قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 2 ف 5

 صفحة رقم : 13029   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> الإقطاعي الطيب


الفصل الخامس



فولتير الشيخ



1758 - 1778



1- الإقطاعي الطيب


في أكتوبر 1758 اشترى فولتير ضيعة قديمة في فرنيه، في مقاطعة جكس، الواقعة على حدود سويسرا، ولم يلبث أن أضاف إليها أقطاعة تورنيه التي اشتراها لمدى الحياة، وبهذا أصبح الآن من الناحية القانونية سيداً إقطاعياً، وراح يوقع باسم "الكونت دتورنيه" في الشؤون القانونية، وأبرز شعار نبالته على مدخل بيته وغلى آنيته الفضية"(1). كان قد سكن فيلا دليس بجنيف منذ 1755، ولعب دور المليونير الفيلسوف المضياف في لذة وفي استحسان من الناس، ولكن المقال الوارد في موسوعة دالامبير عن جنيف، الذي أماط اللثام عن الهرطقات السرية التي يدين بها قساوستها، عرض فولتير للاتهام بأنه وشى بهم لصديقه، فلم يعد شخصاً مرغوباً فيه على أرض سويسرا، وراح يلتمس من حوله مسكناً آخر. وكانت فرنيه تقع في فرنسا، ولكنها لا تبعد عن جنيف أكثر من ثلاثة أميال، هنالك يستطيع أن يخرج لسانه للقادة الكلفنيين، ولو جدد القادة الكاثوليك في باريس-على 250ميلاً-حملتهم لاعتقاله، لاستطاع في ظرف ساعة أن يعبر الحدود، وخلال ذلك (1758-1770) كان صديقه الدوق دشوازيل يرأس الوزارة الفرنسية واشترى فرنيه باسم ابنة أخته مدام دنيس، ربما اتقاء المصادرة إذا غيرت ريح السياسة اتجاهها، لم يشترط عليها إلا أن تعترف بع سيداً على الضيعة طوال حياته. وظلت فيللا دليس حتى علم 1764



 صفحة رقم : 13030   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> الإقطاعي الطيب


مسكنه الرئيسي، وراح يعدل قس بيته بفرنيه على مهل، وأخيراً انتقل إليه في ذلك العام. وكان البيت الفخم الجديد من الحجر، ومن تصميم فولتير إلى حد كبير، وبه أربع عشرة حجرة نوم. كتب يقول "إنه ليس قصراً، ولكنه بيت ريفي فسيح، تلحق به أرض تنتج الكثير من الدريس، والقمح، والتبن، والشوفان. ولدي بلوطات في استقامة أشجار الصنوبر تلمس رؤوسها السماء."(2) وأضافت تورنيه إلى أملاكه هذه قصراً ريفياً قديماً، ومزرعة، ومخزناً للغلال، ومرابط، وحقولاً، وغابات، وضمت مرابطه في جملتها الخيول، والثيران، وخمسين بقرة، ووسعت مخازنه كل حاصلات أرضه وبقي فيها مكان لمعاصر النبيذ، وحيشان الدواجن، وحظيرة للغنم، وامتلأت المزرعة بطنين أربعمائة خلية نحل، وجادت الأشجار بأخشاب تدفئ عظام السيد الإقطاعي من رياح الشتاء. واشترى وغرس الشجيرات، وزرع شجيرات أكثر من نباتات صغيرة رباها في مستنبتاته. ومد الحدائق والأفنية حول بيته حتى بلغ محيطها ثلاثة أميال؛ وكانت تحوي أشجار الفاكهة، والكروم، وأنواعاً كثيرو من الأزهار. هذه الأبنية، والنباتات، والحقول، والنظار الثلاثون القائمون عليها-كل أولئك كان يشرف عليه بشخصه. هنا أيضاً رضي رضى أنساه أن يموت، شأنه حين دخلا فيلا دليس. فكتب إلى مدام دوفان يقول "أني مدين بحياتي وصحتي للطريق الذي سلكته. ولو جرؤت لاعتقدت أنني حكيم، لأنني سعيد جداً."(3) وتسلطت مدام دنيس على الخدم والأضياف الثلاثين أو أكثر الذين عاشوا في القصر الريفي متفاوتة الإنصاف. وكانت طيبة القلب، ولكنها حادة الطبع، تحب المال أكثر قليلاً لحبها ما عداه....رمت خالها بالبخل، ولكنه نفى التهمة؛ على أي حال "نقل إليها شيئاً فشيئاً، الجانب الأكبر من ثروته."(4) وكان قد أحبها طفلة، ثم امرأة، وطاب له الآن أن يتخذها قهرمانة له. وكانت تمثل في المسرحيات التي يخرجها، وأجادت التمثيل حتى كان يقارنها بكليرون. وأدار هذا المديح رأسها، فعكفت على كتابة المسرحيات ولقي فولتير عنتاً في ثنيها عن عرضها على الناس. ثم أضجرتها حياة الريف



 صفحة رقم : 13031   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> الإقطاعي الطيب


وهفت نفسها إلى باريس، وكانت رغبة فولتير في الترويح عنها بعض ما دفعه إلى دعوة هذه السلسلة الطويلة من الضيوف واحتمالها. ولم تكن تحب سكرتيره فاجنيير، ولكنها أغرمت بالأب آدم، اليسوعي الشيخ الذي رحب فولتير في بيته غريما لطيفاً في لعبة الشطرنج، والذي فاجأه ذات يوم عند قدمي الخادمة بربارة.(5) ومرة، ربما بسبب سماح دنيس للإرهاب بالرحيل مصطحباً إحدى مخطوطات السيد، أغضبت فولتير غضباً حمله على ردها إلى باريس بعد أن رتب لها معاشاً سنوياً قدره عشرون ألف فرنك(6). ولكن بعد ثمانية عشر شهراً، فتوسل إليها أن تعود. وغدت فرنيه كعبة يحج إليها من يستطيعون الرحلة ويستطيبون التنوير. فأمها صغار الحكام كدوق فورتمبرج وناخب بالاتين، والإقطاعيون كأمير لبن ودوفي ريشليو وفيلار، والأعيان كتشاولز جيمس فوكس، وملتقطو الأخبار كبيرني وبوزويل، والفاسقون مثل كازانوفا، ومئات ممن هم أقل من هؤلاء شأناً. وكان يكذب كذباً مفضوحاً إذا جاءه زوار لم يدعهم، "قولوا له إنني مريض جداً" "قولوا لهم أنني مت"، ولكن أحداً لم يصدق. كتب إلى المركيز ديفليت يقول "اللهم نجني من أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيل بهم."(7) وما أن استقر به المقام في فرنيه حتى ظهر بوزويل (24 ديسمبر 1764) وهو ما يزال متأثراً بزياراته لروسو. وبعث فولتير إليه بكلمة يقول إنه ما زال في فراشه ولا يمكن إزعاجه. ولكن هذا لم يجد في ثني الاسكتلندي الملهوف، فأصر على البقاء ولم يبرح مكانه حتى طلع عليه فولتير. وتحادثا ملياً، ثم خلا فولتير إلى المكتبة. وفي الغد كتب بوزويل إلى مدام دنيس من فندق في جنيف يقول: "يجب أن ألتمس منكِ يا سيدتي أن تعيريني اهتمامك بأن تحصلي لي على صنيع كبير من المسيو دفولتير. أريد أن أنال شرف العودة إلى فرنيه يوم الأربعاء أو الخميس. فأبواب هذه المدينة الوقور تغلق في ساعة... سخيفة جداً، حتى ليضطر المرء إلى الرحيل بعد العشاء قبل أن يتاح لرب البيت الأشهر أن يطلع بمحياه على ضيوفه...



 صفحة رقم : 13032   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> الإقطاعي الطيب


فهل يسمح لي يا سيدتي بقضاء ليلة واحدة تحت سقف المسيو دفولتير؟ إنني اسكتلندي صلب العود شديد البأس، ولك أن تصعدني إلى أعلى وأبرد علية في البيت، بل أنني لن أرفض النوم على مقعدين في حجرة نوم خادمتك"(8). وأمر فولتير ابنة أخيه بأن تخبر الاسكتلندي أن يحضر؛ وسيعد له فراش. فحضر في 27 ديسمبر، وتحث إلى فولتير بينما كان هذا يلعب الشطرنج، وفتنه حديث السيد وشتائمه الإنجليزية، ثم "أنزل مكاناً أنيقاً" في "حجرة جميلة".(9) وفي الغد اضطلع بهداية فولتير إلى المسيحية القويمة، وبعد قليل اضطر فولتير وقد أوشك على الإغماء أن يطلب هدنة. وبعد يوم ناقش بوزويل ديانة رب البيت مع الأب آدم، الذي قال "أنني أصلي من أجل المسيو دفولتير كل يوم....من المؤسف أنه ليس مسيحياً. فإنه يملك الكثير من الفضائل المسيحية. وله أجمل نفس، وهو إنسان خير، محسن، ولكنه شديد التحامل على الدين المسيحي."(10) وكان فولتير يقدم لضيفوه الطعام، والحكمة، والنكتة، والمسرحية، ليرفه عنهم. وبنى قرب بيته مسرحاً صغيراً وصفه جبون حين رآه عام 1763 لـنه "أنيق جداً مصمم تصميماً حسناً، يقع إلى جوار كنيسته الصغيرة، التي لا تدانيه إطلاقاً."(11) وسخر الفيلسوف من روسو والقساوسة الجنيفيين الذين أدانوا المسرح باعتباره منبر الشيطان. ولم يكتف بتدريب مدام دنيس بل درب أيضاً خدمه وضيوفه على لعب الأدوار في تمثيلياته وغيرها، وكان هو نفسه يختال على خشبة المسرح في الأدوار الرئيسية، وأقنع الممثلون المحترفون بسهولة بأن يمثلوا لأشهر كاتب في العالم. ووجد الزوار في مظهره فتنة تقرب من فتنة حديثه. فقال أمير لين في وصفه إنه مدثر بروب عليه أزهار، على رأسه باروكة هائلة تعلوها قلنسوة من المخمل الأسود، ويرتدي سترة من القطن الرفيع تصل إلى ركبته، وبنطلوناً قصير أحمر، وجوارب رمادية، وحذاء من القماش الأبيض.(12) وكانت عيناه "لامعتين تمتلئان ناراً" كما يقول فاجنير،



 صفحة رقم : 13033   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> الإقطاعي الطيب


وقال هذا السكرتير المخلص إن مولاه "كثيراً ما كان يغسل عينيه بالماء النقي البارد"، و"لا يستعمل النظارات إطلاقاً"(13) وفي أخريات حياته، حين مل حلاقة لحيته، كان ينزع شعرها بملقاط. ويواصل فاجنيير حديثه فيقول "كان شديد الولع بالنظافة والنظام، وكان هو ذاته نظيفاً إلى حد الوسوسة."(14) وكثيراً ما كان يستعمل مساحيق التجميل، والعطور، والمراهم، وكانت حاسة شمه المرهفة تتأذى من الروائح الكريهة.(15) وكان "نحيلاً إلى حد لا يصدق" لا يحمل من لحم إلا ما يكسو عظامه بالجهد. وكتب الدكتور بيرني بعد أن زاره عام 1770 "ليس من اليسير تصور إمكان بقاء الحياة في جسد يكاد يكون جلداً وعظاماً....وقد ظنني مشتاق لتكوين فكرة عن...إنسان يمشي بعد موته."(16) وقد قال يصف نفسه إنه "يثير السخرية لأنه لم يمت"(17). كان عليلاً نصف عمره. وكان يشكو من بشرة شديدة الحساسية؛ وكثيراً ما شكا من حكات متنوعة(18)، ربما من أثر العصبية أو الإفراط في النظافة وكان أحياناً يعاني من تقطر البول-وه التبول البطيء المؤلم؛ في هذه الناحية كان هو وروسو صنوين وإن أشتد تباينهما فيما عداها. وكان يشرب القهوة بإسراف-خمسين مرة في اليوم في رواية فردريك الأكبر؛(19) وثلاث مرات في رواية فانجنبير(20). وهو يسخر من الأطباء، ويلاحظ أن لويس الخامس عشر عمر بعد أم مات أربعون من أطبائه، ويقول "من سمع بطبيب عمر للمائة؟"(21). ولكنه هو نفسه كان يستعمل الكثير من العقاقير. وقد وافق مرشح موليير لنيل درجة الطب على أن خير دواء في أي داء خطير هو "إعطاء عقار مسهل"(23). وكان يطهر أمعاءه ثلاث مرات في الأسبوع بمحلول القرفة الصيفية، أو بحقنة صابون. ومن رأيه أن خير الأدوية هو الدواء الواقي، وخير وقاية هو تنظيف الأعضاء الداخلية والغطاء الخارجي.(24) وكان يمارس عمله، رغم شيخوخته، وأوصابه، وزواره، بنشاط لا يؤته إلا رجل تخفف من عبء اللحم الفائض. وقد قدر فاجنبير أن مولاه لم يكن ينام "أكثر من خمس ساعات أو ست"(25) في اليوم. وكان يواصل العمل إلى



 صفحة رقم : 13034   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> الإقطاعي الطيب


ساعة متأخرة من الليل، وأحياناً يوقظ الأب دم من فراشه ليعنه على تصيد كلمة يونانية.(26) وكان يؤمن أن العمل دواء ناجح للفلسفة والانتحار. وأنجع من العمل الخلاء، فهو يزرع حديقته بشخصه، وأحياناً يحرث أو يبذر البذر بيديه.(27) وتبينت مدام دو دفان في رسائله اللذة التي استشعرها في رؤية الكرنب الذي غرسه ينمو. وكان يرجو أن يذكره الخلف على الأقل لآلاف الأشجار التي غرسها. وقد أصلح الأراضي البور وجفف المستنقعات. وأنشأ إسطبلاً لتربية الخيل وجلب إليه عشر مهرات، ورحب بعرض المركيز دفواييه أن يعطيه فحلاً. وكتب يقول "إن حريمي جاهز لا ينقصه غير السلطان...لقد كتب الكثير جداً في السنوات الأخيرة عن السكان حتى إنني أود على الأقل أن أملأ أرضي جكس بالخيل، ما دامت قاصراً عن شرف إكثار نوعي الإنساني"(28). وكتب إلى الفسيولوجي هاللر يقول "أن خير ما يسعدنا عمله على هذه الأرض هو أن نزرعها، وكل ما عدا ذلك من تجارب في الفيزياء بالقياس إليه عبث أطفال. أنعم وأكرم بزراع الأرض، وتباً للإنسان الشقي الذي يكدرها-سواء حمل على رأسه تاجاً، أو خوذة، أو قلنسوة كاهن!"(29). وحين أعوزته الأرض التي تكفي لتشغيل جميع السكان من حوله، نظم في فرنيه وتورنيه حوانيت لصنع الساعات ونسيج الجوارب-التي ربت لها أشجار توته دودة القز. وكان يشغل كل طالب شغل، حتى أصبح عدد من يعملون له ثمانمائة شخص. وشيد مائة بيت لعماله، وأقرضهم المال بفائدة قدرها 4%، وساعدهم على إيجاد أسواق لسلعهم. وما لبث أصحاب التيجان أن أقبلوا على شراء ساعات فرنيه، ولبست كرائم السيدات اللائى أغرتهن خطاباته جوارب زعم أنه نسج بعضها بيده. واشترت كاترين الثانية من ساعات فرنيه ما بلغت قيمته 39.000 جنيه، وعرضت أن تساعده على لإيجاد أسواق لها في آسيا. وما مضت ثلاث سنوات حتى كانت الساعات الصغيرة والكبيرة والحلي والمجوهرات المصنوعة في فرنيه تصر في شحنات منتظمة على السفن إلى هولندا، وإيطاليا، وأسبانيا، والبرتغال، ومراكش، والجزائر،



 صفحة رقم : 13035   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> الإقطاعي الطيب


وتركيا، وروسيا، والصين، وأمريكا. وبفضل الصناعات الجديدة نمت فرنيه من قرية يسكنها أربعون فلاحاً إلى مجتمع قوامه ألف ومائتا نفس خلال مقام فولتير بها. كتب ريشليو يقول "أعطني فرصة مواتية وأنا كفيل ببناء مدينة."(30) وعاش الكاثوليك والبروتستانت في سلام على أرض هذا الزنديق. أما علاقاته بـــ"مواليه" فكانت علاقات "الإقطاعي الطيب". وكان يعاملهم كلهم بأمانة ومجاملة. يقول الأمير دلين: "كان يكلم فلاحيهم وكأنهم سفراء"(31).وأعفاهم من ضرائب الملح والتبغ (1775).(32) وكافح دون طائل ولكن بغير هوادة ليحرر جميع فلاحي إقليم جكس من رق الأرض. وحين هددت المجاعة الإقليم استورد القمح من صقلية وباعه بأقل كثيراً مما كلفه.(33) وبينما كان يواصل حربه عل "العار"-على الخرافة، والظلامية، والاضطهاد-أنفق الكثير من وقته في ممارسة الإدارة. واعتذر عن عدم مغادرة فرنيه ليزور أصدقائه بقوله "علي أن أرشد وأعول ثمانمائة شخص...ولا أستطيع الغياب دون أن أعرض كل شيء للانتكاس إلى حالة الفوضى".(34) وقد أدهش نجاحه 'دارياً كل من شهد نتائجه. قال ناقد من أقسى نقاده " أنه أبدى حكماً واضحاً على الأمور وإدراكاً حسناً جداً."(35) وتعلم القوم الذين حكمهم أن يحبوه، ومرة ألقوا أوراق الغار على مركبته أثناء مروره.(36) وكان أشدهم تعلقاً به الشباب والصغار لأنه فتح لهم قصره كل أحد للقرص والترفيه."(37) وكان يشجعهم على المضي في لهوهم ويغتبط لابتهاجهم. كتبت. مدام دجاللاتان تقول "كان في غاية السعادة ولم يحس بأنه بلغ القانية والثمانين"(38). ولقد أحس بهذا، ولكنه كان راضياً. وكتب يقول "إني أصبح شيخاً"(39).



 صفحة رقم : 13036   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> صولجان القلم


2- صولجان القلم


وواصل الكتابة خلال ذلك، فدفع بما لا يصدق كما، وكيف، وتنوعاً، من التواريخ والأبحاث، والدراسات، والقصص، والقصائد، والمقالات، والنبذ، والخطابات، والمراجعات النقدية- دفع بهذا كله إلى جمهور دولي يتلهف على كل كلمة تصدر عنه. ففي سنة واحدة- سنة 1768- كتب



 صفحة رقم : 13037   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> صولجان القلم


"الرجل صاحب الأربعين أيكو" و"أميرة بابل" (وهي من خيرة قصصه)، و "رسالة إلى بوالو"، و"إعلان لإيمان موحد بالله" و"بيرووية (لا أدرية) التاريخ" ونصين لأوبرا هزلية، وتمثيلية. وكان ينظم كل يوم تقريباً "شعراً قصير الأجل" وهو ضرب من الأبجرام المسجوع، قصير، خفيف، رشيق، وهو في هذا المضمار لا يشق له غبار في الأدب بأسره، حتى في التفوق المركب لـ"المختارات اليونانية". وقد عالجنا كتاباته في الدين والفلسفة في غير هذا الموضع. فلنلق نظرة عاجلة على التمثيليات التي كتبها في فرنيه، وتانكريد، ونانين، والاسكتلندية، وسقراط، وشاول، وإيرين، وهي أقل ذريته خلوداً وإن كانت حديث باريس في حياته. وقد حظيت تانكريد التي مثلت على النياتر-فرانسيه في 3 سبتمبر 1759 باستحسان الجميع حتى فريرون، خصم فولتير اللدود. وقد بلغت الآنسة كليرون دور دبورة، ولو ان في دور تانكريد في هذه المسرحية قمة فنها. وكانت خشبة المسرح قد أجلي عنها المتفرجون وجملت بديكور فسيح رائع، وكان الموضوع الفروسي الوسط تحولاً محبباً عن المواضيع الكلاسيكية، بل يمكن القول إن تلميذ بوالو كتب هنا تمثيلية رومانسية، وأظهرت "نانين" أن فولتير تأثر برتشاردسن، شأنه شأن ديدور؛ وقد امتدحها روسو ذاته. أما "سقراط" فاحتوت-حكمة غالية "إنه انتصار للعقل أن يعيش في سلام مع أولئك الذين لا عقل لهم."(40) وقد درس فولتير كوريني وراسين دراسة مستفيضة، وهو الذي أشاد به جيله ضريباً لهما، وتردد طويلاً في أي الاثنين يفضل؛ وانتهى به التردد إلى إيثار راسين. وقد رفع الاثنين بجرأة فوق مقام سوفوكليس ويوربيديس، ورفع موليير في أفضل مسرحياته، فوق تيرينس ببرودته رغم نقائه، وفوق المهرج أرستوفانيس.(41) وقد تأثر حين نما إليه أن ماري كوريني، حفيدة أخي المسرحي، تعيش في ضنك قرب إفريه، فعرض أن يتبناها ويتكفل بتعليمها، وحين علم أنها فتاة متدينة أكد لها أنه سيتيح لها كل فرصة لممارسة عبادتها. فحضرت إليه في ديسمبر 1760، فتبناها، وعلمها أن تكتب



 صفحة رقم : 13038   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> صولجان القلم


الفرنسية الجيدة، وأصلح من نطقها، وصاحبها إلى القداس. ورغبة في جمع مهر لها اقترح على الأكاديمية الفرنسية أن تنوط به نشر أعمال كوريني والتعليق عليها فوافقت. وعكف لتوه على قراءة تمثيليات سلفه من جديد وتزويدها بالمقدمات والهوامش، ثم أعلن عن المشروع، وناشد الراغبين أن يكتتبوا له لأنه كان خبيراً بشؤون المال والأعمال، واكتتب كل من لويس الخامس عشر، والقيصرة أليزافيتا، وفردريك ملك بورسيا، بمائتي نسخة، وكل من مدام دبومبادور وشوازيل بخمسين، ووصلته اكتتابات أخرى من تشسترفيلد وغيره من وجوه الأجانب. وكانت النتيجة أن تقدم الخطاب الكثيرون لماري كوريني. وقد تزوجت مرتين، وأصبحت في 1768 أم شارلوت كورداي. وقد كان فولتير أعظم مؤرخي جيله كما كان أعظم شعرائه ومسرحييه. ففي 1757 طلبت إليه الإمبراطورة أن يكتب ترجمة لأبيها بطرس الأكبر. ودعت فولتير إلى سانت بطرسبورج ووعدته بأن تغدق عليه أسباب التكريم. فأجاب بأن شيخوخته تحول بينه وبين القيام برحلة كهذه، ولكنه سيكتب التاريخ إذا وافاه وزيرها الكونت شوفالوف بالوثائق التي تبين سيرة بطرس والتغيرات التي أحدثتها إصلاحات هذا القيصر. وكان قد رأى في شبابه بطرس في باريس (1716)؛ وكان يعتبره رجلاً عظيماً، همجياً رغم عظمته وتحاشياً للخوض الخطر في أخطائه، قرر ألا يكتب ترجمة بل تاريخاً لروسيا تحت حكمه الجدير بأن يذكر، وهي مهمة أشق بكثير. وقام بأبحاث هامة في الموضوع، وعكف بهمة على هذا العمل من 1757 إلى 1763، ثم نشره في 1759-1763 بعنوان "تاريخ الروسيا عهد بطرس الأكبر". وكان مأثرة جليلة بالنسبة لزمانه، وظل خير تناول للموضوع قبل القرن التاسع عشر، ولكن ميشيله الأمين وجده باعثاً على السأم، وقد رأت القيصرة أجزاء منه، فأرسلت إلى فولتير "ماسات كبيرة" على الحساب، ولكنها سرقت في الطريق، وماتت القيصرة قبل أن يكتمل الكتاب. وبينما كان حرب السبع سنين مستعرة من حوله، قام في فترات متقطعة بتجديد كتابه "التاريخ العام" أو "مقال في الأعراف" مضيفاً إليه (1755-



 صفحة رقم : 13039   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> صولجان القلم


1763) "خلاصة لعصر لويس الخامس عشر" وكانت عملية شائكة، لأنه لم يزل من الناحية الرسمية مداناً من الحكومة الفرنسية؛ وعلينا أن نغتفر له مروره الحذر بأخطاء الملك الحاكم؛ ولكنه رغم ذلك كان قصة ممتازة فيها بساطة ووضوح، وكاد وهو يروي قصة الأمير تشارلز إدوارد ستيوات (بوتي يرنس تشارلي) أن ينافس الشخصية التي رسمها للملك "شارل الثاني عشر". ووفاء لمفهومه عن التاريخ، الذي يراه أكمل ما يكون إذا سجل تقدم العقل البشري، أضاف مقالاً ختامياً "في تقدم العقل في عصر لويس الخامس عشر" ولا حظ أشياء بدا له أنها علامات تشير إلى النمو: "إن إلغاء السلطة الزمنية لرهبنة برمتها (اليسوعيين) وتأديب الرهبنات الأخرى التي أصلحتها هذه السلطة، والفصل بين (اختصاص) القضاة والأساقفة-كل هذا يدل على مبلغ ما بدد من أهواء، وعلى مدى اتساع المعرفة بشؤون الحكم، وعلى درجة استنارة أذهاننا. وقد ألقيت بذار هذه المعرفة في القرن الماضي. وهي تنبت اليوم في كل مكان في القرن الحاضر، حتى في أقصى الأقاليم...فقد أنار العلم البحت الفنون النافعة، وبدأت هذه الفنون فعلاً في إبراء جراح الدولة التي ابتلتها بها حربان طاحنتان. "أن معرفة الطبيعة، ونبذ الخرافات البالية التي قدسها الناس في الماضي كأنها تاريخ، والميتافيزيقيا الصحيحة المبرأة من سخافات المذاهب-تلك هي ثمرات هذا العصر، وقد تحسن العقل الإنساني تحسناً كبيراً. أما وقد أدى فولتير دينه للتاريخ، فأنه عاد إلى الفلسفة وإلى حملته على الكنيسة الكاثوليكية. وأصدر في تعاقب سريع الكتيبات التي فحصناها من قبل، وكأنها ضرب من المدفعية الخفيفة في الحرب على "العار": "الفيلسوف الجاهل"، "امتحان هام للورد بولنبروك" و"الساذج" و"قصة جيني" و"ألف باء العقل" ووسط هذه الأعمال الشاقة واصل أغرب تبادل للرسائل قام به فرد واحد. فحين زاره كازانوفا عام 1760 أراه فولتير مجموعة من نحو خمسين ألف خطاباً تسلمها حتى ذلك العام، وسيجتمع له منها بعد ذلك نحو هذا العدد، ولما



 صفحة رقم : 13040   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> صولجان القلم


كان مستلم الخطاب هو الذي يدفع أجرة البريد، فأن فولتير كان ينفق أحياناً مائة جنيه على البريد الذي يتسلمه في يوم واحد. وكان ألف معجب، وألف عدو، ومائة مؤلف شاب، ومائة هو للفلسفة، يبعثون إليه بالهدايا وباقات الزهور، والشتائم، واللعنات، والأسئلة، والمخطوطات، ولم يكن من غير المألوف أن يرجوه سائل متلهف أن ينبئه برجوع البريد هل وجد إله، أو هل للإنسان روح خالدة. وأخيراً نشر تحذيراً في "المركيز دفرانس" جاء فيه: "نظراً إلى أن عديدين شكوا من عدم تسلمهم ما يفيد وصول طرود أرسلوها إلى فرنيه، أو تورنيه، أو ليدليس، لزم التنبيه إلى أنه بسبب ضخامة عدد تلك الطرود، أصبح من الضروري رفض تسلم كل ما لا يأتي من أشخاص تشرف الملك بمعرفتهم"(43). وفي طبعة تيودور بسترمان الكاملة تملأ رسائل فولتير ثمانية وتسعين مجلداً. وفي رأي برونتيير أنها "أخلد قسم من إنتاجه كله"(44). والحق أننا لا نجد صفحة مملة في هذا الحشد برمته، لأننا في هذه الرسائل ما زال في إمكاننا أن نسمع ألمع محدث في زمانه يتكلم بكل ألفة الصديق. وما من كاتب من قبل ولا من بعد حشد على قلمه المتدفق كل هذا التأدب، والحيوية، والسحر، والرشاقة الكبيرة. إنها ليست وليمة للذكاء والبلاغة فحسب، بل للصداقة الحارة، والشعور الرقيق، والفكر البتار، ولو قورنت بها رسائل مدام دسفينيه على ما فيها من دواعي البهجة. لبدت ترف رفاً خفيفاً عارضاً على سطح توافه عابرة. لقد كان في زخارف أسلوب رسائله ولا ريب بعض التمسك بالعرف، ولكن يبدو أنه يتعمده حين يكتب إلى دالامبير قائلاً "أعانقك بكل قوتي، ويؤسفني أنه حتم أن يكون العناق على هذا البعد السحيق"، وهو ما رد عليه دالامبير بقوله: "وداعاً يا صديقي العزيز الشهير، إني أعانقك في حنان، وأنا أكثر مني في أي وقت مضى، ملكك بالروح".(45) ثم استمع إلى كلمات فولتير لمدام دو دفان: "وداعاً يا سيدتي....إن أوثق الحقائق التي التمسها هي أن لك نفساً توافقني، وسأكون شديد التعلق بها طوال الأجل القصير الذي أفسح لي"(46).



 صفحة رقم : 13041   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> صولجان القلم


وكانت رسائله لمعارفه في باريس موضع تقديرهم، تتداولها الأيدي تداول نفائس الأخبار ودرر الأسلوب. ذلك أن رسائل فولتير هي التي بلغ فيها أسلوبه أروع تألقه. فهذا الأسلوب لم يبلغ قصارى إبداعه في تواريخه، حيث يستحب السرد الناعم المتدفق أكثر من البلاغة أو النكتة، وفي تمثيلياته شط إلى حد الخطابة الرنانة الطنانة؛ أما في رسائله فقد استطاع أن يدع سن قلمه الماسي يسطع بالابجرام أو ينير موضوعاً بدقة وإيجاز لا مثيل لهما. وقد جمع بين علم بيل وأناقة فونتينيل، واستعار مسحة تهكم وسخرية من رسائل بسكال الإقليمية، وقد ناقض نفسه خلال سني كتابته السبعين، ولكنه لم يكن قط غامضاً؛ ونحن لا نكاد نصدق أنه كان فيلسوفاً، فهو في غاية الوضوح، يقصد مباشرة إلى هدفه الأهم، إلى النقطة الحيوية في الفكرة. وهو يتوخى القصد في النعوت والتشبيهات مخافة أن يعقد الفكرة، وفي كل جملتين تقريباً ومضة من نور. وقد تتكاثر الومضات أحياناً، وتتراخم نفحات الذكاء؛ فيتعب القارئ بين الحين والحين من هذا التألق، وتضيع عليه بعض السهام المريشة من ذهن فولتير السريع الحركة. وقد أدرك أن فرط تألقه هذا خطأ، كوضع الجواهر على العباءة. واعترف في تواضع بأن "اللغة الفرنسية بلغت أوج كمالها في عصر لويس الرابع عشر".(47) وكان بين مراسليه نصف وجوه ذلك العهد-لا كل جماعة الفلاسفة فحسب، ولا جميع مؤلفي فرنسا وإنجلترا فحسب، بل الكرادلة، والباباوات، والملوك، والملكات، واعتذر له كرستيان السابع عن عدم تنفيذ كل الإصلاحات الفولتيرية في وقت واحد في الدنمرك؛ وأسف ستانسلاس يونياتوفسكي ملك بولندا على أنه سيق على عجل لاعتلاء العرش وهو في طريقه إلى فرنيه؛ وشكره جوستاف الثالث ملك السويد لأنه ألقى بين الحين والحين نظرة عجلى على الشمال البارد، وتوسل "أن يطيل الله في أيامك الغالية القيمة للإنسانية"(48). ومع أن فردريك الأكبر وبخه لأنه قسا على موبرتوي، وأساء أدبه مع الملوك(49)، إلا أنه كتب بعد شهر يقول "الصحة والرفاهية لأشد من عش أو سيعيش من العباقرة على هذه الأرض خبثاً وإغراء"؛(50) وفي 12 مايو 1760 أضاف:



 صفحة رقم : 13042   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> صولجان القلم


"أما أنا فسأذهب إلى هناك (الجحيم) وأخبر فرجيل بأن فرنسياً بزه في فنه. وسأقول مثل هذا لسوفوكليس ويوربيديس، وسأحدث ثيوسيديديس عن تواريخك، وكوييتوس كورتيويس عن كتابك "شارل الثاني عشر"؛ وربما رجمني هؤلاء الموتى الفيورون لأن رجلاً واحداً جمع في شخصه شتى فضائلهم"(51). وفي 19 سبتمبر 1774 واصل فردريك مدائحه: "لن يكون هناك بديل لك بعد موتك، وسيكون نهاية الآداب الجيدة في فرنسا"(52). (وهذه غلطة بالطبع لأنه ليس للأدب الجيد نهاية في فرنسا). وأخيراً، في 24 يوليو 1775، أحنى فردريك صولجانه أما قلم فولتير: "وأما أنا فيعزين أنني عشت في عصر فولتير، وحسبي هذا"(53). وكانت كاترين الكبرى تكتب إلى فولتير كما يكتب رأس متوج إلى آخر-لا بل كما يكتب التلميذ إلى معلمه. فلقد قرأته بشغف ولذة ستة عشر عاماً قبل أن تشق طريقها إلى عرش روسيا، ثم بدأ تراسلهما في أكتوبر 1763 بجوابها بضمير المتكلم على رسالة منظومة بعث بها إلى عضو في هيئتها الدبلوماسية.(54) ولقبها فولتير سميراميس، وأغمض في لباقة عن جرائمها، وأصبح المدافع عنها أمام فرنسا. ورجته أن يعفيها من مدائحه، ولكنه أفض فيها. وكانت تقدر انحيازه لها، لأنها علمت أن بفضله-ثم بفضل جريم وديدرو، نالت "مساندة طيبة من الكتاب" في فرنسا. وأصبحت الفلسفة الفرنسية أداة للدبلوماسية الروسية. وأوصى فولتير كاتيرن باستعمال المركبات الحربية المدججة بالمناجل على الطريقة الآشورية في حربها مع الترك، واضطرت إلى أن تبين له أن الأتراك غير المتعاونين لن يهاجموا عدوهم بتشكيلات مكثفة تكثيفاً يتيح حصدهم بشكل مريح.(55) ونسي كراهيته للحرب وسط تحمسه لإمكان قيام جيوش كاترين بتحرير بلاد اليونان من سلطان العثمانيين، وناشد "الفرنسيين، والبريطانيين، والإيطاليين" أن يناصروا هذه الحرب الصليبية الجديدة، وحزن حين قصرت سميراميس عن تحقيق هدفه. ثم اضطلع بيرون بقضيته تلك.



 صفحة رقم : 13043   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> صولجان القلم


وقد عنف الكثيرون من الفرنسيي فولتير على تملقه للملكية، وشعروا أنه حط من قدره باللف حول العروش والتشدق بمديح أصحابها. ولا ريب في أن هذا اللف كان أحياناً يدير رأسه. ولكنه هو أيضاً كان يلعب لعبة دبلوماسية. فهو لم يدع قط العواطف الجمهورية، وقد ذهب غير مرة إلى أن قدراً من التقدم يمكن تحقيقه بفضل الملوك "المستنيرين" أكثر مما يتحقق بسيطرة الجماهير المتقلبة، الجاهلة، التي تتسلط عليها الخرافة. ولم يخض الحرب ضد الدولة بل ضد الكنيسة الكاثوليكية، وكان تأييد الحكام في تلك المعركة عوناً قيماً. وقد رأينا قيمة ذلك التأييد في حملاته الظافرة دفاعاً عن أسرتي كالاس وسيرفنس. وكان أهم في نظره أن يكون فردريك وكاترين في صفه وهو يناضل في سبيل التسامح الديني. كذلك لم ييأس من كسب لويس الخامس عشر، فقد كسب من قبل مدام دبومبادور وشوازيل؛ ثم خطب ود مدام دوباري. ولم يكن يتورع عن شيء في استراتيجيته، والواقع أنه قبل أن ينتهي العهد استطاع الظفر بنصف حكومة فرنسا، وتكللت معركة التسامح الديني.



 صفحة رقم : 13044   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> فولتير السياسي


3- فولتير السياسي


ما الذي أمل أن يحققه في ميدان السياسة والاقتصاد؟ لقد ثبت بصره على هدفين، هدف أعلى وآخر أدنى: الأعلى تحرير الناس من الخرافات اللاهوتية وسلطان الكهنة-وهي مهمة عسيرة ولا ريب، وفيما عدا ذلك طلب بعض الإصلاحات، ولكنه لم يطمع في المجتمع المثالي. وكان يبتسم سخرية من "أولئك المشرعين الذين يحكمون الكون....ومن أبراجهم يصدرون الأوامر للملوك"(56). وكان معارضاً للثورة شأن جماعة الفلاسفة كلهم تقريباً، ولعله لو عمر حتى يشهدها لصدمته-وربما أعدمته بالجلوتين . أضف إلى هذا أنه كان غنياً غنى فاحشاً، وما من شك في أن ثراءه لون آراءه.



 صفحة رقم : 13045   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> فولتير السياسي


ففي 1758 نوى أن يستثمر 500.000 فرنك (625.000 دولار؟) في اللورين.(58) وقد كتب إلى فردريك في 17 مارس 1759 يقول "أنني أتلقى ستين ألف جنيه (75.000 دولار؟) من دخلي (السنوي) من فرنسا...وأنني أعترف بأنني غني جداً". وكان قد جمع ثروته بفضل "نصائح" من أصدقائه الماليين أمثال الأخوين باري، وبفضل فوزه بجائزة اليانصيب في فرنسا واللورين، وبفضل نصيبه في تركة أبيه، وبفضل شراء سندات الحكومة، والمساهمة في مشروعات تجارية، وإقراض المال للأفراد. وكان يقنع بعائد قدره 6%، وهو عائد معتدل إذا أخذنا في الاعتبار المخاطر والخسائر. وقد ضاع عليه ألف ايكو (3.750 دولار؟) في تفليسة شركة جليار في قادس (1767)(59). وفي 1768 علق جيبون في معرض الإشارة إلى الثمانين ألف فرنك (100.000 دولار؟) التي اقرضها فولتير للدوق دريشليو: "لقد أفلس الدوق، والضمان عديم القيمة، واختفت النقود".(60) وعند موت فولتير كان قد تسدد ربع السلفة. وكان دخل فولتير من معاشاته أربعة آلاف فرنك في العام. وفي عام 1777 بلغت جملة دخله 206.000 فرنك (257.5000 دولار؟)(61) وقد جمل هذه الثورة بما يتناسب معها من سخاء، ولكنه أحس أنه مطالب بالدفاع عنها دفاعاً ليس بالضرورة مما لا يليق بالفيلسوف. "لقد رأيت الكثير جداً من الأدباء فقراء محتقرين، بحيث قررت ألا أزيد عددهم. ولا مناص للمرء في فرنسا من أن يكون إما سنداناً أو مطرقة؛ وقد ولدت سنداناً. والميراث الهزيل يتناقص كل يوم، لأن كل شيء في المدى الطويل يزداد ثمنه، وكثيراً ما تفرض الحكومة الضرائب على الدخل والنقود كليهما....فعليك أن تكون مقتصداً إبان شبابك، وستجد نفسك في شيخوختك تملك رأس مال يدهشك، وهذا هو الوقت الذي تشتد فيه حاجتنا للثروة"(62). وكان قد اعترف في فترة باكرة (عام 1736) في قصيدته "رجل الدنيا" "إنني أحب الترف، بل الحياة الناعمة، وجميع اللذات، وجميع الفنون". وذهب إلى أن طلب الأغنياء لأسباب الترف يداول مالهم بين الصناع المهرة



 صفحة رقم : 13046   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> فولتير السياسي


والفنانين، وظن أنه لولا الثروة لما كان هناك فن عظيم.(63) وحين نشر "ميثاق" ميزلييه الملحد-الشيوعي، حذف القسم المعارض للملكية. وقد آمن أنه ما من نظام اقتصادي يستطيع النجاح بغير حافز التملك. "إن روح التملك تضاعف من قوة الإنسان"(64) وكان يأمل أن يرى كل إنسان يملك ملكاً، وبينما كان روسو يبارك القنية في بولندا كتب فولتير يقول "إن بولندا يمكن أن يزداد سكانها وثروتها ثلاث مرات لو لم يكن فلاحوها أقناناً"(65). على أنه لم يحبذ أن يصبح الفلاحون أغنياء، فمن إذن يوفر للدولة جندها الأقوياء؟(66). ولم يشاطر روسو تحمسه للمساواة؛ فهو يعلم أن الناس كلهم يُخلقون غير أحرار ولا متساوين. ورفض فكرة هلفتسيوس القائلة بأنه لو أتيح للناس كلهم التعلم والفرص المتكافئة، لأصبح الجميع بعد قليل متساويين في التعليم والقدرات. "يالها من حماقة أن نتصور أن في استطاعة كل إنسان أن يصبح نيوتنا!"(67) فسوف يكون هناك دائماً الأقوياء والضعفاء، والأذكياء والبسطاء، وإذن الأغنياء والفقراء. "يستحيل في دنيانا الكئيبة منع الناس الذين يعيشون في مجتمع من أن ينقسموا إلى طائفتين-الأغنياء الآمرين، والفقراء الذين يأتمرون....ولكل إنسان الحق في أن يكون له رأيه الخاص في مساواته مع غيره، ولكن لا يستتبع هذا أن طباخ الكردينال ينبغي أن يأخذ على عاتقه أن يأمر سيده بتجهيز طعامه. على أن للطباخ أن يقول "أنني إنسان كسيدي سواء بسواء، فقد ولدت مثله بالدموع، وسأموت مثله في عذاب...فكلانا يؤدي الوظائف الحيوانية نفسها. وإذا استولى العثمانيون على روما فأصبحت كردينالاً وأصبح سيدي طباخاً، فأنني سأدخله في خدمتي" وهذه اللغة معقولة ومنصفة جداً، ولكن، إلى أن يستولي السلطان العثماني على روما لابد للطباخ من أن يؤدي واجبه وإلا انهار المجتمع الإنساني كله.(68) ولما كان ابن موثق، ولم يصبح سيداً إقطاعياً إلا مؤخراً، فقد كان له



 صفحة رقم : 13047   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> فولتير السياسي


في الأرستقراطية آراء مختلطة، وواضح أنه فضل نوعها الإنجليزي(69). وقد قبل النظام الملكي باعتباره الشكل الطبيعي للحكومة "لم يحكم الملوك الأرض كلها تقريباً؟...الجواب الأمين هو: لأن الناس نادراً ما يكونون جديرين بحكم أنفسهم"(70). وقد سخر من حق الملوك الإلهي وأرجعهم هم والدولة إلى الغزو "إن القبيلة تختار زعيماً ليقود حملات السلب والنهب التي تشنها؛ وهي تعود نفسها الطاعة، وهو يعود نفسه إصدار الأوامر لها، وفي اعتقادي أن هذا أصل الملكية"(71). فهل هذا طبيعي؟ أنظر إلى حوش المزرعة: "إن حوش المزرعة يرينا أكمل تمثيل للملكية. فما من ملك يضارع الديك. ذلك أنه إن مشى شامخاً ضارياً وسط قطيعه فما ذلك لغروره، لأنه إذا زحف العدو فهو لا يكتفي بإصدار الأمر لرعيته أن تخرج وتقتل فداءه....إنما هو يذهب بشخصه، وينظم جنده من خلفه، ويقاتل إلى آخر نسمة. فإذا انتصر فهو الذي يترنم بمسبحة الشكر...وإذا صح أن النحل تحكمها ملكة يخطب ودها جميع رعاياها، فتلك حكومة أعظم كمالاً حتى من حكومة الديك"(72). واستطاع لعيشه في برلين ثم في جنيف أن يدرس الملكية و"اللاملكية" في ممارستها الحية. وكان كغيره من جماعة الفلاسفة متحيزاً لأن ملوكاً عدة (فردريك الثاني، وبطرس الثالث، وكاترين الثانية) وبعض الوزراء (شوازيل، وأراندا، وتانوتشي، وبومبال) استمعوا إلى نداءات الإصلاح، أو منحوا المعاشات للفلاسفة. وقد بدا في عصر بلغ فيه الفلاح الروسي منتهى البدائية، وغلبت الأمية على جماهير الشعب في كل بلد، وأعجزها الإرهاب عن التفكير، إن من السخف اقتراح حكم الشعوب، والواقع أن "الديمقراطيات في سويسرا وهولندا كانت أولجركيات. والجماهير هي التي أحبت أساطير الدين ومراسمه القديمة، ووقفت كأنها جيش عرمرم في طريق الحرية والتطور الفكريين. وليس هناك سوى قوة واحدة لها من القدرة ما يمكنها من مقاومة الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا، كما قاومت بنجاح الكنائس البروتستانتية في إنجلترا وهولندا وألمانيا وتلك هي الدولة. وبفضل الحكومات الملكية القائمة في فرنسا وألمانيا وروسيا-بفضل هذه فقط يستطيع الفلاسفة أن يطعموا في



 صفحة رقم : 13048   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> فولتير السياسي


الفوز في كفاحهم للخرافة، والتعصب، والاضطهاد، واللاهوت الطفلي. فهم لا يستطيعون توقع التأييد من "البرلمانات" لأنها تنافس الكنيسة وتبرز الملك في الظلامية، والرقابة، وعدم التسامح. ولكن أنظر ما فعله هنري الملاح للبرتغال، وما فعله هنري الرابع لفرنسا، أو بطرس الأكبر لروسيا أو فردريك الأكبر لبروسيا. "ما من عمل جليل تقريباً عمل في العالم إلا بفضل عبقرية وحزم رجل فرد كافح أهواء الجماهير"(73). ومن ثم كان جماعة الفلاسفة يتمنون تربع الملوك المستنيرين على العروش. كتب فولتير "ميروب" يقول "إن الفضيلة المتربعة على العرش هي أروع أعمال السماء"(74) وسياسة فولتير ينبعث بعضها من ظنه بأن من الناس عدداً كبيراً لا قدرة لهم على هضم التعليم حتى إن قدم لهم. وقد أشار إلى "الشطر المفكر من النوع الإنساني-أي الجزء على مائة ألف منهم"(76)، وكان يخشى من عدم النضج العقلي وسرعة الانفعال العاطفي للناس عموماً "حين تشارك الجماهير في التفكير يضيع كل شيء"(77). وهكذا ظل حتى سني شيخوخته لا يتعاطف تعاطفاً يذكر مع الديمقراطية. فلما سأله كازانوفا "أتود أن ترى الشعب سيد نفسه؟" أجابه "معاذ الله!"(78) وكتب إلى فردريك "حين رجوتك أن تكون الباعث لفنون اليونان الجميلة، لم يبلغ رجائي الحد الذي أطلب إليك فيه إعادة الديمقراطية الأثينية. فأنا لا أحب حكم الرعاع"(79). وقد اتفق وروسو على أن "الديمقراطية لا تناسب غير البلاد الصغيرة"، ولكنه أضاف قيوداً أخرى" وغير تلك التي تنعم بموقع ملائم...والتي يكفل لها موقعها الحرية، والتي في مصلحة جيرانها المحافظة عليها". (وكان يعجب بالجمهوريتين الهولندية-والسويسرية)، ولكن خامرت إعجابه بعض الشكوك: "إن تذكرتم أن الهولنديين أكلوا على السفود قلب الأخوين دي ويت،



 صفحة رقم : 13049   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> فولتير السياسي


وإن تذكرتم...إن الجمهوري يوحنا كلفني...بعد أن كتب أننا ينبغي ألا نضطهد إنساناً ولو أنكر الثالوث، أمر بحرق أسباني خالفه في الرأي حول الثالوث فأحرقه حياً على حطب أخضر (بطيء الاحتراق)، خلصتم حقاً إلى أنه ليس في الجمهوريات فضيلة أعظم مما في الملكيات"(81). على أنه بعد كل هذه التصريحات المعارضة للديمقراطية، نجده يؤيد الطبقة الوسطى الجنيفية تأييداً نشيطاً ضد الأشراف (1763) ووطنيي جنيف المحرومين من الحقوق المدنية ضد الأرستقراطية والبرجوازية (1766)، ولكن لنرجئ هذه القصة إلى موضعها المناسب. والواقع أن فولتير أخذ يتحول إلى مزيد من الراديكالية فيما يبدو كلما تقدم به العمر. ففي 1768 أصدر قصته "الرجل ذو الأربعين إيكو" فطبع الكتاب عشر طبعات في سنته الأولى، ولكن برلمان باريس أحرقه وزج بالطابع في سفن تشغيل العبيد، ولم يكن مرجع هذه الصراحة تلك السخرية التي سخت بها القصة على جماعة الفيزوقراطيين، بل تصويرها الحي للفلاحين الذين أفقرتهم الضرائب، والرهبان الذين يحيون حياة التبطل والترف على أملاك يفلحها عبيد الأرض. وفي كتيب آخر نشره عام 1768 وسماه الألف باء (وقد حرص فولتير أشد الحرص على إنكاره) أجرى هذه العبارات على لسان "مسيوب". وفي وسعي أن أتكيف بسهولة مع الحكومة الديمقراطية....فكل الملاك على نفس الأرض لهم نفس الحق في حفظ النظام على تلك الأرض. إني أحب أن أرى رجالاً أحراراً يضعون القوانين التي يعيشون في ظلها....ويطيب للي أن يرفع بنائي، ونجاري، وحدادي، أولئك الذين أعانوني على بناء مسكني، وجاري المزارع، وصديقي الصانع-أن يرفعوا أنفسهم فوق حرفهم، ويعرفوا الصالح العام خيراً مما يعرفه الموظف التركي الشديد الوقاحة. فليس في الديمقراطية ما يدعو عاملاً أو صانعاً إلى الخوف من الإزعاج أو الاحتقار...فأن يكون المرء حراً، بين أنداد لا أكثر، هو الحياة الطبيعية الصادقة للإنسان،



 صفحة رقم : 13050   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> فولتير السياسي


وما عدا ذلك من أساليب الحياة فهو خدع حقيرة، وهزليات رديئة يلعب فيها فرد دور السيد، وآخر دور العبد، فرد دور الطفيلي، وآخر دور القواد".(82) وفي عام 1769 أو بعده بقليل (وكان في الخامسة والسبعين) في طبعة جديدة للقاموس الفلسفي، ساق فولتير وصفاً مراً لألوان الطغيان والفساد الحكومية في فرنسا(83)، وامتدح إنجلترا بالقياس إليها: "لقد بلغ الدستور الإنجليزي في الواقع. التفوق التي فيها يرد جميع الناس إلى الحقوق الطبيعية التي حرموا منها في جميع النظم الملكية تقريباً، وهي: الحرية الكاملة للأشخاص والأملاك؛ حرية النشر؛ حرية المحاكمة في جميع الجرائم على يد هيئة محلفين من أعضاء مستقلين؛ حق المحاكمة طبقاً لنص القانون فقط؛ وحق كل إنسان في أن يجهر دون مضايقة بأي دين يختاره ويرفض المناصب التي لا يجوز تقليدها إلا لأتباع الكنيسة الرسمية. هذه.....امتيازات لا تقد بقيمة...أن تكون آمناً مطمئناً وأنت ماضٍ إلى فراشك إلى أنك ستستيقظ وأنت تملك نفس الثروة التي كانت لك حين ذهبت لتنام، وإنك لم تنتزع من أحضان زوجتك وأطفالك في جوف الليل ليزج بك في سجن مظلم أو لتدفن في منفى في الصحراء...وأن يكون لك القدرة على نشر جميع أفكارك...هذه الامتيازات يتمتع بها كل من تطأ قدمه أرض إنجلترا...ولا مفر من أن يعتقد أن الدول التي لا تقوم على هذه المبادئ ستجتاحها الثورات(84). وتنبأ بالثورة في فرنسا كما تنبأ بها الكثيرون. ففي 2 إبريل 1764 كتب إلى المركيز دشرفلان: "إني لأرى في كل مكان بذور ثورة لا ماص منها، ثورة لن تتاح لي لذة مشاهدتها. فالفرنسيون يصلون متأخرين في كل شيء، ولكنهم يصلون في النهاية ما في ذلك شك. وقد اتسع انتشار التنوير اتساعاً سيعينه على التفجر في أول فرصة، وعندها ستحدث فرقعة عنيفة...إن الشباب محظوظون، لأنهم سيرون أشياء عظيمة".



 صفحة رقم : 13051   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> فولتير السياسي


ومع ذلك حين تذكر أنه يعيش في فرنسا بفضل تسامح ملك أساء إليه بإقامته في بوتسدام، وحين رأى بومبادور وشوازيل ومالزيرب وطورجو يوجهون الحكومة الفرنسية صوب التسامح الديني والإصلاح السياسي-وربما لأنه تاق إلى الإذن له بالعودة إلى باريس-اتخذ على العموم نغمة أكثر وطنية، واستنكر الثورة العنيفة: "إذا اشتد شعور الفقراء بفقرهم أعقبت ذلك حروب كحروب حزب الشعب ضد مجلس الشيوخ في روما، وحروب الفلاحين في ألمانيا، وإنجلترا، وفرنسا. وقد انتهت هذه الحروب كلها، إن عاجلاً أو آجلاً، بإخضاع الشعب، لأن الكبار يملكون المال، والمال في الدولة هو صاحب الأمر والنهي في كل شيء"(85). إذن، فبدلاً من انقلاب من أسفل، حيث القدرة على التدمير لا تتبعها القدرة على التعمير، وحيث تعود الكثرة الساذجة بعد قليل للخضوع مرة أخرى لقلة ماكرة، آثر فولتير أن يعمل على قيام ثورة غير عنيفة عن طريق انتقال التنوير من المفكرين إلى الحكام، والوزراء، والقضاة، وإلى التجار ورجال الصناعة، وإلى الصناع والفلاحين. "أن العقل يجب إقراره أولاً في أذهان القادة، ثم ينزل شيئاً فشيئاً وفي النهاية يحكم أفراد الشعب، الذين لا يعون وجوده، ولكنهم حين يرون اعتدال رؤسائهم يتعلمون أن يقلدوهم"(86). ورأى أن التحرير الحقيقي الوحيد، في المدى الطويل، هو التعليم، وأن الحرية الحقيقية الوحيدة هي الذكاء. "كلام استنار الناس تحرروا"(87). وليس هناك ثورات حقيقية غير تلك التي تغير العقل والقلب، ولا ثورا حقيقيون غير الحكيم والقديس.



 صفحة رقم : 13052   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> المصلح


4- المصلح


وبدلاً من أن يدعو فولتير لثورة سياسية راديكالية، جاهد في سبيل إصلاح معتدل تدريجي في إطار هيكل المجتمع الفرنسي القائم، وفي نطاق هذه الدائرة المنكرة للذات حقق أكثر مما حققه أي رجل آخر في جيله.



 صفحة رقم : 13053   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> المصلح


وكان أهم نداء له هو طلب تنقيح القانون الفرنسي تنقيحاً شاملاً، ولم يكن قد روجع منذ 1670. وفي 1765 قرأ بالإيطالية كتاب الجيل المسمى "رسالة في الجنايات والعقوبات"-من تأليف الفقيه الميلاني بيكاريا، الذي كان بدوره قد استلهم جماعة الفلاسفة. وفي 1766 أصدر فولتير كتابه "تعليق على كتاب الجنايات والعقوبات" وفيه اعترف بفضل السبق لبيكاريا، ثم واصل مهاجمة مظالم القانون الفرنسي وفظاعاته إلى عام 1777 حين نشر وهو في الثانية والثمانين كتابه "ثمن العدالة والإنسانية". وقد طالب، بادئ ذي بدء، بإخضاع القانون الكنسي للقانون المدني، وبكبح سلطان الكهنوت في اشتراط العقوبات التكفيرية المذلة أو فرض التبطل على الناس في عطلات دينية كثيرة؛ وطلب تخفيف العقوبات على انتهاك المقدسات، وإلغاء القانون الذي يهين جسد المنتحر ويصادر ثروته. وأصر على التفرقة بين الخطيئة والجريمة، والقضاء على الفكرة التي تقول إن عقاب الجريمة ينبغي أن يدعي أنه يثأر لإله مهان. "يجب ألا يكون لأي قانون كنسي قوة إلى أن يحصل على موافقة الحكومة الصريحة عليه...وكل ما يتصل بالزواج لا يفصل فيه غير القضاة، وينبغي أن يقصر القساوسة على وظيفة مباركة الزواج الجليلة...وإقراض المال بالفائدة من اختصاصات القانون المدني وحده...ويجب أن يكون جميع الكهنة، في جميع الحالات أياً كانت، خاضعين لرقابة الحكومة المطلقة لأنهم رعايا للدولة...ويجب ألا يكون لأي قسيس سلطة حرمان مواطن ولو من أبسط الحقوق بحجة أنه خاطئ...ويجب أن يسهم القضاة، والزراع، والكهنة على السواء في نفقات الدولة"(88). وقد شبه قانون فرنسا بمدينة باريس-فهو حصيلة بناء تدريجي، ونتاج المصادفات الظروف، وخليط من المتناقضات؛ وقال إن المسافر في فرنسا يغير قوانينه مراراً كما يغير خيول مركبته،(89) فالواجب توحيد قوانين جميع الأقاليم والتنسيق فيما بينها. وينبغي أن يكون كل قانون واضحاً،



 صفحة رقم : 13054   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> المصلح


دقيقاً، ومحصناً على قدر الإمكان من التلاعب بحرفيته. ويجب أن يكون جميع المواطنين سواء أمام القانون، وإلغاء عقوبة الإعدام لأنها عقوبة همجية مبددة. فلا شك أن من الهمجية عقاب التزوير، أو السرقة، أو التهريب، أو الحرق المتعمد بالموت. وإذ كانت السرقة تعاقب بالإعدام فلن يكون هناك ما يمنع اللص من القتل، ومن ثم فإن كثيراً من جرائم قطع الطريق في إيطاليا مصحوباً بالاغتيال. "إذا علقتم على مشنقة الدولة (كما حدث في برلين عام 1772) الخادمة التي سرقت دستة فوط من سيدتها...فإنها لم تستطيع إضافة دستة من الأطفال إلى مواطنيكم... وشتان بين دستة فوط وبين حياة إنسان"(90). ومصادرة ثروة إنسان محكوم عليه بالإعدام سرقة صريحة تقترفها الدولة ضد الأبرياء. وإذا كان فولتير يجادل أحياناً من وجهة نظر نفعية فقط فما ذلك إلا لأنه عرف أن حججه هذه ترجح أي نداء إنساني في نظر معظم المشرعين. على أنه حين تناول موضوع التعليم القضائي أفصحت روحه الإنسانية عن نفسها في قوة وتأكيد. ذلك أن القانون الفرنسي أباح للقضاة أن يستخدموا التعذيب وسيلة لاستلال الاعترافات قبل المحاكمة إذا كانت هناك من المؤشرات المريبة ما يلمع إلى أن المتهم مذنب. وقد حاول فولتير أن يخزي فرنسا بإشارته إلى مرسوم كاترين الثانية الذي ألغى التعذيب في روسيا التي زعم الفرنسيون أنها قطر همجي. "أن الفرنسيين، الذين يعتبرون-ولا أدري لماذا-شعباً عظيم الإنسانية، يدهشهم أن الإنجليز الذين دفعهم تجردهم من الإنسانية إلى انتزاع كندا كلها من أيدينا، قد أقلعوا عن لذة استخدام التعذيب"(91). واتهم بعض القضاة بأنهم "فتوات" يتصرفون كأنهم مدعون لا قضاة، مفترضين بشكل واضح أن المتهم مذنب حتى تثبت براءته. واحتج على حبس المتهم في سجون قذرة، وأحياناً في أغلال عدة شهور قبل تقديمه للمحاكمة. ولاحظ أن المتهم بجريمة كبرى يمنع من الاتصال بأي إنسان حتى بمحامٍ. وروى مراراً وتكراراً معاملة آل كالاس وسيرفنس مثالاً على التعجل في



 صفحة رقم : 13055   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> المصلح


إدانة الأبرياء. وقال أن شهادة شخصين فقط، حتى إذا كانا شاهدي عيان، ينبغي ألا تعتبر بعد اليوم كافية لإدانة رجل بالقتل، وساق أمثلة على شهادة الزور، وألح في إلغاء عقوبة الإعدام ولو للحيلولة دون إعدام بريء واحد في كل ألف متهم. وكان في الإمكان إصدار أحكام الإعدام في فرنسا بأغلبية اثنين من القضاة، وقد حكم على كالاس بالموت بأغلبية ثمانية ضد خمسة. وطالب فولتير بأن يشترط لإصدار حكم الإعدام توافر أغلبية ساحقة، ويفضل أن تكون إجماعاً. "يا لها من فظاعة سخيفة أن يعبث بحياة مواطن وموته بلعبة ستة إلى أربعة، وخمسة إلى ثلاثة، أو أربعة إلى اثنين، أو ثلاثة إلى واحد"(92). وكانت الإصلاحات التي اقترحها فولتير على الجملة توفيقاً بين ميراثه الثقافي الوسيط وكراهيته للكنيسة، وخبرته واستثماراته بوصفه رجل أعمال ومالك أرض، ومشاعره الصادقة شخصاً باراً بالإنسانية، وكانت مطالبه معتدلة، ولكنها كانت في كثير من الحالات ذات أثر فعال. شن حملة لتحقيق حرية النشر، فوسعت هذه الحرية توسيعاً هائلاً-ولو بفضل أعضاء الحكومة فقط-قبل أن يموت. وطلب إنهاء الاضطهاد الديني، فأنهي في فرنسا من الناحية العملية في 1787. واقترح الإذن للبروتستانت ببناء الكنائس ونقل الملكية أو وراثتها، والتمتع بكامل حماية القوانين؛ فتم هذا قبل اندلاع الثورة. وطلب إباحة الزواج قانوناً بين أشخاص من ديانات مختلفة فأبيح. وندد ببيع المناصب، وفرض الضرائب على الضروريات، والقيود على التجارة الداخلية، وبقاء القنية والوقف؛ وأشار على الدولة بأن تسترد من الكنيسة تنفيذ الوصايا وتعليم الصغار؛ وفي هذه الأمور جميعاً كان لصوته تأثير على الأحداث. وقاد الحملة لإجلاء المتفرجين عن خشبة مسرح التياتر-فرانسيه، فتم هذا في 1759. وأوصى بفرض الضرائب على جميع الطبقات، وبنسبة ثروتهم، وكان على هذه التوصية أن تنتظر حتى تنشب الثورة. وطلب تنقيح القانون الفرنسي، فتم هذا في مجموعة قوانين نابليون (1807)؛ وهكذا يسر الفقهاء والفلاسفة لرجل الحرب والسياسة، الذي قرر الهيكل التشريعي لفرنسا حتى يومنا هذا، أن يحقق أعظم مآثره بقاءً على الزمن.



 صفحة رقم : 13056   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> فولتير الصميم


5- فولتير الصمّيم


كيف نجمل القول في شخصية هذا الرجل المذهل جداً من رجال القرن الثامن عشر؟ لم يعد بنا حاجة للحديث عن عقله-فقد أفصح عن نفسه في مائة صفحة من هذه المجلدات. ولم يباره أحد في سرعة الخاطر ووضوح الفكر، ولا في حدة النكتة ووفرتها، وقد عرف النكتة الذكية بعناية بالغة فقال: "إن ما يسمى النكتة الذكية هو أحياناً مقارنة مجللة، وأحياناً كناية رقيقة، أو قد يكون لعباً بالألفاظ-فأنت تستعمل لفظاً بمعنى، علماً أن محدثك سيأخذه (لأول وهلة) بمعنى آخر. أو هو طريقة ماكرة للمقرنة بين أفكار لا يقرن الناس بينها عادة...إنه فن إيجاد صلة بين نقيضين، أو خلاف بين شبيهين؛ إنه فن قول نصف ما تعني وترك الباقي للخيال. ولو أوتيت المزيد منه شخصياً لزدت القول فيه كثيراً"(93). ولم يؤت إنسان آخر مزيداً من هذه النكتة الذكية، ولعل حظه هو منها كان كما قلنا مفرطاً. فقد كان زمام حبه للدعابة يفلت منه أحياناً، وكثيراً ما غلظت دعايته وأشرفت على التهريج أحياناً. ولم تترك له سرعة إدراكاته، وربطاته، ومقارناته، وقفة تتيح له الاتساق والتماسك، ولم يسمح له تعقب أفكاره السريع دائماً وهو يتناول موضوعاً بالتغلغل فيه إلى أعماقه المتاحة للبشر. ولعله تسرع في الحكم على الجماهير بأنهم رعاع؛ وليس في وسعنا أن نتوقع منه التنبؤ بزمن سيكون فيه التعليم للجميع ضرورياً لاقتصاد تقدمي من الناحية التكنولوجية. ومل يطيق صبراً علم نظريات بوفون الجيولوجية، أو فروض ديدرو البيولوجية. وقد اعترف بقصوره، ولم يخلُ من لحظات تواضع. قال لصديق مرة "إنك تظنني أعبر عن نفسي بوضوح كافٍ. ولكنني أشبه بالجداول الصغيرة-فهي صافية شفافة لأنها ليست عميقة"(94) وكتب إلى داكان في 1766:



 صفحة رقم : 13057   



قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فولتير الشيخ -> فولتير الصميم


"منذ كنت في الثانية عشرة اعتدت أن أتكهن بعدد هائل من الأشياء التي لم أوت الموهبة لفهمها. فأنا عليم بأن أعضائي لم تهيأ لتعمق الرياضة. وقد أثبت أنني لا أميل إلى الموسيقى. أعتمد على تقدير فيلسوف عجوز في من الحماقة....ما يحمله على الاعتقاد بأنه مزارع قدير جداً، ولكن ليس فيه من الحماقة ما يحمله على الاعتقاد بأنه وهب جميع المواهب"(95). وليس من الإنصاف أن نطلب من رجل كثرت الموضوعات التي عالجها هذه الكثرة لأن يكون قد استوعب كل المعلومات المتاحة عن كل موضوع قبل أن يجري عليه قلمه. فلم يكن كله عالماً؛ لقد كان مقاتلاً، أديباً جعل الأدب ضرباً من العمل، وسلاحاً للتغيير. ومع ذلك تستطيع أن ترى من مكتبته التي حوت 2.210 مجلداً، وما تركه على الكتب من هوامش، إنه درس في شغف وعناية موضوعات فيها تنوع مذهل، وإنه كان رجلاً واسع العلم جداً بالسياسة، والتاريخ، والفلسفة، واللاهوت، ونقد الكتاب المقدس، وكانت رقعة حبه للاستطلاع واهتماماته شاسعة؛ وكذلك كان غنى أفكاره وقدرة ذاكرته على التذكر. ولم يأخذ أي تقليد موروث على أنه قضية مسلمة، بل فحص كل شيء بنفسه. وكان فيه نزوع إلى التشكك لا يتردد في أن يعارض بالفطرة السليمة سخافات العلم وأساطير إيمان العوام سواءً بسواء. وقد وصفه عالم نزيه بأنه "مفكر جمع من المعلومات الدقيقة عن العالم في جميع نواحيه أكثر مما جمعه أي إنسان منذ أرسطو"(96). ولم يوفق عقل واحد في أي بلد آخر في أن ينقل إلى دنيا الأدب ودنيا العمل هذا الحشد الهائل من المواد من مثل هذه الميادين المنوعة. ولا بد لنا من أن نصوره أعجب مزيج من عدم الاستقرار العاطفي، والرؤيا والقدرة العقليتين. فقد جعلته أعصابه دائماً متوتراً قلقاً، فما كان في استطاعته الجلوس ساكناً إلا إذا استغرقته الكتابة الأدبية. وحين سألت السيدة ذات الردف الواحد "أيهما أسوأ للمرأة-أن يهتك عرضها قرصان من الزنوج مائة مرة، أو أن يجرح ردفها جرحاً بليغاً...أو أن تقطع إرباً، أو أن تجدف في سفن تشغيل العبيد،....أو أن تقعد ولا تعمل شيئاً؟" أجابتها كانديد وهي تنعم الفكر "ذلك سؤال كبير"(97). لقد كان لفولتير أيام حفلت بالسعادة، ولكنه قل أن عرف سلام العقل أو الجسد. كان عليه أن يكون مشغولاً، نشيطاً، يبيع ويشتري، ويزرع، ويكتب، ويمثل، ويتلو، وكان يخشى الملل أكثر مما يخشى الموت، وفي لحظة سأم ذم الحياة لأنها "إما ضجر أو قشدة مخفوقة"(98). ولعلنا نرسم صورة قبيحة لفولتير أن وصفنا طلعته دون أن نلحظ عينيه، أ, عددنا أخطاءه وحماقاته دون فضائله وظرفه. لقد كان "البرجوازي المنتحل النبالة" الذي شعر بأن له الحق في لقب الشرف ما لمدينيه المماطلين. ولقد بارى أعظم السادة الإقطاعيين كياسة في السلوك والحديث، ولكنه كان قادراً على المساومة في المبالغ التافهة، وانهال على المشرف على الآجام بأقزع الشتائم بسبب أربعة عشر قدماً مكعباً من الخشب-أصر على قبولها هدية دون ثمن. وأحب المال أساساً لأمنه. وقد اتهمته مدام دنيس بالبخل بعبارات فيها غلو شديد: "إن محبة المال تعذبك...وأنت في صميمك أحط الرجال. وسأخفي ما استطعت رذائل قلبك"(99). ولكنها حين كتبت هذا (1754) كانت تعيش عيشة التبذير في باريس على مال كان عبئاً باهظاً على جيبه، وفي باقي السنين التي قضتها معه كانت تحيا حياة الأبهة والفخفخة بفرنيه. وقبل أن يصبح مليونيراً وبعده كان يسعى لمصادقة الأقوياء اجتماعياً أو سياسياً بتعلق يقرب أحياناً من التذلل. وفي "رسالة إلى الكاردينال دموا" وصف معدن الرذائل ذاك بأنه أعظم من الكاردينال ريشليو(100). وحين كان يسعى لقبوله في الأكاديمية الفرنسية واحتاج إلى تأييد رجال الدين أكد للأب دلاتو الكبير النفوذ أنه يود أن يعيش ويموت في كنف الكنيسة الكاثوليكية المقدسة(101). وأكاذيبه المطبوعة تؤلف كتاباً لو جمعت، والكثير منها لم يطبع، وبعضها كان غير قابل للنشر، وقد ذهب إلى أن هذا الإجراء مبرر في الحرب، وأحس أن حرب السنين السبع لم تكن غير لهو الملوك إذا قيست بحرب الثلاثين عاماً التي خاضها ضد الكنيسة؛ والحكومة التي تستطيع أن تزج برجل في السجن لقوله الصدق ليس في وسعها أن تشكو بحق إذا كذب.


وفي 19 سبتمبر 1764 عندما حمى وطيس معركته، كتب دالامبير يقول "حالما يبدو أدنى خطر تفضل بإبلاغي لكي أنكر كتاباتي في الصحف العامة بما عهد فيّ من صراحة وبراءة". وقد أنكر كل أعماله تقريباً باستثناء ملحمة "الهنريادة" وقصيدته في معركة فونتنوا. "على المرء أن يظهر الحق للأجيال القادمة بجرأة، ولمعاصريه بحذر. ومن العسير جداً التوفيق بين الواجبين"(102). وما من شك في أنه كان مغرورا: فالغرور مهماز التقدم، وسر الكتابة والتأليف. وكان فولتير يتحكم في غروره عادة، فكثير ما نقح كتاباته استجابة لما يوجه إليه من مقترحات ونقد بروح طيبة. وكان سخياً في ثنائه على المؤلفين الذين لا ينافسونه-كمارمونتيل، ولا هارب، وبومارشيه، ولكنه قد يغدو غيوراً غيرة صبيانية من مزاحميه، كما نرى في "مديح كريبيون" (الأب) المفعم بالنقد الخبيث؛ ويرى ديدرو أنه "يحمل ضغينة لكل قاعدة تمثال"(103) وقد دفعته غيرته إلى شتم روسو شتماً مقذعاً، فوصفه بأنه "صبي الساعاتي" و"يهوذا خائن الفلسفة" و"كلب مسعور يعقر كل إنسان" و"مجنون وليد زواج صدفة بين كلبي ديوجين وايراسستراتوس"(104). وذهب إلى أن النصف الأول من "جولي أو هلويز الجديدة" قد ألف في ماخور، والآخر في مستشفى للمجاذيب، وتنبأ بأن "إميل" سينسى بعد شهر(105). وأحس أن روسو ولى ظهره لتلك الحضارة الفرنسية التي كانت رغم كل ذنوبها وجرائمها في نظر خمر التاريخ ذاته. وإذا كان فولتير مجرد أعصاب وعظام دون لحم يذكر، كان أرهف حساً حتى من روسو. ولما كان حتماً أن نحس بآلامنا حساساً أحد من إحساسنا بلذاتنا، فإنه كان يأخذ المديح والإطراء قضية مسلمة؛ ولكنه "يصاب باليأس" إذا وجه إليه نقد معاد(106). قلما أوتي من الحكمة والتعقل ما يضبط قلمه؛ فكان يرد على كل معارض مهما صغر شأنه. وقد وصف هيوم بأنه إنسان "لا يغفر أبداً (؟)، ولا يرى عدواً لا يستحق اهتمامه"(107).وقد حارب خصومه الألداء كديفونتين وفريرون حرباً لا هوادة فيها؛ ولجأ إلى أسلوب في الهجاء، والسخرية، والشتم، وحتى لوى الحق بمكر(108).

وكان غله يصدم أصدقاءه القدامى ويخلق له أعداء جدداً. قال "إني أعرف كيف أكره لأنني أعرف كيف أحب"(109). "إنني بحكم طالعي أميل قليلاً إلى الأذى"(110)؛ وهكذا حرك كل كتائبه بنجاح ليهزم ترشيح دي روس للأكاديمية (1770). وقد لخص الأمر بمزيج من خلق دارتنيان ورابليه: "أما عن شخصي الضعيف، فإني أخوض الحرب آخر لحظة-ضد الجانسنيين، والمولنيين، والفريرونيين، والبومبنيانيين، اليمينيين واليساريين، والوعاظ، وجان-جاك روسو. أتلقى مائة طعنة وأردها مائتين، وأضحك.. حمداً لله! إنني أنظر إلى العالم كله كأنه مهزلة (فارص) تستحيل مأساة أحياناً، يستوي كل شيء آخر النهار، وسيظل كل شيء سواء في نهاية الأيام"(111). وفي عدائه للسامية حول على شعب بأسره ذلك الغيظ الذي ولدته خصوماته مع بعض أفراده. ومن زاوية تلك الذكريات فسر فولتير تاريخ اليهود، فسجل عليهم أخطاؤهم بتدقيق وتفصيل، وندر أن برأهم لعدم كفاية الأدلة على إدانتها. ولم يستطيع أن يغتفر لليهود إنجابهم المسيحية. "حين رأى المسيحيين يلعنون اليهود يخيل إلى أنني أرى أبناء يضربون آبائهم"(112). ولم يكد يتبين في العهد القديم شيئاً سوى سجل للقتل، والفسق، والاغتيال بالجملة، ورأى في سفر الأمثال "مجموعة من الحكم التافهة، القذرة، والمهلهلة، المجردة من الذوق، أو للاختيار، أو الهدف"، أما نشيد الإنشاد فهو في نظره "قصيدة حماسية سخيفة"(113). على أنه أثنى على اليهود لإنكارهم القديم للخلود، ولامتناعهم عن التبشير بعقائدهم، ولتسامحهم النسبي؛ فالصدوقيون أنكروا وجود الملائكة، ولكنهم لم يعانوا من أي اضطهاد بسبب هرطقتهم. أكانت فضائله ترجح رذائله؛ أجل، حتى ولو لم نضع في الميزان صفاته العقلية مع صفاته الخلقية. فأمام شحه يجب أن نضع سخاءه، وأمام محبته للمال تقبله البشوش للخسائر واستعداده لاقتسام مكاسبه مع غيره. استمع إلى كولليني، الذي لا بد قد عرف عيوبه لأنه عمل سكرتيراً له سنين كثيرة:

"ما من دعوة أكذب من تهمة البخل التي يرمى بها...فلم يكن للبخل مكان في بيته. وما عرفت رجلاً يستطيع خدمه أن يسرقوه بسهولة أكثر لقد كان ضنيناً بوقته فقط...وكان له من أمر المال المبادئ التي يهتدي بها في أمر الوقت؛ فمن الضروري في رأيه أن تقتصد لكي تسخو فيه"(114). وتكشف رسائله عن بعض الهبات الكثيرة التي وزعها، دون أن يعلن عن اسمه عادة، لا على أصدقائه ومعارفه فحسب، بل حتى على أشخاص لم يرهم قط(115). وسمح لباعة الكتب أن يحتفظوا بالربح الذي يجنونه من كتبه. وقد رأيناه يسدي العون للآنسة كورنبي؛ وسنراه يساعد الآنسة فاريكور. ورأيناه يعين فوفنارج ومارمونتيل؛ كذلك فعل مع لاهارب، الذي فشل مسرحياً قبل أن يغدو أقوى نقاد فرنسا أثراً، فطلب فولتير أن يعطي نصف معاشه الحكومة البالغ ألفي فرنك للاهارب دون أن ينبئه بحقيقة المعطي(116). كتب مارمونتيل "يعلم الجميع مبلغ العطف الذي كان يحبوا به الشبان الذين يبدون أي موهبة للشعر"(117). وإذا كان فولتير الواعي بضآلة جسيمة، لم يؤتَ شجاعة بدنية تذكر (إذا ترك الكابتين بورجار يضربه بالعصا عام 1722)(118)، فإنه أوتي من الشجاعة الأدبية قدراً مذهلاً (فقد هاجم أقوى مؤسسة في التاريخ، وهي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية). وإذا كان عنيفاً في الخصومة، فإنه كان سريع العفو عن خصومه الذين يسعون إلى الصلح معه، "فكان غضبه يزول لأول رجاء"(119). وكان يغدق الحب على كل من طلبه، وكان وفياً لأصدقائه. فلما افترق عن فاجنيير بعد عشرة أربعة وعشرين عاماً "بكى كالأطفال"(120). أما عن فضيلته في أمر الجنس فقد كان فوق مستوى جيله مع مدام دوشاتليه، ودون ذلك المستوى مع ابنة أخته. وكان متسامحاً مع الفوضى الجنسية، ولكنه يغضب غضبة مضرية على الظلم. والتعصب، والاضطهاد، والنفاق، وفظاعات قانون العقوبات. وقد عرف الفضيلة بأنها "البر بالبش". أما فيما عدا ذلك فقد كان يسخر من المحظورات، ويستمتع بالخمر، والنساء، والغناء، في قصد فلسفي. وفي أقصوصة سماها "بابابيك" رفض الزهد بما هو معهود فيه من تهكم موجع. فترى أومني يسأل البرهمي "أهناك أمل في أن يبلغ في النهاية السماء التاسعة عشرة؟". ويجيب البرهمي "هذا يتوقف على نوع الحياة التي تحياها. إني أحاول أن أكون مواطناً صالحاً، وزوجاً صالحاً، وأباً صالحاً، وصديقاً صالحاً، وأحياناً أقرض المال بغير ربا للأغنياء، وأتصدق على الفقراء، وأحفظ السلام بين جيراني", فيسأل البرهمي "ولكن أتفرز المسامير أحياناً في عجزي؟".


"أبداً يا أبي المبجل"


ويجيب البرهمي "إذن فأنا آسف، لأنك لم تبلغ السماء التاسعة عشرة، ما في ذلك ريب"(121). أما فضيلة فولتير المتوجة لفضائله المكفرة عن سيئاته، فهي إنسانيته. لقد حرك ضمير أوربا بحملاته دفاعاً عن آل كالاس وسيرفنس. وشهر بالحرب باعتبارها "الوهم الكبير". "فالأمة الغالبة لا تفيد إطلاقاً من أسلاب الأمة المغلوبة؛ وهي تدفع ثمن كل شيء، وتعاني حين تنتصر جيوشها قد معاناتها حين تنهزم(122). وأياً كان الفريق المنتصر، فإن الإنسانية خاسرة على الحالتين". وقد ناشد الناس في شتى الظروف والأقطار أن يتذكروا أنهم أخوة؛ واستمع الناس إلى ذلك النداء بشكر وعرفان في مجاهل أفريقيا(123). كذلك لم تصدق عليه التهمة التي وجهها روسو للذين بشروا بحب البشر ووسعوا هذا الحب توسيعاً لم يترك فيه مكاناً لجيرانه؛ فكل الذين عرفوه تذكروا عطفه ومجاملته لأقل الأشخاص المحيطين به شأناً. كان يحترم كل نفس، عارفاً حساسيتها لأنه يعرف حساسيته(124). وقد واصل كرم ضيافته رغم ما فرض عليها من مطالب باهظة. كتبت مدام دجرافيني "كم تأثرت حين وجت فيك من الطيبة ما لا يقل عما فيك من العظمة، ورأيتك تفعل لكل من يحيطون بك الخير الذي كنت تود أن تفعله للبشرية جمعاء"(125). وكان أحياناً نزقاً يتفجر غضباً، ولكن "لا يمكن أن تتصور أبداً مبلغ ما في قلب هذا الرجل من طيبة كما كتب عنه زائر آخر"(126).

وإذ ذاع صيت العون الذي يسديه للمضطهدين في أوربا، وانتشرت الأنباء في فرنسا عن بره وإحساناته المستورة، تشكلت صورة جديدة لفولتير في ذهن الجماهير. فلم يعد عدو المسيح، ولا المحارب لدين يحبه الفقراء؛ بل أصبح منقذ آل كالاس، وسيد فرنيه الطيب، والمدافع عن عشرات من ضحايا العقائد المتزمتة والقوانين الظالمة. وقال قساوسة جنيف إنهم حائرون في موقفه وإياه في يوم الحساب، فهل إيمانهم بعدل أعمال هذا الزنديق(127). وغفر له المثقفون رجالاً ونساءً زندقته، ومشاجراته، وغروره، لا بل خبثه، ورأوه يتحول من الخصومة إلى السماحة، فنظروا إليه الآن نظرتهم إلى الأب الجليل للآداب الفرنسية، وفخر فرنسا أمام العالم المثقف. ذلك هو الرجل الذي رحبت حتى جماهير العامة بمقدمه حين جاء إلى باريس ليموت.