قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 4 ف 34

صفحة رقم : 14740

قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> روسيا -> الظروف المحيطة بالروس

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع والثلاثون: روســيا 1796 - 1812

الظروف المحيطة بالروس

كتب تاليران في سنة 6181: كان من الممكن أن تكون فرنسا والنمسا أقوى قوتين في أوربا لو لم تكن قوة أخرى قد ظهرت في الشمال (خلال القرن الأخير) تلك القوة الشمالية التي كان تقدمها المرعب والسريع مسببا بالضرورة للفزع، فقد كانت اعتداءاتها وتجاوزاتها قد أصبحت بالفعل سمة من سماتها، ولم تكن هذه التجاوزات سوى مقدمات لمزيد من الغزو الذي سينتهي بابتلاعها كل شيء(1).

إن المساحة الهائلة يمكن أن تصنع التاريخ. طالع خريطة العالم من كالينينجراد Kaliningrad (التي عرفها كانط باسم كونيجسبرج Konigsberg) على بحر البلطيق إلى كامشتكا Kamchatka على المحيط الهادئ (الباسفيكي)، ومن المحيط المتجمد الشمالي إلى بحر قزوين، وروسيا تشغل كل المساحة الواقعة بين الهملايا ومنغوليا والصين واليايان. لندع الخريطة تتكلم أو لنستمع إلى مدام دي ستيل التي اتخذت طريقها من فينا إلى سان بطرسبورج في سنة 2181: مساحة روسيا شاسعة لدرجة أن كل شيء يضيع فيها حتى القصور الضخام بل وحتى السكان. إنه يهيأ للمسافر فيها أنه يسافر في بلاد هجرها سكانها للتو... وأوكرانيا خصبة التربة جدا.. فأنت ترى سهولاً شاسعة مزروعة حنطة فيهيأ لك أن أيادي خفية زرعتها، فعدد السكان قليل، والتجمعات السكنية نادرة(2).

ويحتشد السكان في قرى متناثرة لأنهم لم ينسوا بعد التتار الذي عاثوا في الأرض فسادا وراحوا يقتلون باستمتاع. لقد رحل التتار لكن قد يأتي آخرون مثلهم، وقد تركوا (التتار) شيئا من قسوتهم ليؤثر في أساليب الروس في العيش ونزوعهم الشديد إلى الكد والكدح والانضباط. لقد كان الانتخاب الطبيعي (البقاء للأصلح) يعمل عمله فيهم بلا رحمة ليبقي على قيد الحياة التواقين للعمل يزرعون الأرض ويحرثون النساء بلا كلل ولا ملل، وقد جعل بطرس الأكبر من بعضهم جندا وملاحين، وجلب من أتوا بعده المغامرين الألمان، والتشيك المهرة، ودفعت كاترين الجيوش الكبيرة والجنرالات المغرورين ليتوغلوا جنوبا دافعين التتار والترك أمامهم فاستولو على القرم وأبحروا منتصرين في البحر الأسود.

واستمر التوسع في عهد إسكندر الأول، واستقر الروس في ألاسكا وأقاموا حصنا بالقرب من سان فرانسيسكو وأسسوا مستعمرة كاليفيورنيا(3)، لقد جعل المناخ القاسي لروسيا الأوربية - حيث لا جبال ولا غابات تحميها من برد القطب الشمالي - من الشعب الروسي شعباً شديد البأس يمكنه تحقيق المستحيل إذا وجد الخبز وأتيح له الوقت. وفي ظل هذه الظروف كان من الممكن أن يكون الروس قساة لأن الحياة قاسية عليهم، وكان من المفهوم أن يكونوا معذبين للأسرى والسجناء، ذباحين لليهود. لكنهم لم يكونوا جامدين يتعذر تغيير طباعهم، فقد أثرت الحياة الآمنة فيهم بشكل متزايد فصاروا أرق حاشية وأتقى، وراحوا يتعجبون لم قتلوا؟ ولم كانوا آثمين؟ وراحوا ينظرون إلى العالم الثائر المضطرب غير المفهوم باستغراب شديد وصل بهم إلى حد الهذيان. إلا أن الدين هدأ من عجبهم ولطف من حدة اضطرابهم. لقد قام رجال الدين هنا بدور الجيش الروحي لدعم قوة القانون بقوى أخرى باطنية مستمدة من الميثولوجيا لإعطاء القانون بعداً باطنيا أو لشرحه وتفسيره، وللترغيب والترهيب، تماما كما فعل رجال الدين في المراحل الأولى في مجتمعات غرب أوربا. وكان القياصرة يعلمون أهمية هذه الميثولوجيا وحيويتها لتحقيق الانضباط الاجتماعي وحث العامل على أداء عمله بصبر، والتشجيع على التضحية بالنفس في الحرب والسلم. فدفع القياصرة مرتبات عالية لرجال الدين من ذوي الرتب الكنسية العليا، ودفعوا لرجال الدين ممن هم أقل درجة مرتبات كفيلة بإعاشتهم وكفيلة بدعم ولائهم الوطني. وقد حمى القياصرة المنشقين الدينيين طالما ظلوا موالين للدولة ولايسببون إزعاجا. لقد تغاضت كاترين الثانية وتغاضى أيضا إسكندر الأول عن المحافل الماسونية التي كانت تدعو - بحذر - لإصلاحات سياسية.

لقد تمسك النبلاء الروس بكل حقوقهم الإقطاعية ومارسوها وكانوا يتحكمون - تقريبا - في كل جانب من جوانب حياة أقنان الأرض العاملين في أراضيهم، فكان يمكن للسيد الإقطاعي أن يبيع رقيق الأرض من العاملين عنده، كما كان يمكنه تأجيرهم للعمل في المصانع في المدن، وكان يمكنه أن يودع من يشاء منهم في السجن ويضربه بالعصا أو يجلده بالسوط. وكان يمكنه أن يعهد بهم إلى الحكومة لتشغيلهم في سيبيريا أو سجنهم هناك(4) وكان في هذا شيء من التخفيف عليهم. وكان بيع عبد الأرض (القن) بمفرده دون أسرته أمراً نادرا، لكن بعض النبلاء أسهموا في تعليم بعض الأقنان وغالبا ما كان هذا التعليم من النوع التقني أو الحرفي الذي يفيد العمل في ممتلكات النبيل، وأحيانا يكون هذا التعليم لإعداده لمجال أوسع، فقد سمعنا أنه في نحو سنة 0081 كان هناك قن serf يدير مشروعاً للنسيج به خمسمائة نول لكن معظم هذه الأنوال كانت في بيوت في مزارع أسرة شيرمتيف Sheremetev الشاسعة. ويشير تعداد السكان في روسيا في سنة 3871 إلى أن إجمالي عدد السكان هو 850،776،52 نفس، وكان هناك من بين الذكور البالغ عددهم 925،838،21 أقنان يمتلكهم أصحاب الأراضي، يبلغ عددهم (أي الأقنان) 932و 986 و 6 (لكل قن منهم أنثاه) أي أكثر من نصف السكان. لقد بلغت القنانة ذروتها في تلك الفترة، وساءت في عهد كاترين، وتخلى إسكندر الأول عن محاولاته الباكرة للتقليل منها(5).

ويشير الإحصاء الآنف ذكره إلى أن 5.59% من سكان روسيا من أهل الريف، لكن هذا الرقم يشتمل على فلاحين يعملون في المدن ويعيشون فيها. وكانت المدن تنمو ببطء فلم يكن يزيد عدد ساكنيها في سنة 6971 عن 000.103،1 نفس(6). وكانت التجارة فعالة ونامية خاصة على طوال السواحل وفي القنوات المائية الكبيرة - وكانت أوديسا Odessa بالفعل مركزا عامراً للتجارة البحرية، أما الصناعة فكان نموها أبطأ، فكثير من النشاطات الصناعية كان يتم في محلات ومنازل في مناطق ريفية. وكانت حرب الطبقات أقل استعارا بين البروليتاريا وأصحاب الأعمال منها بين طبقة التجار الصاعدة - التي كان أفرادها يئنون من وطأة الضرائب - والنبلاء المعفيين من أداء الضرائب.

وكان التفاوت بين الطبقات حادا وكان القانون يقننه ويرسم له حدودا، ومع هذا فقد كان هذا التفاوت الطبقي يقل رويدا رويدا كلما تطور الاقتصاد وانتشر التعليم. وكان الحكام الروس قبل بطرس الأكبر غير مرتاحين للمدارس لأنها تفتح الطريق لراديكالية غرب أوربا، وللعقوق (اللاتقوى) ومع هذا فإن بطرس - رغبة منه في أن يكون مقبولا لدى الغرب الأوربي - أسس مدارس للبحرية والهندسة ليدخلها أبناء النبلاء ومدارس أبرشية لإعداد القسس، واثنتين وأربعين مدرسة ابتدائية يدخلها أبناء كل الطبقات ما عدا أبناء الأقنان، وكانت هذه المدارس تنحو نحواً حرفيا (تكنولوجيا). وفي سنة 5971 أسس ب. P. شوفالوف Shuvalov جامعة موسكو بقسمين؛ قسم للنبلاء وآخر للعوام، وتأثرت كاترين بأفكار المثقفين الفرنسيين فنشرت المدارس على نطاق واسع، ودافعت عن حق المرأة في التعليم. وسمحت بإقامة دور نشر خاصة، فقد صدر في أثناء فترة حكمها 48% من إجمالي الكتب التي نشرت في روسيا في القرن الثامن عشر. وبحلول عام 0081 كان في روسيا بالفعل طبقة مثقفين (أهل الفكر) سرعان ما ستكون ذات شأن في التاريخ السياسي للأمة الروسية. وبحلول هذا العام أيضا (0081) وصل بعض التجار أو أبناء التجار إلى مواقع النفوذ، بل ووصل بعضهم إلى مناصب في البلاط. ورغم لاهوت الأساقفة والقسس المحليين - ذلك اللاهوت المتسم بالحرارة والتوقد - فإن مستوى الأخلاق والطباع كان بشكل عام أدنى في غرب أوربا فيما عدا لدى القلة في البلاط. فغالب الروس كانوا طيبي القلب وكرماء، وربما يرجع ذلك إلى أنهم كانوا ينظرون إلى الآخرين كشركاء لهم في المعاناة في عالم قاس. لكن البربرية كانت تغلي في الروح متذكرة أياما كان على المرء فيها أن يكون قاتلا أو مقتولا. وكان الإغراق في الشراب ملجأ للراحة هروبا من الواقع حتى بين النبلاء، وكانت الحياة غير المستقرة التي عانى منها الكتاب والمؤلفون سبباً لإدمانهم الكحول وسبباًًًً لموتهم المبكر(7). وانتشر المكر والكذب والنشل (السرقات الصغيرة) بين العوام، فكل حيلة بدت لهم جائزة في مواجهة السادة القساة، والتجار الغشاشين وجامعي الضرائب اللحوحين. وكانت النساء صارمات كالرجال أو كن - على الأقل - يعملن بجد وشدة كالرجال، ويحاربن بضراوة، وإذا سمحت لهن الظروف حكمن بمهارة، فمن من القياصرة بعد بطرس نجح في الحكم كما نجحت كاترين الثانية؟ وانتشر الزنا بزيادة الدخول. وكان الاغتسال والنظافة أمراً نادرا خاصة في الشتاء، ومن ناحية أخرى أدمن قلة من الناس الحمامات الساخنة والتدليك (المساج) القاسي. وعمت الرشوة والفساد بدءا من القن (رقيق الأرض) للنبيل، ومن موظف المدينة للوزير الإمبراطوري. لقد كتب سفير فرنسي في سنة 0281 الرشوة هنا منتشرة انتشارا لايجده المرء في أي دولة أخرى. إنها عمل منظم بمعنى من المعاني، وربما لا يوجد موظف حكومي واحد لا يمكن شراء ذمته(8).

وفي عهد كاترين وصل البلاط إلى درجة من الدماثة والكياسة والترف لم يكن يسبقه فيها سوى بلاط فرساي في عهد اللويسيْن: لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر رغم أن البربرية كانت في بعض الأحيان كامنة خلف المظاهر. وكانت اللغة المستخدمة في بلاط كاترين هي الفرنسية، كما كانت أفكار الأرستقراطية الفرنسية هي السائدة فيه مع استثناءات قليلة. وكان النبلاء الفرنسيون مثل الأمير دي لني Ligne غالباً ما يعتبرون أنفسهم في مواطنهم سواء كانوا في باريس أم في سان بطرسبرج وكان الأدب الفرنسي رائجا في هذا العاصمة الشمالية (سان بطرسبرج) وكانت الأوبرا الإيطالية تلقى استحسانا فيها كالاستحسان الذي تلقاه في البندقية وفينا. وكانت النسوة الروسيات الثريات وسليلات الأسر العريقة يضعن الشعر المستعار (الباروكات) ويمتعن رجالهن على نحو ما كانت تفعل الدوقات قبل الثورة الفرنسية 0في ظل نظام الحكم القديم Ancien Regime). ولم يكن هناك شيء في المهرجانات الاجتماعية المقامة على نهر السين في فرنسا يفوق بهاء التجمعات في سان بطرسبرج وفي القصر الفخم على نهر النيفا Neva، تلك التجمعات التي تتطلع إلى شمس الصيف في سماء الليل وكأنها لا تريد أن يضيع منها المشهد(9).


بول الأول 1796 - 1801

وعند ذروة هذا البهاء الودود كانت توجد سيدة (مدام). لقد كان بول (بافال بتروفيتش) ابن كاترين الثانية، لكن عبقريتها تخطت جيلا، وتركت بول صغيرا نزاعاً للشك مكتئباً - رغم صغر سنه - مولعا إلى حد الجنون بالسلطة المطلقة لـم يكـن عمـره قـد تجــاوز الثمانــي سـنوات عندما علم أن أباه القيصر بطرس الثالث Peter III كان قد قتل وتستر على جريمة قتله أليكسى أورلوف Aleksei Orlov أخو جريجوري أورلوف العشيق الدائم لأم بول. ولم يفق بول أبداً من هذا الكابوس. وكان من الطبيعي - على وفق التسلسل المعتاد - أن يرث بول عرش أبيه، لكن كاترين نحته وقبضت على زمام السلطة كاملة. وحبكت زوجة بول الأولى - بعلمه - مؤامرةللإطاحة بكاترين وتنصيب بول قيصرا، واكتشفت كاترين المؤامرة وأجبرت بول وزوجته على الاعتراف. واعترفت الإمبراطورة كاترين به وريثاً لها لكنه لم يطمئن أبداً وكان يحس أنها ستزيحه هو أيضا، وعاشت زوجته في رعب دائم وماتت عندما كانت تضع طفلاً ولد ميتا.

ووضعت له زوجته الثانية ماريا فودوروفنا Maria Feodorovna ابنه إسكندر (7771) وفكرت كاترين لفترة في تسميته وليا لعهدها وإزاحة بول، لكنها لم تحول هذه الفكرة الدائرة في رأسها إلى عمل، وإن كان بول قد أحس بها مما جعله مرتاباً في ابنه. وفي سنة 3871 منحت كاترين، بول، مزرعة وعقارا في جاتشينا Gatchina على بعد ثلاثين ميلا من سان بطرسبرج، وهناك راح بول يدرب فوجاً عسكريا خاصا به ويعلمه على نسق أسلوب أبيه - أسلوب خطوة الإوزة الذي أخذ به فريدريك الكبير، وخشيت كاترين أن يقوم بمحاولة أخرى لعزلها فأرسلت جواسيسها لمراقبته، فعين هو بدوره جواسيس لمراقبة الجواسيس، وتملكته الهلاوس التي كانت تدور حول لقائه مع شبح جده بطرس الأول الكبير في أثناء الليل. وبعد اثنتين وأربعين سنة غير سعيدة اعتلى أخيراً العرش كان عقله بالفعل قد اقترب من الإفلات منه.

وفي غمرة مشاعره الطيبة أصدر بعض المراسيم الخيرة. لقد حرر عددا من ضحايا مخاوف كاترين المزمنة - نوفيكوف Novikov وراديشيف Radischev ومفكرين راديكاليين وكوزكيو سكو Kosciusko وآخرين ممن سبق لهم النضال لتحرير بولندا. وكان مرتاعاً من أحوال مستشفى موسكو فأمر بتجديدها وإصلاحها وإعادة تنظيمها (7971) فأصبحت نتيجة لذلك واحدة من أفضل مستشفيات أوربا(01). وأصلح العملة وجعلها مستقرة. وخفض الجمارك، وافتتح قنوات (ترعا) جديدة لخدمة التجارة الداخلية.

وعلى أية حال فقد أصدر أوامر محمومة للجنود لتلميع أزرار ملابسهم الرسمية وإصلاحها وتنظيف باروكات الشعر، وأصدر أوامر للشعب يحدد فيها ما يجب عليهم لبسه، ومنع الأزياء التي سادت أوربا بعد الثورة الفرنسية، مهددا المخالفين بعقوبات شديدة(11) وبحلول عام 0081 منع استيراد الكتب المنشورة خارج روسيا ولم يشجع طباعة كتب جديدة في روسيا. وتصدى لأوتوقراطية النبلاء وأعاد لملاك الأراضي 000،053 قناً (من أقنان الأرض) كانوا ينعمون فيما سبق بأوضاع أيسر كموظفين في الدولة. وأقر العقوبات الصارمة التي صدرت ضد الأقنان المتمردين، على وفق رغبة الملاك(21). أما جنوده الذين كانوا في وقت من الأوقات مخلصين له، فقد امتعضوا لمراقبته الصارمة ونظامه شديد الانضباط. وكانت سياسته الخارجية شديدة التقلب. لقد ألغى خطط كاترين القاضية بإرسال 000.04 جندي ضد فرنسا الثورة. واستاء من استيلاء نابليون على مالطا ومصر، وتحالف مع تركيا وإنجلترا ضده، وحث السلطان على السماح للسفن الحربية الروسية بالمرور عبر البوسفور والدردنيل. واستولت سفنه الحربية على الجزر الأيونية وأنزل جنوده في مملكة نابلي للمساعدة على طرد الفرنسيين. لكن عندما رفضت بريطانيا العظمى تسليمه مالطه باعتباره الرئيس الأعلى المنتخب لفرسان مالطه Knights of Malta (من بقايا الحروب الصليبية) انسحب بول من التحالف ضد فرنسا بل وأصبح محبا لنابليون. وعندما بدرت عن نابليون إشارات تدل على نوايا حسنة، منع كل أنواع التجارة مع انجلترا واستولى على البضائع البريطانية الموجودة في المخازن الروسية، وناقش مع نابليون إرسال حملة فرنسية روسية مشتركة لطرد إنجلترا من الهند، وتضاعفت نوبات غضبه بعد أن رأى مجريات الأمور الخارجية لا تسير على وفق هواه وبعد أن رأى مجريات الأمور في الداخل تتضاءل أمام طلباته الكثيرة. لقد عاقب بقسوة لأدنى خطأ وأبعد عن موسكو نبلاء سبق لهم أن شككوا في سياساته وأرسل إلى سيبيريا ضباط جيش توانوا في تنفيذ الأوامر. وغالبا ما كان ابنه إسكندر موضع حنقه وسخطه(31). وراح النبلاء والضباط - أكثر فأكثر - ينخرطون في المؤامرة لعزله، فأقنع الجنرال ليفين بنيجسن Levin Bennigsen الكونت نيكيتا بانين Nikita Panin وزير الخارجية، واستمالا لخطتهما الكونت بطرس فون باهلن Peter Von Pahlen الذي كان على رأس شرطة المدينة ورئيسا للعسكر فيها، وعملوا ثلاثتهم عل إقناع إسكندر بخطتهم ونجحوا أخيرا إذ وافق إسكندر شريطة عدم إلحاق الأذى البدني بوالده، فوافقوا على ذلك وهم يعلمون أن فرض الأمر الواقع سيكون هو خير دفاع، وفي الساعة الثانية صباح يوم 42 مارس 1081 قاد باهلن Pahlen المتآمرين ورهطاً من الجند إلى قصر ميخائيلوفسكي Mikhailovsky وهزموا قوات الحرس وأحاطوا بالامبراطور المقاوم (بكسر الواو) وخنقوه حتى مات. وبعد ساعات قليلة أحاطوا إسكندر علماً أنه قد أصبح الآن هو قيصر روسيا الجديد.


تعليم إمبراطور

من الصعب على عقول انشغلت طوال أعوام بحكاية نجم مذنب يقال له نابليون أن تدرك أن إسكندر الأول (ألكساندر بافلولوفتش 7771 - 5281) كان محبوباً في روسيا على نحو ما كان بونابرت محبوبا في فرنسا.لقد نشأ مثل صديقه وعدوه في رحاب التنوير الفرنسي، ومزج - مثله - أوتو قراطيته بالأفكار الليبرالية، لقد حقق ما حاول أعظم الجنرالات (المعاصرين) تحقيقه (لأنه لابد من احترام سمي القيصر) وفشل - قاد جيشه عبر القارة من عاصمته إلى عاصمة عدوه وتغلب عليه، وأنه في ساعة النصر تصرف باعتدال وتواضع، وأثبت أنه من بين هذا العدد الكبير من الجنرالات والعباقرة أفضلهم أدبا وكياسة. أيمكن أن تنجب روسيا هذا المثل الأعلى؟ نعم، لكن بعد أن انغمس طويلا في آداب فرنسا وفلسفتها بفضل معلم سويسري.

إن طريقة تعليمه في حاجة إلى زينوفون Xenophon آخر ليجعله في سيروبيديا Cyropaedia أخــرى عــن شبـاب ملك وتعليمه وتدريبه. لقد تعرض تعليمه لعناصر متضاربة متصارعة. فأولاً كانت هناك جدته كاترين الكبيرة المشغولة الغائبة - رغم متابعة أمره بدقة. لقد أبعدته كاترين عن أمه ونقلت له مبادئ الحكم المطلق المتنور ممتزجة بنتف من المؤلفين الذين كانت تحبهم - فولتير وروسو وديدرو Diderot - وذلك قبل أن تفقد هي نفسها هذه المبادئ. وربما بتوجيه منها تعلم منذ طفولته أن ينام بلا غطاء ثقيل والنوافذ مشرعة، على حشية من جلد مراكشي (جلد ماعز) محشوة بالقش(41)، فأصبح بذلك محصنا ضد تقلبـات الجو وتمتع بصحة وحيوية فائقتين. لكنه مات في الثامنة والأربعين من عمره.

وفي سنة 4871 أحضرت له كاترين من سويسرا فريدريك سيزار دي لا هارب Frederic - Cesar de La Harpe (4571 - 8381) ليكون مشرفا على تعليمه، وكان دي لاهارب متحمساً مخلصاً للفمكيرن والمثقفين الفرنسيين. ولقن دي هارب تلميذه إسكندر طوال تسع سنوات تاريخ فرنسا وآدابها. وتعلم الأمير كيف يتكلم الفرنسية بإتقان بل وأن يفكر - غالبا - كالفرنسيين. (لا حظ أن نابليون كان يتحدث الفرنسية لكن ليس بشكل تام، وكان يفكر كإيطالي من عصر النهضة الرينيسانس). وكانت هناك ممرضة علمت الأمير - بالفعل - اللغة الإنجليزية، والآن فإن ميخائيل مورافيوف Mikhail Muraviov قد علمه لغة الإغريق القديمة وآدابها، ونقل إليه الكونت ن. ج. سالتيكوف N. J. Saltykov عادات الأوتوقراطية الإمبراطورية (الأوتوقراطية تعني حكم الفرد)، وكان هناك معلمون آخرون يعلمونه الرياضيات والفيزياء والجغرافيا. ونقل إليه سومبورسكىSomborsky كبير القسس الأخلاق المسيحية على وفق مبدأ مؤداه أن على كل إنسان أن يجد في كل إنسان جاراً له لكي يحقق شرع الرب(51) وربما وجب علينا أن نضيف إلى قائمة معلمي إسكندر لويزا إليزابث (من بادن - دورلاش) Luise Elisabeth of Baden - Durlach التي أصبح اسمها إليزافيتا أليكسيفنا Elizaveta Alekseevna والتي تزوجته في سنة 3971 بناء على طلب كاترين، وكان في السادسة عشرة من عمره، ومن المفهوم أن إليزافيتا قد علمته الطرق الصحيحة لمباشرة النساء.

لقد كان هذا البرنامج التعليمي ملائما لتخريج عالم ورجل مهذب لكنه لايكاد يصلح لحاكم مطلق يحكم الروس. وعندما خافت كاترين من التطورات التي حدثت في مسار الثورة الفرنسية لم تعد معجبة بفولتير وديدرو Diderot، وأبعدت لا هارب La Harpe (4971) عن تولي مهمة الإشراف على تعليم إسكندر، فعاد إلى سويسرا ليقود ثورة هناك. ووجد إسكندر أن الواقع في البلاط وفي جاتشينا Gatchina يختلف بشكل مربك عن مناقشات الفلاسفة ومثاليات روسو Rousseau. لقد أصابه الرعب لتشابك القضايا التي تواجه الحكومة وتعقدها، وربما ضاع منه التفاؤل الذي علمه إياه لا هارب La Harpe واكتأب لموت جدته (كاترين). لقد كتب في سنة 6971 لصديقه المقرب الكونت كوشبي Kochubey:

إنني مشمئز للوضع الذي أجد نفسي فيه. إنه بعيد جدا عن طبيعتي التي تتلاءم على نحو أكثر مع حياة السلام والهدوء. فحياة البلاط لا تصلح لي. إنني أحس بالبؤس أن أكون وسط مثل هؤلاء الناس (رجال البلاط)... وفي الوقت نفسه أجدهم يشغلون أعلى المناصب في الإمبراطورية. وباختصار يا صديقي العزيز فأنا أدرك أنني لم أولد لأشغل منصبا عاليا ذلك المنصب الذي أشغله الآن بل إنني أقل من المنصب الذي ينتظرني في المستقبل، وقد أقسمت بيني وبين نفسي أن أتخلى عنه بطريقة أو بأخرى... إن أمور الدولة مضطربة تماما، فالابتزاز والاختلاس في كل مكان، وكل الوزارات والإدارات تدار بشكل سيء... ورغم كل هذا فلا هم للإمبراطورية سوى التوسع، وعلى هذا أيمكنني أن أدير الدولة، بل أيمكنني ما هو أكثر من هذا - أعني إصلاحها والقضاء على الشرور المتأصلة فيها؟ أظن أن هذا يفوق طاقة أي عبقري في البال بشخص مثلي ذي قدرات عادية.

إنني بعد أن وضعت كل هذا في اعتباري أتخذت قراري الذي ذكرته لك آنفا. إن خطتي هي التخلي عن العرش (لا أستطيع أن أقول متى) وأن استقر مع زوجتي على شواطئ الراين لأعيش حياتي الخاصة كمواطن أستمتع بصحبة الأصدقاء ودراسة الطبيعة(61). إلا أن الحظ أتاح له خمس سنوات ليكيف نفسه مع متطلبات منصبه. لقد تعلم كيف يقدر العناصر البناءة في الحياة الروسية: المثالية والإخلاص المستوحيان من المسيحية، والاستعداد لتبادل تقديم المساعدة (التعاون)، والشجاعة وتحمل المشاق الناتجة عن الحروب مع التتار والترك، وقوة الخيال السلافي Slavic وعمقه الذي سرعان ما أفرز أدباً عميقا وفريدا، والكبرياء الصامتة الناتجة عن الوعي بحاضر الروس والمساحة المكانية الكبيرة التي يشغلونها. وفي 42 مارس 1081 وجدنا إسكندر - الشاعر محب العزلة - وقد تحدته الفرصة المتاحة له، فوجد في جذوره وأحلامه مايمكنه من فهم شعبه وقيادته نحو العظمة ليجعل من روسيا حكما (بفتح الحاء والكاف) لأوربا.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القيصر الشاب 1801-1804

لم يطرد إسكندر أياً من بانين Panin أو باهلن Pahlen فجأة وهما اللذان خططا لمقتل أبيه، فقد خاف نفوذهما كما أنه لم يكن متأكدا من براءته هو نفسه (إذ كان قد وافق على تدبيرهما لخلع والده)، كما كان في حاجة إلى باهلن ورجال البوليس التابعين له لحفظ الأمن في موسكو، كما كان في حاجة إلى بانين Panin للتعامل مع إنجلترا التي كان أسطولها يهدد بتحطيم الأسطول الروسي بعد أن دمر بالفعل الأسطول الدنمركي، وعلى هذا فقد جرى استرضاء بريطانيا، وهكذا انهارت عصبة الحياد المسلح الثانية. فطرد باهلن في يونيو 1081 واستقال بانين في ديسمبر من العام نفسه.

لقد أمر إسكندر في العام الأول من حكمه بإطلاق سراح آلاف السجناء السياسيين، وسرعان ما طرد الذين كانوا مستشاري بول، ومن كانوا ضالعين في إجراءاته الإرهابية. وفي 03 مارس جمع اثني عشر مسئولا من مسئولي الدولة الكبار ممن هم أقل فساداً من سواهم وكون منهم مجلساً دائما لتقديم المشورة له في مجالي التشريع والإدارة(71). واستدعى بعض المبعدين من أكثر النبلاء ليبرالية وعينهم في حكومته: الكونت فيكتور كوشبي Kuchubey وزيراً للداخلية، ونيكولاي نوفوسيلاتسوف Novosiltsov وزيراً للدولة، والكونت بافال ستروجانوف Stroganov وزيراً للتعليم، كما عين الأمير آدم جرزي شارتورسكي Adam Jerzy Czartoryski - الوطني البولندي المتآلف مع السلطة الروسية - وزيراً للشئون الخارجية. وكون من هؤلاء وغيرهم من رؤساء الإدارات مجلس الوزراء Committee of Ministers كجهاز استشاري آخر. وقد استدعى إسكندر من سويسرا لا هارب La Harpe كمستشار آخر له (نوفمبر 1081) لمساعدته في تحديد سياساته والتنسيق بين عناصرها. وكان هناك تحت هذه الأجهزة التنفيذية، مجلس (سينات) نبلاء ذو سلطات تشريعية وقضائية، لمراسيمه وقراراته Ukases قوة القانون إذا لم يعترض عليها القيصر. وظلت إدارة الولايات في أيدي معينين من قبل الحكومة المركزية.

وكل هذه التنظيمات تشبه التنظيمات الإمبراطورية في ظل نابليون باستثناء أن مجلس النواب كان في ظل نابليون يتم اختيار أعضائه بالانتخاب، كما أنَّه القَنانة ظلت موجودة في روسيا ولم يكن للأقنان (عبيد الأرض) أيُّ حقوق سياسية، وكان مستشارو إسكندر في أعوام حكمه الأولى من الليبراليين المتعلمين تعليماً جيداً، لكنهم كانوا خاضعين لطبيعة الأشياء أو لأحكام الضرورة على حد تعبير نابليون. فقد بدت الحقوق rights في هذه الظروف مجرد أوهام في مواجهة الضروريات، في أمة 09% من أهلها فلاحون أشداء أميون لا يتوقع منهم أحد أن يفكروا لأبعد من القرى التي يعيشون فيها سواء من ناحية الاقتصاد أو التنظيم السياسي أو الإنتاج والتوزيع أو الدفاع. لقد كان إسكندر مُذْعناً لنظام النبالة القوي حيث كان للنبلاء تشكيلاتهم التنظيمية الخاصة، ونظامهم المحلِّي لتسيير أمور الزراعة والقضاء والشرطة والصناعات الريفية. وكانت القنانة (عبودية الأرض) عميقة الجذور راسخة عبر الزمن حتى إن القيصر لم يكن يجسر على مهاجمتها خوفاً من قَلْقَلة النظام الاجتماعي وضياع عرشه. وكان إسكندر يتلقّى شكاوى من الفلاحين، وكان في حالات كثيرة يُنزل عقوبات قاسية بملاَّك الأراضي المذنبين(81) لكنه لم يكن يستطيع أن يقيم على مثل هذه الحالات برنامجاً لتحرير رقيق الأرض. لقد كان لابد من مرور ستين عاماً قبل أن يستطيع إسكندر الثاني تحرير رقيق الأرض في روسيا (قبل إعلان لينكولن Lincoln إلغاء الاسترقاق بعامين). ولم يجد نابليون - الذي عاد من روسيا مهزوماً (2181) أن إسكندر قد أخطأ في هذا الاتجاه لقد قال نابليون لكولينكور Caulaincourt: إن إسكندر ليبرالي جداً، وهو ديموقراطي جداً بالنسبة إلى الروس.. فهذه الأمة تحتاج لقبضة حديدية.. وسيكون أكثر ملاءمة لو حكم أهل باريس.. إنه ودود مع النساء، مجامل مع الرجال...، وطريقته اللطيفة في التصرف تدعو إلى البهجة(91) .

وفي ظل هذه الظروف المقيِّدة (بتشديد الياء وكسرها) أحدث إسكندر شيئاً من التقدم. لقد عمل على تحرير 351،74 فلاحاً، وأمر أن تكون القوانين واضحة دائمة متَّسقة، فكما ورد في مذكراته التفسيرية لقوانينه أن يقوم رخاء شعبنا على نسق قوانيننا الموحَّدة اعتقاداً منا أن هذه الإجراءات المختلفة قد تجلب للبلاد السعادة التي لا يؤكدها - للأبد - إلاّ تلك القوانين، ولقد عملتُ منذ اليوم الأول لحكمي على استقصاء أحوال هذا الجانب في الدولة(02). وأمر أن يكون الاتهام والمحاكمة والعقاب على وفق إجراءات محدَّدة مقنّنة ومُلزمة. كما أمر أن تقضي المحاكم العادية - لا السرية - في الجرائم السياسية. والآن فقد هذَّبت التنظيمات من أحوال البوليس السرِّي وتمّ منع التعذيب (لقد منعه بول لكنه ظل سائداً في أثناء حكمه) وتمَّ السماحُ للروس الأحرار (المقصود غير الأقنان) بالسفر خارج روسيا والعودة إليها، وسُمح للأجانب بدخول روسيا على وفق إجراءات ميسّرة من ذي قبل. وتم دعوة 000،21 مَنْفِىّ للعودة إلى روسيا. وظلت الرقابة على الصحف قائمة لكنها أصبحت من اختصاص وزارة التعليم مع طلب مهذّب وهو أن تكون هيّنة ليّنة مع المؤلفين(12). وتم إلغاء الحظر على استيراد الكتب الأجنبية وإن ظل هذا الحظر سارياً على المجلات، وفي سنة 4081 تم إقرار الحرية الأكاديمية تحت إشراف مجالس جامعية، على وفق نظام أساسي.

وكان إسكندر مدركاً أنَّ أيَّ إصلاح لا يمكن أن يزدهر ويُؤتي ثماره إلاّ إذا كان مفهوماً ومؤيَّداً من نسبة كبيرة من السكان، ففي سنة 2081 عَهِدَ إلى وزارة التعليم بمعاونة نوفوسيلتستوف Novolsiltsov وتشارتوريسكي Czartoryski ومخائيل مورافيوف Muraviov مهمة تنسيق نظام تعليمي عام جديد. وصدر قانون (نظام أساسي) في 62 يناير 3081 يُقسِّم روسيا إلى ستة أقاليم regions يكون في كل إقليم منها جامعة واحدة على الأقل، وأن تكون هناك مدرسة ثانوية على الأقل في كل جوبرنيا Guberniya (ولاية)، وأن تكون هناك مدرسة - على الأقل - في كل مقاطعة (كونتية) ومدرسة ابتدائية على الأقل في كل تقسيم أبرشي، وبالإضافة إلى الجامعات التي كانت موجودة بالفعل (جامعات موسكو وفيلنا Vilna ودوربات Dorpat) أنشئت جامعات سان بطرسبرج، وخاركوف Kharkov وقازان Kazan، وفي هذه الأثناء كان النبلاء لايزالون يُتيحون التعليم الخاص والمدارس الخاصة لأبنائهم، ومنع الرّابيون اليهود (الحاخامات) الآباءَ من إلحاق أبنائهم بمدارس الدولة باعتبارها أداةً مراوِغةً لتدمير الإيمان اليهودي(22).


اليهود في ظل حكم إسكندر

تحسَّنت أحوال اليهود بشكل ملحوظ في ظلِّ (حظائر الاستيطان Pale of settlement ) أي المناطق التي سُمح لليهود بالإقامة فيها، وذلك في عهد كاترين الثانية. وفي سنة 0081 كانت هذه المناطق Pale (الحظائر) تشمل كل المناطق البولندية التي كانت تابعة لروسيا ومعظم مناطق جنوب روسيا بما في ذلك كييف Kiev وشيرنيجوف Chernigov، وإكاترينوسلاف Ekaterinoslav والقرم. وخارج هذه المناطق Pale لم يكن أي يهودي يستطع أن يُقيم إقامة دائمة. أمّا خلال هذه المناطق فقد كان اليهودُ البالغُ عددهم 000،009 في سنة 4081(32) يتمتعون بكل حقوق المواطنة بما في ذلك التعيين في الوظائف الحكومية مع استثناء واحد: اليهودي الراغب في الانضمام إلى طبقة التجار ورجال الأعمال في المدن كان عليه أن يدفع ضريبة ضِعْف الضريبة التي يدفعها غير اليهودي فقد كان غير اليهودي يرى أنّ منافسة اليهودي مسألة مستحيلة وأنه إذا تُرِك الأمر تحقق دماره على يد اليهودي(42). وفي هنا وجدنا تجار موسكو (0971) يُقدمون شكوى ضد التجار اليهود الذين يبيعون البضائع الأجنبية بأسعار أقل من أسعارها الحقيقية ومن ثَمّ يُلحقون أضراراً بالغة بالتجارة المحلية(52) وفي هذه الأثناء أدت منافسة اليهود إلى امتعاض أصحاب الحانات والخانات في الريف فبذلت الحكومةُ قصارى جهدها للإبقاء على اليهود في المدن بعيداً عن القرى. وفي سنة 5971 أمرت كاترين ألاّ يكون لليهود حقوق مدنية إلاّ في المدن وألا يُقيموا في الريف.

وفي نوفمبر سنة 2081 عيَّن إسكندر (لجنة لتحسين Amelioration أوضاع اليهود) ودراسة مشاكلهم وتقديم توصيات، فدعت اللجنة الكاهالات Kahals (المجالس الإدارية التي تحكم المجتمعات اليهودية وتفرض عليهم ضرائب تصرف لصالح هذه المجتمعات) لإرسال مندوبين عنها إلى سان بطرسبرج ليناقشوا مع الحكومة المطالب اليهودية، فطلبوا بعد مناقشات مستفيضة مهلة ستة أشهر ليتمكنوا فيها من الحصول على مزيد من الصلاحيات والتعليمات من كاهالاتهم their Kahals، فأرسلت اللجنة توصياتها مباشرة إلى الكاهلات بدلاً من التباحث مع مندوبيها، فرفضت الكاهلات اقتراح اللجنة منع اليهود من امتلاك الأراضي، ومنعهم من بيع الخمور، وطلبوا تأجيل هذه الإجراءات مدة عشرين عاماً لإتاحة الوقت اللازم للتوائم مع هذه الإجراءات الاقتصادية الصعبة، ورفضت اللجنة، وفي 9 ديسمبر سنة 4081 أصدرت الحكومة الروسية بعد موافقة القيصر إسكندر دستور اليهود أو الدستور اليهودي Jewish Constitution.

وكان هذا الدستور (المشروطية) مرسوماً بالحقوق، كما كان يقصر الوجود اليهودي على المدن. وكانت الحقوق كبيرة إذ أتاح للأطفال اليهود الالتحاق بكل المدارس والجامعات في الإمبراطورية الروسية وأجازَ لهم تأسيس مدارس خاصة بهم على أن يكون التدريس فيها باللغة الروسية أو البولندية أو الألمانية وأن تستخدم إحدى هذه اللغات في المحَرّرات الرسمية. ولكلِّ جماعة يهودية أن تختار الرَّابيين (الحاخامات) الخاصين بها وكذلك كاهلاتها Kahal على ألا يصدر الرابي قراراً بالحرمان وأن يكون الكاهال Kahal مسؤولاً عن جمع كل الضرائب التي تفرضها الدولة. ودُعي اليهود للعمل في مجال الزراعة بشراء الأراضي الشاغرة في أجزاء معينة من المناطق المتاح لهم الإقامة فيها Pale أو الاستقرار في أراضي التاج (أراضي الدولة) على أن يُعفوا من الضرائب في غضون السنوات القليلة الأولى.

وعلى أية حال فبحلول الأول من يناير سنة 8081 يصبح ممنوعاً على أيَّ يهودي في قرية أو نجع أن يُؤجِّر أرضاً، أو يفتح حانة أو فندقاً أو صالوناً.. أو يبيع نبيذاً في القرى أو حتى أن يعيش فيها بأيِّ حجة مهما كانت (62).

وكان هذا يعني إبعاد ستين ألف أسرة يهودية عن مساكنها في القرى، ووصلت مئات الالتماسات لسان بطرسبرج يطلب مُقدِّموها تأجيل هذا الترحيل الجماعي وانضم كثير من المسيحيين إليهم يؤيدونهم في مطلبهم هذا وأشار الكونت كوشبي Kochubey إسكندر إلى أنَّ نابليون كان يخطط ليعقد في باريس في فبراير 7081 اجتماعاً (سنهدريم) للرَّابيين (للحاخامات) من كل أنحاء غرب أوروبا لصياغة برنامج إجرائي لإعتاق اليهود ومنحهم حق الاقتراع. فأمر إسكندر بإيقاف برنامجه محل الجدل. وربما أحْيت لقاءاته مع نابليون في تيلسيت Tilsit طموحه في إقناع الغرب Westبأنه حاكم متنوِّر. وفي سنة 9081 أخبر حكومته أن خطة إخلاء اليهود الآنف ذكرها خطة غير عملية لأن اليهود لن يكون لديهم الوسائل التي تمكنهم من الاستقرار والحصول على مساكن في الأماكن المحيطة بالقرى التي سيُطردون منها، والحكومة بدورها غير قادرة على تدبير مساكن لهم جميعاً(72) وعندما أصبح الغزو الفرنسي لروسيا وشيكاً أقنع نفسه بضرورة أن يحبه اليهود وأن يكونوا مُوالين للدولة.


الفن الرّوسي

وصف الأمير دي لِنْي de Ligne الذي عرف كل شخص ذي شأن وكل شيء ذي بال في أوروبا في هذا العصر - سان بطرسبرج في نحو سنة 7871 بأنها أجمل مدينة في العالم(82) وفي سنة 2181 وصفتها مدام دي ستيل بأنها من أجمل مدن العالم(92) فقد كان بطرس الأول قد بدأ في تزيين عاصمته الوليدة بعد أن تملَّكته الغيرة من جمال باريس.

وكانت كاترين تُرضى عشَّاقها الذين تخلَّت عنهم بقصور أكثر بقاء من حبها، وواصل إسكندر الأول رعايته الملكية للأعمدة الكلاسيّة التي تواجه - بصرامة - نيفا Neva. لقد كانت أوروبا تشهد موجة الكلاسيّة الجديدة في هذه الفترة، وقد نسي القيصر والقيصرة الأشكال (الأنماط الفنية) الروسية واستدعوا الأنماط الرومانية، فأرسلا إلى إيطاليا وفرنسا لدعوة المعماريين والنحَّاتين للقدوم إلى روسيا لتخليد الكبرياء السلافية Slavic بالفن الكلاسي.

فقصر الشتاء الذي بدأ العمل فيه بارتلوميو راستريلّي Bartolomeo Rastrelli في سنة 5571 وأكمله في سنة 7181 جياكومو كارنيجي Giacomo Quarenghi وس. ج روسّي C.J. Rossi - هذا القصر كان أكثر القصور الملكية في أوروبا جلالاً ومهابة، يصبح قصرُ فرساي إلى جواره قزما وأقل بهاء: 51 ميلاً من الممرات (أروقة ودهاليز..) و0052 غرفة، وما لا يُحصى من الأعمدة الرخاميّة، وألف لوحة فنية شهيرة، وفي الأدوار الدنيا ألفا خادم، وفي جناح واحد، دجاج وبط وماعز وخنازير في مأوى مغطى بالقش(03). لقد راح إسكندر الأول بعد لقاء نابليون في تيلسيت يجد في نفسه الدافع لمنافسته ليس فقط في مجال القوّة وإنما أيضاً في أن يجعل عاصمته في مثل عظمة عاصمة نابليون. لقد أحضر إسكندر المعماريين الفرنسيين والإيطاليين ليُلْهبوا حماس البنّائين الروس ويُفجِّروا طاقاتهم بما لديهم من علم ومهارة. لقد ظل الفنانون الغربيون مرتبطين بالنماذج الكلاسية لكنهم ذهبوا إلى ما وراء روما وآثارها إلى الجنوب الإيطالي والآثار الإغريقية كمعابد هيرا في بيستيم Paestum (بيز Paese بالقرب من سالرنو). لقد كانت هذه الآثار في مثل قِدَمِ البارثينون Parthenon وتكاد تكون في مثل جمالها، وأعطت الروح الرجولية للأعمدة الدُّوريةDoric (الأعمدة الإغريقية على الطراز الدّوري) روحاً جديداً للنزوع الروسي إلى الكلاسيّة الجديدة.

لكن الملمح المميّز للنمط الإمبراطوري Empire Style في عهد إسكندر هو تخلص فن العمارة الروسي تدريجياً من التأثير اللاتيني. فبينما كان البناؤون البارزون في عهد كاترين (2671-6971) ثلاثـة إيطاليين : بارتولـوميو راسترلّي Rastrelli وأنطونيو رينالـدي Rinaldi وجياكومو كارينجي Quarenghi، فإن المعماريين الأساسيِّين في عهد إسكندر الأول كانوا هم توماس ثومون Thomas Thomon وأندري فورونيكين Andrei Voronykhin وأدريان زاخاروف Zakharov وهم روس تأثَّروا بالأسلوب الفرنسي(13)، وإيطالي هو كارلو روسّي Rossi الذي تبوَّأ مكاناً رفيعاً في أواخر حكم إسكندر.

وفي سنة 1081 عَهِدَ إسكندر إلى توماس بتصميم وبناء بورصة الأوراق المالية لمواكبة نشاطات طبقة التجار والماليين الصاعدة في سان بطرسبورج. فأقام المعماري الطموح (سنة 7081 وما بعدها) مبنى ضخماً مستوحياً فيه معابد بيستوم Paestum ومحاكياً بورصة إسكندر برونجنيار Brongniart في باريس (8081-7281) - تحفة فورونيكين Voronykhin الفنية هي الكازانسكي سوبور Kazansky Sobor - الكاتدرائية التي أنشئت تخليداً لذكرى سديتنا (ستّنا) ست (سيدة) قازان التي أقيمت على ضفاف نهر النيفا Neva بين عامي 9081- 1181، بأروقتها التي تدور مدار نصف دائرة وقبابها الثلاث المدرَّجة التي تذكرنا بأعمال بيرنيني Bernini وميكل أنجلو (ميشيل انجلو) الخالدة أو ببانثيون Pantheon سوفلو Soufflot في باريس - ومبنى الأدميرالية الأكثر مدعاة للتقدير حيث ربع ميل من الأعمدة والكارتيدات Caryatids (الكارتيد عمود على شكل امرأة) وأبراج الكنائس المدببة الذرى، ذلك المبنى الذي تم تصميمه لخدمة البحرية الروسية - ويضارع هذا مبنى الأركان العامة الذي أقامه في ميدان القصر روسّي Rossi بعد موت إسكندر بفترة وجيزة. وبناء على وصية نيكولا (نقولا) الأول تَوَّجَ ريكارد دي مونتفرّان de Montferrand عصر إسكندر بعمود مرتفع من حجر واحد (عمود مونوليثي) ربما ذكرنا بعمود فيندوم Vendome في باريس، فرغم أنَّ القيصر قد هزم فرنسا إلا أنه لم يفقد احترامه لفنها. وجلس النحَّاتون الروس أيضاً تحت أقدام الفنَّانين الفرنسيين الذين ركعوا بدورهم أمام فنّاني روما الذي استعاروا من فن الإغريق رغم انتصار الرومان على الإغريق. وقبل كاترين الثانية الغربية الشرقية West - Oriented (المقصود تأثرها بالحضارة البيزنطية والرومانية معا)، كان تأثير الدين البيزنطي ذا طابع شرقي Oriental في غالبه يخشى الجسد البشري باعتباره أداةً للشيطان مما دفع الروس إلى الابتعاد عن معظم فنون النحت المتجسدِّة التي يراها المشاهد من كل الجوانب لكن شيئاً فشيئاً وببطء ومع الروح الوثنية الشهوانية للتنوير دخل النحت مع كاترين وتمَّ التخلِّي عن هذه المحاذير (الطابو taboo) في خضم الحرب الداخلية وفي خضم التذبذب بين الدين والجنس. لقد ظل إتْين موريس فالكون Etienne - Maurice Falconet الذي أغرته كاترين بترك فرنسا والقدوم إلى روسيا - ينحت ويحفرُ حتّى سنة 8771، وفي تمثاله المهم لبطرس الكبير لم يكتف برفع الحصان وراكبه في الهواء وإنما ترك العنان للفن الصحيح لتوصيل رسالته لا يعوقه شيء ودون أن يضع في الاعتبار شيئاً سوى التعبير عن الجمال والحقيقة والقوّة.

وفي هذه الأثناء أتى نيكولا (نقولا) فرانسوا جِل Nicolas - Francois Gillet ليدرِّس النحت في سنة 8571 في أكاديمية الفنون الجميلة التي كانت قد افتُتِحت في سان بطرسبرج قبل قدومه بعام. وكان أحد تلاميذه هو اف. اف شدرين Shchedrin قد تم ابتعاثه إلى باريس لمزيد من إتقانه لفن النحت بالإزميل، وقد حقق نتائج باهرة حتى إن تمثاله فينوس Venus ضارع النموذج الفرنسي (المستحمّه أو امرأة تستحم Baigneuse) الذي نحته أستاذه جبريل دلجريه dصAllegrain. وكان شيدرين Shchedrin هو الذي نحت الكارتيدات (أعمدة على هيئة نساء) الخاصة بالبوابة الرئيسية لأدميراليّة زخاروف - والأخير من بين تلاميذ جل Gillet المشاهير هو إيفان ماركوس Ivan Markos - عمل لفترة مع كانوفا Canova وثوروالدسون Thorwaldson في روما وأضاف إلى مثاليتهم الكلاسيّة شيئاً من العواطف الرومانسية التي حلت محل عصر الكلاسية الجديدة.

وقال النقاد إنه جعل الرخام يبكي وإن عمله لا يصلح إلا للقبور(23). ولازالت مقابر ليننجراد تعرض فنه. واجتاز فن الرسم في روسيا تحولاً أساسياً من خلال التأثير الفرنسي في أكاديمية الفنون الجميلة. فحتى سنة 0571 كاد الفن يكون دينيا تماماً إذ كان في غالبه يتكون من أيقونات Icons مرسومة بالألوان المموهة distemper، أو رسوماً جدارية (فريسكو) على الخشب. وسرعان ما أدَّت الميول الفرنسية لكاترين واستدعائها للفنانين الفرنسيين والإيطاليين إلى أن قلّدهم الفنانون الروس، فانتقلوا من الرسم على الخشب إلى استخدام الكانفا Canvas ومن الفريسكو إلى الرسم بالزيت ومن الموضوعات الدينية إلى الموضوعات الأخرى المختلفة - تاريخية ووطنية وطبيعية وأخيراً شعبية.

ووصل أربعةُ فنانين إلى درجة الامتياز في عهد بول وعهد إسكندر. لقد وجد فلاديمير بورفكوفسكي Vladimir Brovikovsky (مودلات) جذابة من بين نساء البلاط الشابات بعيونهن المرحة أو المتأمّلة وبصدورهن العالية الفخورة وبملابسهن المزهرّة(33)، وربما يكون قد تأثر بمدام فيجي - ليبرون Vigee- Lebrun التي كانت ترسم في سان بطرسبرج في سنة 0081 - كما رسم كاترين المسنّة في لحظة بساطة وبراءة غير متوقَّعة أبداً من هذه المرأة الشَّبقة التوَّاقة للجماع، وترك لنا - في هيئة قاسية رسماً لامرأة مجهولة وعلى رأسها شعرها المستعار(43) ربما كان يقصد بها مدام دي ستيل التي دارت في أنحاء أوروبا هروباً من نابليون. أما فودور أليكسيف Feodor Alekseev فابتُعث إلى البندقية ليكون مهندس ديكور إلا أنه عاد ليصبح أحد أبرز رسَّامي المناظر الطبيعية الروس. وفي سنة 0081 رسم سلسلة لوحات لموسكو بقيت لتكون أفضل مرشد لنا لشكل المدينة قبل أن يتم حرق ثلثها وأنف نابليون يَشُم ريح الحريق.

أما سيلفستر شيدرين Sylvester Shchedrin ابن النحات الآنف ذكره فقد أحب الطبيعة أكثر من النساء كملهمة لفرشاته. ابتُعث إلى إيطاليا في سنة 8181 لدراسة الفن فأحب شمس نابلي وسواحلها وغاباتها، كما أحب كل ذلك في سورِّنتو Sorrento.

أما أوريست أداموفتش كبرنسكي Orest Adamovich Kiprensky (2871-6381) فاقترب من ذروة العظمة بين الرسامين الروس في عصره. وكان ابناً غير شرعي أنجبته امرأة من أقنان الأرض فتبنّاه زوجها وحرّره فوجد طريقه إلى أكاديمية الفنون الجميلة بعد أن ساعدته الظروف، ومن أفضل رسومه الأولى صورة لأبيه بالتبنّي، رسمها في سنة 4081 وهو لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، لقد بدا أمراً لا يُصدَّق أن يستطيع شابٌ في مثل هذه السن الوصولَ إلى الفهم والتمكّن اللذين يجعلانه يرى (وينقل) في صورة شخصية واحدة قوّة البدن وقوة الشخصية اللتين تجلّيا في سوفورف Suvorov وكوتوزوف Kutuzov، واللتين (قوة البدن وقوة الشخصية) قادا الروس المنتصرين من موسكو إلى باريس (2181-3181) أما الصورة التي رسمها كبرنسكي (7281) للشاعر بوشكين فمختلفة تماماً إذ أظهر فيها الجمالَ والوسامةَ والحساسيةَ والتأملَ ورأساً عامراً بالروائع. ومرة أخرى نجد له عملاً فريداً، ونعني به تلك الصورة للضابط الفارس إيفجراف دافيودوف Evgraf Davidov، وهي صورة بالحجم الطبيعي في حلة رسمية جميلة ومظهر فخور، وإحدى يديه على سيفه وفي سنة 3181 بعد أن أصبح العالمُ مختلفاً تماماً رسم صورة للشاب إسكندر بافلوفتش باكونين Bakunin ولا ندري مدى قرابته لميخائيل ألكزاندروفتش باكونين الذي أزعج في وقت لاحق كارل ماركس بأطروحاته المخالفة وأسس الحركة التقدميّة في روسيا Nihilist movement وكان كبرنسكي نفسه متمرداً على نحوٍ ما متعاطفاً مع حركة الديسمبريين Decembrist التي قامت في سنة 5281 ولما اتضح للسلطات أنه محرِّض اتجه لفلورنسا طلباً للأمان، حيث طلب منه متحفُ أوفيزي Uffizi صورةً له. ومات في إيطاليا في سنة 6381 واعترفت به الأجيال الروسية اللاحقة كأعظم فنان روسي في عصره.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأدب الروسي

في ظل كاترين الكبرى أزهر الأدبُ الروسيُّ وانحطّ في آن، فقلما شهد التاريخ حاكماً أبدى هذا الحماس للاستسلام لثقافة أجنبيّة، فقد أحبّت التنوير الفرنسي وجنّدت بحذق كُلاً من فولتير وديدرو Diderot وفريدريش ملشيور فون جريم Grimm كمدافعين فصحاء عن روسيا في كل من فرنسا وألمانيا. لكن عندما قامت الثورة الفرنسية اهتزّت كل العروش فتم استبعاد كل أرباب التنوير باعتبارهم أصل المقصلة (الجيلوتين). لقد ظل البلاط الروسي يتحدث فرنسية القرن الثامن عشر لكن الكتَّاب الروس أظهروا ما في لغتهم الروسية من جمال، وكان بعضهم على وفق رواية مدام دي ستيل يطلقون على من يجهل لغتهم الروسية (أبكم وبه صَمَمُ)(53) ودارت معركة حامية على مستوى الأمة بين المعجبين بالأنماط الأجنبية في الحياة والأدب والمتمسكين بالأخلاق الروسية، والعادات الروسية وأساليب الحياة والحديث في روسيا، وكانت هذه الروح مفهومة وضرورية لتأكيد ذات الأمة وطبيعتها وعقلها، وفتحت الطريق لفيض العبقرية الأدبية الروسية في القرن التاسع عشر. وقد استلهمت هذه الحركة اتجاهها إلى حد كبير من حروب إسكندر ونابليون.

وكان إسكندر نفسه رمزاً لهذا الصراع في طويّة نفسه وفي تاريخه لقد كان حسّاساً جداً للجمال من الطبيعة والفن، وفي المرأة وفي طويّة نفسه، لقد اعترف للفن بمعجزتين، معجزة الدوام والخلود فهو يخلّد الحب العابر ويخلّد الشخصية الطارئة، ومعجزة المعنى المتنور فهو يستخرج النموذج الأمثل من الواقع غير المتجانس. لقد جعل تأثير لا هارب La Harpe وفرنسة البلاط الروسي من حفيد كاترين الألمانية رجلاً مهذّباً (جنتلمان) يضارع أيّ غالي (فرنسي) في مسلكه وتعليمه. وكان من الطبيعي أن يشجِّع كارامزين Karamzin وآخرين على إدخال اللطائف والحدّة الذهنية في الحديث الروسي وطرق التصرف. تلك اللطائف والحدّة الذهنية السائدة في أسلوب الفرنسي إذا تحدث، وفي طريقته في التصرف، وأدّت صداقته لنابليون (7081-0181) إلى تدعيم هذا الاتجاه الغربي Westward، لكن صراعه مع نابليون (1181-5181) أدى إلى لمس جذوره الروسية فعاد ليتعاطف مع إسكندر شيزكوف Aleksandre Shiskov والسلافوفيليين Slavophils، وفي كلتا الحالتين كان إسكندر يشجع المؤلفين بالرواتب أو الوظائف الشرفية (حيث يتقاضى شاغلها راتباً دون أن يؤدي عملاً حقيقياً) أو الأوسمة أو المنح.

وأمر بأن تطبع الحكومة على نفقتها الأعمال المهمة أدبية كانت أم علمية أم تاريخية. وقدم العون المالي لترجمة أعمال آدم سميث وبنثام Bentham وبيكاريا Beccaria ومونتسكيو.

وعندما علم أن كارامزين Karamzin يرغب في كتابة تاريخ روسيا لكنه يخشى أن يفتقر نتيجة تفرغه لهذا العمل، قدَّم له ألفي روبل كراتب سنوي وأمر وزارة الخزانة بنشر مجلداته على نفقتها(63).

وكان نيكولاي (نقولا) ميخائيلوفتش كارامزين (6671-6281) ابنا للتتري من ملاك الأراضي في ولاية سيمبيرسك Simbirsk في حوض الفولجا الأدنى. وتلقَّى قسطاً وافراً من التعليم وأتقن الألمانية والفرنسية وقام برحلة أعد لها جيداً في كل من ألمانيا وسويسرا وفرنسا وإنجلترا استغرقت ثمانية عشر شهراً، وعندما عاد إلى روسيا أسس مجلة شهرية (the Moskovsky zhurnal) كان من أجمل ما نشر فيها ما كتبه هو عن رحلته (خطابات رحّالة روسي) إذ كان بأسلوبه السهل الرشيق لا يصف الأشياء التي رآها فقط. وإنما يعبّر عن مشاعره إزاءها مستوحياً تأثيرات روسو والنزوع الروسي الوجداني. وسار كارامزين خطى أوسع في اتجاهه الرومانسي هذا في روايته (ليز البائسة Poor lisa) (2971): وليزا هذه بنت فلاحة تعرضت للاغتصاب والهجر وانتحرت. ورغم أن الحكاية لا تدّعي أكثر من كونها قصة (من نسج الخيال) فإن البقعة التي أغرقت فيها ليزا نفسها أصبحت محجاً للشباب الورس(73). لقد كاد كارامزين يترك بصماته في كل مجالات الأدب. فقد كان لقصائده ذوات الاتجاه الرومانسي الواضح جمهور عريض. وقد صدم السلافوفيليين (الرافضين للتأثيرات الأجنبية في الأدب الروسي وأسلوب الحياة الروسية) بإدخاله المصطلحات الفرنسية والإنجليزية لتحل محل المصطلحات أو العبارات الروسية التي بدت لأذنيه - وهما أذنا رحالة - غير رشيقة أو غير دقيقة أو متنافرة النغمات. وقد اتهمه شيشكوف بأنه خائن لوطنه إلا أن كارامزين ظل متمسكا بموقفه وانتصر: فقد نقى اللغة الروسية ونشرها وجعلها لغة موسيقية نقلها واضحة نقية ليتلقفها بوشكين وليرمونتوف Lermonotv.

لقد ساد اتجاه كارامزين لسبب آخر أيضا: لقد كان يطبق مايدعو إليه في اثني عشر مجلدا تكوّن أول تاريخ حقيقي لروسيا. وقد أعانته المساعدة المالية التي قدمتها له الحكومة على التفرغ تماما لهذا العمل. لقد نقل عن الحوليين الأوائل بحكمة وتمييز وأفعم سردهم البارد بالعاطفة وخفف وطأة الحكاية الطويلة برشاقة أسلوبه ووضوحه. وعندما ظهرت المجلدات الثمانية الأولى (6181 - 8181) في ثلاثة آلاف نسخة تلقفتها الأيدي فنفدت في خمسة وعشرين يوما. ولم يكن تاريخه هذا يضارع الكتابات التاريخية لفولتير وهيوم وجيبون Gibbon، ولكنه كان عملا ذا طابع وطني صريح، وكان المؤلف يرى أن الحكم الملكي المطلق هو الحكم الأمثل لشعب يناضل ليعيش في مواجهة مناخ لا يرحم وغزاة متبربرين وكان مضطرا لإيجاد قانون وهو ينتشر مبتعدا عن مصادر الخطر. وقد أثبت هذا الكتاب (تاريخ روسيا) أنه منجم نفيس استقى منه الشعراء الروائيون طوال أجيال متعاقبة فمن هنا - على سبيل المثال - وجد بوشكين قصة بوريس جودونوف Boris Godunov. لقد أسهم كتاب (تاريخ روسيا) بتواضع في صد نابليون وإبعاده عن موسكو بالسمو بالروح الروسية لتقوم بدورها المتألق والفريد في مجالي الأدب والموسيقا في القرن التاسع عشر.

وكما كان كارامزين هو هيرودوت عصر إسكندر المزدهر، كذلك كان إيفان أندر يفتش كريلوف Krylov (9671 - 4481) هو كإيسوب Aesop في هذا العصر نفسه. وكان إيفان ابنا لجندي بسيط في الجيش ربما أخذ من معسكرات الجيش بعض الخشونة في الحديث وبعض الشتائم الحادة التي جعلت كوميدياته حادة حتى أدمت الأوضاع القائمة، وعندما أجبرته الحكومة على السكوت انسحب من مجال الأدب إلى مجالات عملية أخرى - عمل مدرسا وسكرتيرًا ومقامرا ولاعب ورق محترف..وفي سنة 9081 أصدر كتابا عن الحكايات والنوادر على ألسنة الحيوانات والطيور جعلت كل من يقرأها يغرق في الضحك على الجنس البشري إلا القارئ (أي أن القارئ في هذه الحال لا يضحك على نفسه ظنا منه أنه مستثنى من النقد والسخرية الواردين في الحكاية). وكانت بعض هذه الحكايات - كما جرت العادة غالبا في كتب الحكايات - تعكس ما رواه قصاصون سابقون، خاصة لافونتين La Fontaine وتعرض معظم حكاياته - على ألسنة الأسود والأفيال والغربان وفلاسفة آخرين - الحكمة الشعبية في أشعار شعبية يتكون البيت الواحد منها من مقطع قصير وآخر طويل، يتفق طوله مع المناسبة. وأعاد كريلوف Krylov اكتشاف أسرار الراوين الكبار لهذه الحكايات - إنها الحكمة الوحيدة المفهومة الواضحة أعني بها حكمة الفلاحين التي تظهر فيها الذات واضحة دون رياء أو غطاء كاذب. لقد عرض كريلوف رذائل الناس وغباءهم وخداعهم وفسادهم، وكان من رأيه أن هجاءه هذا كله وتعريته كتعليم وإرشاد يفوق تأثير شهر في السجن. ولم يكن هناك من يظن أن الحكاية تنطبق عليه - سوى قليل من القراء - لذا فقد أقبل القراء بشغف على شراء هذا المجلد الصغير (بيع منه أربعون ألف نسخة في عشر سنوات)، وكان هذا الإقبال غريبا في بلاد تعد معرفة القراءة والكتابة فيه مدعاة للفخر. وراح كريلوف Krylov يدمي مجتمعه بشكل دوري بنشر عشرة مجلدات أخرى في الفترة من 9081 إلى 3481. ولأن الحكومة كانت ممتنة لكريلوف لتحفظه بشكل العام فقد عينته في المكتبة العامة، فتولى منصبه راضيا كسولا حتى أتى يوم - وكان في الخامسة والسبعين من عمره - تناول فيه عدد كبيرا من طيور الحجل فمات(83).


إسكندر ونابليون 1805-1812

كاد كل منهما (إسكندر ونابليون) يصلان إلى السلطة في الوقت نفسه، وقد وصل كلاهما إليها بعد أحداث عنف. لقد وصل نابليون إلى السلطة في 9 نوفمبر 9971 أما إسكندر فتسنمها في 42 مارس 1081. وكما اقتربا زمانا فقد تباعدا مكانا: كقوتين متواجهتين في خلية فقد مد كل منهما سلطانه حتى مزّقا القارة الأوربية، الأول (نابليون) في أوسترليتز Austerlitz حربا، ثم في تيلسيت Tilsit سلاما. وكان كلاهما يتصارعان على تركيا لأن كليهما كان يفكر في السيطرة على القارة الأوربية، ومفتاحها إسطنبول 0القسطنطينية)، وكلاهما أخذ دوره في مغازلة بولندا لأنها معبر إستراتيجي بين شرق (أوربا) وغربها. وكانت حرب 2181 - 3181 ذات هدف فقد كانت هي التي ستقرر أي قوة منهما ستسيطر على القارة، وربما تغزو الهند. لقد واجه إسكندر ابن الرابعة والعشرين في سنة 1081 هرج القوى العريقة في أساليب الخداع فتذبذت سياسته الخارجية لكنه كان يمد مجال حكمه بشكل متكرر. وتغيرت مواقفه من تركيا بين الحرب والسلام وضم جورجيا في سنة 1081 وألاسكا Alaska في سنة 4081 وتحالف مع بروسيا في 2081 ومع النمسا في 4081 ومع إنجلترا في 5081. وفي سنة 4081 رفع له وزير خارجيته خطة لتقسيم الإمبراطوية العثمانية(93) وامتدح جهود نابليون في فترة القنصلية وأدانه لإعدامه دوق دنجين d Enghien دون محاكمة متأنية، وانضم للنمسا وبروسيا في حرب مدمرة ضد المغتصب (نابليون) (5081 - 6081) ثم قابله وقبله في تيلسيت Tilsit (7081) واتفق معه على أن نصف أوربا يكفي الواحد منهم، حتى إشعار آخر.

وغادر كل منهما تيلسيت وهو مقتنع أنه حقق نصرا دبلوماسيا كبيرا، وحث نابليون القيصر إسكندر على التخلي عن إنجلترا والتحالف مع فرنسا وتقوية الحصار القاري بمنع دخول البضائع البريطانية.وقد أنقذ إسكندر مملكته من غزو مدمر بالتخلي عن حليف والتحالف مع حليف أقوى، وأمن لنفسه حرية التصرف مع السويد وتركيا، فقد كان جيشه الرئيس مبعثرا في فريدلاند Friedland. لقد امتدح الجيش الفرنسي والعاصمة الفرنسية انتصارات نابليون العسكرية والدبلوماسية، أما إسكندر فعندما عاد إلى سان بطرسبرج وجد كل من فيها تقريبا - الأسرة المالكة والبلاط والنبلاء ورجال الدين والتجار والعامة - مصدومين لأنه - أي إسكندر - وقع اتفاق سلام مهين مع مدع لص ملحد ونشر بعض الكتاب - مثل ف. ن. جلينكا Glinka وكونت فودور روستوبشين Rostopchin (حاكم موسكو في وقت لاحق) مقالات يوضحون فيها أن سلام تيليست مجرد هدنة ووعدا بأن الحرب ستنشب من جديد ضد نابليون في الوقت المناسب وستنتهي - أي هذه الحرب - بتدميره نهائيا(04).

وانضمت طبقة رجال الأعمال إلى المهاجمين لمعاهدة السلام ما دامت تعني قيام روسيا بإحكام الحصار القاري إذ كان التبادل التجاري تصديراً واستيرادا مع بريطانيا مسألة حيوية لتحقيق الرخاء، وكان منع هذه التجارة يعني تدمير التجار ورجال الأعمال وإرباك اقتصاد البلاد خاصة وأن حكومة روسيا كانت قد اقتربت من الإفلاس في سنة 0181.

واهتزت ثقـة إسـكندر فأحكـم قبضته وأعـاد فـرض الرقابـة علـى الأحاديث والصحافة وألغى خطته الإصلاحية واستقال وزراؤه الليبراليون - كوشبي Kochubey وتشارتوريسكى Czartoryski ونوفوسيلستوف Novosilstov - وغادر اثنان منهم روسيا. وكان إسكندر قد اتخذ في سـنة 9081 مسـتشارا أثيرا لديـه وهـو إصلاحي مندفع افترض أن القيصر مقبل على تكوين حكومة دستورية (ونعني به الكونت ميخائيل ميخائيلوفتش سبيرانسكي Speransky) وذلـك فـي محاولـة أخيرة مـن إسـكندر لتحرير نفسـه من التيار المحافظ المحيط به.

كان الكونت ميخائيل سبيرانسكى Speransky ابنا لقس في إحدى القرى. ولد في سنة 2771، وطور شغفه بالعلوم ووصل إلى درجة أستاذ الرياضيات والفيزياء في معهد سان بطرسبورج ولفتت جهوده تشار يفتش إسكندر فتم تعيينه في وزارة الداخلية التي كان على رأسها في ذلك الوقت كوشبي Kochubey. فأظهر قدرة على العمل بجد شديد وتقديم التقارير الواضحة حتى إن القيصر عينه للإشراف على تقنين القوانين الروسية (تنظيمها وتقسيمها إلى مواد)، وعندما انطلق إسكندر للقائه الثاني مع نابليون اصطحب معه سبيرانسكي كصاحب أوضح رأس في روسيا(14) (المقصود أن تفكيره واضح). وثمة رواية غير مؤكدة مؤداها أن إسكندر عندما سأله عن رأيه في أحوال الدول الواقعة تحت سيطرة نابليون أجاب: إن لدينا رجالاً أفضل، ولديهم مؤسسات أفضل(24) وعندما عادا إلى سان بطرسبرج راح القيصر يوكل إليه المزيد من الصلاحيات حتى وجدا نفسيهما يفكران في إعادة بناء الحكومة الروسية برمتها. لقد أراد سبيرانسكي إلغاء القنانة (عبودية الأرض) ولكنه اعترف أن هذا محال في سنة 9081، وعلى أية حال فقد اقترح إصدار مرسوم للتمهيد لذلك بالسماح لكل الطبقات بشراء الأراضي، وربما يكون في هذا متأثرا بإجراء مشابه اتخذه شتاين Stein في بروسيا. واقترح أن تكون الخطوة التالية هي أن يقوم كل الملاك في كل مدينة وزمامها (فولوست Volost) بانتخاب مجلس محلي Local duma يتحكم في الميزانية ويعين الموظفين المحليين ويختار ممثليه، ويقدم التوصيات لمجلس المركز district duma الذي يعين الموظفين على مستوى المركز ويقترح سياساتها، ويرسل مندوبيه وتوصياته إلى مجلس الولاية (أو المقاطعة) Provincial duma التي ترسل بدورها مندوبيها وتوصياتها إلى المجلس الوطني National duma في سان بطرسبرج. وليس لأحد سلطة إقرار القوانين سوى القيصر، لكن المجلس الوطني له حق اقتراح القوانين. ويوجد بين المجلس (الدوما) والحاكم مجلس استشاري يعينه الحاكم نفسه ليعينه في الأمور الإدارية والتشريعية.

ووافق إسكندر على الخطة بشكل عام لكن القوى الأخرى في الدولة عوقته. لقد شعر النبلاء أنه قلل من شأنهم، واتهموا سبيرانسكي بأنه من العوام (ليس نبيلا) وأنه منحاز لليهود(34)، ومعجب بنابليون وأنه أثر في فكر إسكندر ليكون - وهو الوزير الطموح - السلطة الكامنة وراء العرش (المقصود ليكون هو الحاكم الفعلي) وانضمت البيروقراطية إلى صفوف المهاجمين لأن سبيرانسكي حث إسكندر على إصدار مرسوم (6 أغسطس 9081) يجعل الحصول على درجة جامعية أو اجتيار اختيار نزيه شرطا للتعيين في الوظائف الإدارية العليا. وتأثر إسكندر بهذه الاعتراضات فأعلن أن الوضع الدولي لا يسمح بتجارب جوهرية في أمور الحكم. لقد ساءت العلاقات بين إسكندر وفرنسا بسبب زواج نابليون من أرشدوقة نمساوية وبسبب استيلائه على دوقية أولدنبورج Oldenburg (22 يناير 1181) التي كان دوقها هو حما أخت القيصر (إسكندر)، وتعلل نابليون بأن الدوق رفض إغلاق موانئه في وجه البضائع الإنجليزية(44). ولم يكن إسكندر يحب قيام نابليون بإنشاء دوقية وارسو (فرسافا) الكبيرة القريبة جدا من المناطق البولندية التي استولت عليها روسيا مخافة أن يقوم نابليون في أي وقت بإحياء مملكة بولندا المعادية لروسيا. ووجد إسكندر أنه ليوحد بلاده صفاً واحدا وراءه، فعليه أن يقدم تنازلات للنبلاء والتجار.

لقد كان يعلم أن البضائع البريطانية (أو البضائع الواردة من المستعمرات البريطانية) تدخل روسيا بأوراق يزورها التجار والموظفون الروس لتفيد أنها بضائع أمريكية وبالتالي فدخولها مباح. فسمح بدخول البضائع البريطانية وكان جانب من هذه البضائع يتخذ طريقه من روسيا إلى بروسيا وغيرها(54). وقد أرسل نابليون احتجاجا غاضبا إلى القيصر عن طريق الوزير minister الروسي في باريس إلا أن القيصر أصدر مرسوما في 13 ديسمبر 0181 يجيز فيه دخول بضائع المستعمرات البريطانية وخفض التعريفة الجمركية عليها، ورفع التعريفة الجمركية على البضائع الفرنسية. وفي فبراير سنة 1181 أرسل له نابليون خطابا حزينا: إن جلالتكم لم تعودوا تكنون أي صداقة لي، فلم نعد في نظر إنجلترا وأوربا حلفاء(64) ولم يجب إسكندر وإنما حشد 000،042 من جنوده في نقاط مختلفة على حدوده الغربية(74). وعلى وفق ما ذكره كولينكور Caulaincourt فإن إسكندر كان قد قرر خوض حرب منذ بواكير شهر مايو 1181: من الممكن بل ربما من المحتمل أن يهزمنا نابليون لكن هذا لن يتيح له السلام... إن بلادنا شاسعة يمكن أن نتراجع فيها.... سوف نتركه لمناخنا، ولشتائنا ليخوضا الحرب ضده... إنني سأنسحب إلى كامشاتكا Kamshatka لكنني لن أتخلى أبدا عن أي من ممتلكاتي(84).

لقد اتفق - الآن - إسكندر مع الدبلوماسيين الإنجليز في سان بطرسبرج ومع شتاين Stein واللاجئين البروس في بلاطه الذين كانوا يقولون له منذ وقت طويل أن هدف نابليون هو ضم كل أوربا إلى حكمه. وليوحد الأمة ألغى كل الإصلاحات وكل اقتراح بالإصلاح، إذ كانت هذه الإصلاحات ستثير عليه أكثر الأسر الروسية نفوذا، بل لقد شعر أنه حتى العوام لم يكونوا مهيئين لها. وفي 92 مارس 2181 طرد سبيرانسكي ليس من منصبه فقط وإنما من البلاط ومن سان بطرسبورج، وراح يصغي على نحو أكثر فأكثر للكونت المحافظ أليكسي إراكشيف Aleksei Aradcheev. وفي أبريل وقع معاهدة مع السويد مؤيدا دعاويها في النرويج، وأرسل أوامر سرية لممثليه في جنوب روسيا لعقد معاهدة سلام مع تركيا حتى ولو أدى هذا إلى التخلي عن كل الدعاوي الروسية في مولدافيا وفاليشيا (الأفلاق والبغدان) ليكون الجيش الروسي كله متاحاً لمواجهة نابليون. ووقعت تركيا معاهدة سلام مع روسيا في 82 مايو. وكان إسكندر يعلم أنه يخاطر بكل شيء لكنه كان قد ارتمى أكثر فأكثر في أحضان الدين كسند يستند إليه في هذه الأيام العصيبة التي يتحتم عليه أن يتخذ فيها قرارا. لقد راح يصلي ويقرأ الكتاب المقدس المسيحي كل يوم. لقد أصبح يرى نابليون الآن أصل الشرور وتجسيداً لها أصبح يراه فوضويا مجنونا لا يشبع من التوسع، ويزداد قوة يوما بعد يوم، وأصبح إسكندر يرى نفسه بمؤازرة شعبه المؤمن، وبمساحة بلاده الشاسعة، هو الوحيد القادر على إيقاف هذا الشيطان المدمر لينقذ استقلال بلاده ويعيد النظام القديم في أوربا، وينزع الأمم من فولتير ليعيدها للمسيح.

وفي 12 أبريل 21 81 غادر سان بطرسبرج بصحبة قادة حكومته مصحوبا بدعوات شعبه، واتجه جنوباً إلى فيلنا Vilna عاصمة ليتوانيا الروسية فوصلها في 62 أبريل وانتظر هناك - على رأس أحد جيوشه - قدوم نابليون.