قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 1 ف 2

صفحة رقم : 14540

قصة الحضارة -> عصر نابليون -> الثورة الفرنسية -> الجمعية الوطنية -> مجلس طبقات الأمة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثاني: الجمعية الوطنية (4 مايو 1789 - 30 سبتمبر 1791)

1- مجلس طبقات الأمة

في 4 مايو سنة 1789 اتجه ممثلو الطبقة الثالثة (طبقة العوام) وعددهم 621 وكيلا، وكانوا يلبسون الملابس البورجوازية السوداء، يتبعهم 285 من النبلاء وقد وضع الواحد منهم قبعته المزدانة بالريش فوق رأسه وارتدى ثيابا محلاة بالأشرطة والذهب، ثم 308 من رجال الدين، وقد امتاز الأساقفة عنهم بعباءات من قطيفة، ثم وزراء الملك وأفراد عائلته، ثم لويس السادس عشر وزوجته مارى أنطوانيت Marie Antoinette، وكان الجند يحيطون بالركب كله وراحت الأعلام ترفرف وكذلك الشارات، واتجهوا جميعا إلى المكان المخصص لاجتماعهم وهو صالة المسرات البريئة Hotel des Menus Plaisirs التي لا تبعد إلا قليلا عن القصر الملكي في فرساي.

وحفت الجماهير الفخورة والسعيدة بالموكب، وراح بعضهم يبكي فرحا وأملا(1) وهو يرى في هذا المنظر الذي ينم عن وحدة الطبقات المتنافسة، وعداً بالتماسك والتضامن والعدل في ظل ملك خير.

وخطب لويس في الوفود المجتمعة معا معترفاً بأن الخزانة على شفا الإفلاس، وعزا ذلك إلى "الحرب المكلفة والمشرفة في آن" وطلب منهم أن يفكروا في وسائل جديدة لزيادة دخل الدولة وأن يصدقوا على المراسيم التي تصدر بهذا الشأن. ثم جاء نيكر Necker فاستمر ثلاث ساعات يقرأ إحصاءات جعلت حتى الثورة نفسها، كئيبة ينقصها الحماس. وفي اليوم التالي خبا تألق الوحدة بين الطبقات الثلاث، فوجدنا الإكليروس (طبقة رجال الدين) يتقابلون في صالة ملحقة أصغر من الصالة التي ضمت الطبقات الثلاث، وراح النبلاء يتقابلون ويجتمعون في صالة أخرى ملحقة وشعر أفراد الطبقتين (النبلاء والإكليروس) أنه يجب عليهم أن يتدارسوا الأمر في نطاق طبقتهم كما يجب عليهم أن يصوتوا بمعزلٍ عن الطبقتين الأخريين كما حدث في آخر مجلس طبقات أمة انعقد منذ 175 عاما مضت، وكان من رأي أفراد الطبقتين أنه لا يجوز إقرار أي اقتراح واعتباره قانونا إلا إذا وافقت عليه الطبقات الثلاث والملك، أما ترك الأمور للانتخابات الفردية أي أن يحسب صوت كل فرد بصرف النظر عن طبقته بين هؤلاء المندوبين المجتمعين فإن هذا يعني تسليم كل شيء لطبقة العوام.

وقد حدث بالفعل أن انضم رجال الدين الأشد فقرا من سواهم إلى جانب طبقة العوام "بل إن بعض النبلاء مثل لافاييت Lafayette وفيليب دورليان Philipe d`Orleans ودوق لا روش‌فوكو La Rochefoucauld، وليان‌كور Liancourt أضمروا مشاعر ليبرالية خطرة.

وبسبب هذا بدأت حرب أعصاب لفترة طويلة، وكان يمكن لطبقة العوام أن تنتظر لأن إقرار ضرائب جديدة يستلزم موافقتهم العلنية بينما كان الملك ينتظر إقرار هذه الضرائب الجديدة بصبر فارغ. وكانت طبقة العامة(ü) تتحلى بالشباب والحيوية والفصاحة والتصميم. لقد كان هناك أونوري Honore- جابريل Gabriel - فيكتور تيكيتي Victor Riquti الذي قدم لهم الكونت دى ميرابو Conte de Mirabeau خبرته وشجاعته وقوة فكرة وصوته الجهوري، وقدم بيير - صامويل دى بو دى نيمور Pierre - Samuel du Pont de Nemours لهم معلومات عن طبيعة اقتصاد الفيزيو قراطيين (الطبيعيين) وعن الاستراتيجية، أما جان بيلي Jean Bailly فقد حقق بالفعل شهرة في مجال الفلك، وقد هدأ من حدة الانفعال ليصلوا إلى حكم هادىء بعد دراسة الأمور وتقليبها. أما مكسيمليان دى روبيسبير Maximilien de Robespierre فظل يتحدث بانفعال وباستمرار كرجل عقد عزمه ألا يسكت حتى يجد طريقه.

لم يبق من عمر روبيسبير الذي ولد في أراس Arras في سنة 1758 سوى خمسة أعوام، لكنه كان في غالب هذه الفترة هو محور الأحداث أو يتحرك بالقرب من قلبها. وكان روبيسبير قد فقد أمه وهو في السابعة من عمره، أما أبوه فقد اختفى في ألمانيا. وقام الأقرباء بتربية الأيتام الأربعة وفاز مكسيميليان الطالب الدؤوب بمنحة دراسية في كلية لويس لي جراند Louis - le - Grand في باريس، ونال درجة جامعية في القانون ومارس المحاماة في أراس Arras وحقق شهرة كمدافع عن الإصلاح حتى إنه كان من بين الذين تم إرسالهم من إقليم أرتوا Artios لحضور مجلس طبقات الأمة State - General. ولم يكن مظهر روبيسبير يدعم دورة كخطيب فقد كان طوله لا يزيد على خمسة أقدام وثلاث بوصات، وكان وجهه عريضاً ومسطحاً شوهه الجدري، وكانت عيناه ضعيفتين محاطتين بدائرتين، وكان لونهما أزرق مخضراً حتى إن كارليل Carlyle أطلق عليه اسم "روبسبير البحر الأخضر" وله بعض العذر في ذلك. وكان روبسبير يدعو إلى الديمقراطبة ويدافع عن حق الذكور البالغين في الانتخاب رغم أن ذلك قد يجعل من أدنى الطبقات(ü) شركاء في الحكم بل ويجعل رايتهم ترتفع فوق الجميع. لقد عاش عيشة بسيطة كعيشة أحد أفراد طبقة العمال لكن لم يقلد ذوى السراويلات (النباطيل) الطويلة المعروفين باسم السانس كلوت (أي الذين لايرتدون الشورتات "الكلوتات" القصيرة) لقد كان يلبس سترة خطافية (فراك) زرقاء غامقة نظيفة، وسروالاً (بنوطلوناً) قصيرا يصل إلى الركبة وجورباً حريرياً، وقلما كان يغادر بيته قبل أن ينثر المساحيق على شعره.وكان يسكن مع نجار اسمه موريس دبلي Maurice Duplay في شارع سانت أونري Rue St-Honore وكان يتغذى على مائدة الأسرة وكان يدفع لقاء ذلك ثماية عشر فرنكا في اليوم. وكان ينطلق من هذا المستوى المتدني (مستوى الحضيض) ليتحرك في معظم أنحاء باريس، وبعد ذلك في معظم أنحاء فرنسا. لقد كان يتحدث بشكل متتابع تتابعا ملحوظا عن الفضيلة، وكان يطبقها بقسوة وصرامة وعناد أمام الجماهير، أما في علاقاته الخاصة فقد كان "كريما عطوفا بل وكان مستعدا لتقديم الخدمات" على حد قول فيليبو بوناروتي Filippo Bunoarrotti الذي كان يعرفه جيدا(2).

لقد كان يبدو محصنا تماما ضد مفاتن النساء، فقد صرف طاقة الحب التي لدية لأخيه الأصغر أوغسطين Augustin وسان ـ جوست Saint - just ولم يتهمه أحدٌ أبداً بأي انحراف جنسي، ولم يكن من الممكن إغواؤه برشوة مهما بلغ قدرها، وعندما عرض أحد الفنانين صورة شخصية لروبيسبير في سنة 1791 لم يكتب إزاءها سوى فقرة واحدة "غير قابل للرشوة(3) The incorruptible " ولم يبد أن هناك من تجرأ على الاعتراض على ذلك. وكان روبيسبير يؤمن بأفكار منتسكيو Montesquieu باعتبارها أساساً لازما لجمهورية ناجحة، فمن غير ناخبين لا يمكن شراء أصواتهم الانتخابية ومن غير موظفين لا يمكن رشوتهم تصبح الديقراطية كذبا ورياء. وقد آمن روبيسبير كما آمن روسو بأن الإنسان خير بالطبيعة أو بتعبير آخر خلقه الله خيرا، بحيث يجب أن تكون "الإرادة العامة" هي قانون الدولة وأن أي معارض مصر على مواجهة الإرادة العامة يستحق بلا ريب الإدانة التي تفضي به إلى ساحة الإعدام. وكان روبيسبير متفقاً مع روسو في أن بعض أشكال المعتقدات الدينية لا بد منها لضمان السلام النفسي والانضباط الاجتماعي ولأمان الدولة وبقائها.

ولم يبد أنه بدأ يشك في اتفاقه التام مع الإرادة العامة "الإرادة الجماهيرية" إلا قرب نهاية حياته. لقد كانت نفسه أضعف من إرادته، وكانت معظم أفكاره مستقاة من قراءاته أو من الشعارات التي ملأت الجو الثوري المحيط. لقد مات في عمر باكر جدا مما لم يتح له فرصة سبر أغوار الحياة بعمق أو تحصيل قدر كبير من المعرفة التاريخية يتيح له أن يقارن بين أفكاره المجردة أو العامة وواقع الأمر من خلال تأمل محايد. لقد عانى بشدة مما حاق بنا من فشل عام، ولم يكن يستطيع أن ينأى بذاته بعيداً عن عينيه. لقد كان مقتنعاً بما يتفوه به مشوبا بالحماس والعاطفة. لقد كان على يقين خطر، وكان يصرخ عبثا بشكل يدعو للسخرية، قال عنه ميرابو Mirabeau " هذا الرجل سيشتط كثيرا وسيذهب بعيدا. إنه مؤمن بكل كلمة يقولها"(4) وكانت نهايته إلى المقصلة.

وقد ألقى روبيسبير على مدار عامين ونصف العام في الجمعية الوطنية نحو خمسمائة خطبة(5) عادة ما كانت الخطبة منها طويلة طولا يبعدها عن تحقيق الإقناع، وعادة ما كانت جدلية خلافية مما يجعلها غير بليغة، ومع هذا فإن جماهير باريس فهمت مغزاها وتعلمت منها وأحبته من أجلها. لقد عارض روبيسبير التفرقة القائمة على أسس عرقية أو دينية واقترح تحرير السود(6) وظل حتى شهور حياته الأخيرة مدافعا عن الشعب. لقد قبل مبدأ الملكية الخاصة، لكنه رغب في تعميم الملكية الصغيرة لتكون هي الأساس الاقتصادي لديمقراطية قوية. وقد اعتبر التفاوت في الثروة شراً لا بد منه"(7) راجع إلى التفاوت الطبيعي بين قدرات البشر. وفي هذه الفترة وجدناه يؤيد الإبقاء على الملكية فقد كان يرى أن الإطاحة بلويس السادس عشر قد تؤدي إلى فوضى وسفك دماء تفضيان في النهاية إلى دكتاتورية أكثر من طغيان الملكية(8).

واستمع كل عضو من أعضاء الجمعية الوطنية - تقريبا - لخطب هذا الخطيب الشاب بحياد فيما عدا ميرابو Mirabeau الذي احترم حجج روبيسبير التي أعدها إعدادا متقنا وبسط شرحها بوضوح. ومن ناحية أخرى(9) لاحظنا ميرابو الذي نشأ في ظل والد عبقري رغم دقته الشديدة الصارمة راح يتشرب بتوق شديد كل تأثير متاح في الحياة مما تهيؤه فرص الرحلة والمغامرة والخطيئة، وراح يطالع مظاهر الضعف البشري والظلم والفقر والمعاناة في اثنتي عشرة مدينة، وسجنه الملك بناء على طلب والده وشهر بأعدائه في نشرات هجائية واتهامات غاضبة، وأخيرا انتخبته طبقة العوام في كل من مرسيليا Marseilles وايزنبروفنس Aix-en- Provence لمجلس طبقات الأمة فحقق انتصارا مزودجا فعالا، وأتى إلى باريس وقد أصبح بالفعل أحد المشاهير اللامعين الذين تحوم حولهم الشكوك في بلد كانت الأزمة تدفع بالنابغين والعباقرة إلى الصدارة في ظروف قلما شهد لها التاريخ مثيلا. لقد رحب به متعلمو باريس كلهم، وأطلت الرؤوس من النوافذ لمشاهدة عربته وهي تمر، وكانت النسوة مشتاقات لمعرفة حقيقة الإشاعات المثارة حول غرامياته كما كن مفتونات بما في وجهه من ندوب وتشوه، فتنة لا يعادلها سوى الاشمئزاز من قبح هذه الندوب وهذا التشوه.

لقد استمع الأعضاء باستسلام لخطابه رغم أنهم كانوا شاكين في طبقته وأخلاقه ونواياه، فقد سبق أن سمعوا أنه كان يعيش عيشة تفوق إمكاناته، وأنه كان يشرب حتى يفقد عقله، وأنه لم يكن يتورع عن استخدام بلاغته وفصاحته للتخفيف من وطأة ديونه، لكنهم علموا أنه لام أفراد طبقته دفاعاً عن العوام الذين قدروا فيه شجاعته لأنهم تشككوا في أن يجدوا لهذا البركان من الطاقة المعتمل في نفسه مثيلا آخر.

لقد انتشرت الخطابة في هذه الأيام المحمومة وازدادت المناورات السياسية أكثر بكثير مما شهده قصر (صالة) المسرات البريئة (مينو بلازير (Hotel des Menus Plaisirs وطغت بها الصحف والنشرات والإعلانات المعلقة على الجدران والنوادي؛ فبعض المندوبين القادمين من بريتاني Brittany كونوا نادي البريتون Club Breton الذي سرعان ما فتح باب عضويته للأعضاء الآخرين وللخطباء والكتاب، وجعل منه كل من سييز Sieyes وروبيسبير، وميرابو منصة يعرضون عليها أفكارهم ويجربون وقع مشاريعهم على المستمعين، وشهد هذا النادي التشكيل الأول للتنظيم القوي الذي عرف بعد ذلك باسم اليعاقبة. وكانت المحافل الماسونية نشيطة أيضا، وكانت عادة مؤيدة للملكية الدستورية، لكن ليس لدينا دليل عن مؤامرة ماسونية سرية(10). وربما كان نادي البريتون هو الذي شهد خطة سييز Sieyes وآخرين القاضية بأن يتحرك النبلاء والإكليروس في خطوة واحدة مع طبقة العوام. وقد ذكّر سييز طبقة العوام بأنّ عددهم 24 مليونا من بين 25 مليون هم سكان فرنسا، فلم طال ترددهم في الحديث باسم فرنسا؟. وفي 16 يونيو اقترح على المندوبين في المينو بلازير(صالة المسرات البريئة) Menu Plaisirs ضرورة أن يرسلوا دعوة أخيرة للطبقتين الأخريين للانضمام إليهم فإن كانت الإجابة بالرفض فما على مندوبي الطبقة الثالثة إلا أن يعلنوا أنهم هم ممثلو الأمة الفرنسية وأن يشرعوا في سن القوانين.

واعترض ميرابو في بادىء الأمر بأن الملك على رأس مجلس طبقات الأمة وبالتالي فهو - من الناحية القانونية - تابع له، ومن ثم يمكن فض المجلس بناء على رغبة الملك. وبعد أن قضى المجتمعون ليلة في النقاش وسوق الحجج والتشابك بالأيدي تمّ طرح القضية للتصويت: أسوف يعلن المجتمعون أنفسهم جمعية وطنية؟ وتمت الموافقة على ذلك بأربعمائة وتسعين صوتا مقابل تسعين كانوا هم المعترضين فقط. وتعهد النواب بالالتزام بحكم دستوري. ومن الناحية السياسية تكون الثورة قد بدأت في 17 يونيو سنة 1789.

وبعد ذلك بيومين اجتمع ممثلو الإكليروس بشكل منفصل وصوتوا لصالح الانضمام لطبقة العوام (الطبقة الثالثة)، وكان عدد الأصوات الموافقة 149، مقابل 137 اعترضوا وألقى الإكليروس الأدنى درجة بثقلهم لصالح طبقة العوام وفزع ذوو الرتب الكنسية العليا من الإكليروس من هذا الانشقاق فانضموا للنبلاء ولجأوا إلى الملك لمنع اتحاد الطبقات معا حتى لو اقتضى الأمر حل مجلس طبقات الأمة وصرفه، فأمر الملك في مساء يوم 19 يونيو بإغلاق صالة المسرات البريئة (مينو بلازير Hotel des Menus Plaisirs) لإعدادها لجلوس ممثلي الطبقات الثلاث في الدورة الملكية التي ستعقد في 22 يونيو. وعندما ظهر نواب الطبقة الثالثة في اليوم العشرين وجدوا الأبواب موصدة فاعتقدوا أن الملك يريد صرفهم فتجمعوا في ملعب تنس مجاور Salle du Jeu de Paume واقترح مونييهMounier على النواب وعددهم 577 المتجمعين أن يقسم كل واحد منهم ألا ينفصل عن المجموع وأن يواجه الظروف مهما كانت حتى يتم وضع الدستور بشكل نهائي" وبالفعل أقسموا جميعا ما عدا واحدا، وقد سجل الفنان جاك لوي دافيد Jacques-Louis David هذا المشهد التاريخي في واحدة من أهم اللوحات الفنية الكبرى في هذا العصر. ومنذ ذلك الوقت أصبحت الجمعية الوطنية هي أيضا الجمعية التأسيسية التي تتولى صياغة الدستور.

وتم افتتاح الدورة الملكية في 23 يونيو أي بعد الميعاد المقرر لها بيوم، وتلي خطاب للملك في حضورة، وكان الخطاب يعكس اقتناعه أنه بغير حماية النبلاء والكنسية ستتضاءل أهميته السياسية، ورفض في خطابه هذا دعوى الطبقة الثالثة بأنها هي الأمة، باعتبار ذلك أمراً غير قانوني. ووافق الملك في خطابه هذا على إلغاء السخرة، وإبطال إصدار المراسيم الملكية القاضية بالسجن من غير محاكمة وإلغاء رسوم الانتقال داخل فرنسا وكل ما يترتب على نظام القنانة (عبودية الأرض) لكنه أكد على اعتراضه عل كل ما يفسد "الحقوق الدستورية القديمة، ... فيما يتعلق بالملكية أو المزايا الشرفية لطبقتي النبلاء والإكليروس" ووعد بالمساواة في الضرائب في حالة موافقة هاتين الطبقتين. كما قال إن كل ما يتعلق بالدين أو الكنسية لا بد أن يتم بموافقة الإكليروس، وأنهى خطابه بإعادة تأكيده على النظام الملكي المطلق:

"وإذا شاءت الأقدار أن تخليتم عني في هذا المشروع العظيم، فإنني وحدي سأعمل على رفاهية شعبي، وأنا وحدي الذي يجب أن ينظر في أمر ممثليه الحقيقيين.. اعتبروا أيها السادة ولتعلموا أن أيا من مشروعاتكم وخططكم لن يكون له قوة القانون بغير موافقتي.. إنني آمركم أيها السادة أن تنفضوا فورا، وأن تجتمعوا غدا كل واحد منكم في الصالة المخصصة لطبقته"(11).

وغادر الملك ومعظم النبلاء وعدد قليل من الإكليروس صالة الاجتماع، وأعلن المركيز دي بريزى de Breze عن رغبة الملك في إخلاء الصالة. وأجاب باييه Bailly - رئيس الجمعية - بأن الأمة المجتمعة لا يمكنها أن تقبل مثل هذا الترتيب، ودوى صوت ميرابو كالرعد معلنا لدى بريزى de Breze : "اذهب وقل لمن أرسلوك إننا هنا بإرادة الشعب ولن نغادر إلا إذا أجبرتمونا على ذلك بالقوة المسلحة"(12). ولم يكن ما قاله صحيحا فقد أتوا إلى هنا بناء على دعوة الملك ومع هذا فقد عبر المجتمعون عن هذا المعنى نفسه بالصياح قائلين "تلك إرادة الجمعية" وعندما حاول الحرس الملكي دخول القاعة سدت مجموعة من النبلاء الليبراليين - وكان من بينهم - لافاييت Lafayette - المداخل بسيوفهم المشهرة، وعندما سئل الملك عما يجب عمله أجاب بضجر "دعوهم يبقون".

وفي 25 يناير انضم دوق أورليان Duc d`orleans مع سبعة وأربعين نبيلا للجمعية الوطنية فاستقبلهم أعضاؤها بعاصفة من الفرح وتردد صدى صياحهم المتحمس في أرجاء القصر الملكي Palais - Royal وحوله، وتآخى الحرس الفرنسي مع الحشود الثائرة، وفي اليوم نفسه شهدت العاصمة ثورتها السلمية فقد التقى الرجال الذين كان قد تم اختيارهم(وكان عددهم 407) من أقسام باريس لاختيار مندوبي باريس في دار البلدية Hotel de Ville وقاموا بتعيين مجلس بلدي جديد، ولما رأى المجلس الذي عينه الملك أنه لا يجد دعما عسكريا يؤازره تخلى - سلميا - عن دار البلدية.

وفي 27 يونيو استسلم الملك لحكم الظروف وتوجهات نيكر Necker وأمر طبقتي النبلاء والإكليروس بالانضمام إلى الجمعية الوطنية الظافرة، وبالفعل ذهب النبلاء إليها لكنهم رفضوا المشاركة في التصويت ومن ثم عاد كثيرون منهم إلى ضياعهم. وفي أول يوليو استدعى لويس عشرة أفواج - معظمهم من الألمان والسويسريين - لمساعدته، وفي العاشر من يوليو احتلت قوات قوامها ستة آلاف جندي بقيادة المارشال دى برولي Marechal de Broglie فرساي، واتخذ عشرة آلاف جندي بقيادة البارون دى بيسينفال Baron de Besenval مواقع حول باريس. وفي أجواء ملأها الهياج والرعب شرعت الجمعية في اعتبار التقرير الذي سبق تقديمه في 9 يوليو بمثابة دستور جديد. وتوسل ميرابو إلى الأعضاء أن يحتفظوا بالملك كدرع ضد الفوضى الاجتماعية وحكم الغوغاء، ووصف لويس السادس عشر بأنه رجل طيب القلب ذو نوايا حسنه لكن مستشاريه قصيري النظر يضللونه وقال لهم وكأنه يتنبأ:

"أَدَرَسَ هؤلاء الناس في تاريخ أي شعب كيف تبدأ الثورات، وكيف يجري تنفيذها؟ ألم يلاحظوا كيف أن سلسلة من الظروف التي يفرضها القدر تبعد أحكم الرجال عن حدود الاعتدال، وكيف أن الشعب الساخط تدفعه الأحداث المرعبة لتورده موارد الإسفاف؟"(13).

وانصاع أعضاء الجمعية لنصيحته لأنهم شعروا أيضا بتطور الأحداث السريع في شوارع باريس. لكن الملك لويس بدلا من أن يكافىء الطبقة الثالثة بتنازلات جوهرية لتهدئتها، فإنه أثار غضب الراديكاليين والليبراليين بطرده نيكر Necker للمرة الثانية (في 11 يوليو) ليضع في منصبه صديق الملكة العنيد المتشدد البارون دي بريتيل (Baron de Breteuil) وفي 12 يوليو جعل المقاتل دي بروجلي de Broglie وزيرا للحرب، وتأزمت الأمور وحان وقت الجد.

2- الباستيل

في 12 يوليو اعتلى كاميل ديمولين Camille Demoulins الجزويتي (اليسوعي) المتخرج، منضدة خارج مقهى دي فويCafé de Foy بالقرب من القصر الملكي وأعلن خبر طرد نيكر واستدعاء القوات الأجنبية وراح يصرخ "إن الألمان سيدخلون باريس هذه الليلة ليذبحوا سكانها" وراح يحث مستمعيه على تسليح أنفسهم وقد نفذوا ما أشار به لأن المجلس البلدي الجديد لم يبد إلا مقاومة واهية عندما كسروا الأبواب وصادروا الأسلحة المخزونة في دار البلدية. لقد أصبح الثوار المسلحون يستعرضون الآن قوتهم في الشوارع رافعين تماثيل نصفية لنيكر ودوق أورليان Duc d`orléans مزينين قبعاتهم بأشرطة ذوات عقد خضراء. وعندما أصبح معروفا أن هذا اللون هو أيضا لون ملابس خدم الكونت المكروه (كونت درتوا (Conte d` Artois الأخ الأصغر للملك وكذلك حرسه، فإنهم سرعان ما غيروا ألوان عقد أشرطة قبعاتهم ليجعلوها حمراء وبيضاء وزرقاء - الألوان التي تمثل العلم الوطني. وأغلق رجال البنوك البورصة وكونت الطبقة الوسطى ميليشيا خاصة بها أصبحت هي نواة الحرس الوطني بقيادة لافاييت Lafayette ؛ كل ذلك خوفاً من عنف طائش لا يميز وتدمير للممتلكات وذعر مالي. ومع هذا فإن بعض الوكلاء البورجوازيين - رغبة منهم في حماية الطبقة الوسطى التي أصبحت آمنة الآن - أسهموا في تمويل المقاومة الشعبية للملكية المطلقة وجذب الحرس الفرنسي من أحضان الملكية صوب المشاعر الديمقراطية(14). وفي 13 يوليو أعيد تشكيل الجماهير فانضم إليهم عدد كبير من أحياء الفقراء وأتاهم مدد جديد من الجنود الجدد من كل حدب وصوب، وغزت هذه الجماهير المتزايد عددها مخزن السلاح في مستشفى المحاربين القدماء Hotel des Invalides واستولت على 28.000 بندقية (مسكت) وبعض المدافع، وخشي بيسينفال Besenval أن تطلق هذه الكتائب الشعبية النار على الشعب فاحتفظ بهم في الأحياء الجانبية، وعلى أية حال فقد أصبحت الجماهير المسلحة تسيطر الآن على العاصمة.

كيف يتم تصريف طاقات هذه القوى؟ لقد اقترح كثيرون توجيهها في محاولة للاستيلاء على الباستيل، ذلك الحصن القديم الواقع في الجانب الشرقي من باريس والذي شرع في بنائه منذ سنة 1370 وجرت توسعته شيئا فشيئاً في السنوات اللاحقة بقصد احتجاز وسجن من يحيق بهم غضب الملك أو النبلاء، وعادة ما كان ذلك يتم من خلال أوامر سجن تصدر بشكل سري من الملك Letters de Cachet، وفي سنة 1784 طلب من المهندس المعماري وضع خطط لتدمير الزنزانات الكئيبة(15) من غير أن يعلم الناس بهذه الأوامر فقد كانوا يظنون أن الباستيل يضم زنزانات يقبع بها ضحايا الحكم الاستبدادي.

بل إنه لم يكن لدى الثوار نوايا - كما هو ظاهر - بتحطيم حصن الباستيل لكنهم بعد أن قضوا ليلة استراحوا فيها تقاربت آراؤهم حول فكرة التدمير في 14 يوليو، ذلك اليوم الذي سيصبح عيدا وطنيا لفرنسا. لقد كان هدفهم هو أن يطلبوا من محافظ السجن أن يسمح لهم بالدخول ويتناولوا البارود والأسلحة النارية التي ذكرت التقارير أنها موجودة خلف جدرانه، ولم يجدوا حتى الآن إلا القليل من البارود ولم تكن بنادقهم الكثيرة ومدافعهم القليلة - بلا مزيد من البارود - قادرة على منعهم إذا وجه بيسينفال Besenval كتائبه إليهم. وعلى أية حال فإن هذه الجدران ذوات السماكة البالغة ثلاثين قدما والارتفاع البالغ مائة قدم التي تحميها أبراج مزودة بالمدافع، والمحاطة بخندق يبلغ عرضه ثمانين قدما - كانت كتحذير كاف. وانضم أعضاء المجلس البلدي الجديد للجماهير وعرضوا التدخل لدى محافظ الباستيل لعقد ترتيبات سلام.

وكان محافظ الباستيل هو برنار-رينيه جوردان Bernard - Rene` Jordan, Marquis de Lavnay رجلاً من المؤكد أنه مثقف ولطيف المعشر(16)، فقد استقبل المفوضين من الجماهير بترحاب، وعرض المفوضون أن يضمنوا أن يتصرف الثوار بشكل سلمي إذا هو أزاح المدافع من مواقع الإطلاق. وإذا أمر جنوده وكان عددهم 114 جنديا بعدم إطلاق النار، ووافق المحافظ واستضاف الزوار لتناول الغداء.

وتلقت لجنة أخرى ضمانا مشابها، ولكن المحاصرون راحوا يصيحون قائلين إنهم يريدون ذخيرة لا وعودا وكلمات. وبينما الطرفان يتفاوضان تسلق بعض العمال النشيطين إلى مراكز التحكم ودلوا الجسرين المتحركين فاندفع المهاجمون عبر هذين الجسرين إلى ساحة الباستيل، فأمرهم دي لوني de Launay المحافظ الآنف ذكره بالتراجع لكنهم رفضوا، فأطلق عسكره النار عليهم، وتغلب الثائرون المقتحمون عندما قام الحرس الفرنسي بإحضار خمسة مدافع وبدأ في تدمير أسوار الحصن، فتحت هذا الغطاء من النيران اندفع جمهور الثائرين إلى داخل السجن واشتبكوا في معركة مع جنود الحرس، وتلاحم الطرفان فسقط من المهاجمين ثمانية وتسعون. كما قتل واحد من المدافعين، وازداد المهاجمون عدداً وشراسة وعرض دى لوني De Launay محافظ السجن أن يسلم إذا سمح الثوار لرجاله بالخروج سالمين بأسلحتهم، لكن قادة الجماهير الثائرة رفضوا ذلك، فاستسلم فقتل المنتصرون ستة عساكر آخرين وحرروا سبعة سجناء واستولوا على الذخائر والأسلحة وأسروا محافظ السجن دى لوني واتجهوا مظفرين إلى دار البلدية. وفي الطريق كان جانب من الجماهير مغيظا محنقاً بسبب ما مر بهم من كوارث فضربوا رجلا أرستقراطيا اعتراه الارتباك والذهول وأجهزوا عليه وقطعوا رأسه ورفعوه على رمح، وقطع رأس جاك دى فليسيل Jacques de Flesselles شهبندر التجار والذي كان قد ضلل الناخبين عن موضع الأسلحة، وأضيف رأسه المقطوع إلى موكب الثوار، وكان قد جرى قطعه في بلاس دى جريف Place de Greve (ميدان الرمال).

وفي 15 يوليو جعل ناخبو الجمعيات المحلية من باييه Bailly محافظا لباريس (رئيساً لبلديتها (Mayor واختاروا لافاييت Lafayette رئيسا للحرس الوطني الجديد، وبدأ العوام السعداء (السانس كولوت أي الذين لا يرتدون سراويل (بناطيل) قصيرة) في تدمير أحجار الباستيل حجراً حجراً، أما الملك الذي اعترته الصدمة وأصابة الرعب فقد ذهب إلى الجمعية الوطنية وأعلن أنه طرد الكتائب العسكرية التي سبق أن جلبها إلى فرساي وباريس. وفي 16يوليو نصحه مؤتمر من النبلاء بمغادرة البلاد تحت حماية الكتائب المغادرة وأن يجد لنفسه ملاذا في إحدى عواصم المقاطعات أو في بلاط أجنبي، وأيدت مارى أنطوانيت بحرارة هذا الاقتراح وجمعت جواهرها وما غلا ثمنه وسهل حمله استعداداً للرحلة(17) أما لويس فقد استدعى نيكر في 17 يوليو، وابتهج لذلك رجال المال والعامة، وفي 18 من الشهر نفسه اتجه إلى باريس وزار دار البلدية ووقع بقبوله المجلس البلدي الجديد وثبت على قبعته الشريط ذا الألوان: الأحمر والأبيض والأزرق، وهي التي ترمز للثورة، وعاد إلى فرساي وعانق زوجته وأخته وأطفاله وقال لهم : "يسعدني ألا يسفك مزيد من الدماء، وإنني أقسم ألا تسفك قطرة دماء فرنسية بأمري"(18) أما أخوه الأصغر كونت درتوا Comte d`Artios فقد أخذ معه زوجته ورئيسة الخدم(19) وقاد أول مجموعة من اللاجئين السياسيين emigres خارج فرنسا.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- دخول مارا 1789

لـم يكـن الاسـتيلاء علـى الباسـتيل مجـرد عمـل رمزي ومجرد سهم ضد الحكم الاستبدادي، وإنما كان عملاً أنقذ الجمعية الوطنية من الخضوع لجيش الملك في فرساي كما أنقذ حكومة باريس الجديدة من أن تحكم الكتائب العسكرية التي تطوق باريس سيطرتها عليها. لقد حافظت هذه العملية - بشكل غير مقصود تماما - على الثورة البورجوازية، لكنها أتاحت لأهل باريس السلاح والذخيرة، وسمحت بذلك لتطورات أبعد مدى للقوى البرولتيارية.

لقد أدى سقوط الباستيل إلى إعطاء دفعة جديدة، للصحف التي زاد ولع الباريسيين بها فزاد عدد قرائها. وكانت صحيفة فرنسا Gazette de France) جازيت دي فرانس) ومؤشر فرنسا Mercure de France) مركير دي فرانس) وجريدة باريس Journal de Paris) جرنال باريس) من الصحف القديمة التي ظلت محافظة على مستواها بعد أحداث الثورة، أما الآن فقد أصدر لوستالو Loustalot صحيفة ثورات باريس Les Revolutions de Pris في 17 يوليو 1789 وأصدر بريسو Brissot الوطني الفرنسي (لوباتريوت فرانسيه) (LePatriote Francais) في 28 يوليو، وأصدر مارا Marat صديق الشعب (لامى دي بيبل (L`Ami du peuple في 12 سبتمبر، وأصدر دى موليه Desmoulins صحيفة ثورات فرنسا Revolutions de France في 28 نوفمبر..... وبالإضافة لهذه الصحف كانت اثنتا عشرة نشرة تظهر كل يوم تصفق لحرية الصحافة، وترفع صورا جديدة. وقيما جديدة، وتحطم ما جرى العرف على توقيره.

ويمكننا أن نتخيل محتوى هذه النشرات بملاحظة أصل الكلمة Libel والذي يعنى "يطعن أو يقذق أو يشهر" فمن هذه الكلمة كان المسمى الفرنسي لهذه النشرات وهو ليبل Libelles أي الكتب الصغيرة المخصصة للسب والهجاء.

وكان جان - بول مارا Jean - Paul Marat هو أكثر هؤلاء الصحفيين الجدد راديكالية وتهورا وقسوة وكان هو أقواهم وأكثرهم تأثيرا. ولد في نوشاتل Neuchatel في سويسرا في 24 مايو سنة 1743 من أم ملكية وأب سرديني Sardinian) من سردينيا) ولم يكف أبداً عن تبجيل روسو Rousseau وهو وطني آخر اغترب عن بلده. درس مارا الطب في بوردو Bordeaux وباريس، ومارسه في لندن(1765-1777) وحقق قدراً معقولاً من النجاح في هذه المهنة. أما القصص التي رويت بعد ذلك عن الجرائم والسخافات التي ارتكبها فربما كانت من تدبير أعدائه في جو الحرية الصحفية التي أسيىء استخدامها في ذلك الوقت(20). ومنحته جامعة سانت أندرو St.Andrews درجة فخرية (شرفية)، وعلى أية حال فهي درجة كما قيمها جونسون Johnson كانت أهميتها تزداد على وفق الدرجات العلمية السابقة عليها(21). وقد كتب مارا بالإنجليزية ونشر في لندن (1774) كتابه قيود العبودية The Chains of Slavery وهو شجب عنيف للحكومات الأوروبية باعتبارها مجموعة من المتآمرين من الملوك واللوردات والإكليروس لخداع الشعوب والاحتفاظ بولائها وتبعيتها. وعاد مارا إلى فرنسا في سنة 1777 وعمل طبيباً بيطرياً في إسطبلات كونت درتوا Comte d` Artois ثم رقي طبيباً لحرس مخافر الكونت. وحقق بعض الشهرة في علاج الرئة وفي طب العيون. ونشر بحوثاً في الكهرباء والضوء والبصريات والنار، وترجمت بعض بحوثه إلى الألمانية. وظن مارا أنه جرى تعيينه لعضوية أكاديمية العلوم Academic des Sciences ولكن هجومه على نيوتون Newton جعله موضع شك الأكاديميين.

وكان مارا Marat رجلا شديد الكبرياء، وكانت العلل الجسدية تتناوب عليه فتعوقه وتجعله نزقـا سـريع الغضـب إلى حـد الهيـاج الشديد. وكان مصابا بالتهابات جلدية جعلته يجد راحة لبعض الوقت في الجلوس في الماء الساخن، وكان يكتب وهو بالفعل جالس في هذا الماء الساخن(22) وكان ذا رأس ضخم جداً إذا قورن بطوله الذي لا يزيد عن خمسة أقدام، وكانت إحدى عينيه أعلى من العين الأخرى. من المفهوم إذن لم كان يفضل العزلة. وكان الأطباء يعالجونه بفصد دمه بين الحين والحين لتخفيف آلامه. وكان يعمل بجد شديد وكان يقول عن نفسه إنني لا أقضي في النوم سوى ساعتين.. إنني لم أستمتع بخمس عشرة دقيقة من اللعب طوال أكثر من ثلاث سنين "(23). وفي سنة 1793 أصيب بداء الرئة وشعر أنه لن يعيش طويلا، وربما كانت إصابته هـذه بسـبب طـوال مكوثه في البيـت. وكانـت هـذه الحقائـق غير معروفة لشارلوت كورداى Charlotte Corday. لقد تأثرت شخصيته بعلله الجسدية، فعوض نقصه بالخيلاء والغرور وعمل تقلب مزاجه وادعاؤه العظمة وشجبه الضاري لكل من نيكر Necker ولافاييت Latayette ولافوازيه Lavoisier ودعوته المجنونة للعنف الجماهيري.. كل أولئك زاد من وطأته قدر من الشجاعة والحرفية والتكريس.

ولا يرجع نجاح جريدته لمجرد المبالغات المثيرة التي يتسم بها أسلوبه فحسب وإنما يرجع في الأساس إلى تأييده المتواصل والمتحمس للبرولتياريا الذين لا أصوات لهم، ذلك التأييد الذي كان لا ينطوي على أي نوع من الرشوة. ومع هذا فهو لم يكن يبالغ في تقدير ذكاء الشعب. لقد كان يرى الفوضى ضاربة أطنابها، وأضاف إليها فوضى جديدة من عنده لكنه على الأقل في ذلك الوقت لم يكن يدعو إلى الديمقراطية وإنما إلى الديكتاتورية والثورة والاغتيال تماما كما كان يحدث في أيام روما الجمهورية، بل إنه قد اقترح أن يكون نفسه هو هذا الديكتاتور المطلوب(42). وفي بعض الأوقات كان يرى أن الحكومة يجب أن تكون في قبضة الملاك (أصحاب الثروة) طالما أن لديهم العصا الطولى التي تستخدم لصالح الجمهور(52). وكان يعتبر تركز الثروة أمر ا طبيعيا لكنه اقترح موازنة ذلك بالدعوة إلى أن الرفاهية أمر ينطوي على الفسق، وإلى الحق المقدس للجائع والمحتاج.

"لا شيء فائض عن الحاجة يمكن أن يكون من وجهة نظرنا شرعيا طالما أن الآخرين يعانون من نقص الضروريات... فمعظم الثروات الكنسية يجب أن يتم توزيعها على الفقراء، ولا بد من إنشاء المدارس المجانية في كل مكان "(62) " إن المجتمع يضم أولئك الذين لا يملكون شيئا والذين قلما يكفي حصاد عملهم لإعاشتهم، والمجتمع ملزم بالنسبة لهؤلاء أن يدبر لهم مورد رزق لتمكينهم من إطعام أنفسهم والسكنى واللباس بشكل مناسب، وعلى المجتمع أن يدبر الوسائل لعلاج المرضى منهم ورعاية كبار السن وتدبير وسائل تنشئة أطفالهم. وهؤلاء الذين يتمرغون في الثروة والنعيم لا بد لهم من إمداد المعوزين بضروريات الحياة" وإن لم يفعلوا يصبح من حق الفقراء أن يحصلوا بالقوة على ما يحتاجونه(72).

وقد ارتاب معظم أعضاء الجمعيات المتتابعة في مارا وخافوا من أفكاره، لكن السانز كولوت Sans culottes ( الذين لا يرتدون سراويل >بناطيل< قصيرة(ü)) من بينهم كانوا يتسامحون مع أخطائه بسبب فلسفته، بل وكانوا يخاطرون بإخفائه إذا ما جدت الشرطة في البحث عنه. ولا بد أن مارا Mara كان يتحلى ببعض الصفات المحبوبة لأن رفيقته(زوجته التي تزوجها عرفيا أي بمجرد اتفاق الطرفين دون طقوس كنسية) ظلت مخلصة له إلى النهاية.

4- تخلي النبلاء عن امتيازاتهم في 4 و5 أغسطس 1789

في 13 يوليو سنة 1789 كتب الحاكم موريس Gouverneur Morris من فرنسا "إن هذه البلاد أقرب ما تكون في الوقت ا لحاضر إلى فوضوية لا ضابط لها"(82) فالتجار يتحكمون في السوق وتسببوا في نقص الحبوب لصالحهم ورفعوا الأسعار، والعربات التي تنقل الطعام إلى المدن تتعرض للنهب في أثناء الطريق، وعمت الفوضى واختل الأمن وتهدد النقل. وضجت باريس من كثرة المجرمين. وكان الريف الفرنسي أيضا مرتعاً للصوص الطوافين حتى إن الفلاحين في كثير من المقاطعات سلحوا أنفسهم في ذلك الجو من الرعب الهائل الذي سببته هذه الجموع التي لا يحكمها قانون، ففي غضون ستة أشهر اقتنى المواطنون 000.004 بندقية، وعندما انتهت فترة الرعب الهائل Great Fear هذه قرر الفلاحون استخدام أسلحتهم ضد جامعي الضرائب والاحتكاريين والسادة الإقطاعيين، فهاجموا قصور الإقطاعيين بالبنادق (المسكت) والمذاري والمناجل (المحشات) وراحوا يطالبون بإظهار الوثائق والمستندات التي تثبت حقوق السادة، ومدى تفو يضهم في جمع الرسوم الإقطاعية، فإذا ما أطلعهم عليها السادة، قاموا بحرقها، وإذا رفضوا إطلاعهم وقاوموهم، أحرق الفلاحون قصر السيد الإقطاعي وحدث في عدة حالات أن قتلوا المالك (السيد الإقطاعي) واستمر الحال على هذا المنوال منذ بداية شهر يوليو سنة 9871 وانتشر حتى عمّ أنحاء فرنسا كلها. وفي بعض الأماكن حمل المتمردون إعلانات يزعمون بمقتضاها أن الملك قد خولهم كل الصلاحيات في مقاطعاتهم(92). وغالبا ما كان التدمير يجري بغير ضابط وبعنف شديد حتى إن الفلاحين التابعين لأراضي دير مورباش Murbach أحرقوا مكتبة الدير، وحملوا معهم الطبق الذي يدار به على المتعبدين لجمع التبرعات واستولوا على ستائر الكتان وفتحوا براميل النبيذ وشربوا كل ما استطاعوا شربه وأراقوا الباقي. وفي ثمانية كومونات Communes (بلديات) اجتاح السكان الأديرة واستولوا على الحجج القانونية ومستندات الملكية بها وأعلنوا للرهبان أن رجال الدين (الإكليروس) أصبحوا الآن تابعين للشعب، وورد في تقرير مقدم للجمعية الوطنية أنه في كونتيّه فرانش Franche Comte` تم إحراق أو نهب نحو أربعين قصراً إقطاعيا، وفي لانجر Langers جرى نهب وإحراق ثلاثة قصور من خمسة، وفي دوفيني Dauphine` جرى إحراق وتدمير سبعة وعشرين قصرا وفي فينوا Viennois تم نهب الأديرة كلها. وتم اغتيال من لا حصر لهم من السادة الإقطاعيين والبورجوازيين الأثرياء"(03).

أما المسئولون الرسميون في المدن الذين حاولوا إيقاف ثورة الفلاحين (ثورة الجاكيين Jacqueries ) فقد جرى عزلهم، بل لقد جرى إعدام بعضهم. وهجر الأرستقراطيون بيوتهم وراحوا يبحثون عن الأمان في أماكن أخرى لكنهم كانوا يواجهون هذه الفوضوية التلقائية التي لا ضابط لها أينما ذهبوا، ثم بدأت موجة الهجرة الثانية (النزوح عن فرنسا).

وفي ليلة 4 أغسطس سنة 9871 ذكر مندوب للجمعية الوطنية في فرساي في تقرير له أن "الخطابات الواردة من المقاطعات كلها تشير إلى أن مختلف الممتلكات عرضة للنهب بعنف إجرامي لا حد له، ففي أنحاء البلاد كلها جرى إحراق القصور الإقطاعية وتدمير الأديرة وتركت المزارع للناهبين. وتم إلغاء الرسوم الإقطاعية، وأصبح القانون بلا قوة تحميه وأصبح المسئولون بلا سلطة ولا صلاحيات"(13). لقد أدرك من تبقى من النبلاء أن الثورة التي كانوا يأملون أن تكون قصرا" على باريس وأن تهدأ ببعض التنازلات الصغرى التي تقدمها الحكومة قد أصبحت الآن على مستوى فرنسا كلها وأنه لم يعد من الممكن الاستمرار في تحصيل الرسوم الإقطاعية، فاقترح الفيكونت دى نوال" The Vicomte de Noailles" أنه لم يعد من الممكن فرض الرسوم الإقطاعية... إذ يجب إلغاء القنانة (عبودية الأرض) وغيرها من أشكال العبودية الشخصية بلا تعويض، وأنه لا بد من أن تكون المبالغ المدفوعة مقننة على أسس عادلة" وأنهى حديثه معلنا نهاية التمايز الطبقي "لا بد أن يدفع كل فرد في المملكة ضرائب بما يتناسب مع دخله".

لقد كان الفيكونت دي نوال Noailles فقيرا وبالتالي كان يمكنه تحمل هذه الإجراءات تماما، لكن دوق ديجلون the Duc d` Aiguillon كان من بين أغنى البارونات ثنى على الاقتراح وأعلن قبوله ذا الوقع الشديد قائلاً: "إن الناس قد حاولوا أخيراً أن ينفضوا عن كاهلهم نير العبودية الجاثم عليهم طوال قرون طويلة مضت، ويجب أن نعترف- رغم ضرورة شجب هذا العصيان المسلح- أن من الضروري أن نلتمس للثائرين عذراً فقد كانوا ضحايا بشكل مثير "(23) وقد دفع هذا الاعتراف النبلاء الليبراليين إلى تأييده بحماس، فتزاحموا واحدا إثر الآخر لإعلان تخليهم عن امتيازاتهم التي كانوا يطالبون بها، وبعد ساعات من التخلي ذي الطابع الحماسي أعلنت الجمعية الوطنية في الساعة الثانية من صباح 5 أغسطس تحرير الفلاحين، وجرى إضافة بعض التحفظات بعد ذلك تطالب الفلاحين بدفع مبالغ على أقساط دورية لاسترداد رسوم معينة، لكن مقاومة هذه الفكرة جعلت تحصيلها غير عملي، وبذلك كان في هذا القرار إنهاء حقيقي للنظام الإقطاعي. وكان توقيع الملك على تخلي النبلاء عن امتيازاتهم مدعاة إلى اعتباره كما سجل في المادة 61 "معيد الحرية الفرنسية"(33).

واستمرت موجة المشاعر الإنسانية مدة طويلة تكفي لإبراز وثيقة تاريخية أخرى هي "إعلان حقوق الإنسان" والمواطن (72 أغسطس 9871) وقد اقترح هذه الوثيقة لافاييت Lafayette الذي كان لا يزال متحمساً لتأثره بإعلان الا ستقلال ووثائق الحقوق التي أعلنتها عدة ولايات أمريكية، وأيد النبلاء الأصغرون سناً في الجمعية مبدأ المساواة لأنهم كانوا قد عانوا من المزايا الوراثية التي كان يتمتع بها أكبر الأبناء، وبعضهم مثل ميرابو Mirabeau كان قد عانى من السجن التعسفي.

وشــجب المندوبـون البورجوازيـون تفـرد الأرســتقراطيين بالوضعيــة الاجتماعيــة واحتكــار النبلاء المناصــب العليا فــي المجالين المدني والعسكري. وكان معظم الأعضاء قد قرأوا ما كتبه روسو Rousseau عن الإرادة العامة وقبلوا ما اعتقده هذا الفيلسوف من أن لكل إنسان حقوقا أساسية بمقتضى القانون الطبيعي. لكل هذا لم تكن هناك سوى معارضة قليلة لأن يتصدر الدستور الجديد إعلانا بدا مكملاً للثورة. وكانت بعض المواد تتضمن تكراراً :

  • مادة 1: ولد الناس أحرارا ويظلون أحراراً ومتساويين في الحقوق .....
  • مادة 2: هدف التنظيمات السياسية لكها هو ضمان الحقوق الطبيعية التي لا يمكن انتزاعها بحكم القانون أو العادة للإنسان (الحقوق الأساسية) وهذه الحقوق هي الحرية والملكية والأمن ومقاومة الجور.
  • مادة 4: الحرية هي أن يمارس الفرد كل ما يحلو له شريطة ألا يكون في ذلك ضرر للآخرين، ومن هنا فإن ممارسة كل إنسان لحقوقه الطبيعية لا حد لها إذا عاقت أفراد المجتمع الآخرين عن التمتع بالحقوق نفسها. ومن ثم فهذه الحدود لا يرسمها إلا القانون ...
  • مادة 6: القانون هو تعبير عن الإرادة العامة، ولكل مواطن الحق في المشاركة شخصياً أو من خلال ممثل له في صياغته أي القانون... والمواطنين كلهم سواء في نظر القانون، ولهم حقوق متساوية في شغل المناصب والوظائف العامة على وفق قدراتهم ...
  • مادة 7: لا يجوز اتهام أي شخص أو القبض عليه أو سجنه إلا على وفق الطرائق التي يحددها القانون ....
  • مادة 9: الأفراد كلهم أبرياء إلى أن تثبت إدانتهم، وإذا حتمت الضرورة القبض على أي شخص فإن القانون يمنع بشدة استخدام العنف مع السجين أو المعتقل.
  • مادة 10: لا يضار أحد بسبب آرائه بما في ذلك معتقداته الدينية طالما أن إظهار هذه الآراء والمعتقدات لا يخل بالنظام العام كما يحدده القانون.
  • مادة 11: حرية تداول الأفكار والآراء مكفولة وهي من أهم حقوق الإنسان، فكل مواطن له حق الكلام والكتابة وله أن ينشر ما يريد بحرية لكنه سيكون مسئولاً إذا أساء استخدام هذه الحرية مسئولية سيحددها القانون.
  • مادة 17: ما دامت الملكية حقاً مقدساً لا يجب انتهاكه فلن يسلب أحد ممتلكاته أو يجرد منها إلا على وفق ما تمليه المصلحة العامة وهو الأمر الذي يحدده القانون بوضوح، وفي حالة نزعها - أي الملكية - لا بد من تقديم تعويض عادل ومنصف للمنزوع ملكيته(43).

ومع تأكيد هذه المثاليات الديمقراطية ظل هناك بعض القصور فقد ظل الرق مستمراً ومسموحاً به في مستعمرات فرنسا في الكاريبي حتى أبطلها ميثاق إبطال الرق في سنة 3971، وقصر الدستور الجديد حق الاقتراع وشغل المناصب العامة على دافعي الحد الأدنى من الضرائب. وظلت الحقوق المدنية غير كاملة بالنسبة للممثلين actors والبروتستانت واليهود. وامتنع لويس السادس عشر عن الموافقة على الإعلان على أساس أنه سيؤدي إلى مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار. ولم يبق أمام الباريسيين سوى إجباره على القبول.

5- إلى فرساي 5 أكتوبر 1789

ظل الشغب في باريس طوال شهري أغسطس وسبتمبر، وتزايد نقص الخبز وراحت ربات البيوت يناضلن للحصول عليه من المخابز، وفي إحدى نوبات الشغب هذه أعدم العامة خبازاً وأحد مسئولي البلدية. ودعا مارا Marat إلى مسيرة للجمعية الوطنية والقصر الملكي في فرساي:

"عندما يكون الأمن العام في خطر لا بد للشعب أن يستولي على السلطة من أيدي أولئك الذين يقبضون عليها.... ضعوا هذه المرأة النمساوية (الملكة) وأخي زوجها (أرتوا Artios ) في السجن... اقبضوا على الوزراء ومساعديهم وكبلوهم بالحديد.. تأكدوا من وجود المحافظ (رئيس البلدية) [ذلك البائس الدمث المستغرق في أحلام اليقظة] والقادة التابعين له، لا تدعوا الجنرال [لافاييت] يبتعد عن نواظركم واقبضوا على مساعديه... فلا حق لوريث العرش في الغداء طالما أنكم لا تجدون الخبز. نظموا صفوفكم المسلحة.. هيا إلى الجمعية الوطنية لنطالب معا وجميعاً بالطعام... طالبوهم أن يكون لفقراء الأمة مستقبل آمن من خلال تضامنها. إنكم إن رفضتم الالتحاق بالتشكيلات المسلحة فليس أمامكم إلا الاستيلاء على الأراضي والذهب الذي يمتلكه الأوغاد الذين يريدون إجباركم على شروطهم في ظل الجوع، اقتسموا فيما بينكم ذهبهم وممتلكاتهم. هيا احملوا رؤوس الوزراء وتابعيهم التافهين. هيا إنه الوقت المناسب!"(53).

وركن لويس إلى نصائح وزرائه القاضية بضرورة استدعاء جنود لم يتأثروا بالأفكار الثورية لحمايته وحماية أسرته وبلاطه، وذلك خوفا من تحريض الصحافة الباريسية وخوفا من الفوضى الضاربة أطنابها في باريس ومظاهرات الجماهير في فرساي. فأرسل في أواخر شهر سبتمبر إلى دواي Douai مستدعيا أفواج الفلاندر العسكرية Flanders Regiment ، فلما وصلت رحب بها حرس الملك الذي أقام لأفرادها مأدبة في دار الأوبرا بالقصر، وعندما ظهر لويس ومارى أنطوانيت علا تصفيق الجنود بشدة، فقد كانوا نصف سكارى لفرط ما شربوا من النبيذ، كما أن جلال المشهد الملكي زادهم حماساً، لذا سرعان ما أزاحوا الشارات الوطنية مثلثة الألوان من على بزاتهم العسكرية ووضعوا الشارات الملكية (الأبيض والأسود) على قبعاتهم، وورد في التقارير أن الألوان التي ترمز للثورة قد طرحت أرضاً لتدوسها أقدام الراقصين(63) (وقد أنكرت مدام كامبا Mme Campan الوصيفة الأولى للملكة والتي كانت شاهدة عيان حدوث هذا)(73).

وتضخمت القصة عند وصولها إلى باريس، وتأكدت بسبب تقرير مؤداه أن جيشا يتجمع بالقرب من متز Metz بنية التوجه إلى فرساي لفض الجمعية الوطنية. واستنكر ميرابو Mirabeau والمندوبون الآخرون هذا التهديد العسكري الجديد. وطالب مارا Marat ولوزتالو Loustalot وصحفيون آخرون بضرورة أن يرغم الشعب كلا من أفراد الأسرة المالكة والجمعية الوطنية على الانتقال إلى باريس حتى يكونوا تحت مراقبة الجماهير. وفي 5 أكتوبر أخذ النسوة في سوق المدينة ممن يعلمن بنقص الطعام على عاتقهن تكوين فرقة للتوجه إلى فرساي على بعد عشرة أميال من باريس. وكان ينضم إليهن في مسيرتهن رجال ونساء وكثيرون بلغوا الآلاف. ولم يكن الموكب تراجيديا أو كئيباً، فقد لطفت منه حيوية الفرنسيين، فقد راح جميعهم يصيح "سنحضر معنا الخباز وزوجته" وسنستمتع بالاستماع إلى ميرابو"(83).

ووصل الموكب إلى فرساي بينما المطر ينهمر بكثافة، وتجمعوا في صفوف كيفما اتفق أمام بوابات القصر الملكي العالية وأسواره وطالبوا بمقابلة الملك، وتوجه وفد إلى الجمعية الوطنية وأصر على ضرورة أن يدبر المندوبون في الجمعية الخبز للحشود المتجمعة. واتجه مونييه Mounier - القائم بالحراسة في ذلك الوقت مع إحدى المندوبات وهي سيدة لطيفة اسمها لويسون شابري Louison Chabry لمقابلة لويس. فلما رأته تأثرت كثيرا حتى إنها لم تستطع أن تنطق سوى بكلمة واحدة (خبز) ومن ثم سقطت مغشيا عليها. فلما أفاقت وعدها لويس بتدبير خبز للجموع الجائعة التي بللها المطر. وعندما همت بالمغادرة أرادت أن تقبل يده لكنه عانقها عناقا أبويا. وفي هذه الأثناء اختلطت كثيرات من الباريسيات الجذابات بجنود الفلمنكية (كتائب الفلاندر الآنف ذكرها) وأقنعنهم بعدم إطلاق النار على النسوة العزل. فتعاطف معهن الجنود واصطحب كثيرون من الجنود هؤلاء الجميلات الجائعات إلى ثكناتهم وقدموا لهن الطعام والدفء. وفي الساعة الحادية عشرة من هذه الليلة وصل لافاييت Lafayette على رأس خمسة عشر ألف من الحرس الوطني، فاستقبله الملك، وتعهد له لافاييت بحمايته، لكنه أي لافاييت- انضم إلى نكر Necker بتوجيه النصح للملك بقبول مطالب الشعب بالتوجه مع الملكة ليعيش في باريس. وكان لافاييت مرهقا فاتجه إلى هوتيل(ü) دي نوال Hotel de Noailles.

وفي الصباح الباكر في يوم السادس من أكتوبر اندفعت الجماهير الغاضبة المرهقة إلى ساحة القصر الملكي من خلال بوابة تصادف فتحها وشق بعض الرجال المسلحين طريقهم إلى السلم ومنه إلى غرفة نوم الملكة التي هربت بلباس نومها وابنها على ذراعيها إلى غرفة الملك. وقاوم حرس القصر هذا الاقتحام ولاقى ثلاثة منهم حتوفهم، وهب لافاييت متباطئا لكنه كان راغبا في تقديم العون- لتهدئة هذا الشغب، مؤكدا الموافقة على مطالب الثائرين. واتجه الملك إلى الشرفة ووعد الجموع بالانتقال إلى باريس، فصاحت "عاش الملك"! لكن هذه الجموع عادت فطلبت ظهور الملكة أمامهم، فظهرت الملكة وانتصبت واقفة وفي هذه الأثناء صوب واحد من الجماهير المحتشدة بندقيته (من نوع المسكت) إليها، لكن القريبين منه كسروا بندقيته وفي هذه الأثناء تقدم لافاييت ليقبل يد الملكة في إشارة منه للولاء فهدأت الجماهير التي هتفت بحبها للملكة إن هي أتت لتعيش في باريس.

وكلما اقترب وقت الظهيرة تجمع موكب لا نظير له في التاريخ أمام الحرس الوطني وكتائب الحرس الملكي، ثم أتت العربة الملكية التي تحمل الملك وأخته مدام إليزابيث والملكة وطفليها، وتلا ذلك صف طويل من العربات التي تجرها خيول حاملة أكياس الدقيق ثم الباريسيون المنتصرون وجثمت بعض النسوة فوق مدفع، ورفع بعض الرجال عاليا رؤوس من جرى إعدامهم من حرس الملك على أسنة الرماح، وفي سيفر Se`vres توقفوا لنثر المساحيق فوق هذه الرؤوس وعقص شعورها(93). وكانت الملكة تشك في إمكان أن تصل إلى باريس وهي على قيد الحياة، لكنها في هذه الليلة نامت وكذلك أفراد الأسرة المالكة على أسرة أعدت على عجل في قصر التوليري Tuileries حيث سبق للملوك الفرنسيين أن ناموا قبل أن يجعل عصيان المقاليع (الفروند Fronde ) من باريس مكانا كريهاً بالنسبة للويس الرابع عشر Louis XIV. وبعد ذلك بأيام قلائل تبعتهم الجمعية الوطنية حيث أقاموا في مسرح القصر نفسه.

ومرة أخرى فرض الباريسيون رأيهم بليّ ذراع الملك والآن انصاع الملك لرعاياه وقبل إعلان حقوق الإنسان كأمر واقع. وهكذا بدأت الهجرة الثالثة (هجر فرنسا).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

6- الدستور الثوري 1790

وشرعت الجمعية الوطنية في كتابة الدستور الذي يحدد ويقنن منجزات الثورة، وكانت في عملها هذا متحررة من الضغوط الملكية، لكنها كانت واعية بشكل قلق للمدينة(باريس) التي تراقب أفعالها.

بادىء ذي بدء، أيجب الإبقاء على الملكية؟ لقد أبقت الجمعية عليها وسمحت أن تكون وراثية، لأنها أي الجمعية خشيت من انتقال الولاء ومشاعر الانتماء من العرش للأمة، فالهالة المحيطة بالملكية كانت أمراً ضروريا للانضباط الاجتماعي، ويمكن أن يكون حق انتقال الملك ضمانا يمنع نشوب حروب الوراثة ومثل هذه المشروعات المتعلقة بضبط وراثة العرش كانت بالفعل تختمر في ذلك الوقت في القصر الملكي. لكن سلطات الملك لا بد من تحديدها بصرامة، فستقدم له الجمعية الوطنية في كل سنة قائمة "بالمخصصات الملكية" لإنفاقه، وسيحتاج أي إنفاق يزيد عن هذه "المخصصات" إلى إصدار تشريع جديد.

وإذا غادر الملك المملكة الفرنسية بلا إذن الجمعية الوطنية أمكن عزله عن العرش. ومن حق الملك أن يختار وزراءه وعزلهم لكن على كل وزير أن يقدم تقريرا شهريا عن تصرفاته المالية في نطاق الميزانية المنوطة به ويمكن استجوابه في أي وقت أمام المحكمة العليا. والملك هو الرئيس الأعلى للجيش والبحرية لكنه لا يستطيع إعلان الحرب أو توقيع معاهدة بلا موافقة مسبقة من المجلس التشريعي، ومن حقه أن يعترض على أي تشريع يقدم له لكن إذا أقرت ثلاثة مجالس تشريعية متوالية هذا التشريع الذي اعترض عليه اعتبر هذا التشريع قانونا (بصرف النظر عن اعتراضه).

والمسألة الثانية: أيحب أن يكون المجلس التشريعي مكونا من هيئتين كما هو الحال في إنجلترا وأمريكا؟ ويمكن للهيئة العليا أن تبتَّ في الأمور المستعجلة، لكنها يجب ألاّ تكون مكونة من أفراد الطبقة الأرستقراطية أو كبار السن. وقد رفضت الجمعية الوطنية ذلك فباعتبارها حارسا على منجزات الثورة أعلنت إبطال المزايا والألقاب الوراثية كلها فيما عدا تلك الخاصة بالملك.

ويقوم "المواطنون الفعالون" ويقصد بهم فقط أولئك الذكور البالغون ذوو الممتلكات الذين يدفع الواحد منهم ضريبة مباشرة تبلغ ما يساوي قيمة عمل ثلاثة أيام،وهذا التعريف يشمل الفلاحين الأثرياء لكنه لا يشمل الأجراء والبرولتياريا، إذ جرى اعتبار هؤلاء "مواطنين سلبيين" لأنه يسهل على سادتهم وعلى الصحفيين التأثير فيهم ليصبحوا أداة للفوضى والعنف والتراجع. وعلى وفق هذا الترتيب تمتع 063.982.4 رجلا (من بين 52 مليون نفس) بحق الانتخاب في فرنسا في سنة 1971، وأصبح ثلاثة ملايين بالغ لا حق لهم في التصويت. لقد أقرت الجمعية الوطنية البورجوازية ثورة البورجوازيين خوفاً من جماهير المدينة (باريس).

وقسم الدستور فرنسا على وفق أغراض انتخابية وإدارية إلى ثلاث وثمانين دائرة (محافظة أو قسم إداري كبير) تنقسم كل دائرة منها إلى بلديات (كومونات Communes ) بلغت 063.34 كومون (بلدية). لقد أصبحت فرنسا للمرة الأولى أمة موحدة بلا أقاليم أو مناطق ذوات امتيازات وبلا رسوم انتقال داخلي، وأصبحت مناطق فرنسا جميعا تستخدم نظاما واحدا للمقاييس والمكاييل وتخضع للقوانين نفسها. والعقوبات حددها القانون ولم تعد على وفق تقدير القاضي، وتم إبطال التعذيب والتشهير والكي بالنار، ومع هذا فقد تم الإبقاء على عقوبة الإعدام، وكان هذا مثار سخط روبيسبير Robespierre ، وأصبح المتهمون بارتكاب جرائم يمكنهم أن يختاروا المحاكمة أمام هيئة محلفين من "المواطنين الفعالين" تختارهم الهيئة القضائية، ويكفي أن يؤيد ثلاثة من اثني عشر عضوا في هذه الهيئة تبرئة المتهم، لاعتماد براءته. ويقضي القضاة في القضايا المدنية.

أما البرلمانات القديمة التي كانت سببا في ظهور أرستقراطية ثانية فقد حلت محلها نظم قضائية جديدة تقوم جمعيات منتخبة بتعيين أفرادها. أما المحكمة العليا فيتم اختيارها من ممثلي العدالة في المحاكم الجنائية الأدنى درجة، بحيث يكون في هذه المحكمة العليا عضوان من كل محافظة (دائرة).

بقيت مسألتان مهمتان مرتبطتان معا هما: كيف يتم تجنب إفلاس المملكة؟ وكيف يتم تنظيم العلاقة بين الكنيسة والدولة؟ لقد فشلت الضرائب في تمويل الحكومة بينما الكنيسة تقبض بيديها على ثروة تحسد عليها ولا تدفع عنها ضرائب.

وقد أخذت الجمعية برأي شارل موريس دى تاليران پريگور Charles Maurice de Talleyrand Perigord أسقف أوتون Autun الذي اقترح في 11 أكتوبر سنة 9871 الاستفادة من ممتلكات الكنيسة لدفع الدين الوطني. وتاليران Talleyrand هذا واحد من الشخصيات التي ثارت حولها الشكوك في التاريخ إذ يرجع أصله إلى أسرة عريقة معروفة بخدماتها العسكرية وربما كان من الممكن أن ينهج نهج أسرته لو لم تنخلع قدمه إثر سقطة وهو في الرابعة من عمره وكان عليه أن يشق حياته بقدم عرجاء لكنه كان مصمما على اجتياز كل عقبة تواجهه، وقد عهد به والده إلى الكنيسة، وقد قرأ في مرحلة الدراسة فولتير ومنتسكيو وكان يحتفظ دائما بخليلة، ومن الواضح أنه طرد من المدرسة اللاهوتية التي كان بها في سنة 5771 لكن في تلك السنة وكان في الواحدة والعشرين من عمره عينه لويس السادس عشر مسئولا عن دير القديس (سان) دينيس St- Denis في رايم Reims وقد جرى ترسيمه قسيسا في سنة 9771 وفي اليوم التالي أصبح هو النائب الأسقفي العام لعمة رئيس أساقفة رايم Reims ، وظل مع هذا ينعم بصحبة السيدات ذوات الأصول الراقية وأنجب من إحداهن غلاما أصبح ضابطا تحت قيادة نابليون. وفي سنة 8871 تم تعيينه أسقفا لأوتو Autun رغم معارضة أمه التقية التي كانت تعلم أنه رجل قليل الإيمان (رقيق العقيدة). ومع هذا فقد رتب أمر تقديم برنامج إصلاحي لمجلس طبقات الأمة مما دفع رجال الدين (الإكليروس) التابعين له لجعله مندوبا عنهم(04).

وقد وافقت الجمعية الوطنية في 2 نوفمبر سنة 9871 بأغلبية 805 ضد 643 على تأميم الممتلكات الكنسية التي كانت تصل قيمتها وقتئذ إلى ثلاثة بلايين فرنك(14) رغم المعارضة اليائسة لممثلي الإكليروس بها. وقد عهدت الجمعية للحكومة "بتقديم مصاريف إقامة العبادات العامة وتقديم الإعانات لرجال الدين وما يفرج عن الفقراء، وذلك بالطريقة المناسبة" وفي 91 ديسمبر خولت صندوق الأمور غير العادية Cousse de Lصextraordinaire ببيع 004 مليون فرنك مقابل أسينات assignats وهي أوراق نقدية تعطى لحائزها الحق في مبلغ مقرر (معلوم) من الممتلكات الكنسية بفائدة قدرها 5% عند إتمام البيع ودفعت الحكومة من هذه الأسينات assignates الديون العاجلة وبذا ضمنت دعم الجماعات المالية لنظام الحكم الجديد. لكن الذين اشتروا هذه الأسينات وجدوا صعوبة في القيام بعمليات شراء على نحو مرض، فاستخدموها أي الأسينات كعملة، ولأن الدولة كانت قد أصدرت كثيراً من هذه الأسينات فقد استمر التضخم المالي، وفقدت الأسينات قيمتها إلا في دفع الضرائب حيث كانت الخزانة مرغمة على قبولها بقيمتها المدونة عليها، وبالتالي وجدت الخزانة نفسها مرة أخرى تعاني عجزاً ماليا يتزايد عاما بعد عام.

وبعد أن اتخذت الجمعية الوطنية هذه القرارات الخطيرة التي لا رجعة فيها، في 31 فبراير سنة 0971 كانت كأنها قد اجتازت نهر الروبيكون (ü) Rubicon أوقفت الأديرة، وسمحت بصرف معاشات تقاعد للرهبان المطرودين(24) أما الراهبات فقد تركن وشأنهن نظراً لقيامهن بخدمات قيمة في مجالي التعليم والإحسان. وفي 21 يوليو تم إعلان "الدستور المدني للإكليروس" الذي اعتبر القسس موظفين في الدولة يتقاضون منها رواتب، والذي اعتبر الكاثوليكية هي الدين الرسمي للدولة، أما بالنسبة للبروتستانت واليهود فلهم أن يتعبدوا بحرية على وفق عقائدهم في أماكن عبادتهم الخاصة لكن لا تقدم لهم الحكومة دعما. وتقوم الجمعيات المنتخبة في الدوائر (المحافظات) باختيار الأساقفة الكاثوليك، على أن يعفى من التصويت في هذه الحالة غير الكاثوليك أي البروتستانت واليهود واللاأدريين agnostic (34). وكان على كل القسس أن يتعهدوا بالامتثال الكامل للدستور الجديد كشرط لتسلّمهم رواتبهم.وقد رفض 031 أسقفا في فرنسا من بين 431 أن يقسموا يمين الولاء كما رفض 000.64 قس من بين 000.07 من قسس الأبرشيات أداء هذا القسم أيضا(44) واتخذت الغالبية العظمى من السكان جانب أولئك الإكليروس الرافضين تقديم قسم الولاء للدستور الجديد وقاطعوا الطقوس الدينية التي يقوم عليها رجال الدين الذين أدوا القسم. لقد أصبح هذا الصراع المتنامي بين الكنيسة المحافظة التي يؤيدها الشعب والجمعيات اللاأدرية السائدة التي تؤيدها الشرائح العليا من الطبقة الوسطى- عاملا جوهريا في إضعاف الثورة. وبسبب عدم شعبية هذا الإجراء ظل الملك الفرنسي طويلا يرفض توقيع الدستور الجديد.

وكان لآخرين أسبابهم أيضا لرفضه، فقد قاد روبيسبير Robespierre أقلية قوية للاعتراض على قصر حق الانتخاب على الملاك باعتبار أن ذلك انتهاك لإعلان حقوق الإنسان، وباعتباره أيضا إهانة مثيرة لبرولتياريا باريس التي سبق لها أن أنقذت الجمعية الوطنية مرارا من القوات المسلحة الملكية.

واتفق الفلاحون وأهل المدن في استيائهم من التخلي عن الإجراءات والقوانين الحكومية التي كانت على نحو ما تحمي المنتجين والمستهلكين من (ضراوة) السوق الحرة التي يتلاعب فيها الموزعون.

ومع هذا فقد شعرت الجمعية وكان لها بعض الحق في هذا. أن الدستور كان وثيقة مهمة تعطي للثورة المنتصرة شكلا قانونيا محددا. واعتبر مندوبو الطبقة الوسطى الذين لهم السيادة الآن أن العوام- وكانت غالبيتهم أميين ليسوا مؤهلين للمشاركة بنسبة أعدادهم في قرارات الحكومة ومداولاتها. وبالإضافة لهذا- وقد هرب النبلاء الآن - ألم يحن الآن دور البورجوازية في توجيه الدولة معتمدة بشكل متزايد على كبار السن الحكماء المجربين، وعلى اقتصاد متقدم فعال ؟ لذا فإن الجمعية أعلنت فرنسا ملكية دستورية بلا اعتبار لتردد الملك، وفي 5 يونيه سنة 0971 دعت المحافظات (الدوائر) الثلاث والثمانين لأن ترسل كل محافظة (دائرة) حرسها الوطني الفدرالي لينضم لشعب باريس وحكومة فرنسا في ساحة مار (شامب دي - مارس Champ de Mars) للاحتفال بإنجاز الثورة بمناسبة مرور عام على استيلاء الثوار على الباستيل. وفي أثناء انتشار نبأ هذه الدعوة وما صاحبها من حماس دخل ثلاثون أجنبيا على رأسهم الهولندي الثري المعروف في التاريخ بـ"أناشارزيس كلوتس Anacharsis Cloots "(ü) الجمعية في 91 يونية وطلبوا أن يحوزوا شرف المواطنة الفرنسية وطلبوا حق التقدم "لعيد" الفدرالية باعتبارهم "سفارة" تمثل الجنس البشري". وصدرت الأوامر بتنفيذ طلبهم.

لكن ساحة مارس التَّلِّية الآنف ذكرها كانت في حاجة إلى تسوية لتكون صالحة لهذه المناسبة إذ كان يجب تسوية مساحة تبلغ 3000- 1000 قدم وإعداد شرفات بها لتستوعب 000.003 رجل وامرأة وطفل، وكان لا بد من الارتفاع بالرابية الوسطى ليكون مذبحاً يعتليه الملك والأمراء والأساقفة وأعضاء الجمعية وأصحاب الحق في الوقوف هذا الموقف لأداء يمين الولاء للأمة التي تولد ميلادا شرعيا جديدا الآن. وخصص لإعداد الساحة على هذا النحو خمسة عشر يوما فقط. من الآن يستطيع أن ينافس الصفحات الأربع عشرة(54) التي بين فيها كارلايل Carlyle كيف أن أهل باريس رجالا ونساء، شيبا وشبانا قد أقبلوا جميعا حاملين معاولهم ومجارفهم ودافعين أمامهم عربات الواحدة منها ذات عجلة واحدة لنقل الركام، وراحوا يغنون"ستسير الأمور على ما يرام" وسووا الأرض الواسعة وشيدوا الشرفات ومذبح قسم الولاء للوطن Autel de la Patrie من منا اليوم يجسر اليوم أن يكتب بمثل هذه الجرأة نافخا في أبواق البلاغة معلنا هذا الانجذاب وذلك الفرح ذي الطابع التنبئي خاصة إذا علمنا أن نصف مخطوطاتنا قد أحرقتها خادمة متعجلة، وكان علينا أن نجمع ما تبعثر من جواهرنا مرة أخرى لنعيد ترتيبها وصقلها؟ أي نار كان يجب كبتها في هذا الاسكتلندي القاسي لإحياء مثل هذه المحرقة (الهولوكوست)!

وعلى هذا فإنه طوال الأسبوع السابق على هذا العيد الديني Holyday راح جنود من مختلف أنحاء فرنسا يتجهون إلى باريس وراح الحرس الوطني الباريسي في بعض الأحيان يقطع من باريس أميالاً كثيرة للقائهم ومرافقتهم. وفي 41 يوليو سنة 0971 دخلوا ساحة دي مارس الآنف ذكرها في موكب مهيب؛ خمسون ألفا من الأقوياء(64) أعلامهم ترفرف وفرقهم الموسيقية تعزف وحناجرهم تدوي بالأغاني القوية، وثلاثمائة ألف من الباريسيين المثيرين للخيال يصاحبونهم. ورتل الأسقف تاليران بيريجور Talleyrand pe`rigord ولم يكن قد طرد من رحمة الكنيسة بعد القداس، واعتلى مئتان من الأساقفة والقسس المذبح وأقسموا اليمين، وتعهد الملك بطاعة القوانين الجديدة بكل ما وسعه من جهد وصاحت الجموع "عاش الملك" وعندما أطلق المدفع طلقات التحية رفع آلاف الباريسيين ممن لم يتمكنوا من الحضور- أيديهم في اتجاه ساحة دي مارس Champ de Mars وأقسموا يمين الولاء. وجرت في كل مدينة فرنسية تقريبا مهرجانات مشابهة وشارك الجميع في تناول النبيذ والطعام وتعانق القسس الكاثوليك والبروتستانت كما لو كانوا مسيحيين على مذهب واحد. كيف يمكن لأي فرنسي أن يتشكك في أن عصرا جديداً مجيدا قد بزغ فجره؟

7- ميرابو يدفع ديونه - 2 أبريل 1791

كان رجل واحد وامرأة واحدة يمكنهما التشكك في بزوغ هذا الفجر الجديد. فبالنسبة للويس وزوجته الملكة بدا التوليري The Tuileries منزلاً زجاجياً ترصد من خلاله الجماهير كل حركة يأتيان بها بموافقة صامتة أو إدانة طال أمدها. وفي 13 أغسطس سنة 0971 تمرد فوج سويسري كان في خدمة الملك في نانسي Nancy بسبب تأخر الرواتب والمعاملة المتسمة بالاستبداد. وأطلق الحرس الوطني النار على بعض المتمردين وتم إرسال بعضهم إلى السفن، كما جرى شنق بعضهم. وتجمع أربعون ألف باريسي عند سماعهم بذلك وهددوا القصر الملكي واتهموا لافاييت Lafayette ولاموا الملك بسبب ما أسموه "مذبحة نانسي" وطالبوه بإقالة وزرائه. وبهدوء غادر نكر Necker في 81 سبتمبر سنة 0971 ليعيش مع أسرته في كوبيت Coppet على ضفاف بحيرة جنيف، ونصح لافاييت الملك بتهدئة باريس بقبولة للدستور(74). وعلى أية حال فقد كانت الملكة مرتابة في مبدأ التخطيط لجعلها سلطة محركة للعرش، لذا فقد عبرت بوضوح عن بغضها بأن يترك البلاط ويترك لميرابو Mirabeau مهمة إنقاذ الملكية(84).

ورحب ميرابو. وكان في حاجة إلى المال ليكفي أسلوب حياته المتسم بالإسراف. وشعر أن التضامن أو الائتلاف بين الملك والجمعية هو الخيار الوحيد لحكم يقوم عليه زعماء جماهيريون، ولم يكن يرى تناقضا في متابعة هذه السياسة وسد النقص (العجز) ثانية في موارده المالية. وكان قد كتب في 82 سبتمبر 9871 لصديقة لامارك La Marck : "لقد ضاع كل شيء فسيتم إبعاد الملك والملكة وسترى الجماهير المنتصرة ترقص فوق جثتيهما"(94) وكتب لصديقه هذا نفسه في 7 أكتوبر: "إن كان لك أي تأثير في الملك والملكة فلتحثهما على ترك باريس لأنهما إن لم يفعلا ضاعا وضاعت فرنسا. إنني مشغول بخطة لإبعادهما"(05) وقد رفض لويس هذه الخطة لكنه وافق على تمويل خطة ميرابو للدفاع عن الملكية. وفي أوائل شهر مايو سنة 0971 وافق على أن يدفع ديون المغامر الكبير بالسماح له بمبلغ ألف دولار في الشهر بالإضافة إلى مكافأة مقدارها 000.291 دولار إن هو نجح في إزالة الخلافات بين الملك والجمعية(15). وفي أغسطس منحته الملكة شرف اللقاء بها لقاء خاصا في حدائقها في سان كلود St. Cloud .

وكان تأثير الملكة هائلا حتى أن تنين الثورة الصارم اهتز لفرط إخلاصه لها عندما قبل يدها. وتحدث ميرابو لأصدقائه المقربين عن جاذبيتها وسحرها "أنتم لا تعرفون الملكة.. إن لعقلها قوة مدهشة، وهي رجل إذا كان مقياس الرجولة هو الشجاعة"(25).

وكان ميرابو يعتبر نفسه "شخصا يقبض أو يتسلم أموالاً لكنه لا يشترى"فعلى وفق ما ذكره لامارك La Marck فإنه يقبل أموالاً تدفع له للاحتفاظ بآرائه أو للتمسك بآرائه"(35). ولم تكن لديه نية للدفاع عن الحكم المطلق (الاستبدادي) بل على العكس فقد كانت الأفكار التي تقدم بها لوزراء الملك في 32 ديسمبر 0971 تشكل برنامجا للتوفيق بين الحرية العامة (حرية الجماهير) والسلطات الملكية: "إننا نخطىء الهدف إذا هاجمنا الثورة فهي حركة أعطت لشعب عظيم قوانين أفضل تستحق أن ندعمها... وإنما يجب قبول روح الثورة وكثير من العناصر في دستورها.. إنني أقدر نتائج الثورة كلها... باعتبارها فتوحات لا يمكن الانسحاب منها فلا مجال لتدمير هذه النتائج تحت أي ظروف"(45).

لقد راح ميرابو يعمل على إنقاذ ما تبقى من السلطات الملكية، يدفعه لذلك إيمانه وإخلاصه من ناحية، وما تلقاه من رشاوٍ من ناحية أخرى. وقد تشككت الجمعية في أمر ذمته لكنها احترمت عبقريته، ففي 4 يناير سنة 1791 اختارته رئيساً لها لدورة عادية مدتها أسبوعان، فأدهش الجميع بانضباطه الإداري وحياد قراراته. وكان يعمل طول النهار ويظل يأكل ويشرب طول المساء، وكان يرافق النساء. وفي 52 مارس استضاف راقصتين من الأوبرا، وفي صباح اليوم التالي أصيب بتقلص معوي حاد، وحضر اجتماع الجمعية في 72 من الشهر نفسه لكنه سرعان ما عاد إلى مقر إقامته منهكا يرتجف.

وانتشر خبر مرضه في باريس فتم إغلاق المسارح احتراما له وحاصر الناس منزله يسألون عن أحواله وتقدم شاب عارضا نقل دمه إليه (55) وقال تاليران Talleyrand له (لميرابو): "إنه من الصعب الوصول إليك فنصف أهل باريس يقيمون بشكل دائم خارج باب منزلك"(65) وفي 2 أبريل 1791 مات ميرابو بعد أن عانى في مرضه كثيراً.

في 3 أبريل طلبت وفود من ناخبي باريس من الجمعية تحويل كنيسة القديس جنيفيف St. Genevieve إلى ضريح ومقبرة لأبطال فرنسا، وهذا البانثيون (ü) Panthèon كما أطلق عليه لا بد أن ينقش على مدخله "إلى عظماء الأمة، فبلاد أجدادهم ممتنة لهم"، وتم تنفيذ ذلك وتم دفن ميرابو في هذا المثوى في 4 أبريل وحضر جنازته فيما يقول ميشيل Michelet عدد غفير فكانت أكبر الجنازات التي شهدها العالم وأكثرها شعبية (75) وقدر المؤرخون عدد من حضرها ما بين 000.003 و 000.004 ملأوا الشوارع وتسلقوا الأشجا ر وأطلوا من النوافذ ومن فوق أسطح المنازل وحضرها كل أعضاء الجمعية الوطنية كلهم ما عدا بيتيو Petion (الذي كان لديه دليل سري على أن ميرابو تلقى أموالاً من الملك) وحضرها كل أعضاء نادى اليعاقبة كلهم وعشرون ألفا من الحرس الوطني، لكأنما ينقلون رفات فولتير أو رفات واحد من أولئك الذين لا يموتون أبداً(85). وفي 10 أغسطس ظهرت أدلة من بين أوراق الملك تشير إلى دفعه مبالغ لميرابو، وفي 22 سبتمبر سنة 1794 صدرت الأوامر في اجتماع للجمعية بنقل رفات البطل الملوث من البانثيون (مقبرة الخالدين).

8- إلى ڤارين Varennes - في 20 يونيو 1791

لقد قاوم الملك إلحاح النبلاء والملكة بضرورة الهرب من باريس وربما من فرنسا كلها ليعود مزودا بجيش قوي فرنسي أو أجنبي يمكنه من إعادة ترسيخ وضعه على العرش، ومع أن الملك كان غير راض عن تجريد النبلاء والإكليروس والملكية من صلاحياتهم القديمة ومع أنه كان مقتنعا أن شعْبا كالشعب الفرنسي يتسم بالعنف والطيش والفردية سينصاع لغياب الحكم ولن يسمح بفرض القيود وصدور المراسيم التي تتأصل بمرور الوقت، فإنه - أي الملك - راح يعلق الآمال على السلطات والصلاحيات غير المؤثرة التي لا تزال في حوزته، ووقع في 12 يناير سنة 1971 الدستور المدني للإكلير و س (رجال الدين) لكنه شعر أنه يخون العقيدة التي كانت ملاذه الأثير ضد ما حاق به في الحياة من خيبة أمل. لقد صدم بعمق بسبب قرار الجمعية الصادر في 03 مايو سنة 1971 بنقل رفات فولتير إلى مقبرة الخالدين(البانثيون Pantheon ) لقد بدا له أمراً لا يحتمل أن تحمل رفاة كبير كفرة القرن(ü) في موكب نصر لتودع بشرف وتكريم في مقبرة كانت حتى الأمس فقط كنيسة للتكريس (موقوفة لغرض ديني نبيل) ووافق الملك أخيراً وبعد طول تردد على رأي الملكة وطلب منها أن تستعد للهرب خارج الحدود فجهز صديقها المخلص كونت أكسيل فون فيرسن Axel Von Fersen الأ موال اللازمة للهرب ودبر تفاصيل الخطة، وكان الملك بالتأكيد رجلا مهذبا gentleman وربما لم يكن ديوثا(قوادا) لذا فقد شكره بحرارة(95).

والعالم كله يعرف القصة التالية: كيف تنكر الملك والملكة في زي رجل وزوجته. وغادر كورف Korff مع أطفالهم وخدمهم ومرافقيهم قصرَ التولير ي Tuileries خلسة في منتصف ليلة 02slash12 يونيه سنة 1971 وظل راكبا طوال اليوم التالي بفرح مشوب بالخوف وقطع 051 ميلا إلى فارين Varennes بالقرب من حدود ما يعرف اليوم باسم بلجيكا (كانت وقتها الأراضي المنخفضة النمساوية أي التابعة للنمسا) ومعروف كيف أوقفهم فلاحون مسلحون بالمذاري والهراوات، وكيف قادهم جان بابتست دروت Jean- Baptiste Drouet مدير محطة البريد في سانت منهولد Ste Menehould، وأرسل أي مدير المحطة للجمعية طالبا التعليمات وسرعان ما وافاه بارنيف Barnave و بيتيو Petion بالإجابة: أحضر أسراك ولا تمسهم بسوء إلى باريس. والآن لقد مضت ثلاثة أيام لا عمل فيها قضاها ستون ألفا من الحرس الوطني في مرافقة الأسرى الملكيين. وفي الطريق جلس بارنيف Barnave في العربة الملكية قبالة الملكة، وكان قد سبق تدريبه وفقا لنظام الفروسية الذي تم إحياؤه في عهد الحكم البائد. وقد تأثر بفتنة الجمال الملكي وراح يتأسى متحسراً، وراح يعجب متسائلاً في سريرته عما يكون مصيرها ومصير أطفالها. وعندما وصل الركب إلى باريس كان قد أصبح عبداً Slave لها (أسيراً لها ).

وبسبب جهوده بالإضافة إلى محاذير أخرى رفضت الجمعية طلب الذين لا يرتدون كلوتات (الشريحة الدنيا من طبقة العوامslashالسانس كولوت) عزل الملك فورا. فلا أحد يستطيع أن يخبر بنوع الفوضوية التي ستنشأ عن ذلك. أتكون الجمعية البورجوازية والممتلكات كلها تحت رحمة الجماهير الباريسية الذين ليس لهم حق دستوري في الانتخاب؟ لذا فقد سرى القول بأن الملك كان قد خطف أو أبعد قسراً عن مقر إقامته، لذا فلا بد من السماح له بالاحتفاظ برأسه (عدم إعدامه) على الأقل لفترة، واعترض الزعماء الراديكاليون ودعت النوادي والصحف الشعب للتجمع في ساحة دي مارس في 71 يوليو سنة 1791 فاجتمع خمسون ألفا ووقع ستة آلاف طلباً بتنازل الملك عن العرش(06) وأصدرت الجمعية أوامرها للافاييت Lafayette والحرس الوطني لتفريق المشاغبين الذي رفضوا التفرق بل وحصب بعضهم أفراد الحرس وقتل الجنود الغاضبون خمسين رجلاً وامرأة، كان قتل بعضهم حرقا، وبذا انتهت الأخوة العامة التي تعاهدوا عليها هناك منذ عام مضى. وطارد البوليس مارا Marat الذي كان يعيش في قبو رطب وراح يدعو لثورة جديدة، أما لافاييت فقد انتهت شعبيته وعاد إلى الجبهة وراح ينتظر بصبر فارغ الفرصة المناسبة ليهرب من الفوضى التي بلغت ذروتها في فرنسا.

وكلما اقترب الشهر من نهايته كثفت الجمعية جهودها لإنهاء أعمالها، وربما كان أعضاء الجمعية قد اعتراهم التعب وشعروا أنهم أنجزوا ما يكفي إنجازه على مدى حياة الواحد منهم.

وحقيقة كانوا قد أنجزوا الكثير من وجهة نظرهم، فقد أشرفوا على القضاء على النظام الإقطاعي، وأبطلوا الامتيازات الوراثية وحرروا الناس من الاستبداد الملكي والأرستقراطية المتعجرفة التي لا عمل لأفرادها، ووضعوا أسس المساواة أمام القانون

وأنهوا مبدأ السجن بلا محاكمة وأعادوا تنظيم البلاد إداريا سواء على المستوى المحلي أم على مستوى الدوائر (المديريات أو المحافظات) وهذبوا الكنيسة التي كانت ذات يوم مستقلة لها القدرة على توجيه النقد القاسي، بمصادرة ثرواتها، وإعلان مبدأ حرية العبادة وحرية الفكر، وثأروا لجان كالاJean Calas وفولتير Voltaire وشهدوا بسرور هجرة النبلاء الرجعيين، وجعلوا من الشرائح العليا للطبقة الوسطى حكاما للبلاد. وأنهم ضمنوا هذه التغييرات كلها في دستور استطاعوا الحصول على موافقة الملك عليه، وكذلك موافقة الغالبية العظمى من السكان باعتباره - أي هذا الدستور - أملاً في وحدة وسلام وطنيين. وأكملت الجمعية الوطنية والتأسيسية (المنوط بها صوغ الدستور) أعمالها بالترتيب لانتخابات جمعية تشريعية لتضع قوانين محددة على هدى الدستور، ولتواجه بالدراسة المتأنية قضايا المستقبل. وحث روبيسبير Robespierre أعضاء الجمعية الوطنية على ألا يرشح أحد منهم نفسه لانتخابات الجمعية التشريعية، آملاً في أن يؤدي الاقتراع الجديد إلى دفع مزيد من الممثلين الشعبيين إلى السلطة. وفي 03 سبتمبر سنة 1791 أعلنت الجمعية الوطنية أشهر الجمعيات السياسية جميعاً حل نفسها(16).