قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 5 ف 20

صفحة رقم : 13690

قصة الحضارة -> روسو والثورة -> الشمال البروتستنتي -> ألمانيا في عهد فردريك -> فردريك المظفر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الخامس: الشمال البروتستنتي

الفصل العشرون: ألمانيا في عهد فردريك 1756 - 1786

فردريك المظفر

من هذا الغول الذي أثار الخوف والإعجاب دولياً، والذي سرق سيليزيا، وهزم نصف أوربا المتحد ضده، وهزأ بالدين، وازدرى الزواج، وأعطى فولتير دروساً في الفلسفة، واقتطع بعض أوصال بولندة ولو ليمنع روسيا من التهاماً كلها؟ لقد بدأ أقرب إلى الأشباح منه إلى الغيلان يوم عاد حزيناً منتصراً من حرب السنين السبع ودخل برلين (30 مارس 1763) بين تصفيق الجماهير المملقة. كتب إلى دارجنس يقول "إني أن أعود إلى مدينة لن أعرف فيها غير الأسوار، ولن أجد أحداً من معارفي، حين تنتظرني مهمة ضخمة، وحيث أخلف بعد زمن غير طويل عظامي في مثوى لا تكدر هدوءه الحرب ولا الكوارث ولا سفالة الإنسان"(1) كانت بشرته قد جفت وتغضنت، وعيناه الزرقاوان الرماديتان داكنتين منتفختين، ووجهه يحمل آثار المعركة والمرارة، وأنه فقط هو الذي احتفظ بجلاله القديم. وقد ظن أنه لن يستطيع الحياة طويلاً بعد أن استنزفت الحرب الطويلة موارده جسداً وعقلاً وإرادة، ولكن زهده مد في أجله ثلاثة وعشرين عاماً آخر. كان مقلاً في طعامه وشرابه، لا يعرف الترف؛ يعيش ويلبس في قصره الجديد ببوتسدام كما لو كان في المعسكر، وكان يضن بالوقت المخصص للعناية بشخصه؛ وفي سنيه الأخير أقلع عن الحلاقة، واكتفى بجز لحيته بمقص بين الحين والحين؛ ورددت الشائعات أنه لم يكن يستحم كثيراً(2).

وأكملت الحرب تقسى خلقه الذي بدأ دفاعاً ضد قسوة أبيه. فكان يتطلع بهدوء رواقي بينما الجنود المحكوم عليهم يمرون ستاً وثلاثين مرة(3) بين صفين من الرجال يجلدونهم. وكان يتعقب موظفيه وقواده ويزعجهم بالجواسيس السريين، والتدخل المفاجئ، واللغة البذيئة، والأجر الشحيح وبضروب من الأوامر التفصيلية تخنق روح المبادرة والاهتمام. ولم يكسب قط حب أخيه الأمير هنري الذي جد وأخلص في خدمته في الدبلوماسية والحرب. وكان له بعض الصديقات، ولكنهن كن يخفنه أكثر مما يحببنه، ولم يسمح لواحدة منهن بدخول دائرة أخصائه. كان يحترم المعاناة الصامتة التي عانتها ملكته التي أهملها، وعند عودته من الحرب فاجأها بهدية من 25.000 طالر؛ ولكن من المشكوك فيه أنه شاركها فراشها إطلاقاً. ومع ذلك تعلمت أن تحبه إذا رأته بطلاً في المحن مخلصاً في الحكم؛ وكانت تشير إليه في حديثها عنه بعبارة "ملكنا العزيز" و "هذا الملك العزيز الذي أحبه وأعبده"(4). ولم يكن له ولد، ولكنه كان شديد التعلق بكلابه، وكان اثنان منها ينامان عادة في حجرته ليلاً، ربما لحراسته؛ وكان أحياناً يستصحب أحدهما إلى فراشه ليدفئه بحرارة الحيوان. وعندما مات آخر كلابه الكثيرة لديه "بكى اليوم كله"(5). وقد ظن به اللواط(6). ولكنا لا نملك في هذه الشبهة غير التخمين.

وعلى أنه كان يخفي تحت جلده العسكري الصلب عناصر من الحنان نبدر أن كشف عنها أمام الناس. فقد بكى كثيراً لموت أمه، وكان يرد على محبة أخته فلهلمينه الحارة بمحبة مخلصة. وقد وزع على بنات أخيه بعض الأفضال الصغيرة غير الملحوظة. كان يضحك من عواطف روسو المفرطة، ولكنه اغتفر له عداءه وعرض عليه الملجأ حين نبذه العالم المسيحي. وكان يتنقل بين التدريب الصارم لجنوده وصفير الألحان من نايه. وقد ألف الصوناتات والكونشرتوات والسمفونيات التي شارك في أدائها أمام حاشيته. وسمعه العالم بيرني هناك، وقرر أنه عزف "بضبط شديد، واستهلال صافي منسق، ولعب بالأصابع بديع، وذوق نقي بسيط، ودقة بالغة في التنفيذ، إتقان متساو في كل معزوفاته"، على أن بيرني يضيف إلى ما ذكر أنه في بعض الفقرات الصعبة،... اضطر جلالته-على عكس ما تقتضيه القواعد-أن يلتقط نفسه ليكمل الفقرة(7) .

وفي سنوات لاحقة أكرهه ازدياد النهج وفقدان عدة أسنان على الإقلاع عن العزف على الناي، ولكنه استأنف دراسة الكلافير. وكانت الفلسفة هوايته المحببة بعد الموسيقى. كان يحب أن يشاركه مائدته فيلسوف أو اثنان ليسلخ جلد القساوسة ويستفز قواد الجيش. وكان ثابت القدم كفؤاً لفولتير في رسائله معه. وقد بقي على شكوكيته في حين اعتنق معظم جماعة الفلاسفة العقائد الجازمة والخيالات الشاطحة. وكان أول حاكم في العصور الحديثة يجهر بلادينيته، ولكنه لم يهاجم الدين علناً. وذهب إلى أن "لدينا من درجات الأرجحية ما يكفي لبلوغ اليقين بأن "لا شيء بعد الموت"(9)، ولكنه رفض حتمية دولباخ وأكد (كرجل هو الإرادة المتجسدة) أن العقل يؤثر على الأحاسيس على نحو خلاق، وأن في استطاعة العقل أن يسيطر على دوافعنا الفطرية بالتعليم(10) أما حب الفلاسفة إليه فهم (صديقي لوكريتيوس... وإمبراطوري الطيب ماركوس أوريليوس"؟ وعنده أن أحداً لم يضف إليهما شيئاً ذا بال(11).

وقد اتفق مع فولتير على الاعتقاد بأن "الجماهير" تسرف في إنسالها وتفرط ف كدها بحيث لا يتسع لها الوقت للتعليم الحقيقي. ولن يجدي تبصيرها بأوهام اللاهوت إلا في دفعها إلى العنف السياسي. وهو يقول في هذا "إن التنوير نور من السماء للواقفين على القمم، وجمرة مدمرة للجماهير"(12)، وقد أجمل قوله هذا تاريخ مذابح سبتمبر 1792 وإرهاب 1793 قبل أن تبدأ الثورة الفرنسية. وكتب إلى فولتير في أبريل 1759 يقول "فلنعترف بهذه الحقيقة: إن الفلسفة والفنون والآداب لا تنتشر إلا بين قلة من الناس، أما الجماهير العريضة... فتظل كما جبلتها الطبيعة، حيوانات شريرة حاقدة"(13) وكان يسمى النوع الإنساني (في شيء من المزاح). "هذا الجنس الملعون"-ويضحك من أحلام الخير والسلام يقول:

"إن الخرافة والنفعية والانتقام والخيانة ونكران الجميل سوف تثير المعارك الدامية المحزنة إلى آخر الدهر، لأننا محكومون بالعواطف، ونادراً، جداً بالعقل. ولن تنقطع أبداً الحروب وقضايا المحاكم ومظاهر الدمار والأوبئة والزلازل والتفاليس... وما دام الأمر كذلك، ففي ظني أن هذا الوضع ضرورة لا بد منها... ولكن يلوح لي أنه لو كان هذا الكون قد فطره كائن خير لخلقنا أسعدد ما نحن... إن العقل البشري ضعيف، وأكثر من ثلاثة أرباع البشر خلقوا ليخضعوا لأسخف ضروب التعصب. فالخوف من الشيطان والجحيم يبهر عيونهم، وهم يكرهون الرجل الحكيم الذي يحاول تنويرهم... وعبثاً التمس فيهم صورة الله التي يؤكد اللاهوتيون أنهم يحملونها. إن في داخل كل إنسان وحشاً، وقليلون هم الذين يستطيعون ترويضه، وأكثر الناس يرخون له اللجام ما لم يكبحهم الخوف من القانون"(14).

وقد خلص فردريك إلى أن السماح للحكومات بأن تتسلط عليها الأغلبية مجلبة للكوارث. فلكي تحيا الديمقراطية يجب أن تكون-كغيرها من نظم الحكم-أقلية تقنع الأغلبية بأن تسمح لنفسها بأن تقودها الأقلية. وقد رأى فردريك رأى نابليون فيما بعد من أن "الأرستقراطية موجودة دائماً بين الأمم وفي الثورات"(15) وآمن بأن الأرستقراطية الوراثية تربي الإحساس بالشرف والولاء، والرغبة في خدمة الدولة بتضحية شخصية بالغة، لا يمكن توقعها من نوابع البورجوازيين الذين نشأوا بفضل التسابق على الثروة، لذلك أحل بعد الحرب شباب النبلاء محل معظم ضباط الطبقة الوسطى الذين ترقوا في الجيش(16). ولكن بما أن هؤلاء النبلاء المعتزين بعراقتهم قد يصبحون مصدراً للتفتت والفوضى، وأداة للاستغلال، إذن فلا بد من أن يحمي ملك مطلق السلطة الدولة من الانقسام، ويدفع الظلم الطبقي عن عامة الشعب.

وكان فردريك يحب أن يصور نفسه خادماً للدولة والشعب. وربما كان هذا تبريراً لإرادة القوة فيه، ولكنه تسامى بحياته إلى مستوى دعواه. فأضحت الدولة عنده "الكائن الأعلى" الذي يبذل في سبيله نفسه وغيره؛ ومطالب خدمة الدولة تغلب عنده على ناموس الفضيلة الفردية؛ فالوصايا تتوقف عند أبواب الملوك. ووافقته جميع الحكومات على هذه "السياسة الواقعية"، وقبل معظم الملوك النظرة إلى الملكية على أنها خدمة مقدسة. وقد اعتنق فردريك هذا المفهوم من اتصاله بفولتير؛ ومن طريق إلصاقهم بفردريك طور الفلاسفة ونظريتهم "الملكية" ومؤداها أن الأمل الأكبر في الإصلاح والتقدم معقود على تنوير الملوك.

وهكذا أصبح برغم حروبه معبود الفلاسفة الفرنسيين، وهدأ من عدائهم له، حتى عداء روسو الفاضل. وقد رفض دالامبير طويلاً دعوات فردريك له، ولكنه لم يكف عن الثناء عليه. فكتب لفردريك يقول "إن الفلاسفة والأدباء في كل بلد طالما تطلعوا إليك يا مولاي قائداً ومثالاً لهم"(17) وأخيراً أذعن الرياضي المتحفظ للدعوات المتكررة، وأنفق شهرين مع فردريك في بوتسدام عام 1763. ولم تنتقص الألفة (والمعاش الذي أجراه عليه) من إعجاب دالامبير به. فقد أبهجه إغفال الملك لقواعد التشريفات، وأطربته تعليقاته-لا على الحرب والحكومة فحسب، بل على الأدب والفلسفة أيضاً، وقال لجولي دلسبيناس إن هذا الحديث كان أروع من أي حديث يتاح للمرء سماعه آنئذ في فرنسا(18). فلما ابتأس دالامبير في 1776 حزناً على موت جولي، بعث إليه فردريك برسالة تظهر هذا الغول في ثوب الرجل الحكيم الحنون:

"يؤسفني الخطب الذي ألم بك... إن جراح القلب أكثر الجراح إيلاماً... ولا شيء يبرئها غير الزمن... إن لي لسوء طالعي حظاً وفيراً جداً من الخبرة بالآلام التي تحدثها خسائر كهذه. وخير دواء هو سيطرة المرء على نفسه ليصرف تفكيره بعيداً... وخليق بك أن تختار بحثاً هندسياً يتطلب العكوف الدائم عليه... إن شيشرون أغرق نفسه في التأليف ليتعزى عن موت حبيبته تلياً... وفي مثل سنك وسني خليق بنا أن نكون أكثر استعداداً للسلوى لأن لحاقنا بمن فجعنا فيهم لن يطول"(19).

ثم حث دالامبير على أن يحضر ثانية إلى بوتسدام "سوف نفلسف معاً تفاهة الحياة... وبطلان الرواقية... وسوف أشعر بالسعادة في تهدئة حزنك كأنني انتصرت في معركة." هنا على الأقل ملك أحب الفلاسفة، إن لم يكن ملكاً فيلسوفاً بكل معنى الكلمة.

ولكن هذه المعاملة لم يعد يطبقها على فولتير، ذلك أن خلافاتهما في برلين وبوتسدام، والقبض على فولتير في فرانكفورت-كل هذا ترك جراحاً أعمق من الحزن. وبقي الفيلسوف يعاني الألم والمرارة أطول مما بقي الملك. فأخبر الأمير دلين أن فردريك "لا قدرة له على عرفان الجميل، ولم يعترف قط بجميل إلا للجواد الذي هرب على ظهره في معركة مولفتس"(20). ثم عاد تبادل الرسائل بين ألمع رجلين في القرن حين كتب فولتير إلى فردريك محاولاً أن يثني المحارب اليائس على الانتحار. وراحا يتبادلان العتاب والمجاملات. وذكر فولتير فردريك بالإهانات التي لقيها الفيلسوف وابنة أخته من عمال الملك، وأحاب فردريك: "لولا صلتك برجل فتن حباً بعبقريتك الرائعة لما أفلت بهذه السهولة... فاعتبر الأمر كله منتهياً، ولا تذكر لي شيئاً بعد اليوم عن ابنة أختك تلك المتعبة"(21). ولكن الملك رغم هذا لاطف الذات المفلسفة على نحو ساحر:

"أتريد كلاماً حلواً؟ حسناً جداً، سأخبرك ببعض الحقائق. إنني أقدر فيك أروع عبقرية ولدتها الأجيال، إنني أعجب بشعرك، وأحب نثرك... ولم يؤت كاتب قبلك مثل هذه اللمسة المرهفة، ولا مثل هذا الذوق الأصيل الرقيق... إنك ساحر في حديثك، تعرف كيف ترفه وتعلم في وقت واحد. إنك أكثر المخلوقات التي عرفتها إغواء... كل شيء في حياة الإنسان يتوقف على الزمان الذي يجيء فيه إلى هذا العالم. وأنا وإن جئت متأخراً جداً، إلا أنني لست بآسف على هذا، لأنني رأيت فولتير،... ولأنه يكتب لي"(22).

وأعان الملك بتبرعاته السخية حملات فولتير دفاعاً عن أسرتي كالاس وسيرفان، وصفق للحرب التي شنها على الكنيسة الكاثولكية (L,infame)، ولكنه لم يشارك جماعة الفلاسفة ثقتهم في تنوير النوع الإنساني. فقد تنبأ بفوز الخرافة في السباق بينها وبين العقل. فتراه يكتب إلى فولتير في 13 سبتمبر 1766 يقول: "إن مبشريك سيفتحون أعين قلة من الشباب... ولكن ما أكثر الحمقى الذين لا يعقلون في هذا العالم!.. صدقني، لو أن الفلاسفة أقاموا حكومة فلن يمضي نصف قرن حتى يخلق الشعب خرافات جديدة... قد يتغير موضوع العبادة، كما تتغير الأزياء في فرنسا؛ (ولكن) ما أهمية أن يسجد الناس أمام قطعة من الفطير، وأمام العجل أبيس، أو أمام تابوت العهد، أو أمام تمثال من التماثيل؟ لأيهم الاختيار، فالخرافة واحدة، والعقل لا يكسب شيئاً"(23). على أن فردريك تصالح مع الدين بعد أن قبله ضرورة بشرية، فحمى كل صوره السلمية بمنتهى التسامح. ففي سيليزيا التي غزاها ترك الكاثوليكية هادئة دون إزعاج، فيما عدا فتحه أبواب جامعة برلين لجميع المذاهب، وكانت من قبل وقفاً على الكاثوليك.. ثم رحب باليسوعيين بصفتهم معلمين ذوي قيمة كبرى، وكانوا بعد أن طردهم الملوك الكاثوليك قد التمسوا ملجأ تحت حكمه اللا أدري. وبالمثل بسط حمايته على المسلمين واليهود والملحدين؛ وفي عهده وفي مملكته مارس كانط حرية الكلام والتعليم والكتابة، وهي الحرية التي لقيت أشد تعنيف وقضي عليها بعد موت فردريك. وفي ظل هذا التسامح اضمحلت معظم صور الدين في بروسيا. ففي 1780 كان هناك كنسي واحد لكل ألف من سكان برلين، وفي ميونخ ثلاثون(24). وقد ذهب فردريك إلى أن التسامح سيقضي على الكاثوليكية عاجلاً. كتب إلى فولتير في 1767 يقول "لا بد من حدوث معجزة لكي تعود الكنيسة الكاثوليكية إلى سابق عزها، فلقد أصيبت بسكتة دماغية خطيرة، وسوف يمد في أجلك لتتعزى بدفنها وكتابة قبريتها"(25). ولكن أشد الشكاك غلواً في شكوكيته نسي لحظة أن يشك في الشكوكية.


إعادة بناء بروسيا

لم يكد حاكم في التاريخ في صناعة الحكم كما كد فردريك، ربما باستثناء تلميذه جوزيف الثاني إمبراطور النمسا، كان يأخذ نفسه كما يأخذ جنوده بالتدريب الشاق، فيستيقظ عادة في الخامسة، وأحياناً في الرابعة، ويشتغل حتى السابعة، ثم يفطر، ويجتمع بمساعديه حتى الحادية عشرة، ويستعرض حرس قصره، ويتناول الغذاء في النصف بعد الثانية عشرة مع الوزراء والسفراء، ثم يعمل حتى الخامسة، وعندها فقد يسترخي بالموسيقى والأدب الحديث. أما عشاء "نصف الليل" بعد الحرب، فكان يبدأ في التاسعة والنصف، وينتهي في الثانية عشرة، ولم يسمح لأي روابط أسرية بأن تصرفه عما هو عاكف عليه، ولا لأي مراسم بلاطية بأن تثقله، ولا لأي عطلات دينية بأن تقطع عليه كده، وكان يراقب وزرائه، ويملي كل خطوة تقريباً من خطوات السياسة، ويرقب حالة الخزانة، وقد أنشأ فوق الحكومة كلها ديواناً للمحاسبات، خول له سلطة فحص أي مصلحة في أي وقت. وأصدر إليه تعليماته بأن يبلغ عن أي شبهة مخالفة. وكان يعنف في معاقبة الانحراف أو عدم الكفاية عنفاً اختفى معه من بروسيا أو كاد ذلك الفساد الحكومي الذي استشرى في كل بلد آخر من بلدان أوربا.

وكان يعتز بهذا العمل، وبسرعة إفاقة وطنه مما حاق به من دمار. بدأ بألوان من الاقتصاد في بيته أثارت السخرية من بلاطي النمسا وفرنسا المسرفين رغم أنهما بلدان مهزومان. فكان البيت الملك يدار باقتصاد شديد كأنه بيت حرفي. فصوان ملابسه لا يحوي غير حلة جندي، وثلاثة معاطف قديمة، وصدريات متسخة بالنشوق، ورداء رسمي لازمه طوال حياته. وقد طرد بطانة أبيه من الصيادين وكلاب الصيد. ولم يبن أسطولاً، ولم يسع إلى تلك المستعمرات. وكان موظفوه يتقاضون أجوراً زهيدة، وقد أنفق بمثل هذا البخل على البلاط المتواضع الذي احتفظ به في برلين حينما هو مقيم في بوتسدام. ومع ذلك فقد حكم إيرل تشسترفيلد عليه بأنه أكثر بلاط في أوربا أدباً وتألقاً ونفعاً لشاب أن يوجد فيه،" ثم أردف قائلاً: "سترى فنون الحكم وحكمته في ذلك البلد الآن (1752) خيراً مما تراها في أي بلد آخر في أوربا"(26). على أنه بعد عشرين سنة من هذا التاريخ كتب اللورد مالمسبري، السفير البريطاني لدى بروسيا، ربما لتعزية لندن، يقول إنه "ليس في تلك العاصمة (برلين) رجل فاضل واحد ولا امرأة عفيفة واحدة"(27).

على أن فردريك كان يكبح شحه إذا اتصل الأمر بالدفاع القومي. فسرعان ما أعاد جيشه إلى سابق قوته بفضل الإقناع والتجنيد الإجباري؛ فهذا السلاح الذي في متناوله هو وحده الذي يتيح له صيانة وحدة أراضي بروسيا أمام أطماع جوزيف الثاني وكاترين الثانية. وكان على ذلك الجيش كذلك أن يدعم القوانين التي هيأت النظام والاستقرار للحياة البروسية. وقد أحس أن القوة المركزية هي البديل الوحيد للقوة المختلة الممزقة توضع في أيدي الأفراد. وكان يؤمل أن تتطور الطاعة بدافع الخوف من القوة، إلى طاعة بدافع الاعتياد على القانون-وهي قوة اختزلت إلى قواعد وأخفت براثنها.

وقد جدد أمره للفقهاء بأن ينسقوا في نظام قانوني واحد (قانون بروس عام) التشريع المتنوع المتناقض للكثير من الأقاليم والأجيال. وكانت هذه المهمة قد توقفت بموت صموئيل فون كوكسيجي (1755) وبنشوب الحرب، فاستأنفها الآن المستشار يوهان فون كارمر وعضو المجلس الخاص ك. ج. سفاريتس، واستكملت في 1791. وقد سلم القانون الجديد بوجود الإقطاعية والقنية، ولكنه حاول في هذه الحدود أن يحمي الفرد من الطغيان أو الظلم الخاص أو العام. فألغى المحاكم التي لا ضرورة لها. وقلل من الإجراءات القانونية وعجلها، وخفف العقوبات، وصعب الشروط اللازمة للتعيين في وظائف القضاء. وتقرر ألا ينفذ حكم بالإعدام إلا بتصديق الملك، وفتح للجميع باب الاستئناف أمام الملك. وقد اكتسب سمعة العدالة المحايدة، وسرعان ما اعترف الجميع للمحاكم البروسية بأنها أنزه وأكفأ المحاكم في أوربا(28).

وفي 1763 أصدر فردريك النظام التعليمي العام ليثبت ويوسع التعليم الإلزامي الذي أعلنه أبوه في 1716-17. فتقرر أن يذهب كل طفل في بروسيا من سن الخامسة إلى الرابعة عشرة إلى المدرسة. ومن صفات فردريك المميزة إسقاط اللاتينية من منهج التعليم الأولى، وتعيينه قدامى الجند معلمين، وجعله منظم التعليم يجري بتدريب أشبه بالتدريب العسكري(29). وقد أضاف الملك: "من الخير أن يعلم المدرسون في الريف الأحداث الدين والأخلاق... وحسب أهل الريف أن يتعلموا القليل من القراءة والكتابة... ولا بد من تخطيط التعليم... بحيث يبقى عليهم في القرى ولا يؤثر عليهم ليهجروها"(30). وحظي تجديد البناء الاقتصادي بالأولوية في الوقت والمال. فبدأ فردريك باستخدام المال الذي جمع من قبل لحملة حربية أخرى-زالت الحاجة إليها الآن-في تمويل تعمير المدن والقرى وتوزيع الطعام على المجتمعات الجائعة، وتقديم البذور للزراعات الجديدة؛ ثم وزع على المزارع ستين ألف حصان أمكن توفيرها من الجيش. وبلغت جملة المبالغ التي أنفقت على أعمال الإغاثة العامة 20.389.000 طالر(31). وأعفيت سيليزيا التي اجتاحتها الحرب من الضرائب ستة أشهر؛ وبنى فيها ثمانية آلاف بيت في ثلاث سنين، وقدم مصرف عقاري المال للفلاحين السيليزيين بشروط ميسرة. وأسست جمعيات للتسليف في مراكز شتى لتشجيع التوسع الزراعي. وصرفت مياه منطقة المستنقعات الممتدة على الأودر الأدنى، فهيأت أرضاً صالحة للزراعة لخمسين ألف رجل. وبعث المندوبون إلى الخارج لدعوة مهاجرين إلى بروسيا، فجاء منهم 300.000(32).

ولما كانت القنية تربط الفلاح بسيده، فإنه لم توجد في بروسيا حرية الانتقال إلى المدن، تلك الحرية التي يسرت في إنجلترة تطور الصناعة السريع. وقد جهد فردريك بكل الوسائل للتغلب على هذا المعوق. فأقرض الملتزمين المال بشروط ميسرة، وأجاز الاحتكارات المؤقتة، واستورد العمال، وفتح مدارس الصنائع، وأنشأ مصنعاً للبرسلان في برلين. وناضل لينشئ صناعة الحرير، ولكن أشجار التوت ذبلت في برد الشمال. وشجع التعدين النشيط في سيليزيا الغنية بالمعادن. وفي 5 سبتمبر 1777 كتب إلى فولتير كما يكتب أحد رجال الأعمال لزميل له يقول: "إنني عائد من سيليزيا راضياً عنها الرضى كله... فقد بعنا للأجانب ما قيمته 5.000.000 كراون من التيل، و1.200.000 كراون من القماش... وقد أمكن اكتشاف طريقة لتحويل الحديد إلى صلب أبسط كثيراً من طريقة ريومور"(33).

وتسهيلاً للتجارة ألغى فردريك المكوس الداخلية ووسع الموانئ، وحفر القنوات وشق ثلاثين ألف ميل من الطرق الجديدة. أما التجارة الخارجية فقد عاقتها الرسوم المرتفعة على الواردات والحظر المفروض على تصدير السلع الاستراتيجية؛ واقتضت الفوضى الدولية حماية الصناعة الوطنية لضمان الاكتفاء الصناعي في الحرب. ورغم ذلك نمت برلين قلباً للتجارة وللحكومة: ففي 1721 كانت تضم من السكان 60.000، وفي 1777 زادوا إلى 140.000(34). لقد كانت تتهيأ لتصبح عاصمة لألمانيا.

ولكي يمول فردريك هذا المزيج من الإقطاعية، والرأسمالية، والاشتراكية، والأوتقراطية، اقتضى شعبه من الضرائب قدراً يقرب مما رد عليهم من نظام اجتماعي وإعانات مالية وأشغال عامة. واحتفظ للدولة باحتكار الملح والسكر والتبغ والبن (بعد 1781)، وامتلك ثلث الأرض الصالحة للزراعة(35). وفرض الضرائب على كل شيء، حتى على المغنين الجائلين واستقدم هلفتيوس ليخطط له نظاماً محكماً في جميع الضرائب. وكتب سفير إنجليزي يقول: "إن مشروعات الضرائب الجديدة نفرت الشعب حقاً من ملكهم"(36). وقد ترك فردريك عند موته في خزانة الدولة 51.000.000 طالر-وهو ما يعادل إيراد الدولة السنوي مرتين ونصفاً.

وفي 1788 نشر ميرابو (الابن) بعد زيارات ثلاث لبرلين تحليلاً مدمراً عنوانه "في النظام الملكي البروسي تحت حكم فردريك الأكبر". وكان قد ورث عن أبيه مبادئ الفزيوقراطيين التي تنادي بالمشروعات الحرة، لذلك أدان نظام فردريك باعتباره دولة بوليسية، وبيروقراطية تخنق كل روح للمبادرة وتعدو على كل حرية شخصية. وكان في وسع فردريك أن يرد على هذه التهم بأنه لو انتهج سياسة "عدم التدخل Laissez Faire" في حالة الفوضى التي ضربت أطنابها في بروسيا عقب حرب السنين السبع لأفسدت عليه هذه السياسة انتصاره بما تجر من فوضى اقتصادية. لقد كان التوجيه أمراً حتمياً، وكان هو الرجل الوحيد الذي يستطيع القيادة الفعالة، وهو لا يعرف شكلاً من أشكال القيادة غير قيادة القائد الحربي لجنوده. لقد أنقذ بروسيا من الهزيمة والانهيار، ودفع الثمن يفقدانه حب شعبه له؛ وقد فطن إلى هذه النتيجة، وعزى نفسه بمبررات أخلاقية:

"إن البشر يتحركون إذا حثثتهم على الحركة، ويقفون إذا كففت عن دفعهم... والناس مقلون في القراءة، زاهدون في أن يتعلموا كيف يمكن التصرف في أي شيء بطرق مختلفة. أما أنا، أنا الذي لم أصنع بهم قط غير الخير، فهم يظنون أنني أريد أن أضع سكيناً على حلوقهم بمجرد أن يلوح احتمال إدخال أي تحسين مفيد، لا بل أي تغيير على الإطلاق. في مثل هذه الحالات اعتمدت على شرف هدفي وسلامة ضميري، وعلى المعلومات التي أملكها، ثم مضيت في طريقي هادئاً"(37). وقد انتصرت إرادته. فازدادت بروسيا حتى في حياءه غنى وقوة. وتضاعف عدد سكانها، وانتشر فيها التعليم، وأخفى التعصب الديني رأسه. صحيح أن هذا النظام الجديد اعتمد على الاستبداد المستنير، وأن هذا الاستبداد بقي بغير الاستنارة بعد أن مات فردريك، وأن الهيكل القومي اعتراه الضعف وانهار في فيينا أمام إرادة تعادل إرادة فردريك قوة وجبروتاً. ولكن الصرح النابليوني أيضاً، الذي اعتمد على إرادة رجل واحد وتفكيره، انهار هو أيضاً، وفي خاتمة المطاف كان بسمارك، وريث فردريك والمستفيد البعيد في تركته، هو الذي عاقب فرنسا التي سيطر عليها وريث نابليون، وهو الذي جعل من بروسيا وعشرات الإمارات دولة موحدة قوية هي ألمانيا.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الإمارات

لنذكر أنفسنا من جديد بأن ألمانيا لم تكن في القرن الثاني عشر أمة بل اتحاداً مفككاً من دول مستقلة تقريباً، قبلت صورياً الإمبراطور "الروماني المقدس" في فيينا رأساً لها، وأوفدت ممثلين لها بين الحين والحين إلى ديت إمبراطوري (رايشستاج)، أهم وظائفه الاستماع إلى الخطب، واحتمال عبء المراسم، وانتخاب إمبراطور جديد. وكان للدول لغة وآداب وفنون مشتركة، ولكنها تباينت في العادات والزي والعملة والعقيدة. وكان في هذا التفتت السياسي بعض الفوائد: فتعدد بلاطات الأمراء كان مواتياً لتنوع الثقافات تنوعاً مشجعاً؛ وكانت الجيوش صغيرة بدلاً من أن تكون متحدة فتصبح مصدر إرهاب لأوربا؛ ثم إن سهولة الهجرة فرضت على الدولة والكنيسة والشعب قسطاً كبيراً من التسامح في الدين والعادات والقانون. وكانت سلطة كل أمير مطلقة من الناحية النظرية، لأن المذهب البروتستنتي كرس "حق الملوك الإلهي". أما فردريك، الذي لم يقر بأي حق إلهي غير حق جيشه، فقد سخر من "معظم الأمراء الصغار، لا سيما الألمان منهم" الذين "يدمرون أنفسهم بالإشراف السفيه إذ يضللهم الوهم بعظمتهم المتصورة، فأصغر ابن لأصغ ابن لأسرة مقطعة يخيل إليه أنه من طراز لويس الرابع عشر، فيبني فرسايه، ويقتني الخليلات، ويحتفظ بجيش... له من القوة ما يكفي لخوض... معركة على مسرح فيرونا"(38).

وكانت أهم هذه الإمارات سكسونيا. وقد دالت دولة فنها ومجدها يوم تحالف أميرها الناخب فردريك أوغسطس الثاني مع ماريا تريزا ضد فردريك الأكبر، فقصف الملك القاسي درسدن ودمرها عام 1760 وفر الناخب إلى بولندة بصفته ملكها أوغسطس الثالث، ثم مات في 1763. وورث حفيده فردريك أوغسطس الثالث الإمارة الناخبة وهو في الثالثة عشرة، واكتسب لقب (العادل)، وحول سكسونيا إلى مملكة (1806)، واحتفظ طوال تقلبات كثيرة بعرشه إلى أن مات (1827). ويدخل كارل أويجن، دوق فورتمبرج، قصتنا في المقام الأول باعتباره صديقاً ثم عدواً لشيلر. وقد فرض الضرائب على رعاياه ببراعة لا ينضب معينها، وباع عشرة آلاف من جنوده لفرنسا، واحتفظ ببلاط كان في رأي كازانوفا "ألمع بلاط في أوربا"(39)، حوى مسرحاً فرنسياً، وأوبرا إيطالية، وسلسلة من المحظيات. ويعيننا أكثر منه في قصتنا كارل أوجسط، دوق ساكسي-فايمار الحاكم من 1775 إلى 1828؛ ولكننا سنراه في مظهر أكثر بهاء وهو محاط بنجوم أناورا سماء ملكه-فيلاند، وهردر، وجوته، وشيلر. وكان واحداً من فريق "المستبدين المستنيرين" الصغار الذين ساهموا في هذا العصر في نهضة ألمانيا حين شعروا بتأثير فولتير وبالمثال الذي ضربه فردريك. ونهج نهج هؤلاء رؤساء الأساقفة الذين حكموا مونستر وكولون وتريير وماينز وفورتزبورج-بامبرج باستكثارهم من المدارس والمستشفيات، وحدهم من إسراف البلاط، وتخفيفهم من الفوارق الطبقية، وإصلاحهم السجون، وتقديمهم الإعانات للفقراء، وتحسينهم أحوال الصناعة والتجارة. كتب أدموند بيرك يقول "ليس من السهل أن نجد أو نتصور حكومات أكثر اعتدالاً وتسامحاً من هذه الإمارات الكنسية"(40).

على أن الفوارق الطبقية كانت تؤكد في أكثر الدول الألمانية باعتبارها جزءاً من أسلوب الضبط الاجتماعي. فكان النبلاء والاكليروس وضباط الجيش وأرباب المهن والتجار والفلاحون يؤلفون طبقات منفصلة؛ وداخل كل فئة من هؤلاء درجات ومراتب صلبت كل منها ذاتها باحتقار المرتبة الأدنى منها. وكان زواج الفرد خارج طبقته أمراً مستحيلاً تقريباً، ولكن بعض التجار والماليين اشتروا النبالة. واحتكر النبلاء المناصب العليا في الجيش والحكومة، وقد اكتسب كثيرون منهم امتيازاتهم ببسالتهم أو كفايتهم ولكن الكثيرين كانوا عالة على المجتمع، لا يفضلون الحلل التي يرتدونها، يتنافسون على المكان الاجتماعي المقدم في البلاط، ويتبعون الموضات الفرنسية في اللغة والفلسفة والخليلات.

ومما يذكر بالفخر لأمراء ألمانيا الغربية وأساقفتها ونبلائها أنه لم يحل عام 1780 حتى كانوا قد أعتقوا فلاحيهم الأقنان، وبشروط يسرت الانتشار الواسع للرخاء في الريف. وقد ذهب رانيهولد لنتس إلى أن الفلاحين مخلوقات أفضل-أكثر بساطة ووداً وفطرية-من التجار الذين يحصون الدراهم أو شباب النبلاء الذين يختالون كبراً(41). وقد صورت سيرة هينريش يونج الذاتية (1777) حياة القرية في كدها اليومي وفي مهرجاناتها الموسمية في صورة مثالية؛ ووجد هردر أغاني الفلاحين الشعبية أصدق وأعمق من شعر الكتب؛ ووصف جوته في كتابه (الشعر والحقيقة) الاحتفال بموسم صنع الخمر بأنه "يغمر بالفرح إقليماً بأسره" من صواريخ وغناء ونبيذ(42). كان هذا جانباً من المشهد الألماني؛ أما الجانب الآخر فكان الجهد الشاق والضرائب المرتفعة والنساء يشخن في الثلاثين والأطفال الأميين يرتدون الأسمال ويتسولون في الشوارع. قالت إيفا كونيج لليسنج في 1770 "في إحدى المحطات تزاحم حولي... ثمانون شحاذاً... وفي ميونيخ جرت ورائي أسر بأكملها وأفرادها يصيحون بأنني بالتأكيد لن أتركهم يموتون جوعاً"(43).

لقد كانت الأسرة في القرن الثامن عشر أهم من الدولة أو المدرسة. أو المدرسة. وكان البيت الألماني المصدر والمركز للتهذيب الخلقي، والنظام الاجتماعي، والنشاط الاقتصادي. ففيه يتعلم الطفل أن يطيع أباً صارماً، ويلوذ بأم محبة، ويشارك في سن مبكرة في مختلف الواجبات البناءة التي تملأ فراغ اليوم. وقصيد شيلر "أغنية الجرس" تعطينا صورة مثالية ترى فيها "الزوجة الشديدة التواضع... تحكم دائرة الأسرة بحكمة، وتدرب البنات، وتكبح تهور الأولاد، وتعكف في كل لحظة من فراغها على نولها"(44). وكانت الزوجة خاضعة لزوجها، ولكنها معبودة أبنائها. أما خارج البيت، إلا في قصور الأمراء، فكان الرجال عادة يقصون النساء عن حياتهم الاجتماعية، ومن ثم كان حديثهم ينحو إلى الإملال أو البذاءة. أما في قصور الأمراء فكان هناك كثير من النساء المثقفات المهذبات السلوك. ويرى إكرمان أن بعضهن "يكتبن بأسلوب رائع ويفقن في هذا كثيراً من أشهر مؤلفينا"(45). وكان على نساء الطبقة العليا في ألمانيا، كما في فرنسا، أن يتعلمن الإغماء جزءاً من بضاعتهن، والاستعداد لذرف الدموع دليلاً على رقة شعورهن.

أما أخلاق البلاط فقد اقتدت بالمثل الفرنسية في الشراب والقمار والفسق والطلاق. تقول مدام دستال أن النبيلات من النساء كن يبدلن أزواجهن "في غير مشقة وكأنهن يرتبن أحداث تمثيلية"، وكن يفعلن هذا "بقليل من مرارة النفس"(46). وضرب الأمراء المثل في السلوك اللا أخلاقي ببيع جنودهم للحكام الأجانب؛ وهكذا بنى حاكم هسي-كاسل قصراً أنيقاً، وأنفق على بلاط مترف، من حصيلة إتجاره في جنوده. وبلغ مجموع ما باعه الأمراء الألمان-أو ما "أقرضوه" على حد تعبيرهم-خلال الثورة الأمريكية ثلاثين ألف جندي لإنجلترة مقابل 500.000 جنيه؛ ومن هؤلاء 12.500 لم يعودوا قط(47). ولم يبد ألمان القرن الثامن عشر خارج بروسيا ميلاً يذكر للحرب وهم يتذكرون أهوال القرن السابع عشر. ويبدو أن "الخلق القومي" يمكن أن يطرأ عليه التغيير من قرن لآخر. وكان الدين في ألمانيا أطوع للدولة منه في الأقطار الكاثوليكية. كان منقسماً إلى ملل ونحل، فحرم بذلك من حبر أعظم مرهوب ينسق عقيدته واستراتيجيته ودفاعه؛ وكان قادة الدين يعينهم الأمير، ودخل الدين يعتمد على مشيئته. وكان إيماناً قوياً في الطبقتين الوسطى والدنيا؛ ولم يتأثر بموجات الإلحاد التي تدفقت من إنجلترة وفرنسا غير النبلاء والمفكرين وبعض الأكليروس. وكان إقليم الراين أكثره من الكاثوليك، ولكن في هذا الإقليم بعينه شهدت هذه الحقبة قيام حركة تتحدى سلطة البابوات في جرأة.

وبيان ذلك أنه في 1763 نشر يوهان نيكولاوس فون هونتايم، أسقف تريير المساعد، متخفياً وراء اسم مستعار هو يوستينوس فبرونيوس،رسالة باللاتينية في "حالة الكنيسة، وسلطة بابا روما الشرعية" وترجم الكتاب من اللاتينية إلى الألمانية والفرنسية والإيطالية والأسبانية والبرتغالية، وأحدث ضجة في جميع أرجاء غربي أوربا. وقد قبل "فبرونيوس" سيادة البابا، ولكن على أنها سيادة شرف وإدارة تنفيذية؛ فالبابا غير معصوم، وينبغي أن يتاح استئناف قراراته أمام مجمع عام تكون له السلطة التشريعية النهائية في الكنيسة. وكان المؤلف سيء الظن بالتأثير المحافظ المستور للبلاط البابوي (الكيوريا)،-وألمع إلى أن التركيز المفرط للسلطة الكنسية تمخض عن حركة الإصلاح البروتستنتي؛ وقد تيسر اللامركزية رجوع البروتستنت إلى أحضان الكنيسة الكاثوليكية. وفي مسائل القانون البشري، لا الإلهي، يحق للأمراء العلمانيين أن يرفضوا طاعة البابوية، ولهم-إن لزم الأمر-حتى فصل كنائسهم القومية عن روما. وأدان البابا الكتاب (فبراير 1764)، ولكنه أصبح كتاب "صلاة للحكومات"(48) وقد رأينا تأثيره على يوزف الثاني.

ومال رؤساء أساقفة كولون وتريير وماينز وسالزبورج لآراء "فبرونيوس"، فقد رغبوا في الاستقلال عن البابا استقلال الإمارات الأخرى عن الإمبراطور. وعليه ففي 25 سبتمبر 1786 أصدروا "بيان إيمس التمهيدي" (قرب كوبلنتز) الذي كان خليقاً بإحداث حركة إصلاح بروتستنتي جديدة لو أخرج إلى حيز التنفيذ: "إن البابا أعلى سلطة في الكنيسة وسيظل أعلى سلطة فيها... ولكن الامتيازات (البابوية) التي لا تنحدر عن القرون المسيحية الأولى بل هي مبنية على المراسيم الإيزادورية الباطلة، والتي تنتقص من قدر الأساقفة... لم يعد في الإمكان أن تعد قانونية، فهي تنتمي إلى اغتصابات الكيوريا الرومانية؛ وللأساقفة الحق (ما دامت الاحتجاجات السلمية لا تجدي) في صيانة حقوقهم الشرعية تحت حماية الإمبراطور الألماني-الروماني.

ويجب ألا يكون هناك بعد اليوم أي استئنافات (من الأساقفة) أمام روما.. وألا تتلقى الطرق (الدينية) أي توجيهات من رؤساء أجانب، ولا أن تحضر مجامع عامة خارج ألمانيا. ويجب ألا ترسل أية تبرعات لروما... وألا تملأ روما الوظائف الكنسية الشاغرة ذات الدخول، بل تملأ بانتخاب قانوني للمرشحين الوطنيين... وينبغي أن ينظم هذه الأمور وغيرها مجمع قانوني ألماني"(49).

ولم يؤيد الأساقفة الألمان هذا الإعلان خوفاً من قوة الكيوريا المالية، ثم أنهم ترددوا في الاستعاضة عن سيادة روما النائية بسلطة الأمراء الألمان المباشرة والأصعب تفادياً. وهكذا انهارت الثورة الوليدة. وعدل هونتهايم عن أقواله (1788)، وسحب رؤساء الأساقفة بيانهم التمهيدي (1789)، وعادت الأمور كلها تسير سيرتها الأولى.


عصر التنوير الألماني

ولكن ليس بكل معنى العبارة فالتعليم، باستثناء الإمارات الكنسية، كان قد انتقل من سيطرة الكنيسة إلى سيطرة الدولة. فأساتذة الجامعات تعينهم الحكومة وتدفع رواتبهم (في تقتير مخجل)، ولهم وضع الموظفين العموميين. ومع أن جميع المدرسين والطلاب كان يشترط عليهم الإقرار بأنهم يدينون بمذهب الأمير، إلا أن الكليات الجامعية، حتى سنة 1789، كانت تتمتع بقدر متزايد من الحرية الأكاديمية. وحلت الألمانية محل اللاتينية لغة للتعليم. وكثرت المقررات الدراسية في العلوم والفلسفة، وتوسع في تعريف الفلسفة (في جامعة كونجزبرج على عهد كانط) بأنها "القدرة على التفكير، وعلى البحث في طبيعة الأشياء دون تغرضات أو مذهبية"(50). وقد طلب كارل فون تسيدلتس وزير التربية المخلص في عهد فردريك الأكبر، إلى كانط أن يقترح طرقاً "لصد الطلاب في الجامعات عن دراسات "أكل العيش"، وإفهامهم أن القليل الذي يتعلمونه من القانون، لا بل اللاهوت والطب، سيكون أيسر استيعاباً وآمن تطبيقاً لو ملكوا ناصية المعرفة الفلسفية"(51).

وقد حصل الكثير من فقراء الطلاب على معونة حكومية أو أهلية لمواصلة التعليم الجامعي، وإنها لقصة مبهجة تلك التي روي فيها إكرامان كيف كان جيرانه الرحماء يمدون إليه يد المعونة في كل خطوة من خطى تطوره(52). ولم يكن بين جماعة الطلاب تفرقة طبقية(53). فكل خريج يسمح له بأن يحاضر تحت رعاية الجامعة مقابل أي رسم يستطيع جمعه من المستمعين، وقد بدأ كانط حياته المنهنية على هذا النحو؛ وكانت منافسة المعلمين الجدد لقداماهم تحفز هؤلاء على أن يكونوا مستعدين في كل لحظة. وقد حكمت مدام دستال على الجامعات الألمانية الأربع والعشرين بأنها "أرقى الجامعات علماً في أوربا. فليس في أي قطر، ولا حتى في إنجلترة، وسائل بهذه الكثرة للتعليم أو للارتقاء بقدرات الإنسان إلى الكمال... ومنذ عصر الإصلاح البروتستنتي تفوقت الجامعات البروتستنتية على الكاثوليكية تفوقاً لا جدال فيه، ويرتكز مجد ألمانيا الأدبي وفخرها على هذه المعاهد"(54). وانتشر الإصلاح التعليمي وشاع في الجو. فأصدر يوهان بازدوا-مستلهماً قراءته لروسو-في 1774 كتاباً من أربعة مجلدات عنوانه "المبادئ" رسم مخططاً لتعليم الأطفال بطريق المعرفة المباشرة بالطبيعة؛ فيجب أن يكتسبوا الصحة والعافية بالألعاب والتمرينات الرياضية؛ وأن يتلقوا الكثير من تعليمهم في الهواء الطلق بدلاً من أن يلزموا مكاتبهم؛ وأن يتعلموا اللغات لا بالأجرومية والصم بل بتسمية الأشياء والأفعال التي يصادفونها في خبراتهم اليومية؛ وأن يتعلموا الأخلاق بتأليف جماعاتهم وتنظيمها؛ وأن يتهيأوا للحياة بتعلم حرفة ما. والدين يدخل في المنهج لا بالصورة القديمة الغالبة؛ وكان بازدو يتشكك في عقيدة التثليث جهاراً(55) وأنشأ في دساو (1774) معهداً خيرياً نموذجياً أخرج تلاميذ، صدمت الكبار "وقاحتهم، وسلاطتهم، وسعة علمهم وخيالهم"(56)، ولكن هذا "التعليم التقدمي"، كان متسقاً مع حركة التنوير، فانتشر سريعاً في طول ألمانيا وعرضها.

وكانت التجارب في مضمار التعليم جزءاً من الاختمار الفكري الذي اضطربت به البلاد بين حرب السنين السبع والثورة الفرنسية. فكثرت الكتب والجرائد والمجلات والمكتبات المتنقلة وأندية القراءة كثرة ملؤها الحماسة. وانبثقت الحركات الأدبية العديدة، ولكل منها أيديولوجيتها ومجلتها وقادتها. وكانت أول جريدة يومية ألمانية "داي لبتزج ذيتونج" قد بدأت عام 1660، فلم يحل عام 1784 حتى كان هناك 217 جريدو يومية و أسبوعية في ألمانيا. وفي 1751 بدأ ليسنج يحرر القسم الأدبي من "فوسيك ديتونج" في برلين؛ وفي 1772 أصدر ميرك وجوته هردر "أنباء فرانكفورت الأدبية؛ وفي 1773-89 جعل فيلاند من "در تيوتش مركر" أكثر المجلات الأدبية في ألمانيا نفوذاً. وكان هناك ثلاثة آلاف مؤلف ألماني في 1773، وستة آلاف في 1787، وفي ليبزج وحدها 133. وكثيرون منهم كانوا كتاباً يعملون بعض الوقت. وربما كان ليسنج أول ألماني تعيش من الأدب سنين كثيرة. وكان جل المؤلفين فقراء، لأن حق التأليف لم يحمهم إلا دخل إماراتهم؛ واختزلت الطبعات المسروقة أرباح المؤلف والناشر على السواء اختزالاً شديداً. وقد خسر جوته من كتابه جوتز فون برليشنجن وكان ربحه ضئيلاً من قصته "آلام فرتر"، وهي أعظم انتصار أدبي لذلك الجيل. ويعد تفجر الأدب الألماني أحد الأحداث العظمى في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. فحين كتب دالامبير من بوتسدام في 1763 لم يجد في المطبوعات الألمانية شيئاً يستحق الذكر(57)؛ ولكن ما وافى عام 1790 حتى كانت ألمانيا تنافس فرنسابل ربما تبزها في العبقرية الأدبية المعاصرة. وقد لاحظنا احتقار فردريك للغة الألمانية لأنها جشاء غليظة تؤذيها الحروف الساكنة؛ ومع ذلك فإن فردريك نفسه، بهزيمته الرائعة لهذا العدد الكبير من أعدائه، قد ألهم ألمانيا العزة القومية التي حفزت الكتاب الألمان على استعمال لغتهم والوقوف أنداداً لأمثال فولتير وروسو. فلم يحل عام 1763 حتى كانت الألمانية قد هذبت نفسها وأضحت لغة أدبية مستعدة للتعبير عن حركة التنوير الألماني.

ولم يكن هذا التنوير وليداً بتولياً. فهو الثمرة المؤلمة التي تمخضت عنها الربوبية الإنجليزية مقترنة بالتفكير الحر الفرنسي على أرض مهدتها عقلانية كريستان فون فولف المعتدلة. وكانت تفجرات الربوبية الكبرى التي فجرها تولاند وتندال وكولتز ووستن وولستن قد تمت ترجمتها إلى الألمانية قبيل عام 1743، وما وافى عام 1755 حتى كانت "رسائل" جريم تثبت أحدث الأفكار الفرنسية بين الصفوة المثقفة من الألمان. وتوفر في 1756 من أحرار الفكر في ألمانيا نفر أتاح إصدار "معجم لأحرار الفكر". وفي 1763-64 أصدر بازدوف كتابه (محبة الصدق) الذي رفض أن وحي إلهي غير وحي الطبيعة ذاتها. وفي 1759 بدأ كريستيان فريدرش نيقولاي، وهو تاج كتب برليني، "رسائل عن إحداث ثمرات الأدب"؛ وقد ظلت هذه الرسائل التي أثرتها مقالات بأقلام ليسنج وهردر وموسى مندلسون حتى عام 1765 مناراً أدبياً لحركة التنوير يحارب التطرف في الأدب والسلطة في الدين.

وشاركت الماسونية في الحركة فتأسس أول محفل للماسون بهمبورج في 1753، ووتلته محافل أخرى؛ وكان من أعضائها فردريك الأكبر، وفرديناند دوق برنزويك، وكارل أوجست دوق ساكسي-فايمار، وليسنج، وفيلاند، وهردر، وكلويشتوك، وجوته، وكلاسيت. وكانت هذه الجماعات بوجه عام تميل إلى الربوبية. ولكنها تحاشت النقد العلني للإيمان التقليدي. وفي 1776 نظم آدم فايسهاويت، أستاذ القانون الكنسي في إنجولشتات، جمعية سرية شقيقة، سماها "برفكتيبيلستن"، ولكنها اتخذت بعد ذلك الاسم القديم (المستنيرين) وقد اتبع مؤسسها، وهو يسوعي سابق، المنهج الذي جرت عليه جماعة اليسوعيين، فقسم رفاقها إلى درجات من الإطلاع على أسرارها وأخذ عليهم العهد بطاعة قادتهم فيحملة "لتوحيد جميع الرجال القادرين على التفكير المستقل"، ولجعل الإنسان "آية من آيات العقل، فيبلغ بذلك أسمى درجات الكمال في فن الحكم".(58) وفي 1784 حظر كارل تيودور، ناخب بافاريا، جميع الجمعيات السرية، فلقيت "طائفة المستنيرين" حتفها في سن مبكرة.

وتأثر بحركة التنوير حتى الأكليروس. فطبق يوهان سملر أستاذ الفلسفة في هالة "النقد الأعلى" على الكتاب المقدس. فزعم (على العكس تماماً من الأسقف فاربورتن) أن العهد القديم لا يمكن أن يكون موحى به من الله، لأنه-إلا في مرحلته الأخيرة-تجاهل الخلود. وألمع إلى أن المسيحية قد حرفها عن تعاليم المسيح لاهوت القديس بولس الذي لم ير المسيح قط؛ ثم نصح اللاهوتيين بأن ينظروا إلى المسيحية على أنها صورة عابرة من صور جهد الإنسان في بلوغ حياة فاضلة. فلما رفض كارل بارت وغيره من تلاميذه العقيدة المسيحية بأكملها إلا الإيمان بالله، عاد سملر إلى إيمانه السني، واحتفظ بكرسي اللاهوت من 1752 إلى 1791. ووصفبارت المسيح بأنه معلم عظيم فقط. "مثل موسى، وكونفوشيوس، وسقراط، وسملر، ولوثر، ومثلي أنا"(59) كذلك سوى يوهان إيبرهارت بين سقراط والمسيح، وقد طرد من وظيفة القسوسية اللوثرية، ولكن فردريك عينه أستاذاً للفلسفة في هالة. وقسيس آخر يدعى ف. أ. تيلر اختزل المسيحية إلى الربوبية، ودعا لعضوية كنيسته أي إنسان مؤمن بالله، بما في ذلك اليهود(60)، أما يوهان شولتز، الراعي اللوثري، فقد أنكر لاهوت المسيح، ولم ير في الله أكثر من "الأساس الكافي للعالم"(61)، وقد طرد من وظيفته في 1792.

هؤلاء المهرطقون المفصحون عن هرطقاتهم كانوا قلة قليلة؛ ولعل المهرطقين الصامتين كانوا كثيرين. أما وقد رحب هذا العدد الكبير من رجال الدين بالعقل، وكان الدين في ألمانيا أقوى كثيراً منه في إنجلترة أو فرنسا وكانت فلسفة فولف قد أمدت الجامعات بهذا التوفيق بين العقلانية والدين، فإن التنوير الألماني لم يتخذ صورة متطرفة. ولم يسع إلى تدبير الدين بل إلى تخليصه من الأساطير والسخافات وسلطان رجال الدين-وهي أمور جعلت الكاثوليكية في فرنسا مبعث سرور عظيم للشعب وسخط شديد لجماعة الفلاسفة، وقد فطن العقلانيون الألمان-وهم يتبعونروسو لا فولتير-إلى ما للدين من إغراء قوي للعناصر العاطفية في الإنسان؛ ثم أن النبلاء الألمان، الأقل جهراً بارتيابيتهم من الفرنسيين، ساندوا الدين معواناً للأخلاق والحكم. وجاءت الحركة الرومانتيكية فكبحت زحف العقلانية، ومنعت ليسنج من أن يكون لألمانيا ما كانه فولتير من قبل لفرنسا.

جوتهولت ليسنج 1729-1781

كان جده الأعلى عمدة لبلدة في سكسونيا، وظل جده أربعة وعشرين عاماً عمدة على كامينتس، وكتب دفاعاً عن التسامح الديني؛ وكان أبوه الراعي اللوثري الأول في كامينتس، وكتب دروساً في تعليم العقيدة بالسؤال والجواب حفظها ليسنج عن ظهر قلب. أما أمه فكانت ابنة الواعظ الذي تقلد أبوه من قبل منصب الراعي لكنيسته. وكان تصرفاً طبيعياً منها أن تنذره للقسوسية، وطبيعياً منه بعد أن أتخم بالتقوى أن يتمرد.

وكان تعليمه المبكر في البيت وفي مدرسة ثانوية بمدينة مايسين مزيجاً من التأديب الألماني والآداب الكلاسيكية، ومن اللاهوت اللثوري والكوميديا اللاتينية. يقول "كان تيوفراستوس، وبلاوتوس، وترينس، عالمي الذي درسته بابتهاج"(62)، وحين بلغ السابعة عشرة بعث إلى ليبزج على منحة دراسية. فوجد المدينة أكثر إثارة للاهتمام من الجامعة؛ وانغمس في بعض حماقات الشباب، وعشق المسرح ووقع في غرام إحدى الممثلات، وسمح له بالدخول وراء الكواليس، وتعلم وسائل تقوية التأثير المسرحي. وفي التاسعة عشرة كتب تمثيلية، ووفق في جهوده فأخرجت. فلما سمعت الأم بنبأ هذه الخطيئة بكت، واستدعاه الأب إلى البيت غاضباً. ولكنه سرى عنهما بابتسامة، وأقنعهما بسداد ديونه. وحين وقعت أخته على قصائده وجدتها بذيئة إلى حد مذهل وأحرقتها؛ فرمى ثلجاً في صدرها ليخفف من حماستها. ثم أعيد إلى ليبزج ليدرس الفلسفة ويصبح أستاذاً، ولكنه وجد الفلسفة قاتلة، واقترض ديوناً عجز عن الوفاء بها، ثم هرب إلى برلين (1748).

هناك عاش حياة الأديب الذي يلتقط رزقه يوماً بيوم-يراجع الكتب، ويترجم، ويشترك مع كريستلوب ميليوس في تحرير مجلة مسرحية لم تعمر. وما أن بلغ التاسعة عشرة حتى أصبح مدمناً للتفكير الحر. فقرأ سبينوزا ووجده برغم هندسته لا يقاوم. وألف مسرحية (1749) عنوانها "الروح الحر"، قابلت بين تيوفان القسيس الشاب اللطيف، وآدراست الحر التفكير الخشن الصخاب الذي تغلب عليه إلى حد ما صفات الأوغاد. هنا انتصرت المسيحية في الجدل. ولكن في هذه الفترة أو حولها كتب ليسنج لأبيه يقول "ليس الإيمان المسيحي بالشيء الذي ينبغي للمرء أن يتقبله من أبويه بتسليم"(63) وألف الآن تمثيلية أخرى (اليهود) ناقشت التزاوج بين المسيحيين واليهود. فهنا عبراني غني شريف لا اسم له إلا "المسافر". ينقذ حياة نبيل مسيحي وابنته، فيعرض النبيل عليه الزواج من ابنته مكافأة له، ولكنه يعدل عن عرضه حين يميط اليهودي اللثام عن حقيقة جنسه؛ ويوافق اليهودي على أن الزواج لو تم لكان غير سعيد. ولم يتعرف ليسنج إلى موسى مندلسون الذي رأى فيه تجسيداً للفضائل التي كان قد خلعها على "المسافر" إلا بعد خمس سنين (1754) وذلك أثناء مباراة للشطرنج. وفي بواكير عام 1751 كلف فولتير أو سكرتيرة ليسنج بأن يترجم إلى الألمانية مادة أراد الفيلسوف المتغرب أن يستعملها في دعوى رفعها على أبراهام هيرش، وسمحالسكرتير لليسنج أن يستعير جزءاً من مخطوط كتاب فولتير "قرن لويس الرابع عشر". وفي تاريخ لاحق من تلك السنة ذهب ليسنج إلى فتنبرج وأخذ المخطوط معه. وخشي فولتير أن تستعمل هذه النسخة غير المصححة في إصدار طبعة مسروقة، فأرسل إلى ليسنج طلباً عاجلاً بأسلوب مهذب ليرد الأوراق. واستجاب ليسنج، ولكنه أنكر النغمة المتعجلة، وربما كان هذا سباً في تشويه خصومته التالية لأعمال فولتير وخلقه.

ونال ليسنج درجة الأستاذية من جامعة فتنبرج عام 1752. فلما عاد إلى برلين شارك في دويات شتى بمقالات اتسمت بكثير من التفكير الإيجابي والأسلوب اللاذع، فما حل عام 1753 حتى كان قد اكتسب قراء بلغوا من الكثرة حداً يلتمس له معه العذر في أن ينشر وهو في الرابعة والعشرين طبعة جمعت كل أعماله في ستة مجلدات. وقد اشتملت على تمثيلية جديدة اسمها "الآنسة سارة سمامبسن" كانت من معالم تاريخ المسرح الألماني. وكان المسرح الألماني إلى هذا التاريخ قد أخرج كوميديات وطنية، ولكن ندر أن أخرج مأساة وطنية. لذلك ناشد ليسنج زملاءه كتاب التمثيليات أن يتحولوا عن النماذج الفرنسية إلى النماذج الإنجليزية ويكتبوا مآسيهم هم. وامتدح ديدرو لدفاعه عن الكوميديا العاطفية ومأساة الطبقة الوسطى، ولكن تمثيلية "الآنسة سامبسن" استوحاه من إنجلترة-من "التاجر اللندني" لجورج ليللو (1731) و "كلاريسا" لصموئيل رتشردسن (1748).

ومثلت المسرحية في فرانكفورت-على-الأدور عام 1755، ولقيت قبولاً حسناً. وقد احتوت كل عناصر الدراما؛ بدأت بإغواء، واختتمت بانتحار، ووصلتهما بنهر من الدموع. والوغد مليفونت (الحلو المظهر) هو لفليس في قصة رتشردسن؛ تمرس بسلب الفتيات بكارتهن، ولكنه يستنكر الزواج بواحدة؛ يعد سارة بالزواج-ويهرب معها، ويعاشرها معاشرة الأزواج، ثم يسوف في الزواج؛ وتحاول خليلة سابقة له أن تسترده، وتخفق، فتدس السم لسارة، ويصل أبو سارة، مستعداً لأن يغفر كل شيء ويقبل ميلفونت صهراً له، وكأنه يطبق ملاحظة ليسنج الساخرة: إن الأبطال في المآسي لا يموتون من شيء إلا من الفصل الخامس(64). وخيل إليه أن في استطاعته الآن أن يرتزق من الكتابة للمسرح، ولما لم يكن في بريلن مسارح فإنه رحل إلى ليبزج (1755) ثم اندلعت حرب السنين السبع، فأقفل المسرح، وكسدت سوق الكتب، وبات ليسنج مفلساً. فعاد إلى برلين، وشارك في مجلة نيقولاي "رسائل عن أحدث ثمرات الأدب" بمقالات سجلت قمة جديدة في النقد الأدبي الألماني. تقول رسالته التاسعة عشرة "إن القواعد هي ما يشاء أساتذة الفن مراعاته" وفي 1760 غزا الجيش النمساوي الروسي برلين، ففر ليسنج إلى برزلاو حيث عمل سكرتيراً لقائد بروسي. وخلال السنين الخمس التي أقامها هناك اختلف إلى الحانات، وقامر، ودرس سبينوزا، وآباء المسيحية القدامى، وفنكلمان، وكتب "لاوكون"، ثم عاد إلى برلين في 1765. وفي 1766 دفع بأشهر كتبه إلى المطبعة.

وهذا الكتاب "لاوكون، أو على التخوم بين التصوير والشعر" استلهم حافزه المباشر من كتاب فنكلمان "أفكار عن محاكاة الآثار الإغريقية في التصوير والنحت" (1755). وبعد أن كتب ليسنج نصف مخطوطه وصله كتاب فنكلمان "تاريخ الفن القديم" (1764)، فقطع بحثه وكتب يقول، "لقد ظهر كتاب الهر فنكلمان في تاريخ الفن. ولن أجرؤ على التقدم خطوة أخرى قبل أن أقرأ هذا الكتاب"(65) واتخذ نقطة انطلاقة من مفهوم فنكلمان عن الفن الإغريقي الكلاسيكي متمثلاً في الوقار الهادئ والفخامة المطمئنة، ووافق على زعم فنكلمان أن مجموعة تماثيل اللاوكون المحفوظة بقاعة الفاتيكان للفنون احتفظت بهذه الصفات رغم الألم القتال (اشتبه لاوكون، كاهن أبوللو في طروادة، في أن هناك يونانيين يختبئون في "حصان طروادة"، فقذفه برمح، ولكن الإلهة أثينا المحابية لليونان أقنعت بوسايدون أن يطلع من البحر ثعبانين ضخمين التفا حول الكاهن وولديه التفافاً قاتلاً). وقد ظن فنكلمان أن مجموعة لاوكون-التي تعد الآن عملاً من أعمال نحاتين رودسيين في القرن الأخير قبل المسيح-تنتمي إلى عصر فيدياس الكلاسيكي.

أما لماذا خلع فنكلمان، الذي شاهد هذا الأثر ودرسه صفة الجلال المطمئن على ملامح الكاهن المشوهة فذلك سر غامض. وقد قبل ليسنج الوصف لأنه لم ير التمثال قط(66). ووافق على أن المثال خفف من تعبير الألم؛ ثم راح يتساءل عن سبب هذا الانضباط الفني، وأراد استنباطه من قيود الفن التشكيلي الأصيلة الصحيحة.

ثم تمثل بقول الشاعر الإغريقي سيمونيدس إن "التصوير شعر صامت، والشعر تصوير بليغ"(67). وأضاف أن الاثنين مع ذلك يجب أن يلزما حدودهما الطبيعية: فالتصوير والنحت ينبغي أن يصفا الأشياء في المكان، لا أن يحاولا قص قصة، أما الشعر فينبغي أن يروي أحداثاً في الزمان، لا أن يحاول وصف أشياء في المكان. وينبغي أن يترك الوصف المفصل للفنون التشكيلية، فإذا ورد في الشعر، كما في "فصول" طومسن أو "ألب" هالر، قطع السرد وشوش الأحداث. "ومعارضة هذا الذوق الفاسد ومناقضة هذه الآراء التي لا أساس لها، هو والهدف الرئيسي للملاحظات التالية"(68). ولكن سرعان ما نسي ليسنج هذا الهدف، وتاه في نقاش مستفيض لكتاب فنكلمان في تاريخ الفن. هنا كانت تعوزه الخبرة والكفاية، وكان لتمجيده الجمال المثالي باعتباره هدف الفن أثر معطل على التصوير الألماني. ثم أنه خلط بين التصوير والنحت، وطبق عليهما جميعاً المعايير الخاصة بالنحت في المقام الأول. وبهذا شجع شكلية أنطون رفائيل منجز الجامدة. بيد أن أثره على الشعر الألماني كان بركة؛ فقد حرره من الأوصاف المسهبة، والنزعة الوعظية المدرسية، والتفصيل الممل، وأرشده إلى الحركة والشعور. وقد أقر جوته شاكراً بالتأثير المحرر لكتاب ليسنج "لاوكون".

ووجد ليسنج نفسه أكثر تمكناً من عمله حين انتقل (أبريل 1767) إلى همبورج كاتباً وناقداً مسرحياً براتب قدره ثمانمائة طالر في العام. وهناك أخرج تمثيليته الجديدة. "منافون بارنهيلم". وبطل التمثيلية-الميجر ثلهايم-العائد من الحرب بأكاليل الغار إلى أملاكه يظفر بخطبة منا الحسناء الغنية. غير أن الحظ الذي قلب له ظهر المجن، والدسائس المعادية التي لاحقته، يهويان به إلى درك الفقر، فينسحب من الخطبة لأنه لم يعد الزوج الصالح لوريثة ثروة ضخمة. ويختفي، ولكنها تطارده وتتوسل إليه أن يتزوجها، فيرفض. وإذ تدرك السبب تدبر خدعة تبيت بها معدمة ولكن في صورة جذابة؛ ويعرض الميجر الآن نفسه زوجاً لها ويدخل رسولان فجأة يعلنان كل من ناحية أن منا وتلهايم قد استردا ثروتهما. ويبتهج الجميع، وحتى الخدم يدفعون على عجل إلى الزواج. والحوار مبرح، والشخوص بعيدة التصديق، والحبكة منافية للعقل-ولكن كل الحبكات تقريباً منافية للعقل.

وفي اليوم الذي شهد افتتاح المسرح القومي بهمبورج (22 أبريل 1767) أصدر ليسنج نشرة قدم بها لمقالاته في نظرية الدراما وقد علقت هذه المقالات دورياً، طوال العامين التاليين، على التمثيليات التي أخرجت في ألمانيا، وعلى نظرية الدراما في أعمال الفلاسفة. وقد اتفق مع أرسطو على القول بأن الدراما أسمى أنواع الشعر، وقبل في تناقض مندفع القواعد التي وضعها أرسطو في كتابه "في الشعر":

"لست أتردد في الاعتراف... بأني أعده معصوماً مثل "مبادئ"(69) اقليدس (الذي لم يعد الآن معصوماً). ومع ذلك توسل إلى مواطنيه أن يكفوا عن تبعيتهم لكورنيني وراسين وفولتير، وأن يدرسوا فن الدراما كما هو معلن في شكسبير (الذي تجاهل قواعد أرسطو). وقال أنه يشعر أن في الدراما الفرنسية إسرافاً في الشكلية لا يسمح بإحداث ذلك "التنفيس" أو تطهير العواطف الذي وجده أرسطو في الدراما اليونانية؛ وذهب إلى أن شكسبير قد حقق هذا التطهير على نحو أفضل في الملك لير، وعطيل، وهاملت بحدة الحركة وقوة لغتها وروعتها. وقد أكد ليسنج ضرورة توفر عنصر الاحتمال، ناسياً منديل ديدمونة. فكاتب الدراما القدير يتجنب الاعتماد على المصادفات والتفاهات، فيبني بالتدريج كل شخص من شخوصه بحيث تصدر الأحداث بالضرورة عن طبيعة الأشخاص المعنيين. وقد وافق كتاب الدراما في فترة حركة "شتورم أوند درانج (الاقتحام والجهاد) على اتخاذ شكسبير مثلاً أعلى، وحرروا الدراما الألمانية في ابتهاج من الدراما الفرنسية. وألهمت الروح القومية التي تصاعدت بانتصارات فردريك وهزيمة فرنسا نداء ليسنج ودعمته، وسيطر شكسبير على المسرح الألماني قرابة قرن من الزمان.

غير أن تجربة همبورج انهارت لأن الممثلين تنازعوا فيما بينهم ولم يتفقوا إلا على الاستياء من مقالات ليسنج النقدية. فشكا فريدرش شرودر من أن "ليسنج لم يستطع قط أن يفرغ لمشاهدة عرض كامل للمسرحية؛ فهو يخرج ويدخل، أو يتحدث إلى معارفه، أو يستسلم للتفكير، ومن السمات التي تثير سروره العابر يكون صورة هي نسج من عقله ولا تمت إلى الواقع بسبب"(70) وهذا الحكم المميز أجاد وصف حياة ليسنج وعقله المتمردين. والآن هل يجدر بنا أن نقف به في منتصف طريقه لنلقي عليه بنظرة؟ كان ربعة، منتصب القامة في كبرياء، قوياً لدناً بفضل التمرين الرياضي المنتظم، مليح القسمات، أزرق العينين في دكنة، بنى الشاعر فاتحه محتفظاً بلونه هذا حتى مماته. وكان دافئاً في صداقاته، حاراً في عداواته. لا يسعده شيء كالجدل، فإذا اشتبك فيه أثخن الجراح بقلم حاد. كتب يقول "ليبدأ الناقد بالبحث عن شخص يستطيع الاختلاف معه. وهكذا يلج موضوعاً ويوغل فيه شيئاً فشيئاً، ثم يقفو الباقي هذه الخطوة نتيجة طبيعية لها، وأنا أعترف صراحة بأنني اخترت أولاً المؤلفين الفرنسيين لهذا الغرض، لا سيما المسيو فولتير"(71)-وقد اقتضى هذا الاختيار قدراً كافياً من الشجاعة. وكان متحدثاً ذكياً ولكنه مندفع، حاضر الجواب، لديه عن كل شيء أفكار بلغت من الكثرة والقوة مبلغاً لم يتح له أن يضفي عليها النظام أو الاتساق أو الفعالية الكاملة. وكان يستمتع بالبحث عن الحقيقة أكثر من الوهم الخطر بأنه وجدها. ومن هنا جاءت أشهر ملاحظاته:

"ليست الحقيقة التي يملكها الرجل-أو يعتقد أنه يملكها-هي التي تجعل له قيمة، بل الجهد المخلص الذي بذله للوصول إليها. لأنه ليس بامتلاك الحقيقة بل بالبحث يطور المرء تلك الطاقات التي فيها وحدها كماله المطرد النمو. فالتملك يجعل العقل راكداً كسولاً متكبراً. ولو أن الله احتوى في يمناه الحقيقة كلها، ولم تحتو يسراه إلا الحافز الدائم الحركة نحو الحقيقة، علماً بأنني سأخطئ دائماً أبداً-ثم قال لي "اختر!" لأحنيت رأسي في أتضاع أمام يسراه وقلت" أبتاه، أعطني هذا! فالحقيقة الخالصة لك أنت وحدك"(72).

وبقيت له من تجربة همبورج الفاشلة صداقتان غاليتان، إحداهما مع إليزر رايماروس، ابنة هرمان رايماروس أستاذ اللغات الشرقية في أكاديمية همبورج، التي جعلت من بيتها ملتقى لأرقى الجماعات ثقافة في المدينة. وانضم ليسنج إلى ندوتها، واختلف إليها مندلسون وياكوبي أثناء وجودهما في المدينة، وسوف نرى الدور الحيوي الذي لعبته هذه الجماعة في تاريخ ليسنج. أما الصداقة الثانية التي كانت أوثق حتى من هذه فصداقته لإيفا كونيج يقول ليسنج إن هذه السيدة التي كانت زوجاً لتاجر حرير وأما لأربعة أطفال "ذكية تفيض حيوية، وهبت لباقة المرأة وكياستها"، وأنها "كانت لا تزال محتفظة ببعض نضارة الشباب وفتنته"(73)، وقد جمعت هي أيضا من حولها صالوناً من الأصدقاء المثقفين، كان ليسنج يحتل مكان الصادرة منهم. فلما رحل زوجها إلى البندقية في 1799 قال لليسنج، "إني أترك أسرتي وديعة بين يديك". ولم يكن هذا بالترتيب الحكيم، لأن الكاتب المسرحي لم يكن له ما يملكه إلا العبقرية، وكان مديناً بألف طالر. وفي أكتوبر من ذلك العام قبل دعوة من الأمير كارل فلهلم فريناند حاكم برنزويك ليضطلع بأمانة مكتبة الدوقية في فولفنيوتل، التي تقلص سكانها إلى ستة آلاف نسمة منذ أن نقل دوقها الحاكم مقره إلى برنزويك (1753) على سبعة أميال منها، ولكن مجموعة كتبها ومخطوطاتها كانت في رأي كازانوفا "ثالث أعظم مكتبة في العالم"(74) واتفق على أن ينقذ ليسنج ستمائة طالر في العالم ويخصص له مساعدان وخادم، ويعطي سكناً مجانياً في قصر الدوق القديم؛ وفي مايو 1770 استقر في بيته الجديد.

غير أنه لم يكن أمين مكتبة ناجحاً، ومع ذلك فقد أبهج رئيسه باكتشافه بين المخطوطات بحثاً مشهوراً مفقوداً بقلم بيرنجار الثوري (998-1088) يتشكك فيه في عقيدة استحالة خبز القربان وخمرة إلى جسد المسيح ودمه. وقد افتقد في حياته القاعدة، التي عاشها الآن، الكفاح والحافز اللذين وجدهما في همبورج وبرلين. ثم أن انكبابه على قراءة المخطوط الرديئة في الضوء الضعيف أضر عينيه وأصابه بنوبات من الصداع، وبدأت صحته تتداعى. فعزى نفسه بكتابة مسرحية جديدة سماها"إميليا جالوتي" أفصحت عن الضيق بامتيازات الطبقة الأرستقراطية وأخلاقها. فإميليا هذه ابنة جمهوري متحمس، يشتهيها سيدهما أمير جواستاللا فيقتل خطيبها بأمره، ثم يخطفها إلى قصره؛ فيعثر عليها أبوها، ويطعنها طعنات مميتة استجابة لإلحاحها، ثم يستسلم لبلاط الأمير ويحكم عليه بالإعدام، بينما الأمير سادر في غيه لا يختلج إلا لحظة. وحرارة المسيحية وبلاغتها أنقذتا خاتمتها، فأصبحت مأساة محببة على خشبة المسرح الألماني، وقد أرخ جوته بعرضها الأول (1772) بعث الأدب الألماني من رقدته. ورحب بعض النقاد بليسنج شكسبيراً ألمانياً.

وفي أبريل 1775 ذهب ليسنج إلى إيطاليا مرافقاً لليويولد أمير برنزويك، وقضى ثمانية أشهر يستمتع بالحياة في ميلان والبندقية وبولونيا ومودينا وبارما وبياتشنتسا وبافيا وتورين وكورسيكا وروما؛ وهناك قدم إلى البابا بيوس السادس، وربما شاهد تمثال لأوكون متأخراً. وفي فبراير 1776 كان قد عاد إلى فولنفبوتل. وفكر في الاستقالة، ولكنه أقنع بالبقاء في منصبه بعلاوة قدرها مائتا طالر فوق راتبه، وبمائة جنيه ذهبي فرنسي (لوي دور) في العام بوصفه مستشاراً لمسرح مانهايم. وعرض الآن وهو في السابعة والأربعين على الأرملة إيفا كونيج أن تصبح زوجاً له وأن تحضر بأولادها معها. فحضرت، وتزوجا (8 أكتوبر 1776). وظلا عاماً يتمتعان بحياة سعيدة هادئة. وفي عشية الميلاد من عام 1777، ولدت طفلاً مات في الغد. وبعد ستة عشر يوماً ماتت الأم أيضاً، وفقد ليسنج طعم الحياة.

ولكن الجدل حفظ عليه حياته.في أول مارس 1768 ودع هرمان رايماروس الحياة مخلفاً لزوجته مخطوطاً ضخماً لم يجرؤ قط على طبعه. وقد مررنا في غير هذا الموضع(75) من الكتاب مرور الكرام بهذا "الدفاع عن المؤمنين العقلانيين". وكان ليسنج قد أطلع على شطر من هذا المؤلف الممتاز، فطلب إلى السيدة رايماروس أن تسمح له بنشر أجزاء منه، فوافقت. وكان له بصفته أميناً للمكتبة سلطة نشر أي مخطوط في المجموعة. فأودع مخطوط "الدفاع" في المكتبة، ثم نشر جزءاً منه في 1774 بعنوان "تسامح الربوبيين... بقلم كاتب مجهول". فلم يثر أي ضجة. ولكن الراسخين في الأمور الروحية أثارهم القسم الثاني في مخطوط رايماروس الذي أصدره ليسنج في 1777 بعنوان "مزيد من بحوث الكاتب المجهول عن الوحي". وقد زعم هذا القسم أنه لا يمكن لأي وحي موجه لشعب واحد أن يظفر بقبول جميع الناس في عالم تتنوع أجناسه وأديانه هذا التنوع الكبير، فالذين سمعوا إلى الآن بالكتاب المقدس؛ اليهودي-المسيحي، بعد ألف وسبعمائة سنة، ليسوا إلا أقلية من البشر، وإذن فلا يمكن قبوله تنزيلاً من الله للنوع الإنساني. ثم نشر قطعة أخيرة من المخطوط بعنوان "أهداف المسيح وتلاميذه" (1778) لم تصور المسيح ابناً لله بل صوفياً متحمساً شارك رأي بعض اليهود في أن العالم المعروف يومها قد أشرف على نهايته، وسيعقبه قيام ملكوت الله على الأرض؛ وقد فهمه الرسل على هذا النحو (في زعم رايماروس)، لأنهم أملوا في أن يبوءوا عروشاً في هذا الملكوت القادم. فلما انهار الحلم بصرخة المسيح اليائسة على الصليب "إلهي إلهي لماذا تركتني"-اخترع الرسل (كما ظن رايماروس) خرافة قيامته إخفاء لهزيمته، وصوروه بصورة ديان العالم المكافئ المنتقم.

وهاجم اللاهوتيون الذين صدموا أجزاء "خطوط فولفتبوتل" هذه في نيف وثلاثين مقالاً في الصحف الألمانية. واتهم يوهان ملكيور جوتسي كبير رعاة همبورج ليسنج بأنه موافق سراً على مزاعم "الكاتب المجهول"، وحض الكنيسة والدولة جميعاً على عقاب هذا المنافق. أما الخصوم الأكثر اعتدالاً فقد وبخوا ليسنج على نشره بالألمانية المفهومة للقراء شكوكاً كان من الواجب الإفصاح عنها، إن جاز الإفصاح إطلاقاً، باللاتينية لفئة قليلة من القراء. ورد ليسنج في إحدى عشرة نشرة (1778) نافست "رسائل بسكال الإقليمية" في تهكمها المرح-ونكتتها الذكية الفتاكة. يقول هيني "لم يسلم منه رأس، وما أكثر الرءوس التي أطاح بها لمجرد العبث الخالص، ثم دفعته شقاوته إلى رفعها علانية ليرى الناس أنها فارغة"(76). وقد ذكر ليسنج مهاجميه بأن حرية الحكم والنقاش عنصر حيوي في برنامج حركة الإصلاح البروتستنتي؛ ثم إن للشعب الحق في كل المعرفة المتاحة له، وإلا لكان بابا واحد من بابوات روما خيراً من مائة نبي بروتستنتي. وعلى أية حال فإن قيمة المسيحية (في زعمه) ستبقى حتى لو كان الكتاب المقدس مجرد وثيقة بشرية وكانت معجزاته مجرد قصص خرافية ورعة أو أحداث طبيعية. وصادرت حكومة الدوق أجزاءمخطوط فولفنبوتل ومخطوط رايماروس، وأمرت ليسنج بألا ينشر المزيد دون موافقة الرقيب البرنزويكي.

فلما ألزم ليسنج الصمت على منبره اتجه إلى خشبة المسرح فألف أروع تمثيلياته. وكان قد أعسر مرة أخرى إثر النفقات التي تحملها بسبب مرض زوجته وموتها، فاقترض ثلاثمائة طالر من يهودي همبورجي ليوفر الوقت اللازم للفراغ من مسرحية "ناثان الحكيم. وقد اختار مكاناً لأحداثها مدينة أورشليم أبان الحملة الصليبية الرابعة. وأما ناثان هذا فتاجر يهودي ورع له زوجة وسبعة أبناء يذبحهم المسيحيون الذين أتلفت الحرب الطويلة أخلاقهم. وبعد ثلاثة أيام يأتيه راهب بطفلة مسيحية ماتت أمها لتوها، وكان أبوها-الذي قتل في المعركة مؤخراً-قد أنقذ ناثان من الموت في مناسبات عديدة. ويسمي ناثان الطفلة ريكا، ويربيها وكأنها ابنته. ولا يلقنها إلا التعاليم الدينية التي يجمع عليها اليهود والنصارى والمسلمون.

وبعد ثمانية عشر عاماً، وبينما كان ناثان غائباً لقضاء بعض مصالحه، احترق بيته؛ وينقذ فارس شاب من فرسان المعبد ريكا ثم يختفي دون التعريف بشخصه؟ وتحسبه ريكا ملاكاً معجزاً. ويبحث ناثان بعد عودته عن المنقذ ليكافئه، فيسبه هذا لأنه يهودي، ولكن ناثان يقنعه بالمجيء لتقبل شكر ريكا وعرفانها. فيحضر، ويقع في غرامها وتبادله الحب، ولكنه حين يعرف أنها مسيحية المولد ولم ترب كمسيحية يساءل نفسه ألا يلتزم بيمين الفروسية بتبليغ الأمر إلى بطريرك أورشليم. ثم يشرح مشكلته للبطريرك دون ذكر أسماء الأفراد، ويحدس البطريرك أنهما ناثان وريكا، فيقسم أنه قاتل ناثان لا محالة. ثم يرسل راهباً ليتجسس على اليهودي، ولكنه هو الراهب ذاته الذي جاء بريكا إلى اثنان قبل ثمانية عشر عاماً؛ وقد لحظ طوال هذه السنين حكمة التاجر المشربة بالعاطفة، فيخبره بالخطر الذي يتهدد حياته، ويحزنه ذلك الحقد الديني الذي يجعل الناس قتلة سفاكين للدماء إلى هذا الحد.

ثم يقع صلاح الدين، حاكم القدس الآن، في ضائقة مالية. فيرسل في طلب ناثان بأمل الاقتراض منه. فيحضر ناثان، ويفطن إلى حاجة صلاح الدين، فيعرض السلفة قبل أن تطلب منه. أما السلطان، العليم بما اشتهر به ناثان من حكمة، فيسأله أي الأديان الثلاثة أفضل في رأيه. ويجيب ناثان بقصة حورها بحكمة من القصة التي رواها بوكاشيو ونسبها لملكي صادق اليهودي الاسكندري. تقول القصة إن خاتماً نفيساً كان يتوارثه جيلاً بعد جيل دليلاً على الوارث الشرعي لضيعة غنية. ولكن في أحد هذه الأجيال يحب الأب أبناءه الثلاثة حباً يستوي حرارة وصدقاً، فيأمر بصنع ثلاثة خواتم متشابهة، ويعطي كل ابن خاتماً سراً، وبعد موته يتنازع الأبناء على أن الخواتم هو الأصيل والحقيقي، ثم يحتكون إلى القضاء-حيث ظل الأمر معلقاً لم يفصل فيه إلى اليوم. فأما الأب المحب فهو الله، وأما الخواتم الثلاثة فهي اليهودية والمسيحية والإسلام، والتاريخ لم يفصل بعد في أمر هذه الأديان وأيها هو شريعة الله الحقة. ويدخل ناثان تغييراً جديداً على القصة: فالخاتم الأصلي كان المفروض أنه يجعل لابسه إنساناً فاضلاً، ولكن بما أن أحداً من الأبناء الثلاثة لا يفضل غيره من الناس، فمن المحتمل أن يكون الخاتم الأصلي قد فقد، فكل خاتم-أي كل دين-حقيقي بقدر ما يجعل لابسه فاضلاً. ويعجب صلاح الدين بجواب ناثان إعجاباً شديداً فيقوم ويعانقه-وعقب هذا الحديث الفلسفي يظهر مخطوط عربي يتبين منه أن فارس المعبد وريكا ولدان لأب واحد. فيحزنان لأنهما لا يستطيعان الزواج، ولكنهما يفرحان لأن في استطاعتهما الآن أن يحب أحدهما الآخر كأخ وأخت ينالان بركة ناثان اليهودي وصلاح الدين المسلم.

أكان ناثان صورة صاغها على غرار موسى مندلسون؟ هناك أوجه شبه بين الاثنين كما سنرى في فصل لاحق، ومن المحتمل، برغم أوجه الخلاف الكثيرة، أن ليسنج وجد في صديقه الكثير مما ألهمه تلك الصورة المثالية لتاجر القدس. وربما رسم ليسنج اليهودي والمسلم بتعاطف أكثر مما رسم المسيحي مدفوعاً برغبته الشديدة في التبشير بالتسامح؛ ففارس المعبد في أول لقاء مع ناثان فظ في تعصب، والبطريرك (أهو ذكرى ليسنج لجوتسي؟) لا ينصف في صورته هذه الأساقفة الرحماء المستنيرين الذين كانوا آنئذ يحكمون تريير وماينزوكولون. وأنكر جمهور ألمانيا المسيحي التمثيلية حين نشرت في 1779 لأنه رآها غير منصفة؛ وانضم إلى هذا النقد العديد من أصدقاء ليسنج. فلم تصل تمثيلية "ناثان الحكيم" إلى خشبة المسرح إلا في عام 1783 م في الليلة الثالثة كان المسرح خالياً. وفي 1801 لقيت نسخة معدلة أعدها شيلر وجوته قبولاً حسناً في فايمار، وبعدها ظلت من التمثيليات المحببة في المسارح الألمانية طوال قرن كامل.

وقبل أن يموت ليسنج بعام أصدر نداءه الأخير للتفاهم، وصاغه في عبارات دينية، كأنما أراد أن يلين جانب المقاومة ويقيم جسراً بين الأفكار القديمة والجديدة. وهذا المقال المسمى "تربية النوع الإنساني" من بعض نواحيه يبرر الأفكار القديمة؛ ثم ندرك أن الدفاع إنما هو دعوة لحركة التنوير. فالتاريخ بجملته يمكن أن ينظر إليه على أنه رؤيا مقدسة، وتربية تدريجية للنوع الإنساني. وكل دين عظيم كان مرحلة في هذه الإنارة المتدرجة الخطوات، فهو ليس كما افترض بعض الفرنسيين خدعة يخدع بها رجال الدين الأنانيون السذج من الناس، إنما هو نظرية عالمية قصد بها تمدين البشرية، وغرس الفضيلة والتهذيب والوحدة الاجتماعية. ففي إحدى مراحله (مرحلة العهد القديم) حاول الدين جعل الناس فضلاء بأن وعدهم بطيبات الدنيا ف عمر مديد؛ وفي مرحلة أخرى (مرحلة العهد الجديد) حاول التغلب على التناقض المثبط للعزائم بين الفضيلة والنجاح في هذه الدنيا بوعده بثواب الآخرة؛ وفي كلتا الحالتين خوطب الناس على قدر فهمهم المحدود في ذلك الوقت. وكل دين فيه نواة غالية من الحقيقة، ربما كان الفضل في تقبل الناس لها ذلك الغلاف من الخطأ الذي جعلها سائغة. فإذا كان اللاهوتيون قد أحاطوا المعتقدات الأساسية شيئاً فشيئاً بعقائد عسيرة الفهم، كالخطيئة الأصلية والتثليث، فإن هذه التعاليم أيضاً هي رموز للحقيقة وأدوات للتربية. فالله يمكن تصوره على أنه قوة واحدة لها وجوه ومعان كثيرة؛ والخطيئة أصلية بمعنى أننا كلنا مولودون بنزوع لمقاومة الشرائع الأخلاقية والاجتماعية(77). ولكن المسيحية فوق الطبيعة ليست سوى خطوة في تطور العقل البشري، وستأتي مرحلة أعلى حين يتعلم النوع الإنساني أن يعقل، وحين يصبح الناس من القوة ووضوح الرؤية بحيث يفعلون الصواب لأنهم يرونه صواباً ومعقولاً، لا طمعاً في ثواب مادي أو سماوي. وقد بلغ بعض الأفراد تلك المرحلة، وهي لم تتوفر للنوع الإنساني إلى الآن ولكنها "آتية، آتية لا ريب فيها... زمان رسالة جديدة خالدة!"(78) وكما أن الفرد المتوسط يلخص في نموه التطور الفكري والخلقي للنوع، فكذلك يمر النوع في بطء خلال التطور الفكري والخلقي للفرد الأعلى. وإذا شئن التعبير بطريقة فيثاغورية، قلنا أن كلاً منا يولد من جديد، ثم يولد من جديد، حتى تكتمل تربيته-أي تكيفه مع العقل.

ترى ماذا كانت آراء ليسنج النهائية في الدين؟ لقد قبله معيناً هائلاً للفضيلة، ولكنه أنكره نسقاً من العقائد القطعية التي تفرض قبولها وإلا كانت الخطيئة والعقاب والعار الاجتماعي. وكان فكره عن الله أنه الروح الباطن للحقيقة، المسبب للتطور والمتطور هو ذاته؛ ورأى في المسيح أكمل إنسان مثالي، ولكنه ليس تجسيداً لهذا الإله إلا مجازاً؛ وقد تطلع إلى زمن يختفي فيه اللاهوت كله من المسيحية، فلا يبقى إلا مبدأ أخلاقي سام من العطف الصبور والأخوة العالمية. وفي مسودة خطاب إلى مندلسون صرح بالتزامه برأي سبينوزا في أن الجسم والعقل هما الظاهر والباطن لحقيقة واحدة، وصفتان لجوهر واحد متطابق مع الله. وقال لياكوبي" إن المفاهيم التقليدية عن الإله يعد لها وجود عندي، وأنا لا أطيقها، لا أطيقها كلها! لا أعرف غير هذا"(79)؛ وفي 1780 طلب إليه ياكوبي الذي زاره في فولفنبوتل أن يساعده في الرد على سبينوزا وتفنيد آرائه، فصدمه جواب ليسنج: "ليس هناك فلسفة غير فلسفة سبينوزا... ولو خيرت في أن أتسمى اسم آخر لما عرفت غير اسمه"(80).

وقد ترك ليسنج وحيداً في أخريات عمره بسبب هرطقاته وضراوته أحياناً في الجدل. وبقي له بعض الأصدقاء في برنزويك يختلف إليهم بين الحين والحين للحديث ولعب الشطرنج. وكان أبناء زوجته يعيشون معه في فولفنبوتل، وقد خصص لهم التركة الصغيرة التي خلفتها كاملةز ولكن خصومه شهروا به في طول ألمانيا وعرضها ملحداً رهيباً. فتحداهم، وتجاسر على معارضة الرجل الذي يدفع له راتبه، ذلك أن كارل فلهلم فرديناند، الذي أصبح الآن (1780) دوقاً على برنزويك، زج في السجن يهودياً شاباً أثار سخطه. فزار ليسنج الفتى في سجنه، ثم اصطحبه إلى منزله بعد ذلك ليسترد عافيته. أما عافيته هو فكانت قد ولت. وغشي بصره الآن حتى لم يكد يقوى على القراءة. وكان يعاني من الربو، وضعف الرئتين، وتصلب الشرايين. وفي 3 فبراير 1781 بينما كان في زيارة لبرنزويكأصابته نوبة ربو شديدة، وبصق دماً. وأوصى أصحابه قائلاً: حين ترونني مشرفاً على الموت، استدعوا موثقاً، وسأعلن أمامه أنني أموت على غير دين من الأديان السائدة(81). وفي 15 فبراير بينما كان راقداً في فراشه اجتمع نفر من أصحابه في الحجرة المجاورة. وفجأة فتح باب حجرته، وظهر ليسنج منحني الظهر مهزولاً، ورفع قلنسوته محيياً، ثم خر على الأرض صريعاً بسكتة دماغية. وأذاعت مجلة لاهوتية أن الشيطان حمله عند موته إلى الجحيم كأنه فاوست آخر باع روحه(82). ولم يخلف من المال إلا أقل القليل، فاضطر الدوق إلى دفع نفقات جنازته.

لقد كان البشير بأعظم عصور ألمانيا الأدبية. ففي عام موته نشر كانط كتابه الخطير "نقد العقل الخالص" ونشر شيلر أول تمثيلياته. وكان جوته يرى في ليسنج المحرر العظيم، وأبا التنوير الألماني. قال جوته موجهاً الخطاب إلى طيف ليسنج "في الحياة كرمناك إلهاً من الآلهة؛ أما الآن وقد مت فإن روحك تسيطر على جميع النفوس".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

رد الفعل الرومانتيكي

كان جوته يتحدث باسم أقلية صغيرة؛ أما السواد الأعظم من الشعب الألماني فتشبثت بتراثه الديني، ورحب بالشاعر الذي تغنى بإيمانهم رجلاً ملهماً من السماء. فبعد أن أثار هندل مشاعر إرلندة على الأقل بأنغام "المسيا" السمائية بست سنوات، أسر فريدرش جوتليب كلوبشتوك قلب ألمانيا بالقصائد الحماسية الأولى من ملحمته (المسيا) (1748-73).

وقد ولط كلوبشتوك في 1724 قبل مولد ليسنج بخمش سنين، وعاش اثنين وعشرين سنة بعده. وقد أصبح ليسنج رجلاً حر الفكر وهو ابن القسيس، أما كلوبشتوك ابن المحامي فقد اتخذ من نظم ملحمة شعرية عن حياة المسيح أهم رسالة لحياته. وبلغ من تحمسه الشديد لموضوعه أنه نشر الأقسام الثلاثة الأولى من الملحمة وهو لا يزال فتى في الرابعة والعشرين. وقد فتنت هذه الأبيات السداسية التفاعيل، غير المقفاة، جمهوراً من القراء بلغ من عرفانهم أنهم أرسلوا الرسائل من جميع أرجاء ألمانيا لابنة عمه حين تقدم لخطبتها بعد سنة يناشدونها أن تقبل الخطبة، ولكنها رفضتها. بيد أن فردريك الخامس ملك للدنمرك-استجابة لتوصية وزيره يوهان فون برنشتورف-دعا كلوبشتوك للحضور والإقامة في البلاط الدنمركي وإكمال ملحمته نظير أربعمائة طالر في العام. وفي طريق الشاعر إلى كوبنهاجن راقته إحدى المعجبات الدنمركيات، واسمها مارجريتا مولر؛ وفي 1754 تزوجها، وفي 1758 ماتت فحطمت قلبه وأظلمت شعره. وقد خلد ذكراها في القسم الخامس عشر من "المسيا" وفي بعض من أعمق قصائده الشعبية تأثيراً. وأقام في كوبنهاجن عشرين سنة، ثم ذهبت حظوته عند الملك بعد طرد برنشتورف، فعاد إلى همبورج، وفي 1773 نشر آخر أجزاء ملحمته الضخمة. وكان مطلعها دعاء هو صدى لملتن، ثم روت في عشرين قسماً القصة المقدسة، ابتداءً من تأملات المسيح على جبل الزيتون وانتهاء بصعوده إلى السماء. وبعد أن أنفق كلوبشتوك في كتابة ملحمته وقتاً قارب ما أنفقه المسيح لكي يعيشها، اختتمها بتسبحة تفيض حمداً وشكراً لله:

هاأنذا بلغت هدفي! إن الفكرة المثيرة

ترف خلال روحي. وذراعك القادرة على كل شيء

ربي وإلهي هي وحدها التي هدتتي

عبر أكثر من قبر مظلم قبل أن أبلغ

ذلك الهدف البعيد! أنت الرب شفيتني،

وأنزلت فيضاً جديداً من الشجاعة على قلبي المتخاذل،

الذي كان في صحبة حميمة مع الموت؛

وكنت إذا شخصت إلى الأهوال لم تلبث

أشكالها المظلمة أن تتوارى، لأنك تحميني؛

لقد اختفت سريعاً...... يا مخلصي، لقد تغنيت

بوعد رحمتك. ووطئت قدماي

طريقي المخيف، وكل رجائي فيك أنت؛(83)


ورحبت ألمانيا السنية الإيمان بملحمة "المسيا" كأفضل شعر كتب إلى يومها بالألمانية. وينبئنا جوته عن مستشار في فرانكفورت كان يقرأ الأقسام العشرة الأولى "كل سنة في أسبوع الآلام، وبهذه الطريقة، ينعش روحه طوال العام". أما جوته فلم يكن يستطيع الاستمتاع بالملحمة إلا بنبذ شروط معينة لا تتخلى عنها ثقافة تسير قدماً إلا على مضض(84). وقد سكب كلوبشتوك ورعه بغزارة في شعره حتى أصبحت قصيدته سلسلة متعاقبة من الغنائيات والكوراليات الباخية أكثر منها الرواية المتدفقة التي يجب أن تكونها الملحمة؛ وليس من اليسير علينا أن نتتبع تحليقاً عاطفياً استغرق عشرين قسماً وخمسة وعشرين سنة. وكما أن فولتير ولد نقيضه في روسو، كذلك جعل ليسنج بارتيابيته، وعقلانيته، ونزعته الفكرية، ألمانيا تشعر بحاجتها إلى كتاب يدركون مقابل هذا مكان وحقوق الوجدان، والعاطفة، والخيال، والغموض، والرومانس، والعنصر فوق الطبيعي في حياة البشر. وقد أصبحت عبادة "الحساسية" عند بعض ألمان هذه الفترة، لا سيما النساء منهم، ديناً كما أصبحت موضة. وكان في دارمشتات "حلقة لذوي الحساسية" جعل أعضاؤها من العاطفة والتعبير الوجداني مبدأ وشعيرة. وكان روسو هو "مسيا" هذه النفوس. وفاق تأثيره في ألمانيا تأثير فولتير بمراحل؛ واعترف به هردر وشيلر ينبوعاً للإلهام؛ وكان كتاب كانط "نقد العقل العلمي" مشرباً بروسو، أما جوته فقد بدأ بروسو "الشعور هو كل شيء" وانتقل إلى فولتير "فكر في أن تحيا"، ثم انتهى إلى ضرب رأسيهما بعضهما ببعض. وجاء في غضون ذلك شعراء الوجدان من إنجلترة: جيمس طومسون، ووليم كولنز، وإدورد ينج، وقصاصاً الوجدان رتشردسن وستيرن. وقد أثارت مختارات توماس برسي من روائع الشعر الإنجليزي القديم، وديوان مكفرسن (من الشعر المنثور الذي زعم أنه ترجمة لشعر "أوسيان" من مخطوطات غالية قديمة) الاهتمام بشعر العصر الوسيط وغموضه ورومانسيته؛ وبعث كلوبشتوك وهاينريش فون جرستنبرج إلى الحياة فيثولوجية اسكندناوة وألمانيا السابقة للمسيحية.

وكان يوهان جيورج هامان، قبل عام 1781، قائد الثورة على العقل. ولد مثل كانط في مدينة كونجزبرج الغائمة السماء، وأشربه أبوه الوجدان الديني بشدة، وتلقى علومه في الجامعة، ثم كافح وهو فقير واشتغل معلماً خاصاً، ووجد عزاءه في إيمان بروتستنتي يثبت لكل لطمات حركة التنوير. وكان يقول أن العقل ليس إلا جزءاً من الإنسان، حيث التطور وليس أساسياً؛ أما الغريزة، والحدس، والوجدان، فهي أعمق منه، والفلسفة الحقة تقيم نفسها على طبيعة الإنسان وجوانبها كلها. واللغة ليست في أصلها حصيلة للعقل بل منحة من الله للتعبير عن الوجدان. والشعر أعمق من النثر. والأدب العظيم لا يكتب بمعرفة القواعد والأسباب ومراعاتها، بل بتلك الخاصية التي لا يمكن تعريفها وهي العبقرية التي تتجاوز كل القواعد مهتدية بالوجدان. ووافق فريدريش ياكوبي هامان وروسو. وقال أن فلسفة سبينوزا منطقية جداً إذا كنت تقبل المنطق، ولكنها زائفة لأن المنطق لا ينفذ أبداً إلى قلب الحقيقة، التي لا تتكشف إلا للوجدان والإيمان. فوجود الله لا يمكن إثباته بالعقل، ولكن الوجدان يعرف أنه بدون الإيمان بالله تكون حياة الإنسان عبثاً مأساوياً يائساً.

بهذا التمجيد للوجدان والشعر شحنت الروح التيوتونية لتطلق تحليقات من الأدب الخصيب الخيال جعلت النصف الثاني من القرن الثامن عشر في ألمانيا مذكراً بحرارة إنجلترة وخصوبة إنتاجها على عهد اليزابث. فكثرت مجلات الشعر، التي عانت قصر العمر المألوف، وكتب يوهان هاينريش فوس قصة رقيقة بالشعر سماها "لويزة" (1783-95) فضلاً عن قيامه بترجمة هومر وفرجل وشكسبير، وقد كسبت هذه القصة محبة الألمان وحفزت جوته لينافسها. وظفر سالومون جسنر بقراء دوليين أقبلوا على غنائياته الرقيقة ورعوياته النثرية. ومس ماتياس كلوديوس قلوب مائة ألم أم بأغانيه الريفية عن الحياة العائلية، مثل أغنيته المسماة "تهويدة تغني على ضوء القمر":


نامي الآن يا صغيرتي!

لم تبكين؟

ناعمة هي الراحة،

وحلوة في ضوء القمر.

وسيقبل النعاس عما قليل

وبلا ألم.

إن القمر يفرح بالأطفال

ويحبك(85).


أما جوتفريد بورجر فقد أوتي كل فضائل لعبقرية الرومانسية. كان ابناً لراعي كنيسة، وأرسل إلى خاله في جوتنجن ليدرس القانون، ولكن حياته الفاجرة أفضت إلى تركه الكلية. وفي 1773 نال غفران جميع الناس لخطاياه بقصيدته الشعبية "لينوره". وحبيب لينوره هذه يرحل مع جيش فردريك إلى حصار براغ. وفي كل صباح تنتفض من أحلامها وتسأله "يا فلهلم، أ أنت عديم الإيمان، أم أنت ميت؟ وإلى متى يبطئ قدومك؟" وتضع الحرب أوزارها، ويعود الجند، ويلقاهم الزوجات والأمهات والأبناء بالفرح والشكر لله:

وراحت تستفسر من الجميع في ذلك العرض،


وتسأل كل واحد عن اسمه،

ولكن أحداً لم يعطها جواباً،

لا أحد ممن عادوا،

فلما مضى كل الجنود،

مزقت شعرها الفاحم،

وارتمت على الأرض

في نوبات أليمة من اليأس القاتل.

وتقول لها أمها أن "ما يفعله الله يفعله حسناً"، وتجيب لينوره بأن هذا وهم، وتطلب لنفسها الموت... وتحدثها الأم عن النعيم والجحيم، وترد لينوره بأن النعيم أن تكون مع فلهلم، والجحيم أن تحرم منه، وتروح تهذي طوال نهارها. فإذا جن الليل وقف فارس ببابها، وهو لا يذكر اسمه، بل يأمرها بأن تأتي معه وتكون عروسه. فتمتطي خلفه جواده الأسود، وتركب الليل كله. ثم يصلان إلى جبانة، وترقص الأشباح من حولها. وفجأة ينقلب الفارس جثة هامدة، وتجد ليسنورة أنها متشبثة بهيكل عظمي. وبينما هي تتأرجح بين الحياة والموت تنوح الأرواح بهذه الكلمات:


صبراً، صبراً! حتى حين ينفطر القلب!

لا تنازعي الله في سمائه!

لقد جردت من جسدك؟

فليسبغ الله رحمته على روحك(86)،


الزوبعية

اندفعت الحركة الرومانتيكية من ورع كلويشتوك ورقة جسنر إلى النزعة الفردية الخارجة على تقاليد الاحترام، إلى تمرد الشباب الألماني وجهاده في نشوة الثورة الأخلاقية والاجتماعية. ذلك أن أرستقراطية البلاطات الجامدة المتصلبة وعقائدية الوعاظ المتهافتة وجشع طبقة رجال الأعمال وتكالبهم الكئيب على المال، وأساليب البروقراطيين المطردة المملة المبلدة بالشعور، وحذلفة العلماء وغرورهم-كل أولئك أثار سخط شباب الألمان الواعين بقدراتهم المغموطين مكانتهم. وقد أصاخوا السمع لصيحة روسو طلباً للطبيعية والحرية، ولكنهم لم يعبأوا بتمجيده "للإرادة العامة" ووافقوه على رفض المادية، والعقلانية، والحتمية، ووافقوا ليسنج على تفضيل انحرافات شكسبير القوية عن القواعد، على كلاسيكية كورنبي وراسين المقيدة للحركة. وأساءوا ذكاء فولتير وظرفه، ولكن المكان الذي اجتازه تراءى لهم صحراء جرداء. وقد طربوا لتمرد المستعمرات الأمريكية على إنجلترة. كتب جوته وهو يستعيد ذكرى هذه الحقبة "تمنيناً للأمريكيين النجاح كله، وبدأ اسما فرانكلين وواشنطن يسطعان ويتألقان في سماء السياسة والحرب"(87). هؤلاء المتمردون المجاهدون أحسوا نشوة المراهقة الجسمية واليقظة العقلية، وشكوا من كابوس الشيوخ على الشباب، والدولة على النفوس. كانوا مع الأصالة، والتجربة المباشرة والتعبير الطليق، واعتقد بعضهم أن عبقريتهم تعفيهم من القانون. وأحسوا أن الزمن في صفهم، وأن المستقبل القريب سيشهد انتصارهم. يقول جوته "أوه، لقد كانت حقبة سعيدة حين كنت أنا وميرك شابين!"(88).

وأعرب بعض هؤلاء المتمردين عن فلسفتهم بتحدي تقاليد الزي وإحلال تقاليد من عندهم محلها، فكان كرستوف كاوفمان يسير عاري الرأس، مشعث الشعر، مفتوح القميص حتى السرة(89). ولكن هذا كان حالة شاذة، وإذا استثنينا حالة انتحار أو حالتين، فإن أكثر أبطال الحركة اجتنبوا هذا العرض المقلوب لزيهم. وكان بعضهم ميسوراً. وكان جوته نفسه واحداً من أسلاف الزوبعية بمسرحيته جوتز فون برليشنجن (1773)، وفي السنة التالية أصبحت قصته "آلام فرتر" لواء الرومانتيكية الخفاق. وانضم شيلر إلى الحركة فأصدر "اللصوص" (1781)، ولكن هذه النفوس المعقدة، المتطورة، سرعان ما تركت الحملة ليضطلع بها شباب أكثر التهاباً وأضعف جذوراً.

وكان يوهان ميرك أحد الآباء المؤسسين للحركة وكل الشواهد تدل على أنه كان سليم العقل قوي البدن، وكان قد أتم دراسته بالجامعة، وأصبح شخصاً أثيراً في بلاط هسي-دار مشتات، ثم عين رئيساً عاماً لصيارفة الجيش، واشتهر بالذكاء الحاد والكفاءة العملية. وحين التقى به جوته في 1771 وقع من نفسه موقعاً حسناً، فاشترك معه ومع هردر في تمويل مجلة نقدية تسمى "أنباء فرانكفورت الأدبية"، ومن هنا لقب "الفرانكفورتيين"(90) الذي أطلق أول الأمر على المتمردين. وإذ كان ميرك خبيراً بدنياً الأعمال والسياسة، ورحالة جاب أرجاء ألمانيا وتنقل في أنحاء روسيا، فقد شهد وانتقد انتقاداً لاذعاً غرور الغنى، وملل العيش في قصور الملوك والأمراء، واستغلال الفلاحين. فلما ألفى نفسه عاجزاً عن إصلاح هذه الأحوال، بات متألماً ساخراً. وقد سماه جوته "مفستوفيليس ميرك"، واتخذ من نفسه ومن ميرك نماذج الأدوار الأبطال في فاوست. واضطرب عقل ميرك لهزائمه في عمله وتعاسته مع زواجه. ووقع في حبائل الدين، فأنقذه منها دوق ساكسي-فايمار استجابة لرجاء جوته. ثم بات فريسة لاكتئاب لا يبرحه، وقتل نفسه وهو لا يزال في الخمسين (1791). وأكثر مأساة حتى من هذه الحياة كانت حياة راينهولد لنتس. وكان ابناً لراعي كنيسة لوثري في ليفونيا، أثر في أعصابه الضعيفة، ومزاجه السريع الإثارة، في طفولته التأكيد على عقيدتي الخطيئة والجحيم(91). وأعانه حين استماعه إلى محاضرات كانط في كونجزبرج؛ وقاده كانط إلى كتابات روسو، فقال لنتس بعد قليل عن "هلويز الجديدة" إنها خير كتاب طبع إطلاقاً في فرنسا. وفي ستراسبورج التقى بجوته، فبهرته شخصية الإيجابية، وقلده في الفكر والأسلوب، وكتب أشعاراً غنائية أشبهت أشعار جوته إلى حد أنها ضمنت في بعض طبعات أعمال جوته. ثم مضى إلى زيزنهايم، ووقع (بعد جوته) في غرام فردريكه بريون، ونظم القصائد الحارة في مديحها. وأمد لها أنها إن لن تستجب لحبه فهو قاتل نفسه، فلم تفعل ولم يفعل. ثم انتقل إلى فايمار، وصادقه جوته، وحيد جوته على نجاحه، وسخر من علاقة جوته بشارلوته فون شتاين، وطلب إليه الدوق أن يرحل عن الدوقية... وكان شاعراً ومسرحياً موهوباً. وتمثيليته المسماة "الجند" نقدت نقداً لاذعاً الفوارق الطبقية والحياة البرجوازية، وشخصيتها المحورية فتاة من الطبقة الوسطى تتطلع عبثاً إلى الزواج من ضابط. ثم تنقلب مومسا وتتحرش بأبيها الذي لم تتعرف عليه في الشوارع. وإذ كان لنتس مفتقراً إلى الثبات والاستقرار افتقاراً أعجزه عن العثور على مكان مرموق في الحياة، فقد راح يهيم متنقلاً من وظيفة إلى وظيفة ومن إخفاق إلى إخفاق، ويعاني نوبات من الجنون، ويحاول الانتحار غير مرة، وأخيراً مات مجنوناً (1792).

أما مكسمليان فون كلنجر فكان أذكى دعاة الحركة. ندد بالدنيا وارتقى فيها إلى مكان مرموق، وأطلق لقلمه العنان في الحديث العنيف في تمثيلياته، ثم أصبح أميناً لجامعة دوربات، واستمتع بكل آثام الشباب وحماقاته وعمر حتى التاسعة والسبعين. وعنه كتب جوته بيته الذي نم عن حسن إدراك وفطنة: "في الصبايا نحب ما هن عليه، أما في الفتيان فنحب ما يرجى أن يكونوه". وقد أعطت أشهر تمثيلية كتبها كلنجر وهو في الرابعة والعشرين (1776) "شتورم أوند درانج" اسمها ومزاجها للزوبعية. وترى فيها المتمردين الأوربيين يتغربون في أمريكا أملاً في أن يجدوا منافذ حرة لنزعاتهم الفردية؛ أما لغتها فلغة العاطفة المشبوبة وقد محت؛ وأما دعوتها فدعوة العبقرية التي تحررت من كل القواعد. وقد حارب كلنجر في الجيشين النمساوي والروسي، وتزوج ابنة غير شرعية لكاترين الكبرى، وهبطت ثورته أخيراً حين تولى منصب الأستاذية، ثم تجمد عموداً من أعمدة الدولة. وأما فلهلم هاينزي فقد توج الحركة برواية "أرد نجهللو" (1787) التي جمعت بين الفوضوية، والعدمية، والشيوعية، والفاشية، واللامبالاة، بالأخلاق، وإرادة القوة، في مهرجان صاخب من الشهوانية والجريمة، بقول البطل بأن الجريمة ليست بجريمة إن كانت شجاعة؛ وما من جريمة حقيقة غير الصعف، وأصدق الفضائل شجاعة الجسم والإرادة؛ والحياة إظهار للغرائز الأساسية، ونحن نخطئ إذا دمغنا هذه الغرائز باللا أخلاقية. وهكذا يغوي أردنجللو ويقتل إذا لاحت له الفرصة أو دفعته النزوة، ويرى في عواطفه المشبوبة الطليقة من كل قيد أسمى قوانين الطبيعة. وهو يصف بطولات هانيبال ويمجده إنساناً أعلى ويتساءل: "ما قيمة مليون من الرجال الذين لم يحظوا طوال حياتهم بساعة واحدة كساعاته-بالقياس إلى هذا الرجل الفرد؟"(92) وهو يقيم مجتمعاً شيوعياً تسوده شيوعية النساء وحق الانتخاب للنساء وعبادة قوى الطبيعة باعتبارها الدين الأوحد.

في دوامة الزوبعية (شتورم) المضطربة هذه خلعت بعض الأفكار الغالبة على هذه الحركة طابعها وتأثيرها. فمعظم قادتها أتوا من الطبقة الوسطى، وبدأوا ثورتهم احتجاجاً على امتيازات الحسب والنسب، ووقاحة ذوي المناصب، وبذخ الأحبار الذين ينعمون بطيبات العييش على حساب عشور الفلاحين. وقد أجمعوا على الرثاء لحفظ الفلاح العاثر-حراً كان أو قناً-وتصوير خلقه في صورة مثالية. وأهابوا بالنساء أن ينبذن موضاتهن وأطواقهن وعواطفهن الهشة وإغماءاتهن وتقواهن الخانعة الذليلة، ودعوهن للمجيء والمشاركة في الحياة المثيرة التي يحياها العقل المحرر من الأغلال، والذكر الجوال. وأعادوا تعريف الدين بأنه إلهام سماوي في نفس عبقريتها جزء من الحافز الخلاق والسر المبدع في الدنيا. ووحدوا بين الطبيعة والله، وانتهوا إلى أن الإنسان يكون إلهياً إذا كان طبيعياً. واتخذوا من أسطورة فاوست المنحدرة من العصر الوسيط رمزاً للجوع الفكري والطموح الملتهب الذي يحطم كل حواجز التقاليد أو الأعراف أو الأخلاق أو القوانين. وهكذا نرى "مالرمولر" يكتب قبل جوته بزمان مسرحية سماها "فوستس لوبن" "لأنني عرفت فيه من البداية رجلاً عظيماً... يحس بقوته كلها، ويشعر باللجم الذي قيده به القدر، ويحاول أن يخلعه، ووتوفر له شجاعة الإطاحة بكل شيء يقف في طريقه"(93). وقد وسمت حماسة الزوبعية وشططها هذه الحركة بأنها تعبير عن المراهقة الفكرية، وصوت أقلية قضى عليها بأن يعلو صوتها ثم يخبو. ولم تكسب الحركة أي تأييد شعبي، لأن التقاليد والشعب يساند الواحد منهما الآخر دائماً. فلما وجد أتباع الحركة أنفسهم بغير قاعدة في بنيان الحياة الألمانية، تصالحوا مع الأمراء، وأملوا-كما أمل جماعة الفلاسفة-أن يقود الحكام المستنيرون الطريق إلى التحرر الفكري والإصلاح الاجتماعي. وأدرك هردر وجوته وشيلر الحركة في شبابهم، ثم انسحبوا من نارها الآكلة، وقلموا أظافرهم وأطبقوا أجنحتهم، وتقبلوا حماية أدوق فايمار الكرام شاكرين.


الفنانون

كان ألمان العصر الذي نحن بصدده أنداداً في الفن للفرنسيين والإيطاليين. فلقد نقلوا الباروك عن إيطاليا والروكوك عن فرنسا، ولكنهم أعطوا إيطاليا فنكلمان ومنجز، وآثر ملوك فرنسا وملكاتها الألمان المغتربين أمثال دافيد روتنجن، و "جان" ريزنر، وآدم فايسفايلر، على صناع الأثاث الفاخر الفرنسيين؛ من ذلك أن لويس السادس عشر دفع ثمانين ألف جنيه ثمناً لمكتب من صنع روتنجن(94). وحفل المقر الملكي في ميونخ، وقصر فردريك الجديد في بوتسدام، وبيوت أثرياء الألمان، بالأثاث الضخم الدقيق النقوش، حتى وفد طراز أخف في نهاية العصر من صنع الإنجليزيين تشينديل وشيراتن. وكانت مصانع مايسن قد أضرت بها الحرب، ولكن نمفنبرج ولود فجزبرج وبوتسدام وغيرها من المراكز واصلت صناعات البرسلان والخزف. وأشرقت رفوف الألمان ومدافئهم وموائدهم ومكاتبهم بصغار التماثيل المرحة الرشيقة الرقص والغناء والتقبيل. وعلى نطاقأوسع ظهر نحت للتماثيل جدير بالإعجاب. شديد الاهتمام من ذلك أن مارتن كلاور نحت تمثالاً نصفياً لجوته في أيام فايمار الأولى-بدا فيه متشوفاً، براق العين، واثق النفس(95). ولم يبلغ لودفج، بن مارتن، هذا الاتقان في تمثاله الذي نحته لشيلر(96)، وأفضل منه تمثال شيلر المعروض الآن في ميدان بشتوتجارت من صنع يوهان فون دانيكر. أما سيد النحت الألماني في هذا العصر فيوهان جوتفيلد شادوف، الذي أصبح مثالاً للبلاط في برلين عام 1788. وفي 1791 نحت رأساً لفردريك، وفي 1793 صنع له تمثالاً كامل الطول؛ وفي 1816 صب بالبرونز "فردريكاً"(97) أصغر-وهو رائعة لا ينساها من شهدها. وصب البرونز "مركبة النصر" لبوابة براندنبرج، وكاد يبلغ روعة الجمال الكلاسيكي في المجموعة الرخامية التي نحتها لولية العهد الأميرة لويزة وأختها فريدريكه. وكثر المصورون في ألمانيا كثرة أتاحت لها أن تنزل لإيطاليا عن اثني عشر منهم ثم يبقى لها بعد ذلك مصورون أكفاء "من ذلك أن عدد المصورين من آل تيشباين الذي جمعتهم رابطة الفرشاة كان كبيراً بحيث يسهل علينا الخلط بينهم. فأحدهم وهو يوهان هاينريش تيشباين المصور فيبلاط هسي-كاسل رسم صورة بديعة لليسنج. أما ابن أخيه يوهان فريدريش تيشباين، فرسم في كاسل وروما ونابلي وباريس وفيينا ولاهاي ودساو وليبزج وسانت بطرسبرج، وصور مجموعة ساحرة لأبناء الدوق كارل أوجست أمير ساكسي-فايمار، وأما يوهان هاينريش فلهلم تيشباين فعاش في إيطاليا (1787-99)، ورسم صورة مشهورة "جوته في كمبانيا روما" ثم عاد ليصبح مصور البلاط لدوق أولدنبورج.

وكان من مصادر "الزوبعية" "الألمانية المنحازة لإيطاليا آدم فريدريش أويزر، النحات، الرسام، النقاش، المعلم، وداعية إصلاح الفن على الأصول الكلاسيكية. وقد عاش فنكلمان معه زمناً في درسدن، وانتقد رسمه، وأعجب بخلقه، وقال "أنه يعرف كل ما يستطيع الإنسان أن يعرفه خارج إيطاليا"(98) وفي 1764 عين أويزر مديراً لأكاديمية الفنون في ليبزج، وزاره جوته هناك وانتقلت إليه عدوى الحمى الإيطالية. ويحتل مكان الصدارة بين الفنانين الذين بقوا في ألمانيا دانيل شودوفيكي، وكابولندياً. ولد في دانبرج، وترك يتيماً، فتلعم أن يكسب قوته بصنع الرسوم والمحفورات والصور. وفي 1743 انتقل إلى برلين وأصبح ألمانياً في كل شيء إلا اسمه. وقد روى حياة المسيح في منمنمات رائعة أذاعت صيته في طول البلاد وعرضها، في رسم بمزاج فولتيري "جان كالاس وأسرته" وتكاثر الطلب على رسومه حتى أنه لم ينشر أي أثر أدبي كبير في بروسيا سنين طوالاً دون أن تزينه رسوم من صنعه. وفي أروع محفوراته صور أسرته: فصور نفسه ومكب على عمله، وزوجته تشرف في اعتزاز على أبنائه الخمسة، ثم جدران البيت تكسوها الصور. ورسم بالطباشير الأحمر صورة لوته (شارلوته) كستز، التي أحبها جوته وفقدها. وترى في عمله رشاقة في الخط ورقة في الشعور تميزه عن هوجارت، الذي كثيراً ما قورن به لكثرة ما صوره من مناظر الحياة المألوفة؛ ولكنه استنكر بحق هذه العلاقة ما قورن به لكثرة ما صوره من مناظرالحياة المألوفة؛ ولكنه استنكر بحق هذه العلاقة. وكثيراً ما استلهم فاتو؛ وفي صورته "لقاء في حديقة الحيوان(99)، ترى ولع فاتو بالهواء الطلق وتموج ثياب النساء الخلاب.

وقد ترك أنطون جراف صورة لشودو وفيكي(100)-يفيض ابتسامات وقصاً ولحماً مكتنزاً-وصورة لنفسه(101) وهو يتطلع من فوق لوحته ولكنه مكتمل الزينة كأنه يتأهب للذهاب إلى حفلة رقص. وقد أفرغ حيوية أكثر على لوحته الجميلة لزوجته(102)، والتقط غرور الممثلة كرورنا شروتر(103) وجلل بالثياب المذهبة جسد السيدة هوفرات بومي الفضفاض(104). وآخر قائمة المصورين في نصف القرن الذي نحن بصدده هو آزموس ياكوب كارستنز، الذي استوعب دعوة فنكلمان نصاً وروحاً، وأكمل الأحياء الكلاسيكي في التصوير الألماني. ولد في شلزفج، وتعلم في مدارسكوبنهاجن وإيطاليا، ومارس عمله في لوبك وبرلين على الأخص، ولكنه عاد إلى إيطاليا في 1792، ووجد المتعة الكبرى في تأمل أطلال النحت والعمارة القديمين. ولم يعرف أن الزمن قد نزح اللون من الفن اليوناني فلم يبق إلا على الخط؛ وعليه أحال فرشاته إلى قلم كما فعل منجز، ولم يستهدف إلا الشكل الأكمل. وقد أزعجته العيوب البدنية التي شابت أجساد نماذجه التي يصورها في مرسمه، فقرر أن يركن إلى خياله؛ وأبهجه أن يصور الأرباب اليونانية والمناظر المستقاة من الميثولوجيا اليونانية كما تخيلها هو وفنكلمان. ومن هذه انتقل إلى تصوير دانتي وشكسبير. وكان ولعه بالخط والشكل يفتقد دائماً اللون والحياة، وحتى حين كان يبلغ في رؤياه لأشباه الإله رؤيا تقرب من رؤيا ميكلانجلو، كما نرى في لوحة "مولد النور"(105)، فإننا لا نستطيع الثناء عليه إلا لأنه تذكر صور كنيسة السستين بالدقة التي تذكر بها موتسارت موسيقاها. وردت روما على محبته بمحبة مثلها، وأتاحت لعمله (1795) العرض في أوسع وأشهر المعارض التي أتيحت لأي فنان حديث. وهناك مات بعد ثلاث سنين غير متجاوز الرابعة والأربعين. ولا غرو فالفن كالجنس قد يكون ناراً آكله.

وغلب مزاج الكلاسيكية الجديدة على الزخرفة المعمارية لبوتسدام وبرلين في عهد فردريك الأكبر. وكان قد بدأ قصره الجديدة في 1755، ولم يسمح للحرب بأن تعوقه عن المضي في المشروع. فشارك في تصميمه ثلاثة معماريين-بورنج، وجونتارد، ومانجر؛ فمزجوا الكلاسيك بالباروك في صرح مهيب يذكر بقصور روما القديمة، أما الزخارف الداخلية فقد نافسوا فيها أبدع نماذج الروكوك الفرنسي. وكان للكنيسة الفرنسية في برلين رواق معمد كلاسيكي، فأضاف إليه جونتارد وتلميذه جبورج أونجر برجاً كلاسيكياً (1780-85). وزاد أونجر برلين جلالاً بتشييد مكتبة ملكية في 1774-80. أما بوابو براندنبورج التي بناها كارل لانجهانز في 1788-91 فقد قلدت تقليداً سافراً مداخل الأكروبول الفخمة؛ وقد نجت بالجهد من التدمير في الحرب العالمية الثانية، ولكنها فقدت "الكدريجة الشهيرة، وهي العربة ذات الجياد الأربعة التي توجها بها شادوف.

كانت مدن ألمانيا الأخرى تنحت الآثار المخلدة لأمراء البيوت المالكة والنبلاء الرفات. فزينت أخت فردريك فلهلميه مدينة بايرويت بقصر زين بالروكوك الساحر (1744-73). وفي كاسل صمم سيمون لوي دوري (1769 وما بعدها) صالة الرقص الفخمة والحجرة الزرقاء في قلعة حاكم هسي-كاسل. وفي الراين قرب دسلدورف بنى نيكلاوس فون بيجاجي قلعة بنرات الفخمة (1755-69)، وبنى فليب دلا جبيير لودفجز بورج قصر مونريبو الجميل (1762-64).


بعد باخ

أسعدت ألمانيا بالموسيقى وتأثرت بها أكثر من أي أمة أخرى باستثناء إيطاليا. فالأسرة التي خلت من الآلات الموسيقية كانت شذوذاً وكانت المدارس تعلم الموسيقى تعليمها للدين والقراءة سواء بسواء تقريباً. وكانت الموسيقى الكنيسية آخذة في الاضمحلال لأن العلم والفلسفة، والمدن والصناعة، كانت تصرف العقول عن الدين إلى الدنيا، وظلت الترانيم اللوثرية العظيمة تجلجل، ولكن الأغنية أخذت تتحول من الكوارس الكنسية إلى الليدات والتمثيليات الغنائية والأوبرا. وقد افتتح يوهان بيتر شولتس عهداً جديداً في الأغنية ب "أغان في فوكستن" (1782)؛ وبعدها حظيت ألمانيا بزعامة لا تنازع في استخدام الموسيقى في الشعر الغنائي.

وقد شجع التحسين الآلي الذي أدخل على البيانوا انتشار الحفلات الموسيقية وظهور مهرة العازفين على الآلات. وغزا العازفون أمثال يوهان شوبرت، وآبت فولجر، ويهان هومل، المدن الكثيرة بأدائهم الموسيقي. ففي 10 مارس 1789 قام هومل الذي لم يتجاوز الأحد عشر ربيعاً بعزف على البيانو في درسدن؛ ولم يدر أن موتسارت سيكون بين السامعين؛ وخلال الحفلة رأى أستاذه السابق وتعرف عليه؛ فما إن فرغ من عزف قطعته حتى شق طريقه بين الجمع المصفق وعانق موتسارت في عبارات حارة تفيض بالولاء والبهجة(106). واكتسبت آبت (أعني آبوت، أي الأب الديني) فوجلر لقبه هذا برسامته قسيساً (1773)؛ وفي مانهايم كان قسيس البلاط ومدير الموسيقى معاً. وكان في التأليف الموسيقي من أكثر كتاب القرن أصالة وتأثيراً؛ وفي العزف على الأرغن أثار غيرة موتسات؛ وفي التعليم كان صاحب الفضل في تكوين فيبر ومييربير؛ ثم أضحك مانهايم وهو ممثل للبابا يلبسه الجوار الطويلة الزرقاء وبحمله كتاب صلواته مع موسيقاه، وبجعله جمهوره أحياناً ينتظره ريثما يفرغ من صلاته.

وكان أوركسترا مانهايم الآن فرقة من ستة وسبعين موسيقياً منتقين، يقودهم بكفاية كرستيان كانا بيش معلماً وقائداً وعازفاً منفرداً على الكمان. وقد أثر عن اللورد فوردابس قوله أن ألمانيا تبر سائر الأمم لسببين: الجيش البروسي وأوركسترا مانهايم. ويليه شهرة أوركسترا جيفاندهاوس بلييزج. وكانت الحفلات الموسيقية عملاقة تحوي ثلاثة أو أربعة أو أحياناًستة كونشرتوات في برنامج واحد. والقوم يحيونها في كل مكان-في المسارح والكنائس والجامعات والقصور والحانات والمتنزهات. ونافست السمفونية الآن الكونشرتو في الربرتوار الأوركسترالي، وما وافت سنة 1770-حتى قبل مجيء هايدن-حتى حظيت السمفونية بقبولها كأرقى ألوان الموسيقى الآلية(107).

ونصف المؤلفين الموسيقيين في هذه الحقبة منحدرون من قلب يوهان سبستيان باخ القوي وصلبه المكين. أنجبت له زوجته الأولى سبعة أطفال، أحرز اثنان منهم-فلهلم فريدمان وكارل فليب إيمانويل-سمعة دولية. وأنجبت له زوجته الثانية ثلاثة عشر طفلاً برز في عالم الموسيقى منهم اثنان هما يوهان كرستوف فريدرش ويوهان كرستيان. ثم أنجبت يوهان كرستوف فريدرش مؤلفاً موسيقياً صغيراً هو فلهلم فريدرش ارنست باخ؛ وهكذا أعطى يوهان سبستيان باخ العالم خمسة رجال ضمنوا لهم مكاناً في تاريخ الموسيقى. يضاف إلى هؤلاء أحد أقربائه الأبعدين واسمه يوهان ارنست باخ، درس على الأستاذ في ليبزج، وأصبح رئيساً لفرقة المرتلين في فايمار، وترك عدة مؤلفات موسيقية ليجر عليها النسيان ذيوله.

أما فلهلم فريدمان باخ فقد ولد في فايمار. والقسم الأول من مؤلف أبيه "الكلافير الوسيط" كتب لتعليمه. وقد سار حثيثاً في دراسته، ولم يناهز الستة عشر عاماً حتى كان يؤلف الموسيقى. فلما بلغ الثالثة والعشرين عين عازفاً اللارغن بكنيسة صوفيا بدرسدن، ولكما كانت واجباته في هذه الوظيفة هينة فقد ألف عدة صوناتات وكونشرتوات وسمفونيات. ثم ازداد راتباً وشهرة حين اختير (1746) عازف أورغن في كنيسة ليفراون بهاله. وأقام هناك ثمانية عشر عاماً، ومن هنا تلقيبه "باخ هاله". وكان مولعاً بالشراب لا يعلو على ولعه به إلا ولعه بالموسيقى. ثم استقال في 1764، وظل عشرين عاماً يهيم متنقلاً من بلد إلى بلد، ويقيم بالجهد أوده بالعزف في حفلات موسيقية وبتعليم التلاميذ. وفي 1774 استقر في برلين حيث مات في ضنك عام 1784. وكان كارل فليب إيمانويل باخ أعسر، فاضطر إلى قصر عزفه على الأرغن والبيانو. وفي 1734 حين بلغ العشرين التحق بجامعة فرانكفورت، وهناك حظي بصحبة جيورج فليب تليمان، الذي كان أحد عرابيه يوم عماده وأعطاه جزءاً من اسمه. وفي 1837 عزف بعض مؤلفاته أمام جمهور ضم فردريك وليم الأول ملك بروسيا. ولما علم بأن ولي العهد فردريك يحب الموسيقى، قصد راينزبرج وقدم إليه نفسه دون أن يظفر بثمرة عاجلة؛ ولكن في 1740 عينه فردريك، الذي أصبح الآن ملكاً، عازفاً على الصنج في أوركسترا الكنيسة ببوتسدام. ولكنه ضاق بمصاحبة ناي فردريك الهوائي المزاج وقبول سلطته الملكية في الموسيقى. وبعد أن قضى في الأوركسترا ستة عشر عاماً، اعتزل ليفرغ التعليم. وقد حدد كتابه "بحث في العزف الحقيقي على الكلافير" (1753 وما بعدها) بداية تقنية البيانو الحديثة، وكان لهذا الكتيب الفضل في اكتساب هايدن البراعة الفنية في العزف على البيانو، وبسبب قال موتسارت عن "باخ برلين" هذا: "إنه أبونا، ونحن صبيته؛ والذين يعرفون منا أي شيء على وجهه الصحيح، فإنما تعلمناه منه، ووغد ذلك الطالب الذي لا يعترف بهذا"(108). وقد خرج إيمانويل في مؤلفاته عامداً على أسلوب أبيه الكونترابنطي، مؤثراً تناولاً متجانس الصوت وخطا ميلوديا أبسط. وفي 1767 قبل وظيفة المدير لموسيقى الكنيسة في همبورج، وهناك أنفق الإحدى وعشرين سنة البقية في أجله. وفي 1795 جاء هايدن إلى همبورج ليراه، ولكنه وجد أن أعظم أبناء يوهان سبستيان قد مضى على موته سبع سنين.

أما يوهان كريستوف فريدرش باخ فقد درس على أبيه وفي جامعة ليبزج، ثم عين في الثامنة عشرة (1750) موسيقار الحجرة في بوكسبورج، لفلهلم كونت شاومبورج-ليه. وحين بلغ السادسة والعشرين أصبح مديراً للموسيقى. أما الحدث العظيم الذي وقع له ف عامه الثامن والعشرين فهو مجيء هردر (1771) مبشراً؛ وقد زوده هردر بنصوص ملهمة للأوراتوربوات والكنتاتات، والأغاني؛ واتبع يوهان كرستوف أساليب أبيه وروحه، ثم ضاع في خضم تغيرات الدهر وتقلباته.

وعلى النقيض منه كان ولاء الابن الأصغر، يوهان كرستيان باخ، لإيطاليا. بعث إلى برلين وهو لا يتجاوز الخامسة عشرة عند موت أبيه، وهناك بذل له أخ غير شقيق، يدعى فلهلم فريدمان، العون وقام على تعليمه. وحين بلغ التاسعة عشرة ذهب إلى بولونيا، حيث أدى الكونت كافالييري أجوستينوليتا نفقات دراسته على الأب مارتيني؛ وقد افتتن الشاب بالحياة الإيطالية والموسيقى الكاثوليكية، فدخل في المذهب الكاثوليكي، وظل ست سنوات يخص الكنيسة أولاً بمؤلفاته الموسيقية. وفي 1760 عين عازف أرغن في كتدرائية ميلان، وأصبح "باخ ميلان" ثم أثارت الأوبرا الإيطالية أثناء ذلك طموحه للتفوق في الموسيقى غير الدينية كما تفوق في الموسيقى الكنسية، فأخرج الأوبرات في تورين ونابلي (1761)؛ وشكا رؤساؤه الميلانيون من أن رشاقة هذه المؤلفات تتنافر مع مركزه في الكتدرائية فنقل يوهان كرستيان مقامه إلى لندن (1762)، حيث حظيت أوبراته عادة بعروض طويلة الأمد. وما لبث أن عين رئيساً للموسيقى عند الملكة شارلوت صوفيا، ورحب بالصبي موتسارت ذي الأعوام السبعة عند مجيئه إلى لندن في 1764، وراح يلهو معه على البيانو. وأحب الصبي هذا الموسيقى الذي اكتمل نضجه الآن، وأخذ عنه الكثير من الألماعات في تأليف الصوناتات والأوبرات والسمفونيات. وفي 1778 ذهب باخ إلى باريس ليقدم أوبراه "أماديوس الغاليين"، وهناك التقى ثانية بموتسارت، وكان ابتهاج فتى الثانية والعشرين به كابتهاجه قبل خمسة عشر عاماً. كتب فولفجانج لأبيه يقول "إنه رجل أمين ينصف الناس، وأنا أحبه في كل قلبي"(109).

ويمكن القول على الجملة أن أسرة باخ هذه ابتداء من فايت باخ الذي مات في 1619، وانتهاء بفلهلم فريدرش إرنست باخ الذي مات في 1845، هي أبرز الأسر في تاريخ الثقافة. فمن بين نحو ستين من هؤلاء الباخين المعروفة أسماءهم من أقرباء يوهان سبستيان، كان ثلاثة وخمسون موسيقيين محترفين، وكان ثمانية من أسلافه وخمسة من أخلافه من وزن كاف لتبرير نشر مقالات عنهم في قاموس للموسيقى(110). وقد ظفر عدد من الأبناء في حياتهم بيت ذائع وشهرة فاقت ما تتمتع به يوهان سبستيان. ولا يعني هذا أنهم احتكروا الشهة الموسيقية، فالموسيقيون الأفذاذ كانوا كالعادة يلقون المديح الأعظم وهم أحياء، ثم يجر عليهم النسيان ذيوله حين يموتون؛ وقد نافس مؤلفون موسيقيون مثل كارل فريدرش فاش وكرستيان فريدرش شوبارت أبناء باخ في ذيوع اسمهم. وإذا نحن رجعنا النظر إلى هذا النصف الثاني من القرن الثامن عشر لحظنا بعض الخطوط الخاصة في التطور الموسيقي. فاتساع مساحة البيانوا وازدياد قوته حررا الموسيقى من خضوعها للألفاظ وشجع المؤلفات للموسيقى الآلية؛ ثم إن إقبال الجماهير المتزايد على الحفلات الموسيقية، وتقلص هيمنة الكنيسة، بعدا بالمؤلفين عن يوليفونية يوهان سبستيان باخ وقربهم من هارمونيات خلفائه الأسهل تذوقاً. وعمل تأثير الأوبرا الإيطالية على تفوق الميلوديا حتى في قطع الموسيقى الآلية، بينما أحدثت الليدات، بحركة مضادة، تعقيداً جديداً في الأغنية. وبلغت الثورة على الأوبرا الإيطالية ذروتها في جلوك، الذي أراد إخضاع الموسيقى للدراما، ولكنه بالعكس أضفى السمو على الدراما بالموسيقى. وعمل درب آخر طورت الثورة "المسحية الغنائية"، التي بلغت أوجهاً في "الناي السحري". وانتقل الكونشرتو جروسو إلى الكونشرتو الموضوع لآلة منفردة واحدة وأوركسترا، واتخذت الصونات شكلها الكلاسيكي في كارل فليب إيمانويل باخ وهيدان، وتطورت الرباعية إلى السمفونية. وهكذا تهيأ كل شيء لبيتهوفن.


الشيخ فرتز

فوق كل هذه الحياة المنوعة، حياة السياسة والدين والصناعة واللهو والموسيقى والفن والعلم والفلسفة والبرو الإثم - كان يلوح طيف البطل الشائخ الذي لقبته ألمانيا "الشيخ فرتز"- لا حباً بل تكريماً له بوصفه أعجب وأدهش تيوتوني في عصره. فهو لم يقنع بحكم مملكته وأوركستراه، بل حسد قلم فولتير وتاقت نفسه إلى الظفر بالثناء عليه شاعراً ومؤرخاً. وقد خلف للأجيال التالية ثلاثين مجلداً من كتاباته: سبعة في التاريخ، وستة في الشعر، وثلاثة في الأبحاث العسكرية، واثنين في الفلسفة، واثني عشر في الرسائل، كلها بالفرنسية. أما أشعاره فأكثرها من النوع العابر سريع الزوال، ولم يعد القراء يذكرونها. ولكنه كان من كبار المؤرخين في جيله. ففي بواكير ملكه كتب تاريخ أسلافه-"مذكرات في تاريخ أسرة براندنبورج" (1751). وقد زعم لنفسه الحياد كما يزعم أكثر المؤرخين: "لقد ارتفعت فوق كل الأهواء والميول، ونظرت إلى الأمراء والملاك والأقرباء نظري إلى أناس عاديين"،(111) ولكنه ارتفع إلى ذروة الحماسة والنشوة وهو يصف الناخب الأكبر فردريك وليم.

أما رائعته الأدبية فهي "تاريخ عصري" الذي سجل حكمه. وقد بدأه عقب انتهاء الحرب السيليزية الأولى (1740-42)، وواصل كتابته على فترات حتى أخريات عمره. وقد ضمنه تاريخ العلم والفلسفة والأدب والفن، ربما متأثراً بفولتير-وإن كان قد كتب جانباً كبيراً من هذا الكتاب قبل أن يظهر كتاب فولتير "قرن لويس الرابع عشر" و "مقاله في الأعراف" وقد اعتذر عن تضييعه حيزاً في كتابه على "بلهاء يلبسون الأرجوان، ودجاجلة يحملون التيجان... أما تتبع الكشف عن الحقائق الجديدة، وتفهم أسباب التغيير في الأخلاق والعادات، ودراسة الطرق التي قشعت بفضلها ظلمة الهمجية من عقول الناس-فهذه بالتأكيد موضوعات جديرة بأن تشغل جيع المفكرين".(112) وقد أثنى على هوبز ولوك والمؤلهة في إنجلترة، وعلى توماسيوس وفولف في ألمانيا، وفونتينيل وفولتير في فرنسا. "هؤلاء العظماء وتلامذتهم كالوا للدين ضربة قاضية. وبدأ الناس يمحصون ما كانوا يعبدونه بغباوة، وأطاح العقل بالخرافة... وكسبت الربوبية أتباعاً كثيرين، وهي العبادة البسيطة للكائن الأعظم".(113) وإذ كان فردريك يحتقر الحكومة الفرنسية ويحب الأدب الفرنسية، فإنه فضل ملحمة فولتير "الهنريادة" على الألياذة، وفضل راسين على سوفوكليس وسوى بين بوالو وهوراس، وبين بوسويه وديموستين. وسخر من لغة ألمانيا وأدبها، وامتدح فنها المعماري. وشق على نفسه ليبرر غزوه سيليزيا، فقال أنه أحس أن لرجل الدولة أن ينتهك الوصايا العشر إن اقتضته ذلك مصالح دولته الحيوية "فخير أن يحنث الملك بعهده من أن يهلك الشعب"(114)-وهذا الهلاك-كما أمل أن تصدقه-هو الخطر الذي تهدد بروسيا في 1740؛ وقد اعترف بأنه اقترف أخطاء كثيرة في قيادته جيشه، ولكنه رآه أمراً لا ضرورة له أن يسجل فراره مولفتز. وهذان المجدان في جملتهما يقفان على قدم المساواة مع أفضل الكتابات التاريخية عن أوربا الحديثة قبل جبون.

وما أن وضعت حرب السنين السبع أوزارها حتى عكف فردريك على كتابة "تاريخ حرب السنين السبع". وكان كقيصر يتطلع إلى أن يكون خير مؤرخ لحملاته، وكقيصر تحاشى الحرج فتكلم عن نفسه بضمير الغائب. وهنا أيضاً حاول-ربما بعذر أفضل-أن يبرر المبادرة الجريئة التي بدأ بها الحرب. وقد امتدح ألد أعدائه، ماريا تريزا، في كل ما يتصل بحكمها الداخلي، أما في علاقاتها الخارجية فقد أدان هذه المرأة المتكبرة "التي" استبد بها الطمع فأرادت أن تبلغ هدف المجد من كل طريق"(115) ووسط سجل الحملات، المحايد إلى حد لا بأس به، توقف ليندب أمه التي ماتت في 1757 وشقيقته التي لحقت بها في 1758. والصفحة التي وصف فيها فلهلمنية واحة من الحب في بيداء خربة من الحرب. وقد خلص إلى أن التاريخ أستاذ عظيم تلاميذه قليلون: "إن في طبيعة البشر ألا يتعلم إنسان من التجربة. وحماقات الآباء تضيع هدراً على الأبناء، وكل جيل لا بد مقترف حماقاته"(116) "كل من يقرأ التاريخ بإمعان يدرك أن المشاهد ذاتها كثيراً ما تتكرر، وأنه لا حاجة بنا إلا لتغيير أسماء الممثلين"(117). ولكنا حتى لو استطعنا أن نتعلم، فإننا سنظل عرضة للمصادفة التي لا يمكن التنبؤ بها. "إن هذه المذكرات تقنعني أكثر فأكثر بأن كتابة التاريخ إن هي إلا تجميع لحماقات الناس وضربات الحظ. فكل شيء يدور حول هذين الموضوعين"(118).


وقد حاول مرتين (1752 و1768) في "وصية أخيرة" أن ينقل لورثته بعض الدروس المستفادة من تجربته الخاصة. فحثهم على دراسة أهداف الدولة المختلفة ومواردها، والوسائل المتاحة لحماية بروسيا وتنميتها. وحذا حذو أبيه في تأكيده على الحاجة لأحكام ضبط الجيش، وحذر خلفاءه من الإنفاق فوق ما يسمح به الدخل؛ وتنبأ بالمتاعب السياسية التي ستحيق بفرنسا لسفهها المالي؛ ونصح بزيادة الإيرادات لا بفرض ضرائب جديدة بل بحفز إنتاجية الاقتصاد. وينبغي حماية كل الأديان ما التزمت الهدوء والسلام-رغم أن "جميع الأديان إذا فحصها المرء وجدها ترتكز على نسق من الخرافة غير معقول قليلاً أو كثيراً(119). أما سلطة الملك فيجب أن تكون مطلقة، ولكن على الملك أن يعد نفسه أول خادم للدولة. وما دامت بروسيا في خطر من صغر حجمها وسط دول كبيرة كروسيا وفرنسا والإمبراطورية النمساوية المجرية، فإن من واجب الملك أن يغتنم أي فرصة ليوسع بروسيا ويوحدها-ويحسن أن يكون ذلك بفتح سكسونيا وبروسيا البولندية وبومرانيا السويدية: "أن أول شغل شاغل للأمير هو أن يصون سلطته، أما الثاني فهو أن يوسع رقعته. وهذا يقتضي المرونة وسعة الحيلة... وستر المطامع الخفية يكون بإعلان الميول السلمية حتى تأتي اللحظة المواتية. تلك طريقة جميع رجال الدولة العظماء"(120). وينبغي أن يعد الملك خلفه للحكم، فيهيئ له التعليم على يد رجال مستنيرين لا رجال كنسيين، لأن هؤلاء يشحنون رأسه بخزعبلات يقصد بها أن يكون أداة طيعة في يد الكنيسة(121). وتعليم كهذا من شأنه أن يخرج عقلاً ضعيفاً سرعان ما تسحقه مسئوليات الدولة. "ذلك ما رأيته، وإذا استثنيت ملكة المجر (ماريا تريزا) وملك سردينيا (شارل إيمانويل)، فإن كان ملوك أوربا ليسوا سوى بلهاء مشهورين"(122). وقد كتب هذا واليزابث تحكم روسيا. وكانت "وصية" 1768 أكثر تأدباً، لأن كاترين كانت قد أثبتت علو همتها، وتنبأ فردريك الآن بأن روسيا ستكون أخطر دولة في أوربا(123). فلما شاخ بدأ يسائل نفسه إن كان ابن أخيه ووريثه المحتمل-فردريك فلهلم الثاني-صالحاً لوراثة الحكم. كتب إليه يقول "إنني أشقى من أجلك ولكن على أن أفكر في الاحتفاظ بما أصنع، فإن كنت كسولاً خاملاً ذاب في يديك كل ما جمعته بالجهد والمشقة"(124). وفي 1728 كتب وقد ازداد تشاؤماً "لو أن ابن أخي لان وتراخى بعد موتي، لما بقي شيء اسمه بروسيا في ظرف عامين"(125). وقد تحققت النبوءة في فيينا عام 1806، لا لأن فردريك وليم الثاني كان رخواً ليناً، بل لأن نابليون كان صلباً قاسياً.

وقد بات فردريك ذاته في عقدة الأخير قاسياً إلى حد لا يحتمل. فاختزل قدراً كبيراً من الحرية التي سمح بها للصحافة قبل 1756. كتب ليسنج إلى نيقولاي في 1769 يقول "إن حريتكم البرلينية تتقلص.. إلى حرية جلب ما تشاءون جلبه إلى السوق من سخافات ضد الدين... ولكن لريفع إنسان صوته نيابة عن الرعايا، وضد الاستغلال والاستبداد... وعندها ستتبين سريعاً أي دول أوربا أكثرها اليوم عبودية وذلاً".(126) وكره هردر وطنه بروسيا، وانصرف فنكلمان في "رعب" عن ذلك "البلد المستبد"(127). وحين زار جوته برلين في 1778 أدهشته عدم شعبية الملك. ومع ذلك كان الشعب يبجل فردريك شيخاً لم يضن طوال خمسة وأربعين عاماً بيوم واحد في سبيل خدمة الدولة.

وقد برته الحرب كما براه السلم. وكثرت واشتدت عليه نوبات النقرس والربو، والمغص والبواسير، وزادت أوجاعه حدة لولعه بالوجبات الثقيلة والأطعمة الحريفة. وفي 22-25 أغسطس 1778 استعرض جيشه السيليزي قرب برزلاوز وفي اليوم الرابع والعشرين ظل على صهوة جواده ست ساعات بردائه العسكري العادي والمطر يهطل غزيراً، وعاد إلى مسكنه مبللاً يرتعد من البرد. ولم يستعد عافيته بعدها قط. وفي يونيو 1786 أرسل في طلب الدكتور تسمرمان من هانوفر. وتوقف عن تعاطي العقاقير التي وصفت له، وآثر الأحاديثالمرحلة عن الأدب والتاريخ، ولكي يلزمه تسمرمان الهدوء وصف له كتاب جبون "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها"(128). وتفاقمت أوصابه بالاستسقاء، وأحدثت القطوع التي أجريت له لتخفيف الانتفاخات غرغرينة. ثم أطبق عليها الالتهاب الرئوي فاكتمل الحصار، وفي 17 أغسطس 1786 مات فردريك وهو في الرابعة والسبعين. وكان قد طب أن يدفن في حديقة "صانسوسي" قرب قبور كلابه وحصانه الحبيب، ولكن أمر رحيله هذا الذي أصدره على البشرية أغفل، فدفن إلى جوار أبيه في كنيسة الحامية ببوتسدام. وحين جاء نابليون ووقف أما قبر فردريك بعد أن هزم البروسيين في يينا قال لقواد جيشه "لو كان على قيد الحياة لما كنا هنا"(129).