قصة الحضارة - ول ديورانت - م 2 ك 5 ج 26

صفحة رقم : 2704

قصة الحضارة -> حياة اليونان -> انتشار الهلنستية -> الكتب -> دور الكتب واليهود


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البابُ السَّادسُ والعِشرون: الكتب

الفصل الأوَّل: دور الكتب والعلماء

في كل ميدان من ميادين الحياة الهلنستية، عدا ميدان التمثيل، نجد ظاهرة بعينها-نجد الحضارة اليونانية تنتشر ولا تنعدم. فقد كانت أثينة تحتضر، وكانت المحلات اليونانية في الغرب، عدا سرقوسة، آخذة في الانهيار والزوال؛ ولكن المدن اليونانية في مصر وفي الشرق كانت في ذروة مجدها المادي والثقافي. وقد كتب بولبيوس، وهو رجل واسع التجارب، غزير العلم بالتاريخ، حصيف الرأي، صادق الحكم، كتب في عام 148 ق.م عن هذه الأيام "التي تتقدم فيها العلوم والفنون بخطى سريعة(1)"؛ وهي نغمة ألفنا سماعها من غيره من الكتاب. وبفضل انتشار اللغة اليونانية واتخاذها لغة عامة وجدت وحدة ثقافية دامت في بلاد البحر الأبيض المتوسط ما يقرب من ألف عام. فكان جميع المتعلمين في الإمبراطوريات الجديدة يتعلمون اللغة اليونانية ويتخذونها وسيلة للصلات الدبلوماسية، ولنشر الآداب والعلوم؛ وكان الكتاب المؤلف باليونانية يفهمه كل متعلم تقريباً من غير أنباء اليونان في مصر والشرق الأدنى. وكان الناس إذا تحدثوا عن العالم المعمور (الأيكوميني Oikoumene) تحدثوا عنه بوصفهِ عالماً ذا حضارة واحدة، قد أصبحت له نظرة عالمية للحياة أقل بعثاً للهمم من النظرة القومية الضيقة المتغطرسة التي كانت تسود دول المدن ولكنها قد تكون أكثر منها مطابقة لمقتضيات العقل.

ولهذه الدائرة الواسعة من القراء كتب آلاف الكتاب مئات الآلاف من الكتب، ولدينا أسماء آلف ومائة مؤلف هلنستي؛ وما من شك في أن من لا يعرف أسماءهم يخطئهم في الحصر؛ ونشأ خط سريع دارج لتسهيل الكتابة، بل إننا لنسمع في واقع الأمر منذ القرن الرابع عن طرق للاختزال يُستطاع بها "التغيير عن بعض الحروف والحركات بشروط مختلفة الأوضاع". وظلت الكتب تُكتب على أوراق البردي المصري حتى حرم بطليموس الرابع تصدير هذه المادة من مصر لعله يمنع بذلك نمو مكتبة برجموم. ورّد يومنيز الثاني على هذا العمل بأن شجع صناعة معالجة جلود الضأن والعجول على نطاق واسع، وكانت هذه الجلود تُستعمل للكتابة في بلاد الشرق من زمن بعيد، وسرعان ما أصبح الرق المصنوع في برجموم والمشتق اسمه الأوربي Parchment من اسمها ينافس الورق بوصفهِ أداة للتخاطب وبقل الآداب.

وبعد أن تضاعف عدد الكتب إلى هذا الحد أصبح إنشاء دور الكتب ضرورة محتومة. كانت هذه الدور قد قامت في مصر وبلاد النهرين قبل ذلك الوقت، غير أنها كانت فيهما من وسائل الترف التي يختص بها الملوك؛ ولكن يبدو أن مكتبة أرسطو كانت أولى مجموعات الكتب الخاصة الكبيرة. وفي وسعنا أن نقدر حجم هذه المكتبة وقيمتها إذا عرفنا أنه دفع ما قيمته 18.000 ريال أمريكي ثمناً لجزئها الذي اشتراه من اسبيوسبوس خليفة أفلاطون. وأوصى أرسطو بكتبه إلى ثاوفراسطوس، ثم أوصى بها هذا (في عام 287) إلى نيلوس Neleus، ونقلها هذا إلى اسكبسيس Scepsis في آسية الصغرى، حيث دفنت في باطن الأرض، كما تقول بعض الروايات، لتنجو من شره ملوك برجموم العلمي. وبعد أن ظلت هذه الكتب مدفونة على هذا النحو البالغ الضرر، بيعت حوالي عام 100 ق.م. إلى أبلكون Apellison التيوسي of Teos الفيلسوف الأثيني. ووجد أبلكون أن فقرات كثيرة في الكتب قد أتلفتها رطوبة الأرض، فكتب منها نسخاً جديدة، وملأ الثغرات المفقودة بقدر ما هداه إليهِ تفكيره(3)؛ وقد يكون هذا هو السبب في أن أرسطو أكثر الفلاسفة جاذبية في التاريخ القديم. ولما استولى سلا Sylla على أثينة عام 86 أخذ مكتبة أبلكون ونقلها إلى رومة، حيث سجل أندرنكوس Andronicus العالم الرودسي نصوص مؤلفات أرسطو(4). ونشر هذه النصوص المسجلة-وكان لهذه الحادثة في تاريخ التفكير الروماني أثر لا يقل عن أثر يقظة الفلسفة في العصور الوسطى.

وإن قصة هذه المجموعة وتنقلها من مكان إلى مكان ليدلنا على ما يدين به الأدب لملوك البطالمة لإنشائهم مكتب الإسكندرية العظيمة وجعلها جزءاً من متحفها. لقد بدأ هذه المكتبة بطليموس الأول وأتمها بطليموس الثاني، ثم أضاف إليها مكتبة أصغر منها في معبد سرابيس بإحدى ضواحي المدينة. وقد بلغ عدد ما فيها من الملفات قبل نهاية حكم فلدلفس 532.000 ملف يتكون منها في أكبر الظن مائة ألف كتاب بالمعنى الذي يفهم من هذا اللفظ في هذه الأيام(5). وظل تكبير هذه المجموعة حيناً من الدهر ينافس في قلوب ملوك مصر حبهملتقوية سلطانهم. ومن الشواهد الدالة على ذلك أن بطليموس الثالث أمر أن كل كتاب يصل إلى الإسكندرية يجب أن يودع في المكتبة، وأن تنسخ من صور تُعطى واحدة منها لصاحبه وتجتفظ المكتبة بأصل الكتاب. وطلب هذا الملك صاحب السلطان المطلق إلى أثينة أن تعيره مخطوطات إيسكلس، وسفكليز، ويوربديز، وأودع لديها ما قيمته 90.000 ريال أمريكي ضماناً لعودتها سالمة، فلما أرسلت إليه احتفظ بأصولها ور إليها نسخاً منها، وأبلغ الأثينيين أن يحتفضوا بالمال جزاء له على عمله(6). وانتشرت رغبة الناس في اقتناء الكتب انتشاراً بلغ من اتساعه أن نشأت طائفة من الناس تخصصت في صبغ المخطوطات الجديدة وإتلافها ليبيعوها لجامعي النسخ الأولى على أنها كتب قديمة(7).

وما لبثت الكتبة أن زادت على المتحف في أهميتها وتعلق الناس بها، وأصبح منصب أمين المكتبة أكبر المناصب مرتباً عند الملك، وصار من اختصاصاته أن يكون المعلم الخاص لولى العهد. وقد بقيت لنا أسماء هؤلاء الأمناء وإن اختلفت بعضها عن بعض في المخطوطات المختلفة. ويذكر أحدث ثبت لها أسماء الستة الأمناء الأولين وهم: زنودوتس، وأبلونيوس الرودسي، وأرستثنيز القوريني، وأبلونيوس الإسكندري، وأرسطوفان البيزنطي، وأرستارخوس السمثراسي؛ وإن اختلاف أصولهم ليوحي مرة أخرى بوحدة الثقافة الهلنية. ولا يكاد يقل عن هذه الأسماء أهمية كلمخوس الشاعر والعالم الذي صنف هذه المجموعة ونظمها في فهرس عام بلغ عدد ملفاته مائة وعشرين ملفاً. وإنا لتطوف بخيالنا صورة طائفة كبيرة من النساخين، نظن أنهم من العبيد، ينسخون صوراً ثانية من أصول الكتب القيمة، ومعهم عدد ل يحصى من العلماء يقسمون هذه الكتب مجموعات. وكان بعض هؤلاء الرجال يكتبون تواريخ مختلف الآداب والعلوم، وبعضهم يخرجون للناس "طبعات" من الروائع القيمة، ومنهم من كانوا يكتبون تعليقات وشروحاً للنصوص ليستنير بها غير الأخصائيين وقراء الأجيال التالية. وقد أحدث أرسطوفان Aristophanes البيزنطي انقلاباً عظيماً في الأدب بفصل الجمل المستقلة والتبعية في المخطوطات القديمة بعضها عن بعض بالحروف الكبيرة (Capitals)، وبعلامات الترقيم، وكان هو الذي اخترع النبرات التي تضايقنا أشد المضايقة في قراءة الكتابات اليونانية. وقد بدأ زنودوتس تهذيب الألياذة والأوذيسة، وواصل أرسطوفان عمله، وأتمه أرستارخورس، وكانت نتيجة عملهم هو النص الحالي لهاتين الملحمتين، وهم الذين شرحوا ما غمض فيها شرحاً يدل على غزارة الاطلاع. ولم ينقضِ القرن الثالث حتى أضحت الإسكندرية بفضل متحفها ومكتبتها وعلمائها العاصمة الذهنية للعالم اليوناني في كل فرع من فروع العلم والأدب عدا الفلسفة.

وما من شك في أن مدناً هلنستية أخرى كانت بها دور كتب، يدل على ذلك أن علماء الآثار النمساويين قد كشفوا عن بقايا مكتبة جميلة الشكل تابعة لبلدية إفسوس، ونسمع أن مكتبة عظيمة قد احترقت حين خرب سبيو Scipio مدينة قرطاجة. ولكن المكتبة الوحيدة التي يمكن موازنتها بمكتبة الإسكندرية هي مكتبة برجموم. ذلك أن ملوك هذه الدولة القصير الأجل كانوا يحسدون حسد المستنيرين ملوك البطالمة على جهودهم الثقافية، وقام يومنيز الثاني بإنشاء مكتبة برجموم، واستقدم لأبهائها طائفة من أعظم علماء اليونان. وأخذت مجموعة الكتب التي بها تنمو نمواً سريعاً، حتى بلغ عددها، حين أهداها أنطونيوس لكليوبطرة ليعوض بها ذلك الجزء من مكتبة الإسكندرية الذي احترق أثناء الثورة على قيصر عام 48 ق.م.، مائتي ألف ملف. وبفضل هذه المكتبة، وما كان لملوك برجموم من ذوق أتيكي حسن أضحت هذه المدينة في أواخر العصر الهلنستي مركزاً لأنقى مدرسة من مدارس النثر اليوناني، وهي مدرسة لم تكن ترى أن لفظاً ما يونانياً نقياً إلا إذا كان قد ورد في كتابات العصر القديم. ونحن مدينون إلى حماسة هؤلاء الأدباء بما بقي من روائع النثر الأتيكي.

ولقد كان هذا العصر أولاً وقبل كل شيء عصر النابهين والعلماء، عصراً أصبحت الكتابة فيهِ مهنة لا هواية، ونشأت فيهِ جماعات وحلقات يتناسب تقدير بعضها مواهب البعض الآخر تناسباً عكسياً مع مربع المسافة بينها. وبدأ الشعراء يكتبون للشعراء، وأضحت كتاباتهم لذلك متكلفة مصطنعة، وأخذ العلماء يكتبون للعلماء، فكانت كتاباتهم خالية من البهجة والروعة، وشعر المفكرون أن إلهام اليونان المبدع كاد ينضب معينه، وأن أبقى خدمة يستطيعون أدائها هي أن يجمعوا، ويحفظوا، ويدونوا، ويشرحوا الأعمال الأدبية التي أنشأها عصر أسمى وأعظم جرأة من عصرهم. لذلك أوجدوا طرق نقد النصوص والآداب بجميع أشكالهِ تقريباً، وحاولوا ان يستخرجوا خلاصة المخطوطات الكثيرة التي كانت بين أيديهم، وأن يرشدوا الناس إلى ما يجب أن يقرؤوه منها. فوضعوا قوائم "بأحسن الكتب" و "شعراء البطولة الأربعة" و "التسعة المؤرخين" و "العشرة الشعراء الغنائيين" و "العشرة الخطباء" وما إلى هذا(9). وألفوا سيراً لكبار الكتاب والعلماء، وجمعوا وأنجوا من الدمار المعلومات المشتتة التي لا نعرف الآن غيرها عن هؤلاء الرجال. وكتبوا خلاصات في التاريخ والآداب، والتمثيل، والعلم، والفلسفة(10)؛ وقد ساعدت هذه الخلاصات التي كانت أشبه "بالطرق المختصرة للمعرفة" على حفظ المؤلفات الأصلية التي لخصتها، وإن كان بعضها قد حل محلها وقضى بغير علم واضعيها على هذه المؤلفات. وأقضَ مضاجع العلماء الهلنستيين تدهور اللغة اليونانية الأتكية الفصحى وحلول الرطانة اليونانية الشرقية المنتشرة في ذلك الوقت محلها، فأخذوا يضعون المعاجم وكتب النحو؛ وأصدرت مكتبة الإسكندرية، كما يفعل المجمع العلمي الفرنسي في هذه الأيام، وقرارات تبين الاستعمال الصحيح للألفاظ والعبارات اليونانية القديمة. ولولا جد هؤلاء العلماء وصبرهم لقضت الحروب، والثورات، والكوارث التي توالت على هذا الجزء من العالم مدى ألفي عام، على هذه "الشذرات الثمينة" التي انتقلت إلينا من حطام التراث اليوناني القديم.


الفصل الثاني: كتب اليهود

لقد احتفظ اليهود وسط هذا الجو المضطرب الذي لف ذلك العصر بحبهم التقليدي للبحث العلمي، وأخرجوا أكثر من نصيبهم من الأدب الخالد الذي أخرج في ذلك العصر. وإلى ذلك العصر تنتمي طائفة من أجمل أجزاء الثورات فقد ألف شاعر يهودي (أو ألفت شاعرة يهودية) قبيل اختتام القرن الثالث نشيد الإنشاد الجميل: في هذا النشيد كل ما حواه السفر اليوناني من سافو إلى ثاوفريطوس من روعة فنية، ولكن فيهِ فوق هذا ما لا يمكن العثور عليه عند أي مؤلف من مؤلفي ذلك العصر-فيه قوة الخيال، وعمق في الشعور، وإخلاص مثالي، حوى من القوة ما يكفي للترحيب بجسم الحب وروحه، وأن يبدل الجسم نفسهُ روحاً. وقد كتب اليهود الهلنستيون وقتئذ-بالعبرية أو الآرامية أو اليونانية-روائع خالدة كأسفار الجامعة، ودانيال، وأجزاء من الأمثال، والمزامير، والجزء الأكبر من الأسفار الإبوكريفية، كتبوا بعضها في أورشليم، ومعظمها في الإسكندرية، وبعضها الآخر في مدائن شرق البحر الأبيض المتوسط. وكتبوا تواريخ كسفر الأخبار وقصصاً صغيرة كإستر ويهوديت، وأناشيد للأسر كسفر طوبيت. وحول كبار العلماء الكتابة العبرية من النمط الآشوري القديم إلى النمط السوري المربع الذي احتفظت بهِ إلى اليوم(11). وإذ كان معظم اليهود في بلاد الشرق الأدنى يتكلمون وقتئذ الآرامية بدل العبرية، فقد أخذ علماؤهم يفسرون لهم الكتاب المقدس بترجمته إلى الآرامية، وافتتحت المدارس لدراسة أسفار موسى، والشريعة، وتفسير القوانين الأخلاقية للشبان الناشئين. وانتقلت هذه الشروح والتعليقات، والإيضاحات من المعلم إلى الطالب جيلاً بعد جيل، فكان منها في العصور التالية معظم المادة التي احتواها التلمود.

وقبل أن يُختتم القرن الثالث كان علماء المجمع العظيم قد فرغوا من نشر الأدب القديم كله وانتهوا من كتب العهد القديم(12). وقد حكموا في ذلك الوقت أن عصر الأنبياء قد انقضى وأن الوحي اللفظي قد انتهى زمنه، وكانت نتيجة هذا الحكم أن كثيراً مما كُتب في ذلك العصر وإن كان مليئاً بالحكمة والجمال لم تُتح له فرصة السند الإلهي، فكان نصيبه أن يصبح جزءاً من أسفار الأبكريفا المنكودة . ولعل بعض أسفارهما مدينة بروعتها الأدبية إلى براعة المترجمين في عهد الملك جيمس، ولكن هؤلاء المترجمين لا يمكن أن يكونوا أصحاب الفضل في تلك العبارات المؤثرة التي تصف سؤالاً للملك أوريل أن يفسر كيف يفلح الخبيثون ويعذب الصالحون؟ وكيف تكون إسرائيل أسيرة ذليلة، فيجيب الملك، بتشبيهات ومجازات قوية ولكن في عبارات سهلة بسيطة أن ليس من حق الجزء أن يفهم الكل أو يحكم عليه.

وتقول مقدمة سفر الحكمة إن هذا السفر ترجمة يونانية تمت في عام 132 لأحاديث باللغة العبرية كتبها يسوع بن سيراك جد المترجم قبل ذلك الوقت بجيلين. وكان يسوع بن سيراك هذا عالماً ورجلاً من رجال الأعمال، رأى بعض أحوال العالم في خلال أسفاره ثم استقر في بلده واتخذ منزله مدرسة للطلاب، وألقى عليهم هذه الأحاديث يبين لهم فيها حكمة الحياة(13). وهو يندد فيها بأغنياء اليهود الذين خرجوا على دينهم ليكون لهم شأن في عالم الكفار؛ ويحذر الشبان من العاهرات والواقفات لهم بالمرصاد في كل مكان، ويعرض عليهم شريعة موسى ويصفها بأنها لا تزال خير هادٍ لهم وسط شرور العالم ومزالقه. ولكنه ليس بالرجل المتزمت في دينه فلا ينحو نحو "المتقين" بل يجد كلمة طيبة يقولها ليدخل بها السرور البريء على قلب محدثه، وهو يندد بالمتصوفين الذين يرفضون الدواء بحجة أن المرض مرسل من عند الله، وأنه لذلك لا يشفيه إلا الله وحده. والكتاب مليء بالحكم أشهرها كلها الحكمة التي تجمع بين الطفل والعصا. ويقول رينان Renan إن "السياط التي يبررها ضاربوها بهذه الحكمة ليُخطئها الحصر بلا ريب(14)". والحق أن هذا السفر العظيم وأنه أكثر حكمة ورأفة من سفر الجامعة.

وقد ورد في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الحكمة أن "الحكمة أول ما أوجده الله، فقد خلقها من بداية العالم". وفي هذه الإصحاح وفي الإصحاح الأول من سفر الأمثال نجد أقدم صورة من صور نظرية "الكلمة"-أي الحكمة-بوصفها خالقاً وسطاً عهد إليها الله تنظيم العالم. وتشخيص الحكمة بهذه الصورة أي جعلها ذكاءً مجسداً يصبح من المبادئ الرئيسية ذات الشأن في الدين اليهودي خلال القرون السابقة لظهور المسيح مباشرة. وإلى جانب هذا ترى فكرة الخلود الشخصي تزداد وضوحاً شيئاً فشيئاً. وفي كتاب أخنوخ الذي كتبه على ما يظهر عدد من الكتاب المختلفين في فلسطين بين عامي 170،66 قبل الميلاد يصبح الأمل في ملكوت السماوات حاجة أساسية؛ وسبب ذلك أن ما يناله الأشرار من خير وفلاح وما يلقاه الأتقياء والصالحون والأوفياء من سوء المصير لم يعد يُستطاع تحمله إلا إذا عمرت صدور الناس بهذا الأمل. وقد بدا للناس أن الحياة والتاريخ إذا تجردا من هذا الأمل كانا من عمل الشيطان لا من فعل الله. وسينزل مسيح يقيم مملكة السماء في الأرض ويجزي المتقين بالسعادة السرمدية بعد الموت.

ويعبر سفر دانيال عما كان يسود عهد أنتيوخوس الرابع من هول ورعب. فقد حدث حوالي عام 166 حينما كان المؤمنون يُعذَبون ويقتلون لتمسكهم بدينهم، وكان الأعداء المتزايدون يهاجمون المكابيين، أن أخذ أحد "المتقين" على الأرجح على نفسه أن يستثير شجاعة الشعب بأن يصف له ما لاقاه دانيال من العذاب، وما نطق به من التنبؤات في بابل أيام نبوخذنصر. وتداولت أيدي اليهود في السر نسخاً من هذا الكتاب، وقيل عنه إنه من وضع نبي من الأنبياء عاش قبل ذلك العهد بثلاثمائة وسبعين عاماً، وإنه لاقى ألواناً من العذاب أشد مما لاقاه أي يهودي في عصر أنتيوخوس، وإنه خرج منها ظافراً، وتنبأ بأن شعبه سينال من النصر مثل ما ناله هو، وقال إنه إذا كان الصالحون والمؤمنون لم يلقوا ما هم خليقون بهِ من السعادة في هذا العالم، فسوف ينالون جزائهم الأوفى يوم الحساب، حين يُدخلهم الله في ملكوت السموات لينعموا فيها بالسعادة السرمدية ويُلقي بمن عذبوهم في الجحيم الأبدي. وجملة القول أن ما بقي من كتابات اليهود في ذلك العهد يمكن وصفه بأنه أدب صوفي خيالي يهدف إلى تعليمهم وتقوية روحهم ومواساتهم. لقد كانت الحياة نفسها كافية لليهود الذين عاشوا قبل ذلك العهد، ولم يكن الدين وقتئذ طريقاً للفرار من العالم، بل كان تمثيلاً مسرحياً للأخلاق بِشِعر الأيمان، يصور لهم إلهاً قديراً يحكم كل شيء ويرى كل شيء، يثيب على الفضيلة ويعاقب على الرذيلة في هذه الحياة الدنيا. ثم زعزع "الأسر" هذه العقيدة، وجددتها إعادة بناء الهيكل، ثم حطمتها ضربات أنتيوخوس. ووجد التشاؤم الآن الميدان فسيحاً أمامه، ورأى اليهود في كتابات اليونان أفصح تعبير عن



 صفحة رقم : 2714   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> انتشار الهلنستية -> الكتب -> كتب اليهود


مظالم الحياة ومآسيها. وكان اتصال اليهود في هذه الأثناء بأفكار الفرس عن الجنة والنار، وعن الكفاح بين الخير والشر، وانتصار الخير في آخر الأمر، كان هذا كله مما يسر لهم الفرار من فلسفة اليأس؛ ولعل أفكار الخلود التي انتقلت من مصر إلى الإسكندرية، والأفكار التي قامت عليها طقوس اليونان الخفية، لعل هذه وتلك قد تعاونت على أن تبعث في قلوب اليهود في العصرين اليوناني والروماني ذلك الأمل الذي أبقى على كيانهم خلال الحادثات التي مرت بالهيكل والدولة. ومن هؤلاء اليهود، ومن المصريين، والفرس، واليونان، سرت فكرة الثواب والعقاب الأبديين إلى دين جديد أقوى من دين اليهود، وأعانت هذا الدين على أن يضم تحت لوائه عالَماً كان سائراً في طريق الانحلال.


الفصل الثالث: مناندر

بلغ التمثيل في ذلك العهد، كما بلغ غيره من الفنون، ذروته من حيث كمية الإنتاج، ولقد كان لكل مدينة بل كاد يكون لكل بلدة في المرتبة الثالثة دار للتمثيل. وكان الممثلون أحسن تنظيماً مما كانوا في أي عصر سابق، وكان الطلب عليهم كثيراً، وكانوا ينالون أجوراً عالية، ويعيشون من الناحية الخلقية عيشة أرقى من أهل زمانهم. وظل كتاب المسرحيات يكتبون المآسي، ولكن الدهر أسبل عليهم ثوب النسيان، سواء كان ذلك من قبيل المصادفات أو كان سببه ارتقاء أذواق الناس. لكن مزاج أثينة الهلنستية، كمزاج هذه الأيام، كان يفضل قصص المسلاة الحديثة، الخفيفة الروح، النزقة، العاطفية، ذات الخاتمة المفرحة. ولم يبقَ من هذه أيضاً إلا قطع متفرقة، ولكن لدينا نماذج منها غير مشجعة مختلسات بلوتس Plautus وترنس Terence الذين ألفا مسرحياتهما بترجمة المسالي الهلنستية وتحويرها. وقد أغفلت في المسالي الجديدة شؤون الدولة وشؤون الروح العليا التي ألهمت أرسطوفان لأن كتابة هذه المسالي كانت أكثر مما تتحمله طاقة الكتاب الأدبية؛ وكان موضوعها في العادة مأخوذاً من المنزل أو الحياة الخاصة، بتعقب الطرق الملتوية التي تُرفع بها النساء إلى منزلة الكرامة وتؤدي بالرجال مع ذلك إلى الزواج. وترى فيها الحب يسير في طريق النصر لكي يصبح أهم شيء على المسرح؛ وترى مئات الفتيات حائرات بائسات على المسرح ولكنهن ينلن الشرف ويحصلن على الأزواج في آخر المسرحية. ولم يبقَ وجود للملابس القديمة التي كانت تمثل فيها أعضاء الذكور، ولا للخلاعة والفجور الأولين؛ بل كانت تدور القصة في مجال ضيق حول عذرة السيدة المهمة فيها، ولم يكن للفضيلة فيها شأن كبير كشأنها في الصحف اليومية في هذه الأيام. وإذ كان الممثلون يلبسون أقنعة، وكان عدد الأقنعة محدوداً، فإن كاتب المسلاة كان يحيك حبكته وما فيها من دسائس وخطأ في هوية أشخاص المسرحية حول عدد قليل من الأشخاص البلهاء كان يسر النظارة على الدوام أن يميزوهم بعضهم من بعض. وكانت الشخصيات التي تتكرر باستمرار هي شخصية الأب القاسي، والشيخ الهرِم، والخير، والابن المتلاف، والوارثة التي يُخطئ الناس فيظنونها فقيرة، والجندي الصاخب، والعبد الحاذق، والمتملق، والطفيلي، والطبيب، والقس، والفيلسوف، والطاهي، والعشيقة، والقواد.

وكان رافعا علم هذه المسلاة الأخلاقية في أثينة في القرن الثالث هما فلمون Philemon ومناندر Menander. فأما فلمون فلا يكاد يبقى لنا من آثاره شيء سوى صدى شهرته، وكان الأثينيون يحبونه أكثر مما يحبون مناندر، وقد منحوا أولهما من الجوائز أكثر مما منحوا الأخر؛ ولكن فلمون ارتفع بفن تنظيم المصفقين المأجورين في دار التمثيل إلى ذروته؛ وإذ كانت الأجيال المقبلة قد أغفلَ أمرها ولم يحسب لها حساب في تلك الأجور، فإنها لم تأخذ بحكم هؤلاء المصفقين وقلبته ظهراً لبطن، ووضعت التاج على عظام مناندر. وكان هذا المؤلف المسرحي يماثل كنجريف Cogreve في العصر الحديث ابن أخ كاتب مسرحي آخر غزير الإنتاج هو ألكسيس الثوريائي Alexis of Thurii تلميذ ثاوفراسطوس وصديق أبيقور. وقد تعلم من أستاذه وصديقه أسرار المسرحيات، والفلسفة، وهدوء النفس، وكاد أن يحقق مثل أرسطو الأعلى؛ فقد كان جميلاً، ثرياً يفكر في الحياة في هدوء وحسن إدراك، ويستمتع بملاذها استمتاع الرجل المهذب. وكان عاشقاً متقلباً، قنع بأن يجزي جلسرا Glycera على حبها وإخلاصها له بأن يمس اسمها بعصا الخلود السحرية. ولما دعاه بطليموس الأول إلى الإسكندرية بعث فلمون بدلاً منه وقال: "إن فلمون ليست له جلسرا". وسُرت جلسرا بذلك أيما سرور، وكانت قد قاست كثيراً بانتصارها على ملك من الملوك(15). ويؤكد لنا رواة أخباره أنه عاش معها بعد ذلك الوقت وأخلص لها حتى مات في الثانية والخمسين من عمره باعتقال العضلات بينما كان يستحم في بيرية (292)(16).

وظهرت مسرحيته الأولى في السنة التي أعقبت وفاة الإسكندر، كأنها بظهورها في تلك السنة تعلن بداءة عهد جديد. وكتب بعد ذلك العام مائة مسلاة وأربعاً، نالت ثمانٍ منها الجائزة الأولى. وقد بقي من هذه المسرحيات نحو أربعة آلاف سطر كلها قطع منها قصيرة متفرقة ما عدا بردية عُثر عليها في مصر عام 1905. وتحتوي هذه البردية على نصف مسلاة المحكمين Epitrepontes وقد هبطت بسمعة مناندر. ولو أننا شكونا من أن موضوعات هذه المسالي مسئمة كموضوعات فنون النحت، والعمارة، والخزف اليونانية، لذهبت شكوانا هذه مع الريح؛ بل ينبغي لنا أن نذكر أن اليونان لم يكونوا يحكمون على المسرحية بالقصة التي تقصها-وهو معيار خليق بالأطفال-بل بالطريقة التي تقصها بها. ومن أجل هذا كان ما يُعجب به العقل اليوناني في مناندر هو أسلوبه الأنيق المصقول، والفلسفة المركزة في فكاهته، وتصوير المناظر العادية تصويراً بلغ من واقعيته أن صاح أرسطوفان البيزنطي متسائلاً: "أي مناندر، وأنتِ أيتها الحياة، ترى أيكما يقلد الآخر؟(17)" وكان مناندر يرى أنه لم يبقِ للإنسان شيء في هذا العالم الذي ضاع تحت أقدام الجنود إلا أن يفكر في شؤون البشر تفكير الناظر إليها وهو خارج منها، يعطف عليها من غير أن يتورط فيها. وهو يلاحظ غرور النساء وتقلبهن، ولكنه يسلم بأن الزوجة العادية نعمة من أجل النعم. وتدور فكرة المحكمين في بعض أجزائها على رفض المعيار المزدوج(18)؛ ويدور موضوع إحدى المسرحيات بطبيعة الحال حول عاهر مخلصة ترفض كما ترفض ذات الكميليا دوماس، الرجل الذي تحبه، لكي تمكنه من أن يتزوج زواجاً محترماً بسيدة يجني من وراء زواجه بها نفعاً(19). وفي بعض القطع الباقية من المسرحيات سطور جرت مجرى الأمثال، منها قوله: "إن أخبار السوء تفسد الخلق الطيب" (وقد نقلها القديس بولس(20"، و "الضمير الحر يخلق من الجبناء رجالاً بواسل(21)". ومن الناس من يعزو إلى مناندر أصل قول ترنس الشهير: "إني رجل، ولا أرى شيئاً من مستلزمات الرجولة غريباً عني". وتعثر في كتاباته أحياناً على لآلئ من الفطنة والفراسة كقوله: "كل شيء يموت إنما يموت بما يعتريه من فساد؛ وكل ما يفسد يفسد من الداخل" وكهذه الأبيات التي تعد أنموذجاً صادقاً لشعر مناندر، والتي يتنبأ فيها بموته المبكر:


إن الذين تحبهم الآلهة يموتون صغاراً؛ طوبى للرجل



الذي يرى في اطمئنان هذا الموكب الرهيب



موكب الشمس، والنجوم، والبحر، والنار، ثم يعود بعد ذلك



مسرعاً إلى بيته وقلبه مطمئن لم يمسسه سوء.



وسواء كانت الحياة قصيرة أو طويلة فإنك بلا ريب



يا برمينو لن ترى شيئاً أحسن



من هذه الأشياء، إذن فاتخذ مقامك هنا كما



لو كنت ممن يترددون على دور التمثيل أو الأعراس.



كلما أسرعت كان ذلك أضمن لراحتك.



سوف تعود مزوداً بأحسن زاد، لا عدو لك، قوياً عند الحاجة؛



أما من يبطئ فسيقضى في الطريق منهوك القوى، تثقله السنون،



ويلاحقه الأعداء الذين تؤلبهم عليه متاعب الحياة النكدة؛



وهكذا يموت أسوأ ميتة من يبطئ عليه الموت.




 صفحة رقم : 2719   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> انتشار الهلنستية -> الكتب -> ثاوقريطوس


الفصل الرّابع



ثاوقريطوس


ماتت المسلاة اليونانية، ومات الأدب الأثيني إلى حد كبير ، بموت فليمون عام 262. نعم إن المسرح قد ازدهر ولكنه لم ينتج من الروائع ما رأى الزمان أو العلماء أنه خليق بالبقاء، وأخذ تكرار المسالي القديمة-وخاصة مسالي فليمون ومناندر-يطرد من هذه المسارح التمثيليات المبتكرة. ولما انقضى القرن الثالث خفتت معه روح المرح التي أوجدت المسلاة الجديدة وحلت محلها في أثينة النزعة الجدية التي كانت من خصائص المدرسة الفلسفية. وحاولت مدن أخرى وخاصة مدينة الإسكندرية أن تنقل إليها غروس فن التمثيل ولكنها لم توفق. وجددت المكتبة الكبرى والعلماء الذين اجتذبتهم إليها نفحة الأدب الإسكندري. فكان لا بد للكتب أن تتفق مع أذواق القراء المتعلمين الناقدين التي "سفسطها" العلم والتاريخ. وحتى الشعر نفسه أضحى شعراً علمياً وحاول أن يستر ما فيه من ضعف الخيال بالإشارات الغامضة والتلاعب الدقيق بالألفاظ. وأخذ كلمكس يكتب تراتيل ميتة لآلهة ميتة، ونكات شعرية طريفة تلتمع يوماً واحداً، ومدائح تنم عن فطنة وروية مثل خصلة برنيس The Lock of Bernice وقصيدة إرشادية عن الأسباب (Aitia) وهي قصيدة تحتوي على كثيراً من المعارف العلمية في الجغرافية، والأساطير، والتاريخ، وعلى قصة من أقدم قصص الحب في الأدب. ومضمون هذه القصة أن بطلها أكنتيوس Acontius فتى بارع الجمال إلى درجة لا يصدقها العقل، وأن سيدبي Cydippe ذات جمال مفرط؛ ويلتقي الفتى والفتاة فيتحابان من أول نظرة، ويقف في سبيل هذا الحب أبوهما الشرهان المحبان للمال، فيهددانهما.

تلك هي القصة التي رواها ملايين من الشعراء والقصصيين منذ ذلك العهد، والتي سيظل يرويها ملاين آخرون من هؤلاء وأولئك في مستقبل الأيام. غير أننا يجدر بنا أن نضيف إلى هذا أن كلمكس يعود في إحدى مقطوعاته إلى الأذواق اليونانية المألوفة:


اشرب الآن وأحب يا دمقراطيس Democrates؛ لأنا



لن نجد بعد خمراً أو غلماناً إلى أبد الآبدين(24).


وكان منافسه الوحيد في القرن الذي عاش فيه هو تلميذه أبلونيوس الروديسي. ولما أن سطا هذا التلميذ على أشعار أستاذه ونافسه عند البطالمة، أخذ الرجلان يتنازعان بالعمل وبالكتابة تنازعاً أدى إلى عودة أبلونيوس إلى رودس، حيث برهن على شجاعته بأن كتب في عصر يفضل الإيجار على الإطناب ملحمة متوسطة القيمة هي ملحمة الأرجنوتكا Argonautica. ولم تنل هذه الملحمة من عناية كلمكس أكثر من نكتة شعرية قصيرة هي قوله: "إن الكتاب الكبير شر مستطير"-وهو قول يستطيع القارئ أن يجد شاهداً عليه في الكتاب الذي بين يديه. وكوفئ أبلونيوس على عمله في آخر الأمر فنال المنصب الذي كان يطمع فيه وهو منصب أمين مكتبة الإسكندرية، وأفلح فوق هذا في إقناع بعض معاصريه أن يقرؤوا ملحمته. ولا تزال هذه الملحمة باقية إلى الآن، وفيها دراسة فلسفية ممتازة لحب ميديا، ولكنها ليست من الملاحم التي لا غنى عنها لطالب العلم الحديث . وتنم نشأة شعر الرعاة عن قيام حضارة مدنية غير ريفية، ويكاد هذا الشعر أن يجاري تلك الحضارة خطوة فخطوة. ذلك أن اليونان في القرون الأولى من تاريخهم لم يقولوا إلا النزر اليسير عن جمال الريف لأن معظمهم كانوا يعيشون من قبل في الضياع نفسها أو قريبين منها، وكانوا يعرفون ما في الحياة



 صفحة رقم : 2721   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> انتشار الهلنستية -> الكتب -> ثاوقريطوس


الريفية وعزلتها من صعاب، كما يعرفون ما فيها من هدوء وجمال. وما من شك في أن إسكندرية البطالمة كانت حارة متربة كإسكندرية هذه الأيام، ولهذا فإن من كان يقيم فيها من اليونان كانوا يعودون بذاكرتهم إلى تلال بلادهم الأصلية وحقولها، ويتخيلون هذه التلال والحقول المثل الأعلى في جمال المنظر؛ فكانت المدينة العظيمة والحالة هذه هي المكان الموحي بالشعر الرعوي. وأقبل عليها حوالي عام 276 شاب جريء يحمل ذلك الاسم الظريف وهو ثاوقريطوس. وكان قد بدأ حياته في صقلية، وقضى بعدئذ جزءاً منها في كوس، ثم عاد إلى سرقوسة يسعى إلى رفد هيرون الثاني، ولكنه لم يوفق؛ غير أنه لم ينسَ قط جمال صقلية، وجبالها وأزهارها، وسواحلها وخلجانها، فلما انتقل بعدئذ إلى الإسكندرية أنشأ قصيدة في مدح بطليموس الثاني نال عليها رضاء البلاط وهو رضاء قصير الأجل. ويبدو أنه ظل بضع سنين يعيش بين رجال البلاط والعلماء، بينما كانت الصور الجميلة التي يرسمها لحياة الجبال تحببه إلى سوفسطائي العاصمة. وتصف قصيدة بركسنووا Praxinoa ما يلقاه الإنسان في شوارع الإسكندرية المزدحمة من هول وفزع:


رباه: ما أكثر أولئك الغوغاء! ليس في وسعي أن أتصور



كيف نستطيع أن نشق طريقنا، أو كم من الزمن يلزمنا لكي نشقه فيها؛



إن عش النمل لا يعد شيئاً إلى جانب هذا الهرج والمرج...



أي جرجون Gorgon، يا عزيزي، أنظر!-ماذا في مقدورنا أن نفعل؟



أولئك هم فرسان الملك! لا تطؤونا بسنابك خيولكم!



أونوا Eunoa، تنحى عن طريقهم!


وكيف يستطيع رجل له نفس شاعر وذكريات صقلية أن يكون سعيداً في هذه البيئة؟ لقد كان يمدح الملك لكي يستطيع العيش، ولكنه كان يغذي رومة بما في مخيلته من صور جزيرته الأصلية، ولعله كان يغذيها أيضاً بصور جزيرة كوس؛ وكان يحسد الراعي على حياته البسيطة ويتخيله وهو يخطو وراء قطعانه



 صفحة رقم : 2722   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> انتشار الهلنستية -> الكتب -> ثاوقريطوس


الهادئة الوديعة فوق منحدرات التلال المعشوشبة المطلة على البحار المشمسة. وقد أتم وهو في هذه الحالة نشيد الرعاة-الإيدليون Eidyllion أو الصورة الصغيرة-ووصه ذلك الوصف الذي لا يزال محتفظاً به إلى الآن، وهو نقش ريفي أو قصة شعرية. وليس في الاثنتين والثلاثين مقطوعة التي وصلت إلينا من أشعار ثاوقريطوس إلا عشرة أناشيد رعوية، ولكن هذه الأناشيد العشرة قد طبعت ذلك الاسم الذي يشملها جميعاً بطابع نصف ريفي. وبهذه الأناشيد يدخل وصف الطبيعة آخر الأمر في الأدب اليوناني، وهو لا يدخله دخول الإلهة فحسب، بل يدخله كذلك دخول معالم الأرض الحية المحببة إلى النفوس. ولم ينقل الأدب اليوناني قبل ذلك العهد، بمثل هذا الشعور الحي، الإحساس الخفي بالصلة التي تبعث في النفس حب الصخور والجداول، والماء والأرض والسماء، والاعتراف بفضلها على بني الإنسان. بيد أن موضوعاً آخر ينفذ في قلب ثاوقريطوس إلى أعماق أبعد من التي ينفذ إليها الشعر الرعوي- ذلك هو موضوع الحب. ولكنه وهو لا يزال يونانياً رغم بعده عن بلاد اليونان، ينشئ أغنيتين شعريتين (الثانية عشرة والتاسعة والعشرين) في الصداقة الجنسية بين الغلمان، ويقص قصصاً واضحاً جياشاً بالعاطفة قصة هرقل وهيلاس Hylas (الأغنية الثالثة عشرة)، وكيف "قاوم الجبار وحشية الأسد، وأحب شاباً، وعلمه ، كما يعلم الأب ابنه، كل ما يستطيع به أن يكون رجلاً طيباً ذائع الصيت؛ ولم يكن يفارق الغلام في مطلع الفجر، أو وقت الظهيرة أو في المساء، ولكنه كان يعمل دائباً على أن يشكله بالصورة التي يحب من صميم قلبه أن يكون عليها، وأن يجعله رفيقه الحقيقي، يماثله في أعمال العظمة". وثمة أنشودة أشهر من الأنشودة السابقة (الأنشودة رقم 1) وهي التي تعيد إلى مسامعنا قصة دفنيس Daphnis لاسنكسورس الراعي الصقلي الذي زمر وغنى زميراً وأغاني بلغ من جمالها أن جعلته الأقاصيص



 صفحة رقم : 2723   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> انتشار الهلنستية -> الكتب -> ثاوقريطوس


الخرافية مخترع شعر رعاة البقر. وخلاصة القصة أن دفنيس ظل وقتاً ما يراقب قطعانه، ويحسدها على مرحها وحبها، حتى إذا ما نبتت الشعرة الأولى على شفته هامت بحبه إحدى حور الغاب المقدسات، وتزوجت بهِ. ولكنها تقاضت من ثمن حبها بأن جعلته يقسم ألا يحب قط امرأة غيرها. وحاول جهده أن يبر بقسمهِ وأفلح في هذا إلى أن افتتنت ابنة أحد الملوك بشبابه وأسلمت نفسها له في الحقول. وأبصرت هذا أفرديتي، وانتقمت لزميلتها الإلهة بأن جعلت دفنيس يذوب قلبه وجسمه من الحب غير المستجاب. فلما مات أوصى بمزماره إلى بان Pan في أغنية يضيف إليها صاحب القصة قراراً موسيقياً يردده بعد كل مقطوعة في الأغنية:


"أقبل يا سيدي؛ وخذ هذا المزمار الجميل



المغمور في الشمع الذي لا تزال تفوح منه رائحة الشهد



والمربوط عند الشفتين بالخيط. ذلك أن حبي قد أقبل



ليناديني إلى بيت الأموات".



يا ربات الشعر أقلعي، أقلعي عن نشيد الرعاة



"والآن فليخرج العوسج والحسك أزهار،



البنفسج؛ وليزهر النرجس،



فوق العرعر؛ ولتتنكب كل الأشياء طريقها السوي،



وليثمر الصنوبر الكمثري، لأن دفنيس سوف يموت.



ولتطارد الوعول كلاب الصيد، وليطرد البوم الناعق



العندليب من التلال"



يا ربات الشعر أقلعي، أقلعي عن نشيد الرعاة



"قال هذا-ثم لم يقل شيئاً. وكان يود أفرديتي



أن ترفعه؛ ولكن ربات الأقدار



قطعت حبل حياته، فهوى دفنيس




 صفحة رقم : 2724   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> انتشار الهلنستية -> الكتب -> ثاوقريطوس



في نهر الموت وجرفه التيار، وانقفل الدردور على رأسه



رأس من كانت تحبه ربات الشعر بأجمعها



رأس من لم تغضب منه حور الغاب"



يا ربات الشعر أقلعي، أقلعي عن نشيد الرعاة


وتواصل الأنشودة الثانية موضوع الحب، ولكنها تواصله في نغمة أعنف من هذه النغمة. وتقص كيف أغوى دلفيس Delphis سميثيا Simaetha عذراء سرقوسة ثم هجرها فأخذت تستثير حبه بالتعاويذ، ورحيق العشاق، وتقول إنها اعتزمت أن تتجرع السم إذا عجزت عن كسب حبه. وتقف تحت النجوم وتصف لسيليني Selene إلهة القمر ما دب في قلبها من الغيرة حين رأت دلفيس يسير مع رفيقته.


وما كدنا نصل إلى منتصف الطريق عند مسكن ليكون Lycon



حتى شاهدت دلفيس مقبلاً مع أودانبوس Eudanippus



وكانت وجنات الفتى والفتاة وذقنهما



أنصع بياضاً من القَسْوس حين يكمل نماءه



نعم، وصدراهما أكثر تلألؤاً منك يا سيليني،



يدّلان على أنهما قد اقبلا تواً من كدح المصارعين النبيل.



فكري في حُبي، وفكري من أين جاء، أنت يا سيدة سيليني.



فلما رأيتهما، استشطت غضباً، واتقدت نار الغيرة في صدري



فاكتوى بنار الحب الضائع قلبي. وذبل جمالي ولم أعد



أرقب المراكب حين تمر؛ ولم أدرِ كيف عدت إلى داري



لأن آفة كريهة، أو مرضاً لافحاً، قد قضى عليّ،



وظللت أربعة أيام مسجى على فراشي وعشر ليالٍ قضيتها في ألم ممض.



فكري في حبي، وفكري من أين جاء، أنت يا سيدة سيليني



وكثيراً ما جفت نضرة جسمي واصفرت كالهشيم الجاف،



أجل وتساقط شعر رأسي، وكل ما كنته قبلاً



لم يبقَ منه إلا جلد وعظم، وما من إنسان إلا لجأت إليه،



وما من طريق فيه عجوز شمطاء تتلو فيه رقبة حب إلا سلكته.



لكنني لم أجد عزاء، ومرت الأيام سراعاً.



فكري في حبي، وفكري من أين جاء، أنت يا سيدة سيليني


والأنشودة الثانية تصل بنا إلى الحورية أمرلس Amaryllis ومفاتنها البعيدة المنال، وتصل بنا الرابعة إلى الراعي كريدون Corydon والسابعة إلى لسداس Lycidas راعي المعز الشعري-وتلك كلها أسماء قد تغنى بها آلاف الشعراء من فرجيل إلى تنسسن Tennyson. ولقد أصبح أولئك الشعراء الريفيون مثلاً عليا ينطقون بأجمل الأشعار اليونانية، وفي وسع كل منهم أن يقرض أبياتاً سداسية الأوتاد أجمل من أبيات هومر؛ ولكننا قد علمنا أن تراثهم، الذي لا يكاد يدرك العقل جماله كأنه تقليد مألوف، متوسط القدر حين نستسلم إلى ما في أغانيهم من نغمة حزينة. بيد أن ثاوقريطوس يعيدهم إلينا أشخاصاً واقعيين يحدثنا عن ثيابهم التي تفوح منها رائحة أجسامهم، وحين يذكرنا فحش أفكارهم؛ ذلك أن في فكاهاتهم من الفجور ما يحط بعض الشيء من رقيق عواطفهم فيجعلهم أناساً حقيقيين. وجملة القول أن هذا الشعر أكمل شعر يوناني كتب بعد يوربديز، وهو دون غيره من الشعر الهلنستي الباقي إلى يومنا هذا الشعرُ الذي تسري فيه أنفاس الحياة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامِس: بولبيوس

إذا كان العصر الهلنستي لم يلهم إلا شاعراً واحداً، فإنه قد أخرج مقداراً من النثر مختلف الأنواع لم يخرج مثله عصر آخر قبله. ففيه ابتدع التحدث الخيالي وابتدعت المقالة، ودائرة المعارف. وواصل فيه الكتاب إخراج التراجم القصيرة الواضحة، وأضاف الأدب اليوناني في العهد الروماني الذي تلا هذا العهد الذي نتحدث عنه الموعظة والرواية القصصية. أما الخطابة فكانت في دور الاحتضار أنها كانت تعتمد على النزاع السياسي، والتقاضي أمام المحاكم الشعبية، وعلى حق الناس الديمقراطي في أن يتكلموا. وأصبحت الرسالة الأداة المحبوبة لنقل الأفكار سواء في التخاطب أو في الأدب. ففي هذا العصر تقررت صور الرسائل وعباراتها التي نجدها في أقوال شيشرون، بل تقررت أيضاً الديباجة الشهيرة التي كان يستمسك بها أجدادنا ويجلونها: "أرجو أن يصلك هذا وأنت بخير كما تركتني"(28).

وازدهرت كتابة التاريخ، فقد كتب بطليموس الأول، وأراتوس الآخي، وبيرس الأبيروسي مذكرات عن حروبهم، فوضعوا بذلك تقليداً بلغ غايته في قيصر. وكتب مانيثون الكاهن المصري الأكبر باللغة اليونانية حوليات مصر Aigyptaka التي جمعت الفراعنة بطريقة تعسفية إلى حد ما في أسر مالكة لا تزال هي التقسيم المتبع حتى اليوم. وأهدى بروسس كبير الكهنة الكلدان إلى أنتيوخوس الأول تاريخاً لبابل معتمداً على السجلات المسمارية. وأدهش مجسثنيز Megasthenes سفير سلوقس الأول لدى شندراجوبتا ماريا Shandragupta Mourya العالم اليوناني بكتاب عن الهند أخرجه حوالي عام 300. وجاء في فقرة موحية من هذا الكتاب: "إن بين البراهمة طائفة من الفلاسفة... تعتقد أن الله هو الكلمة، وهم لا يقصدون بها الكلام المنطوق بل يقصدون حديث العقل"(29). وهنا أيضاً نجد عقيدة الكلمة التي قُدر لها أن تكون ذات أثر عميق في الدين المسيحي. وقام تيماوس الترومنيومي Timoeus of Tauromenium بعد أن نفاه أجثكليز Agathocles من صقلية (317) برحلات واسعة في أسبانيا وغالة، ثم ألقى عصا التسيار في أثينة وكتب فيها كتاباً عن صقلية وعن الغرب. وكان طالباً مجداً، بلغ من حرصه على أن يدون في كتابه هذا كل شيء أن لقبه بعض منافسيه "جامع الأسمال العجوز"(30). وقد بذل غاية جهده في أن يصل إلى تواريخ صحيحة للحوادث التي رواها، حتى عثر على طريقة تأريخ هذه الحوادث بدورات الألعاب الأولمبية. وكان شديد النقد لمن سبقع من المؤرخين، وكان من حسن حظه أن مات قبل أن يشهد هجوم بولبيوس الوحشي على كتابهِ(31).

وأعظم المؤرخين في العصر الهلنستي واليوناني، والمؤرخ الوحيد الخليق بأن يوضع إلى جانب هيرودوت وتوكيديدس، هو بولبيوس. وكان مولده في أركاديا عام 208. وكان والده ليكورتاس Lycortas أحد زعماء العصبة الآخية، فقد اختير في مهمة سياسية في رومة عام 189، وعين استرتيموس في عام 184. ونشأ ابنه في الجو السياسي، ودُرب للجندية بإشراف فيلوبيمين، واشترك في حروب الرومان ضد الغاليين في آسية الصغرى، وسافر مع والده في بعثة سياسية إلى مصر (280)، واختير ليكون قائد فرسان العصبة الآخية (هباركوس Hipparchos) في عام 169(32). ولكن تفوقه هذا قد جر عليه كثيراً من المتاعب: ذلك أنه حين أراد الرومان أن يعاقبوا العصبة الآخية لتأييدها برسوس ضدهم أخذوا ألفاً من زعماء الآخيين رهائن إلى رومة، وكان منهم بولبيوس (167). وظل في المنفى ستة عشر عاماً يعاني فيها آلام النفي، ومنها كما يقول هو نفسه "ضياع الروح المعنوية والشلل العقلي الذي بلغ أقصى حد"(33). ولكن سبيو الأصغر بذل له مودته، وضمه إلى الدائرة السبيونية التي كانت تشمل الرومان المتعلمين، وأقنع مجلس الشيوخ حين كان يشتت غيره من المنفيين في أنحاء إيطاليا، أن يسمح بأن يعيش بولبيوس معه في رومة. ورافق سبيو في كثير من الوقائع الحربية، وأسدى إليه نصائح عسكرية قيمة، وارتاد له سواحل أسبانيا وأفريقية، ووقف إلى جانبه حين أحرق رومة (146). وكان قبل ذلك قد نال حريته في عام 151، واختير في عام 149 ليمثل رومة في تنظيم الوفاق الذي تم بين المدن اليونانية وبين مجلس الشيوخ الروماني، سيدها البعيد عنها. وما من شك في أنه قد قام بهذا الواجب البغيض على خير وجه، لأن كثيراً من المدن كرمته بإقامة أنصاب تذكارية له، وإن لم يكن في وسع الإنسان أن يعرف متى يشعر الناس بفضل أحد عليهم. وبعد أن عاش بولبيوس ستين عاماً في جد متواصل اعتزل هذا النوع من العمل ليكتب كتبه الثلاثة: رسالة في الفنون العسكرية، وحياة فيلوبيمين، وكتاب التواريخ الضخم. ومات كما يموت السادة الأشراف، فقد سقط عن ظهر جواده وهو عائد من رحلة صيد، بعد أن بلغ الثانية والثمانين من العمر.

ولسنا نعرف قط رجلاً كتب التاريخ مستنداً إلى أوسع مما استند إليه بولبيوس من علم، وأسفار، وتجارب. وكانت الخطة التي وضعها لكتابه خطة واسعة النطاق، فلم يكن يقصد أن يكتب تاريخ بلاد اليونان فحسب، بل كان يبغي كتابة تاريخ "العالم كله" (أي أمم البحر الأبيض المتوسط) من عام 221 إلى 146 ق.م. "تلك هي الخطة التي وضعتها، ولكن كل شيء يتوقف على ما تحبوني به الأقدار من حياة تطول حتى أخرجها إلى حيز الوجود"(34). وكان يشعر بحق أن رومة هي مركز دائرة التاريخ السياسي في الفترة التي يريد أن يؤرخها، ولهذا أسبغ على كتابه وحدة جامعة إذ جعل رومة محور حوادثه، ودرس بتشوف الرجل الدبلوماسي الوسائل التي استخدمتها رومة، والتي تدعي كما يدعي البريطانيون أن الظروف هي التي ساقتها لها على غير قصد منها، للسيطرة على عالم البحر الأبيض المتوسط(35). وكان شديد الإعجاب بالرومان، لأنه شاهدهم في عصر مجدهم، ولأن أكثر من عرفهم منهم هم خيرهم في جماعة سبيو. وكان يشعر أنهم يتصفون بتلك الصفات التي لا توجد في الخُلُق ولا في الحكم اليوناني، والتي كان عدم وجودها في اليونان سبباً في القضاء عليهم. وإذ كان هو من أبناء الأشراف وكان صديقاً للأشراف، فإنه لم يعطف قط على المراحل المتأخرة من الديمقراطية اليونانية التي لم تكن في رأيه غير حكم الغوغاء. وكان التاريخ السياسي يبدو له دورة متكررة من الملكية المطلقة (أو الدكتاتورية)، والأرستقراطية، والألجركية، والديمقراطية، ثم الملكية المطلقة مرة أخرى. وكانت خير طريقة في رأيه للنجاة من هذه الدورة هي طريق "الدستور المختلط" الشبيهة بدستور ليقورغ أو دستور رومة-وهو الذي يقضي بوجود مواطنين يستمتعون بحقوق سياسية ولكنها حقوق محدودة، ويختارون كبار الموظفين، ولكن سلطانهم يحدده سلطان مجلس الشيوخ الأرستقراطي الدائم(36). وكانت هذه النظرة هي التي اهتدى بها في كتابه تاريخ عصره. وبولبيوس هو "مؤرخ المؤرخين" لأنه يهتم بطريقته كما يهتم بموضوعه. وهو يميل إلى التحدث عن الخطة التي يسير عليها، ويعمد إلى التفلسف في كل فرصة تتاح له. وهو يصور مؤهلاته على أنها خير المؤهلات ومثلها الأعلى، ويصر على أن التاريخ ينبغي أن يكتبه أولئك الذين رأوا بأعينهم-أو استشاروا غيرهم ممن رأوا بأعينهم-ما يصفونه من الحوادث. يندد بتيماوس لأنه اعتمد على أذنيه بدل اعتماده على عينه، ويتحدث بفخر وإعجاب عن أسفاره في البحث عن المعلومات، والوثائق، والحقائق الجغرافية، ويذكر لنا كيف اخترق جبال الألب وهو عائد من أسبانيا إلى إيطاليا من نفس الممر الذي اخترقه هنيبال في بروتيوم(37). ويقول إنه يعتزم أن يجعل تاريخه دقيقاً بقدر ما تسمح به "ضخامة عمله، والطريقة الشاملة التي عالجه بها"(38). وهو في تاريخه رجل عقلي النزعة واقعيها، ينفذ فكره في ألفاظ الدبلوماسيين الأخلاقية ليعرف ما تهدف إليه خططهم من اعتراضات حقيقية، ويسره أن يدرك كيف يخدع الناس بسهولة أفراداً كانوا أو جماعات، ويُخدعون أكثر من مرة، بنفس الحيل والأساليب التي خُدعوا بها من قبل(40).ويقول في عبارة شائقة استبق بها مبادئ مكيفلي: "قلما يتفق العمل الخير مع العمل النافع، وما أقل من يستطيعون الجمع بين العملين والتوفيق بينهما"(41). وهو يقبل عقيدة الرواقيين الدينية التي تقول بوجود قوة إلهية مدبرة ولكنه يعطف مجرد عطف على الطقوس الدينية السائدة في عصره، ويسخر ضاحكاً من عقيدة تدخل القوى غير الطبيعية في شؤون العالم(42). ويعترف بما للمصادفات من شأن في التاريخ، وما لعظماء الرجال من أثر فعال في بعض الأحيان، ولكنه لا يتردد في أن يكشف عن تسلسل العلل والمعلولات تسلسلاً حقيقياً خارجاً في كثير من الأحيان عن إرادة الآدميين، وبذلك يكون التاريخ مصباحاً مضيئاً للعقول في الحاضر والماضي(44). "ليس شيء أسرع تصحيحاً لسلوك الناس من معرفة الماضي" و "خير تعليم وإعداد للحياة السياسية النشيطة هو دراسة التاريخ"(45)؛ "والتاريخ، والتاريخ وحده، هو الذي ينضج عقولنا، ويهيئنا للنظر إلى الأشياء نظرة صحيحة مهما تكن الأزمات أو سير الحوادث"(46). وهو يرى أن خير طريقة لفهم التاريخ هي أن ينظر إلى حياة الأمة على أنها وحدة عضوية، ثم تضم قصة كل جزء من أجزائها إلى تاريخ حياة الأمة بأجمعه. والذي يعتقد أنه إذا درس التواريخ منفصلة بعضها عن بعض يستطيع أن ينظر نظرة صحيحة إلى التاريخ بأجمعه ليشبه في رأيي ذلك الرجل الذي نظر إلى أطراف حيوان كان من قبل حياً وجميلاً، ثم يتصور أنه كمن شاهد بعينه الحيوان نفسه في جميع حركاته وأدرك ما فيها من رشاقة وجمال(47).

وقد أبقى الدهر على خمسة من الكتب التي قسم إليها بولبيوس تواريخه، وأنجى المختصرون قطعاً متفرقة قيمة من الكتب الباقية. ومما يؤسف له أشد الأسف أن أخرج هذه الفكرة العظيمة إلى حيز الوجود قد أفسدته لغة ذلك الوقت اليونانية الفاسدة، ونقده المر لغيره من المؤرخين، واقتصاره تقريباً على شؤون الحرب والسياسة، وتقسيمه قصته تقسيماً سخيفاً إلى دورات أولمبية، وكتابة تاريخ جميع أمم البحر الأبيض المتوسط في كل دورة مقدارها أربع سنوات، وما أدى إليه ذلك من استطرادات مملة ومن انعدام التسلسل إلى حد يحير القارئ ويضله. ويسمو بولبيوس في قصته أحياناً إلى البلاغة المسرحية، ولكنه يتجنب بشدة الأسلوب الخطابي المزخرف الذي كان شائعاً بين من سبقوه مباشرة من الكتاب، حتى أنه ليفخر بثقل أسلوبه وخلوه من البهجة(48). وفي ذلك يقول أحد النقاد الأقدمين. "لا أعرف قط رجلاً قرأ كتابه من أوله إلى آخره"(49). ولقد كاد العالم أن ينساه، ولكن المؤرخين سيظلون دهراً طويلاً يدرسون كتابه لأنه كان من أعظم أصحاب النظريات في كتابة التاريخ وأعظم من طبقوها في كتاباتهم، ولأنه جرؤ على أن يكون واسع الأفق في كتابته، وأن يكتب "تاريخاً عاماً"؛ ولأنه فوق هذا وذاك أدرك أن الحقائق وحدها لا قيمة لها إلا مع شرحها وتفسيرها، وأن الماضي لا قيمة له إلا من حيث هو جذورنا المتأصلة والضوء ينير لنا حاضرنا ومستقبلنا.