قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 6 ف 32

صفحة رقم : 14211

قصة الحضارة -> روسو والثورة -> إنجلترة جونسن -> المسرح الأدبي -> الصحافة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثاني والثلاثون: المسرح الأَدبي 1756-1789

1- الصحافة

كان في الخلفية جرائد، ومجلات، وناشرون، ومكتبات متنقلة، ومسارح، كلها تتكاثر في اندفاع، وتنقل صراعات الأحزاب والمواهب إلى جمهور لا يفتأ يتعاظم. وقد ولدت الآن عدة مجلات: "المجلة الأدبية"، و "مجلة النقد" في 1756، و "الدفتر العام" في 1760. وبدأت صحيفة جونسن "الرامبلر" (الجوال) في 1750، وكانت "مجلة الجنتلمان" التي أطعمت جونسن في سنوات كفاحه قد بدأت في 1731، وقدر لها أن تعمر حتى 1922. وضاعفت جرائد لندن عددها ومجموع توزيعها في هذه الفترة. وبدأت "المونيتر" (المرشد) في 1755، و "النورث بريتن" في 1761، والمورننج كرونكل في 1769، والمورننج هرلد في 1780، والديلي يونفيرسل رجستر في 1785، التي أصبحت التيمز في 1788. ووقعت صحيفة "الببلك أدفرتايزر" على منجم ذهب بنشرها رسائل جونيوس "فارتفع توزيعها من 47.500 إلى 84.000. وكانت معظم الصحف اليومية الأخرى تعيش على عدد ضئيل من القراء؛ من ذلك أن توزيع التيمز في 1795 لم يزد على 4.800. وكانت أكثر تواضعاً في الحجم منها في الكلام. فهي تصدر عادة في أربع صفحات، تفرد إحداها للإعلانات. وقد ظن جونسن في 1759 أن الإعلان في الصحف قد بلغ حده النهائي.

"لقد زادت الإعلانات الآن زيادة جعلتها تقرأ بإهمال شديد، فأصبح من الضروري لفت النظر بالوعود البراقة، وبالبلاغة التي تكون أحياناً رائعة وأحياناً مثيرة للشفقة. فتاجر سائل التجميل مثلاً ببيع غسولاً يزعم أنه يمنع البثور، ويزيل النمش، ويطري الجلد، ويربل اللحم... وقد بلغت حرفة الإعلان الآن من الكمال ما لا يسهل معه اقتراح أي تحسين عليها، ولكن بما أن كل فن ينبغي أن يمارس بالخضوع الواجب للصالح العام، فلست أملك إلا أن أطرح الأمر على هؤلاء المتحكمين في مسمع الشعب بوصفه سؤالاً أخلاقياً، وهو: ألا يتلاعبون أحياناً بعواطفنا تلاعباً فيه الكثير من العبث والاستهتار؟(1).

وظل الطباعون والكتابيون والناشرون مختلطين اختلاطاً كبيراً في حرفة واحدة. من ذلك أن روبرت ددسلي كان قد نشر أعمال بوب وتشسترفيلد، فطبع الآن لولبول وجولدسمث. وكان لتوماس ديفز مكتبة يقبل المشترون عليها، ويسمح فيها لهم بالتنقيب على مهل، وقد ألف جونسن وغيره الاختلاف إليها لتصفح الكتب و"البصبصة" لزوجة الرجل الجميلة "وظفر وليم ستراهان بالشهرة بنشره قاموس جونسن، وكتاب آدم سمث "ثروة الأمم"، وكتاب جبون "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها". وقد نشر الكتابان الأخيران في "سنة العجائب" 1776. وأسست أكسفورد مطبعة كلارندن في 1780. وكان الكتابيون ينقدون المؤلفين أجوراً طيبة عن الكتب الجيدة، ولكن كان في استطاعتهم استخدام الكتاب المأجورين لإعداد المقالات والمصنفات لقاء أجور حقيرة. ويقول كتبي في قصة هنري بروك "الأحمق الوجيه" (1766) "في استطاعتي تكليف أحد هؤلاء السادة... الذين أنفق على تعليم الواحد منهم من المال أكثر... مما يعول أسرة كريمة إلى آخر الدهر-أستطيع تكليف أحدهم بالكد كأنه حصان جر من الصباح إلى المساء لقاء أجر أقل مما أستأجر به... حمالاً أو ماسح أحذية ثلاث ساعات"(2). وتكاثر المؤلفون حتى تشبعت بهم السوق، واقتتلوا باستماتة في سبيل أجر ضئيل هزيل، وتهاجموا بأقلام تنفث السم الزعاف. وأضافت النساء إلى المنافسة: المسز آنا باربولد، وسارة فليدجنج، والمسز أميليا أوباي، والمسز إليزابث انتشبولد، والمسز اليزابث مونتجيو، وفاني بيرني، وهانا مور. ودخل قسيس ريفي في المباراة وخرج منها بقصب السبق.


2- لورنس ستيرن

ولم يكن بالقسيس المطبوع، فأبوه جندي، وقد ظل عشر سنين يجر من الوظيفة إلى أخرى، وخلال هذه الفترة وبعدها التقط من العلم بالشئون العسكرية ما مكنه من أن يجعل "العم طوبي" يتكلم على الحصارات والحصون كلام قائد محنك. أما أمه فقد وصفها بعد ذلك بأنها "ابنة بدال فقير يتبع المعسكر في فلندر"(3). على أن جده الأعلى كان رئيس أساقفة يورك، وقد وفقت أسرة ستيرن في الحصول على منحة دراسية للورنس ألحقته بكمبردج. وهناك نال درجته الجامعية في 1737، ولكن نزيفاً رئوياً أصابه في 1736 أنذر بكفاح يخوضه مدى الحياة مع داء السل. ورسم قسيساً أنجليكانياً (1738)، وعين في أبرشية متواضعة في ساثون-ان-ذ فورست، قرب يورك. وفي 1741 تزوج إليزابث لملي، وأخذها لتعيش معه في بيته الخرب. وقد عهدت إليه بإيرادها السنوي البالغ أربعين جنيهاً، فاستثمر بعضه في أرض، ونما الإيراد.

وكانان فيما عدا هذا بائسين. فكلاهما مصاب بالسل، وكلاهما خلق من أعصاب. وسرعان ما خلصت المسز ستيرن إلى أن "أوسع بيت في إنجلترا لا يمكن أن يضمهما معاً لكثرة هياجهما ونزاعهما"(4). وقد وصفتها ابنة عمها المثقفة إليزابث مونتجيو بأنها قنفذ نكد شكس "لا يستطيع المرء أن يتفادى الشجار معها إلا بالابتعاد عنها"(5)ثم رزقا طفلين، مات أحدهما، أما الطفلة الثانية وهي ليديا فقد تعلقت بأمها تعلقاً واضحاً. وزادت تعاستهما حين جاءت إلى يورك أم ستيرن وأخته، وكانتا تعيشان في فقر في إيرلنده، والتمستا منه أن يعينهما بثمانية جنيهات في العام من دخل زوجته. ولم تثر الفكرة أي حماسة. وأعطى ستيرن أمه بعض المال ورجاها أن تعود إلى إيرلنده، ولكنها ظلت في يورك، فلما قبض عليها بتهمة التشرد رفض ستيرن أن يدفع كفالة للإفراج عنها.

وبعد ثمانية عشر عاماً من الزواج المضني أحس القسيس أن أي إنسان مسيحي حقاً سيسمح له بشيء من الزنا. وقد وقع في غرام كاترين فورمانتيل، وأقسم لها قائلاً "أحبك حب الجنون، وسأظل أحبك إلى الأبد"(6). واتهمته زوجته بالخيانة، فأنكر التهمة، وأشرفت هي على الجنون حتى عهد بها وبليديا إلى رعاية "طبيب لمجانين"، وواصل علاقته الغرامية.

وفي غمرة هذه الضجة كتب واحداً من أشهر الكتب في الأدب الإنجليزي. وقد رجاه أصدقاؤه الذي قرأوا طرفاً من مخطوطة الكتاب أن يحذف منه "التوريات النابية التي قد تكون مؤذية بحق، خصوصاً لصدورها من قسيس" فحذف نحو 150 صفحة وهو آسف. ثم أرسل الباقي إلى المطبعة غفلاً من اسمه، ونشر الكتاب في يناير 1760 بهذا العنوان، "حياة السيد تراسترام شاندي وآراؤه". وقد بقي في المجلدين من الفضائح والفكاهة الغريبة الطريفة ما جعلها الحدث الأدبي الهام لذلك العام في لندن. وتردد صدى هذه الضجة في فرنيه النائية، فقال فولتير "كتاب مستهتر جداً، وكتاب أصيل، إنهم مجنونون به في إنجلترا"(7). وقال هيوم "أنه خير ما كتب أي إنجليزي في هذه السنين الثلاثين رغم ما فيه من سوء"(8). وبيع مائتا نسخة من الكتاب في بحر يومين في يورك، حيث كان اسم المؤلف الحقيقي سراً مذاعاً وحيث تبين القراء الكثير من الأشخاص المحليين في شخوص القصة الكبار. ومن العسير أن نصف الكتاب، إذ ليس له شكل أو موضوع، ولا رأس ولا ذيل. وعنوانه خدعة، لأن "السيد" الذي يروي القصة، والذي أزمعت أن تعرض "حياته وآراءه" لا يولد إلا في صفحة 209 من المجلد الرابع (من الطبعة الأصلية ذات المجلدات التسعة). ومادة القصة هي ما حدث، أو ما قيل، بينما كان يحبل به، وبينما كان ينمو على مهل في بطن أمه. والصفحة الأولى هي خير الصفحات. " وددت لو أن أبي أو أمي، أو كليهما حقاً، إذ أنهما كانا معاً ملزمين بالأمر الواجب على السواء، أقول وددت لو أنهما فكرا فيما هما فاعلان حين أنجباني، فهل نظرا كما ينبغي أن ينظرا كم من الأمور يتوقف على ما هما صانعان، وأن المسألة لا تتصل بإنجاب كائن عاقل فحسب، بل ربما اتخذ التكوين السليم لبدنه، ومزاج هذا البدن، ونبوغه وطبيعة ذهنه ذاتها، ربما اتخذت هذه كلها من الأمزجة والميول الغالية عليهما آنذاك،-ولو أنهما وزنا هذا كله وفكرا فيه كما ينبغي، ثم تصرفا طبقاً لهذا، لكنت يقيناً قد انبعثت إلى العالم شخصاً مختلفاً كل الاختلاف. قالت أمي "من فضلك يا عزيزي، ألم تنس أن تملأ المنبه؟"-وصاح أبي... "رباه! أهناك امرأة منذ خلق الله الدنيا تقاطع رجلاً بسؤال غبي كهذا؟".

ومن ذلك الحادث فصاعداً يتألف الكتاب من الاستطرادات. ذلك أن ستيرن لم يكن لديه حكاية يرويها، ومن باب أولى حكاية الغرام التي هي مدار أكثر القصص، إنما رغبته أن يسلي نفسه وقراءه بالحديث الهوائي عن كل شيء، ولكن دون نظام؛ فكان يثب حول مشكلات الحياة جليلها وحقيرها وثب جواد مرح لعوب في حقل. وبعد أن كتب أربعة وستين فصلاً خطر له أنه لم يكتب لكتابه مقدمة، فأدخل المقدمة عند تلك النقطة، وأتاح له هذا أن يسخر من نقاده. ووصف منهجه بأنه "أكثر المناهج تقوى، لأنني أبدأ بكتابة الجملة الأولى، ثم أتكل في مجيء الثانية على الإله القدير"(9)وعلى التداعي الطليق في الباقي. ومن قبله صنع رابليه ما يشبه هذا، وترك سرفانتس روزنانتي يقوده من حادث إلى حادث، وجاب رورث بيرتن العالم قبل تشريحه للاكتئاب، أما ستيرن فقد رفع توافه الأمور إلى مقام المنهج، وحرر جميع الروائيين من الحاجة إلى موضوع أو خطة.

ولقد أبهج طبقات بريطانيا ذات الفراغ أن ترى مقدار الضجة التي يمكن إثارتها حول لا شيء، وكيف أن في الإمكان تأليف كتاب بالإنجليزية الإنجلو-سكسونية في عصر جونسن. أما البريطانيون الأشداء فقد رحبوا بالطرافة المرحة التي وجدوها في قسيس يتحدث عن الجنس وانتفاخ البطن، والشق الذي في سروال العم طوبي. وفي مارس 1760 ذهب ستيرن إلى لندن ليرشف رحيق نجاحه، وأسعده أن يجد أن المجلدين قد نفدا، وأخذ 630 جنيهاً نظيرهما ونظير مجلدين آخرين قادمين. لا بل أن "مواعظ مستر يوريك" التي نشرت بعد "تراسترام" بأربعة أشهر حظيت ببيع سريع حين عرف أن يورك هو ستيرن. وأقبلت الدعوات على المؤلف من تشسترفيلد، ورينولدز، وروكنجهام، لا بل من الأسقف واربرتن، الذي فاجأه بخمسين جنيهاً إنجليزياً، وربما تفادياً من أن يزين الأسقف صفحة لاذعة الهجاء في مجلدات قادمة. واشترى ستيرن عربة وروجين من الخيل، وركبها في انتصار مرح عائداً إلى يورك، حيث وعظ في كنيستها الكبرى. ثم رقي إلى قسوسية أكثر ثراء في كوكسولد، على خمسة عشر ميلاً من يورك، فأخذ زوجته وابنته لتعيشا معه هناك، وهناك كتب المجلدين الثالث والرابع من "ترتسترام" في يسر غير معقول.

وفي ديسمبر من ذلك العام 1760 ذهب إلى لندن ليتابع طبع المجلدين. ووصل ترتسترام الآن إلى رحلة الولادة بالجفت، الأمر الذي شوه أنفه، وعليه انطلق المؤلف في حديث مستفيض عن فلسفة الأنوف بأسلوب أكثر العلماء تفقهاً. فقال أحد الثقات إن أنف الطفل تحدده نعومة الثدي الذي يرضعه أو صلابته: "فالأنف حين يغوص فيه... كما يغوص في قطعة زبد كبيرة يرتاح ويتغذى ويسمن وينتعش ويحيا"(10).

وبعد قضاء نصف عام في لندن عاد ستيرن إلى زوجته التي أخبرته أنها كانت أسعد حالاً بدونه. فأنطوى على مخطوطاته، وكتب المجلدين الخامس والسادس، وفي هذين كاد ترتستام ينسى، وشغل المسرح العم طوبي والجاويش تريم بذكرياتهما عن الحرب وقلاعهما اللعب. وفي نوفمبر 1761 انطلق القسيس مرة أخرى إلى لندن، وفي آخر يوم من العام شهد صدور المجلدين الخامس والسادس. وقد حظيا باستقبال حسن. وراح يغازل المسز إليزابث فيزي، إحدى النساء المثقفات، وأقسم ليضحين بآخر مزقة من قسوسيته لقاء لمسة من يدها الملائكية!(11)ثم أصيب بنزف رئوي، وهرب إلى جنوبي فرنسا. وتلبث في باريس زمناً كفى لحضوره بعض حفلات العشاء في "مجمع الملحدين" الذي تزعمه دولباخ، حيث استهوى ديدرو استهواء لم يفارقه. ولما سمع ستيرن أن زوجته مريضة، وأن ليديا مصابة بالربو، دعاهما للحاق به في فرنسا. واستقر ثلاثتهما قرب تولوز (يوليو 1762).

وفي مارس 1764 ترك زوجته وابنته بموافقتهما وعاد إلى باريس ولندن وكوكسولد. وكتب الجزئين السابع والثامن من "ترتسترام"، وتسلم مقدماً أتعابهما، وأرسل جزءاً من الحصيلة لمسز ستيرن. وصدر الجزءان الجديدان في يوليو 1765، فلم يظفر إلا بثناء متضائل، ذلك أن النغمة الشانديه-الطوبية أخذت تضعف. وفي أكتوبر بدأ ستيرن رحلة في إيطاليا وفرنسا استغرقت ثمانية أشهر. وفي عودته للشمال انضم إلى أسرته في برجنديه، وطلبت الأسرة البقاء في فرنسا، فدفع نفقاتها وقفل إلى كوكسولد (يوليو 1766). وكتب الجزء التاسع فيما بين نوبات نزيفه، وذهب إلى لندن ليشهد مولده (يناير 1767)، واستمع بالضجة التي أثارها طوافه حول حافة الجنس في وصفه تودد العم طوبي لمسز ودمن. وكتب القراء المروعون إلى الصحف وإلى رئيس أساقفة يورك يطالبون بشلح هذا القسيس الفاجر وطرده، ولكنه رفض أن يفعل. وجمع ستيرن خلال ذلك اكتتابات بلغت جملتها 1.050 جنيهاً في كتاب موعود سماه "رحلة عاطفية" وأرسل مزيداً من المال لزوجته وتودد إلى إليزابث دراير. وكانت زوجة موظف في شركة الهند الشرقية آنئذ (مارس 1767) معين في الهند. تزوجته وهي في الرابعة عشرة، وهو في الرابعة والثلاثين. وأرسل إليها ستيرن كتبه، واعتزم أن يتبعها بيده وقلبه. وظلا فترة يلتقيان كل يوم، ويتبادلان الرسائل الرقيقة. والرسائل العشر المسماة "رسائل إلى إليز" تفضح عن الغرام الحزين الأخير يضطرب في جوانح رجل يموت بالسل. "صحيح أنني في الخامسة والتسعين بنية"، وأنت لا تتجاوزين الخامسة والعشرين،... ولكن ما أفتقده صبي سأعوضه فكاهة ومرحاً. فما أحب سويفت حبيبته ستيلا، ولا سكارون حبيبته مانتنون، ولا وولر حبيبته ساكاريسا، كما سأحبك وأتغنى بك، يا زوجتي المختارة!"-ذلك أم "زوجتي لا يمكن أن تعيش طويلاً"(12). وبعد عشر دقائق من إرسال هذا الخطاب أصابه نزف شديد، وظل ينزف الدم حتى الرابعة صباحاً.

وفي أبريل 1767 أبحرت المسز دراير إلى الهند استجابة لدعوة زوجها. وظل ستيرن من 13 أبريل إلى 4 أغسطس يدون "يوميز لاليزا" وهي "مذكرات يومية بالمشاعر التعسة التي يحس بها شخص افترق عن سيدة يذوب شوقاً إلى لقائها". "إني أقبلك على أي شروط تعرضينها يا اليزا! سوف أكون... منصفاً جداً، وعطوفاً جداً نحوك، ولن أكون بعد اليوم مستأهلاً للتعاسة"(13). وفي يومية 21 أبريل: "نزفت اثنتي عشرة أوقية من الدم". وأخبره طبب أنه مصاب بالزهري، فاعترض قائلاً أن هذا "محال...، لأنني لم أباشر الجنس أياً كان إطلاقه-حتى مع زوجتي،... طوال هذه السنين الخمس عشرة". "وقال الطبيب: لن نتجادل في الأمر، ولكن لا بد لك من أخذ علاج بالزئبق"(14). وأيد أطباء آخرون هذا التشخيص، وأكد له أحدهم أن "لوثات الدم تظل كامنة عشرين عاماً". فأذعن مؤكداً عفته. وما وافى شهر يونيو حتى تماثل للشفاء وعاد إلى كوكسولد. وبينما كان يكتب "الرحلة العاطفية" أصيب بمزيد من نوبات النزف، وأدرك أنه لن يمهل في الأجل طويلاً. فذهب إلى لندن، وشهد صدور كتيبه "فبراير 1768)، واستمتع لآخر مرة بمحبة أصدقائه التي لم تفتر. وكما لأن "ترتسترام" ذكر القراء برابليه، فكذلك عكس الكتاب الجديد التأثير المتصاعد لرتشاردسن وروسو. غير أن فضيلة سايرن كانت أقل مناعة من فضيلة رتشردسن، ودموعه أقل حرارة وإخلاصاً من دموع روسو. ولعل هذا الكتاب، وكتاب مكنزي "رجل الوجدان" (1771)، هما اللذان أذاعا كلمتي "عاطفة Sentiment" و "عاطفي Sentimental" في المجتمع الإنجليزي. وقال بايرون أن ستيرن "يؤثر البكاء على حمار ميت على التخفيف عن أم حية"(15).

وبينما كان ستيرن يستمتع بانتصاراته الأخيرة في لندن أصيب بنزلة برد تفاقمت حتى أصبحت التهاباً بليورياً. فكتب إلى سيدة تدعى المسز جيمس رسالة محزنة يطلب إليها أن ترعى ليديا إن توفيت زوجته. ووافته المنية في 18 مارس 1768، في فندق بأولد بوند ستريت دون لأن يكون إلى جواره صديق، غير متجاوز الثانية والأربعين. وكان فيه إثارة من المشعوذ، وقد جعل من نفسه "مهرجاً للناظرين"، ولكن في استطاعتنا أن نفهم حساسيته للنساء، والتوتر الذي فرضه زواج تعس على رجل أوتي هذه الأحاسيس المرهفة والصنعة الرقيقة. لقد قاسى كثيراً، وأعطى كثيراً، وكتب كتاباً من أغرب الكتب في تاريخ الأدب قاطبة.


3- فاني بيرني

وقد نافست امرأة النجاح الذي أحرزه في ميدان القصص منافسة قصيرة الأمد. ولدت في 1752 لأب يدعى تشارلز بيرني أصبح فيما بعد مؤرخاً للموسيقى. وقد ربيت على الموسيقى أكثر من الأدب، فكانت لا تعرف القراءة حتى بلغت الثامنة(16)، وما كان لأحد أن يحلم بأنها ستصبح كاتبة. وماتت أم فرانسس وهي في التاسعة. ولما كان أغلب الموسيقيين الذين يعزفون في لندن يختلفون إلى بيت أبيها ويجتذبون إليه شطراً كبيراً من صفوة المثقفين، فإن فاني اكتسبت تعليمها بالاستماع إلى الكلام والموسيقى. واكتمل نضجها ببطئ، وكانت خجولاً يعوزها الجمال، واستغرقت أربعين سنة لتعثر على زوج؛ وحين نشرت روايتها الشهيرة (يناير 1778) كانت في الخامسة والعشرين، وبلغ من خشيتها أن تغضب الرواية أباها أنها أخفت نسبتها لها. وأحدثت الرواية ضجة، واسمها "إفلينا، أو دخول شابة إلى العالم" وأثار إغفال اسم المؤلف فضول الناس، وأذاعت الشائعات أن كاتبتها فتاة في السابعة عشرة. أما جونسن الذي أثنت عليه المقدمة فقد امتدح الرواية وزكاها للدكتور بيرني. وشكت المسز تريل من فرط قصر الرواية. فلما علمت بالسر ذاع في طول لندن وعرضها، وأصبحت فاني شخصية بارزة في المجتمع، وقرأ الجميع كتابها، وكان "أبي العطوف الصادق المحبة سعيداً جداً بسعادتي"(17).

وسر فنها هذا الوصف-الذي أعانته ذاكرة متلبثة وخيال حي-للصورة التي تراءى بها المجتمع اللندني لفتاة يتيمة في السابعة عشرة رباها قسيس ريفي لا يمت بشبه قريب ولا بعيد للورنس ستيرن. وما من شك في أن فاني هي أيضاً قد انتشت بتمثيل جاريك، وشعرت كما كتبت إفلينا للوصي عليها" يا له من أداء طبيعي! وما أشد حيوية أسلوبه! وأرشق حركاته! وما أعجب ما تضطرم به عيناه من نار ومعنى!... وحين رقص، أواه لكم حسدت كلارندا! كدت أتمنى أن أثب إلى خشبة المسرح وأشاركهما الرقص(18). أما لندن التي سئمت رذائلهما فأحست أنها تتطهر بتلك الريح القوية التي تهب عليها من هذه الصفحات الشابة.

وقد ماتت تلك القصة التي حظيت بصيت ذائع يوماً ما، ولكن اليومية التي دونتها فاني ما زالت جزءاً حياً من الأدب والتاريخ الإنجليزيين، لأنها تتيح لنا نظرة عن كثب لمشاهير القوم من جونسن وجورج الثالث إلى هيرشل ونابليون. وقد عينت الملكة شارلوت الآنسة بيرني أمينة على ملابسها (1786)، وكانت فاني تلبس جلالتها وتخلع عنها ملابسها طوال السنوات الخمس التالية. ولكن الحياة المتكلفة الضيقة التي عاشتها المؤلفة كادت تخنقها، وأخيراً أنقدها أصدقاؤها، ففي 1793، بعد أن ذوى شبابها، تزوجت مهاجراً فرنسياً مفلساً هو الجنرال داربليه. وقد عالته بمؤلفاتها ودخلها، وظلت عشر سنين تعيش معه في فرنسا بعيدة عن الأضواء يعزلها عن المجتمع عنف حروب الثورة وحروب نابليون. وفي 1814 سمح لها بأن تعود إلى إنجلترا وتنال بركة أبيها لآخر مرة قبل موته في الثامنة والثمانين. وقد عمرت هي نفسها لهذه السن، حتى أدركت عالماً مختلفاً كل الاختلاف، عالماً لم يدرك أن جين أوستن الذائعة الصيت (التي ماتت 1817) إنما استلهمت الروايات المنسية التي ألفتها سيدة منسية ظلت حية ترزق حتى سنة 1840.

4- هوراس ولبول

قال "هذه الدنيا ملهاة لمن يفكرون، ومأساة لمن يشعرون"(19) لذلك تعلم أن يبتسم للحياة، بل أن يداعب نقرسه. وقد أرخ لجيله، ولكنه غسل يديه منه. كان ابناً لرئيس وزارة، ولكن السياسة لم تلذه. وكان يعشق النساء، من فاني بيرني إلى أرقى الغراندوقات، ولكنه أبى أن يكون له زوجة منهن، ولا خليلة (على قدر علمنا). درس الفلسفة ولكن كان رأيه في الفلاسفة أنهم لعنة القرن ومصدر إزعاجه. كاتبة وحيدة فقط أعجب بها إعحاباً بغير تحفظ لسلوكها المهذب وفنها الذي لا تكلف فيه-وتلك هي مدام دسفينييه، وهي وحدها التي حاول محاكاتها؛ وإذا كانت رسائله لم تظفر بفتنتها ورشاقتها ومرحها، فإنها غدت أكثر كثيراً من رسائلها تاريخاً يومياً حياً للعصر الذي كتبت فيه؛ ومع أنه سماها حوليات مستشفى المجاذيب(20)، فإنه كتبها بعناية، أملاً في أن يمنحه بعضها ركناً في ذاكرة الناس؛ ولا غرو، فحتى الفيلسوف الذي راض نفسه على الفناء يشق عليه الرضى بالنسيان.

وكان هوراشيو (وهو اسمه الذي عمد به في 1717) أصغر أبناء خمسة ولدوا للسر روبرت ولبول، رئيس الوزارة الشجاع الذي ضحى بسمعته لأنه آثر السلام على الحرب، ولكنه لم يكد يؤذيها بإيثاره الزنا على الاكتفاء بزوجة واحدة(21). ولعل المتقولين نسبوا هوراس حيناً لأب آخر انتقاماً لزوجته الأولى، وهو كار، لورد هرفي، أخو الرجل المخنث جون، لور هرفي الإكورثي-الذي اتهم السر روبرت بمحاولة إغواء الليدي هرفي(22). وفي هذه المسائل من التعقيد ما لا يسمح بإصدار الحكم عليها في الحاضر، وحسبنا أن نقول أن هوراس نشئ دون أن يرميه أقاربه بنسب منحرف. وقد عامله رئيس الوزراء بما يعامل به الرجل المشغول ولده من عدم المبالاة، أما أمه فقد "دللته" (كما يروى) بـ "ولع شديد"(23)وكان صبياً رائع الحسن، يلبس لباس الأمراء، ولكنه كان هشاً خجولاً، حساساً كأنه بنت. وحين ماتت أمه (1737) خشي كثيرون أن يموت الفتى ذو العشرين ربيعاً حزناً عليها. وسرى عنه السر روبرت بوظائف حكومية شريفة تفي بنفقات ولده على الثياب الفاخرة، والعيش الأنيق، ومجموعة التحف الغالية وأضمر هوراس الخصومة لأبيه إلى آخر حياته، ولكنه كان يدافع عن سياسته دائماً.

وحين بلغ العاشرة أرسل إلى إيتن حيث تعلم اللاتينية والفرنسية وصادق الشاعر جراي. وفي السابعة عشرة التحق بكنجز كولدج بكمبردج، وهناك تعلم الإيطالية وتشرب الربوبية من كونيرز مدلتن. وفي الثانية والعشرين انطلق مع جراي في رحلة يجوبان فيها إيطالية وفرنسا دون ان ينال درجة جامعية. وبعد أن طوفا قليلاً استقر خمسة عشر شهراً في فيلا بفلورنسة ضيفين على القائم بالأعمال البريطاني السر هوراس مان. ولم يلتق ولبول ومان بعدها قط، ولكنهما ظلا يتراسلان طوال الخمس والأربعين السنة التالية (1741-85). وفي ريدجو اميليا تشاجر جراي وولبول، لأن هوراس كان قد دفع كل نفقات إقامتهما، ولم يستطع الشاعر أن يغتفر مظاهر الاحترام الشديد التي كان يختص بها ابن الرجل الذي يحكم إنجلترا. ولام هوراس نفسه على هذا الوضع وهو يستحضر تلك الفترة "كنت صغيراً جداً، شديد الولع بملاهيّ... شديد الانتشاء بالتدليل، والغرور، وغطرسة منصبي.. بحيث تعذر علي الاهتمام والإحساس بمشاعر شخص حسبته أدنى مني مقاماً، شخص يخجلني أن أقول إنني كنت أعرف أنه مدين لي بفضل"(24). وافترقا، وكاد ولبول يموت من الندم أو من التهاب اللوزتين المتقيح، ورتب رحلة العودة لجراي. ثم تصالحا في 1745، وطبعت معظم قصائد جراي في مطبعة ولبول بستروزي هل. وجلس ولبول في هذه الفترة إلى الرسامة روزاليا كاربيرا لتصويره في لوحة جميلة بالباستيل.

وقبل أن يصل ولبون إلى إنجلترا (12 ديسمبر 1741) كان قد أنتخب عضواً في البرلمان. وهناك ألقى خطاباً متواضعاً لم يجد فتيلاً ضد المعارضة التي كانت جادة في إنهاء عهد وزارة أبيه الطويل الرخي. وظل يعاد انتخابه بانتظام حتى 1767 حين انسحب مختاراً من ميدان السياسة النشيطة. وكان بوجه عام يؤيد برنامج الهوجز التحرري: يقاوم توسيع السلطة الملكية، ويوصي بحل وسط مع ولكس، ويندد بالرق (1750) قبل أن يولد ولبرفورس بتسع سنين. وقد عارض في تحرير الكاثوليك الإنجليز سياسياً بحجة أن "البابويين والحرية نقيضان"(25). ورفض حجة الأمريكيين ضد قانون الدمغة(26)، ولكنه دافع عن مطالبة المستعمرات الأمريكية بالحرية، وتنبأ بأن أوج الحضارة القادم سيكون في أمريكا(27). وكتب (1786) يقول "من غير ميكيافللي يستطيع الزعم بأن لنا ظل حق في شبر من الأرض في الهند؟"(28)وقد أبغض الحرب، فلما أفلح الإخوان مونجولفييه في الطيران بالبالون لأول مرة (1783) تنبأ في فزع بانتشار الحرب إلى الجو وكتب يقول "أرجو ألا تكون هذه الشهب الميكانيكية غير لعب للعلماء أو العاطلين، وألا تحول إلى آلات تدمير للنوع الإنساني، كما هي الحال في كثير من الأحيان في تحسينات العلم أو كشوفه"(29).

ثم قرر أن ينفق وقته في الريف حين وجد نفسه في الأغلب الأعم يقف مع الجانب الخاسر. وعليه ففي 1747 استأجر خمسة أفدنة وبيتاً صغيراً قرب تويكنام. وبعد عامين اشترى هذا الملك، وحول البناء إلى الطراز القوطي الحديث-كما رأينا. وفي هذه القلعة التي طبعها بطابع القصر الوسيط جمع شتى التحف المتفردة فناً أو تاريخاً، وما لبث أن استحال بيته متحفاً يحتاج إلى قائمة بمحتوياته. ووضع في حجرة مطبعة، وطبع فيها أربعة وثلاثين كتاباً بما فيها كتبه طباعة أنيقة. وقد طلع على القراء-من ستروبري في أكثر الأحايين-بخطاباته الباقية إلى اليوم وعددها 3.601 وكان له مائة صديق، تشاجر معهم كلهم تقريباً، ثم تصالح، وكان لطيفاً بقدر ما سمح به مزاجه العصبي المرهف. وكان يخرج الخبز واللبن كل يوم للسناجيب التي تتودد إليه. وكان يرعى وظائفه الشرفية ويسعى للمزيد منها، ولكن حين فصل ابن خاله هنري كونواي من وظيفته اقترح ولبول أن يقتسم دخله معه.

وكان فيه ألف عيب، حشدها ماكولي بتفصيل كثير في مقال ذكي جائر. لقد كان ولبول مغروراً، نقياً، كتوماً، هوائياً، فخوراً بأجداده، مشمئزاً من أقاربه. وكانت فكاهته تنحو إلى الهجاء المقذع. وقد حمل إلى قبره، وفي التواريخ التي كتبها، احتقاره لكل الذين شاركوا في خلع أبيه. وكثيراً ما عنف في تحامله، كما نرى في أوصافه لليدي بومفريت(30) أو الليدي ماري ورتلي منتجيو(31). وقد نحا به جسده الهش إلى طبيعة تشبه طبيعة الهاوي السطحي. وإذا كان ديدرو، في عبارة سانت بوف المنيرة، أكثر الفرنسيين جميعاً ألمانية، فإن ولبون كان أكثر الإنجليز جميعاً فرنسية.

وكان صريحاً شجاعاً في الإعراب عن ميوله وآرائه غير المألوفة؛ ففرجل في رأيه مضجر، ومن باب أولى رتشاردسن وستيرن. وقال عن دانتي أنه "مثودي في مستشفى المجاذيب"(32) وتظاهر بأنه يحتقر كل المؤلفين، وأصر كما أصر كنجريف على أنه يكتب كما يكتب جنتلمان لمزاجه، لا كأديب أجير يعتمد على تسويق كلامه. ومن ثم نراه يكتب لهيوم قائلاً: "أنت تعلم أننا في إنجلترا نقرأ كتب المؤلفين ولكن ندر أن نعبأ بهم أو لعلنا لا نعبأ بهم إطلاقاً. ونحن نراهم قد نالوا جزاء كافياً إذا راجت كتبهم، ثم نتركهم بالطبع لكلياتهم وإنغمارهم، وبهذه الطريقة لا يزعجنا غرورهم وسلاطتهم... وأنني، وأن أحد المؤلفين، يجب أن أعترف بأن هذا المسلك كعقول جداً، لأننا في الحق قبيل لا نفع فيه إطلاقاً"(33).

ولكنه هو أيضاً. باعترافه-كان مؤلفاً، مغروراً مفرط الإنتاج. وإذ أحس الضجر في قلعته، فقد راح ينقب في الماضي كأنه يبغي الغوص بجذور عقله في أغنى طبقات تربته. فوضع "كتالوجاً بمؤلفي إنجلترا الملكيين والنبلاء" (1758)-فنبلهم يغتفر لهم اشتغالهم بالتأليف، ورجال من الطراز الأول مثل بيكون وكلارندن يمكن أن يكونوا أهلاً لأن يسلكوا في هذه الطائفة. وطبع ثلاثمائة نسخة وزع معظمها هدايا، وغامر درسلي بطبعة من ألفي نسخة، فبيعت بسرعة، وجاءت لوبول بشهرة لا بد أنها جعلته ينكس رأسه خجلاً. ثم ضاعف خزيه بخمسة مجلدات عن "نوادر عن التصوير في إنجلترا" (1762-71) وهي تصنيف شائق ظفر بتقريظ من جبون.

ثم ألف رواية غرامية تحت للعصر الوسيط كأنه يتخفف من هذه التآليف العلمية المجهدة، واسم الرواية "قلعة أوترانتو" (1764)، وقد أصبحت أما لألف قصة تروي عجائب وأحوالاً خارقة. وقد جمع بين الأسرار الغامضة والتاريخ في "الشكوك التاريخية حول حياة الملك رتشارد الثالث وملكه" فذهب كما ذهب آخرون بعده إلى أن رتشارد قد اخترت عليه الرواية المتواترة وشكسبير؛ وقد وصف هيوم وجبون حججه بأنها غير مقنعة، ولكن ولبول راح يرددها حتى مماته. ثم تحول إلى أحداث عرفها معرفة خبير، فكتب مذكرات عن حكمي جورج الثاني وجورج الثالث، وهي مذكرات منيرة ولكنها متحيزة، نظر فيها إلى جيله بمنظار أسود لأنه كان حبيس تغرضاته: "وزراء غادرون، وأدعياء للوطنية، وبرلمانات مسايرة، وملوك غير معصومين"(34). "أنني أرى وطني يسير إلى الخراب، وما من إنسان فيه من العقل ما يحمله على إنقاذه"(35) وقد كتب هذا الكلام عام 1768، حين كان شاتام قد خلق لتوه الإمبراطورية البريطانية. وبعد أربعة عشر عاماً، حين بدا أن الملك واللورد نورث سيد مرانها، خلص ولبول إلى هذه النتيجة "أننا منحطون انحطاطاً تاماً في كل ناحية، وهذا في ظني حال كل الدول المتهاوية"(36)وبعد جيل هزمت الجزيرة الصغيرة نابليون. وقد بدا النوع الإنساني كله لولبول معرض وحوش "فيه حيوانات قميئة، قصيرة الأجل... مضحكة"(37)ولم يجد في الدين أي عزاء. وقد أيد الكنيسة الرسمية لأنها تساند الحكومة التي تدفع له رواتبه الشرفية ولكنه لم يخف أنه ملحد(38)"بدأت أرى أن الحماقة مادة، ولا يمكن تدميرها. فإذا قضيت على شكلها، اتخذت شكلاً آخر"(39).

وظن في استطاعته العثور على شيء يحفزه في فرنسا (سبتمبر 1765). وفتحت له كل الأبواب، فرحبت به مدام دودفان بديلاً عن دالمبير. وكانت في الثامنة والستين، وولبول في الثامنة والأربعين، ولكن فارق السن اختفى حين التقت روحهما المتقاربتان في تبادل رقيق اليأس. وسرها أن تجد ولبول موافقاً على معظم ما قاله فولتير، ولكنه يود لو أحرق حياً ليمنعه من قوله، لأنه كان يرتعد فرقاً حين يفكر فيما يحيق بحكومات أوربا إذا انهارت المسيحية. وقد انتقص من قدر فولتير، ولكنه سخر من روسو. وهذه الرحلة إلى باريس هي التي كتب فيها الخطاب الذي زعم أن كتابه هو فردريك الأكبر، ويدعو روسو للذهاب إلى برلين والاستمتاع بالمزيد من الاضطهادات. "لقد انتشرت النسخ كأنها الحريق، وهأنذا أصبحت موضة سرت في المجتمع"(40) وقد خلف هيوم شخصية تتهافت عليها الصالونات. وتعلم أن يحب إثارة باريس المرحة القاسية، ولكن كان عزاء له أن يجد "الفرنسيين أحقر منا نحن (الإنجليز) عشر مرات"(41).

وبعد أن عاد إلى وطنه (في أبريل 1766) بدأ تراسله الطويل مع مدام دودفان. وسنرى فيما بعد كيف أقلقه الخوف من أن تجعله محبتها له هزءاً، ومع ذلك فأغلب الظن أن رغبته في أن يراها من جديد هي التي حملته على العودة إلى باريس في 1767 و1769 و1771 و1775. وقد أنساه حبها عمره، غير أم موت جراي (30 يوليو 1771) ذكره بفنائه هو. ولكنه أدهش نفسه بأن عمر حتى 1797. ولم تكن له هموم مالية، فدخله في 1784 كان 8.000 جنيه (200.000 دولار؟) في السنة(42)، وفي 1796 ورث لقب اللورد أكسفورد. ولكن النقرس الذي أبتلى به منذ كان في الخامسة والعشرين ظل ينغص عليه عيشه إلى النهاية. ونقرأ أن كتلاً متجمعة من "الطباشير" كانت أحياناً تتفجر من أصابعه(43). وبات هزيلاً معوق الحركة في سنواته الأخيرة، وأقتضت حالته أن يحمله الخدم أحياناً من حجرة إلى حجرة، ولكنه واصل العمل والكتابة، وكان الزوار إذا ألموا به يعجبون لبريق الاهتمام في عينيه، وليقظة مجمالاته، ومرح حديثه، ونشاط ذهنه وصفائه. وكان كبار القوم يلمون به كل يوم تقريباً ليروا بيته المشهور ومجموعة تحفه المتنوعة، ومنهم هانا مور في 1786، والملكة شارلوت في 1795.

ولكن رحيله عن هذه الدنيا لم يكن في ستروبري هل، بل في بيته اللندني بميدان باركلي، وكان ذلك في 2 مارس 1797 في عامه الثمانين. ويبدو أنه كان نادماً على احتواء مذكراته ورسائله لكثير من الفقرات اللاذعة، لذلك أمر بأن تحبس مخطوطاته في صندوق لا يفتح "حتى يطالب بفتحه ايرل ولد جريف الأول عند بلوغه الخامسة والثلاثين"(44) وعليه لا تنشر المذكرات إلا في عام 1822 أو بعده، حين يكون كل الذين قد يتأذون منها قد فارقوا الحياة. وقد نشرت بعض الرسائل في 1778، ومزيد منها في 1818 و1820 و1840 و1857... وفي العالم القارئ للإنجليزية طولاً وعرضاً رجال ونساء قرأوا كل كلمة وردت في تلك الرسائل، وهم يقدرونها فيما يقدرون من أبهج ما خلفه القرن المنير من تراث.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

5- إدوارد جبون

كتب ولبول لأحد كبار المؤرخين، وهو روبرتسن، يقول "أن المؤرخين المجيدين أندر الكتاب أجمعين، ولا غرابة في هذا! فالأسلوب الجيد ليس بالأمر الشائع جداً، وأندر منه الإحاطة الدقيقة الشاملة بالحقائق، ولم تتوفر في جبون الشرط الأخير تماماً، ولكن هذا يقال أيضاً عن تاسيتوس، وهو وحده الذي يمكن أن يقف معه على قدم المساواة بين أساطين المؤرخين.

أ- إعداده

كتب جبون، أو بدأ كتابه، ست سير ذاتية، أدمجها منفذ وصيته الأدبي، وهو ايرل شفيلد الأول، وفي "مذكرات. (1796) جيدة الحبك، منقاة دون موجب، وتعرف أحياناً باسم "السيرة الذاتية". كذلك كان جبون يدون يومية، بدأها في 1761 وواصل تدوينها تحت عناوين مختلفة حتى 18 يناير 1763. وقد حكم العارفون على هذه المصادر الأولى لنشأته بأنها صحيحة إلى حد معقول، إلا فيما يتصل بنسبه.

وقد أنفق ثماني صفحات يفصل القول في كرم مجتده، وقد أخذه عنه النسابون القساة(46). فجده إدوارد جبون الأول كان أحد مديري شركة البحار الجنوبية الذين قبض عليهم بتهمة الانحراف بعد أن تفجرت تلك "الفقاعة" (1721). وصودرت كل ثروته التي قدرها بمبلغ 106.543 جنيه، فيما عدا 10.000 جنيه. ويروي لنا المؤرخ أن على هذه البقية الباقية "بنى صرح ثروة جديدة... لا تقل كثيراً عن الأولى"(47)ولم يكن موافقاً على زواج ابنه إدوارد الثاني، ومن ثم أوصى بمعظم ثروته لبنتيه كاترين وهستر وتزوجت بنت كاترين بإدوارد الثالث، الذي اشترى فيما بعد كرسياً في البرلمان لإدوارد جبون الثالث، أما هستر فأصبحت تابعة غنية من أتباع وليم لو(48)، وغاظت ابن أخيها ردحاً طويلاً بموتها البطيء. وقد تعلم إدوارد الثاني على يد لو، وأكمل تعليمه في مدرسة ونشستر وفي كمبردج، وتزوج جوديت بورتن، ورزق منها سبعة أطفال، ولم يجز سن الطفولة منهم غير إدوارد الثالث.

وقد ولد في بتن بإقليم صري في 8 مايو 1737. وماتت أمه في 1747 بسبب حملها السبع، فانتقل الأب إلى ضيعة في الريف ببيتوريتن في هامبشير، على ثمانية وخمسين ميلاً من لندن، تاركاً الصبي في رعاية خاله ببيت جده في بتني. وهناك أكثر دارس المستقبل الانتفاع بالمكتبة الحافلة بالكتب. وقد قطعت أمراضه المتكررة تقدمه في مدرسة ونشستر، ولكنه كان يشغل أيام نقاهته بالقراءة النهمة وأكثرها في التاريخ، خصوصاً تاريخ الشرق الأدنى "ولم يلبث محمد (صلى الله عليه وسلم) والمسلمون أن استرعوا انتباهي.. وأسلمني كتاب إلى كتاب حتى طفت بكل تاريخ الشرق. وقبل أن أبلغ السادسة عشرة كنت قد أتيت على كل ما كتب بالإنجليزية عن العرب والفرس، والتتار والترك"(49). ومن هنا هذه الفصول الرائعة عن محمد (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدين، والاستيلاء على القسطنطينية.

يروي أنه حين أرسل إلى كلية مجدلين بأكسفورد وهو في الخامسة عشرة "وصلت إليها بذخيرة من المعرفة الواسعة قد تحير فقيهاً، وبدرجة من الجهل يندى لها جبين تلميذ" وكان فيه من الهزال ما يمنعه من الانخراط في الألعاب الرياضية، ومن الحياء ما يصده عن الاختلاط الطبيعي بغيره من الطلاب. وكان من الجائز أن يكون تلميذاً نابغة لو قيض له معلم كفء: ولكنه على ما كان به من شغف بالتعليم افتقد الأستاذ الشغوف بالتعليم. وكان أكثر المعلمين يسمحون لتلاميذهم بحضور المحاضرات أو التخلف عنها، بإنفاق نصف وقتهم في "إغراءات باطلة"(50) ومن ثم أغضوا عن "انحرافاته السلوكية، والمعاشرات الرديئة، والسهر، والإنفاق الطائش"، وحتى الرحلات الترفيهية إلى باث أو لندن. على أنه "كان في من الحداثة والحياء ما يمنعني من الاستمتاع بحانات كوفنت جاردن ومواخيرها كما يستمتع بها الكثير من طلاب أكسفورد حين يلمون بلندن"(51).

وكان أساتذة الكلية كلهم من رجال الدين، يعلمون ويسلمون بمواد الكنيسة الأنجليكانية التسع والثلاثين. وكان جبون ذا نزعة قتالية، كثير السؤال لمعلميه. ولاح له أن الكتاب المقدس والتاريخ يبرران الكنيسة الكاثوليكية في دعواها بالأصل الإلهي. وحصل له أحد معارفه على بعض الكتب المقلقة، وأهمها كتاب بوسويه "عرض للعقيدة الكاثوليكية وتاريخ المذاهب البروتستانتية"، هذه "حققت هدايتي، ولا شك أنني وقعت في يد نبيلة"(52). وباندفاع الشباب اعترف على كاهن كاثوليكي، وقبل عضواً في كنيسة روما (8 يونيو 1753). وأحاط أباه علماً بالأمر، ولم يدهشه أنه دعا للعودة إلى وطنه، لأن أكسفورد لم تكن تقبل الكلاب الكاثوليك، وكان دخول بروتستانتي في المذهب الكاثوليكي الروماني- طبقاً لما يقول بلاكستون يعد "خيانة عظمى". وما أسرع ما نفى الأب المروع الفتى إلى لوزان، ورتب أن يقيم مع راع كلفني. هناك عاش إدوارد أولاً في حالة من العناد المتجهم. ولكن المسيو بافيار كان رجلاً عطوفاً وأن أعوزه التسامح الديني، فاستشعر الصبي المحبة له في بطئ. ثم أن الراعي كان دارساً كلاسيكياً قديراً. وتعلم جبون أن يقرأ الفرنسية ويكتبها بطلاقة الإنجليزية، واكتسب معرفة طيبة باللاتينية. ولم يلبث أن استقبلته الأسر المثقفة التي كانت طباعها وحديثها تعليماً يفضل ما لقنته أكسفورد من قبل.

فلما تحسنت فرنسيته أحس نسائم العقلانية الفرنسية تهب على لوزان. واختلف بابتهاج إلى التمثيليات التي قدمها فولتير في مونريون القريبة منه وهو بعد في العشرين (1757). "وكنت أحياناً أتعشى مع الممثلين"(53). والتقى بفولتير، وبدأ يقرأ فولتير، وقرأ كتاب فولتير الحديث "مقال في التاريخ العام" (مقال في الأعراف). وأكب على كتاب مونسكيو "روح القوانين" (1748) وأصبح كتاب "تأملات في أسباب عظمة الرومان وتدهورهم" (1734) نقطة الانطلاق لكتاب جبون "اضمحلال الدولة الرومانية وسقوطها". أياً كان الأمر، فإن تأثير الفلاسفة الفرنسيين، فضلاً عن قراءته لهيوم والربوبيين الإنجليز، قوضا مسيحية جبون وكاثوليكيته على السواء، وأبطل قبول جبون للتنوير سراً الانتصار الذي أحرزه بافيار للإصلاح البروتستانتي.

ولا بد أن روحه انتشت حين التقى في العام نفسه (1757) بكل من فولتير وسوزان كورشو؛ وكانت في العشرين، شقراء، حسناء، مرحة، تعيش مع أبويها البروتستانتيين في كراسي، على أربعة أميال من لوزان، وكانت الروح القائدة في "جماعة الربيع"- وهي لفيف من خمسة عشرة شابة أو عشرين يلتقين في بيوت بعضهن البعض، ويغنين، ويرقصن، ويمثلن الكوميديات، ويغازلن الشباب في حكمة وتعقل. ويؤكد لنا جبون أن "عفتهن لن تلوثها قط همسة فضيحة أو شبة". ولندعه يروي القصة: "في زيارتها القصيرة لبعض أقربائها في لوزان كان ظرف الآنسة كورسو، جمالها، وسعة علمها، محل إعجاب الجميع. وقد أثار فضولي نبأ هذه العجيبة. فرأيت، وأحببت. ووجدتها مثقفة دون تنطع، مرحة في حديثها، نقية في عاطفتها، وشيقة في طباعها... وكانت ثروتها متواضعة، ولكن أسرتها محترمة... وقد أذنت لي بأن أزورها مرتين أو ثلاثاً في بيت أبيها. وأنفقت أياماً سعيدة هناك... وقد شجع والدها هذه الصلة تشجيعاً كريماً فأشبعت حلمي بالسعادة العظمى"(54).

ويبدو أن خطبتهما عقدت رسمياً في نوفمبر 1757(55)، ولكن موافقة سوزان كانت مشروطة بوعد جبون بالعيش في سويسرا(56). وفي غضون هذا أمر أبوه- الواثق بأن ابنه غدا الآن بروتستانتياً صالحاً- بأن يعود إلى وطنه ويستمع إلى الخطط التي وضعت له. ولم يكن جبون حريصاً على العودة، لأن أباه كان قد اتخذ زوجة ثانية، ولكنه أطاع، ووصل لندن في 5 مايو 1758؟ "وسرعان ما تبينت أن أبي يرفض هذا الزواج الغريب، وأنني سأكون مملقاً عاجزاً إذا أبى الموافقة. وبعد كفاح أليم أذعنت لإرادة أبي: تنهدت كعاشق وأطعت كإبن"(57). ثم نقل تنهده إلى سوزان برسالة كتبها في 24 أغسطس. ورتب له أبوه راتباً سنوياً قدره 300 جنيه. وكسبت زوج أمه عرفانه بصنيعها لأنها لم تنجب، ولم يلبث أن نمت في قلبه محبته. وأنفق شطراً كبيراً من دخله على الكتب، و "كونت بالتدريج مكتبة كبيرة منقاة، وهي ركيزة مؤلفاتي، وخير عزاء لي في الحياة"(58).

وكان قد بدأ مقالاً في لوزان وأتمه في بوريتون (حيث كان ينفق الصيف) وعنوان المقال "في دراسة الأدب":، وقد نشر باندن في 1761 وبجنيف في 1762. وإذ كان مكتوباً بالفرنسية، ويتناول أول ما تناول الأدب والفلسفة الفرنسية، فإنه لم يثر ضجة في إنجلترا، ولكنه استقبل في القارة استقبال إنجاز ممتاز لفتى في الثانية والعشرين. وقد احتوى بعض الأفكار ذات الدلالة في كتابة التاريخ. " أن تاريخ الإمبراطوريات هو تاريخ شقاء الإنسان، وتاريخ المعرفة هو تاريخ عظمته وسعادته... والاعتبارات كثيرة تجعل هذا النوع الثاني من الدراسة غالياً في عيني الفيلسوف"(59). ومن ثم "إذا لم يكن الفلاسفة دائماً مؤرخين، فمن المرغوب فيه على الأقل أن يكون المؤرخون فلاسفة"(60). وقد أضاف جبون في "مذكراته" هذه العبارة "منذ شبابي الباكر تاقت نفسي إلى أن أكون مؤرخاً"(61). وراح يفتش عن موضوع يلائم الفلسفة والأدب كما يلائم التاريخ. أما التاريخ في القرن الثامن عشر فلم يدع أنه علم من العلوم، لا بل أنه تاق إلى أن يكون فناً. أما جبون فأحس بأنه يريد أن يكتب التاريخ بوصفه فيلسوفاً وفناناً: يعالج موضوعات واسعة في منظور واسع، ويسبغ على فوضى المواد دلالة فلسفية وشكلاً فنياً.

غير أنه دعا فجأة من الدراسة إلى العمل. ذلك أن إنجلترا تعرضت غير مرة خلال حرب السنين السبع لخطر الغزو من فرنسا. واستعداداً لهذا الطارئ كون أعيان الإنجليز مليشيا تذود عن البلاد خطر الغزو أو التمرد. ولم يسمح إلا لذوي الأملاك بأن يكونوا ضباطاً. وعين جبون الأب ضابطاً كبيراً والابن ضابطاً صغيراً في يونيو 1759. والتحق إدوارد الثالث بفرقته في يونيو 1760، وبقي معها حتى ديسمبر 1762 فترات منقطعة، يتنقل من معسكر إلى معسكر. ولم يكن بالرجال الصالح للحياة العسكرية، وأصابه "الملل من رفاق لم يؤتوا معرفة الدارسين ولا طباع السادة المهذبين"(62).

وفي حياته العسكرية وجد صفنه يتمدد بما فيه من سائل. "اضطررت اليوم (6 سبتمبر 1762) لاستشارة الجراح المستر أندروز في أمر علة أهملتها بعض الوقت، وهي ورم في خصيتي اليسرى يخشى أن تكون خطيرة"(63). ففصد وأعطي مسهلاً، ولم يسفر هذا العلاج إلا عن تخفيف مؤقت. وقد قدر لهذه "العلة" أن تعذبه حتى كانت القاضية عليه.

وفي 25 يناير 1763 انطلق في رحلة إلى القارة. وتوقف برهة في باريس حيث التقى بدلامبير، وديدرو، ورينال، وغيرهم من نجوم حركة التنوير. "كان لي مكان خلال أربعة أيام في الأسبوع... على الموائد المضيافة للسيدتين جوفران وبوكاج، وهلفتوس الذائع الصيت، والبارون دولباخ... ومرقت أربعة عشر أسبوعاً دون أن أحس بها، ولكن لو كنت غنياً غير معتمد على أبي لأطلت المكث في باريس وربما جعلتها مستقري"(64).

وفي مايو 1763 وصل إلى لوزان حيث أقام قرابة عام. ورأى الآنسة كورشو، ولكن حين وجدها موفقة في خطبتها، ولم يحاول أن يجدد صداقته بها. ويعترف في هذه الزورة الثانية لسويسره قائلاً "أن عادات المليشيا وتمثلي بمواطني أفضيا بي إلى شيء من الإفراط الصاخب في الشراب، وقبل أن أرحل كنت قد فقدت عن جدارة رأي الناس الطيب في، وهو الرأي الذي ظفرت به في أيام سلوكي الأفضل"(65). وقد خسر مبالغ كبيرة في القمار، ولكنه واصل دراساته إعداداً لإيطاليا، ومكباً على القديم من الميداليات، والعملات، وأدلة السياح، والخرائط.

وفي أبريل 1764 عبر جبال الألب. وأنفق ثلاثة أشهر في فلورنسة، ثم مضى إلى روما. وأرشده مغترب اسكتلندي بين أطلال العصر الكلاسيكي القديم "في جهد يومي امتد ثمانية عشر أسبوعاً". يقول "في روما، وفي الخامس عشر من أكتوبر 1764، بينما أنا جالس مستغرقاً في تأملاتي وسط خرائب الكابتول، وبينما الرهبان الحفاة يرتلون صلوات العشاء في معبد جوبتر، خطرت لي لأول مرة فكرة الكتابة عن اضمحلال وسقوط المدينة لا الإمبراطورية"(66). وانتهى به التفكير إلى أن يرى في ذلك التفسخ المدمر

"أعظم بل ربما أرهب مشهد في تاريخ الإنسان"(67). وبعد أن ألم بنابلي، وبادوا، والبندقية، وفتشنتسا، وفيرنا، عاد إلى لندل بطريق تورين وليون وباريس ("أسبوعان سعيدان آخران") (25 يوليو 1765). وكان يقضي معظم وقته الآن في بوريتون، لذلك سمح لنفسه بأن يتلهى بالبدء في كتابة تاريخ لسويسرا بالفرنسية. فلما رأى هيوم المخطوطة في لندن، كتب إلى جبون (24 أكتوبر 1767) يرجوه أن يستعمل الإنجليزية ويتنبأ بأن الإنجليزية ستبز عما قريب الفرنسية انتشاراً ونفوذاً، ثم نبه جبون إلى أن استعماله للفرنسية أسلمه "إلى أسلوب فيه من الشاعرية والمجاز والإسراف في التلوين أكثر مما تسمح به لغتنا في المؤلفات التاريخية"(68). وقد اعترف جبون بعد ذلك قائلاً "أن عاداتي القديمة... شجعتني على أن أكتب بالفرنسية لقارة أوربا، ولكنني أنا نفسي كنت شاعراً بأن أسلوبي، الذي كان يعلو على النثر ويدنو عن الشعر، وقد انحدر إلى أسلوب خطابي طنان شديد الأطناب"(69).

وخلف له موت أبيه (10 نوفمبر 1770) ثروة وفيرة. وفي أكتوبر 1772 اتخذ مقامه الدائم في لندن. "وما أن أستقر بي المقام في بيتي ومكتبي حتى اضطلع بتأليف المجلد الأول من تاريخي"(70). وقد سمح لنفسه بألوان كثيرة من الترفيه- أمسيات في بيت هوايت، واختلاف إلى "نادي" جونسن، ورحلات إلى برايتن، وباث، وباريس. وفي 1774 أنتخب عضواً في البرلمان عن "دائرة جيب" يتحكم فيها قريب له. وقد لزم الصمت وسط المناقشات التي دارت في مجلس العموم. وكتب (25 فبراير 1775) يقول "ما زلت صامتاً. أن الأمر أرهب مما تصورت، فحول الخطابة يملأونني يأساً، وأضعفهم يملأنني رعباً"(71). غير أن "الدورات الست التي قضيتها في البرلمان كانت لي مدرسة علمتني الحكمة المهذبة، وهي أولى فضائل المؤرخ وألزمها"(72)وحين اكتنفه الجدل حول أمريكا، صوت بانتظام في جانب سياسة الحكومة، ووجه للأمة الفرنسية "مذكرات تبريرية" (1779) بسط فيها حجج إنجلترا ضد مستعمراتها الثائرة. وقد أجيز بمقعد في مجلس التجارة والمزارع، أتاه بسبعمائة وخمسين جنيهاً في السنة. واتهمه فوكس بالتكسب من ذلك الفساد السياسي الذي أوضح أنه من أسباب اضمحلال روما(73). وقال الظرفاء أن جورج الثالث اشترى حبون مخافة أن يسجل اضمحلال وسقوط الإمبراطورية البريطانية(74).


ب - الكتاب

كان شغل جبون الشاغل بعد عام 1772 كتابه في التاريخ، وقد وجد من العسير عليه أن يفكر جدياً في أي شيء سواه. "لقد بذلت محاولات كثيرة قبل أن استقر على أسلوب وسط بين سجل الأخبار الممل والعرض الخطابي البليغ. وكتب الفصل الأول ثلاث مرات، والثاني والثالث مرتين، قبل أن أرضى رضاء معقولاً عن وقعها"(75). لقد عقد عزم على أن يجعل كتابه التاريخي أثراً أدبياً.

وفي 1775 عرض جبون مخطوطة الفصول الستة عشر الأول على ناشر رفضها لأنها تكلفه ثمناً غالياً يحول دون النشر. واشترك كتيبان آخران هما توماس كولدويل ووليم ستراهان في مغامرة طبع المجلد الأول من "اضمحلال الإمبراطورية الروماني وسقوطها" (17 فبراير 1776). وبيعت النسخ الألف بحلول 26 مارس رغم أن الكتاب سعر بجنيه إنجليزي (26 دولاراً). ونفدت طبعة ثانية من ألف وخمسمائة نسخة صدرت في 3 يونيو بعد صدورها بثلاثة أيام. "كان كتابي على كل خوان، وعلى كل تسريحة تقريباً"(76). وأجمعت دنيا الأدب على الثناء عليه وهي على ما عهد فيها من تحاسد وتنابذ يمزقها. وبعث وليم روبرتسن إلى المؤلف بعبارات التحية السخية، أما هيوم فقد كتب في هذا العام الذي مات فيه إلى المؤلف رسالة يقول جبون إنها "أجزلت له المكافأة على جهد سنين عشر(77). وصرح هوراس ولبول غداة نشر الكتاب لوليم ميسن: "ها قد صدر للتو والساعة أثر من عيون الأدب حقاً".

وقد استهل الكتاب استهلالاً منطقياً وجريئاً بثلاثة فصول عميقة فصلت الامتداد الجغرافي والتنظيم العسكري والبناء الاجتماعي والتكوين القانوني للإمبراطورية الرومانية عند موت مرقص أوريليوس (180م) وفي رأي جبون أن السنين الأربع والثمانين السابقة لهذا التاريخ قد شهدت الإمبراطورية في أوج كفاية موظفيها ورضى شعوبها.

" لو أن إنساناً إليه أن يحدد فترة في تاريخ العالم كانت فيها حال النوع الإنساني غاية في السعادة والرخاء، لاختار دون تردد الفترة التي امتدت من وفاة دوميشيان (96) إلى تولي كومودس (180). فقد كان ملك الإمبراطورية الرومانية الشاسع محكوماً بسلطة مطلقة، وبهدى من الفضيلة والحكمة. وكانت الجيوش تضبطها يد أربعة أباطرة متعاقبين، جمعت بين الحزم والرفق، وهم حكام فرضت شخصياتهم وسلطتهم الاحترام التلقائي. وصان أشكال الإدارة المدنية في عناية ودقة الأباطرة نيرفا، وتراجان، وهادريان، والانطونيان، هؤلاء الذين كانت صورة الحرية مبعث ابتهاج لهم، وسرهم أن يروا أنفسهم خدام القوانين والمسئولين... ولقيت جهود هؤلاء الملوك خير جزاء في فخر الفضيلة الحق، والبهجة العميقة، يستشعرونها حين يرون السعادة العميقة التي كانوا صناعها"(78).

غير أن جبون أدرك "تزعزع السعادة التي تعتمد بالضرورة على خلق رجل واحد. ولعل اللحظة القاضية كانت وشيكة، حين يسيء فتى إباحي أو طاغية حسود.. استعمال السلطة المطلقة"(79). لقد كان "الأباطرة الصالحون" تنتخبهم ملكية متبنية- فكل حاكم يورث سلطانه لعضو مختار ومدرب من حاشيته. وقد سمح مرقص أوريليزس بأن يرث السلطة الإمبراطورية ابنه الحقير كومودس، وأرخ جبون اضمحلال الإمبراطورية منذ توليه العرش. ثم ذهب جبون إلى أن ظهور المسيحية أعان على ذلك الاضمحلال. وهنا تخلى عن اتباع رأي مونتسكيو الذي لم يقل شيئاً كهذا في كتابه "عظمة الرومان وانحطاطهم"، إنما اتبع فولتير، وكان موقفه عقلانياً خالصاً، فقد تجرد من أي ميل للنشوة الصوفية أو الإيمان المملوء بالرجاء، وأعرب عن رأيه في فقرة تشم فيها نكهة فولتيرية. قال: "أن شتى أساليب العبادة السائدة في العالم الروماني كانت كلها في نظر الشعب سواء في الصدق وفي نظر الفيلسوف سواء في الكذب، وفي نظر الحاكم سواء في النفع. وهكذا أثمر التسامح انسجاماً دينياً"(80)، وكان جبون يتجنب عادة أي تعبير مباشر بعدائه للمسيحية، فقد كانت لا تزال هناك قوانين في سجلات إنجلترا التشريعية تعد هذا التعبير جريمة خطيرة. مثال ذلك "إذا أنكر شخص نشئ على الديانة المسيحية، كتابة"،... صدق المسيحية، كان عقابه إذا عاد... السجن ثلاث سنوات دون قبول كفالة عنه"(81). ودرءاً لهذا العناء اتخذ الإلماع الخفي والتهكم الشفاف عنصرين من عناصر أسلوبه، ونوه في حرص إلى أنه لن يناقش مصادر المسيحية الأولية وفوق الطبيعة، بل سيكتفي بمناقشة العوامل الثانوية والطبيعية في أصل المسيحية ونموها. وأدرج في هذه العوامل الثانوية "أخلاقيات المسيحيين الطاهرة الصارمة" في القرن المسيحي الأول، ولكنه أضاف عاملاً آخر "غيرة المسيحيين لا مرونة فيها (ولا تسامح إن جاز لنا أن نستعمل هذا التعبير)"(82)ومع أنه امتدح "وحدة الجمهورية المسيحية وانضباطها"، فإنه لاحظ أنها "شيئاً فشيئاً كونت دولة مستقلة متعاظمة في قلب الإمبراطورية الرومانية"(83). وقد رد بوجه عام تقدم المسيحية في أول عهدها إلى العملية الطبيعية لا إلى المعجزة، ونقل الظاهرة من اللاهوت إلى التاريخ.

ولكن كيف أعانت المسيحية على اضمحلال روما؟ أولاً بإضعاف إيمان الشعب بالدين الرسمي، وبذلك قوضت أسا الدولة التي سندها ذلك الدين وقدسها. (وهذا بالطبع كان بالضبط حجة اللاهوتيين على جماعة الفلاسفة). وارتابت الحكومة الرومانية في المسيحيين بحجة أنهم يؤلفون جماعة سرية معادية للخدمة العسكرية، ويصرفون الناس عن الأعمال النافعة إلى التركيز على الخلاص السماوي. (فالرهبان في رأي جبون كانوا رجالاً متبطلين استسهلوا التسول والصلاة على العمل). أما الملل الأخرى فكان في الاستطاعة التسامح معها لأنها كانت متسامحة ولأنها لم تعرض وحدة الأمة للخطر، وكان المسيحيون هم الملة الجديدة الوحيدة التي نددت بسواها من الملل وحكمت عليها بأنها شريرة هالكة، وتنبأت صراحة بسقوط "بابل"- أي روما(84). وقد عزا جبون قدراً كبيراً من هذا التعصب لأصل المسيحية اليهودية، وذهب مذهب تاسيتوس في التنديد باليهود في نقاط شتى في روايته. وحاول أن يفسر اضطهاد نيرون للمسيحيين على أنه في حقيقته اضطهاد لليهود(85)، وليس لهذه النظرية اليوم مؤيد. وكان أكثر توفيقاً في اتباع رأي فولتير في إنقاص عدد المسيحيين الذين استشهدوا على يد الحكومة الرومانية، فلم يزيدوا في تقديره على الألفين على الأكثر، ووافق فولتير على أن "المسيحيين، على مدى خلافاتهم الداخلية (منذ قسطنطين) أوقعوا بعضهم ببعض من أعمال القسوة ما هو أفدح بكثير مما لا قوة من تعصب الكفار"، وأن "كنيسة روما دافعت بعنف عن الإمبراطورية التي اكتسبتها بالحيلة"(86).

وقد أثار هذان الفصلان الختاميان (15- 16) ردوداً كثيرة اتهمت جبون بعدم الدقة، أو التحيف، أو عدم الإخلاص. أما جبون ففي تجاهل مؤقت لنقاده سمح لنفسه بالاستمتاع بإجازة طويلة في باريس (مايو إلى نوفمبر 1777). ودعته سوزان كورشو التي أصبحت زوجة جاك نكير المصرفي ووزير المالية إلى بيتهم. وكانت الآن في وضع مريح جداً بحيث لم يسوءها ما سبق من أنه "تنهد تتنهد العاشق، وأطاع طاعة الابن". أما المسيو نكير، الذي لم تخالجه الغيرة قط، فكثيراً ما كان يترك العاشقين السابقين وحيدين ويمضي إلى عمله أو فراشه. وشكا جبون قائلاً "أيمكن أن يهيناني إهانة أقسى من هذه؟ يا لها من طمأنينة وقحة!" أما جرمين، ابنة سوزان، (وهي التي أصبحت فيما بعد مدام دستال (فقد طابت لها صحبته حتى لقد جربت ألاعيبها المنفتحة عليه (وهي بعد في الحادية عشرة) وعرضت أن تتزوجه حتى تحتفظ به في الأسرة(87). وفي بيت نكير التقى بالإمبراطور يوزف الثاني، وفي فرساي قدم إلى لويس السادس عشر، الذي قيل إنه شارك في ترجمة المجلد الأول إلى الفرنسية. واحتفى به القوم في الصالونات لا سيما صالون المركيزة دودفان، التي وجدته "لطيفاً مؤدباً... أرقى من جميع الأشخاص الذين عاشوا معهم تقريباً"، ولكنها حكمت على أسلوبه بأنه "منمق؛ خطابي"، وأنه "يجري على طريقة أدبائنا المعترف بهم(88). وقد رفض دعوة من بنيامين فرانكلن، ببطاقة ذكر فيها أنه مع احترامه للمبعوث الأمريكي رجلاً فيلسوفاً، إلا أنه لا يستطيع أن يراه أمراً ينسجم مع واجبه قبل مليكه أن يدخل في أي حديث مع رجل مع الرعايا الثائرين. ورد فرانكلن بأنه يكن من الاحترام الشديد للمؤرخ ما يجعله سعيداً- أن خطر لجبون يوماً أن يتخذ من اضمحلال الإمبراطورية البريطانية وسقوطها موضوعاً للتأليف- بأن يزوده ببعض المواد المتصلة بالموضوع"(89).

فلما عاد جبون إلى لندن، أعد رداً على نقاده- " دفاع عن بعض فقرات وردت في الفصلين الخامس عشر والسادس عشر من تاريخ اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها" (1779) وقد تناول خصومه اللاهوتيين في إيجاز ورفق، ولكنه قليلاً في رده على هنري ديفز، وهو فتى في الحادية والعشرين كان قد اتهم جبون في كتاب من 284 صفحة بأخطاء سببها عدم الدقة. وقد اعترف المؤرخ ببعض الأخطاء ولكنه أنكر "تعمد التحريف، والأخطاء الجسيمة، والانتحالات الذليلة"(90). واستقبل هذا "الدفاع" عموماً على أنه رد موفق. وبعدها لم يرد جبون على النقد إلا عرضاً في "المذكرات"، ولكنه وجد مكاناً لبعض المديح الذي أسبغه على المسيحية على سبيل المصالحة في أجزاء الكتاب التالية.

وقد ازداد تأليفه سرعة بفقده كرسيه في البرلمان (أول سبتمبر 1780)، فصدر المجلدان الثاني والثالث من "التاريخ" في أول مارس 1781 وقد استقبلا استقبلاً هادئاً. ذلك أن غزوات القبائل الهمجية كانت قصة قديمة، أما المناقشات الطويلة المتخصصة للهرطقات التي أثارت الكنيسة المسيحية في القرنين الرابع والخامس فلم يكن فيها ما يشوق جيلاً من الشكاك الدنيويين. وكان جبون قد أرسل سلفاً نسخة من المجلد الثاني إلى هوراس ولبول، فزار الآن ولبول في ميدان باركلي، وأحزنه أن يقال له "إن في الكتاب إسهاباً كثيراً عن الأريوسيين والأونوميين وأشباه البلاحيين... بحيث أنني أخشى أن القليلين سيصبرون على قراءة القصة رغم أنك كتبتها كأفضل ما يمكن كتابتها". وكتب ولبول يقول "من تلك الساعة إلى الآن لم أره قط، مع أنه اعتاد أن يزورني مرة أو مرتين كل أسبوع"(91). وقد وافق جبون فيما بعد على رأي ولبول(92).

واستعاد المجلد الثاني الحياة حين تصدره قسطنطين. وقد فسر جبون دخوله الشهير في المسيحية على أنه عمل من أعمال الحنكة في فن الحكم. ذلك أن الإمبراطور كان قد أدرك أن تنفيذ أحكم القوانين أمر قاصر وغير مأمون، وأنها قلما تلهم بالفضيلة، وليس في قدرتها دائماً أن تكبح جماح الرذيلة". وفي وسط فوضى الأخلاق والاقتصاد والحكم في الإمبراطورية الممزقة، "قد يلحظ حاكم حصيف في سرور تقدم دين يبث بين الناس نسقاً من المبادئ الخلقية خيراً شاملاً للجميع، مكيفاً لكل واجب وكل ظرف من واجبات الحياة وظروفها، مزكى باعتباره إرادة الإله الأعلى وفكره، منفذاً بتكريس من الثواب أو العقاب الأبديين"(93). أي أن قسطنطين أدرك أن العون المستمد من دين فوق طبيعي هو عون عظيم القيمة للأخلاق والنظام الاجتماعي والحكومة. ثم جرى قلم جبون بمائة وخمسين صفحة بليغة محايدة عن يوليان المرتد.

وقد ختم الفصل الثامن والثلاثين والمجلد الثالث بهامش امتدح ما تحلى به جورج الثالث من "حب خالص كريم للعلم وللبشر". وفي يونيو 1781، وبمساعدة اللور نورث، أعيد انتخاب جبون للبرلمان، حيث استأنف تأييده للوزارة. على أن سقوط اللور نورث (1782) أنهى حياة مجلس التجارة وأطاح بوظيفة جبون فيه؛ "لقد جردت من راتب مريح مقداره 750 جنيهاً في العام"(94). فلما شغل نورث مكاناً في وزارة ائتلاف (1783)، تقدم جبون بطلب وظيفة شرفية أخرى. ولكنه لم ينلها "ما كنت لأستطيع بغير دخل إضافي أن أحتفظ طويلاً أو بحكمة وتدبر بأسلوب الإنفاق الذي ألفته"(95). وقدر أن في استطاعته الاحتفاظ بذلك الأسلوب في لوزان، حيث كان لجنيهاته الإسترلينية ضعف قوتها الشرائية في لندن. وعليه فقد استقال من البرلمان، وباع كل ممتلكاته المنقولة غير الشخصية، فيما خلا مكتبته، وفي 15 سبتمبر 1783 رحل عن لندن "بدخانها وثرائها وضوضائها" قاصداً لوزان. وهناك قاسم صديقه القديم جورج ديفران قصراً مريحاً. وأنا أشرف على منظر مترام يجمع بين الوادي والجبل والماء، وبدلاً من الإطلال على حوش مبلط مساحته اثنا عشر قدماً مربعاً"(96). ووصلته كتبه الألفان بعد أن تأخرت قليلاً، فشرع في تأليف المجلد الرابع.

وكان قد خطط أول الأمر أن ينهي "الاضمحلال والسقوط" بفتح روما عام 476. ولكنه بعد أن نشر المجلد الثالث "بدأت أتوق إلى الواجب اليومي، إلى البحث النشيط الذي يسبغ على كل كتاب قيمة، وعلى كل تحقيق هدفاً"(97). ومن ثم استقر رأيه على أن يفسر عبارة "الإمبراطورية الرومانية: على أنها تنتظم الإمبراطورية الشرقية كما تنتظم الغربية، وأن يواصل قصته حتى يبلغ بها تدمير الحكم البيزنطي بفتح الأتراك للقسطنطينية عام 1453. وهكذا أضاف ألف سنة إلى مجال دراسته، واضطلع بمئات المواضيع الجديدة التي تتطلب البحث الشاق المضني. وقد احتوى المجلد الرابع على فصول رائعة عن جستنيان وبلساريوس، وفصل عن القانون الروماني ظفر بمديح عظيم من فقهاء القانون، وفصل ممل عن مزيد من الحروب التي استعرت بين اللاهوتيين المسيحيين. وكتب ولبول يقول: "ليت المستر جبون لم يسمع قط بالمونوفيزيين (القائلين بطبيعة المسيح الواحدة) أو النساطرة أو أي من هؤلاء الحمقى!"(98). وقد تحول جبون في المجلد الخامس في تخفيف واضح إلى ظهور محمد (صلى الله عليه وسلم) وفتح العرب للإمبراطورية الرومانية الشرقية، وأغدق على النبي والخلفاء الحربيين كل التفهم المحايد الذي خانه في حديثه عن المسيحية. وأعطته الحروب الصليبية موضوعاً مثيراً آخر في المجلد السادس، وكان استيلاء محمد الفاتح على القسطنطينية الذروة لمؤلفه والتاج الذي كلل عمله.

وقد لخص جهوده في الفصل الأخير في جملة مشهورة: "لقد وصفت انتصار الهمجية والدين"(99). ولم ير في العصور الوسطى غير الفجاجة والخرافة وهو ما رآه فيها فولتير، أستاذه الذي لم يقر بفضله. وقد صور حالة الخراب التي آلت إليها روما في 1430 واستشهد برثاء بودجو لها إذ قال "ليت شعري أي خطب دهي بهاء الدنيا هذا! لشد ما انهار، وتغير، وشاه منظراً!"- رأى خراب الآثار والفن الكلاسيكيين أو تهدمهما، وساحة روما وقد حجبها نمو الحشائش واحتلتها الماشية والخنازير. واختتم جبون في حزن بهذه العبارة "وسط خرائب الكابتول خطر لي لأول مرة خاطر القيام بهذا العمل الذي أبهج ودرب عشرين سنة من حياتي تقريباً، عمل أسلمه في النهاية إلى فضول جمهور القراء وصراحتهم أياً كان قصوره عن أن يدرك مرامي". وقد استحضر في "مذكراته" تلك الساعة، ساعة الخلاص المفعمة بالمشاعر المتناقضة:

"وفي عشية السابع والعشرين من يونيو 1787، بين الحادية والثانية عشرة، كتبت آخر السطور في آخر صفحة، في مظلة صيفية في حديقتي، وبعد أن وضعت قلمي تجولت مرات... في ممشى مغطى من أشجار السنط، يشرف على مشهد يجمع بين الريف، والبحيرة، والجبال... ولست أريد إخفاء مشاعر الفرح التي غمرتني لاستعادتي حريتي، وربما لتوطيد شهرتي. ولكن سرعان ما أذلت كبريائي وأشاعت في عقلي اكتئاباً هادئاً، فكرة فراقي فراق الأبد لرفيق قديم أنيس، وأنه أياً كان مصير كتابي مستقبلاً، فإن حياة المؤرخ لا محالة قصيرة مزعزعة"(100).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

جـ- الرجل

وصف المسيو بافيار جبون وهو في السادسة عشرة بأنه "جسد قصير نحيل يعلوه رأس كبير"(101). وإذ كان يكره الرياضة ويحب الطعام(102)، فإنه سرعان ما اكتسب استدارة في الجسم والوجه، وأصبح له كرش محترم يعتمد على ساقين نحيلتين، أضف إلى ذلك شعراً أحمر جعده من الجنب وعقصه من الخلف، وقسمات ملائكية لطيفة، وأنفاً دقيقاً، وخدين منتفختين، وذقناً ملغداً، وأهم من ذلك كله جبين عريض عال يعد بـ "إنجازات عظيمة القدر والخطر" والجلال واتساع المرمى. وكان تقريباً لجونسن في شهيته ولولبول في نقرسه. وقد تضخم صفنه بشكل مؤلم عاماً بعد عام حتى أبرزته سراويله الضيقة بروزاً مزعجاً. ولكنه رغم معايبه كان مغروراً بمظهره ولباسه، وصدر المجلد الثاني من كتابه بصورته التي رسمها له رينولدز. وكان يحمل علبة نشوق في خاصرته، وينقر عليها نقراً خفيفاً إذا احتد أو أراد أن يصغي إليه سامعيه. وكان أـنانياً شأن أي رجل له هدف يستغرقه. ولكنه كان صادقاً "لقد وهبت مزاجاً بشوشاً، وحساسية معتدلة (ولكن دون إسراف في العاطفة) وميلاً فطرياً للاسترخاء"(103). وفي 1775 أنتخب عضواً في "النادي". وكان كثير التردد عليه نادر الكلام فيه، يبغض فكرة جونسن عن الحديث. وكان جونسن يعلق على "دمامة" جبون على نحو مسموع أكثر مما ينبغي(104)، أما جبون فكان يصف هذا "الدب الأكبر" بأنه "علام حكيم" وأنه "عدولاً يغفر"، و"عقل متعصب تعصباً أعمى وإن كان قوياً، يتلقف أي عذر ليبغض من يخالفون عقيدته ويضطهدهم"(105). وأما بوزويل، الذي لم يكن يشعر بشفقة على غير المؤمنين، فقد وصف المؤرخ بأنه "إنسان دميم مغرور مقزز" ينغص على "منتدانا الأدبي". ومع ذلك فلا بد أن جبون كان له أصدقاء كثيرون، لأنه في لندن كان يتناول العشاء خارج بيته كل ليلة تقريباً.

وقد قدم من لوزان إلى لندن في أغسطس 1787 ليشرف على طبع المجلدات الرابع والخامس والسادس، والتي صدرت في عيد ميلاده الحادي والخمسين في 8 مايو 1788، وأتته بأربعة آلاف من الجنيهات، ويعد هذا من أعلى الأتعاب المدفوعة لمؤلف في القرن الثامن عشر. ويقول "أن خاتمة مؤلفي عمت قراءتها واختلف الحكم عليها... ومع ذلك يبدو على الجملة أن "تاريخ الاضمحلال والسقوط قد أصل جذوره سواء في أرض الوطن أو خارجه، ولعل ذمه سيستمر بعد مائة عام"(106). وكان آدم سمث قد وضعه فعلاً "على رأس معشر الأدباء قاطبة، والموجودين الآن في أوربا"(107). وفي 13 يونيو 1788، خلال محاكمة هيستنجز في وستمنستر هول، طاب لجبون أن يسمع من شرفة الزوار شريدان يشير في خطاب من أروع خطبه إلى "صفحات جبون الوضاءة" (Luminous)(108). وفي رواية غير محتملة التصديق أن شريدان زعم فيما بعد أنه قال (Voluminous) أي غزيرة الإنتاج(109)، ولكنها صفة لا يمكن أن تنعت بها الصفحات، والصفة الأولى هي ولا ريب اللفظ المطابق لمقتضى الحال.

وفي يوليو 1788 قفل جبون إلى لوزان. وبعد عام مات ديفرادن مخلفاً بيته لجبون ما بقي من عمر المؤرخ. هنالك عاش جبون في رغد، يقوم على خدمته عدة خدم ويأتيه دخل قدره 1.200 جنيه في العام، وشرب النبيذ الكثير، وزاد نقرسه ومحيط خصره، "من 9 فبراير إلى أول يوليو 1790 عجزت عن التحرك من بيتي أو مقعدي"(110). إلى هذه الحقبة التي تنتمي الأسطورة التي زعمت أنه جثا عند قدمي مدام كروزاز يبوح لها بحبه، وأنها طلبت إليه أن ينهض، وأنه لم يستطع لثقل جسمه(111). والمصدر الوحيد للقصة هو مدام جفليس التي وصفها سانت- بوف بأنها "امرأة خبيثة اللسان"(112)؛ وقد رفضت ابنتها القصة وقالت أن سببها هو الخلط بين الأشخاص"(113).

ثم قطعت الثورة الفرنسية على جبون هدوءه. وترددت المشاعر الثورية في الأقاليم السويسرية، وجاءت الأنباء بهياج مماثل في إنجلترا. وكان لجبون كل العذر في خوفه من أن تسقط الملكية الفرنسية، لأنه كان يستثمر 1.300 جنيه في قرض للحكومة الفرنسية(114). وكان قد كتب عام 1788، في نبوءة لم يوفق فيها، أن الملكية الفرنسية "تقف، كما يبدو، على أساس من صخر الزمن، والقوة، والرأى، تساندها أرستقراطية ثلاثية من الكنيسة والنبلاء والبرلمانات"(115)، وقد اغتبط حين أصدر بيرك كتابه "تأملات في الثورة في فرنسا" (1790)، وكتب إلى اللورد شفيلد محذراً من أي إصلاح في النظام السياسي البريطاني، "ولو سمحتم بأدنى تغيير وأكثره تمويهاً في نظامنا البرلماني لقضي عليكم"(116). وراح الآن يتحسر على نجاح جماعة الفلاسفة في حربهم التي شنوها على الدين، "لقد خطر لي أحياناً أن أكتب حواراً بين الموتى، يتبادل فيه لوسيان وارزم وفولتير الاعتراف بخطر تعريض خرافة قديمة لاحتقار الجماهير العمياء المتعصبة"(117). وحث بعض زعماء البرتغاليين على ألا يتخلوا عن ديوان التفتيش خلال هذه الأزمة التي هددت كل العروش(118).

ورحل جبون عن لوزان (9 مايو 1793) وأسرع بالعودة إلى إنجلترا، من جهة هرباً من جيش الثورة الفرنسية المقترب من لوزان، ومن جهة أخرى التماساً للجراحة الإنجليزية، ولسبب قريب هو تعزية اللورد شفيلد في وفاة زوجته، فوجد شفيلد في شغل بالسياسة عجل بسلواه. وكتب جبون يقول "شفي المريض قبل وصول الطبيب"(119). وأذعن المؤرخ نفسه الآن لأوامر الأطباء، لأن فيلته كانت قد بلغت من التضخم "حجم طفل صغير تقريباً... إنني أزحف وحفاً بشيء من الجهد وكثير من عدم اللياقة"(120) وقد صرفت إحدى الجراجات جالوناً من "السائل المائي الشفاف" من الخصية المريضة. ولكن السائل تجمع ثانية، وأخرج بزل ثان ثلاثة أرباع الجالون، واستشعر جبون الراحة مؤقتاً، واستأنف الخروج للعشاء. ولكن الفيلة تكونت من جديد، وباتت الآن عفنة. وفي 13 يناير بزلت للمرة الثالثة. وبدا أن جبون يتماثل للشفاء سريعاً، وسمح له الطبيب بأكل اللحم، وأكل جبون بعض الدجاج وشرب ثلاث أكواب من النبيذ. فأصابته آلام معوية شديدة حاول كما حاول فولتير تخفيفها بتعاطي الأفيون. ولكن في 16 يناير مات بالغاً السادسة والخمسين.


د - المؤرخ

لم يكن جبون ملهماً في مرآه ولا في خلقه ولا في سيرته، فعظمته كلها انسكبت في كتابه، في فخامة فكرته وشجاعتها، وفي الصبر على تأليفه والتفنن فيه، وفي الجلال الوضاء الذي كلله كله.

أجل، لقد صدق شريدان فيما قال، فأسلوب جبون وضاء بالقدر الذي يسمح به التهكم، وقد ألقى الضوء أينما اتجه، اللهم إلا حين يحجب الهوى رؤيته. وقد شكلت أسلوبه دراساته اللاتينية والفرنسية، فرأى الألفاظ الأنجلو- سكسونية البسيطة لا تناسب وقار مذهبه في الكتابة.، وكثيراً ما كتب كأنه خطيب يخطب، وما أشبهه في هذا بليفي يشحذه هجاء تاسيتوس، وببيرك تجلوه فكاهة بسكال الذكية. وكان يوازن بين جمله بمهارة المشعوذ وجذله، ولكنه أسرف في تكرار لعبته هذه حتى قاربت الرتابة المملة أحياناً. وإذا كان أسلوبه يبدو فخماً طناناً، فإنه الأسلوب اللائق بترامي موضوعه وبهائه- وهو تفتت أعظم إمبراطورية شهدها العالم على مدى ألف عام. ومآخذ أسلوبه العرضية تتوه وسط زحام الرواية وقوة الأحداث، والصور والأوصاف الكاشفة، والتلخيصات الباتة التي تجمل قرناً بأسره في فقره، وتزاوج بين الفلسفة والتاريخ.

ولقد شعر جبون بعد أن اضطلع بهذا المبحث المترامي أن له الحق في تضييق حدوده ويقول "إن الحروب، وإدارة الأمور العامة، هما موضوعا التاريخ الرئيسيان"(120)، ومن ثم أغفل تاريخ الفن والعلم والأدب، فلم يكن لديه ما يقوله عن الكاتدرائيات القوطية أو المساجد الإسلامية، ولا عن العلم أو الفلسفة العربيين، وقد توج بترارك، ولكنه مر بدانتي مرور الكرام. ولم يكد يلقي بالاً إلى حال الطبقات الدنيا، أو قيام الصناعة في القسطنطينية أو فلورنسة في العصر الوسيط. وفقد اهتمامه بالتاريخ البيزنطي التالي لموت هرقل (641). وفي رأي بيوري "أن جبون أخفق في إبراز حقيقة خطيرة، هي أن الإمبراطورية الرومانية الشرقية كانت حتى القرن الثاني عشر حصن أوربا الحصين في وجه الشرق، كذلك لم يقدر أهميتها في الحفاظ على تراث المدينة الإغريقية"(122)، غير أن جبون في نطاق الحدود التي رسمها لنفسه بلغ العظمة بربطه النتاج بالأسباب الطبيعية، وبتحويله ضخامة مواده إلى ترتيب مفهوم ورؤيته هادية للصورة بأكملها.

لقد كان علمه واسعاً كثير التفاصيل. فحواشيه ذخيرة من المعرفة تلطفها الفكاهة الذكية، وقد درس أعوص جوانب العالم القديم، بما فيه من طرق وعملات وموازين ومقاييس وقوانين؛ ووقع في أخطاء صححها المتخصصون، ولكن بيوري هذا الذي بين مآخذه أضاف: "لو أخذنا في الاعتبار المدى الشاسع لمؤلفه لأدهشتنا دقته"(123)ولم يستطع أن ينقب في المصادر الأصلية غير المنشورة (كما يفعل محترفو المؤرخين ممن يقتصرون على رقعة صغيرة من الموضوع والزمان والمكان)، ولكي يتم عمله اقتصر على المادة المطبوعة، واعتمد بصراحة على مراجع ثانوية مثل كتاب أوكلي "تاريخ المسلمين" أو كتابي تلمون "تاريخ الأباطرة" و "التاريخ الكنسي"؛ وبعض المراجع التي اعتمد عليها مرفوضة الآن لأنها غير موثوق بها(124). وقد أفصح عن مصادره في تفصيل أمين وشكر مؤلفيها؛ من ذلك أنه قال في هامش حين جلوز الفترة التي تناولها تلمون: "هنا عليّ أن أستأذن إلى الأبد من ذلك المرشد الذي لا يبارى"(125).

ترى ما النتائج التي خلص إليها جبون من دراسته للتاريخ؟ إنا نراه أحياناً يتبع جماعة الفلاسفة الفرنسيين في قبول حقيقة التقدم: "يجوز لنا أن نرتضي النتيجة السارة التي تذهب إلى أن كل عصر في العالم زاد وما زال يزيد من ثروة النوع الإنساني الحقيقية، وسعادته، ومعارفه، وربما فضائله"(126)، ولكنه في لحظات أقل إشراقاً- وربما لأنه قد اتخذ الحرب والسياسة (واللاهوت) مادة للتاريخ- حكم على التاريخ بأنه "في الحق لا يعدو كثيراً أن يكون سجلاً لجرائم الإنسان وحماقاته ونكباته" (127) ولم ير في التاريخ قصداً مرسوماً؛ فالأحداث ثمرة أسباب لا موجه لها، فهي متوازي أضلاع من قوى ذات أصل مختلف ونتيجة مركبة. وفي كل هذه المشاكل من الأحداث يبدو أن الطبيعة البشرية تظل دون تغيير. ولقد ابتلى النوع الإنساني دائماً وسيظل دائماً مبتلى، بالقسوة والمعاناة والظلم، لأنها هذه كلها مركبة في طبيعة البشر"، إن الإنسان خليق بأن يخشى من ثورات إخوانه من البشر أكثر كثيراً مما يخشى اضطرابات الطبيعة العنيفة(129).

لقد تاقت نفس جبون وهو ربيب التنوير إلى أن يكون فيلسوفاً، أو على الأقل أن يفلسف التاريخ. "أن العصر المستنير يطالب المؤرخ بمسحة من الفلسفة والنقد"(130). وكان يحب أن يقطع روايته بتعليقات فلسفية. ولكنه لم يزعم أنه يرد التاريخ إلى قوانين أو يصيغ "فلسفة التاريخ". على أنه اتخذ له موقفاً في بعض المسائل الأساسية: فقد قصر تأثير المناخ على العصور الأولى من المدنية، ورفض أن يكون العرق عاملاً حاسماً(131)؛ وأقر، في حدود بتأثير الأفذاذ من الرجال. "أن أهم المشاهد في الحياة البشرية تتوقف على أخلاق ممثل فرد. فقد يحتد عرق في رجل واحد فيغير مصير أمم"(132). وحين كان في استطاعة قريش أن تغتال محمداً (صلى الله عليه وسلم) "كان من الجائز أن يغير رمح عربي تاريخ العالم"(133). ولو لم يهزم شارل مارتل المغاربة في تور (732) لاكتسح المسلمون أوربا بأسرها، "ولكان تفسير القرآن يدرس الآن في مدارس أكسفورد، ولكان تلاميذه يفسرون لشعب من المختونين قدسية الوحي الذي نزل على النبي وصدقه"(134). على أنه لا بد للفرد الفذ من أن يرتكز على سند واسع إن أراد أن يحرز أقصى نفوذ على عصره. "أن النتائج التي يحققها الإقدام الشخصي ضئيلة جداً، إلا في الشعر أو الرومانس، بحيث يجب أن... يعتمد النصر على درجة المهارة التي ستعان بها لتجميع عواطف الجماهير المشبوبة وتوجيهها لخدمة رجل فرد"(135).

صفوة القول أن "اضمحلال الدولة الرومانية وسقوطها" يمكن على الجملة أن يعد الكتاب الأعظم للقرن الثامن عشر، وكتاب مونتسكيو "روح القوانين" أقرب منافس له. صحيح أنه لم يكن أكثر الكتب تأثيراً، ولم يكن في تأثيره على التأريخ تقريعاً لكتاب روسو "العقد الاجتماعي" أو لكتاب آدم سمث "ثروة الأمم"، أو لكتاب كانت "نقد العقل الخالص". ولكنا إذا نظرنا إليه بوصفه أثراً أدبياً وجدناه لا يبارى في جيله أو نوعه. فإذا سألنا كيف أتيح لجبون أن ينتج هذه الرائعة أدركنا أن السر كان في الارتباط الذي تصادف أن ربط بين الطموح والمال والفراغ والكفاية؛ ولا ندري متى يمكن أن نتوقع تكرار هذا الارتباط ثانية. ولقد قال مؤرخ آخر لروما هو باتولدنيبور "أن كتاب جبون لن يبزه كتاب أبداً"(136).


6- تشاترتن وكوبر

من يظن الآن أن أحب الشعراء الإنجليز الأحياء إلى قلوب الناس في عام 1760 هو تشارلز تشرشل؟ كان ابناً لقسيس، وقد رسم هو نفسه قسيساً أنجليكانياً، غير أنه هوى مباهج لندن، وصرف زوجته، وغرق في الديون، ونظم قصيدة حظيت بالشهرة يوماً ما، هي "الروسكياده" (1761) وأتاحت له الوفاء بديونه، وتقرير معاش لزوجته، و"أن يطلع على الناس في زي لا ديني على نحو صارخ كفتى من فتيان لندن العصريين"(137). وقد اتخذ قصيدته اسمها من كوينتس روسكيوس الذي سيطر على المسرح الروماني أيام يوليوس قيصر؛ وهجت القصيدة كبار ممثل لندن، وجعلت جاريك يحفل؛ وذكر عن أحد ضحاياه أنه "كان يجري في شوارع المدينة كأنه ظبي جريح(138). وقد انضم تشرشل إلى ولكس في شعائر "مدمنهام آبي" الفاجرة، وأعانه على تحرير صحيفة "النورث بريتون"، وذهب إلى فرنسا ليقاسم ولكس منفاه، ولكنه مات في بولون (1764) إثر سكرة فاجرة، و بـ "لا مبالاة أبيقورية"(139).

وهناك قسيس آخر يدعى توماس بيرسي عاش حياة تليق بردائه الكهنوتي، وأصبح أسقفاً على درومور في إيرلندة، وترك بصمته على الأدب الأوربي حتى استنقذ مخطوطاً قديماً من يد خادم كانت على وشك إحراقه، وقد أمده المخطوط بأحد المصادر لكتابه "آثار من الشعر القديم" (1765) وراقت هذه القصائد القصصية الشعبية التي تنتمي لبريطانيا في العصر الوسيط المخضرمين من القراء، وشجعت الروح الرومانتيكية-التي طالما كتبتها النزعة العقلية والمزاج الكلاسيكي-على الأعراب عن نفسها شعراً وقصصاً وفناً. وقد أرخ وردزورث من هذه الآثار ظهور الحركة الرومانتيكية في الأدب الإنجليزي. وكانت أشعار مكفرسن "أوسيان"، وقصائد تشاترتن، وقصائد ولبول "قلعة أوترنتو" و "ستروبري هل"، وقصيدتا بكفورد "فاذك" و "فونتل آبي"-هذه كلها كانت أصواتاً شتى في صيحة تدعو للوجدان والغموض والرومانس، وتملكت العصور الوسطى الروح العصرية برهة.

وقد بدأ توماس تشاترتن محاولته لتشرب العصر الوسيط بإطالة النظر في رقاق عتيقة عثر عليها عمه في كنيسة بيرستل. وقد شب هذا الغلام الحساس الخصب الخيال-الذي ولد ببرستل (1752) عقب موت أبيه-في عالم من صنع خيالاته التاريخية. وقد درس قاموساً للألفاظ الأنجلو-سكسونية، ونظم في لغة خالها لغة القرن الخامس عشر قصائد ادعى أنه عثر عليها في كنيسة سانت ماري راد كليف، ونسبها إلى توماس راولي، وهو راهب وهمي من رهبان القرن الخامس عشر. وفي 1769، حين بلغ السابعة عشرة، أرسل بعض "قصائد راولي" هذه إلى هوراس ولبول-الذي كان هو ذاته قد نشر "أوترانتو" زاعماً أنها من شعر العصر الوسيط الأصيل قبل ذلك بخمس سنوات. وأطرى ولبول القصائد ودعا لإرسال المزيد منها، فأرسل تشاترتن المزيد، وطلب العون على إيجاد ناشر ينشرها، ووظيفة مجزية في لندن. وعرض ولبول القصائد على توماس جراي، ووليم ميسن، فحكم كلاهما عليها بأنها مزيفة. وكتب ولبول إلى تشاترتن أن هذين الأديبين "غير مقتنعين إطلاقاً بصحة مخطوطه المزعوم" ونصحه بأن يطرح الشعر جانباً حتى يستطيع كسب قوته. ثم رحل ولبول إلى باريس ونسي أي يرد القصائد لصاحبها. وكتب تشاترتن في طلبها ثلاث مرات، وانقضت ثلاثة أشهر قبل أن تصله(140).

وذهب الشاعر إلى لندن (إبريل 1770) وسكن علية في شارع بروك بهوبورن. وأرسل إلى دوريات شتى مقالات منحازة لولكس، وبعض قصائد راولي، ولكن حصيلة الأجر الذي تلقاه عنها (ثمانية عشر بنساً للقصيدة) كانت أقل من أن تقيم أوده، فحاول الحصول على وظيفة مساعد جراح على باخرة تجارية أفريقية ولكنه أخفق-وفي 27 أغسطس نظم وداعاً مراً للعالم:

وداعاً يا أكوام الآجر القذرة في برستوليا،
يا عشاق المال، وعباد الخديعة والختل!
لقد ازدريتم الفتى الذي أعطاكم الأغاني القديمة،
وأثبتم المعرفة بالمديح الفارغ.
وداعاً أيها الحمقى من الرؤساء السكارى،
الذين هيأتكم الطبيعة مطية للفساد!
وداعاً أمي! وكفى أنت يا روحي المضناة،
ولا تدعي أمواج الحيرة والذهول تطغى علي!
رحماك أيتها السماء إن أنا كففت عن العيش هنا،
واغفري لي هذه الفعلة الآخرية من أفعال الشقاء.

ثم انتحر بشرب الزرنيخ بالغاً من العمر سبعة عشر عاماً وتسعة أشهر. ودفن في قبر من قبور الفقراء المعدمين.

وقصائده تملأ اليوم مجلدين. ولو كان قد وصفها بأنها تقليد لا أصل فلربما اعترف له بأنه شاعر أصيل، لأن بعض قصائد راولي لا تقل جودة عن معظم القصائد الأصلية من هذا النوع ذاته. وكان حين كتب شعراً باسمه يستطيع نظم شعر هجائي يكاد يضارع شعر بوب، كما نرى في قصيدته "المثودي"(141)، أو في سبعة عشر بيتاً-هي أهجى شعره كله-يسوط فيها ولبول متملقاً ذليلاً غليظ القلب(142). فلما أن نشرت مخطوطاته المتخلفة (1777) اتهم المشرف على نشرها ولبول بأن عليه تقع بعض التبعية في موت الشاعر، ودافع ولبول عن نفسه بأنه لم يشعر بأي التزام بمساعدة مزيف مصر على التزييف(143). وأصر بعض ذوي القلوب الرحيمة كجولد سمث على أن القصائد أصلية لا مزيفة، وضحك جونسن من صديقه، ولكنه قال: "هذا أعجب شاب عرفته، غريب كيف كتب الجرو كلاماً كهذا"(144). أما شلي فقد خلد ذكرى الفتى تخليداً موجزاً في قصيدته "أدونيس"(145)، وأما كيتس فقد نظم قصيدته "انديميون" في ذكراه.

لقد هرب تشاترتن من واقع برستل ولندن والكئيب عن طريق أساطير العصر الوسيط والزرنيخ. أما وليم كوبر فقد هرب لندن التي عشقها جونسن إلى البساطة الريفية، والإيمان الديني، والجنون الدوري. وقد رأى جده من تهمة القتل وأصبح قاضياً، وكان أبوه قسيساً أنجليكانياً. وأمه تنتسب إلى الأسرة التي أنجبت جون دن. وقد ماتت وهو في السادسة، مخلفة له ذكريات حزينة لحد بها حبها، وحين أرسل له ابن عم له بعد ثلاثة وخمسين عاماً صورة قديمة لأمه استعاد في قصيدة رقيقة(146) تلك الجهود التي كثيراً ما بذلتها المخاوف التي أظلمت ليالي طفولته.

وقد انتقل من هاتين اليدين الرقيقتين في عامه السابع إلى مدرسة داخلية أصبح فيها المسخر الجبان لطالب متنمر أرهقه بكل ثقيل مذل من الواجبات. وأصيب بالتهاب في عينيه، فاضطر أن يظل أعواماً تحت رعايا رمدي. وفي 1741، حين بلغ العاشرة، بعث إلى مدرسة وستمنستر في لندن. وبدأ في السابعة عشرة الاشتغال ثلاثة أعوام كاتباً في مكتب محام بهوبورن. واكتمل الآن نضجه للرومانس، وكانت ابنة عمه تيودورا كوبر تعيش بقربه، فغدت معبودة أحلام يقظته. وحين بلغ الحادية والعشرين اتخذ له مسكناً في "المدل تمبل"، وفي الثالثة والعشرين سمح له بالاشتغال بالمحاماة. وإذ كان كارهاً للقانون، شديد الإحجام أمام المحاكم، فقد ابتلى بحالة من الوهم المرضي، ازدادت عمقاً حين نهى تيودورا أبوها عن أي اتصال بابن عمها. ولم يرها كوبر بعدها قط، ولم ينسها قط، ولم يتزوج قط.

وفي 1763، حين واجه ضرورة المثول أمام مجلس العموم، انهارت أعصابه، واختلط عقله، وحاول الانتحار. وأرسله بعض أصحابه إلى مستشفى للأمراض العقلية في سانت أولبنز. وأفرج عنه بعد ثمانية عشر شهراً، وآثر العيش في هنتنجدن قرب كمبردج معتزلاً الناس تقريباً. وقال إنه الآن "لا يرغب في أي صحبة إلا صحبة الله والمسيح"(147). وقد قبل العقيدة الكلفنية بحذافيرها، وأطال التفكير في الخلاص والهلاك الأبدي. وألقت به الصدفة السعيدة بين يدي أسرة محلية كان إيمانها مجلبة للسلام والرحمة لا للخوف، وأفرادها هم القس مورلي أنوين، وزوجته ماري، وابنه وليم، وابنته سوزانا. وقد شبه كوبر أب هذه الأسرة بالقس أدمز في قصة فيلدنج "جوزف أندروز"، ووجد أماً ثانية له في السيدة أنوين التي كانت تكبره بسبع سنين، وقد عاملته هي وابنتها معاملة الابن والأخ، وأسبغتا عليه من عطف المرأة الرقيق ما كاد يجيب إليه الحياة من جديد. ودعته الأسرة للعيش معها، ففعل (1765) ووجد الشفاء في حياتها البسيطة.

ولكن هذا النعيم زال فجأة حين قتل الأب إثر سقطة من فوق جواده. وانتقلت الأرملة والابنة إلى أولني في بكنجهامشير واصطحبتا معهما كوبر، ليكونوا كلهم قريبين من الواعظ الإنجيلي الشهير جون نيوتن. وقد أقنع كوبر أن ينضم إليه في افتقاد المرضى وتأليف الترانيم. واحتوت إحدى "ترانيم أولني" هذه أبياتاً مشهورة:

إن الله يتحرك بطريقة خفية
ليصنع عجائبه،
أنه يزرع خطاه في البحر
ويركب فوق العاصفة(148).

على أن مواعظ نيوتن المنذرة بنار الجحيم، والتي "هزت توازن الكثيرين من أعضاء كنيسته" لم أهدئ من مخاوف الشاعر اللاهوتية بل زادتها حدة(149). يقول كوبر "إن الله يبدو لي دائماً رهيباً إلا حين أراه تعالى وقد تجرد من شوكته لأنه أغمدها في جسد المسيح"(150) وعرض الزواج على السيدة أنوين، ولكن نوبة ثانية من نوبات الجنون (1773) حالت دون زواجهما، ثم تماثل للشفاء بعد ثلاث سنين من العناية البشرية بالمحبة. وفي 1779 رحل نيوتن عن أولني، واتخذت تقوى كوبر مظهراً أكثر اعتدالاً.

وأعانت نساء أخريات ماري أنوين على إبقاء الشاعر على صلة بالأرضيات. فتركت الليدي أوستن، الأرملة المرحة، بيتها اللندني وقصدت أولني، واتصلت بآل أنوين، وجلبت المرح والحبور إلى بيت طال تركيزه على المآسي العارضة للحياة. وهذه السيدة هي التي روت لكوبر القصة التي أحالها إلى "تاريخ جون جلين المسلي"(151)، ورحلته الوعرة التي أكره عليها. وأرسل صديق للأسرة هذه القصة الشعرية المرحة لإحدى الصحف، وألقاها ممثل كان قد خلف جاريك على مسرح دروري لين هناك؛ فغدت حديث لندن السائر، وذاق كوبر طعم الشهرة لأول مرة. ولم يكن قد أخذ شاعريته من قبل مأخذ الجد، ولكن الليدي أوستن حثته الآن على أن ينظم شعراً ذا قيمة. ولكن في أي موضوع ينظمه؟ أجابت في أي شيء، وأشارت إلى أريكة، ثم فرضت عليه واجب إذاعة شهرتها في شعره. وقد سره أن تأمره امرأة فاتنة، فنظم قصيدة "الواجب". وحين نشرت القصيدة عام 1785 استقبلها الناس بالترحيب بعد أن ملوا الحرب والسياسة وصراع المدينة.

وكتابة أو قراءة ستة "كتب" عن أريكة واجب ثقيل حقاً ما لم يؤت المرء خلق "كريبيون" الابن(152)؛ ولكن كوبر كان لديه من الفطنة ما يكفي لاستخدامها نقطة انطلاق لا أكثر. فبعد أن جعل منها القمة في قصة فكهة عن المقاعد، تسلل إلى موضوعه المفضل الذي يمكن اجماله في بيت القصيد الذي يقول "لقد صنع الله الريف، أما الإنسان فصنع المدينة"(153). وقد اعترف الشاعر بأن الفن والبلاغة مزدهران في لندن، وأثنى على رينولدز وشاتام، وتعجب من العلم الذي "يقيس الذرة ويطوق العالم الآن"(154). ولكنه وبخ "ملكة المدائن على عقابها بالموت بعض السرقات التافهة، على حين تغدق أسباب التشريف على "مختلس المال العام". يقول:

من لي بكوخ في برية شاسعة
يكتنفه ظل مترام لا حدود له،
حيث لا تقرع سمعي بعدها
أنباء الظلم والخداع،
ولا أخبار الحرب الخاسرة أو الظافرة،
إن أذني لتتأذى، ونفسي لتشمئز،
بما يأتي به كل يوم من أنباء
العدوان والمظالم التي تمتلئ بها الأرض(155).

وقد روعه الاتجار بالرقيق، وكان صوته أحد الأصوات الإنجليزية الأولى التي نددت بالرجل الذي:

يرى أخاه مذنباً بجريرة جلد
لونه غير لون جلده؛ إذ كان له
من القوة ما يمكنه من إنقاذ الباطل..
فهو يدينه ويتملكه فريسة حلالاً...
فما الإنسان إذن؟ وأي إنسان له مشاعر البشر
يرى هذا ولا يحمر وجهه خجلاً،
ولا ينكس خزياً من مجرد الفكرة بأنه إنسان؟(156)

ومع ذلك يختتم بهذه العبارة "

أنني ما زلت أحبك رغم كل أخطائك يا إنجلترا"(157).

وقد أحس أن هذه الأخطاء تخف إن ثابت إنجلترا إلى الدين وحياة الريف. "كنت ظبياً جريحاً ترك القطيع" أي أنه ترك لندن حيث "تدفعنا العاهرات بالمرافق، ووجد شفاءه في الإيمان والطبيعة. تعال إلى الريف! وتأمل نهر أوز "يحتوي مخترقاً سهلاً مستوياً"، ثم هاتيك الماشية المطمئنة وكوخ الفلاح وساكنيه الأشداء، وبرج القرية يرمز للحزن والرجاء! واستمع إلى رشاش مساقط المياه، وزرقة الطيور في الصباح. إن لكل فصل أفراحه في الريف، فأمطار الربيع بركة، وثلوج الشتاء نقية. وما أبهج السير الثقيل وسط الثلوج ثم التجمع حول نار المدفأة في المساء!".

ولم يكتب كوبر شيئاً ذا بال بعد "الواجب". وفي 1786 انتقل ثانية إلى وستن أند روود القريبة، وهناك كابد نصف عام آخر من الجنون. وفي 1792 أصيبت السيدة أنوين بالفالج، وظلت ثلاث سنين عليلة عاجزة؛ فمرضها كوبر كما مرضته من قبل، وفي آخر شهر في حياتها كتب أبياته التي عنوانها "إلى ماري أنوين":

إن خصلك الفضية التي كانت يوماً ما حمراء مشرقة
ما زالت في ناظري أحب إلي
من أشعة الصبح الذهبية
يا عزيزتي ماري!(158)

وفي 1794، حين أثقلته الهموم، وأرهقه جهده في ترجمة غير موفقة لهومر، التالف عقله مرة أخرى، فحاول الانتحار: ثم شفي، وأعفاه من عيشة الضنك معاش حكومي قدره 300 جنيه. ولكن ماري أنوين ماتت في 17 ديسمبر 1796، وشعر كوبر أنه ضائع مهجور رغم أنه وجد صديقة جديدة في أخت تيودورا، وهي الليدي هاريبت كوبر هسكث. لازمته المخاوف الدينية في أيامه الأخيرة، ثم قضى نحبه في 25 أبريل 1800 بالغاً الثامنة والستين.

وكان في عالم الأدب ينتمي إلى الحركة الرومانتيكية وفي عالم الدين إلى الحركة الإنجيلية. وقد اختتم عصر سيادة بوب على الشعر ومهد لورزدزورث، وأدخل في الشعر طبيعة في الشكل وصدقاً في المشاعر أوقف سيل الثنائيات المفتعلة الذي أطلقه "العصر الأوغسطي" على إنجلترا. وكان دينه لعنة عليه لأنه صور له إلهاً منتقماً وجحيماً لا غفران فيه، ومع ذلك فلعل الدين هو الذي دفع أولئك النسوة الرحيمات، كما دفعتهن غرائز. الأمومة، إلى الحدب على هذا "الظبي الجريح" في كل أحزانه وأفكاره السوداء.

7- أولفر جولدسمث

وكان لـ "بل المسكين" هو أيضاً مآسيه، غير أنها لم تعمقها عقيدة سادية، وخففت منه انتصارات في النثر والشعر وعلى خشبة المسرح.

كان أبوه خورياً أنجليكانياً متواضعاً في قرية إيرلندية، يكسب أربعين جنيهاً في العام بإضافة الفلاحة إلى اللاهوت. فلما أن بلغ أولفر الثانية من عمره (1730) رقي الخوري قسيساً لكيلكيني وست، وانتقلت الأسرة إلى بيت يقع على طريق رئيسي قرب ليسوي، التي غيرت في تاريخ لاحق اسمها في ضمير الشاعر إلى "أوبرن" حين نظم قصيدته "القرية المهجورة".

والتحق جولدسمث بالمدرسة الأولية تلو المدرسة، وكان أنصع ذكريات أيامه المدرسية تلك ذكرى أمين إمدادات سابق في الجيش تحول معلماً، ولم يستطع قط أن ينسى حروبه، ولكنه كان إلى ذلك يروي لتلاميذه القصص الساحرة عن الجان وأرواح المنذرات بالموت والعفاريت. وحين بلغ الصبي التاسعة أشرف على الموت من الجدري، وزاد هذا المرض على ذلك تشويهاً ابتلى به وجهه من أقل الوجوه حظاً من الوسامة وهب لروح لطيفة محببة. وفي الخامسة عشرة التحق بكلية ترنتي في دبلن طالباً معاناً، يرتدي ثوباً يميزه، ويؤدي خدمات حقيرة، ويلاحقه معلم مستبد بمضايقاته. فهرب إلى كورك، مزمعاً أن يحاول الرحلة إلى أمريكا، غير أن أخاه الأكبر منه "هنري" أدركه ولاطفه فاقتنع بالعودة إلى الكلية. وتفوق أولفر في الدراسات الكلاسيكية، غير أن دراسة العلوم استعصت عليه، ولكنه على أي حال أفلح في نيل درجة البكالوريوس.

ثم تقدم بطلب لوظيفة كنسية صغيرة، ولكنه أدهش الأسقف بما ارتداه من سراويل قرمزية واشتغل معلماً خاصاً بعد أن رفض طلبه، وتشاجر مع تلميذه، ويمم ثانية شطر كورك وأميركا. فتدخل في الأمر عم له أقرضه خمسين جنيهاً ليذهب إلى لندن، وخسر أولفر المبلغ كله في بيت للقمار. وقد أفزع أقرباءه لما لحظوا فيه من عجز وقلة حيلة، ولكن سحرهم مرحه ونايه وأغانيه. وجمع له بعض المال للإنفاق على دراسته الطب في إدنبرة ثم في ليدن. وقد حقق بعض التقدم، ويقص علينا أنه كان في باريس يختلف إلى محاضرات روويل في الكيمياء. ثم انطلق على مهل (1755) يتجول في أنحاء فرنسا، وألمانيا، وسويسره، وشمالي إيطاليا، يعزف على نايه في المراقص الريفية، ويظفر بوجبات طعام كيفما اتفق له، ويتلقى الصدقات على أبواب الأديرة(159). ثم عاد إلى إنجلترا في يناير 1756 ومارس الطب في لندن، وصحح تجارب الطبع لصموئيل رتشردسن، واشتغل معلماً بمدرسة في صري، ثم استقر في لندن كاتباً مأجوراً يقوم بأشتات من الأعمال الدبية غير المنتظمة ويكتب المقالات للمجلات. وقد كتب في أربعة أسابيع "حياة فولتير". وفي 1759 أقنع ددسلي بأن ينشر كتاباً سطحياً اسمه "تحقيق في أحوال الثقافة الراقية في أوربا". وقد أساءت تعليقات التحقيق حول مديري المسارح إلى جاريك إساءة لم ينسها قط. وزعم هذا التحقيق أن عصور الأدب الخلاق تنحو إلى أن تتلوها عصور نقد، وتستنبط قواعد من أعمال المبدعين، وتنزع إلى تقييد أسلوب الشعراء الجدد وتعويق خيالهم. وقد رأى جولدسمث أن أوربا كانت تمر بهذه الحال في 1759.

وبعد عام كتب لصحيفة نيوبري "ببلك لدجر" بعض "الرسائل الصينية" التي أعيد نشرها في 1762 بعنوان "مواطن العالم". أما خطتها فقديمة: فهي تصور رحالة شرقياً يروي أساليب عيش الأوربيين في ضحك واشمئزاز شديد، فنرى "لاين تشي ألتانجي" يصف في رسائله إلى صديق له في وطنه، أوربا مسرحاً فوضوياً للجشع والطمع والدسائس. وقد نشر جولدسمث الكتاب غفلاً من اسمه، غير أن أهل فليت ستريت (شارع الصحافة) تبينوا أسلوبه في اللغة البسيطة، والأوصاف النابضة بالحياة، والنبرة اللطيفة المحببة، فلما أحس بشهرته انتقل إلى مسكن أفضل في رقم 6 بشارع واين أوفس كورت. وكان قد أطرى جونسن في "الرسائل الصينية" فجرؤ الآن على دعوة واضع المعجم إلى العشاء (وكان يسكن على جانب الطريق المقابل). وحضر جونسن، وبدأت من يومها صداقتهما المديدة (31 مايو 1761).

وحدث في يوم من أيام أكتوبر 1762 أن تلقى جونسن رسالة عاجلة من جولدسمث يطلب فيها العون. فأرسل إليه جنيهاً، وحضر بعد قليل، فوجد أن جولدسمث يوشك أن يقبض عليه لعدم دفعه أجرة مسكنه: وسأل جونسن صديقه إن كان لديه شيء ذو قيمة يرهنه أو يبيعه. فأعطاه جولدسمث مخطوطاً عنوانه "قسيس ويكفيلد". ويقول جونسن(160). إنه طلب إلى صاحبة الدار أن تنتظر، وقدم القصة إلى الكتبي جون نيوبري، وباعها له بستين جنيهاً. ثم دفع بالنقود إلى جولدسمث، فسدد هذا الإيجار واحتفل بهذه المناسبة بزجاجة من النبيذ. واحتفظ الكتبي بالمخطوط أربع سنين دون أن ينشره.

وفي ديسمبر 1764 طلع جولدسمث بأول قصائده الكبرى "الرحالة أو إطلالة على المجتمع" وقد استعاد فيها جولاته في القارة، ووصف ما في كل قطر من نقائض وفضائل، ولاحظ أن كل بلد يحب نفسه خير بلاد الله. وفاخر بقوة إنجلترا "التي كانت قد انتصرت في حرب السنين السبع). ووصف أعضاء البرلمان بهذين البيتين:

أني أشهد سادة الجنس البشري يمرون
وفي مشيتهم شموخ، وفي عيونهم تحد؛

ولكنه أنذر بأن الجشع يلوث الحكم البريطاني، وأن الحظائر المسيحية، المنبئة بأنانية الأغنياء، تفقر طبقة الفلاحين وتدفع أبناء إنجلترا الشداد للهجرة إلى أمريكا. وكان قد أطلع جونسن على المخطوط، فأضاف أبياتاً ستة معظمها قرب الخاتمة، استخف فيها بتأثير السياسة على سعادة الفرد، وأطرى المباهج البيتية البسيطة. وقد أدهش نجاح القصيدة جميع الناس عدا جونسن الذي أعانها بتقريظ أذاعه وقال فيه "أنه لم ينشر قط قصيدة بهذا الجمال منذ أيام بوب"(161)وهو قول تجاهل الشاعر جراي. وجنى الناشر ربحاً طيباً من الطبقات المعادة، ولكنه لم ينقد الشاعر غير عشرين جنيهاً. وانتقل جولدسمث إلى مسكن أفضل في "التمبل"، واشترى ثياباً جديدة ظهر فيها بسراويل أرجوانية، ومعطف قرمزي، وشعر مستعار، وعصا، ثم استأنف في مظهره الوقور هذا مهنة التطبيب. غير أن التجربة لم يحالفها التوفيق، ثم رده نجاح "قسيس ويكفيلد" إلى حظيرة الأدب ثانية. ذلك أن الكتبي الذي كان قد اشترى المخلوط من جونسن أحس أن شهرة جولدسمث الجديدة ستكون معواناً على تقبل القراء لهذه القصة الغريبة. وقد صدرت في طبعة صغيرة في 27 مارس 1766، فبيعت الطبعة في شهرين، وبيعت طبعة ثانية في ثلاثة أشهر أخرى، ولكن المبيع من القصة لم يغط نفقات الناشر إلا عام 1744. وفي تاريخ مبكر (1770) زكاها هردرلجوته، الذي رأى فيها "قصة من أفضل ماكتي من قصص إلى الآن"(162). وأمن ولتر سكوت على هذا الرأي(163). أما واشنطن ايرفنج فقد تعجب من أن أعزباً حرم الحياة الأسرية منذ طفولته استطاع أن يرسم "ألطف وأحب صورة للفضيلة الأسرية وكل ما يحبب الناس في الحياة الزوجية"(164). ولعل حرمان جولدسمث من الحياة الأسرية هو الذي حداه إلى أن يضفي على البيت هذه الصفات المثالية، ولعل حياة العزوبة التي كان يحياها على مضض هي التي جعلته يتسامى بصفات الشباب من النساء، ولعل غرامياته المجهولة هي التي دفعته إلى الإعلاء من قدر عفة المرأة لأنها أثمن من الحياة. وقد أمدته ذكرياته الحبيبة عن أبيه وأخيه بصورة الدكتور برمروز، الذي كان بوصفه "قسيساً، ومزارعاً، ورب أسرة... يجمع في ذاته أعظم ثلاث شخصيات على هذه الأرض"(165). وقد عادت جولاته هو تظهر في شخص الابن جورج، الذي ختم رحلاته كما ختم جولدسمث نفسه كاتباً مأجوراً في لندن. أن القصة بعيدة التصديق، ولكنها ساحرة.

وسرعان ما نفدت حصيلة "الرحالة" و "قسيس ويكفيلد"، ولا غرو فقد كان جولدسمث متلافاً لا يستقر المال في يده لحظة، يعيش دائماً في المستقبل. وقد تطلع بعين الحسد إلى الشهرة والمال اللذين قد تأتي بهما مسرحية ناجحة فرصد قلمه لاقتحام هذا الميدان العسير من ميادين الأدب، وسمى ثمرة جهده "الرجل الطيب" وعرضه على جاريك. وحاول جاريك أن ينسى التعليقات المهنية التي كتبها جولدسمث عنه من قبل، ووافق على أن يخرج المسرحية. ولكنها كانت تسخر من الكوميديات العاطفية، وهذه الكوميديات هي التي درت على جاريك الربح الوفير. فاقترح إدخال بعض التغييرات على المسرحية، ولكن جولدسمث رفضها. ونقد جاريك المؤلف مقدماً أربعين جنيهاً، ولكنه تباطأ تباطؤاً شديداً حمل المؤلف المتهور على عرض المخطوط على منافس لجاريك هو جورج كولمان الذي كان يدير مسرح الكوفنت جاردن. وانتقص ممثلو كولمان من قدر المسرحية، ولكن جونسن أيدها تأييداً قوياً، وحضر بروفتها، وكتب المقدمة التي تلقى قبيل العرض. وعرضت أول مرة في 29 يناير 1768، واستمر عرضها عشر ليال، ثم سحبت باعتبارها ناجحة نجاحاً متوسطاً، ومع ذلك بلغ صافي ما حصله المؤلف منها 500 جنيه. فلما أن جرى المال في يد جولدسمث عاماً انتقل إلى شقة جميلة في بريك كورت مخالفاً نصيحة جونسن، وأثثها تأثيثاً ممتازاً اضطره إلى العودة للكتابة المأجورة ليغطي نفقاته. وأخرج الآن كتباً شعبية في التاريخ- تاريخ روما، واليونان، وإنجلترا. و "تاريخاً للطبيعة الحية"- وكلها فقير في الدرس أثره النثر الرشيق. وحين سأله بعضهم لم كتب كتاباً كهذه أجاب\ بأنها أعانته على قوته، بينما أفضى به الشعر إلى التضور جوعاً. ومع ذلك ففي 26 مايو 1770 طلع على القراء برائعته "القرية المهجورة" التي نقد عنها مائة جنيه- وهو ثمن طيب في ذلك العهد لقصيدة لا تجاوز سبع عشرة صفحة طولاً. وقد نفدت منها أربع طبعات في ثلاثة أشهر. أما موضوعها فهجر الزارع للريف بعد أن أفقدتهم الحظائر المسيجة أرضهم. وقد رسمت صورة لقريته:

أي أوبرن الحلوة! يا أجمل قرى السهل،
حيث يقر الفلاح الكادح علينا بالعافية والخير الوفير

وخلعت القصيدة كل الألوان الوردية التي حلم بها خيال جولدسمث الحضري على رخاء الفلاح الذي زعم أنه سبق هذه الحظائر المسيجة. وصف المناظر الريفية، والأزهار المختلفة، "والكوخ الظليل، والمزرعة المحروثة" ورياضيات القرية ومراقصها، و "العذراء الخجول" والصبي المغمز، والأسر السعيدة التي تسودها التقوى والفضيلة. ثم عاد يرى أباه يعظ كنيسة كيلكيني وست:

كان رجلاً عزيزاً على الناحية كلها
يعيش في رغد بأربعين جنيهاً في العام-
وهو مبلغ كفاه لأن يطعم الشريد،
وينقذ المتلاف، ويؤوي الجندي المحطم،
ويفتقد المرضى، ويواسي المحتضرين.
كانت نظراته في الكنيسة تجمل المكان الوقور
وهو يلقيها في لطف ورقة دون افتعال؛
ويخرج الحق من شفتيه قوياً جباراً،
فيمكث الجهال ليصلوا بعد أن جاءوا ليستهزئوا!.

أما معلم المدرسة الذي أدب الشاعر في طفولته فقد تحول في ذكرياته إلى مدرس "صارم الطلعة".

ومع ذلك كان رحيماً، فإذا عنف في شيء
فلأن المحبة التي يكنها العلم كانت خاطئة
ثم كان بارعاً في الجدل باعتراف القسيس،
فهو يواصله ولو كان مغلوباً
وكان بألفاظه الطويلة البليغة المرعدة
يبهر الريفيين الملتفين حوله محدقين
وتحديقهم يطول، وعجبهم يشتد، لأن رأساً واحداً صغيراً حوى كل علمه.

وخيل لجولدسمث أن هذا الفردوس دمرته الحظائر المسيجة، فاستحالت مزرعة الفلاح إلى أرض للرعي، وفرت أسر الفلاحين إلى المدن أو المستعمرات، وأخذ يجف ذلك النبع الريفي الذي تنبثق منه الفضيلة الصادقة.

الويل لبلد يتكدس فيه المال ويفسد الرجال،
فهو فريسة لشرور وآفات لن تمهله طويلاً

أما وقد كتب جولدسمث خير قصيدة جاد بها جيله، فقد عاد الآن إلى الدراما. وفي 1771 عرض كولمان كوميديا جديدة سماها "تمسكنت فتمكنت" وتباطأ كولمان كما تباطأ جاريك من قبل، حتى تدخل جونسن في الأمر وأمر المدير تقريباً بإخراج التمثيلية. وكتب جاريك مقدمتها بعد أن تصالح مع جولدسمث. وبعد شدائد وضيقات كادت تحطم روح المؤلف، أخرجت المسرحية في 15 مارس 1773. وحضر جونسن ورينولدز وغيرهما من الأصدقاء حفلة الافتتاح وكانوا أول المصفقين. أما جولدسمث نفسه فكان أثناء ذلك في حديقة سانت جيمس على غير هدى، إلى أن عثر عليه بعضهم وأكد له أن مسرحيته لقيت نجاحاً عظيماً. وقد طال عرضها، وجاءته الحفلات التي خصصت حصيلتها له بعام من الرخاء.

وكان قد ترقى الآن بنفسه إلى مكانة لا يعلو عليه فيها سوى جونسن بين كتاب العصر الإنجليزي، بل لقد حقق الشهرة خارج وطنه. وكان شخصية قائده في "النادي"، وجرؤ على مخالفة جونسن مراراً. وذات مرة والحديث يدور حول قصص الحيوان الخرافية، لاحظ أن من العسير جداً أن تجعل السمك يتكلم كالسمك، ثم قال لجونسن "وليس هذا بالأمر اليسير كما تحسبه، لأنك لو شئت أن تجري الكلام على ألسنة السمك الصغير لتكلم كله كما تتكلم الحيتان"(166). وكان "الدب الأكبر" يخمشه ببراثنه أحياناً في قسوة، ولكنه أحبه رغم ذلك، وقد رد جولدسمث المحبة بمثلها رغم حسده جونسن على تفوقه في فنون الحديث. ولم يكن جولدسمث قد نظم معارفه ورتبها قط، ولم يكن في استطاعته الرجوع إليها بسرعة أو ذكاء، قال جاريك "كان يكتب كما يكتب الملاك، ويتحدث كما يتحدث بل المسكين"(167). أما بوزويل فكان ينزع إلى الغض من قدر جولدسمث، ولكن كثيراً من معاصريه- كرينولدز، وبير، وولكس، وبرسي- احتجوا على هذا الغض لما فيه من ظلم(168). وقد لوحظ أن جولدسمث كثيراً ما كان يحسن الحديث في الاجتماعات التي تغيب عنها جونسن(169).

وكانت لهجته في الحديث، وعاداته، ومظهره- كلها تعاكسه. فهو لم ينس قط لهجته الإيرلندية. وكان شديد الإهمال لهندامه، يلهو أحياناً يلبس الملابس الزاهية المتعددة الألوان المتناقضة المظهر. وكان مغروراً مزهواً بما حصل من ألوان الثقافة، ولم يعترف بتفوق جونسن عليه كاتباً. وكان طوله خمسة أقدام وخمس بوصات، وقد غاظه طول جونسن وضخامته. وكانت طبيعته الطيبة تشرق من خلال وجهه القبيح. والصورة التي رسمها له رينولدز لم تخلع عليه جمالاً، فهنا شفتان غليظتان، وجبين متراجع، وأنف ناتئ، وعينان قلقتان. وقد زاد الرسامون الكاريكاتوريون أمثال هنري بنبري فم أولفر اتساعاً وأنفه طولاً، ووصفته صحيفة "اللندن باكت" بأنه أورانجوتان(170)، وسرت في المدينة عشرات القصص عن أخطائه الفاضحة في حديثه وسلوكه، وعن حبه المستور للحسناء ماري هورنك.

أما أصدقاؤه فكانوا عليمين بأن عيوبه سطحية، تخفي روحاً من الود، والمحبة، والكرم الذي كاد يدمر صاحبه، وحتى بوزويل وصفه بأنه "أعظم من وجد من الرجال سماحة قلب، أما وقد أتيح له الآن قدر كبير من الذهب مما غلته مسرحياته الفكاهية، فإن جميع المعوزين يعتمدون عليه"(171). فإذا لم يعد لديه من المال ما يعطيه اقترض ليسد مطالب الفقراء الذين التمسوا العون منه(172). وقد رجا جاريك (الذي لم يكن قد استرد منه جنيهاتها الأربعين) أن يقرضه ستين جنيهاً على ذمة مسرحية أخرى، فوافاه بالمبلغ. وبلغت ديون جولدسمث عند موته 2000 جنيه. وتساءل جونسن "هل وجد قط فقير أولاه الناس هذه الثقة من قبل؟"(173).

وفي 1774، بينما كان على وشك الذهاب إلى أحد الأندية العديدة التي انتمى إليها، وأصابته الحمى. فأصر على أن يصف لنفسه الدواء، ناسياً نصيحة بوكليرك بأنه ينبغي ألا يصف الدواء إلا لأعدائه، وتناول عقاراً مسجلاً، فساءت حاله. ودعي طبيب لعيادته، ولكن وقت إنقاذه كان قد فات. وقضى نحبه 4 أبريل غير متجاوز الخامسة والأربعين. والتف حول جثمانه حشد من الباكين، وكانوا رجالاً ونساء بسطاء يكادون يعتمدون في قوتهم على صدقاته. ودفن في فناء كنيسة "التمبل" ولكن أصحابه أصروا على أن يقام له نصب تذكاري في وستمنستر آبي. ونحت نولكنز التذكار وكتب جونسن القبرية. وكان خيراً منها السطور التي كتبها الشاعر في مسرحية "الرجل الطيب" إذ يقول "ما أشبه الحياة في أعظم حالاتها وأفضلها بطفل شقي لا بد من ملاطفته ومسايرته قليلاً حتى ينام، ثم ينتهي كل الهم والقلق"(176).