قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 2 ف 12

صفحة رقم : 14607

قصة الحضارة -> عصر نابليون -> تاريخ الحضارة الأوروبية -> نابليون والفنون -> الموسيقا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثاني عشر: نابليون والفنون

1- الموسيقا

كان على نابليون أن يُدير قارة، لذا لم يكن لديه كثير من الوقت للموسيقا. إنَّه لمن الصعبِ أن نتصوَّره جالساً صامتاً يستمع إلى كونشرت في مسرح فيدو Theatre-feydeau، ومع هذا فقد سمعنا عن كونشرتات تُعرف في قصر التوليري وهناك من أكَّد لنا أنّه كان يستمتع علي نحوٍ ما بحفلات موسيقية يُحْيها عازِف واحد، كانت جوزفين تقيمها في جناحها بالقصر(1). وعلى أيَّة حال فقد كان سِيَباسْتيان إيرار Sebastien Erard وإجْناز بليل Ignaz pleyel يصنعون بيانوات pianos جميلة ولم يكن يخلو بيت من بيوت الطبقة الراقية من بيانو. ورتَّب كثيرون من المُضيفين سهرات موسيقيية خاصّة حيث كان الضيوف - كما يقول الجونكورث Goncourts - يتكلَّفون الاستماع بينما هم في الحقيقة يُفَضِّلون الحوار الهامس أو المناجاة(2). فالألمان مآدبهم الموسيقا بلا كلمات، والفرنسيون يعيشون على كلمات بلا موسيقا.

وكان نابليون يُفَضِّل الأوبرا على الكونشرتات فلم يكن يستسيخ الغناء إلاَّ قليلاً ولم يكن صوتُه ليساعده على الغناء، لكن كان من متطلبات المظاهر الملكية ضرورة حضور الحاكم للأوبرا في المناسبات، ليراه الناس، وليتأمَّل. وقد أَسِف نابليون لأنّ باريس ينقصها.. دار أوبرا جديرة بمكانتها العالية كعاصمة للحضارة(3)، لكن اقتضى الأمر الانتظار حتى استطاع ابن أخيه وشارل جارنييه Charles Garnier أن يُقيما في الفترة من 1681 إلى 5781 الدَرّةَ المتلألئة التي كَلّلت شارع الأوبرا Avenue de lصopra إلاَّ أنّ مئات الأعمال الأوبرالية جرى تأليفها وإخراجها أثناء فترة حكم نابليون، وأوبرا السّيدة الشقراء (لا دام بلانش La Dame blanche) التي وضعها فرنسوا أريان بويلديو Francois - adrien Boieldien سيّد الأوبرا الكوميدية (الهزْليّة) عُرِضت ألفَ مرة في أربعين عاماً(4). وكانت طبيعة نابليون الإيطالية تميل أكثر للأوبرات الإيطالية بما تتميز به من ألحان شجية وحبكات دراميّة. ولحماس نابليون لمؤلفات جوفاني پيزيلو Giovanni Paisiello دعاه لتولِّي إدارة أوبرا باريس والكونسرفتوار (المعهد الموسيقي) وأتى بيزيللو لباريس في سنة 2081 وقد بلغ من العمر خمسة وستين عاماً، ولم يؤلف فيها سوى أوبرا واحدة هي بروسربينا Proserpina في سنة 3081 وتضايق من الاستقبال الفاتر الذي قُوبل به، فعاد إلى إيطاليا سنة 4081 وقدَّمَ أعماله لجمهور أكثر تجانساً وملاءمة في نابلي حيث كان جوزيف بونابرت وجوشيم مورا Joachim Murat.

وكان نابليون أكثر حظاً مع جاسبارو سبونتيني Gasparo Spontini الذي قَدِم إلى فرنسا في سنة 3081 إذ حظي بتأييد الإمبراطور ودعمه بمعالجته موضوعات تاريخية بطريقة تُضفي الجلال والعظمة على الامبراطورية الجديدة، وأشهر أوبرا قام بوضعها هي أوبرا كاهنة الإلهة الرومانية فستا أو قيِّمة النار المقدّسة (لافيستيل La Vestale) إلاَّ أنه واجه صعوبات في إيجاد مسرح لعرضها، فتدخَّلت جوزفين فتم إخراج هذه الأوبرا، وقد أدَّى ما بها من غرابة وضوضاء بالإضافة إلى قصة الحب التي تتحلَّق حولها إلى تحقيقها نجاحاً فائقاً سجَّله تاريخ الأوبرا. وعندما أُطيح بنابليون أَلَّف سبونتيني Spontini مقطوعة موسيقية احتفاءً بعودة البوربون إلى العرش.

واستمر شيروبيني Cherubini الذي كان مُهيمنا على الأوبرا الباريسية أثناء الثورة مُهيمناً عليها أيضاً في ظل حكم نابليون. وعلى أية حال فإن الإمبراطور كان يُفضِّل الموسيقا المرحة على أعمال شيروبيني الجادة لذا لم يُقدم له جوائز أو مكافآت، وكان هذا أمراً ملحوظاً. وقد قبل شيروبيني دعوة للحضور إلى فينا (يوليو 5081) لكن نابليون استولى عليها في شهر نوفمبر من العام نفسه. ولم يكن شيروبيني سعيداً تماماً عندما دُعي لقيادة فرقة موسيقية تعزف في حفلات مسائية تكريماً لنابليون في قصر شونبرون Schonbrunn، وعاد لفرنسا ووجد تكريماً في قصر أمير دي شيمي de Chimay الذي أَضْفى الاحترام على مدام تالييه Tallien بتزوِّجه منها.

وعندما عــاد نابليــون من إلبا Elba ورغــم مشاغله الكثيرة فإنه وجد من الوقت، ما يجعله يمنح شيروبيني رتبة فارس في جوقة الشرف، لكن لم يحدث إلاّ في عهد لويس الثامن عشــر أن تلقَّى هذا الإيطالــي الكئيــب اعترافاً بفضلــه ودخــلاً كافيــاً. وفــي الفتــرة من 1281 إلى 1481 وهي الفترة التي كان فيها مديراً للكونسرفتوار في باريس (معهد باريس للموسيقى) أثَّر في جيل كامل من الموسيقيين الفرنسيين. ووافته منيّته في سنة 2481 عن عمر يناهز الثانية والثمانين، وكاد يطويه النسيان في مشكاة الزمن المتغيرة (اللامبالية).


2- متنوعات

يشبه نابليون تماماً لويس الرابع عشر في رعايته للفنون فهو - مثله - كان راغباً في ترسيخ مجد فرنسا وعظمتها، وكان يأمل أن يجعله الفنانون حياً في ذاكرة البشر. ولم يكن ذَوْقه الخاص على أحسن ما يكون فقد كان ملتفتاً دائماً للأمور العسكرية لكنه قام بما يستطيع لِيُلْهم فنَّاني فرنسا بالأصول التاريخية والمثيرات الشخصية، لقد نهب الأعمال الفنية الكبيرة ليس فقط باعتبارها ثروة قابلة للنقل وقابلة للتفاوض بشأنها (على نحو ما تُشترى في أيامنا هذه) وكأوسمة وشواهد على انتصاراته، وإنما أيضاً كنماذج (موديلات) يحتذيها طلبة الفنون في متاحف فرنسا. لقد نقل فينوس وهي من أعمال دي مديتشي de medici من الفاتيكان، والقديسون المتسامحون وهي من عمل كورجيو Correggio من بارما، وزواج كانا وهي من أعمار ڤرمير Vermeer من البندقية (فينيسيا) وسلالة الصليب وهي من أعمال روبنز Rubens من أنتورب وصعود العذراء وهي من أعمال موريلو Murilo من مدريد... وحتى تماثيل خيول القديس مرقس الصغيرة وجدت طريقها المحفوف بالمخاطر إلى باريس. وفي الفترة من 6971 إلى 4181 أرسل نابليون إلى باريس 605 من الأعمال الفنية الإيطالية عاد منها - بعد سقوطه - 942، وبقي 842 وضاع تسعة أعمال(5). وعن طريق النهب حلَّت باريس محل روما كعاصمة للفن في غرب أوروبا. وكلَّما زادت فتوح نابليون زادت الأسلاب حتى فاضت على أقاليم (محافظات) فرنسا وأنشئت المتاحف لاستيعابها في نانسي Nancy وليل Lille وتولوز ونانت Nantes ورون Rouen وليون وستراسبورج وبوردو ومارسيليا وجنيف وبروكسل ومونتبلييه Montpellier وجرينوبل Grenoble وإميان Amiens.. وَعيَّن نابليون دينون الدومنيكاني كمسؤول عن كل هذه المجموعات الفنية خاصة متحف اللوفر، وكان دينون قد خدمه في بلاد كثيرة ولم ينس دينون أنَّ الامبراطور قد ذهب بنفسه ليمكِّنه من الانسحاب بأمان من هضبة كان العدو قد غمرها بنيرانه خلال معركة إيلاو Eulau.

وقد رصد نابليون الجوائز المادية وأقام المسابقات في مجالات فنية مختلفة، فجدَّد جائزة روما وأعاد الأكاديمية الفرنسية في روما. ودعا الفنانين إلى مائدته وتحدث في النقد الفني حتى أثناء خوضه المعارك وقدَّر أعمال معظم الرسّامين الذين بذلوا كل طاقاتهم لتخليد أعماله وكذلك المعماريين الذين استطاعوا مساعدته في أن يجعل باريس أجمل المدن وحكمة ذِروة تاريخية وَعَهِدَ للمثّالين والنحاتين بتزيين خمس عشرة نافورة جديدة في ميادين باريس.

ولأن ذوقه في الرسم والعمارة كان ينحو نحواً كلاسيّا فإنه كان معجباً بالأسلوب التذكاري الذي ساد في روما القديمة، وكان هذا الأسلوب يهدف لإظهار القوّة والسمو أكثر من الحسن المريح وجاذبية التفاصيل. لذا فقد عَهِد إلى بارثيليمي فينون Barthélemy vignon لتصميم معبد المجد على شرف جيشه الأساسي (الجيش العظيم) وأمر بُناته ألا يستخدمون في تشييد هذا المعبد سوى الرخام والحديد والذهب. وقد أثبتت الأيام أن هذا المعبد (معبد المجد) كان مكلّفا جداً وكان العمل فيه صعباً حتى أنه رغم أنّ بداية العمل فيه كانت في سنة 9081 إلاَّ أنه ظلّ غير مكتمل حتى سقوط نابليون، فأكمله خلفاؤه في سنة 2481 لكنهم جعلوه كنيسة إحياء لذكرى القديسة ماري ماجدالين Magdalen- لاماديلين La Madeleine. ولم تَنْعم به فرنسا أبداً سواء لتحقيق أغراض التقوى (المقصود العبادة) أو لجلب المسرّات نظراً لواجهته الكالحة ولأعمدته الأكثر تعبيراً عن جيش متقدّم منها عن آثم واهن نادم توَّاق لحبها (حب المكان الذي أصبح كنيسة). ومن المباني التذكارية أيضاً مبنى البورصة الذي بدأ اسكندر تيودور برونجنيار Alexandre Théedore Brangniard العمل به في سنة 8081 وواصل إتين دي لا بار Eصtienne de La Barre إكماله في سنة 3181، ولا يوجد في أي مكان آخر لشيطان الجشع وحب المال Mammon مثل هذا المبنى الفخم ذي الأُبَّهة.

وكان المعماريّان المُفضَّلان في فترة حكم نابليون هما بيرسيبه Percier والمعماري المرتبط به عادة بيير فرانسوا ليونار فونتين Pierre- Francois - Léonard Fontaine وقد عملا معاً للربط بين اللوفر وقصر التوليري رغم تفاوت خطوطهما المعمارية ومن ثم فقد بنيا الجناح الشمالي (كور كاري Cour Carrée) للوفر (6081) وأصلحا وجدّدا السطح الخارجي وربطا الأرضيات بسلالم قوية (المقصود أن الأرضيات لم تكن في مستوى واحد فاضطرا لإقامة سلالم لمواصلة الطريق أو الممر). وصمَّما قوس النصر في ميدان الفروسية Arcde Triomphe du Carrousel على نمط - وبالنسب نفسها - قوس سيتيميوس سيفيروس Septimius Severus في روما. وبدأ جان فرنسوا شالجرين Chalgrin في سنة 6081 في إقامة قوس النصر المرصّعه بالنجوم - وهو القوس الأكثر فخامة - في الطرف الأقصى لرحْبة الإليزيه، لكنه ما كاد يرفع قواعده حتى سقط نابليون ولم ينته العمل به حتى سنة 7381 أي قبل ثلاث سنوات من مرور رفاته تحته في طريقه إلى مثواه الأخير في مقبرته بدار ضحايا الحرب Hotel des Invalids ولا ريبَ أن هذا القوس يُحاكي قوس قسطنطين في روما إلاّ أنه يتفوَّق عليه - وعلى أى قوس نصر روماني آخر - في جماله، ويرجع هذا. في جانب منه - إلى نقوشه الدقيقة على الرخام. فإلى اليسار حفر جان - بيير كورتو Jean- Pierre Cartot تتويج نابليون، وإلى اليمين فرانسوا رودي Rudé وهو يعزف النشيد الوطني الفرنسي (3381-6381) معبراً عن النشوة العسكرية في ظلال الثورة، إن هذا العمل يُعد واحداً من روائع فن النحت في القرن التاسع عشر.

لقد قام هذا الفن الصعب في ظل نابليون على الأمجاد التي حقَّقها قبل وصوله للحكم. وقد عاش هودو Houdon حتى سنة 8281 ونحت له تمثالاً نصفياً (موجود الآن في متحف ديجو Dijon) وقد ضمن هذا التمثال للفنان مكاناً بين جوقة الشرف. ولأن نابليون كان لا يزال يتذكر الأباطرة الرومان خاصة من خلال الأعمال النحتية المتعلّقة بتراجان، فقد عُهِد إلى جان بابتست الأب Jean- Baptiste le Pere وجاك جُونْدوِي Jaques Gandouin بتخليد ذكرى معركة أوسترليتز Austerlitz في أعمال من النحت البارز لتُلصق طبقة طبقة بشكل تصاعدي حول العمود الذي سيشغل مكاناً بارزاً في ميدان فيندوم Vendome وتم هذا بالفعل (6081-0181)، وفي سنة 8081 توَّج أنطوان شود Antoine Chaudet اسطوانة العمود بتمثال لنابليون نحته من مدفع كان - أي نابليون - قد استولى عليه من الأعداء. وقلّما وصل الفخر بالانتصارات إلى هذا المستوى العالمي.

وكادت الفنون الصغرى - كصناعة الأثاث الفاخر، والزخرفة الداخلية (الديكور) والتطريز وأشغال الإبرة والفخار والخزف والمجوهرات والزجاج والتماثيل الصغيرة - تموت أثناء الثورة لكنها بدأت تنتعش في ظل حكومة الإدارة (حكومة المديرين) وانتعشت في عهد نابليون، فقد أنتج سيفر Sévres مرة أخرى أعمال خزفٍ جميلة. واتخذ الأثاث النمط الإمبراطوري بصرامة. وتُعد المصغّرات التي صوّر فيها إيزابي Isabey الشخصيات القيادية في هذا العصر من بين أجمل المصغّرات الفنية في التاريخ. وأبدعَ جوزيف شينار Chinard تماثيل نصفية جميلة من طين نضيج لجوزفين ومدام رِيسَامْيِيِه، وكانت تماثيل مدام ريسامييه على نحو خاص تتَّسم بالجمال وقد عرَّى أحد نَهْيْها ليظهرها كنموذج للمرأة المثل التي قررَّت أنْ تبقى نصف عذراء حتى آخر حياتها.

3- الرسَّامون

لقد انتعش فن الرسم الآن مع انتعاش البلاد ممّا مكّن رعاة الفنون من الدفع. وكان نابليون يدفع بسخاء لأنّه كان يرنو للخلود عَبْر القرون وكان يرنو للفت الأنظار لإنجازاته بالتقرب إلى أهل الأدب والفن. لقد جعله اعجابه بأوغسطس روما Augustus ولويس الرابع عشر الباريسي يميل للإعجاب بالمعايير الفنية الكلاسيّة - في الخط والانضباط والمنطق والنِّسب والتصميم والعقلانية والتحّفظ، لكن حدَّة أحاسيسه، ومدى خياله وقوة عاطفته، كل ذلك جعله يتفهَّم على نحو ما الحركة الرومانسية التي قامت لإطلاق الفرديّة والمشاعر والخيال والأصالة والإبداع والتأمل الباطني والألوان وتحريرها من أسر التقاليد والشكليات. لذا فإن نابليون جعل من دافيد David الرسّام الرسمي في بلاطه، لكنه أَوْلى أيضاً شيئاً من رعايته لوجدان جيرار Gerard ورعوّية برودون Prudصhon وألوان جروس Gros المتفجِّرة الصَّاخبة.

وقد كان جاك لويس ديفد (داود) مولعاً ولعاً طبيعياً بهذا الرَّاعي النصير (المقصود نابليون) الذي اتخذ لنفسه لقب قنصل والذي كان لفترة حامي حمى المدافعين عن حقوق العامة والذي تخّفى وراء قراراته ومراسيمه الشبيهة بقرارات مجلس الشيوخ الروماني ومراسيمه وسرعان ما زار ديفيد هذا الكورسيكي المنتصر (المقصود نابليون) بعد الثامن عشر من شهر برومير Brumaire (وفقاً للتقويم الجمهوري الذي وضعته الثورة الفرنسية)، وكسبه نابليون إلى جانبه بأن حياة ذات مرة كفرنسي مُقَدَّم لكنه وبّخه بكياسة لاستنزافه كثيراً من موهبته في التاريخ القديم، أليست هناك أحداث تستحق الخلود في تاريخنا الحديث بل والمعاصر؟! وعلى أية حال فقد أضاف نابليون قائلاً افعل ما يسّرك، فقلمك الرصاص سيُحقِّق الشهرة لأيِّ موضوع تختاره، لأنَّ أي صورة تاريخية ترسمها ستتلقَّى مقابلها 000،001 فرنك(6). وكان هذا مُقْنعا. وصدَّق ديفيد على الاتفاق بأن رسم لوحة لبونابرت وهو يعبر الألب (1081) تلك اللوحة التي تظهر المقاتل الوسيم بساق جذّابة فوق حصان رائع يعدو بسرعة فوق المنحدر الصخري للجبل - إنها إحدى أجمل الصور في هذا العصر.

وكان دافيد قد صوّت إلى جانب قرار إعدام لويس السادس عشر ولابُد أنه جفل عندما جعل نابليون من نفسه إمبراطور وأعاد للملكية كل أبهتها وسلطانها، و مع هذا فقد ذهب (أي ديفيد) ليرى سيّده الجديد (المقصود نابليون) وهو يضع التاج فوق رأسه، وكان افتتانه بالمشهد يفوق توجّهاته السياسية، وبعد ثلاث سنوات من الإخلاص المتردّد لسيّده (الذي أصبح ملكاً)، خلّد هذا الحدث في لوحة زيتية تُعد من روائع هذه الفترة. ويكاد يكون قد صوّر مائة شخصية في لوحة تتويج نابليون (7081) بل إنه رسم فيها مدام ليتيزيا (الأم) Mme Mére Letizia التي لم تكن حاضرة أثناء التتويج. وكان معظمهم راضين عن اللوحة ما عدا الكاردينال كابرارا Caprara الذي اشتكى ديفيد لأنه رسمه أصلعَ بدون شعره المستعار الذي اعتاد وضعه فوق رأسه. وبعد أن تأمل نابليون اللوحة لمدة نصف ساعة رفع قبعَّته للفنان (ديفيد) وقال له: هذا حسن، حسن جداً يا ديفيد، إنني أُحيّيك(7).

ولم يكن ديفيد مجرد رسّام رسمي للبلاط، وإنما كان زعيم الفن الفرنسي في هذه الفترة بلا منازع. لقد سعى إليه كُلّ ذوي الحيثية يجلسون أمامه طمعاً في لوحة منه - نابليون، بيوس السابع، مورا Murat، وحتى الكاردينال كابريرا بعد أن وضع باروكته (شعره المستعار) فوق رأسه(8). وقد نشر تلاميذ ديفيد - خاصة جيرار وجروس وإيزابي وإنجر Ingres - تأثيره حتى عندما انحرفوا عن اسلوبه. وفي وقت متأخر زمنا حتى سنة 4181 كان زوّار اللوفر الانجليز يندهشون لوجود فنانين شبان ينسخون لوحات ديفيد - لا لوْحات عصر النهضة(9). وبعد عام تم نفيه بعد عودة البوربون، فذهب إلى بروكسل حيث انتعشت أحواله نتيجة عمله في رسم اللوحات الشخصية خاصة. ومات ديفيد في سنة 5281 عن عمر يناهز السابعة والسبعين بعد أن عاش حياة حافلة.

ومن بين تلاميذه آنجر Ingres (0771 - 7681) الذي عاش بعده سنوات طوال. وعرَّجنا أثناء حديثنا عن جيرار وجيرين Guerin على رسومهما الشخصية ذات الطابع التنويري، وتوقفنا أكثر إزاء انطوان - جان جروس بسبب تنقله الشائق بين الأساليب المختلفة. لقد لاحظناه في ميلان يرسم أو يتخيَّل نابليون على جسر أركول ففي هذه اللوحة، سرعان ما ندرك ميراث ديفيد الفني يعانق الرومانسية. وقد كافأ نابليون الفنان جروس الذي كان معجباً به اعجاباً أعمى، بأن أرسله ليشهد إحدى المعارك حتى يتمكن الفنان الشاب من رؤية الحرب عن قرب، وبعد ذلك بسنوات قلائل أصبح مثل جويا Goya لا يرى أن الحرب تسبب معاناة شديدة، ففي لوحته طاعون يافا (4081) أظهر نابليون يلمس قروح الضحيّة، لكنه أظهر أيضاً الفزع واليأس بادِيَيْن على الرجال والنساء والأطفال وقد أصابهم قدرهم الأعمى القاسي. ولم يصوّر في لوحته معركة إيلاو (8081) مجريات الحرب وإنما صوّر ميدانها وقد غصّ بالمُحْتَضرين والموتى. وقد أحس بدفء ألوان روبن Ruben وأغرق رسومه بحيوية الدم واللحم التي رفعت الروح الرومانسية لفرنسا بعد عصر نابليون. لكن شعوره بأنه يخون سيده المنفي (نابليون) جعله يحاول العودة في أعماله للأسلوب الكلاسي بما فيه من هدوء وسكون. وفشل واستسلم للاكتئاب (المانيخوليا) وجفت فيه منابع الحيوية وحب الحياة. لقد تاه وأصبح عرضة للنسيان في عصر يَمُور بهوجو Hugo وبيرليوز Berlioz وجيريكول Géricault وديلاكُرْوا Delacroix. وفي 51 يونيو سنة 5381 غادر بيته وهو في الرابعة والستين من عمره وانطلق إلى ميدون Meudon حيث أغْرق نفسه في رافد نهر السّين.

أما بيير-بول برودن Pierre-Paul Prud صhon (8571-3281) فطوّر الفَوَران الرومانسي بتفضيله الجمال المثالي على الحقيقة والنسوة الفاتنات على الأرباب وفضل كوريجيو Correggio على رافائيل Raphael. وأعاد مع ديفيد الأهمية الأولى للخط لكنه شعر أنَّ الخطَّ يموت بلا ألوان. وكان دقيقاً إلاّ في حبّه للنساء، (النص: لم يكن رجلاً إلاّ عندما يتعامل مع النساء) فولعه بالتأمل وحاسيته الشديدة للحب والعشق يمكن أن يغفرا كل أخطائه التي تأتي في سياق مهذّب، ولأنه كان الأخ الأصغر لثلاثة عشر طفلاً فقد عانى الفقر في كلوني Cluny لكنه تطور على نحوٍ متردد، وعلى أية حال فإن رجال الدين عندما رأوه وهو يخطِّط ويرسم حثّوا الأسقف على تمويل دراسته للفن في ديجون Dijon، فكان طالباً جيداً، لكنه في سن العشرين تزوّج من امرأة فاتنة إلاّ أنها سرعان ما تحوّلت إلى امرأة فظة سليطة اللسان. وحصل على منحة دراسية فذهب إلى روما دون أن يصحب زوجته معه، فَفُتن برافائيل ثم ليوناردو وأخيراً استسلم لتأثير كوريجيو Correggio.

وفي سنة 9871 عاد لزوجته وانتقل معها إلى باريس وسرعان ما وجد نفسه منساقاً في الفوضى الثورية ولم يعد لديه وقت أو تذوق لكيوبيدْ his Cupids ولا بيسيشهه his Psyches، لكنه بعناد واصل رسمهما وبدا رقيقاً محباً في رسمه حتى لقد بدا كأن فرشاته تعانق الأجساد البشرية التي يصورها. وكان يتكسّب عيشه من تصميم أوراق الشركات والمؤسسات التي يكتب في رأسها اسم الشركة أو المؤسسة وعنوانها، ورسم المُصَغَّرات والإعلانات التجارية، وبعد عشر سنوات من العذاب فاز بتكليف من حكومة الإدارة برسم صورة الحكمة تهبط للأرض التي لفتت إليها نظر الجنرال بونابرت، وفي وقت لاحق كان نابليون يركّز على ديفيد وكان أحياناً يعتمد بشكل عابر على برودون Prudصhon وعلى أية حال فقد جلست جوزفين أمامه ليرسمها فكانت لوحة عُلّقت في اللوفر، وفي هذه الأثناء كان يُعاني من زواجه بواحدة، فاتفق مع زوجته على الانفصال. ولم يلفت النظر ويحظى بالتصفيق إلاّ وهو في الخمسين من عمره أي من حوالي سنة 8081 ففي هذا العام صَبَ أحلامه الشهوانية في لوحته اغتصاب بسوخي (بسيشي) ثم وازنها بلوحته العدالة والانتقام يلاحقان الجريمة وتأثر نابليون بجمال لوحاته فعيَّنه في جوقة الشرف ومنحه مكاناً لإقامته في السوربون، وفي المكان المجاور لهذا الفنان الجائع للحب كانت تُقيم فنانة أخرى، إنها كونستانس ماييه Constance Mayer التي أصبحت خليلته ومديرة شؤون بيته وعزاءً له في شيخوخته. وفي سنة 1281 اعترى كونستانس ماييه وخز ضمير مفاجئ ومشاعر دينية عارمة وانتحرت. وتأثر برودون Prudصhon بهذا الحدث تأثراً كبيراً عصف به. وفي سنة 3281 وافته منيته ولم يُحدث موته - إلاّ بالكاد - تأثيراً كبيراً في الحركة الرومانسية التي سبق له أَنْ عزّزها بالرجوع إلى أعمال الفنانين من ديفيد إلى واتو Watteaw، فأعاد للفرنسيين من جديد حُبَّهم للجمال والحُسْن.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4- المسرح

كان نابليون مُلماً تماماً بالدراما الكلاسيّة في فرنسا، وكان إلمامه بأدب الدراما في بلاد الإغريق القديمة أقل. وكان نابليون يفضّل كورنيل Corneille لأنه وجد فيه ما شعر أنه فهم دقيق للبطولة والنبالة، وقد عبَّر كورنيل عنهما - فيما أحسن نابليون - بشكل أفضل كثيراً مما فعل راسين Racine قال نابليون في سانت هيلانة إن التراجيديا الجيّدة تقترب منا اقتراباً شديداً كل يوم والتراجيدا من النوع الأرقى هي مدرسة العظماء: إنه لمن واجب الحكَّام تشجيعها والعمل على تشجيع الناس على تذوّقها.. آه لو أنَّ كورنيل عاش في زماني لجعلته أميراً(01) ولم يكن الإمبراطور يهتم بالكوميديا فلم يكن في حاجة للتسلية والترفيه، وكان تاليران يُشفق على السيِّد دي ريميوزا de Rémusat لأنه كمسؤول عن الحفلات والترفيه في البلاط الإمبراطوري. كان يتوقع أن يقوم بترتيب أمور الترفيه والتسلية لهؤلاء المسؤلين المرهقين(11) لكن هؤلاء المسؤولين أنفقوا الأموال على الكويدي فرانسيز Comédie-Francauise (المصطلح يعني المسرح الفرنسي وليس مرتبطاً بالكوميديا بالضرورة - المترجم) ونجومه. وقد رحَّب نابليون بتالما Talma على مائدته كما رحب بالآنسة (المدموازيل) جورج Mlle. George على فراشه.

وفي سنة 7081 قلَّص نابليون عدد مسارح باريس إلى تسعة مسارح وأعاد تأسيس المسرح الفرنسي Theatre Francais (وهو غير الكوميدي فرانسيز الآنف ذكره) كما كان يهتم بين الحين والآخر بدار الكوميديا الفرنسية - وكان لها حقوق - مقصورة عليها - لإخراج الدراما الكلاسيّة. وفي 51 أكتوبر سنة 2181 - وبين خرائب موسكو المحترقة - وجد الوقت الكافي ليصوغ للمسرح الفرنسي Théafre - Francais مجموعة قواعد وإجراءات دقيقة ظلت تحكم هذا المسرح حتى اليوم(21) وفي ظل هذا التشجيع قدّم الكوميدي فرانسيز خلال فترة الإمبراطورية أجمل مسرحيات شهدها التاريخ الفرنسي. ولإضافة نشاطات أخرى لهذه النشاطات أعيد بناء مسرح لودون Theatve de LصOdéon - الذي كان شُيّد في سنة 9771 ودّمرْ حريق في سنة 9971 - في سنة 8081 وكانت خطوط معماره كلاسيّة كما أراد لها المعماري شالجرين Chalgrin. وأنشئ مسرح البلاط في قصر التوليري، كما أنشئت منصات خاصة للتمثيل المسرحي تميزت بقدر كبير من الامتياز في كثير من الدور التي يتمتع أهلها بالثراء. وقد وصل تالما Talma بعد أن لعب أدواره في الثورة الفرنسية - إلى ذروة مجده في ظل حكم نابليون.

وكان معتزاً بنفسه وكان انفعالياً مميَّزاً فلا بُد أنه كان يجد صعوبة في السيطرة على مكوّات شخصيته الحقيقية عند أداء أدواره التمثيلية. لقد أصبح هو سيّد الفن البارع بتعلّمه كيف يضبط وينسق كل حركة من حركات أطرافه، وكل خَلْجة من خلجات وجهه، وكل نبرة من نبرات صوته، ليجعلها ملائمة لأية أحاسيس ومشاعر أو أفكار للشخصية التي يمثلها، وليجعلها ملائمة للتعبير عن أية دهشة أو معنى أو مغزى.... تريد هذه الشخصية أن توصلها للمشاهدين، وكان بعض المولعين بمشاهدة المسرحيات يذهبون عدّة مرّات لمشاهدة العرض الواحد ليروْه في الدّور نفسه ليستمتعوا ببراعة فنه وليدرسوه. ولم يكن أسلوبه في الأداء خطابياً على نحو ما كان عليه أسلوب الأداء التمثيلي في ظل الحكم القديم (قبل الثورة). لقد كان يلقي الأشعار سداسية التفاعيل كما لو كان يقرأ نثراً (غير منظوم) وكان يعارض المبالغة غير الطبيعية في إظهار المشاعر ومع هذا فقد كان بمقدوره أن يكون حالما كأي عاشق انفعالياً كأي مجرم. وكادت مدام دي ستيل تصل إلى حد الرّعب عندما شاهدت تالما يؤدي دور أوثيلو(31) Othelo فكتبت له في سنة 7081: انّك في مجال فنك فريد في العالم (ليس لك نظير) ولم يصل أحد قبلك إلى هذه الدرجة من الاتقان حيث وحَّد الفن في شخصك بين الإثارة والإلهام والتفكير من ناحية والتلقائية من ناحية أخرى، وبين العقل والسجيّة(41).

وكان نابليون أيضاً مفتوناً بهذا التراجيدي (تالما) فقدّم له مبالغ عينية ودفع ديونه ودعاه مراراً على مائدة الإفطار وكان الامبراطور يستطيع أن يظل مستغرقاً في الحديث عن الدراما والدبلوماسيون والجنرالات ينتظرون لقاءه بينما هو يشرح تفاصيل تاريخية يجب مراعاتها عند تقديم الشخصية. وذات صباح بعد أن شاهد مسرحية موت بومبي La Mart de Pompée قال لتالما: إنني لستُ براضٍ تماماً. إنك تستخدم ذراعيك كثيراً. إن الملوك لا يُكثرون هكذا من الإشارات والإيماءات. إنهم يعرفون أنَّ الحركة أمر amotion is an order وأن النظرة موت، لذا فهم يقتصدون في الإشارات والحركات والنظرات وقد تأكدنا أنّ تالما قد استفاد من هذه النصيحة(51). وعلى أية حال فقد ظل تالما حتى آخر حياته سيّداً للمسرح الفرنسي. وكان للمسرح الفرنسي أميراته (ممثلاته البارعات) أيضاً فقد كانت الآنسة (المدموازيل) دوشنوا Duchesnois ذات وجه عادي لكنها متناسقة القوام. لذا فقد كانت - على حد ما ذكر دوماس الأب Dumas Pére - معجبة على نحو خاص بدور الزير Alzire حيث كانت تستطيع عرض دوْرها وهي شبه عارية وكان صوتها أيضاً ذا نغمات شجيّة عميقة ويُعبِّر عن الأسى الميلودي (يتسم بأنه صوت رخيم) حتى أنه في يوم عرض هذه المسرحية فضَّلها معظم من شاهدوها في دور ماريا ستورات Maria Stuart على الآنسة راشيل Mlle. Rachel(61) لقد كانت أكثر ما تكون إبداعاً عندما تؤدي أدواراً تراجيدية إذ كانت تنافس تالما Talma في أداء هذه الأدوار، وعادة ما كان يتم اختيارها لتلعب أدوارها معه. أما الآنسة جورج Mlle. George فكانت ذات جمالٍ يُحَرِّضُ على الإثم ولا بد أن المسرح الفرنسي تردّد عند توزيعه الأدوار في أن يعهد إليها بدوْر كليتمسترا Clutemnestra في مسرحية راسين Iphigénic. لقد جذب صوتها وقوامها القنصل الأول (نابليون) وكأيّ سيد إقطاعي يتمتّع بحق السيّد droit de seigneur راح يزورها زيارات قصيرة بين الحين والحين وكان عليها أن تستجيب لطلبه(71). ورغم أن هذه العلاقة قد انتهت بعد عام إلاّ أنها - مثل تالما - ظلت مخلصة لنابليون طوال انتصاراته وهزائمه على سواء، ومن ثمّ فقد فقدت مكانها في المسرح الذي كانت تعمل به عندما سقط نابليون، لكنها عادت بعد ذلك لتُشارك في حركة المسرح الرومانسي بما في هذه الحركة من إثارة.

واعتقد نابليون - وله بعض الحق - أنَّ المسرح الفرنسي Comedie - Francaise في عهده رفع من شأن المسرح عموماً إلى درجة من الامتياز لم يحقّقها من قبل. وأمر نابليون فرقة هذا المسرح عدة مرات بتقديم عروضها على نفقة الدولة إظهاراً لتفوقها ودليلاً علي عظمته - في مينز Mainz أو كوْمِبْنيْ Compieصgne أو فونتينبلو Fontainebleau في مسرح البلاط أو - كما حدث في إرفورت Erfurt ودرسدن Dresden - لعرض مسرحية قبل لقاء الملوك(81).