قصة الحضارة - ول ديورانت - م 2 ك 5 ب 28

صفحة رقم : 2753

قصة الحضارة -> حياة اليونان -> انتشار الهلنستية -> ذروة مجد العلم اليوناني -> أقليدس وأبولونيوس

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثامِن والعِشرون: ذروة مجد العلم اليوناني

الفصل الأوَّل: إقليدس وأبولونيوس

شهد القرن الخامس ذروة مجد الآداب، وشهد القرن الرابع ازدهار الفلسفة، وشهد القرن الثالث ذروة مجد العلوم الطبيعية. ذلك أن الملوك كانوا أكثر من الديمقراطيات تسامحاً في البحث العلمي وأكثر منها تشجيعاً له. من ذلك أن الإسكندر أرسل إلى المدن اليونانية القائمة على ساحل آسية جمالاً محملة بألواح الفلك البابلية لم تلبث أن تُرجمت إلى اللغة اليونانية، وأنشأ البطالمة المتحف الذي كان معهداً للدراسات الراقية، وجمعوا علوم بلاد البحر الأبيض المتوسط وثقافاتها في المكتبة؛ وأهدى أبولونيوس كتابه "المخروطات" إلى أتلس الأول، ورسم أركميديز برعاية هيرون الثاني دوائره. وقد كان لزوال الحدود السياسية بين الأقطار، ووجود لغة واحدة مشتركة، وسهولة تبادل الكتب والأفكار، والقضاء على علم الميتافيزيقا، وضعف الدين القديم، وقيام طبقة من التجار ذات عقلية دنيوية لا دينية في الإسكندرية، ورودس، وأنطاكية، وبرجموم، وسرقوسة، وازدياد عدد المدارس، والجامعات، والمراصد الفلكية، ودور الكتب، كان لهذه كلها مجتمعة مع ازدياد الثروة وتقدم الصناعة، ومناصرة الملوك أكبر الأثر في تحرير العلم من الفلسفة، وتشجيعه في العمل على تنوير الأذهان، وازدياد الثراء وتهديد العالم بأكبر الأخطار.

وحدث حوالي مستهل القرن الثالث- أو لعله حدث قبله بزمن طويل- أن أصبحت علماء الرياضة اليونان أجود وأدق مما كانت باختراع طريقة للعد والحساب أبسط من الطريقة التي كانت متبعة حتى ذلك الوقت. ذلك أن التسعة الحروف الأولى من حروف الهجاء قد استخدمت للدلالة على الأرقام التسعة البسيطة، ثم استخدم الحرف الذي يليها للدلالة على الرقم 10، والتسعة التي تليه للدلالة على 20، و30 الخ، والذي ليلها للدلالة على 100، والتسعة التي تلي هذا للدلالة على 200، 300، وهكذا. وعبر عن الكسور والأعداد الترتيبية بوضع شرطة صغيرة مائلة من اليمين إلى اليسار بعد الحرف، فهذه العلامة ( مثلاً تدل إما على عشر أو العاشر حسب السياق، وحرف ( الصغير إذا وضع تحت الحرف دل على ألف. فكانت هذه الطريقة الحسابية المختصرة وسيلة سهلة للعد والحساب؛ ومن البرديات اليونانية الباقية إلى الآن ما يجمع عمليات حسابية معقدة، تختلف ما بين الكسور العشرية والملايين، في الفراغ أقل مما تشغله أمثال هذه العمليات في طريقتنا الحسابية في هذه الأيام.

لكن أعظم ما أحرزته العلوم من انتصارات في الغصر الهلنستي كان في الهندسة النظرية، فمن علماء ذلك العصر إقليدس الذي ظل اسمه مدى ألفي عام مرادفاً لاسم هذه الهندسة. وكل ما نعرفه من يسرته أنه أنشأ مدرسة في الإسكندرية، وأن تلاميذه بزوا كل من عداهم من التلاميذ في هذا الفرع من العلوم؛ وأنه لم يكن يعنى قط بالمال، وأنه حين سأله أحد تلاميذه "ماذا يفيدني تعلم الهندسة؟" أمر أحد العبيد أن يعطيه أبلة "لأنه يريد أن يربح المال مما يتعلم(1)"، وأنه كان شديد التواضع والرأفة، وأنه حين كتب كتابه الشهير المسمى "العناصر "Elements حوالي عام 300 لم يخطر بباله قط ان يعزو ما بهِ من مختلف النظريات إلى واضعيها لأن كل ما ادعاه لنفسه أنه جمع في نظام منطقي معلومات اليونان الهندسية. وقد بدأ الكتاب، دون تقديم أو اعتذار، بالتعاريف البسيطة، ثم ثنى بالفروض الضرورية، وجاء بعدها بـ "الأفكار العامة" أو البدائة. وقد سار على ما أوصى به أفلاطون فاقتصر على الأشكال والبراهين التي لا تحتاج من الآلات غير المسطرة والفرجار. واتبع طريقة في العرض والإثبات معروفة لمن سبقه من العلماء ولكنه وصل بها إلى حد الكمال، وهي الطريقة التي تسير على النظام الآني: الفرض، والعمل، والبرهان، والنتيجة. وكانت النتيجة الكلية لجهوده، رغم ما فيها من عيوب قليلة، أن أقامت للعالم صرحاً رياضياً ينافس البارثنون في رمزه للعقل اليوناني. بل الحق أن هذا الصرح العلمي قد عاش كاملاً بعد أن تحطم البارثنون، وذلك لأن "عناصر" إقليدس قد ظل حتى هذا القرن الكتاب المدرسي المعترف به في كل جامعة أوربية تقريباً. وإذا أردنا أن نجد ما يشبه هذا الكتاب في أثره الباقي فعلينا أن نذهب إلى الكتاب المقدس نفسه لنجد هذا الشبيه.

وثمة كتاب لإقليدس في المخروطات قد ضاع فيما ضاع من كتب؛ وهو يلخص دراسات من منيكمس، وأرستيوس وغيرهما من علماء الهندسة في المخروط. وقد عمد أبلونيوس البرجاوي Apollonius of Perga، بعد أن ظل يدرس الهندسة في مدرسة إقليدس عدة سنين، إلى هذه الرسالة فاتخذها بداية لكتابهِ هو في المخروطات، ويحث في ثمانية "كتب" و 387 نظرية خواص المنحنيات التي تنشأ من تقاطع مخروط مع سطح مستوٍ. وقد أطلق على ثلاثة من هذه المنحنيات (والدائرة هي رابعتها) أسماءها المعروفة بها إلى الآن وهي: القطع المكافئ Parbola، والقطع الناقص أو الإهليجي Ellipse، والقطع الزائد Hyperbola. وقد يسرت اكتشافاته وضع نظرية القذائف، وكانت من أكبر العوامل فيما حدث في الميكانيكا والملاحة والفلك من تقدم عظيم. وكان عرضه لنظرياته طويلاً مجهداً مملاً، ولكن الطريقة التي اتبعها طريقة عملية خالصة؛ ولم يكن مؤلفه أقل من مؤلف إقليدس وضوحاً ودقة، ولا تزال السبعة الكتب الباقية منه حتى اليوم أعظم كتاب علمي مبتكر في كل ما كتب في الهندسة النظرية.


الفصل الثاني: أرخميديس

ولد أعظم العلماء الأقدمين في سرقوسة حوالي عام 287ق.م، وكان والده هو فيدياس Pheidias الفلكي؛ ويلوح أنه ابن عم هيرون الثاني أعظم حكام زمانه استنارة. وفعل أركميديز ما فعله كثيرون غيره من اليونان الهلنستيين الذين أولعوا بالعلوم، وكان لديهم من المال ما يمكنهم من إشباع هذا الولع، فسافر إلى الإسكندرية حيث درس على خلفاء إقليدس، وشُغف بالرياضيات وأفاد من دراستها فائدتين- انهماكاً فيها وموتاً مفاجئاً بسببها. وعاد من الإسكندرية إلى سرقوسة، حيث وهب حياته، كما يهب الربان حياتهم، لكل فرع من فروع العلوم الرياضية. وكثيراً ما كان يهمل كما يهمل نيوتن، طعامه وشرابه، والعناية بجسمه، لكي يتتبع نتائج نظرية رياضية جديدة، أو يرسم بالزيت أشكالاً على جسدهِ، أو بالرماد على الموقد، أو على الرمل الذي اعتاد علماء الهندسة اليونان أن يفرشوه على أرض منازلهم(2). على أنه لم يكن تنقصه الفكاهة: فقد تعمد أن يضع في كتابه "الكرة والاسطوانة"، الذي يرى هو أنه أحسن كتبه، نظريات خاطئة (كما يؤكد بعضهم) ليمزح مع من أرسل إليهم المخطوط من الأصدقاء من جهة، وليوقع في الشرك لصوص العلم الذين يبيحون أن يغتصبوا لأنفسهم أفكار غيرهم من الناس من جهة أخرى(3). وكان تارة يسلي نفسه بألغاز كادت أن توصله إلى اختراع الجبر كمشكلة الماشية الشهيرة التي حيرت لسنج أشد الحيرة(4)، وتارة أخرى يخترع آلات عجيبة ليدرس بها القوانين التي يستخدمها. ولكن الذي كان يعنى بهِ وتلذه دراسته على الدوام هو العلم البحت يتخذه مفتاحاً لفهم الكون لا أداة للمنشآت العملية أو زيادة الثروة. ولم يكن يكتب للطلاب بل للعلماء المتخصصين ينقل إليهم في عبارات قصيرة جامعة النتائج العويصة التي استخلصها من بحوثهِ. وقد افتتن كل من جاء بعده من الأقدمين بما تمتاز به رسائله العلمية من ابتكار، وعمق، ووضوح. وقد وصفها فلوطرخس بقولهِ: "ليس من المستطاع أن نجد في الهندسة كلها مسائل أصعب وأعوص، أو شروحاً أبسط وأوضح، مما احتوته هذه الرسائل". ومن الناس من يعزو هذا إلى عبقريته الفطرية، ومنهم من يظن أن هذه الصحف السهلة الميسرة كانت ثمرة كدح وجهود لا يصدقها العقل(5).

وقد أبقى الزمان على عشرة من مؤلفات أركميديز التي كتبها بعد رحلات كثيرة في أوربا وبلاد العرب وهي: (1) الطريقة ويشرح فيهِ لإرتسثنيز، الذي عقد معه صداقة وثيقة في الإسكندرية كيف توسع التجارب العلمية معلومات الإنسان الهندسية. وقد وضعت هذه المقالة حداً لحكم المسطرة والفرجار الذي أقامه أفلاطون، وفتحت باب الطرق التجريبية؛ لكنها مع هذا تكشف عما بين المزاجين العلميين القديم والحديث من اختلاف. فقد كان الأقدمون يجيزون التجارب العملية ليتوصلوا بها إلى فهم النظريات، أما المحدثون فيستخدمون النظريات لما عساه أن تؤدي إليه من نتائج عملية (2)مجموعة من القضايا العارضة وفيها يبحث سبعة عشر "اختباراً" أو فرضاً متبادلاً في الهندسة المستوية. (3)قياس الزاوية ويصل فيهِ إلى 1slash7 3 و 10slash71 3 للنسبة التقريبية أي نسبة محيط الدائرة إلى قطرها؛ وهو يصل إلى تربيع الدائرة بأن يوضح بطريقة إفناء الفرق أن مساحة الدائرة تساوي مساحة مثلث قائم الزاوية ارتفاعه يساوي نصف قطر الدائرة وطول قاعدته يعادل طول محيطها. (4)تربيع القطع المكافئ وفيه يدرس بطريقة حساب التكامل المساحة التي يفصلها وتر قوس من القطع المكافئ ومساحة القطع الناقص. (5)في اللولبيات وفيه يعرف اللولبيات بأنها الأشكال التي تحدثها نقطة تتحرك من نقطة معينة بسرعة منتظمة في خط مستقيم يدور في سطح مستوٍ بسرعة منتظمة حول هذه النقطة المعينة نفسها؛ ثم يتوصل إلى معرفة المساحة المحصورة بين قوس لولبي ونصفي قطر في قطع ناقص، مستخدماً في ذلك طرقاً تقرب من حساب التفاضل (6)الكرة والاسطوانة وفيه يبحث عن قوانين رياضية لإيجاد أحجام الهرم، والاسطوانة، والكرة، ومساحة سطوحها (7)في أشباه المخروط وأشباه الكرة ويشتمل على دراسة للأجسام الجامدة المتولدة من دوران القطاعات المخروطية حول محاورها. (8)حاسب الرمل وفيهِ ينتقل من الهندسة إلى الحساب، بل يكاد ينتقل إلى اللغرتمات، وذلك بقولهِ أن الأعداد الكبيرة يمكن أن تمثل بمضاعفات أو "طبقات" 10.000 وبهذه الطريقة يحصي أركميديز حبات الرمل التي يحتاج إليها لملء الكون- على فرض أن للكون حجماً معقولاً، كما يقول هو بعبارته الفكهة الظريفة. والنتيجة التي يصل إليها، والتي يستطيع إي إنسان أن يحققها بنفسهِ، أن العالم لا يحتوي على أكثر من ثلاث وستين "وحدة كل منها عشرة ملايين من الطبقة الثامنة من الأعداد" أو 6310 حسب طريقتنا في هذه الأيام. ويدل ما في هذا الكتاب من إشارات إلى ما ضاع من مؤلفات أركميديز على أنه كشف أيضاً طريقة لإيجاد الجذر التربيعي للأعداد غير المربعة (9)في الموازنات المستوية وفيهِ يطبق الهندسة على الميكانيكا ويدرس مركز الجاذبية لعدة أجسام ذات أشكال مختلفة، ويصوغ ما هو معروف لنا من قوانين علم القوى المتوازنة (10)في الأجسام الطافية وفيه يضع علم توازن السوائل الساكنة وضغطها (الهيدروستاتيكا) وذلك حين يصل إلى قوانين رياضية لمعرفة توازن الجسم الطافي.

ويبدأ الكتاب بالفكرة التي أدهشت الناس في ذلك الوقت وهي أن سطح أي جسم سائل ساكن في حالة توازن هو سطح كري، وأن مركز الكرة التي هو جزء منها هو مركز الأرض نفسها.

ولعل الذي دعا أركميديز إلى دراسة علم توازن السوائل حادثة تكاد تبلغ من الشهرة ما بلغته حادثة نيوتن. وخلاصة قصتها أن الملك هيرون أعطى لصائغ سرقوسي مقداراً من الذهب ليصوغه تاجاً له. فلما أعطاه التاج كان وزنه مساوياً لوزن الذهب، ولكن الملك ارتاب في أن يكون الفنان قد استبدل ببعض الذهب مثل وزنه من الفضة، واحتفظ لنفسه بما أنقصه من الذهب. وأفضى هيرون بريبته هذه إلى أركميديز وأعطاه التاج، ويبدو أنه اشترط عليهِ أن يبدد ارتيابه دون أن يلحق بالتاج أذى، وظل أركميديز عدة أسابيع يقلب الأمر في فكره. حتى إذا خطا يوماً ما في وعاء كبير بحمام عام، لاخظ أن ماءه قد فاض بقدر العمق الذي وصل إليهِ فيهِ، خيل إليه أن وزن جسمه- أي ضغطه إلى أسفل- يقل تدريجاً كلما انغمس في الماء. فما كان منه وهو صاحب العقل الطّلعة إلا أن وضع فجأة "قانون أركميديز"، وهو أن الجسم الطافي يفقد من وزنهِ ما يساوي وزن الماء الذي يزيغه. وظن أن الجسم المغمور في الماء يزيغ منه بمقدار حجمه، وأدرك أن هذا القانون يمكنه من حل مشكلة التاج فخرج عارياً في الطريق (إذا صدقنا قول فتروفيوس المعروف برزانته) وهرول إلى مسكنه وهو يصيح "يوريكا" (لقد وجدتها! لقد وجدتها!). وسرعان ما أدرك وهو في بيته أن قدراً من الفضة ذا وزن معين إذا غمس في الماء يزيغ منه مقداراً أكثر مما يزيغه ذهب مساوٍ له في الوزن، لأن حجم الفضة يزيد على حجم الذهب المساوي له في الوزن. ولاحظ أيضاً أن التاج المغمور في الماء يزيغ منه أكثر مما يزيغه مقدار من الذهب مساوٍ له في الوزن. فاستنتج من هذا أن التاج قد وضع فيهِ معدن أقل كثافة من الذهب. فأخذ يستبدل في الذهب الذي كان يستخدمه للمقارنة فضة بذهب حتى أزاغ الخليط قدر ما يزيغه التاج من الماء. وبذلك استطاع أركميديز أن يعرف بالضبط مقدار ما استخدم في التاج من الفضة، ومقدار ما اختلس من الذهب.

ولم تكن لتحقيقه رغبة الملك من الأهمية لديهِ ما يعادل كشفه قانون الأجسام الطافية وطريقة تقدير الثقل النوعي للأجسام. وصنع أركميديز آلة مثل فيها الشمس والأرض والقمر والخمسة الكواكب المعروفة وقتئذ (زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد) ورتبها بحيث إذا أدير ذراع مركب في الآلة رأى الإنسان هذه الأجرام جميعاً تتحرك في اتجاهات وبسرعات مختلفة(6)؛ ولكنه في أغلب الظن كان يتفق مع أفلاطون في قوله إن القوانين المسيطرة على حركات الأجرام السماوية أجمل من النجوم .

وقد صاغ أركميديز، في رسالة مفقودة بقي بعضها في ملخصات لها، قوانين الرافعة والميزان صياغة بلغ من دقتها أن تقدماً ما لم يحصل فيها حتى عام 1586م، فهو يقول مثلاً في الفرض الرابع: "الأجسام المتناسبة تتوازن إذا كانت على مسافات تتناسب تناسباً عكسياً مع جاذبيتها"(8)، وتلك حقيقة عظيمة النفع تبسط العلاقات المعقدة بين الأجسام تبسيطاً بارعاً يؤثر في نفس العالم كما يؤثر تمثال هرمس لبركستليز في نفس الفنان. وذهل أركميديز حين شاهد ما في الرافعة والبكرة من قوة فأعلن أنه إذا أعطى مرتكزاً ثابتاً استطاع أن يحرك أي شيء يريد تحريكه، ويروى عنه أنه قال في لهجة سرقوسة الدورية Pa po, kai tan gan kino": أعطني مكاناً أقف عليهِ، أحرك لك الأرض(9)" وتحداه هيرون أن يفعل ما يقول، وأشار إلى ما كان يلقاه رجاله من المشقة في رفع سفينة كبيرة من سفن الأسطول الملكي إلى شاطئ البحر. فما كان من أركميديز إلا أن وضع عدداً من الأضراس والبكر بطريقة أمكنته بمفرده وهو جالس عند نهاية هذا الجهاز أن يرفع السفينة الكاملة الشحنة من الماء إلى الأرض(10).

وسر الملك من هذا العمل فطلب إلى أركميديز أن يضع له تصميمات لبعض عدد الحرب، وكان من غريب صفات الرجلين أن أركميديز بعد أن وضع هذه التصميمات نسيها، وأن هيرون لحبه السلم لم يستخدمها. وقد وصف فلوطرخس أركميديز فقال:

"إنه بلغ من علو الهمة وعمق التفكير، وغزارة المادة العلمية ما سما به عن أن يترك وراءه أي شيء مكتوب في هذه الموضوعات، وإن كانت هذه الاختراعات قد أذاعت في الخافقين ذكاءه العظيم الذي لا نظير له بين الخلائق طراً. فقد نبذ كل فن لا غاية له إلا النفع والكسب المادي وعده فناً دنيئاً حقيراً، وخص حبه كله وآماله كلها في تلك المباحث العلمية الخالصة التي لا صلة بنها وبين مطالب الحياة الوضيعة- وهي تلك الدراسات التي لا يشك إنسان في سموها على سائر الدراسات، بل كل ما يشك فيهِ هو هل جمال الموضوعات التي تبحثها وعظمتها، أو دقة طرق البرهنة على صحتها وقوة الاقتناع بها، هي أعظم الأشياء جدارة بإعجابنا". ولما أن مات هيرون قام النزاع بين سرقوسة ورومة، وهاجمها مارسلس الباسل براً وبحراً. وكان أركميديز وقتئذ (212) في السابعة والخمسين من عمرهِ ولكنه مع هذا أشرف على الدفاع في الجبهتين، فأقام خلف الأسوار التي تحمي الميناء منجنيقات تقوى على قذف الحجارة الثقيلة مسافات بعيدة. وكان وابل القذائف التي تلقيها هذه المنجنيقات شديد الوقع فاضطر مارسلس إلى التقهقر حتى يفاجئ المدينة ليلاً. فلما أن أبصر أهلها سفن العدو قرب الشاطئ أمطر الرماة بحارتها وابلاً من السهام من بين الثقوب التي صنعها أعوان أركميديز في الأسوار. وفضلاً عن هذا فقد وضع المخترع العظيم في داخل هذه الأسوار رافعات وبكرات ضخمة تلقي بالقرب من السفن كتلاً كبيرة من الحجارة والرصاص أغرقت الكثير منها. وكانت رافعة أخرى، مسلحة بخطاطيف تمسك بالسفن، وترفعها في الهواء، وتقذفها على الصخور، أو تلقيها بمقدمها في البحر . وابتعد مارسلس بأسطوله ووضع كل آماله في هجومه براً. ولكن أركميديز أمطر الجنود حجارة ضخمة من منجنيقات بلغت من القوة والإحكام حداً اضطر معه الرومان إلى الفرار وهم يقولون إن الآلهة نفسها كانت تقاومهم.، وأبوا أن يتقدموا بعدئذ للقتال(14). يعلق يولبيوس على ذلك بقوله: "وهكذا تتبدى في هذا الاختراع العظيم المدهش عبقرية رجل واحد استخدمت الاستخدام الصحيح". ولم يكن الرومان الأقوياء بحراً وبراً يرتابون في الاستيلاء على المدينة من فورهم إذا أبعد عنها رجل واحد طاعن في السن؛ وما دام هذا الرجل باقياً فيها فإنهم لم يجرءوا قط على مهاجمتها(15)".

وتخلى مارسلس عن فكرة الاستيلاء على المدينة عنوة وآثر أن يستولي عليها بالحصار الطويل، فضرب عليها حصاراً دام ثمانية أشهر نفدت فيها مئونتها فاستسلمت له من فرط الجوع. وأعمل فيها الجند القتل والسلب لكن مارسلس أمرهم ألا يمسوا أركميديز بأذى. والتقى في أثناء النهب جندي روماني بشيخ سرقوسي منهمك في دراسة أشكال رسمها على الرمل. فأمره الجندي الروماني بأن يحضر من فوره لمقابلة مارسلس وأبى أركميديز أن يذهب إلا بعد أن تحل المسألة التي كان منهمكاً فيها. ويقول فلوطرخس إنه "ألح على الجندي وتوسل إليه أن ينتظره قليلاً، حتى لا يضطر إلى ترك ما يشتغل به ناقصاً لم يصل فيه إلى نتيجة مقنعة؛ ولكن الجندي لم يؤثر فيه رجاء الرجل فقتله من فوره(16)". ولما سمع بذلك مارسلس حزن عليه وبذل كل ما في وسعه ليواسي أهل القتيل(17). وأقام القائد الروماني قبراً فخماً تخليداً لذكراه نقش عليه بناء على رغبة العالم الرياضي كرة داخل اسطوانة. ذلك أن أركميديز كان يعتقد أن وصوله إلى القوانين التي أوجد بها مساحتي هذين الشكلين وحجميهما أعظم ما عمله في حياته. ولم يكن الرجل في ظنه هذا بعيداً كل البعد عن الصواب، فإن إضافة نظرية هامة إلى نظريات الهندسة أعظم قيمة للإنسانية من حصار مدينة أو الدفاع عنها. ومن حق أركميديز علينا أن نضعه في المستوى الذي نضع فيه نيوتن، وأن تقول إنه ترك للعالم "عدداً من الاكتشافات الرياضية الجليلة الشأن لا يفوقه فيه إنسان بمفرده في تاريخ العالم كله(18)".

ولولا كثرة الأرقاء وقلة أجورهم لكان أركميديز زعيم انقلاب صناعي حقيقي. ذلك أن رسالة في المسائل الميكانيكية تعزى خطأ إلى أرسطو، ورسالة في الأثقال تعزى خطأ إلى إقليدس، قد وضعتا عدة قوانين أولية في علم القوى المحركة (الديناميكا) وعلم القوى المتوازنة (الأستاتيكا) قبل أركميديز بمائة عام. وأحال استراتو اللمبسكسوسي Strato of Lampasacus، الذي تولى بعد ثاوفراسطوس رياسة اللوقيون، ماديته الجبرية إلى علم الطبيعة وصاغ (حوالي عام 280) المبدأ القائل بأن "الطبيعة تكره الفراغ(19)". ولما أن أضاف إلى ذلك قوله إن "الفراغ يمكن إيجاده بوسائل اصطناعية" مهد بذلك السبيل إلى ألف من المخترعات. فدرس تسبيوس الإسكندري Ctesibius طبيعة الممصات (وكانت مستخدمة في مصر من عام 1500 ق.م) واخترع المضخة الرافعة، والأرغن المائي، والساعة المائية. وأكبر الظن أن أركميديز قد حسن اللولب المائي المصري (الطنبور) الذي أطلق عليه اسمه على غير علم منه، وهو الآلة التي جعلت الماء يجري إلى أعلى(20). واخترع فيلون البيزنطي الآلات التي تتحرك بالهواء، وعدداً من آلات الحرب المختلفة الأنواع(21). وكانت الآلة البخارية التي اخترعها هيرون الإسكندري Heron of Alex.، بعد أن فتح بلاد اليونان آخر مخترعات هذا العصر وأعظمها. وسبب ذلك أن التقاليد الفلسفية كانت أقوى من أن تقضي عليها هذه النزعة العلمية العملية، وأن الصناعة اليوناني قد اقتنعت بالاعتماد على الأرقاء. لقد كان اليونان على علم بالمغنطيس وبما في الكهرمان من خواص كهربائية، ولكنهم لم يروا في هذه الظواهر الغريبة ما يمكن أن تفيد منه الصناعة، وحكم القدم على غير علم منه أن الحداثة غير جديرة بالعناية.


الفصل الثالِث: أرستاخوس، وهبارخوس، وإرتسثنيز

تدين علوم اليونان الرياضية بازدهارها والقوة الدافعة لها إلى مصر، ويدين الفلك اليوناني بازدهاره وقوته الدافعة إلى بابل. ذلك أن استيلاء الإسكندر على بلاد الشرق قد أدى إلى تبادل الأفكار وإلى اتساع ذلك التبادل الذي أعان منذ ثلاثة قرون قبل ذلك الوقت على ميلاد العلم اليوناني في أيونيا. وفي وسعنا أن نعزو إلى هذا الاتصال الجديد بمصر والشرق الأدنى ما نراه من تناقض. فقد بلغ العلم اليوناني ذروته في العصر الهلنستي، حين كان الأدب اليوناني والفن اليوناني آخذين في الاضمحلال. ولمع اسم أرتساخوس الساموسي في الفترة الواقعة بين العهدين اللذين سيطرت فيهما على علم الفلك النظرية القائل بأن الأرض مركز الكون. وكان هذا العالم شديد التحمس لدراسة الفلك فلم يترك فرعاً منه إلا بحثه، ونبغ في هذه الفروع جميعاً(22). ولسنا نجد في رسالته الوحيدة التي بقيت لنا حتى الآن والمسماة "في حجم الشمس والقمر وبعديهما " أية إشارة إلى أن الشمس مركز العالم، بل إن هذه الرسالة تفترض عكس هذا، تفترض أن الشمس والقمر يتحركان في دائرتين حول الأرض. ولكن كتاب أركميديز "حاسب الرمل" يعزو صراحة إلى أرستاخوس "الفرض القائل إن النجوم الثوابت والشمس تظل ثابتة لا تتحرك، وإن الأرض تدور حول الشمس في محيط دائرة، وإن الشمس في وسط هذا المدار(23)"، ويقول فلوطرخس إن كلينثيز الرواقي كان يعتقد أن أرستاخوس يجب أن يتهم "بتحريكه مسكن الكون" (أي الأرض(25". وأيد سلوقس السلوقي Seleucus of Selucia الرأي القائل بأن الشمس مركز العالم، ولكن رأي العلماء في العالم اليوناني قرر عكس هذا، ويبدو أن أرستاخوس نفسه قد نزل عن هذا الافتراض حين عجز عن التوفيق بينه وبين حركات الأجرام السماوية التي كانوا يظنونها دائرية؛ ذلك أن علماء الفلك على بكرة أبيهم كانوا يرون أن من القضايا المسلم بها قطعاً أن هذه الأفلاك دائرية. ولعل كراهية السم هي التي دفعت أرستاخوس إلى أن يكون جليلو العالم القديم وكوبرنيقه.

وكان من سوء حظ العلم الهلنستي أن أعظم الفلكيين اليونان هاجم النظرية القائلة إن الشمس مركز العالم بحجج كانت تبدو للناس أجمعين قبل كوبرنيق أنها حجج لا يمكن دحضها أبداً. وكان هبارخوس النيقي of Nicaea (في بيثينيا) عالماً من الطراز الأول، رغم ما وقع فيه من خطأ كان له شأن عظيم في عصره؛ فقد كان عظيم الشغف بالمعرفة، طويل الصبر على البحث، دقيقاً شديد العناية بالملاحظة ونقل ما يلاحظ إلى غيره، حتى لقد أطلق عليه الأقدمون لقب "حبيب الحقيقة(26)". وقد مس وازن كل فرع من فروع الفلك تقريباً، وظلت النتائج التي وصل إليها فيه ثابتة سبعة عشر قرناً كاملة. غير أننا لم يبقَ لنا من مؤلفاته الكثيرة إلا كتاب واحد- وهو شرح لكتاب الفينومينا Phainomena (الظواهر الطبيعية) ليودكسوس، وأراتوس الصولي؛ ولكننا بعرفه من كتاب المجسطي تأليف كلوديوس بطليموس Claudius Ptolemy (140 م. تقريباً)، لأن هذا الكتاب يعتمد على بحوثه وتقديراته. ومن أجل هذا كان من الواجب أن يسمى "فلك بطليموس" "فلك هبارخوس". وأكبر الظن أنه هو الذي حسن الاسطرلابات وآلات قياس الزوايا وهي أهم الآلات الفلكية في زمانه؛ ولعله قد استعان على هذا التحسين بنماذج الآلات البابلية؛ واخترع طريقة تعيين الأماكن على سطح الأرض بخطوط الطول والعرض، وحاول أن ينظم الفلكيين في بلاد البحر الأبيض المتوسط ليقوموا بأعمال الرصد والقياس التي يستطيعون بها تحديد مواضع البلاد الهامة بهذه الطريقة. لكن الاضطرابات السياسية حالت دون تنفيذ هذه الخطة حتى استتب النظام في عصر بطليموس. واستطاع هبارخوس بفضل دراسته الرياضية للعلاقات الفلكية أن يضع جداول جيوب الزوايا، وأن يبتكر بذلك حساب المثلثات. ومما لا ريب فيه أنه استعان بالسجلات المسمارية التي جيء بها من بابل فحدد أطوال السنين الشمسية، والقمرية، والنجمية، تحديداً لا يكاد يختلف عن أطوالها الصحيحة؛ فقد قدر السنة الشمسية بثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وربع يوم إلا أربع دقائق و48 ثانية- وهو يختلف عن تقدير هذه الأيام بست دقائق لا أكثر. وكان تقديره للشهر القمري الوسطى 29 يوماً، 12 ساعة، 44 دقيقة، 1slash22 ثانية. وهو يختلف عن التقدير المعترف به اليوم بأقل من ثانية(27). وحسب أزمنة اقتران الكواكب، وميل مدار القمر عن فلك الأرض، وحدد أكبر بعد بين الشمس والأرض، واختلاف موقع القمر بالنسبة للنجوم باختلاف موضع الراصد على سطح الأرض(28)، وقدر بعد القمر عن الأرض بمائتي ألف وخمسين ألف ميل فلم يخطئ إلا في خمسة في المائة.

واستنتج هبارخوس بالاعتماد على هذه المعلومات كلها أن القول بأن الأرض مركز العالم يفسر هذه الحقائق كلها أحسن مما يفسرها فرض أرستارخوس. ذلك أن النظرية القائلة بأن الشمس مركز العالم لا يمكن أن تثبت على التحليل الرياضي إلا إذا افترضنا أن مدار الأرض قطع ناقص، وهو فرض لا يوائم التفكير اليوناني، حتى ليبدو أن أرستارخوس نفسه لم يعنَ ببحثهِ. وأوشك هبارخوس أن يمسه في نظريته عن "الانحرافات" التي فسر بها ما يبدو من شذوذ في سرعة مسير الشمس والقمر في فلكيهما حين قال إن مركزي فلكي الشمس والقمر مائلان قليلاً على أحد جانبي الأرض. وأوشك هبارخوس أن يكون أعظم أصحاب النظريات الفلكية وأعظم الراصدين بين علماء الفلك الأقدمين على بكرة أبيهم.

وبينما كان هبارخوس يرقب السماء ليلة بعد ليلة إذ دهش ذات مساء لظهور نجم في مكان لا ريب عنده في أنه لم يرقب فيه نجماً من قبل. ولكي يثبت ما سوف يحدث من اختلاف في مواضع النجوم في مستقبل الأيام صنع حوالي عام 129 ق.م. فهرساً، وخريطة، وكرة حدد فيها مواضع 1080 من النجوم الثوابت بالنسبة لخطوط الطول والعرض السماوية. وقد أفاد دارسو السماء من عملهِ ذها أعظم فائدة. ووازن هبارخوس خريطته بخريطة تموكارس التي صنعها قبل خريطته بمائة وست وستين سنة فتبين أن النجوم قد غيرت مكانها الظاهري نحو درجتين في هذه الفترة الزمنية. وعلى هذا الأساس كشف هبارخوس أدق كشوفه كلها . وهو تقدم الاعتدالين- ويعني به تقدم اللحظة التي تقع فيها نقطتا الاعتدالين على خط الزوال . وقدر هذا التقدم بست وثلاثين ثانية كل سنة؛ والتقدير المأخوذ به الآن خمسون ثانية.

ولقد كان بين أرستارخوس وهبارخوس في الترتيب الزمني عالم آخر واسع الاطلاع، في فروع من العلم متعددة، ويمتاز بغزارة علمه في عدد كبير من الميادين، وكان ثاني المتفوقين فيها جميعاً، ومن أجل ذلك لقب بنتاثلوس وبيتا Pentathlos and Beta. وتقول الرواية المأثورة إن ارتسثنيز تلقى العلم على معلمين أفذاذ: زينون الرواقي، وأرسلوس المتشكك، وكلمخوس الشاعر، وليسنياس النحوي. وقبل أن يبلغ الأربعين من عمره ذاعت شهرته في كثير من فروع العلم المختلفة حتى جعله بطليموس الثالث أمين مكتبة الإسكندرية. وكتب ديوان شعر وتاريخاً للمسلاة، وحاول في كتاب الكرونوغرافيا Chronography أن يحدد أوقات الحادثات الكبرى في تاريخ بلاد البحر الأبيض المتوسط. وقد كتب أيضاً رسائل في الرياضيات واخترع طريقة آلية لإيجاد نسب وسطى متناسبة تناسباً مطرداً بين خطين مستقيمين. وقاس ميل مستوى الفلك وحدد هذا الميل ب51 23ْ فلم يخطئ إلا في نصف في المائة. لكن أعظم أعماله هو تقديره طول محيط الأرض ب24.662 ميلاً(30)، ونحن نقدره الآن ب24.847. فقد لاحظ في ظهر يوم الانقلاب الصيفي أن الشمس عند مدينة سييني تسطع عمودية على سطح جدار ضيق، ثم عرف أن ظل مسلة في الإسكندرية التي تبعد عن سييني إلى الشمال بنحو خمسمائة ميل يدل على أن الشمس تميل عن سمت الرأس بنحو 1\2 7ْ إذا قيست وقت الزوال على خط الطول الذي يصل بين البلدين، فاستنتج من هذا أن القوس الذي يبلغ 1\2 7ْ على محيط الأرض يساوي خمسمائة ميل، وأن محيط الأرض بهذه النسبة =360 ÷ 7.5 × 500 أو 24.000 ميل. وبعد أن قاس إرتسثنيز الأرض انتقل إلى وصفها فجمع في كتابهِ الجغرافيكا Geographica تقريرات جميع علماء المساحة في الإسكندرية، والرحالة البريين أمثال Megasthenes والبحريين أمثال نيارخوس، والرواد أمثال بيثياس المساليائي Pythias of Massalia، الذي طاف حول اسكتلندة في عام 320، ووصل إلى النرويج ولعله وصل أيضاً إلى الدائرة القطبية الشمالية(31). ولم يكتفِ أرتسثنيز بوصف تضاريس كل إقليم ومظاهره الطبيعية، بل حاول أيضاً أن يفسرها بفعل المياه الجارية، والنيران والزلازل والثورات البركانية(32). وطلب إلى اليونان أن يتخلوا عن تقسيمهم الضيق لبني الإنسان إلى هلنيين وبرابرة، وأعلن أن الناس يجب أن يقسموا أفراداً لا أقواماً؛ وقال إنه يرى أن كثيرين من اليونان سفلة أنذال، وأن كثيرين من الفرس والهنود قوم ظرفاء؛ وأن الرومان قد أظهروا أنهم أكثر استعداداً من اليونان للنظام الاجتماعي والحكم الصالح القدير(33). ولم يكن يعرف إلا القليل عن شمالي أوربا وآسية، وكان علمه بالهند الممتدة جنوب نهر الكنج أقل من هذا القليل. أما شمال أفريقية فلم يكن يعرف عنه شيئاً على الإطلاق. ولكنه كان على ما وصل إليه علمنا أول عالم جغرافي ذكر الصينيين في كتبهِ. وقد ورد في فقرة أخرى من هذه الكتب عظيمة الدلالة: "لو أن اتساع المحيط الأطلنطي لم يقم عقبة في سبيلنا لكان من السهل علينا أن ننتقل بطريق البحر من إيبيريا Iberia (أسبانيا) إلى الهند متتبعين دائرة واحدة من دوائر العرض(34)".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرّابع: ثاوفراسطوس، هيروفيلوس، إراسستراتوس

لم يبلغ علم الحيوان في الزمن القديم مثل ما بلغه في كتاب أرسطو المسمى تاريخ الحيوان، والراجح أن خليفته ثاوفراسطوس قد اتفق معه على أن يوزعا العمل بينهما، فكتب هو تاريخ النبات، وكتب بحثاً آخر أكثر إيغالاً في البحث النظري يسمى أسباب النبات. وكان ثاوفراسطوس يحب فن فلاحة البساتين ويعرف كل صغيرة وكبيرة في موضوعه. وكانت نزعته العلمية في كثير من النواحي أعظم من نزعة أستاذه، كما كان أكثر منه عناية بالحقائق، وأدق نظاماً في عرضها؛ ومن أقوالهِ في هذا المعنى أن الكتاب الخالي من التصنيف غير خليق بأن يعتمد عليه مثله كمثل الجواد غير الملجم(35). وقد قسم النباتات جميعاً إلى أشجار، وشجيرات، وأعشاب، وحشائش؛ وميز أجزاء النبات بعضها من بعض، وقسمها إلى جذر ، وساق، وأغصان، وعساليج، وأوراق، وأزهار، وفاكهة- وهو تقسيم لم يدخل عليه أي تحسين حتى عام 1561(36)م. وقد كتب في ذلك يقول: "للنبات قدرة على التوالد سارية في جميع أجزائه، لأن فيه حياة تسري فيها جميعاً... وطرق توالد النبات هي: الطريقة التلقائية من بذرة، أو جذر، أو قطعة تقطع منه، أو غصن، أو عسلوج، أو قطع من الخشب تقسم أقساماً صغيرة، أو من الجزع نفسه(37)". ولم يعرف شيئاً عن التكاثر بالتزاوج الجنسي في النبات، اللهم إلا عن عدد قليل من أنواعه كأشجار التين، ونخل البلح؛ وهنا سار على نهج البابليين فوصف عمليتي التلقيح، والتختين لإنضاج الفاكهة قبل الأوان بوسائل اصطناعية. وبحث في التوزيع الجغرافي للنبات، وفي فوائده للصناعة، وفي أنسب الأحوال الجوية لنمائه وقوته. ودرس التفاصيل الجزئية لنحو خمسمائة نوع من أنواع النبات دراسة دقيقة في جميع أجزائها دقة تثير الدهشة، وذلك في وقت لم يكن فيه مجهر يعين على هذه الدراسة. وأدرك قبل جيتة بعشرين قرناً أن الزهرة ورقة متحولة(38). وكان عالماً طبيعياً في أكثر من ناحية، يرفض بقوة ما كان منتشراً في أيامه من تفسير بعض المظاهر العجيبة في النبات بالرجوع إلى القوى غير الطبيعية(39). وكان يتصف بما يتصف به العلماء من حب البحث؛ ولم يكن يرى أن مقامه بوصفه فيلسوفاً ينقص منه أن يكتب رسائل كل واحدة منها في موضوع واحد، كالحجارة، والمعادن، والجو، والرياح، والسأم ، والهندسة النظرية، والفلك، ونظريات الطبيعة التي كانت منتشرة عند اليونان قبل أيام سقراط(40). وفي ذلك يقول سارتن Sarton: "لو لم يكن أرسطو من رجال ذلك العصر لسمي عصر ثاوفراسطوس(41)".

ولخص "كتاب" ثاوفراسطوس التاسع كل ما كان يعرفه اليونان عند خواص النباتات. وفي هذا الكتاب فقرة تشير إلى التخدير وردت في قوله إن "الدقتمون Dittany نبات نافع بوجه خاص للنساء في أثناء الوضع؛ ويقول بعض الناس إنه إما أن يسهل الوضع أو إنه يوقف الألم(42)" وتقدم الطب بخطى سريعة في هذا العصر، ولعل سبب تقدمه أنه كان لا بد له أن يسير بنفس السرعة التي تفشو بها الأمراض الجديدة المتزايدة في حضارة المدن المعقدة. وكانت دراسة اليونان لمعلومات المصريين الطبية باعثاً قوياً على هذا التقدم. وكان البطالمة لا يترددون في تقديم أية مساعدة يحتاجها علماء الطب، فلم يكونوا يجيزون تشريح الحيوانات وجثث الموتى من الآدميين فحسب، بل كانوا يرسلون بعض المجرمين المحكوم عليهم بالإعدام لتشرح أجسامهم وهم أحياء(43). وبفضل هذا التشريح أصبح التشريح الآدمي علماً، وقلت إلى حد كبير الأغلاط السخيفة التي وقع فيها أرسطو.

وقام هيروفيلوس الخلقدوني الذي كان يعمل بالإسكندرية حوالي عام 85 بتشريح العين ووصف الشبكية وأعصاب النظر وصفاً طبياً. وشرح أيضاً المخ، ووصف مقدم الدماغ، والمخيخ، والسحايا، وسمي باسمه معصار هيروفيلي . وأعاد للمخ مكانته السامية بأن جعله مركز التفكير، وفهم وظيفة الأعصاب، وكان البادئ بتقسيمها إلى أعصاب حس وأعصاب حركة، وفصل أعصاب الجمجمة عن أعصاب النخاع الشوكي، وميز الشرايين من الأوردة، وحدد وظيفة الشرايين بأنها هي الأوعية التي تحمل الدم من القلب إلى مختلف أجزاء الجسم، وكشف في واقع الأمر الدورة الدموية قبل أن يكشفها هارفي(44) Harvey. بتسعة عشر قرناً. وقد أخذ بإشارة وردت في أقوال بركساغورس الطبيب الكوسي فضم جس النبض إلى وسائل تشخيص الأمراض، واستخدم ساعة مائية لقياس عدد ضربات القلب. وشرح المبيض والرحم والحويصلات المنوية، وغدة البرستاتة ووصفها كلها؛ ودرس الكبد، والبنكرياس، وسمى الأمعاء الأثني عشري بالاسم الذي لا يزال يعرف به إلى اليوم(45). ومن أقوال هروفيلوس المأثورة؛ "إن العلم والفن لا يكون لهما ما يعرضانه، وإن القوة لتعجز عن بذل أي جهد، والثروة لتصبح عديمة النفع، والفصاحة تفقد قوتها، حين تنعدم صحة الجسم(46)".

ولقد كان هروفيلوس، على قدر ما نستطيع أن نحكم بالاستناد إلى معلوماتنا الحاضرة، أعظم علماء التشريح في العهد القديم، كما كان إرسستراتوس أعظم علماء وظائف الأعضاء. وقد ولد اسستراتوس في كيوس Ceos، ودرس في أثينة، ومارس مهنة الطب في الإسكندرية حوالي عام 258 ق.م. وقد استطاع أن يميز المخ من المخيخ تمييزاً أدق من هروفيلوس، وأجرى تجارب على الأجسام الحية لدراسة عمليات المخ، ووصف وشرح عمل الغلصمة (لسان المزمار)، والأوعية اللمفاوية في غشاء الأمعاء؛ والصمامين الأورطي، والرئوي في القلب. وكان لديه فكرة ما عن التمثيل الأساسي للأغذية لأنه ابتدع مسعراً فجاً لقياس حرارة الزفير(47). ويقول إرسستراتوس إن كل عضو يتصل بسائر أجزاء الكائن الحي بثلاث طرق- بشريان، ووريد، وعصب. وأجتهد أن يعلل جميع الظواهر الفسيولوجية بعلل طبيعية، ورفض كل ما يشير إلى موجودات خفية كما رفض نظرية الاختلاط التي قال بها هبارخوس، والتي احتفظ بها هروفيلوس. وكان يرى أن الطب هو فن منع المرض بمراعاة قواعد الصحة، وليس هو علاج المرض بالدواء. وكان يقاوم كثرة استعمال العقاقير، والحجامة، ويعتمد على تنظيم التغذية والاستحمام والرياضة(48).

أولئك هم الرجال الذين جعلوا الإسكندرية في العصر القديم أشبه بفينا في هذه الأيام. غير أنه كانت توجد أيضاً مدارس عظيمة للطب في تراتس Tralles، وميليطس، وإفسوس، وبرجموم، وتاراس؛ وسرقوسة. وكان للكثيرين من المدن إدارات طبية بلدية، بتقاضي الأطباء القائمون بالعمل فيها مرتباً وسطاً، ولكن كان من أسباب فخرهم أنهم لا يفرقون بين الأغنياء والفقراء، والأحرار والأرقاء، وأنهم كانوا تهبون أنفسهم لعلمهم في أي وقت مهما يكن الخطر المحدق بهم. فقد ذهب أبلونيوس الملطي ليكافح الطاعون في الجزائر القريبة من موطنه دون أن ينال على ذلك أجراً، ولما أن فتك المرض بجميع أطباء كوس بعد أن بذلوا كل ما يستطيعون من الجهد لمقاومته، وأقبل غيرهم من أطباء المدن المجاورة لإنقاذهم. وما أكثر القرارات العامة التي أصدرها الحكام للإشادة بذكر الأطباء الهلنستيين والاعتراف بفضلهم؛ ومع أن الكثيرين من القدماء كانوا يسخرون من عجز الأطباء المأجورين، فإن هذه المهنة العظمى قد احتفظت بذلك المستوى الأخلاقي الرفيع الذي ورثته عن أبقراط والذي كانت تعده أعظم تراثه وأثمنه.