قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 4 ف 20

صفحة رقم : 14647

قصة الحضارة -> عصر نابليون -> بريطانيا -> الأدب والفكر في مرحلة انتقال -> الصحافة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل العشرون: الأدب والفكر في مرحلة انتقال

1- الصحافة

إن كانت فرنسا قد هيمنت على المسرح السياسي في هذه الحقبة، فقد كانت إنجلترا هي قائدة الأدب والحركة الفكرية• فإذا استثنينا شاتوبريان فَمَن لفرنسا في هذه الفترة يمكن مقارنته بوردزورث Wordsworth وكولردج Coleridge وبايرون Byron وشلي؟ ولم نُدرج كيتسي Keats (5971 - 1281) في هذه القائمة فأعماله الكبرى لا تدخل في مجال مقارناتنا الحالية، فقد كانت أزهى الورود في الشعر الإنجليزي طوال أربعة قرون بعد عصر إليزابث الأولى• فحتَّى الرسائل المتبادلة كان يمكن اعتبارها في ذلك العصر أدباً، فخطابات بايرون وكولردج تبدو أقرب إلى روحنا من أشعارهما• وفي تلك الأيام عندما جرت العادة أن يدفع المُرْسَل إليه ثمن طابع البريد، فإنّه كان يطلب لقاء ما دفعه ثروة أو أسلوباً (المقصود أنه كان يتوقع نظير دفعه لتكاليف البريد أن يكون الخطاب مشتملاً على أموال أو أن يكون على الأقل ذا أسلوب جميل) وكان معنى أن يتلقى خطابا من هذه الأرواح المتوهجة (المقصود الشعراء المشاهير) أنه حصل على جواز سفر يخلد ذكره بعد الوفاة.

ولم تكن الصحف على أية حال تمثل أدبا وفكرا• فعادة ما كانت الصحيفة صفحة كبيرة مطوية لتصبح أربع صفحات؛ الأولى والرابعة للإعلانات، والصفحة الثانية تتناول السياسة بما في ذلك ملخص للأعمال البرلمانية في اليوم السابق • وكان يصدر في لندن عدة صحف يومية: خاصة التايمز Times (الأزمنة) التي أسست في سنة 8871 وكانت تبيع نحو خمسة آلاف نسخة ، والكوريير Courier (الوقائع) التي تبيع عشرة آلاف نسخة، وصحيفة مورننج بوست Morning Post وهي صحيفة حزب الأحرار Whigs (حزب الهويج الذي عُرِف فيما بعد بحزب الأحرار) والمراقب Examiner صوت الليبراليين من أمثال لاي هنت Leigh Hunt• وكان لكل مركز من المراكز التي لها ممثلون في البرلمان ولكل كونتية (إقليم أو مقاطعة) صحيفته الخاصة وأحيانا صحيفتان، واحدة للضالعين في السلطة، وأخرى لغير الضالعين فيها• وكانت هناك صحف أسبوعية مختلفة كان أشهرها بوليتكال ريجستر (المسجل السياسي) التي يصدرها وليم كوبت William Cobbet وكان هناك عدة دوريات سياسية واجتماعية وأدبية• كان أقواها مراجعات أدنبره Edinburah Review التي تصدر أربع مرات في السنة (فصلية) وكان قد أسسها في سنة 2081 كل من فرانسيس جفري Francis Jeffery وهنرى بروهام Brougham وسدني سميت Sydney Smith للدفاع عن الأفكار التقدمية والمراجعات الفصلية Quarterly Review التي أسسها في 7081 جون مري Murry وروبرت سوثي Sauthy ووالتر سكوت Scott للدفاع عن أفكار حزب المحافظين (التوري Tory) وكانت سلطة الصحافة عنصرا مهيمنا على الساحة البريطانية• فلم تعد أداة للتعبير الأدبي كما كانت في الأيام المتمهّلة التي عاشها أديسون وستيل Addison & Steele وإنما أصبحت منفذاً للمعلنين ولساناً ناطقا باسم الجماعات السياسية • وما دام المعلنون يدفعون على وفق مدى انتشار الصحيفة فقد كان على المحرر والناشرين أن يضعوا في اعتبارهم الرأي العام حتى لو كان هذا على حساب الحزب في السلطة ، وعلى هذا راحت الصحافة تسخر من أبناء الملك الذين لا عمل لهم رغم كل جهود الحكومة لحمايتهم، وبالتدريج وكلما تقدمت أعوام القرن التاسع عشر، أصبحت الصحافة أداة - أصبحت أخيراَ أداة لا مفر منها - للديمقراطية الصاعدة.


2- الكتب

تضاعف عدد الكتب مع نمو الطبقة الوسطى وزيادة عدد القراء وأصبح النشر عملاً مربحاً بشكل كاف حتى إنه أصبح مهنة مستقلة، منفصلة عن بيع الكتب - لقد تنافس الناشرون للتعاقد مع المؤلفين ودفعوا لهم مبالغ جيدة وكرموهم في الصالونات الأدبية ومن هنا وجدنا الناشر جوزيف جونسون Joseph Johnson يفوز بالنشر لجدون Godwin وبين Paine وبلايك Blake، ووجدنا الناشر أرشيبالد كونستابل Archibald Constable يشرك والتر سكوت في ديونه، ووجدنا توماس نورتون لونجمان Longman ينشر لوردزورث Words worth وجوزيف كوتل Cottle - في بريستول Pristol - ينشر لكولردج وسوثي• ووجدنا جون مري Murry - من لندن• يستأثر ببايرون Byron ويتحكم في تجواله• وفي هذه الأثناء راحت شركة آل لونجمان العريقة تنفق ثلاثمائة ألف جنيه لنشر طبعة جديدة (9181) من موسوعة شامبرز Chamberصs Cyclopoedia في 93 مجلدا، وصدر من الموسوعة البريطانية ثلاث طبعات جديدة في فترة وجيزة - الطبعة الثالثة في 81 مجلداً (8871 - 7971)، والطبعة الرابعة في 02 مجلدا في سنة 0181 والطبعة الخامسة في 52 مجلدا في سنة 5181• وكان الناشر يدفع مبلغا إجماليا (دفعة واحدة) عند تسلمه مخطوط الكتاب من المؤلف، ولايتحدد المبلغ بنسبة من سعر كل نسخة مبيعة، كما كان الناشر يدفع بعض المال بالإضافة إلى هذا المبلغ الإجمالي الآنف ذكره إذا طبع من الكتاب طبعات أخرى وذلك بعد بيع النسخ المطبوعة من هذه الطبعات الجديدة، ومع هذا فقد كان قليلون من الكتّاب هم الذين يعيشون من حصاد مؤلفاتهم - لقد هيأ التأليف لتوماس مور Moore معيشة مريحة، وكان الأمر مشكوكا فيه بالنسبة إلى سوثى Southy وهازلت Hazlitt، وتراوحت حياة سكوت Scott بين الثراء والفقر• لقد خلف الناشرون النبلاء كحماة للأدب والفكر وظل بعض الأثرياء يقدمون يد العون، ومن هنا رأينا آل ودجوودز Wedg woods يقدمون العون المالي لكولردج Coleridge ووجدنا ريزلي كالفرت Raisley Calvert يوصي لوردزورث بتسعمائة جنيه، وأرسلت الحكومة للمؤلفين حَسَنِي السلوك مكافآت شرفية في المناسبات، ورعت شاعر البلاط بمائة جنيه لذا كان من المتوقع أن يؤلف قصائد تتناول نصرا حققه الجيش، أوتهنئة بمولود ملكي أو زواج ملكي أو رثاء لفقيد من الأسرة المالكية.

وقد عاق حركة القراءة العامة ارتفاع أسعار الكتب، لكن حركة القراءة هذه قد زادت بانتشــار نـوادي الكتب وبإتاحة الاستعارة من المكتبات التي كان أفضلها المكتبة العامة (قاعة المطالعة أو الأثينايوم Athenaeum) وقاعة المحاضرات (الليسيوم Lyceum) وكلتاهما في ليفربول، وكان في الأولى ثمانية آلاف مجلد وفي الأخرى أحد عشر ألفا• وكان على المشترك أن يدفع رسماً (اشتراكا) سنويا يتراوح ما بين جنيه (إنجليزي) وجنيهين مما يعطيه الحـق فـي اسـتعارة أي كتاب مـن الكتـب المصفوفـة فـوق الرفوف• وكـان في كل مدينة مكتبــة لإقـراض (إعــارة) الكتـب• وكلمـا انتشـرت القـراءة بين العـوام متخطيـة حـدود الطبقة الوسطى فقدت شيئا من مذاقها ومستواها• فكلما اتسع جمهور القراء زاد التحــول من التراث الكلاسـي إلى الكتابــات العاطفيــة (الرومانســية) ومما ساعد على هــذا التحــول أيضــا زيـادة انعتـاق حــب الشـباب وانفلاتـه مـن الرقابــة الأبويــة وروابـط الملكية (بكسرالميم) وكان من الممكن توظيف حكاية حب واحدة في خلق مائة عقدة قصصية• إن موضوعات ريتشاردسون Richardson المبكية مستقاة من حكايات فيلدنج Fielding عن العشاق المتيمين ومن حكايات سمولت Smollett عن المغامرين المفعمين رجولة.

لقد غلبت النساء (المقصود الشخصيات النسائية) على أعمال الروائيين باستثناء متى مونك Monk لويس وقصة أمبروزيو Ambrosio أو الراهب (5971) التي عرض فيها مشاهد مرعبة، ويليه في مدرسة الغموض والرعب السيدة آن راد كليف Ann Radcliffe، فهي فقط التي تستحق المكانة الثانية بعده في هذه المدرسة بأعمالها الناجحة: قصة صقلية (0971) قصة الغابة (1971) وأسرار أدولفو (4971) وعادة ما يطلق العامة من الإنجليز على مثل هذه الكتب: قصص romances (من الكلمة الفرنسية roman التي تعني قصة) أما الكلمة novel فخصصت للأعمال القصصية الممتدة التي تتناول أحداثا طبيعية في حياة مألوفة كما هو الحال في كتابات فيلدنج Fielding و الكاتبة جين أوستن Jane Austin وقد وصلت روايات ويفرلي التي ألفها سكوت بين هذين الفرعين أو بتعبير آخر كانت عوانا بينهما• وفي القصص الرومانسي تفوقت النساء على الرجال، وكان هذا أمراً طبيعيا• لقد أحدثت فرانسس (فانى Fanny) بيرنى (Fanny) Frances Burney زوبعة بروايتها إيفيلينا Evelina (8771) واستمرت رواياتها كشرارات في الوسط الأدبي: سيسيليا Cecilia (2871) وكاميلا Camilla (6971) والمتجول Wanderer (4181) وبعد موتها (0481) شغلت يومياتها (2481) جيلاً آخر وكانت ماريا إدجورث Maria Edgeworth أكثر شهرة، فروايتاها Castle Rackrent (0081) والمتغيب Absentee (2181؟) اتسمتا بالواقعية وقدمتا وصفا تفصيليا لاستغلال اللوردات الإنجليز للأيرلنديين لدرجة أن إنجلترا نفسها تأثرت وعملت على تخفيف هذه الشرور• ولم تتفوق عليها من نساء عصرها المؤلفات سوى امرأة واحدة فاقت الرجال جميعا.


3- جين أوستن 1775 - 1817

كل المغامرين في قصصها كانت هي وكيلة عنهم (تتحدث باسمهم)، وما دامت تجد في الحياة العادية للأرستقراطيين والمهذبين إغراء كافيا فلم تكن في حاجة لإضافة إلا ما هو قليل - فهذه الحياة العادية لهذه الطبقة كانت عامرة بنساء متعلمات حساسات مثلها• وكان أبوها قسّاً لأبرشية ستيفنتون Steventon في هامبشير Hamps hire• لقد وُلدت - إذن - في بيت قس وعاشت فيه حتى بلغت السادسة والعشرين من عمرها• وفي سنة 9081 قدم أخوها إدوارد لأمه وأخواته بيتا في شوتون Chawton• وعاشت في هذا البيت حتى العام الأخير من عمرها وكانت تغير نمط حياتها البسيط بالقيام بزيارات لإخوتها وبالإقامة في لندن • وفي مايو سنة 7181 ذهبت إلى ونشستر Winchester لتعالج من مرض ألم بها فقضت نحبها في 81 يوليو عن عمر يناهز الواحدة والأربعين ولم تكن قد تزوجت.

وقد أعطت لحياتها معنى وأضفت عليها تشويقا بالحب الأخوي الذي جعل خطاباتها دافئة، بفكاهاتها الساخرة الخفيفة التي يشع منها الذكاء تلك الفكاهات التي تقتنص ما في الحياة من سخف وقلق باطني، ثم إنها راحت تصور كل هذا دون مرارة، ومما أضفى أيضا على حياتها معنى سعادتها بمشاهد الريف وإيقاع الحياة السهل فيه• وكان لديها من الأسباب ما يكفي لتكره مدينة لندن فهي لم تقدم لنا صورة مشوقة لها وإنما عرضت الحياة فيها عوانا بين الفقر المزري والفساد المتأصل وصورتها كمكان لا تأتي إليه البنات الريفيات إلا ليتعرضن للاغتصاب• لقد شعرت أن أفضل أنواع الحياة في إنجلترا هي حياة الطبقة الأرستقراطية الدنيا في الريف الإنجليزي• ففي بيوتهم تراث متوارث وانضباط يؤدي إلى شيوع الاستقرار والرضا والقناعة• وفي هذا الجو المشبع سلاما قلما يسمع المرء عن الثورة الفرنسية، ونابليون في هذا الوسط غول أوشبح بعيد جدا، إنه أبعد ما يكون عن انتزاع المرء من أشغاله الأكثر أهمية المتمثلة في اختيار الشريك المناسب ليراقصه أو ليعيش معه• وفي بيوت هذه الطبقة يجد المرء للدين مكانا يحفظه إذ إنهم نزعوا من الدين ما يجعله يسبب الرعب نتيجة التكلف الباطني (المقصود غالبا المصطنع) الذي قد يزدهر في بيت قسيس• ولم تكن الثورة الصناعية قد وصلت بعد إلى الريف لتغيظ الطبقات وتشوه المناظر وتلوث الهواء• إننا نسمع صوت جين أوستن الموثق والموثوق به في مواساتها لفاني بريس Fanny Price التي كان عليها أن تقضي شهورا في لندن على غير رغبتها:

لقد حزنت فاني لا فتقادها كل مباهج الربيع •• إنها لم تكن تعرف إلى أي مدى كانت تسببه لها بداية ظهور الأوراق واستمرارها في الاخضرار من بهجة وسرور، إلا بعد أن افتقدتها• يا للانتعاش الذي كان يحس به الجسد والروح عند مراقبة تقدم الربيع الذي لا يمكن - رغم نزواته وتقلباته - أن يكرهه المرء••• انظر إلى جماله الذي يزداد رويدا رويدا من بداية ظهور وروده الباكرة في أكثر الأجزاء دفئا في حديقة خالتها إلى البراعم في مزرعة عمها وعظمة الأشجار وسموقها(1).

لقد كانت مثل هذه البيئة هي التي أضفت على روايات جين أوستن جوا منعشا من السلام والصحة والطبيعة - إنها بيئة تمثل المنزل المريح والحديقة ذات العبير والتجول في الأمسيات مع الأخوات السعيدات، وكلمات التشجيع التي كانت تسمعها من أبيها عن تصفح مخطوطات رواياتها، هذا كله جعل قراءها من النوع غير التعجل الذين كانوا راضين بهدوء عما يقرأون وقلما نجد قراء من هذا النوع لأي نوع من الروايات• لقد تعلمت أن النهار نفسه به ما يكفي من البركة.

لقد كتبت رواياتها الست وصبرت كثيرا على عدم نشرها• نفي سنة 5971 - وكانت قد بلغت العشرين - ألفت أول أعمالها الشعور والإحساس لكنها لم تكن راضية عنه وفي العامين التاليين أنهت روايتها الكبرياء والكراهية وواصلت مراجعتها وتنقيحها وأرسلتها إلى الناشر وأعادها إليها لأنها لن تحقق ربحا• وفي سنة 8971 - 9971 وضعت التخطيط العام لرواية دير نور ثانجر فاشترى كروسبي Crosby حق نشرها لكنه تركها - بعد أن دفع للمؤلفة - دون نشر• ثم مرت بها فترة غير مثمرة (بلا إنتاج) ربما كانت بسبب تغير محل الإقامة وربما كانت بسبب عدم التشجبع• وفي فبراير 1181 بدأت كتابة رواياتها حديقة مانسفيلد، وفي نوفمبر أعادت صياغة روايتها الشعور والإحساس وتمت طباعتها• وفي آخر خمس سنوات عمرها ظهر الحصاد الكبير: فوجدت رواية الكبرباء والكراهية ناشرا في سنة 3181 وحديقة مانسفيلد في سنة 4181، وإيما Emma في سنة 6181، وبعد موتها في سنة 7181 ظهرت رواية دير نور ثانجر وبعدها بقليل رواية الإقناع• وتقدِّم رواية الكبرياء والكراهية في بدايتها خمس أخوات كلهن جاهزات للزواج وتواقات إليه• فقد كانت السيدة بنت Bennet ذات روح متقلبة مندهشة وكانت دعواتها كل صباح أن تجد لبناتها أزواجا، وكان فكرها دوماً يدور حول هذا الأمر• أما زوجها السيد بِينت فقد تعلم الهروب من حياته اليومية إلى المكتبة حيث يجد عالما آخر بلا إزعاج وكان قد تخلى تماما عن مشكلة تقديم خمس دوطات - من الأراضي والجنيهات - لبناته، فهو يحتفظ ببيته طوال حياته فقط ، وبعد الموت ينقل على وفق وصية للسيد المبجل كولنز Collins وهو قس بروتستنطي في مدينة قريبة ولما يتزوج بعد• آه لو أن إحدى بناته (بنات السيد بنت) استطاعت أن توقع هذا القسي في شراكها! لقد كانت كبرى البنات وألطفهن (جين Jane)• قد عقدت الآمال على الزواج من السيد بنجلي Mr Bingley الثري الوسيم لكن يبدو أنـه كـان يفضـل أخـرى، ولـم تكـن جين تسـتطيع إخفـاء أحزانهـا إلا بالكـاد• أمـا إليزابث التي تليها في العمر فلم تكن فخورة بجمال وجهها وقوامها وإنما باستقلالها وكونها شخصية معتمدة على نفسها فكانت تفكر بنفسها في أمر نفسها ولم تكن لتقبل أن تطرح في مزاد• لقد كانت تقرأ كثيرا في مجالات مختلفة وكان يمكنها مواجهة أي رجل في مضمار الثقافة والفكر، وأبدت المؤلفة إعجابا بمثل هذه الشخصية• والأخت الثالثة ماري كانت صالحة للزواج من حيث السن وكانت تواقة إليه وكانت مغيظة ساخطة لأن الأكبر منها سنا سيستغرقن وقتا طويلا قبل أن يفسحن لها الطريق (المقصود أنها لن تتزوج إلا إذا تزوجن)• أما ليديا Lydia أصغرهن فكانت مندهشة تتساءل لم يتحتم على البنت أن تنتظر الزواج الرسمي؟ ولِمَ لايسمح لها باكتشاف أسرار الجنس قبل ذلك؟

لقد ابتهجت الأسرة بأخبار مفادها أن السيد كولنز Cllins يخطط لزيارتها• وكان السيد كولنز هذا رجلا معتزا بنفسه وواعيا بقداسته، لكنه يراعي بعناية الفروق الطبقية والمصالح المادية• ومن خلاله قدمت المؤلفة صورة قاسية للتبعية المطلقة للطبقة الاجتماعية المغلقة، تلك التبعية التي وقع فيها هذا القس الإنجليكاني المتدني الرتبة في السلك الكهنوتي• لقد كان هجاء المؤلفة شديدا، لكنه كان واضحا وعميقا وحادا كحد المقصلة.

وأتى الشاب المبجل ورأى أن جين الجميلة منيعة صعبة القياد فتقدم للزواج من إليزابث التي أربكت الأسرة برفضها إياه فقد كانت إليزابت حبيسة الصورة المثالية التي رسمتها لشريك حياتها• لكن ماري تُوجِّه عينيها وابتساماتها صوب وريث الثروة الموعود وراحت تلفت نظره برقتها وقد دفعه هذا إلى طلب يدها من والديها السيد والسيدة بنت، وهي لم تفعل ذلك إلا لإحساسها أن زواج الأخت الثالثة قبل الأخريات سيكون شركاً بكل معنى الكلمة.

لقد بدت كل الأمور على مايرام ولكن ليديا Lydia كانت خائفة أن يفوتها قطار الزواج بسبب تهور السيد وكمان Wickman معها• لقد تلوثت الأسرة كلها بسبب خطيئتها مع السيد وكْمان وتجنبها كل الجيران تقريبا• وأرسل السيد المبجل كولنز توبيخاً للسيد بنت: إن موت ابنتك كان أفضل مما حدث••• من الذي سيرتبط بمثل هذه الأسرة؟(2) وأنقذت إليزابث الجميع بإغرائها السيد داركي Darcy الطبقي المتحفظ بتمنعها وكبريائها فألقى بملاينيه تحت قدميها وأجبر وكمان Wickman على إصلاح خطئه بالزواج من ليديا Lydia وحلت كل المشكلات وعبّرت المؤلفة عن هذا بطريقتها الساحرة لدرجة أن السيد بنجلي Bingley اكتشف أنه كان دوماً يحب جين.

أمارواية حديقة مانسفيلد فقد كانت أفضل بناء، فقد كان الحل متوقعاً في مستهل القصة• ويكاد يكون الإعداد له في كل حدث من أحداث الخطة بشكل تدريجي (خطوة خطوة)• ولم تكن شخصيات القصة مجرد دمى في حبكة فنية وإنما كانت أرواحا تشق طريقها في الحياة بحيوية، وكلها توضح بشكل سوي توجيه (أو ملاحظة) هيراكليتوس Heracleitus التي مؤداها شخصية الإنسان هي قدره (وستكون هذه الملاحظة هي الدليل المرشد في كل القصة) أما الحديقة فمن الممتلكات الجميلة للسيد توماس برترام Thomas Bertram الذي كان أبا أكثر تدقيقا ومراقبة من السيد بنت• وعلى أية حال فقد ارتكب هو أيضا أخطاء غريبة؛ فقد انشغل بجمع الثروة والحصول على الرتب الشرفية فترك ابنه الكبير الذي انحط أخلاقيا وتدهور بدنيا بسبب عدم رعاية أبيه له، وسمح هذا الأب أيضا لابنته بقضاء إجازة طويلة في لندن حيث تصبح كل أخلاق الريف مجالا للسخرية مع أن أهل الريف هم عماد الحياة• وكان مما يحسب له أنه تبنى في أسرته فاني بريس Fanny Price ابنة أخت زوجته الفقيرة والمتواضعة والحساسة• وكان محط فخره هو ابنه الأصغر إدموند Edmund المكرس للكنيسة والذي وصف بأنه نموذج لما يجب أن يكون عليه رجل الدين• لقد كان بديلاً مؤقتا للسيد كولنز• لقد استغرق الحديث عن إدموند مئات الصفحات لتؤكد المؤلفة أن تأثيره في فاني كبير، وقد عرضت المؤلفة في سياقها الهادئ ارتباطهما معا بالطريقة التي يحدث بها مثل هذا الارتباط في الحكايات الكلاسية.

لقد كانت جين أوستن حتى في روايتها هذه وفي دراساتها عن الحب كلاسيّة ذات عقل رزين وتناول ممتاز• ففي زمن سادت فيه أسرار أدولف Udolpbian mysteries وقلاع والبول Walpolian Castles ظلت واقعية وظلت مراقبة تحكم أحكام العقل• وكان أسلوبها عفيفا محتشما كأسلوب دريدن Dryden وكانت تقواها غير انفعالية وإنما كانت كتقوى البابا (رزينة متعقلة) وكان مجال اهتمامها ضيقا لكنه كان عميقا تسبره بمسبارها• لقد أدركت أن الجانب الأساسي في الحياة هو تجنيد الفرد لخدمة الجنس البشري، فحتى أزمات الحكومات وصراع القوى بل والمطالبة بالعدالة الاجتماعية، كل ذلك أقل أهمية من الجهود غير الواعية للشباب للوصول إلى مرحلة النضج، واستخدام قواهم والاستفادة منها• ونظرت المؤلفة إلى عنصري البشرية - الرجال والنساء - على قدم المساواة، فكلاهما - الرجل والمرأة - تستعصي أمراضهما على العلاج وتستعصي أهدافهما على الفهم، فيما ترى المؤلفة• إنها تتناول موضوعها بهدوء، فلا نسمع لها صراخا لكننا نستطيع تتبع أفكارها بشوق بالقدر الذي تسمح به سرعة خطى الحياة أو سرعة وقع أحداثها، ويمكن في وسط هذه السرعة أن نكون هادئين أو بتعبير آخر أن نسمح لهدوء المؤلفة بالانتقال إلينا• في هذه الأيام كنا قلما نجد قرية في إنجلترا إلا وفيها متعبدوها (طائفة من المتدينين).


4- وليم بلايك 1757 - 1827

ولد وليم بلايك قبل جين أوستن بثمانية عشر عاما ولاقى نحبه بعد موتها بعشر سنين• ويمثل بلايك حلقة الوصل أو المرحلة الانتقالية إلى الرومانسية• لقد عاش في عالم الأسرار ورفض العلم وشك في الله وعبد المسيح وحوّل الكتاب المقدس ونافس الأنبياء ودعا إلى مدينة مثالية (يوطوبيا) يقطنها قديسون يمشون على الأرض •

لقد كان ابنا لصانع جوارب في لندن، واعتراه الرعب وهو في الرابعة من عمره عندما رأى الرب ينظر إليه عبر النافذة• وبعد ذلك بقليل رأى الملائكة ترفرف فوق شجرة، كما رأى النبي حزقيال Ezekiel يتجول في حقل(3)• وربما لم يُرسل به أهله إلى المدرسة حتى العاشرة من عمره بسبب خيالاته التي كانت تختلط بحواسه دون فاصل أو قاعدة• وقد التحق بعد وصوله هذه السن (العاشرة) إلى مدرسة رسم، وفي الخامسة عشرة بدأ التدرب على مهنة النحت مع النحات جيمس باسير Basire واستمر على هذه الحال طوال سبع سنوات • لقد قرأ كثيرا بما في ذلك أعمالا رومانسية مثل ذخائر الشعر الإنجليزي القديم لبيرسى Percy ومؤلف ماكفرسون Macpherson المعروف باسم أوسيان Ossian وكتب هو نفسه الشعر ورسم الرسوم التوضيحية• وعندما بلغ الثانية والعشرين تم قبوله كدارس للحفر في الأكاديمية الملكية Royal Academy ولكنه تمرد على نصائح رينولدز Reynolds الكلاسية، وفي وقت لاحق ندم على أنه أضاع جهده وشبابه وعبقريته في ظل كابوس السيد يشوع Joshua وجماعته الماكرة من الخدم المستأجرين(4) وقد طور أسلوبه الخيالي في الرسم رغماً عنهم وكان قادرا على إبراز شخصيته من خلال الألوان المائية وأعمال الحفر• ولم يكن ميالاً بشدة إلى الجنس الآخر وقد عبر ذات مرة عن أمله في ألا تكون هناك لقاءات جنسية وعن أمنيته في زوال هذه الرغبة من البشر(5)• ومع هذا فقد تزوج وهو في الخامسة والعشرين من كاترين بوشير Catherine Boucher وكان غالبا ما يسبب لها المتاعب بنوبات غضبه كما كان يرعبها برؤاه، ومع هذا فقد اعترفت بعبقريته واهتمت به بإخلاص حتى آخر حياته ولانعرف أن له أطفالا لكنه كان يجب اللعب مع أطفال أصدقائه• وفي سنة 3871 قام جون فلاكسمان Flaxman و أ• س • ماثوس A.S. Mathews بتمويل طبعة خاصة لأشعار بلايك الباكرة، وقد أعيد نشر هذه الاسكتشات الشعرية في سنة 8681 فأسهم ذلك في تحقيق شهرته التي تأخرت• وبعض هذه الأشعار مثل إلى نجم المساء (الزهرة) وهي مقطع ملحمي غير مقفى احتل مكانا حفيا في الشعر الإنجليزي(6)• وقد كان مثله في ذلك مثل أي روح شاعرة حساسة باغضا لتركز الثروة وشيوع الفقر في إنجلترا• لقد كان مثل توم بين Paine وجودون Godwin وماري ولستونكرافت Wollstonecraft وغيرهم من الراديكاليين الذين تعاملوا مع الناشر جوزيف جونسون Johnson، قد شرب حتى الثمالة من نبيذ التنوير الفرنسي وتغنوا بالعدالة الاجتماعية والمساواة• وكان مظهره ينم عن روح نافرة من أي نظام مفروض• كان قصيرا ممتلئا ذا ملامح نبيلة مفعمة تعبيرا وحيوية وكان شَعره بنيا مُشرباً بصفرة مصففا بإتقان وكانت خصلاته غير متدلية وإنما منتصبة وكان ينظر وكأنه رادار لما هو بعيد ، ولابد أن عينه الحادة وجبهته العريضة وفراسته الشديدة قد أضفت على مظهره جاذبية حقيقية(7)•

وفي سنة 4871 افتتح محل طباعة في شارع برود Broad Street واتخذ من أخيه الأصغر روبرت مساعداً له فكانت علاقتهما حميمة لأن كل وحد منهما كرس حياته للآخر، ولكن روبرت كان متلافا كثير الإنفاق وقد أدى موته في سنة 7871 إلى تعميق التوتر والكآبة في نفس وليم، وأدّى إلى الجانب الصوفي في فكره• لقد كان مقتنعا أنه رأى روح روبرت لحظة موته وهي تصعد عبر السقف• رآها وهي تصفق من فرط السعادة(8) وقد عزا إلى شبح روبرت طريقة الحفر على إحدى اللوحات - سواء حفر النص أو حفر الرسوم التوضيحية• وكانت كل كتب بلايك تقريبا محفورة على النحو نفسه وكانت تباع بمبلغ يتراوح بين شلنات قليلة وعدة جنيهات للواحد منها• وكان قراؤه - حتى ذلك الوقت - قليلين•

وفي سنة 9871 أصدر أول عمل كبير من أعماله هو أغاني البراءة وكان يضم تسع عشرة مقطوعة شعرية• ومن الواضح أنه كان يعني بالبراءة مرحلة ما قبل البلوغ عندما كانت الحكايات المجمعة والمتعلقة بالمسيح تحظى بالتصديق وتسبب للمستمع إليها سعادة قصوى وبهجة، وعلى أية حال فقد كان بلايك قد بلغ الثانية والثلاثين من عمره عندما ظهرت قصائده هذه ونحن نحس أن الخبرة راحت تنمي موت البراءة• ولابد أن نعيد هنا سطوره الشهيرة التي يمكن أن نضاهيها بأبياته التي وجهها لنمر Tiger بعد ذلك بخمس سنوات :

أيّها الحمل الصغير، من خلقك؟

ألا تعلم من سوّاك؟

ألا تعلم من نفخ فيك الحياة ورزقك؟

وهيأ لك المجرى تشرب منه

وكساك ثوب البهجة

ياله من ثوب ! إنه أنعم الأثواب

ثوب من صوف فاتن متألق

أيها الحمل الصغير، من سوّاك فعدلك حملا؟

ألا تعرفه؟ !

أيها الحمل الصغير

أنا سأقول لك

إنه يدعى باسمك

لأنه أسمى نفسه حَمَلا

إننا ندعو نفسنا باسمه

أيها الحمل الصغير ليباركك الرّب

ليباركك الرّب


وربماكانت القصيدة التالية هي الأجمل• إنها بعنوان الصبي الأسود الصغير وفيها يعجب الصبي الزنجي لم خلقه الله أسود البشرة• إنه يحلم بوقت يأتي يلعب فيه الصبي الأسود مع الصبي الأبيض دون أن تعوق ظلال اللون لعبهما• وثمة قصيدتان بعد ذلك - قصيدة كنّاس المدخنة وفيها يتخيل ملكاً (ملاك) ينزل من السماء ليحرر العاملين في تنظيف المداخن من معاطفهم الملوثة بالسخام التي يعملون - وينامون - وهي تغطي أبدانهم، أما القصيدة الأخرى فهي الخميس المقدس والتي ينهيها بتحذيره: والآن، فلتتمسك بالرحمة والشفقة، وإلا أبعدت الملائكة عن بابك

ومرت خمسة أعوم: إنها الأعوام التي اندلعت فيها الثورة الفرنسية وتألقت مثاليتها (1971) ثم عادت إلى المذابح والإرهاب (2971 - 4971)• وفي سنة 9871 - على وفق بعض الروايات - وضع بلايك فوق رأسه غطاء الرأس الأحمر الذي يرمز للثورة الفرنسية وانضم إلى بلين Plaine في مهاجمة الكنيسة الإنجليزية وأثرت فيه الاضطرابات والفوضى فانفجر مؤلفاً قصيدة قصصية بسيطة زاخرة بالنبوءات تعكس ما ورد في إرمياء Jeremiah وهوشع Hosea، فكانت إعلانا مشئوما لعالم تجلله الخطايا والآثام• ولانوصي أولئك الذين يمتعضون من الإبهام بقراءة عمله هذا ولكننا نلاحظ أن بلايك في ديوانه زواج الفردوس وجهنم (في معرض هجائه لسويدنبرج Swedenborg) يقارن بين هاتين المملكتين (ممكلة الفردوس وممكلة جهنم ) من ناحية والبراءة والخبرة من ناحية أخرى• وبعض الأمثال التي أتى بها من الجحيم استوحت راديكالية هوتيمان وفرويد ونيتشةWhitmanic - Freudian - Nietzschean radicalism :


كل الطعام المفيد يتم الحصول عليه دون شباك أو شراك•••



فما هو أجدى وأرفع أن تجعل آخر في مواجهتك•••



فكبرياء الطاووس هي عظمة الرب ••• وعري



النساء هو عمل الرب•••



وقتله لطفل في مهده لا تجدي معه رغبات ممرضة



لاجدوى من جهودها•••



فالرب هو - فقط - الفعل والوجود في الكائنات



أو البشر•••



فكل الأرباب في صدور البشر•••


فعبادة الرب هي توقير مواهبه للآخرين •• وهي حب أعظم الرجال ••• إن أولئك الذين يغارون من الرجال العظماء أو يشوهون سمعتهم إنما يكرهون الرب لأنه ليس هناك أرباب سوى هؤلاء العظماء• وفي ديوانه أغاني الخبرة (4971) نجد الشاعر يعارض ما ورد في ديوانه أغاني البراءة بقصائد غنائية أخرى عامرة بالشك والإدانة:


أيها النمر•• أيها النمر



المتألق كالنار في ظلمات الغابة



أي يد خالدة أوعين ساهرة



أمكنها صياغة سيمتريّة رُعبك ؟!



يالكتفيك! يالمكرك ! ويالحيلك!



أيمكنها أن تتحمل قلبك؟!



ومتى بدأ قلبك يسحق ويضرب ويخفق؟



يا لقسوة أقدامك! •• يالقسوة قدميك الخلفيتين!



وقدميك الأماميتين!



متى تطرح النجوم حرابك؟



ومتى ترتوى السماء بدموعك؟



أليس هوالذي يسرّه فعلك؟



أليس هو الذي جعل الحمل Lamb يوجدك؟


وبينما نجد في ديوانه أغاني البراءة الصبي الصغير التائه وقد أنقذه الرب وأعادهُ مسرورا إلى بيته، نجد في أغاني الخبرة صبيا يحرقه القُسس لأنهم لم يعرفوا له دينا• وفي ديوان أغاني البراءة يصف في قصيدته الخميس المقدس كاتدرائية القديس بول مزدحمة بالأطفال السعداء الذين ينشدون الترانيم، نجده يتساءل في أعاني الخبره يتساءل:


أهذا شيء مبارك (مقدس) يستحق أن نراه؟•



في بلاد غنية مثمرة



يرزح الأطفال في البؤس



يأكلهم البرد والمرابون



أتلك أغنية صارخة مضطربة؟



أيمكن أن تكون أغنية مرحة؟!



وهذا العدد الكبير من الأطفال الفقراء فيها



إنها بلاد الفقر•

ولم تكن الثورة فيما يبدو علاجا لهذه الشرور فالقبضة الحديدية أطاحت برأس الطاغية، ثم أصبحت طاغية بد لاعنه(9)• لقد وجد بلايك - الذي لم يكن يحب الثورات العنيفة - العزاء فيما تبقى لديه من عقيدة دينية• إنه الآن لايثق في العلم لأنه خادم للماديّة وأداة يستخدمها النشيط ضد البرئ وتستخدمها السلطة ضد البسطاء• فالفن هو شجرة الحياة والعلم هو شجرة الموت، والرب هو يسوع المسيح(01)•

وبعد سنة 8181 لم يكتب بلايك شعرا إلا قليلا ولم يجد له إلا قلة من القراء، وعاش على إنتاجه في الفن• وفي بعض سني الستينيات من عمره عانى الفقر الشديد حتى اضطر إلى حفر الإعلانات لمصنع ودجوود Wedgwood للخزف• وفي سنة 9181 أنقذه من فقره جون لينل John Linnel إذ عهد إليه برسم الرسوم التوضيحيه لسفر أيوب Book of Job والكوميديا الإلهية لدانتي• ووافته منيته (7281) بينما كان يعمل في هذين العملين، ولم يكن ثمة حجر يشير إلى موضع دفنه لكن بعد قرن كامل من وفاته نصب لوح حجري عليه اسمه في البقعة التي دفن فيها، وفي سنة 7591 صنع له سير جاكوب إبستين Jacob Epstein تمثالا نصفيا وضع في كنيسة وستمنستر Westminster وعند موته كان الانتقال إلى مرحلة الرومانسية قد غدا انتقالا كاملا• لقد بدأ هذا الانتقال مترددا عندما كانت الكلاسية في ذروتها مع الفصول Seasons التي ألفها (0371) طومسون والقصائد الغنائية Odos التي ألفها كولنز (7471)، و Clarissa Harlowe التي ألفها ريشاردسون Richardson (7471) وأغاني الرثاء Elegy التي ألفها جري Gray (1571) وجولي Julie لروسو (1671)،au la nouvelle Héloise ، وFingel (2671) التي ألفها ماكفرسون Macpherson وقلعة على أوترانتو Otranto (4671) التي ألفها والوب Walope وكتابات بيرسي Percy عن الشعر الإنجليزي القديم (8671) والقصائد الغنائية الإسكتلندية والألمانية، وما كتبه شترتون Chatterton (9671) وويرثر Werther (فيرثر) التي كتبها جوته Goethe (4771)• حقيقة أن أي عهد لم يكن يخلو من الرومانسية، فالرومانسية لم تنعدم أبداً في أي وطن أو عصر عند أي فتى أوفتاة، وكانت الكلاسية بناء متغلغلاً غير راسخ في الحكم وكانت قيدا على نبضات وعواطف تسري في العروق مسرى الدم•

ثم أتت الثورة الفرنسية فجلبت الحرية حتى في مرحلة انهيارها - أي انهيار الثورة، ففقدت الأشكال القديمة للقوانين والنظم التقليدية هيبتها وسطوتها، وانطلقت المشاعر والخيالات والطموحات والتطلعات تعبّر عن نفسها بالكلمة والفعل• لقد أشعل الشباب نيران الشعر والفن تحت كل قاعدة أدبية وكل حظر أخلاقي وكل تضييق عقدي وكل دولة مكتسية بقشور القانون، وفي سنة 8971 راح وردزورث وكولردج يكتبان معا القصائد والمباحث التقديمية للقصائد الغنائية المعروفة باسم Lyrical Ballads وراح بيرنز Burns وسكوت Scott يغنيان للحب والثورة والحب في سكتلندا، وراحت جيوش نابليون تحطم الحدود بشكل أسرع من قدرة الثورة على نشر حلمها• لقد أصبح الأدب في كل مكان هو صوت الحرية• قلما بدا المستقبل مفتوحا بلا آفاق تحده كما هو الآن، وقلما كانت الآمال بلا نهاية كما هو الآن، وقلما بدا العالم شابا كما يبدو لنا الآن•