قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 4 ف 18

صفحة رقم : 14634

قصة الحضارة -> عصر نابليون -> بريطانيا -> العلم في إنجلترا -> سبل التقدم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثامن عشر: العِلْم في إنجلترا

سُبُل التقدم

لقد كانت إنجلترا تقود النَّقلة من الزراعة إلى الصناعة، وكان طبيعيا أن تشجع تلك العلوم التي تقدم إمكانات عملية، تاركة الدراسات النظرية للفرنسيين، وكان من المتوقع أن يكون فلاسفتها في هذه الفترة - بورك Burke ومالتوس وجودوين Godwin وبنثام Bentham وبين Paine - رجال دُنيا يواجهون المشاكل أو القضايا الحية، والأخلاقية والدينية والسكانية والحكومية والثورية، تاركين للفلاسفة الألمان التحليق في أجواء المنطق والميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) والدراسات الفلسفية لتطور العقل (فينومينو لوجيا العقل). وقد أعلنت جمعية لندن الملكية لزيادة المعلومات في مجال العلوم الطبيعية Natural عند تشكيلها في سنة 0661 أنها تعمل على تأسيس كلية لتحسين التعليم التجريبي الفيزيائي الرياضي. لكنها لم تصبح كلية بمعنى أنها لم تصبح مؤسسة أو منظمة لتخريج معلمي الشباب في المرحلة الثانوية وإنما تطورت لتصبح ناديا مقتصر على خمسة وخمسين عالما، يجتمعون بشكل دوري للتشاور وتكوين مكتبة تضم كتب العلوم والفلسفة ويقدمون للجمهور المهتم المحاضرات والتجارب، ويقدمون الأوسمة لذوي الإسهامات العلمية، وينشرون في المناسبات مطبوعا بعنوان المدونات الفلسفية Transactians Philosophical. وكانت الفلسفة لاتزال تضم العلم بين جنبيها وقد تبرعمت العلوم وانبثقت منها علماً في إثر علم نتيجة إحلال الصياغات الكمية والتجارب اليقينية محل المنطق والنظر المجرد. ونظمت الجمعية الملكية - بدعم حكومي عادة - مشروعات ومهام علمية. وفي سنة 0871 خصصت الحكومة لها مقراً أنيقا في دار سومرست Somerest House ظلت به حتى سنة 7581 حيث انتقلت إلى مقرها الحالي في دار بيرلنجتون Burlington House في بيكادلي Piccadilly وأنفق السير جوزيف بانكس Banks - رئيسها في الفترة من 8771 إلى 0281 - كثيرا من أمواله للارتقاء بالعلم ورعاية العلماء.

وكانت مؤسسة لندن الملكية - الأقل شهرة من الجمعية الملكية، وإن كانت أهدافها أكثر وضوحا من حيث كونها مؤسسة تهتم بالتعليم - قد أسسها الكونت رمفورد Rumford في سنة 0081 لتوجيه الاكتشافات الجديدة في مجال العلوم لخدمة الفنون والصناعات، وذلك عن طريق تقديم دراسات نظامية - محاضرات فلسفية وتجارب ( معملية أوميدانية) وأتاحت مبنى شاسعاً في شارع البمارل Albemarle لتقديم برامجها التعليمية فألقى فيه جون دلتون Dalton وسير همفري ديفي Davy محاضرات في الكيمياء، وتوماس يونج Young محاضرات في الطبيعة nature وانتشار الضوء، وكولردج Coleridge محاضرات في الفكر والأدب وسير إدوين لاندسير Edwin Landseer محاضرات في الفنون ... وكانت هناك جمعيات أكثر تخصصا كجمعيات الشلالات التي اندمجت في سنة 2081 في جمعية للنبات، والجمعية الجغرافية (7081) وسرعان ما ظهرت بعد ذلك جمعية لعلم الحيوان وأخرى للبساتين وثالثة للكيمياء الحيوية ورابعة للفلك، وأسست مانشستر وبريمنجهام جمعياتها الفلسفية رغبة منها في تطبيق العلم على صناعاتها، وأقامت بريستول معهد دراسة الغازات، وتم تكوين أكاديميات لشرح العلوم وتبسيطها للجمهور العام. وقدم ميشيل فاراداي Michael Faraday في إحدى هذه الأكاديميات وهو في الخامسة والعشرين من عمره سلسلة محاضرات أسهمت طوال نصف قرن في حفز البحوث في مجال الكهرباء. وقد ألقى ميشيل محاضراته هذه سنة 6181، وبشكل عام، ففي التعليم العلمي، كان مجتمع رجال الأعمال في طليعة الجامعات كما جرى كثير من التقدم العلمي في مجال العلوم على أيدي أفراد مستقلين (غير تابعين لمؤسسات علمية أو تعليمية) يدعمهم أو يمولهم أصدقاؤهم. لقد تخلى البريطانيون عن الرياضيات للفرنسيين، وراح العلم البريطاني يركز على الفلك والجيولوجيا والجغرافيا والفيزياء والكيمياء.

لقد اهتم التاج البريطاني بعلم الفلك ووضعه تحت حمايته وقدم لبحوثه الإعانات المالية، لأنه علم حيوي للملاحة ويساعد في السيطرة على البحار. واعترف بمرصد جرينوتش Greenwich بما فيه من أدق المعدات التي أمكن شراؤها بالأموال التي أقر البرلمان صرفها - بأنه على قمة المراصد الأخرى. ونشر جيمس هتون Hutton سنة 5971 قبل موته بعامين مبحثه نظرية الأرض وهو مبحث جيولوجي كلاسي: يلخص الحياة العامة لكوكبنا من خلال عمليات دورية يقوم المطر في كل دور منها بجرف سطح الأرض فتنشأ الأنهار نتيجة التّحات الذي تسببه الأمطار أو تحمل الأنهار بدورها نتيجة التّحات إلى البحر، وتتبخر المياه والرطوبة من فوق سطح الأرض فتصير سحابا، وبتكثف المياه في السحب تنزل مرة أخرى مطرا... وعند الطرف الآخر لهذا العصر (5181) حقق وليم سمث W. Smith - الملقب بستراتا شمث أو سمث طبقات جيولوجية Strata Smith - شهرة لبحثه المركز الذي لا يزيد عن خمس عشرة صفحة والذي يحمل عنوان خريطة جيولوجية لإنجلترا وويلز ويظهر هذا البحث أن طبقات جيولوجية تتجه تدريجيا نحو الشرق صاعدة حتى تصل في النهاية إلى سطح الأرض، وتقدم لنا في أثناء اتجاهها الصاعد أشكال الحياة في العصور الجيولوجية السابقة كما تظهر في المتحجرات الحيوانية والنباتية في العصور الجيولوجية المختلفة، وقد قدمت له الحكومة البريطانية راتبا سنويا مقداره مائة جنيه إسترليني مدى الحياة بدءا من عام 1381 مكافأة له لكشفه عن أسرار باطن الأرض، وتوفي وليام سميث سنة 9381.

واستمر الملاحون البريطانيون في شرح زوايا الأرض والبحر وشقوقها. وفيما بين عامي 1971 و 4971 رسم جورج فانكوفر G. Vancouver خريطة لسواحل أستراليا ونيو زيلندا وهاواي والباسيفيكي شمال غرب أمريكا، وهناك دار مبحرا حول الجزيرة الفاتنة التي تحمل اسمه.

الفيزياء: رمفورد، ويونج

من الصعب أن تحدد جنسية بنيامين طومسون Thompson الذي ولد سنة 3571 وأقام في أمريكا وحصل على رتبة فارس في إنجلترا وأصبح هو الكونت رمفورد Rumford في بارفاريا ومات في فرنسا سنة 4181. واتخذ جانب بريطانيا في أثناء حرب الاستقلال الأمريكية وانتقل إلى لندن في سنة 6771. وأعادته بريطانيا كوزير في مستعمرة جورجيا، وقد امتد اهتمامه ليشمل العلوم إلى جانب اهتمامه السياسية وقام بأبحاث علمية ضمنت له زمالة الجمعية الملكية. وفي سنة 4871 دخل - بإذن من الحكومة البريطانية - في خدمة بافاريا التي كان يحكمها الأمير مكسيميليان جوزيف - Maxi milian Joseph وفي غضون الأحد عشر عاما التي قضاها وزيراً للحرب والشرطة في بافاريا أعاد تنظيم الجيش وحسن أحوال الطبقة العاملة وقضى على التسول ومع هذا فقد وجد لديه من الوقت لكتابة أبحاث لدورية الجمعية الملكية المدونة الفلسفية وقد جعله مكسمليان - اعترافاً منه بفضله - كونت الإمبراطورية الرومانية المقدسة (1971)، ويظن أن لقبه هو اسم مكان ميلاد زوجته (الآن كونكورد) في ماساشوستس . وفي غضون عام قضاه في بريطانيا (5971) عمل على تنظيم وسائل التدفئة والطهي بقصد تخفيف حدة التلوث في الهواء، وبعد عام آخر قضاه في الخدمة في بافاريا عاد إلى إنجلترا وأسس مع السير جوزيف بانكس Banks المؤسسة الملكية Royal Institution، وأسس نظام تكريم العلماء المعروف باسم وسام رمفورد الذي تمنحه الجمعية الملكية وكان هو نفسه أول من حصل عليه. وقدم أموالا لجوائز وأوسمة مماثلة تقدمها أكاديميات الفنون والعلوم في بافاريا وأمريكا ولأستاذية رمفورد في جامعة هارفارد. وبعد وفاة زوجته انتقل إلى باريس (2081) واتخذ لنفسه مسكنا في أوتيل Auteuil وتزوج من أرملة لافوازيه Lavoisier ظل في فرنسا رغم تجدد حربها مع إنجلترا. وظل نشيطا إلى آخر حياته وعمل في آخر أعوامه على إطعام العامة المعوزين من فرنسيين حساء رمفورد Rumford Soup وكان نابليون قد أخذ معه كل أبنائهم (جنّدهم) وانطلق إلى قدره.

كانت إسهامات رمفورد في العلوم متبانية وعرضية بدرجة لا تجعلها دراماتية مذهلة، لكن إذا جمعناها معاَ وجدناها تمثل مجموعة عناصر مؤتلفة جديرة بالملاحظة نظراَ لانشغاله بالأعمال الإدارية، وبينما كان يراقب تجويف مدفع في ميونخ فوجئ بالحرارة الشديدة الناتجة من العملية. ولقياس هذه الحرارة رتب الحصول على أسطوانة معدنية دوارة ورأسها في مواجهة مثقب من الصلب وكلاهما الأسطوانة والمثقاب في صندوق محكم يحتوي على ثمانية عشر رطلا وثلاثة أرباع الرطل من المياه. وفي غضون ساعتين وثلاثة أرباع ساعة ارتفعت حرارة الماء من ستين درجه فهرنهيت إلى 212 - درجة الغليان . وقد ذكر رمفورد في وقت لاحق كان من الصعب أن نصف الدهشة التي اعترت المشاهدين عند رؤيتهم هذا القدر الكبير من المياه يصل إلى درجة الغليان دون استخدام نيران(1) وقد أثبتت هذه التجربة أن الحرارة ليست جوهرا أو مادة وإنما هي أسلوب للحركة الجزيئية تتناسب في الدرجة مع كمية الجهد المبذول لإنتاجها. وكان هذا الاعتقاد سائدا منذ فترة طويلة لكن تجربة رمفورد كانت هي الدليل التجريبي الأول، كما أنها كانت طريقة (منهجاً) لقياس المعادل الميكانيكي للحرارة - أي كمية العمل المطلوبة لتسخين رطل من المياه درجة حرارية واحدة.

ويكاد يكون توماس يونج Young مثل مونتين Montaigne في تباين اهتماماته. ولد في سنة 3771 من أسرة على مذهب الكوكر Quaker في سومرست. لقد بدأ متعلقاً بالدين وانتهى مخلصا الإخلاص كله للعلم. وهناك ما يؤكد لنا أنه كان قد قرأ الكتاب المقدس المسيحي وهو في الرابعةمن عمره وكان يستطيع الكتابة بأربع عشرة لغة وهو في الرابعة عشر من عمره(2) وتم انتخابه وهو في الواحدة والعشرين من عمره كزميل في الجمعية الملكية، وفي الثمانية والعشرين كان يقوم بتدريس الفيزياء في الموسسة الملكية، وفي سنة 1081 بدأ هناك التجارب التي أكدت -وطورت- فكرة هويجنز Huyghens عن الضوء كموجات لأثير افتراضي. وبعد مناقشات طويلة أزاحت هذه النظرية بشكل عام - وليس على مستوى العالم - نظرية نيوتن Newton عن الضوء كإشعاع لجســيمات ماديـة، وقـدم يـونج أيضـا فرضـا مـؤداه أن إدراك اللــون يعتمــد علــى وجـــود ثلاثة أنواع من الألياف العصبية في شبكية العين حساسة - على التوالي - للأحمر والبنفسجي والأخضر، وقد طور هيلمهولتس Helmholts هذا الفرض فيما بعد. وقدم لنا أول وصف لحــرج البصـر (اللابؤريـة أو اللا اسـتجمية) وضغط الدم والجاذبية الشعرية والمد والجزر وشــارك بنشــاط (4181) في فــك رموز حجر رشيد. وقال مؤرخ طبي مثقف إنه كان أكثر الأطباء ثقافة وعلماً في عصره وأضاف هلمهولتس قائلا إنه كان أوضح الناس بصيرة(3).

الكيمياء: دالتون وديفي

في العقد نفسه، وأيضا في المؤسسة الملكية نفسها أحدث دالتون Dalton ثورة في مجال الكيمياء بنظريته الذرية atomic theory (4081) لقد كان ابنا لنساج من طائفة الكويكر. ولد في سنة 6671 في إيجلسفيلد Eaglesfield بالقرب من كوكرموث Cockermouth في الطرف الشمالي لمنطقة البحيرة الضبابية الرائعة Lake District التي أنجبت الشعراء: وردسورت Wordsworth وكولردج Coleridge وسوثي Southey. وفي وقت لاحق كتب على لسان شخص ثالث ملخصاً اهتماماته الأولى في عرض زمني مجرد لم يخف طموحه الحار الذي أضاء أمامه طريق الإنجاز:

كاتب هذه ... درس في مدرسة القرية... حتى سن الحادية عشرة. وفي هذه الفترة قطع شوطا في دراسة حساب المساحات والحجوم، والمساحة والملاحة ...الخ، وبدأ في سن الثانية عشرة في التدريس في مدرسة القرية ...وكان يعمل في المناسبات لمدة عام أو أكثر في مجال الزراعة وتربية الحيوانات الداجنة، وانتقل إلى كندال Kendal وهو في الخامسة عشرة من عمره مساعداً في مدرسة مؤقتة (مشيدة من الألواح الخشبية) وظل في هذا العمل مدة ثلاث سنوات أو أربع، ثم أخذ على عاتقه إقامة مدرسة على نسق هذه المدرسة وقضى ثماني سنوات فيها وبينما كان في كندال كان يقضي وقت فراغه في دراسة اللاتينية واليونانية والفرنسية، والرياضيات مع الفلسفة الطبيعية natural، وفي سنة 3971 انتقل إلى مانشستر معلماً للرياضيات والفلسفة (العلوم) الطبيعية في الكلية الجديدة.(4)

وكان يواصل - إذا سمح الوقت والمال - ملاحظاته ومشاهداته وتجاربه التي كان يقوم هو شخصيا بكثير منها رغم أنه كان مصاباً بعمى الألون ورغم الأدوات المعملية البسيطة (البدائية) ووسط اهتماماته الكثيرة وجد الوقت الكافي لتدوين سجل بالأرصاد الجوية منذ كان في الواحدة والعشرين من عمره إلى اليوم الذي سبق وفاته مباشرة(5). وعادة ما كان يقضي إجازاته طوافا باحثاً عن الحقائق في الجبال نفسها التي كان الشاعر ورد سورث Wordsworth يجول فيها بعد ذلك بأعوام قلائل، وعلى أية حال فبينما كان ورد سوث Wordsworth يطوف بحثا عن الله مصغيا له فإن دالتون كان يرصد الأحوال الجوية عند الارتفاعات المختلفة (فوق سطح البحر)، وكان عمله هذا يشبه إلى حد كبير عمل بسكال Pascal قبل ذلك بقرن ونصف قرن. وقد قبل في تجاربه نظرية أن المادة مكونة من ذرات غير قابلة للانقسام تلك النظرية التي قال بها كل من ليوسيبوس Leucippus (حوالي 054 ق م) وديموقريتوس Democritus (حوالى 004 ق.م) وواصل فرضية روبرت بويل Boyle (7261 - 1961) التي مؤداها أن كل الذرات تنتمي إلى واحد أو آخر من عناصر معينة لا تنحل إلى عناصر أخرى أساسية - هذه العناصر المعينة التي لا تنحل هي: الهيدروجين والأكسوجين والكالسيوم... وقد دلل دالتون في كتابه نظام جديد لفلسفة الكيمياء (8081) A New System of Chmical Philosophy على أن وزن أي ذرة من ذرات عنصر إذا قورنت بأي ذرة من عنصر آخر، يجب أن يكون هو نفسه تماما كما أن وزن إجمالي العنصر الأول هو نفسه وزن إجمالي العنصر الآخر. وبعد العديد من التجارب والحسابات أخذ دالتون وزن ذرة الهيدروجين كوحدة as oneت وراح يراوح بين كل ذرة من ذرات العناصر الأخرى بالوزن النسبي لأي واحدة من ذراتها من ناحية وذرة الهيدروجين من ناحية أخرى، ومن ثم كوّن قائمة بالأوزان الذرية للثلاثين عنصرا التي كانت معروفة لديه . وكان لابد من أن تصحِّح أبحاث لاحقة ما وصل إليه دالتون من نتائج، لكن نتائجه وكذلك قانونه المعقد المعروف باسم قانون النسب المتضاعفة Law of multiple proportions ثبت أنها ساهمت إسهاما كبيرا في تطور العلم في القرن التاسع عشر. كان السير همفري ديفي Humphry Davy بحياته وتعليمه واكتشافاته اكثر إثارة كما أنه كان نمطاً مختلفا. ولد في بنزانس Penzance (8771) من أسرة ثرية من الطبقة الوسطى وتلقى تعليما وزاد عليه بدراسات في الجيولوجيا وصيد الأسماك Fishing ورسم الاسكتشات sketching والشعر. وأكسبته طبيعتــه المرحة أصـدقاء مختلفين بدءا من كولردج Coleridge وسوثي Southey والدكتور بيتر روجت Peter Roget (الذي أعد قاموسا بمفردات الإنجليزية وعباراتها، والذي اتسم بالجد والاجتهاد والعبقرية، وأطلق على عمله هذا الذي صدر في سنة 2581 اسم: Thesaurus of English words & phrases) - حتى نابليون. وكان له صديق آخر أتاح له استخدام معمله الكيميائي مما جعل ديفي يعبر عن امتنانه له في صيغة الإهداء التي وجهها له. وقد نظم ديفي مكتبته الخاصة وكان يصنف الغازات بتشممها وحث كولردج وسوثي على مشاركته في تشمم الغازات كاد يقتل نفسه بتسممه أبخرة الغازات شديدة السمية.

ونشر وهو في الثانية والعشرين مبحثا عن تجاربه بعنوان مباحث كيميائية وفلسفية Researches Chemical and Philo sophical في سنة 0081. ودعاه الكونت رمفورد وجوزيف بانكس Banks إلى لندن لإلقاء محاضرات عن عجائب المركم (البطارية) (عمود فولتا Voltas pile) وعرض لبعض إمكاناتها، فحقق شهرة جديدة في المعهد الملكي Royal Institution لقد استخدم بطارية مكونة من 052 زوج من الرقائق المعدنية كوسيلة للتحليل الكيميائي بالكهرباء واستطاع - بهذه الطريقة - تحليل المواد المختلفة إلى عناصرها، فاكتشف - وعزل - الصوديوم والبوتاسيوم، وواصل تجاربه فاستطاع عزل الباريوم barium والبورون bo ron والسترونتيوم strontium والكالسيوم والمغنيسيوم وأضافها إلى قائمة العناصر. لقد وضعت اكتشافاته وإنجازاته أسس علم الكيمياء الكهربائية، كعلم له إمكانات نظرية وعملية لا حد لها. ووصلت أخبار أعماله إلى نابليون فأرسل له في سنة 6081 عبر جبهة القتال جائزة المعهد الوطني الفرنسي Institute Nationale.

وكان بيرثوليه Berthollet قد شرح في سنة 6871 لجميس وات Watt ما في الكلور chlorine من طاقة تبييض bleaching power وتوانت إنجلترا في الأخذ بهذه الفكرة إلا أن ديفي جدد الأخذ بها وكانت جهوده فعالة. لقد تطور العلم والصناعة من خلاله فقد كانت اكتشافاته وتجاربه ذوات دور رائد في التحول الاقتصادي لبريطانيا العظمى. وفي سنة 0181 أجرى ديفي تجارب لإظهار قوة التيار الكهربائي بتمريره من سلك كربوني دقيق إلى سلك آخر ، لإنتاج ضوء وحراره، وكان ذلك أمام جمهور المعهد الملكي. وقد وصف هذه العملية كالتالي :

عند تقريب قطع من الفحم النباتي يبلغ طول القطعة الواحدة منها بوصة واحدة ويبلغ قطرها سدس بوصة - بعضها من بعضها الآخر (بحيث تكون كل قطعة على بعد: واحد على أربعين أو واحد على ثلاثين من البوصة) ينتج عن هذا شرارة فيحترق أكثر من نصف حجم الفحم النباتي ليصبح رمادا أبيض، وبسحب مآخذ التيار points وإبعادها بعضها عن بعضها الآخر يحدث تفريغ خلال الهواء الساخن في مساحة تبلغ أربع بوصات على الأقل فينتج عن هذا قوس من النور صاعد متألق ... وعند إدخال أي مادة في هذا القوس الضوئي فإنها تشتعل (تحترق) فورا، فكل المواد في هذه الحال تنصهر وتتحد سواء البلاتين أو الشمع المعتاد أو الكوارتز أو الياقوت الأزرق أو المغنيسيوم أو الجير (أكسيد الكلسيوم)(6).

إن إمكانات توليد الضوء والحرارة الآنف ذكرها لم تتطور حتى تم اختراع وسائل أرخص لإنتاج التيار الكهربائي، لكن في هذه التجربة الألمعية كان أساس الأفران الكهربائية التي أحالت الليل إلى نهار لنصف سكان المعمورة.

وفي سنة 3181 ارتحل ديفي بصحبة مساعده الشاب ميشيل فاراداي Faraday عبر فرنسا وإيطاليا في وقت كانت فيه كل أوربا تقريبا تخوض الحرب، لكنه استطاع التنقل بفضل حق المرور الآمن الذي أصدره له نابليون. وراح يزور المعامل ويجرب التجارب واكتشف خواص اليود (عنصر لافلزي) وأثبت أن الألماس هو نوع من الكربون. ولما عاد إلى إنجلترا درس أسباب انفجارات المناجم واخترع مصباح أمان للعاملين في المناجم. وفي سنة 8181 منحه الوصي على العرش Regent رتبة البارونتية (وهي رتبة دون البارون) وفي سنة 0281 خلف بانكس Banks كرئيس للجمعية الملكية Royal Society. وفي سنة 7281 بدأت صحته في التدهور فترك العلم ليمارس صيد السمك وكتب كتابا في هذا الموضوع وجعل فيه رسوم إيضاح من رسمه. وفي سنة 9281 - وكان مصابا بشلل جزئي - ذهب إلى روما ليكون حطاما بين الخرائب(7) أو بتعبير آخر ليكون أثرا بين الآثار لكنه مات قبل انصرام العام. إنه لم يعش سوى 15 سنة لكن سنواته هذه كانت تساوي حيوات كثيرة. لقد كان رجلاً عظيما طيبا وكان واحداً من البشر المخلِّصين (بتشديد اللام وكسرها) الذين عملوا على تخليصنا من الجهل والخطايا ( الآثام).


البيولوجيا (علم الأحياء): إرازموس داروين

حتى الآن لم تكن البيولوجيا (علم الأحياء) في إنجلترا تسير سيرا حسنا كسير الفيزياء والكيمياء والجغرفيا، فقد كانت هذه العلوم ذوات صلات وثيقة بالعمل على تحسين الصناعة والتجارة وتطويرهما، أما البيولوجيا فقد كانت توحي بتراجيدية (مأساوية) الحياة وبهائها وكانت تهز العقيدة الدينية.

لقد كان إرازموس داروين - جد شارلز - قد تلقى بالفعل تقديرنا وثناءنا فقد كان شرارة وضّاءة وسط ألمعية هذا العصر الذي شهد نشر أعماله: الحديقة النباتية Botanic Garden (2971) وعلم أصول الحياة الحيوانية Zoonomia (4971 - 6971) ومعبد الطبيعة The Temple of Nature (3081). لقد كتبت هذه الكتب جميعا من وجهة نظر تطورية. وقد اتفقت هذه الدراسات مع لامارك Lamarck في إقامة النظرية على أمل تكيف العادات والأعضاء على وفق للرغبة والمجهود والعزم فإذا ما استمر ذلك وقويت خلال أجيال كثيرة لأمكن انتقال (هذه الصفات الجديدة والمرغوب فيها) إلى العصب والجسم. هذا الأستاذ العبقري الذي أصبح اسمه كبيرا على طول المدى عمد إلى التوفيق بين التطور والدين بافتراض أن كل الحياة الحيوانية (بما فيها البشرية) كانت قد بدأت من مستودع لقاح حي واحد كان هو العلة الأولى الكبيرة المتضمنة لكل الكائنات الحية ثم خُلِّي سبيلها لتتحسن على وفق لنشاطها الداخلي الخاص بها، ولتسلم مالحق بها من تطورات وتحسنات للأجيال اللاحقة جيلا بعد جيل وبلا نهاية(8).

لقد دخل الحوار الدائم بين الدين والعلم - رغم خفوته في هذا العصر - في مملكة (عالم) السيكولوجيا الذي أصبح مجالا يحظى بالرعاية في وقت من الأوقات ، عندما قام هارتلي Hartley وبريستلي Priestly بإعداد تفسير فسيولوجي للربط بين الأفكار وعندما استوحى علماء التشريح - بشكل متزايد - فكرة العلاقة بين الجسد والعقل (النفس). وفي سنة 1181 نشر شارلزبل Bell مبحثه فكرة جديدة عن تشريح المخ Anew Idea of the Anatomy of the Brain وبدأ في هذا المبحث يبرهن على أن أجزاء مخصوصة في الجهاز العصبي تحول انطباعات الحواس إلى أجزاء مخصوصة في المخ، وأن أعصاباً مخصوصة تحمل أوامر الحركة إلى أعضاء الاستجابة المنوط بها التنفيذ. وبدت ظاهرة التنويم المغاطيسي - التي زاد انتشارها - تشير إلى تحول فسيولوجي للإحساس إلى أفكار ومن ثم إلى أعمال ، وقد تم تناول تأثير الأفيون من حيث جلبه للنوم وتأثيره في الأحلام وحفزه للخيال وإضعافه للإرادة (كما ذكر كولردج Coleridge ودى كوينسي De Quincey) في سياق الحديث عن حرية الإرادة، وتم تقليص هذه القضية الكبيرة (حرية الإرادة) إلى مقادير جبرية تصوغ الدوافع والمحركات والخيالات المختلفة المتصارعة. وبدا الوضع المزدهر الصاعد للمناقشات العلمية والمركز الاجتماعي المرموق لمهنة الطب مقارنة بالمركز المتدني للإكليروس الأنجليكاني (رجال الدين الأنجليكان) الذي قلت فعاليته كثيرا - يعكس اللامبالاة الدينية التي كانت قد بدأت تنتشر بشكل سري، بل وتعكس ماحاق بالدين من شك لدرجة وجود من أنكره تماما.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الطب: جنر Jenner

لايكاد الإخاء الطبي (تمتع الجميع بالرعاية الطبية) يستحق هذا الاسم الذي أطلق عليه لأن الرعاية الطبية تعكس تماما الولع البريطاني بالتمييز بين الطبقات، فكلية الأطباء الملكية Royal College of physicians - الفخورة بتأ سيسها في عهد هنرى الثامن في سنة 5181 - تقصر زمالتها على نحو خمسين كانوا قد حصلوا على درجاتهم العلمية من أكسفورد أوكامبردج، كما تقصر إجازاتها Licentiate على نحو خمسين من الممارسين المميزين. ويكون هؤلاء المائة نوعاً من المجالس أقرب مايكون إلى مجلس لوردات الأطباء ودارسي الطب House of Lords to medicos في إنجلترا. ويحصل هؤلاء الأعضاء على دخول كبيرة فأحيانا مايصل دخل الواحد منهم إلى عشرين ألف جنيه في السنة. ولايمكن للواحد منهم أن يكون نبيلا أو أميرا، وإن كان يمكن أن يصبح في رتبة فارس وقد يطمح للبارونتية (درجة دون البارون ) والكلية الملكية للجراحين التي أسست سنة 0081 من بين المؤسسات الأدنى درجة. ويلي تلك الدرجة الأطباء القائمون بتوليد النساء (الذين يقومون بعمل القابلات male midwives) الذين تخصصوا في سحب الأجنة من الأرحام (حيث الدفء والأمان) إلى العالم الخارجي حيث المنافسة والصداع. وفي قاع السلم الاجتماعي للعاملين في المهن الطبية يأتي الصيادلة الذين يقدمون كل الرعاية الطبية تقريبا في المناطق الريفية.

ولا تقدم أي كلية من هذه الكليات الآنف ذكرها أي نوع من التعليم الطبي فيما عدا بعض المحاضرات التي يلقيها مشاهير الأطباء في المناسبات. ولم يكن في أكسفورد ولا كامبردج مدرسة للطب فالطلاب الذين كانوا يرغبون في الحصول على تعليم وتدريب طبيين كان عليهم أن يلتمسوه في إسكتلندا وفيما عدا ذلك فإن تدريب الأطباء الإنجليز ترك للمدارس الخاصة التي أقيمت بالقرب من المستشفيات الكبرى بأموال المؤسسات الخيرية وتبرعات المحسنين. وقد أنقق السير توماس برنارد Thomas Bernard كثيرا من ثروته في إصلاح مستشفى اللقطاء الشهيرة في شمال لندن وشارك غيره من الأثرياء في تمويل مستوصفات (عيادات Clinics) لعلاج السرطان والرمد والفتق، في لندن وأماكن أخرى. لكن وسائل منع انتشار الأمراض كانت هزيلة في المدن مما أدى إلى انتشار الأمراض بل وظهور أمراض جديدة، وكانت سرعة انتشار الأمراض تفوق إمكانات العلاج.

وفي سنة 6081 سجلت لندن حدثا فريدا: لقد مضى أسبوع كامل دون أن يتوفى أحد بمرض الجدري - ذلك المرض المسبب للبثور والحمى والمشوّه للوجه والمعدي والذي كان في وقت من الأوقات متوطنا في إنجلترا وقد ينتشر في أي وقت مرة أخرى ليصبح طاعونا مميتا (المقصود كارثة مسببة للموت).

وقد أعاد أسبوع المعجزات طبيب إنجليزي بسيط هو إدوارد جنر كان مدمنا على الصيد (القنص) وعلم النبات وقرض الشعر، وعزف الفلوت والضرب على الكمان (الفيولين)، بنشر التطعيم ضد هذا المرض طوال عقد من الزمان منهيا بذلك موقف المجتمع البريطاني المتحفظ ضد كل ما هو جديد. لقد كانت الوقاية من مرض الجدري عن طريق التطعيم بفيروس المرض بعد إضعافه طريقة يمارسها الصينيون القدماء ووجدت الليدي ماري وورتلى مونتاجو Mary Wortley Montagu هذه الطريقة معتادة في القسطنطينية (إسطنبول أو استانبول) في سنة 1717 وقد أوصت عند عودتها إلى إنجلترا باستخدام هذه الطريقة. وقد جرب نظام التطعيم هذا على المجرمين ومن ثم على الأيتام وحقق نجاحا ملحوظا. وفي سنة 1760 قرر الدكتور روبرت ستون sutton والدكتور دانيال ستون أنه من بين ثلاثين ألف حالة طعمت ضد الجدري لم يصب بهذا المرض سوى 1200 (ألف ومائتي حالة). أيمكن أن تكون هناك طريقة أفضل لمنع الجدري؟ لقد اهتدى جنر إلى طريقة أفضل عندما لاحظ أن كثيرات من العاملات في حلب ما شية اللبن في بلده جلوسسترشير Gloucestershire يصابون بجدري البقر من خلال ملامستهم لحلمات الأبقار المصابة وبالتالي يصبحن ذوات مناعة ضد مرض الجدري (الذي يصيب البشر)، وتراءى له أنه يمكن تكوين مناعة شبيهة باستخدام طعم (لقاح) (الكلمة الإنجليزية Vaccine من الكلمة اللاتيينة Vacca وتعني بقرة) من فيروس جدري البقر الذي يمكن الحصول عليه من الأبقار المصابة. وفي بحث نشر في سنة 1798 ذكر جنر الإجراء المغاير لما هو متبع والذي وضع به أسس الطب التجريبي وعلم الطب الوقائي (علم المناعة):

.. لقد تخيرت صبيا صحيحا في نحو الثامنة من عمره بغرض تجريب تطعيمه بجدري البقر، وتم الحصول على القيح من قرحة من يد إحدى العاملات في حلب ألبان البقر وحقن الصبي بهذا القيح في 14 مايو سنة 1796 في ذراعه ... وفي اليوم السابع اشتكى متوعكا .. وفي اليوم التاسع أصبح يرتعد وفقد شهيته وأصيب بصداع خفيف ... وفي اليوم التالي كان في حالة جيدة تماما... وكي أتأكد مما إذا كان الصبي بعد تعريضه لإصابة خفيفة من فيروس جدري البقر، أصبح آمنا (اكتسب مناعة) ضد الجدري (الذي يصيب البشر)، فقد تم حقنه في أول يوليو التالي بقيح الجدري الذي يصيب البشر Variolous matter (الكلمة اللاتينية Variola تعنى الجدري Smallpox) تم أخذها مباشرة من بثرة مصاب بالجدري ... فلم تظهر على الصبي أعراض الجدري وبعد عدة أشهر تم حقنه مرة أخرى بقيح الجدري الذي يصيب البشر لكن لم يظهر على بدنه أي عرض من أعراض الجدري.(9) واستمر جنر Jenner يصف حالات أخرى بلغت اثنتين وعشرين حالة اتخذ معها الإجراء نفسه فكانت النتائج مرضية تماما. وقد تعرض لاتهامات بإجراء التجارب على الأحياء وبدا للذين اتهموه وكأنه يقوم بتشريح الأحياء وحاول الاستفادة من الأقلية الموافقة ببناء بيت صغير له، وإنشاء حديقة زهور يزرعها بيديه(01) وفي عامي 1802 و 1807 وافق البرلمان على منح جنر 000،03 جنيه إسترليني لتحسين طرائقه لمقاومة الجدري ونشرها. وكاد الجدري يختفي من أوربا وأمريكا خلال القرن التاسع عشر، وإذا حدث وأصيب به شخص فإن هذا الشخص يكون غير مطعم (لم يتلق التطعيم ضد المرض). وتم تطبيق نظام التطعيمات الواقية ضد أمراض أخرى وأسهم علم المناعة الجديد بالإضافة للوسائل الجديدة التي أحرزها الطب وبالإضافة لتحسن الظروف الصحية والبيئية العامة في تحسين الأحوال الصحية في المجتمعات الحديثة التي نهشها الفقر وترعرع فيها الجهل وازداد فيها الجشع وثابر فيها المرض بأساليب شتى.