وصبرهم على تجسيده في أيام شبابهم وعزلتهم مثل ما بلغه هيامهم وقدرتهم وصبرهم في العصر الهلنستي، أو كان لهذه الصفات قوة دافعة وآثار عظيمة في مدن الشرق الغافلة في العهد الأول مثل ما كان لها في هذا العصر الذي نتحدث عنه. وفي هذه المدن وجدتها رومة ونقلتها إلى سائر بلاد العالم.