قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 6 ف 27

صفحة رقم : 14001

قصة الحضارة -> روسو والثورة -> إنجلترة جونسن -> الثورة الصناعية -> أسبابها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب السادس: إنجلترا جونسن 1756-1789

الفصل السابع والعشرون: الثورة الصناعية

أسبابها

لم بدأت الثورة الصناعية أول ما بدأت في إنجلترا؟ لأن إنجلترا قد انتصرت في حروب عظمى على القارة وحفظت في الوقت نفسه أرضها من خراب الحرب؛ ولأنها حققت السيطرة على البحار فظفرت بمستعمرات وفرت لها الخامات واحتاجت إلى السلع المصنوعة؛ ولأن جيوشها، وأساطيلها، وسكانها المتزايدين، هيئوا لها سوقاً متسعة للمنتجات الصناعية؛ ولأن النقابات الحرفية عجزت عن تلبية هذه المطالب المتسعة؛ ولأن مكاسب التجارة المترامية الحدود كدست رأسمال يبحث عن وجوه جديدة للاستثمار؛ ولأن إنجلترا سمحت لنبلائها-ولثرواتهم-بالاشتغال بالتجارة والصناعة؛ ولأن إحلال الرعي تدريجياً محل فلاحة الأرض أجبر الفلاحين على النزوح من الحقول إلى المدن حيث زادوا من عدد العمال المتاحين للصناعة؛ ولأن العلم في إنجلترا كان يوجهه رجال ذوو نزعة علمية، في حين كان على القارة منصرفاً أغلبه إلى البحث المجرد؛ وأخيراً لأن إنجلترا كان لها حكومة دستورية حساسة لمصالح التجارة، شاعرة على نحو غامض بأن السبق في الثورة الصناعية سيحقق لإنجلترا الزعامة السياسية للعالم الغربي طوال حقبة قرن أو يزيد.

أما سيطرة بريطانيا على البحار فكانت قد بدأت بهزيمتها للأرمادا الأسباني؛ وامتدت هذه السيطرة بفضل الانتصارات على هولندا في الحروب الإنجليزية الهولندية، وعلى فرنسا في حرب الوراثة الأسبانية؛ ثم جاءت حرب السنين السبع فكادت تجعل المحيط حكراً على بريطانيا، وكان للبحرية البريطانية التي لا تقهر الفضل في تحويل القنال الإنجليزي إلى ما يشبه الخندق المائي الحالي لهذا "الحصن الذي شيدته الطبيعة.. ليدرأ عنها شر المرض وذراع الحرب"(1) (كما قال شكسبير). فلم يعف الاقتصاد الإنجليزي من نهب الجند المغيرين وسلبهم فحسب، بل غذته وحفزته حاجات الجيوش البريطانية وجيوش الحلفاء المحاربة في القارة، ومن هنا هذا التوسع الزائد في صناعات النسيج والمعادن، والحاجة لآلات تزيد من سرعة الإنتاج ولمصانع تستكثر منه.

وسهلت السيطرة على البحار فتح المستعمرات, وكانت كندا وأغنى بقاع الهند المثمرة التي وقعت من نصيب إنجلترا في حرب السنين السبعة، وأكسبت رحلات كرحلات الكابتن كوك (1768-76) الإمبراطورية البريطانية جزائر أفادتها من الناحية الاستراتيجية في الحرب والتجارة، وثبت انتصار رودني على دجراس (1782)-السيطرة البريطانية على جميكا، وبربيدس، وجزر البهاما. ثم ظفرت بنيوزيلنده في 1787، وباستراليا في 1788. وأتاحت تجارة المستعمرات وغيرها من أقطار ما وراء البحار للصناعة البريطانية سوقاً أجنبية لا ينافسها فيها منافس في القرن الثامن عشر، وكانت التجارة مع المستوطنات الإنجليزية في أمريكا الشمالية تستخدم 1.078-سفينة و29.000 ملاح(2). وازدهرت لندن وبرستل ولفربول وجلاسجو ثغوراً هامة لتجارة الأطلنطي هذه. وأخذت المستعمرات السلع المصنوعة وأرسلت عوضاً عنها الطعام والتبغ والتوابل والشاي والحرير والقطن والخامات والذهب والفضة والأحجار الكريمة. وقيد البرلمان استيراد المصنوعات الأجنبية بفرض الرسوم العالية عليها وثبط تنمية صناعات المستعمرات أو الصناعات الأيرلندية المنافسة لصناعات بريطانيا. ولم تقم مكوس داخلية (كتلك التي عرقلت سير التجارة الداخلية في فرنسا) عقبة في سبيل انتقال السلع في أرجاء إنجلترا وإسكتلندة وويلز؛ وكانت هذه الأقاليم أوسع منطقة للتجارة الحرة في غربي أوربا. وحظيت الطبقتان العليا والوسطى برخاء عظيم جداً، وبقدرة شرائية كانت حافزاً إضافياً للإنتاج الصناعي.


ولم تكن النقابات الحرفية كفئاً لتلبية حاجات الأسواق المتسعة في الداخل والخارج. لقد أسست أولاً لسد حاجات البلدة وما حولها، وغلت يدها نظم عتيقة ثبطت الابتكار والتنافس والاقتحام، ولم تكن معدة لجلب المواد الخام من مصادر نائية، أو للحصول على رأس المال اللازم للإنتاج الموسع، أو لحساب الطلبات من الخارج أو الحصول عليها أو تلبيتها. وحل محل معلم النقابة الحرفية شيئاً فشيئاً "مقاولون" ومتعهدون يعرفون كيف يجمعون المال، ويتوقعون الطلب أو يخلقونه، ويحصلون على الخامات، وينظمون الآلات والعمال للإنتاج لأسواق في كل أركان المسكونة. أما المال فقد جاء من أرباح التجارة أو الأعمال المالية، ومن غنائم الحرب ومراكب القرصنة، ومن التعدين أو استيراد الذهب أو الفضة، ومن الثروات الكبيرة التي تحققت في تجارة الرقيق أو في المستعمرات. كان الإنجليز يرحلون عن بلادهم فقراء، فيعود بعضهم أغنياء. ففي تاريخ مبكر (1744) أتيح لخمسة عشر رجلاً عائدين من جزر الهند الغربية من المال ما يكفي لشراء انتخابهم للبرلمان(3)، وما وافى عام 1780 حتى كان "النوابون" Nabobs الذين أثروا في الهند قوة في مجلس العموم، والكثير من هذا المال المجلوب كان متاحاً للاستثمار. وبينما كان النبلاء ف يفرنسا ممنوعين من الاشتغال بالتجارة أو الصناعة، وكان نظراءهم في إنجلترا معفين من هذا الخطر، ونمت الثروة المتأصلة في الأرض بفضل استثمارها في المشروعات التجارية؛ من ذلك أن دوق بردجووثر غامر بميراثه في تعدين الفحم. وأودع آلاف البريطانيين مدخراتهم في المصارف التي كانت تقرض النقود بفوائد منخفضة. وانتشر مقرضو المال في كل مكان، فقد اكتشف المصرفيون أن أيسر طرق الإثراء هي التعامل في نقود غيرهم. فكان في لندن عشرون مصرفاً في 1750، وخمسون في 1770، وسبعون في 1800(4). وعد بيرك اثني عشر مصرفاً خارج لندن في 1750؛ وفي 1793 كان هناك أربعمائة(5). وأضافت النقود الورقية إلى اللقاح المخصب، فبلغت في 1750 اثنين في المائة من العملة وفي 1800 بلغت عشرة في المائة(6). وغامرت الأموال المختزنة بالاستثمار حين نشرت التجارة والصناعة أرباحهما المتصاعدة.


واحتاجت الحوانيت والمصانع المتكاثرة إلى رجال. وتعاظم المدد الطبيعي من العمال بفضل العدد المتزايد من الأسر الريفية التي لم تعد قادرة على كسب قوتها من الفلاحة. وطالبت صناعة الصوف المزدهرة بالصوف؛ وانتزع المزيد من الأرض من الفلاحة وخصص للرعي؛ وحلت الأغنام محل الرجال؛ ولم تكن قرية "أوبرن" (التي حزن عليها جولدسمث) القرية المهجورة الوحيدة في بريطانيا. ففي الفترة من 1702 إلى 1760 كان هناك 246 قانوناً برلمانياً يصرح بنزع أربعمائة فدان من الزراعة، ومن 1760 إلى 1810 كان هناك 2.438 قانوناً، تأثرت بها خمسة ملايين فدان تقريباً(7). ولما تحسنت الآلات الزراعية، لم تعد الملكيات الصغيرة مرغوبة، لأنها عجزت عن استعمال الآلات الجديدة أو دفع ثمنها؛ فباع الألوف من المزارعين أراضيهم وأصبحوا أجراء في مزارع واسعة أو في مصانع ريفية أو في المدن. وأنتجت المزارع الكبيرة المزودة بطرائق وتنظيم وآلات أفضل غلة للفدان أكثر من مزارع الماضي، ولكنها كادت تمحو كل أثر للمزارعين الأحرار، أو الفلاحين الملاك، الذين كانوا الدعامة الاقتصادية والحربية والأخلاقية لإنجلترا. وزودت أثناء ذلك الهجرة من ايرلنده والقارة أعداد الرجال والنساء والأطفال المتنافسين على الاشتغال في المصانع.

ولم يلعب العلم إلا دوراً متواضعاً في التحول الاقتصادي الذي طرأ على إنجلترا القرن الثامن عشر. وقد استعان وات ببحوث ستيفن هيلز في الغازات، وجوزف بلاك في الحرارة والبخار، على تحسين الآلة البخارية. وكانت جمعية لندن الملكية يتألف أكثرها من رجال عمليين يحبذون الدراسات التي يرجى تطبيقها على الصناعة. وكذلك كان استعداد البرلمان البريطاني لمراعاة الاعتبارات المادية؛ ومع أن ملاك الأرض كانوا مهيمنين عليه، فإن العديد منهم شاركوا في التجارة أو الصناعة، وكان أكثر الأعضاء ميالين إلى قبول الهدايا واستجابة إلى الالتماسات من رجال الأعمال لتخفيف القيود التي فرضتها الحكومات السابقة على الاقتصاد. وظفر المدافعون عن حرية المشروعات وحرية التجارة-وترك الأجور والأسعار حرة في الصعود أو الهبوط طبقاً لقوانين العرض والطلب-هؤلاء ظفرت بتأييد عدة زعماء برلمانيين، فتحطمت ببطء الحواجز القانونية المعوقة لانتشار التجارة والمصنوعات. وهكذا تحققت جميع الشروط اللازمة لتفوق إنجلترا في الثورة الصناعية.


2- مقوماتها

كانت العناصر المادية للثورة الصناعية هي الحديد والفحم والنقل والآلات والطاقة والمصانع. ولعبت الطبيعة دورها بتزويدها إنجلترا بالحديد والفحم وسيولة الطرق. ولكن الحديد على الصورة التي جلب بها من المناجم كانت تتخلله الشوائب التي لا بد من إزالتها بصهره بالنار. وكذلك كان الفحم تختلط به الشوائب التي أزيلت بتسخينه أو "طهوه" حتى يستحيل إلى "الكوك" وتحول خام الحديد المحمي المنقى لدرجات متنوعة بالكوك المحروق إلى حديد مشغول أو زهر أو صلب. ورغبة في زيادة الحرارة بنى أبراهام درابي (1754 وما بعدها) أفراناً عالية تزود فيها النار بهواء إضافي من منفاخ تشغله ساقية. وفي 1760 استعاض جون سميتن عن المنفاخ بمضخة هواء مضغوط تشغلها المياه من جهة والبخار من جهة أخرى، ورفع تيار الضغط العالي الثابت إنتاج الحديد الصناعي من اثني عشر طناً إلى أربعين طناً للفرن في اليوم(8). ورخص الحديد رخصاً أتاح استعماله في مئات النواحي الجديدة؛ مثال ذلك أن رتشارد رينولدز بنى في 1763 أول سكة حديد معروفة -وكانت طرقاً حديدية يسرت إحلال المركبات محل خيول الحمل ف ينقل الفحم والحديد. وبدأ الآن عصر ساد فيه كبار صناع الحديد المشهورون الذين سيطروا على المسرح الصناعي وأثروا ثراء طائلاً باستخدامهم الحديد في أغراض بدت غريبة تمام الغرابة على ذلك المعدن. مثال ذلك أن جون ولكنسن وأبراهام درابي الثاني أقاما أول قنطرة حديدية على نهر سفرن (1779). وأضحك ولكنسن إنجلترا حين أقترح بناء سفينة حديدية، وقال بعضهم إنه جن؛ ولكنه وقد اعتمد على المبادئ التي أرساها أرخميدس، ركب بألواح معدنية أول سفينة حديدية عرفها التاريخ (1787). وأقبل رجال الأعمال من الخارج ليشاهدوا ويدرسوا المصانع الكبرى التي أقامها ولكنسن، أو رتشارد كرونشي أو انتوني بيكن. وأصبحت برمنجهام القريبة من طبقات هائلة من الفحم والحديد أهم مراكز لصناعة الحديد في إنجلترا. ومن هذه الورش تدفق إلى ورش إنجلترا ومصانعها الجديد من العدد والآلات الأكثر قوة والأحق بالاطمئنان إليها.

وكان الفحم والحديد ثقيلين إلى النقل إلا بالماء. وأتاح الساحل الغني بالفجوات العميقة للنقل البحري الوصول إلى الكثير من مدن بريطانيا الكبرى. وكان لا بد من إحداث ثورة في وسائل النقل لجلب المواد والمحاصيل إلى المدن البعيدة عن الساحل والأنهار الصالحة للملاحة وظلت حركة البضائع على البر شاقة رغم شبكة الطرق الرئيسية Turnpikes التي بنيت بين 1751 و1771، (وقد اشتق اسمها من الأبواب الدوارة Turnstiles المرشوقة بالمناخس التي تعوق المرور حتى تدفع المكوس)(9). وقد ضاعفت طرق المكوس هذه سرعة العبور ونشطت التجارة الداخلية. وحل محل خيول الحمل عربات تجرها الخيل، وأخلى السفر على ظهور الخيل مكانه لمركبات البريد. على أن الطرق الرئيسية تركت لأصحاب المشروعات الحرة ليصونوها وسرعان ما تدهورت حالها. إذن ظلت حركة التجارة تؤثر الطرق المائية. لذلك ظهرت الأنهار لتحمل السفن الثقيلة، وربطت الأنهار والمدن بالقنوات. وقد تحول جيمس برندلي، الذي لم يكن له حظ من التعليم النظامي أو الفني، من مركب طواحين غير متعلم إلى أشهر مهندس قنوات في جيله، إذ حل بميله الميكانيكي مشاكل تمديد القنوات خلال الأهوسة والأنفاق وفوق السقابات. وفي 1759-61 شق قناة جلبت إلى مانشستر الفحم من مناجم دوق بردجووتر في ورسلي؛ فأنقص هذا إلى النصف ثمن الفحم في مانشستر، ولعب دوراً رئيسياً في جعل تلك المدينة حاضرة صناعية، وكان من أجمل المناظر في إنجلترا القرن الثامن عشر منظر مركب تمخر مياه قناة برندلي-بردجووتر الممتدة بسقاية تعلو تسعة وتسعين قدماً فوق نهر ايرويل في بارتن. وفي 1766 بدأ برندلي شق قناة الجراند ترنك التي ربطت نهري ترنت ومرزي ففتحت بذلك طريقا مائياً عبر وسط إنجلترا من البحر الأيرلندي إلى بحر الشمال. وربطت قنوات أخرى نهر ترنت بالتيمز، ومانشستر بلفربول، ولم تنقضي ثلاثون سنة حتى خفضت مئات القنوات الجديدة تكاليف نقل التجارة في بريطانيا تخفيضاً كبيراً.

أما وقد توفر للثورة الصناعية المواد والوقود والنقل، فقد بقي عليها بعد ذلك أن تستكثر من السلع. وكان الطلب على الآلات اللازمة لتعجيل الإنتاج على أشده في المنسوجات. فالناس في حاجة إلى الكساء، والجنود والصبايا كان يجب تموينهم بالأزياء الخاصة بهم. وكان القطن يدخل إنجلترا بمقادير تتزايد بسرعة-ثلاثة ملايين رطل في 1753، واثنان وثلاثون مليوناً في 1789(10)، ولم يكن في طاقة العمل اليدوي أن يصنع بضائع مصقولة في الوقت الذي يلبي فيه الطلب. إن تقسيم العمل الذي كان قد تطور في حرف الكساء أوحى باختراع الآلات وشجعه.

وكان جون كاي قد بدأ ميكنة النسيج بفضل مكوكه الطائر (1733)، ولويس بول ميكن الغزل بطريقة البكر (1783). وفي 1765 غير جيمس هرجريفز، وهو من أهالي مدينة بلاكبيرن بلانكاشير وضع عجلة الغزل فجعلها أفقية يدل أن تكون رأسية، وركبة عجلة فوق أخرى، وشغل ثماني منها ببكرة واحدة وسير، ونسج ثمانية خطوط في وقت واحد، ثم أضاف مزيداً من القوة من المغازل حتى استطاع مغزله Spinning Jenny (وجني هو اسم زوجته) أن ينسج ثمانين خطاً في وقت واحد. وخشي الغزالون اليدويون أن تفقدهم هذه البدعة حرفتهم وقوتهم، فحطموا آلات هارجريفز فهرب لحياته إلى نوتنجهام حيث أتاح نقص العمال لمغازله أن تركب. فلما حلت سنة 1788 كان عددها في بريطانيا قد بلغ عشرين ألفاً، وكانت عجلة الغزل بسبيلها إلى أن تصبح حلية رومانسية.

وفي 1769 وفق رتشارد آركرايت بناء على اقتراحات ميكانيكيين شتى في تطوير "إطار مائي" تستطيع قوة الماء بواسطته أن تحرك ألياف القطن بين سلسة متعاقبة من البكرات تجذب وتمد الألياف فتجعلها خيطاً أكثر إحكاماً وصلابة. وحوالي عام 1774 جمع صموئيل كرومتن بين مغزل هارجريفز وبكرات آركرايت في آلة هجين لقبها ظرفاء الإنجليز "بلغة كرومتن": فكانت حركة المغازل المتعاقبة إلى الخلف وإلى الأمام بالتناوب تمد الخيط وتفتله وتلفه فتجعله أرفع وأقوى؛ وقد ظلت هذه الطريقة إلى وقتنا هذا المبدأ الذي تقوم عليه أعقد آلات الغزل والنسيج. وكانت المغزلة القديمة (الجني) والإطار المائي يصنعان من الخشب، أما البقية فقد استخدمت البكرات والعجلات المعدنية بعد 1783، وأصبحت من المتانة بحيث تحتمل سرعة التشغيل الآلي وضغطه. وكانت الأنوال الآلية التي بالكرانك والأثقال تستعمل من قبل في ألمانيا وفرنسا، ولكن حدث في 1787 أن شيد إدموند كارترايت في دونكاستر مصنعاً صغيراً شغل فيه عشرون نولاً بقوة الحيوان المحركة. وفي 1789 استبدل بهذا المحرك آلة بخارية. وبعد عامين اشترك مع بعض أصدقاء من مانشستر في إنشاء كبير يدار فيه أربعمائة نول بالبخار. وهنا أيضاً ثار العمال، فأحرقوا المصنع وسووه بالأرض وهددوا بقتل مؤسسيه. وبنيت في العقد التالي أنوال آلية كثيرة، وحطم المشاغبون بعضها ونجا بعضها وتكاثر، وانتصرت الآلات.

وكان مما أعان إنجلترا على الصناعة توافر القوة المائية المتولدة في أنهار كثيرة يغذيها المطر الغزير. فأقيمت الطواحين والمصانع في القرن الثامن عشر في الريف أكثر مما أقيمت في المدن على أنهار يمكن بناء سدود عليها تحدث مساقط للمياه لها من القوة ما يكفي لإدارة عجلات كبير. هنا قد يتساءل شاعر ألم يكن من الخير لم يحل البخار قط محل الماء قوة محركة، وان تختلط الصناعة بالزراعة في الريف بدلاً من أن تحشد في المدن. ولكن وسيلة الإنتاج الأكثر فاعلية وربحاً تزيح الوسيلة الأقل، وقد وعدت الآلة البخارية (التي تألقت هي أيضاً-إلى وقت قريب-بوهج رومانسي) بأن تنتج أو تنقل من السلع والذهب أكثر مما شهد العالم في أي زمان مضى.


ولقد كانت الآلة البخارية ذروة الثورة الصناعية لا ثمرة لها تماماً. ولا داعي للرجوع بالذاكرة إلى هيرو الإسكندري (200 م؟)، لأن دنتن بابين وصف جميع مكونات ومبادئ آلة بخارية عملية في عام 1690. ثم صنع تومس سافري مضخة يديرها البخار في 1698. وطورها تومس نيوكومن (1708-12) إلى آلة يكثف فيها تيار متدفق من الماء البارد البخاري المولد من الماء المحمي، ويدفع فيها بالتناوب ضغط الهواء كباساً إلى أعلى وأسفل؛ هذه "الآلة الهوائية" ظلت الآلة القياسية حتى حولها جيمس وات إلى آلة بخارية حقيقية في 1765.

وكان وات بخلاف معظم مخترعي ذلك الجيل طالباً كما كان رجلاً عملياً. كان جده معلم رياضيات، وأبوه معمارياً وبناء سفن وقاضياً في بلدة جرينوك في جنوب غربي إسكتلندة. ولم يحظ جيمس بتعليم جامعي، ولكنه كان ذا تطلع خارق واستعداد ميكانيكي. ويعرف نصف العالم قصته مع عمته التي وبخته قائلة "لم أر قط ولداً خاملاً مثلك... فإنك لم تنطق بكلمة واحدة طوال هذه الساعة، بل نزعت غطاء تلك الغلاية، ثم أعدته إلى مكانه، ثم أمسكت تارة قلنسوة وتارة ملعقة فضية فوق البخار ملاحظاً كيف يتصاعد من البزبوز، وممسكاً بالقطرات محصياً إياها(11)". وفي القصة رائحة الأسطورة، ولكن مخطوطاً خلفه جيمس وات بخط يده يصف تجربة فيها "ثبت الطرف المستقيم لأنبوب على بزبوز غلاية شاي"، وجاء في مخطوطة أخرى: "أخذت أنبوبة زجاجية ملوية وأدخلتها في فم غلاية الشاي، وغمرت الطرف الآخر في ماء بارد"(12).

وحين بلغ وات العشرين (1756) حاول أن يبدأ عمله في جلاسجو صانعاً للأدوات العلمية. أبت عليه نقابات حرف المدينة الرخصة بحجة أنه لم يكمل التلمذة كلها، ولكن جامعة جلاسجو أعطته ورشة داخل أرضها. واختلف إلى محاضرات الكيمياء التي يلقيها جوزيف بلاك، وكسب صداقته ومساعدته، واهتم خاصة بنظرية بلاك في الحرارة الكامنة(13).

ثم تعلم الألمانية والفرنسية والإيطالية ليقرأ الكتب الأجنبية بما فيها كتب الميتافيزيقا والشعر. وقد راع السير جيمس روبيسون تنوع معلوماته، وكان يعرفه في تلك الآونة (1758)، فقال "رأيت صانعاً ولم أتوقع أكثر من هذا، ولكني وجدت فيلسوفاً"(14). وفي 1763 طلبت إليه الجامعة أن يصلح نموذجاً من آلة نيوكومن كان يستعمل في تدريس الفيزياء. وأدهشته أن ثلاثة أرباع الحرارة التي تمد بها الآلة تضيع هباء، فبعد كل ضربة كباس تفقد الأسطوانة الحرارة من جراء استعمال الماء البارد لتكثيف كمية البخار الجديدة التي تدخل الأسطوانة، فقد كان قدر كبير من الطاقة يتبدد حتى حكم أكثر أصحاب المصانع بأن الآلة غير مجزية. واعتزم وات تكثيف البخار في وعاء منفصل لا تؤثر درجة حرارته المنخفضة في الأسطوانة التي يتحرك فيها الكباس. وزاد هذا "المكثف" كفاءة الآلة في نسبة الوقود المستعمل إلى العمل المؤدي قرابة ثلاثمائة في المائة. ويضاف إلى هذا أن الكباس بفضل إصلاح وات للآلة أخذ يحركه تمدد البخار لا الهواء؛ لقد صنع وات آلة بخارية لا مراء فيها. أما الانتقال من الخطط والنماذج إلى التطبيق العملي فقد أفنى اثني عشر عاماً من حياة وات. ولكي يصنع عينات ويحدث تحسينات متعاقبة في آلته اقترض أكثر من ألف جنيه، وأكثرها من جوزف بلاك، الذي لم يفقد إيمانه به قط. وتنبأ جون سميتن، وكان هو نفسه مخترعاً ومهندساً، بأن آلة وات لا يمكن "تعميم استعمالها أبدأ لصعوبة تصنيع أجزائها بالدقة الكافية"(15)، وفي 1765 تزوج وات، وكان عليه أن يكسب مزيداً من المال، فنحى اختراعه وعكف على أعمال المساحة والهندسة، فرسم تصميمات الثغور والكباري والقنوات. وخلال ذلك قدمه لاك إلى جون روبك الذي كان يبحث عن آلة أكثر فاعلية من آلة نيوكومن لضخ الماء من مناجم الفحم التي تمد بالوقود مصانع الحديد التي يملكها في كارون. وفي 1767 وافق على أن يدفع ديون وات ويزوده برأس المال اللازم لصنع آلات طبق مواصفات وات، وذلك لقاء ثلثي الأرباح التي تتحقق من التركيبات أو المبيعات. ورغبة في حماية استثمارهما طلب وات في 1769 إلى البرلمان براءة اختراع تعطيه دون غيره حق إنتاج آلته، فمنح البراءة حتى عام 1783. وأقام هو وروبك آلة بخارية قرب أدنبره، ولكن صنعة الحدادين الرديئة تسببت في فضلها؛ وفي بعض الحالات كانت الأسطوانات التي صنعت لوات أكبر في قطرها ثمن بوصة في طرف منها في الآخر.

وباع روبك نصيبه في الشركة إلى ماثيو بولتن (1773) بعد أن فتت النكسات في عضده. وبدأ الآن ارتباط ملحوظ في تاريخ الصداقة كما هو ملحوظ في تاريخ الصناعة. ذلك أن بولتني لم يكن مجرد إنسان يجري وراء الربح، فلقد بلغ اهتمامه بتحسين طرائق الإنتاج وميكانيكياته حداً أفقده ثروته في هذا سبيل. ففي 1760 تزوج وهو في الثالثة والثلاثون من أرملة غنية، وكان في وسعه أن يتقاعد ويعيش على دخلها، ولكنه بدلاً من هذا بنى في سوهو قرب برمنجهام مصنعاً من أكبر مصانع إنجلترا، يقوم بصنع أنواع كثيرة من الأدوات المعدنية من مشابك الأحذية إلى الثريات. وكلن يعتمد على القوة المائية لتشغيل الآلات في مباني مصنعه الخمسة ثم اعتزم أن يجرب قوة البخار. وكان على علم بأن وات أثبت عدم كفاية آلة نيوكومن، وأن آلة وات فشلت بسبب الأسطوانات التي ثقبت بغير دقة، فغامر مغامرة محسوبة مفترضاً أن هذا العيب يمكن التغلب عليه. وفي 1774 نقل آلة وات إلى سوهو، وفي 1775 لحق به وات. ومد البرلمان أجل البراءة من 1783 إلى 1800.

وفي 1775 أخترع كبير الحدادين ولكنسن قضيب ثقب أسطوانياً مجوفاً مكن بولتن ووات من إنتاج آلات ذات قوة وكفاية لم يسبق لهما نظير، وسرعان ما أخذت الشركة الجديدة تبيع الآلات البخارية لأصحاب المصانع والمناجم في طول بريطانيا وعرضها. وقد زار بوزويل سوهو في 1776 وكتب يقول: "لقد تفضل على مستر هكتور بمرافقتي لرؤية مصانع مستر بولتن الكبرى... ووددت لو كان جونسن معنا، لأنه كان مشهداً كان يسرني أن أتأمله على ضوء علمه. ولقد كانت ضخامة بعض الآلات وتعقدها خليقة بأن تكون تقريعاً لعقله الجبار. ولن لأنسى ما حييت عبارة مستر بولتن التي قالها لي "إنني يا سيدي أبيع هنا ما يريد العالم كله أن يملكه-القوة المحركة". وكان يشتغل بمصنعه نحو سبعمائة نفس. وقد رأيت فيه "زعيم قبيلة حديدياً، وبدا أنه أب لقبيلته"(16).

على أن آلات وات البخارية كانت لا تزال ناقصة، وقد جاهد على الدوام لتحسينها. ففي 1781 سجل اختراعاً تحول فيه حركة الكباس المتناوبة إلى حركة دوارة، مما جعل الآلة البخارية صالحة لإدارة المكنات العادية. وفي 1782 سجل آلة بخارية ثنائية العمل، يتلقى فيها طرفا الأسطوانة دفعين من الغلاية والمكثف. وفي 1788 سجل اختراع "ضابط على شكل بلية طيارة" ينظم تدفق البخار ليزيد من السرعة المتماثلة في الآلة. وخلال سنوات التجريب هذه كان مخترعون آخرون يصنعون آلات منافسة، وكان على وات أن ينتظر حلول عام 1783 حتى تسدد مبيعاته ديونه وتبدأ في أن تؤتي ثمراتها. فلما انتهت فترة براءته اعتزل العمل النشيط، وواصل العمل في شركة بولتن ووات أبناؤهما. وتسلى وات بالاختراعات الصغيرة، واستمتع بشيخوخة رضية، ومات 1819 وقد بلغ الثالثة والثمانين.

وكان هناك اختراعات أخرى كثيرة في هذا العصر الزاخر الذي "يملك كل معلم صناعة فيه تقريباً اختراعاً جديداً من بنات أفكاره، ويدخل كل يوم تحسينات على مخترعات غيره"(17)على حد قول الدين تكر. وتوصل وات نفسه إلى طريقة لاستخراج النسخ المطابقة باستعمال حبر غروي وضغط الصفحة المكتوبة أو المطبوعة على فرخ مبلل من الورق الرفيع (1780): وطبق أحد موظفيه المدعو وليم مردوك آلة وات البخارية على الجر، وصنع نموذجاً لقاطرة سرعتها ثمانية أميال في الساعة (1784)، وقاسم مردوك رجلاً فرنسياً يدعى فليب لوبون امتياز استعمال غاز الفحم في الإضاءة، وأنار بهذه الطريقة خارج مصنع سوهو (1798)، والمنظر المحوري للاقتصاد الإنجليزي في نهاية القرن الثامن عشر هو منظر الآلة البخارية تقود المسيرة وتزيد السرعة، وتسخر نفسها للآلات في عشرات الصناعات، وتصرف مصانع الغزل والنسيج عن قوة الماء إلى قوة البخار (1785 وما بعدها)، وتغير وجه الريف، وتغزو المدن، وتحجب السماء بغبار الفحم وأبخرته، وتختبئ في أحشاء المراكب لتسبغ قوة جديدة على سيادة إنجلترا على البحار.

واقتضى الأمر عنصرين آخرين لجعل الثورة تامة، المصانع ورأس المال. وكانت مقومات الصناعة-وهي الوقود والقوة المحركة والمواد والآلات والعمال-تتعاون على خير وجه إذا جمعت في مبنى أو مصنع واحد، وفي تنظيم وضبط واحد، تحت رئيس واحد. لقد كانت المصانع موجودة من قبل؛ ولكنها الآن تكاثرت عدداً وحجماً لأن السوق الموسعة تطلبت الإنتاج المنتظم الواسع النطاق، وأصبح "نظام المصنع" علماً على النظام الجديد في الصناعة. فلما أصبحت الآلات الصناعية والمصانع غالية التكاليف، قوى سلطان الرجال والمؤسسات القادرة على جمع رأس المال أو تقديمه، وتسلطت المصارف على المصانع، وأتخذ المركب كله اسم الرأسمالية-وهو اقتصاد يسيطر عليه الممولون. أما وقد توافرت كل حوافز الاختراع والمنافسة، وتحررت المشروعات الصناعية تحرراً متزايداً من قيود النقابات الحرفية والمعوقات التشريعية، فإن الثورة الصناعية تهيأت لتشكل من جديد وجه بريطانيا وسماءها وروحها.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ملابساتها

كان على صاحب العمل والعامل كليهما أن يغيرا عاداتهما ومهارتهما وعلاقاتهما. فأما صاحب العمل الذي أخذ يتعامل مع عمال لا يفتأ عددهم في ازدياد، وفي دورة أسرع لرأس المال، فقد الصلة الحميمة بهم، واضطر أن ينظر إليهم لا بوصفهم معارف عاكفين على عمل مشترك، بل يشتغلون جزئيات في عملية لا يحكم عليها إلا بالأرباح. وكان معظم الحرفيين قبل في ورش النقابات أو في بيوتهم حيث لا تكون ساعات العمل صارمة 1760 لا تلين، وحيث يسمح بفترات للراحة؛ وفي عهد أسبق كانت هناك عطلات دينية تحرم الكنيسة فيها كل عمل يأتي بربح. وعلينا ألا نتمثل حال الرجل من عامة الشعب قبل الثورة الصناعية في صورة مثالية؛ ولكن لا نخطئ إذا قلنا أن المشاق التي تعرض لها آنذاك كانت تخفف منها التقاليد، والتعود، والهواء الطلق في كثير من الحالات. فلما تقدم التصنيع خفف من عناء العامل تخفيض ساعات العمل، وزيادة أجره، واتساع قدرته على الحصول على نصيب من السلع التي ازداد تدفقها من الآلات. ولكن تصف القرن الذي حدث فيه الانتقال من الحرفة والبيت إلى المصنع بعد 1760، كان لعمال إنجلترا نصف قرن حافلاً بالذل اللاإنساني الذي كان أحياناً شراً من العبودية.

كان أكثر المصانع في تلك الفترة يشترط اثنتي عشر ساعة إلى أربع عشرة ساعة من العمل في اليوم على مدى ستة أيام في الأسبوع(18). وكانت حجة أرباب العمل أنه لا مفر من الاحتفاظ بالعامل ساعات طويلة لأنه لا يمكن الاعتماد عليه في الحضور بانتظام: ذلك أن عمالاً كثيرين كانوا يسرفون في الشراب يوم الأحد إسرافا يعوقهم عن الحضور إلى المصنع يوم الاثنين؛ وكان هؤلاء-بعد أن يشتغلوا أربعة أيام يلزمون بيوتهم في الثلاثة الباقية. وقد فسر آدن سمث هذه الظاهرة فقال "أن الجهد المفرط خلال أربعة أيام من الأسبوع هو في حالات كثيرة السبب الحقيقي للتبطل في الأيام الثلاثة الباقية"؛ ونبه إلى أن إطالة فترة العمل أو الزيادة في سرعته قد تؤدي إلى الانهيار البدني أو العقلي؛ وأردف "أن الرجل الذي يعتدل في العمل اعتدالاً يمكنه من أن يعمل باستمرار لا يحتفظ بصحته أطول من غيره فحسب بل أنه على مدى السنة يؤدي أكبر قدر من العمل"(19).

أما الأجور الحقيقية فلا يمكن بالطبع قياسها إلا مرتبطة بالأسعار. ففي 1770 كان رغيف الخبز الذي يزن أربعة أرطال في نتنجهام يباع بنحو ستة بنسات، ورطل الجبن أو لحم الخنزير بأربعة، ورطل الزبد بسبعة، وقد حسب آدم سمث حوالي عام 1773 متوسط أجر العامل اللندني بعشرة شلنات، وفي المراكز الأصغر بسبعة، وفي إدنبرة بخمسة(20). وقال آرثر يونج حوالي عام 1770 أن الأجر الأسبوعي للعامل الصناعي الإنجليزي يتفاوت جغرافياً من ستة شلنات وستة بنسات إلى أحد عشر شلناً. وظاهر أن الأجور كانت أقل بالنسبة للأسعار منها الآن، ولكن بعض العمال اشتغلوا بعض الوقت بالعمل الزراعي. وبعد 1793، حين بدأت إنجلترا حربها الطويلة مع فرنسا الثائرة، ارتفعت الأسعار بأسرع كثيراً من ارتفاع الأجور، وبات الفقر مدقعاً. وأوصى كثير من اقتصاديي القرن الثامن عشر بخفض الأجور حفزاً للتشغيل المتصل. وحتى أرثر يونج صرح بهذا الرأي، وهو الذي أزعجه ما شهد من فقر في بعض أقاليم فرنسا: "لا يجهل إلا أبله أنه لا بد من الإبقاء على فقر الطبقات الدنيا وإلا لما نشطت أبداً"(21). أو كما قال ج.سمث:

" من الحقائق التي يعرفها جيداً كل خبير بهذا الموضوع أن العوز، إلى حد ما، يحفز على الاجتهاد، وأن الصانع (أي العامل اليدوي) الذي يستطيع العيش على شغل ثلاثة أيام، سيظل متبطلاً سكران بقية الأسبوع، ويمكننا على العموم أن نؤكد منصفين أن خفض الأجور في صناعة الصوف سيكون بركة على الشعب، ولن يضار منه الفقراء حقيقياً. وبهذه الطريقة قد نصون تجارتنا، وندعم دخولنا، ونصلح الشعب بالإضافة إلى هذه المنافع"(22).

واستخدمت النساء والأطفال في المصانع، عادة لأداء العمليات التي لا تحتاج إلى مهارة. وكانت بعض النساجات الماهرات يتقاضين أجوراً لا تقل عن أجور أزواجهن، ولكن الأجور العادية لعاملات المصانع بلغت في المتوسط ثلاثة شلنات وستة بنسات-ولم تزد على نصف أجور العمال إلا فيما ندر(23). وكانت مصانع الغزل والنسيج وحدها في 1788 تشغل 56.000 امرأة و48000 طفل(24). وكان السير روبرت بيل يستخدم نيفاً وألف طفل في مصنعه بلانكاشير(25). ولم يكن تشغيل الأطفال بدعاً في أوربا، فقد كان أمراً مسلماً به في المزارع والصناعة الأسرية. وإذ كان التعليم العام أمراً لم يرض عنه المحافظون لأنه يفضي إلى فائض في المتعلمين وندرة في العمال اليدويين، فإن قلة قليلة جداً من الإنجليز في القرن الثامن عشر هي التي رأت ضيراً في ذهاب الأطفال إلى المصنع بدلاً من المدرسة. وحين كانت الآلات من البساطة بحيث يستطيع الأطفال أن يقوموا عليها، رحب أصحاب المصانع بالغلمان والفتيات ذوي العوام الخمسة أو يزيد. وكان المسئولون في الأبرشيات الذين ضاقوا بالإنفاق على الأيتام أو أطفال الفقراء يجهزونهم لرجال الصناعة مغتبطين، أحياناً في أفواج من خمسين أو ثمانين أو مائة؛ وفي حالات عدة كانوا يشترطون أن يأخذ صاحب العمل طفلاً معتوهاً واحداً في كل عشرين طفلاً(26). وكان يوم العمل العادي للعمال الأطفال يتراوح بين عشر ساعات وأربع عشرة. وكثيراً ما كانوا يسكنون جماعات، وفي بعض المصانع كانوا يعملون في ورديات من اثنتي عشرة ساعة، بحيث ندر أن توقف الآلات أو خلت الأسرة من شاغليها. وكان النظام يحفظ باللطم أو الركل. وقد وجد المرض ضحايا عاجزين عن درئه في صبيان المصانع هؤلاء؛ وكثير منهم أصابه العمل بتشوهات في جسده أو الحوادث بعاهات مقعدة، ومنهم من قتل نفسه. وكان في بعض الرجال من رقة الشعور ما يكفي لذم تشغيل الأطفال هذا، على أن هذا التشغيل تقلص لا لأن الناس أصبحوا أكثر رحمة، بل لأن الآلات أصبحت أشد تعقيداً.

وأخضع الأطفال والنساء والرجال في المصانع لظروف ونظم لم يعرفوها من قبل. وكانت المباني في حالات كثيرة تشيد على عجل دون توخ للمتانة، مما أعان قطعاً على كثرة الحوادث وتفشي المرض. وكانت القواعد صارمة، وانتهاكاتها تعاقب بغرامات قد تفقد العامل أجر يومه(27). وكانت حجة أرباب العمل أن العناية الواجبة بالآلات وضرورة التنسيق بين مختلف العمليات، والعادات المتسيبة لسكان لم يألفوا النظام أو السرعة-كل هذا يتطلب ضبطاً صارماً إذا أريد ألا تقضي الفوضى والتبديد على الأرباح وترفع سعر المنتجات بحيث تخرجها من السوق في داخل البلاد وخارجها. واحتمل العمال الانضباط لأن الصانع العاطل كان يواجه الجوع والبرد هو وأسرته، وكان العامل المشتغل يعرف أن العمال العاطلين يتوقون إلى أخذ وظيفته، ومن ثم كان من مصلحة رب العمل أن يكون هناك "وعاء" من المتعطلين يأخذ منه البدائل للعمال المقعدين أو الساخطين أو المرفوتين. وحنى العامل الكفء الحسن السير والسلوك كان يواجه الرفت إذا تشبعت السوق المتاحة بـ "إنتاج زائد" يفوق قدرتها الشرائية، أو إذا وضع السلام نهاية لاستعداد الجيوش المبارك لطلب مقادير متزايدة من السلع واستهلاكها بأسرع ما يمكن.

وكان العمال ف يظل نظام النقابات الحرفية محميين بالأوامر النقابية أو البلدية، أما في حركة التصنيع الجديدة فلم يجدوا حماية تذكر من القانون أو أي حماية إطلاقاً. وكانت دعوة الفزيوقراطيين لتحرير الاقتصاد من التنظيم قد تقدمت في إنجلترا كما تقدمت في فرنسا؛ وأقنع أصحاب الأعمال البرلمان بأنهم لا يستطيعون مواصلة عملياتهم أو التصدي للمنافسة الأجنبية ما لم تترك الأجور لتحكمها قوانين العرض والطلب. وكان قضاة الصلح يحتفظون من قبل ببعض الأشراف على الأجور في مصانع القرى، أما في المصانع بعد 1757، فلم يكن لهم أي إشراف(28). ولم تر الطبقتان العليا والوسطى مبرراً للتدخل في شئون أقطاب الصناعة، وكان فيض الصادرات المتعاظم يفتح أسواقاً جديدة للتجارة البريطانية؛ وكان الإنجليز القادرون على الشراء مسرورين بوفرة المصنوعات.

ولكن العمال لم يصيبوا قسطاً من هذا الثراء فقد ظلوا-رغم تكاثر السلع بفضل الآلات التي يقومون عليها-فقراء عام 1800 كما كانوا قبل قرن(29). ثم أنهم لم يعودوا يملكون أدوات حرفتهم، ولم يكن لهم نصيب يذكر في تصميم السلعة المنتجة، ولم ينالوا كسباً من توسع السوق التي يغذونها. وزادوا فقراً على فقر بمواصلة الإنجاب المرتفع الذي يؤتي ثماره في المزرعة؛ ووجدوا أكبر عزاء لهم في الشراب والجنس، وظلت نساؤهم يقومن بعدد من يلدن من الأطفال. وانتشر الفقر المدقع؛ وارتفعت المصروفات المخصصة لإغاثة الفقراء من 600.000 جنيه في 1742 إلى 2.000.000 جنيه في 1784(30). ولم تستطع الزيادة في الإسكان أن تساير هجرة العمال الصناعيين أو تكاثرهم، وكثيراً ما أكرهوا على العيش في مساكن متداعية تتزاحم في شوارع ضيقة كئيبة. وعاش بعض العمال في أقباء زادت رطوبتها من أسباب المرض. ولم يحل عام 1800 حتى كانت كل المدن الكبرى قد قامت فيها أحياء فقيرة مزدحمة باتت ظروف العيش فيها أسوأ من أي ظروف عرفت في تاريخ إنجلترا السابق.

وحاول العمال تحسين ظروفهم بالمشاغبات أو الاضطرابات أو التنظيم، فهاجموا المخترعات التي تهددهم بالبطالة أو العمل الشاق والأجر الحقير، وقرر البرلمان في 1769 اعتبار تخريب الآلات جناية(31). ولكن العمال في مصانع لانكاشير تجمعوا رغم ذلك عام 1779 في حشد من الغوغاء تعاظم من خمسمائة رجل إلى ثمانية آلاف؛ ثم جمعوا الأسلحة النارية والذخيرة؛ وصهروا الأطباق البيوترية ليصنعوا منها الأعيرة، وأقسموا أن يدمروا كل آلة في إنجلترا. وفي بولتن حطموا مصنعاً وأجهزته تحطيماً تاماً؛ وفي أولذم اقتحموا عنوة مصنع نسيج روبرت بيل (أبي السير روبرت الوزير)، وحطموا أجهزته الغالية. وكانوا في طريقهم للهجوم على مصنع آركرايت في كرامفورد حين لحق بهم الجنود المرسلون من لفربول، ففروا للفور مدحورين. وقبض على بعضهم وحكم عليهم بالشنق. وعلل قضاة الصلح هذا بأن "تدمير الآلات في هذا البلد لن تكون إلا الوسيلة لنقلها إلى البلاد الأخرى... مما يؤذي تجارة بريطانيا(32). وطلب "صديق للفقراء" مجهول الهوية إلى العمال أن يتحلوا بمزيد من الصبر "أن كل التحسينات بواسطة الآلات ينجم عنها أول الأمر بعض المصاعب لأشخاص بعينهم... أو لم يكن أول أثر للمطبعة هو حرمان الكثير من الناسخين من حرفهم؟"(33).

وحرم القانون تأليف الاتحادات العمالية بهدف المساومة الجماعية؛ ومع ذلك وجدت "جمعيات العمال المهرة" التي يرجع بعضها إلى القرن السابع عشر. وفي القرن الثامن عشر كثر عددها لا سيما بين صناع النسيج. وكانت أولاً أندية أو جمعيات لتبادل المنافع، ولكنها بتقدم القرن أصبحت أكثر عدواناً، ونظمت أحياناً الاضطرابات حين كان البرلمان يرفض ملتمساتها. مثال ذلك أن السنتين 1767-68 شهدتا اضطرابات للملاحين والنساجين وصانعي القبعات والخياطين وطاحني الزجاج؛ وصاحب العديد من هذه الاضطرابات العمالية عنف مسلح من الطرفين(34). وقد أجمل آدم سمث النتائج حتى 1776: "ليس من العسير أن نتكهن بانتظار أحد الفريقين حتماً" في النزاع في جميع الظروف العادية، وإكراهه الفريق الآخر على الامتثال لشروطه، فأرباب الأعمال يستطيعون لقلة عددهم أن يتكتلوا بأسهل كثيراً من العمال، والقانون... لا يحرم تجمعاتهم، في حين يحرم تجمعات العمال. وليس لدينا قوانين برلمانية تمنع التكتل لخفض أجور العمال، ولكن القوانين الكثيرة تمنع التكتل لرفعها. وفي جميع هذه النزاعات يستطيع أصحاب المصانع الصمود زمناً أطول بكثير... وكثير من العمال لا يستطيعون العيش وهم متعطلون ولو أسبوعاً واحداً، وقليلون يستطيعونه شهراً وندر من يستطيعونه سنة"(35). وأنفذ أصحاب العمل مشيئتهم سواء في المصانع أو في البرلمان؛ ففي 1799 قضى مجلس العموم بعدم شرعية أي اتحادات ترمي إلى الحصول على أجور أعلى أو إلى تغيير ساعات العمل، أو إلى إنقاص كمية العمل المطلوبة من العمال. ويعاقب العمال الداخلون في تكتلات كهذه بالسجن ويؤمن المبلغون عن هؤلاء العمال(36).


عواقبها

كانت نتائج الثورة الصناعية هي تقريباً كل شيء تلاها في إنجلترا إذا استثنينا الأدب والفن؛ وليس في الاستطاعة إيفاء هذه النتائج حقها من الوصف إلا إذا كتبنا تاريخاً للقرنين الأخيرين. على أننا يجب أن نلفت النظر ولو إلى القمم البارزة لعملية التغير المستمرة والتي لم تنته بعد.

1- تغير الصناعة نفسها بتكاثر المخترعات والآلات-وهي عملية من الكثرة بحيث تختلف طرائقنا الحاضرة في إنتاج السلع وتوزيعها عن طرائق عام 1800 أكثر من اختلاف هذه عن الطرائق التي سادت قبلها بألفي عام. 2- انتقال الاقتصاد من النقابات الحرفية المنظمة والصناعات الأسرية إلى نظام الاستثمار الرأسمالي والمشروعات الحرة. وكان آدم سمث الصوت البريطاني للنظام الجديد، وأسبغ بت الثاني على النظام التكريس الحكومي في 1796. 3- تصنيع الزراعة-أي الاستعاضة عن المزارع الصغيرة بمساحات كبيرة من الأرض تدار رأسمالياً، وتستخدم الآلات والكيمياء والقوة الميكانيكية على نطاق واسع لإنتاج الطعام والألياف لسوق قومية أو دولية-هذا التصنيع ماض في طريقه اليوم. والمزرعة التي كانت تفلحها الأسرة تنضم إلى النقابات الحرفية في ركب ضحايا الثورة الصناعية. 4- تشجيع العلم وتطبيقه وبثه. وقد انصب التشجيع أولاً على البحوث العلمية ولكن الدراسات في العلم البحت أفضت إلى نتائج عملية هائلة، ومن ثم فقد مولت البحوث النظرية أيضاً، وأصبح العلم هو الطابع المميز للحياة الحديثة كما كان الدين للحياة الوسيطة. 5- أعادت الثورة الصناعية (لا نابليون كما توقع بيت الثاني) رسم خريطة العالم بضمنها سيادة بريطانيا على البحار وعلى أكثر المستعمرات جلباً للأرباح على مدى 150 عاماً. وقد عززت الإمبريالية لأنها حملت إنجلترا-ثم غيرهم من الدول الصناعية-على فتح أصقاع أجنبية تستطيع أن توفر الخامات أو الأسواق أو التسهيلات للتجارة أو الحرب. وأكرهت الشعوب الزراعية على التصنيع وتقوية نفسها عسكرياً لتحصل على حريتها أو تصونها، وخلقت روابط اقتصادية أو سياسية أو حربية جعلت الاستقلال وهمياً والتكافل واقعياً. 6- غيرت إنجلترا طابعاً وحضارة بتكثير سكانها، وتصنيع نصفها، وتحريكها شمالاً وغرباً إلى مدن مجاورة لمناجم الفحم أو الحديد، أو للطرق المائية أو البحر؛ وهكذا نمت ليدز وشفيلد ونيوكاسل ومانشستر وبرمنجهام ولفربول وبرستل... وقد حولت الثورة الصناعية مناطق شاسعة من إنجلترا، ومن غيرها من الدول المصنعة، إلى بقع ملطخة من الأرض تنفث دخان المصانع وتختنق بالغازات والغبار، وأرسبت الخبث البشري في أحياء قذرة مدخنة بائسة. 7- مكنت الحرب ووسعتها وجردتها من الطابع الشخصي ورفعت قدرة الإنسان على التدمير أو القتل بدرجة هائلة. 8- فرضت تحسيناً وسرعة في المواصلات والنقل وبهذا يسرت تكتلات صناعية أكبر وسهلت في مناطق أوسع من رأس مال واحد. 9- ولدت الديموقراطية برفعها طبقة رجال الأعمال إلى مكانة الثراء المهيمن، وإلى التفوق السياسي نتيجة تدريجية لذلك. ولأحداث هذا الانتقال الخطير للسلطة ورغبة في حمايته، جندت الطبقة الجديدة تأييد قطاع متزايد من الجماهير، واثقة من أن في الإمكان الاحتفاظ بولائها بالهيمنة على وسائل الإعلام وتلقين المبادئ. ولكن رغم هذه الهيمنة أصبح شعب الدول الصناعية أفضل الجماهير إعلاماً في التاريخ الحديث. 10- وإذا كانت الثورة الصناعية المتطورة تتطلب مزيداً من التعليم في العمال والمديرين، فإن الطبقة الجديدة مولت المدارس والمكتبات والجامعات على نطاق لم يحلم به أحد من قبل. وكان الهدف تدريب الذكاء التقني، وكانت الحصيلة الجانبية توسعاً لم يسبق له نظير في الذكاء العلماني. 11- نشر الاقتصاد الجديد السلع وأسباب الرفاهية بين نسبة من السكان تفوق كثيراً أي نظام سابق لم يكن من سبيل أمامه لصيانة إنتاجيته المطردة الارتفاع إلا بقوة شرائية مطردة الاتساع في الشعب. 12- أرهفت العقل الحضري، ولكنها بلدت الحس الجمالي؛ وأصبحت مدن كثيرة قبيحة المنظر قبحاً يغم النفوس وفي النهاية أقلع الفن نفسه عن نشدان الجمال. وكان من آثار إسقاط الأرستقراطية عن عرشها-زوال حفظة المعايير والأذواق وحكمتها، وهبط مستوى الأدب والفن. 13- رفعت الثورة الصناعية أهمية الاقتصاد ووضعه، وأفضت إلى التفسير الاقتصادي للتاريخ، وعودت الناس على التفكير بلغة العلة والمعلول الماديين، وأفضت إلى نظريات ميكانيكية النزعة في علم الأحياء فحواها محاولة تفسير جميع عمليات الحياة على أنها أفعال ميكانيكية. 14- تضافرت هذه التطورات في العلم، والنزعات الشبيهة في الفلسفة، مع الأحوال الحضرية والثراء المتسع، على إضعاف العقيدة الدينية. 15- غيرت الثورة الصناعية من الأخلاقية. إنها لم تغير طبيعة الإنسان ولكنها أعطت قوى وفرصاً جديدة لغرائز قديمة نافعة بدائياً، مكدرة اجتماعياً. وأكدت حافز الكسب إلى حد بدا فيه مشجعاً ومكثفاً لأنانية الإنسان الفطرية. لقد كانت الغرائز غير الاجتماعية تجد كابحاً لجماحها في سلطة الوالدين، وفي التعليم الأخلاقي في المدارس، وفي التلقين الديني. ولكن الثورة الصناعية أضعفت هذه الكوابح كلها. وكانت الأسرة في النظام الزراعي هي وحدة الإنتاج الاقتصادي كما كانت وحدة الاستمرار العرقي والنظام الاجتماعي؛ وكانت تعمل جماعة على الأرض خاضعة للنظام الذي يفرضه الأبوان والفصول؛ وقد علمت التعاون وشكلت الخلق. أما النزعة الصناعية فقد جعلت الفرد والشركة هما وحدتي الإنتاج، وفقد الأبوان والأسرة الأساس الاقتصادي لسلطتهما ووظيفتهما الأخلاقية. وإذ أصبح تشغيل الأطفال غير مجز في المدن لم يعد الأطفال نفع اقتصادي. وانتشر ضبط النسل، وأكثر انتشاره بين الأفراد الأكثر ذكاء، وأقله بين الأقل ذكاء، مما أحدث نتائج غير متوقعة للعلاقات العرقية والسلطة الثيوقراطية: وإذ حرر تحديد الأسرة والأجهزة الميكانيكية المرأة من هموم الأمومة وواجبات البيت، فقد جذبت إلى المصانع والمكاتب؛ وكان التحرير معناه التصنيع.وإذ استغرق الأبناء فترة أطول حتى يصلوا إلى الاعتماد على ذواتهم اقتصادياً فإن الفترة التي طالت بين النضج البيولوجي والاقتصادي جعلت العفة السابقة للزواج أشق، وحطمت الناموس الأخلاقي الذي كان ممكناً في المزرعة بفضل النضج الاقتصادي المبكر، والزواج المبكر، والعقوبات الدينية ووجدت المجتمعات الصناعية نفسها منساقة على غير هدى في فترة فاقدة لحس المسئولية الأخلاقية، بين ناموس أخلاقي يحتضر وآخر جديد لم يتشكل بعد.

وما تزال الثورة الصناعية ماضية في طريقها قدماً، وليس في قدرة عقل واحد أن يستوعبها في جميع مظاهرها، أو أن يصدر حكماً أخلاقياً على نتائجها. ولقد مقادير وأنواعا جديدة من الجرائم، وألهمت العلماء كل ما اتصف به المبعوثون الدينيون والراهبات من إخلاص وتفان، وأنتجت المباني القبيحة، والشوارع الكئيبة، والأحياء الفقيرة القذرة، ولكن هذه لم تكن مستمدة من صميمها، هو إحلال القوة المكنية محل الجهد البشري. وهي الآن تهاجم شرورها، لأنها وجدت أن الأحياء الفقيرة القذرة تكلف أكثر من التعليم، وأن التخفيف من الفقر يثري الأغنياء. وفي استطاعة المعمار الوظيفي والبراعة الميكانيكية-كما نرى في الكباري مثلاً-أن يخلقا جمالاً يزاوج بين العلم والفن. وأخذ الجمال يصبح مجزياً، والتصميم الصناعي يتبوأ مكانه بين فنون الحياة وأسباب تجميلها.