قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 2 ف 3

صفحة رقم : 12917

قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> حياة الدولة -> رحيل الخليلة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الثاني: فرنسا قبل الطوفان 1757 - 1774

الفصل الثالِث: حياة الدولة

رحيل الخليلة

كانت مدام دبومبادور إحدى ضحايا الحرب. فقد ظل سحر شخصيتها حيناً يسترق لب الملك بينما الأمة تنوح، ولكن بعد أن حاول داميان اغتياله (5 يناير 1757) أرسل إليها لويس الخامس عشر كلمة يأمرها فيها بالرحيل فوراً وكأنه شعر فجأة بوجود الله. ولكنه ارتكب غلطة إنسانية حين أتى ليودعها، ووجدها تحزم حقائبها هادئة حزينة، فغلبه بعض ما بقي له من رقة وحنان، وطلب إليها أن تبقى(1). وسرعان ما ردت إليه كل امتيازاتها وسلطاتها السابقة، فكانت تفاوض الدبلوماسيين والسفراء، وترفع الوزراء والقواد وتخفضهم. وكان مارك بيير دفواييه، كونت دارجنسون، قد قاومها في كل خطوة، وحاولت أن تسترضيه قصدها فأفلحت الآن في أن تحل الابيه دبرنيس محله وزيراً للشؤون الخارجية، ثم شوازيل (1758). واحتفظت بحنانها لأقربائها وللملك فقط، وواجهت غير هؤلاء بقلب من حديد في هيكل مريض، وزجت ببعض خصومها في الباستيل وتركتهم فيه سنوات(2). وفي غضون ذلك راحت تدخر لغدها، وزينت قصورها وأمرت بتشييد ضريح ضخم لها تحت ميدان فاندوم.

وقد حملت في نظر الشعب، وفي البرلمان، وفي القصر، أكثر التبعة على هزائم فرنسا في الحرب، ولكنها لم تنل أي ثناء على انتصاراتها. فاعتبرت مسئولة عن الحلف البغيض مع النمسا، وأن لم تكن سوى عامل صغير من عوامل ذلك التزاوج، وأدينت بسبب الكارثة التي حاقت بالجيش في روسباخ حيث قاد الفرنسيين رجلها سوبيز، ولم يعرف نقادها-أو رأوه غير ذي صلة بالموضوع-أن سوبيز أشار بعدم خوض المعركة. وأنه أكره عليها بتهور القائد الألماني. ولو أن الأمر كان بيد سوبيز، ولو اتبعت خطته التي أشار بها-وهي تدويخ فردريك بالمسيرات وبهروب الجند من جيشه-ولو أن القيصرة اليزافيتا لم تمت في هذا الظرف غير المواتي ولم تترك بروسيا لفتى من عباد فردريك-لو أن هذا حدث فربما انهارت مقاومة بروسيا، ونالت فرنسا الأراضي الواطئة النمساوية، وحملت بومبادور فوق بحر من الدماء لتهتف لها الأمة. ولكنها أخفقت في استرضاء إله الصدفة العظيم.

وأبغضها البرلمان لأنها شجعت الملك على أن يتجاهلهم، وأبغضها الأكليروس لأنها صديقة لفولتير ولكتاب الموسوعة، وقال كرستوف دبومون ، رئيس أساقفة باريس، أنه "يتمنى أن يراها تحرق بالنار(3)". وحين عانت الجماهير الباريسية من غلاء الخبز صاحت "أن تلك البغى التي تحكم المملكة تجر عليها الخراب". وارتفع صوت من الغوغاء في اليون دلاتورنل يقول "لو وقعت في أيدينا هنا لما تخلف منها ما يكفي لإحالتها إلى رفاة(4)". ولم تجرؤ على الظهور في شوارع باريس، وكان الأعداء يحيطون بها في فيرساي. وكتبت للمركيزة دفونتناي تقول "أنني وحيدة تماماً في وسط هذا الحشد من صغار النبلاء، الذين يبغضونني والذين أحتقرهم. أما النساء فحديثهن يصيبني بصداع أليم. فغرورهن، وخيلاؤهن، وسفالتهن، وخياناتهن، تجعلني لا أطيقهن(5)".

فلما استطالت الحرب، ورأت فرنسا كندا والهند تختطفان منها، وضيق فرديناند البرنزويكي الخناق على الجيش الفرنسي، وظهر الجنود العائدون، جرحى أو مشوهين، في شوارع باريس، وضح للملك أنه ارتكب خطأ محزناً بالإصغاء لكاونتز وبومبادور، وفي 1761 التمس العزاء في أحضان خليلة جديدة هي الآنسة رومان، التي ولدت له الولد الذي سيصبح الابيه دبوربون. وأرجفت الشائعات أن بومبادور ثأرت لنفسها بقبول شوازيل عشيقاً لها(6)، ولكنها كانت أضعف، وشوازيل كان أذكى، من أن يسمحا بهذا الغرام؛ لقد أسلمت لشوازيل قوتها لا حبها، ولعلها فاهت الآن بهذه النبوءة اليائسة "بعدي الطوفان(7)".

كانت على الدوام واهنة الجسد، بصقت الدم حتى في شبابها، ومع أننا لسنا واثقين من أنها كانت تشكو السل، فأننا نعلم أن سعالها ازداد ازدياداً مؤلماً وهي تقترب من الأربعين، واستحال الصوت المرنم الذي كان يوماً ما يأسر قلب الملك وحاشيته صوتاً مبحوحاً متوتراً، وأفزع هزالها أصدقائها. وفي فبراير 1764 لزمت فراشها بحمى مرتفعة والتهاب دموي في الرئتين. وفي إبريل ساءت حالتها حتى إنها استدعت موثقاً لتكتب وصيتها الأخيرة. فتركت فيها هبات لأقربائها، وأصدقائها، وخدمها، وأضافت "إن كنت قد نسيت أياً من أقربائي في هذه الوصية فأني أرجو أخي أن يدبر معاشهم". وأوصت للويس الخامس عشر بقصرها الباريسي، الذي يشغله الآن رئيس جمهورية فرنسا باسم قصر الإليزيه. وكان الملك ينفق الساعات الكثيرة بجوار فراشها، وندر أن ترك حجرتها في أيامها الأخيرة، وكتب الدوفين (ولي العهد) الذي كان عدوها دائماً إلى أسقف فردان يقول "إنها تموت بشجاعة يندر أن توجد بين الرجال أو النساء ورئتاها مملوءتان ماء أو صديداً، وقلبها محتقن أو متضخم. إنه موت قاسٍ مؤلم إلى حد لا يطاق(8)". وكانت-حتى لهذه المعركة الأخيرة، ترتدي الثياب الفاخرة وتحمر خديها الجافين. وظلت تملك حتى النهاية تقريباً. وأحاط أفراد الحاشية بأريكتها، وراحت توزع الأنعامات، وتعين الأشخاص في المناصب الكبرى، وكان الملك ينفذ الكثير من توصياتها.

وأخيراً سلمت بالهزيمة. ففي 14 إبريل تلقت شاكرة القربان الأخير الذي حاول التخفيف من الموت بالرجاء. وحاولت الآن، وهي التي ظلت طويلاً صديقة للفلاسفة، أن تستعيد أيمان طفولتها. فصلت كما يصلي الطفل: قالب:اقتباس خاص

وهمست في أذن القسيس الذي كان يبرح الحجرة وهي تعالج سكرات الموت: "انتظر لحظة" سنبرح البيت معاً(10). وماتت في 15 إبريل 1764 مختنقة باحتقان في رئتيها، وكانت في عامها الثاني والأربعين.

وليس صحيحاً أن لويس تقبل موتها في غير مبالاة، فهو إنما أخفى حزنه فقط(11) قال الدوفين: "أن الملك في كرب شديد وإن تمالك نفسه أمامنا وأمام جميع الناس"(12). ففي 17 إبريل، حين حمل جثمان المرأة التي ظلت نصف حياته طوال عشرين عاماً، من قصر فرساي في يوم قارس البرد شديد المطر خرج إلى الشرفة ليطل عليه وهي تبرح القصر وقال لتابعه شامبلوست "ستلقى المركيزة جواً رديئاً جداً" ولم تكن هذه ملاحظة عابثة فقد روى شامبلوست أن في عيني الملك دموعاً تترقرق، وأن لويس أضاف قائلاً في حزن "هذه هي التعزية الوحيدة التي أستطيع تقديمها لها(13)". ودفنت بناء على رغبته جنباً إلى جنب مع طفلتها الكسندرين، وفي كنيسة الكبوشيين التي اختفت الآن-في ميدان فاندوم.

واغتبط البلاط لتحرره من سلطانها، أما الشعب الذي لم يحس بسحرها فقد لعن إسرافها الشديد، ولم يلبث أن نسيها؛ وأما الفنانون والكتاب الذين ساعدتهم فقد حزنوا لفقد صديقة منعمة متفهمة. على أن ديدرو كان قاسياً في حديثه عنها إذ قال: "إذن ماذا بقي من هذه المرأة التي كلفتنا هذا الثمن الغالي من المال والرجال، وتركتنا دون شرف ولا همة، وقلبت نظام أوربا السياسي بأسره؟ حفنة من التراب" وأما فولتير فقد كتب من فرنيه يقول:

قالب:اقتباس خاص

انتعاش فرنسا

لم تفق فرنسا عن حرب السنين السبع إفاقة كاملة حتى جاء نابليون. ذلك أن الضرائب الثقيلة كانت قد ثبطت الزراعة أيام لويس الرابع عشر، وظلت تثبطها أيام لويس الخامس عشر، فتركت آلاف الأفدنة التي كانت تزرع في القرن السابع عشر بوراً في 1760 وأخذت تتحول إلى براري قاحلة(15). واستنزفت الماشية والأغنام، وشحت المخصبات، وجفت التربة. وتشبث الفلاحون بطرق الفلاحة القديمة الرديئة، لأن الضرائب كانت تزاد مع كل تحسين يزيد من ثروتهم. وافتقر كثير من الفلاحون إلى الدفء في بيوتهم في الشتاء إلا أن يلتمسوه من الماشية التي تسكن معهم. وأتلفت نوبات شاذة من الصقيع في 1760 و1767 المحاصيل والكروم خلال نموها. وكان محصول سيئ واحد كفيلاً بأن يقرب قرية من المجاعة، ومن الخوف من الذئاب الجائعة الرابضة حولها.

ومع ذلك بدأ الانتعاش الاقتصادي بمجرد توقيع الصلح. كانت الحكومة عاجزة فاسدة، لكن إجراءات كثيرة اتخذت لإعانة الفلاحين. فوزع نظار الزراعة الملكيون البذار وشقوا الطرق، ونشرت الجمعيات الزراعية المعلومات الزراعية، وأقامت المسابقات، ومنحت الجوائز(16). واستجاب الكثير من السادة الإقطاعيين لحفز جماعة الفيزوقراطيين فاهتموا بتحسين وسائل الزراعة ومنتجاتها. وازداد عدد الملاك من الفلاحين. ففي عام 1774 كان هناك 6% فقط من السكان الفرنسيين يرزحون تحت نير القنية(17). ولكن كل زيادة في الإنتاج كانت تجلب معها زيادة في السكان، فالأرض غنية، ولكن متوسط ملكية الفلاح صغيرة، وهكذا ظل الفقر جاثماً على الصدور.

ومن أصلاب الفلاحين جاء الفائض البشري الذي زود الصناعات في المدن النامية بالرجال. وكانت الصناعة باستثناءات قليلة لا تزال في المرحلة البيتية واليدوية. وسيطرت منظمات رأسمالية واسعة النطاق على صناعة المعادن، والتعدين، وصناعة الصابون، والمنسوجات. وكان بمرسيليا عام 1760 خمسة وثلاثون مصنعاً للصابون تستخدم ألف عامل(18). وكانت ليون معتمدة في رخائها على السوق المتنقلة لنتاج أنوالها. وقد أدخلت آلات التمشيط الإنجليزية حوالي عام 1750، وحوالي عام 1770 بدأ دولاب الغزل الذي يدير ثمانية وأربعون مغزلاً في وقت واحد يحل محل عجلة الغزل في فرنسا. وكان الفرنسيون أسرع في الاختراع منهم في التطبيق؛ فقد أعوزهم رأس المال الذي استطاعت إنجلترا بفضل ثرائها من التجارة أن تستخدمه في تميل التحسينات الميكانيكية في الصناعة. وكانت الآلة البخارية قد عرفت في فرنسا منذ 1681(19). واستعملها جوزف كونيو عام 1769 لتشغيل أول سيارة معروفة؛ وبعد عام استعملت هذه السيارة لنقل الأحمال الثقيلة بسرعة أربعة أميال في الساعة، ولكن الآلة آفات زمامها فهدمت جداراً، وكان يجب يقفها كل خمس عشرة دقيقة لتزويدها بالماء(20).

وكانت وسيلة النقل، غير هذه الاستثناءات الغريبة، هي الحصان، أو عربة الجدر، أو عربة الركوب، أو المركب، وكانت الطرق أو الترع تفضل نظائرها في إنجلترا كثيراً، ولكن الفنادق كانت أسوأ. وقد أسست خدمة بريدية منظمة عام 1760؛ ولم تكن سرية تماماً، فقد أمر لويس الخامس عشر مديري البريد بأن يفتحوا الخطابات ويبلغوا الحكومة بأي محتوى مريب فيها(21). وتعطلت التجارة الداخلية من جراء المكوس، والتجارة الخارجية نتيجة للحرب وضياع المستعمرات. وأفلست شركة الهند وحلت (1770). ولكن التجارة مع الدول الأوربية زادت زيادة كبيرة خلال القرن. فارتفعت من 176.600.000 جنيه في 1716 إلى 804.300.000 جنيه في 1787، غير أن بعض هذه الزيادة لم تكن إلا انعكاساً للتضخم، وازدهرت التجارة مع جزر الهند الغربية والفرنسية في السكر والعبيد.

وكان للتضخم التدريجي، الراجع بعضه إلى تزييف العملة، وبعضه إلى إنتاج العالم المتزايد من الذهب والفضة، أثر مشجع للمغامرة الصناعية والتجارية فمان رجل الأعمال يستطيع عادة أن يتوقع بيع ناتجه بسعر أعلى مما اشترى به عرق العمال ومواد الصناعة. وهكذا تضخمت ثروات الطبقة الوسطى، في حين بذلت الطبقات الدنيا ما وسعها من جهد لتقرب بين دخولها وبين الأسعار. على أن هذا التضخم الذي مكن الحكومة من غش دائنيها هبط بقيمة دخلها، فارتفعت الضرائب بنزول قيمة الجنيه، وأصبح الملك معتمداً على كبار الصيارفة أمثال إخوان باري، لا سيم باري-دوفرنيه، الذي أبهج بومبادور كثيراً بشعوذته المالية حتى استطاع خلال الحرب أن يرفع الوزراء والقواد ويخفضهم. وكان أهم تطور اقتصادي في فرنسا القرن الثامن عشر معظم الثروة من ملاك الأرض إلى المسيطرين على الصناعة، أو التجارة، أو المال، ولاحظ فولتير في 1755 "نضراً إلى مغانم التجارة المتزايدة..نقصت ثروة كبار القوم عن ذي قبل، وزادت الثروة في الطبقة الوسطى. وأسفر هذا عن تقريب الفجوة بين الطبقتين"(22) واستطاع رجال أعمال مثل لابوبلنيير أن يشيدوا قصوراً يحسدهم عليها الأشراف، وأن يزينوا موائدهم بأعظم الشعراء والفلاسفة في المملكة، وغدت البرجوازية راعية الآداب والفنون. وعزت الأرستقراطية نفسها بالتشبث بامتيازاتها والظهور بمظهرها الرفيع. وأصرت على نبل المولد شرطاً للانخراط في وظائف ضباط الجيش أو الأساقفة، وتباهت بشعارات نبالتها وأنسابها المتكاثرة؛ وكافحت-عبثاً في كثير من الحيان-لتقصي أفراد الطبقة العامة الأكفاء أو النابهين عن الوظائف الإدارية العليا وعن البلاط. وطالب البرجوازي الغني بأن يفتح مجال الترقي للموهبة أياً كان نسب صاحبها، فلما أغفل مطلبه راودته فكرة الثورة.

وإذا استثنينا من حرب الطبقات جانب الفلاحين، فإن جميع الجوانب المشاركة فيها اتخذت لها شكلاً مرئياً في ضجيج باريس وفخامتها. فنصف ثروة فرنسا انسابت إلى عاصمتها، ونصف فقر فرنسا تقيح فيها، وقال روسو إن باريس "ربما كانت المدينة الوحيدة في العالم التي تعظم فيها فوارق الثروات، والتي يسكن فيها الثراء الصارخ والفقر المدقع جنباً إلى جنب"(23). وكان ستون من الفقراء المعانين جزءاً من الحرس الرسمي المرافق لجثمان ابن الدوفين البكر في 1761(24). وحوالي عام 1770 كانت باريس تحوي 600.000نفس من بين سكان فرنسا البالغين 22.000.000(25). وتؤوي أكثر أهل أوربا نشاطاً، وأوسعهم إطلاعاً، وأشدهم فجوراً. وفيها أفضل الشوارع رصفاً، وأفخم الطرق المشجرة والمتنزهات، وأزحم حركات المرور، أجمل الحوانيت، وأفخر القصور، وأظلم الأكواخ، وطائفة من أبدع الكنائس في العالم. وقد تعجب منها جولدوني الذي وفد عليها من البندقية في 1762 فقال في وصفها:

"يالها من حشود! وأي تجمع للناس من جميع الأوصاف!..وأي منظر مدهش استرعى حواسي وذهني وأن أدنو من التوبلري! رأيت اتساع رقعة تلك الحديقة الهائلة، التي لا نظير لها في الدنيا، والتي لم تستطع عيناي أن تقيسا طولها..ثم نهراً جليلاً، وكباري عديدة مريحة، وأرصفة شاسعة، وحشوداً من العربات، وزحاماً من الناس لا آخر له"(26). وكانت مئات المتاجر تغري الأغنياء والمفلسين، ومئات الباعة يسرحون ببضائعهم في الشوارع، ومئات المطاعم (وقد ظهرت الكلمة Restaurants أول ما ظهرت في 1765) تعد بتعويض الجياع Restore عن جوعهم، ومئات التجار يجمعون التحف القديمة أو يزيفونها أو يبيعونها، ومئات الحلاقين يقصون ويبدرون الشعور أو الباروكات حتى لطبقة الحرفيين. وفي الأزقة الضيقة كان الفنانون والحرفيون ينتجون الصور، والأثاث، والثياب، والحلي البهرجة لأثرياء القوم. وهنا كانت عشرات المطابع تطبع الكتب، متعرضة أحياناً لخطر شديد، وفي 1774 قدرت تجارة الكتب في باريس بمبلغ 45.000.000 جنيه-وهو أربعة أمثال تجارة لندن فيها.(27) قال جاريك: "إن لندن تصلح للإنجليز، أما باريس فتصلح لكل إنسان"(28) وقال فولتير: في 1768 "لدينا أكثر من ثلاثين ألف شخص في باريس يهيمون بالفن".(29) هناك كانت عاصمة العالم الثقافية دون منازع.


الفيزوقراطيون

في شقة بفرساي تحت مسكن لمدام دبومبادور وعينها الراعية، تكونت تلك النظرية الاقتصادية التي قدر لها أن تحرك الثورة وتصوغها، وتشكل رأسمالية القرن التاسع عشر.

وكان الاقتصاد الفرنسي يكافح منذ زمن طويل ليشب عن الطرق برغم ما قيد به من أقطمة اللوائح والنظم-التي وضعتها طوائف الحرفيين وكولبير، ومن خرافة كخرافة الملك ميداس، خرافة "المركنتلية" التي خالت الذهب هو الثورة. فسعياً إلى زيادة الصادرات، والتقليل من الواردات وأخذ "الفرق الذي في صالح الدولة فضة وذهباً لدعم القوة السياسية والحربية، كانت فرنسا وإنجلترا قد أخضعتا اقتصاديهما القوميين لشرك من القواعد والقيود أعانت على التنظيم الاقتصادي ولكنها عطلت الإنتاج بتعطيلها الابتكار والمغامرة والمنافسة. كل هذا-كما قال رجال مثل جورنيه وكزنيه، وميرابو الأب، ودوبون دنمور، وطورجو-مناقض كل المناقضة للطبيعة، فالإنسان بطبيعته محب للاقتناء، والتنافس، فإذا حررت طبيعته من الأغلال التي لا داعي لها أدهش العالم بمقدار ما ينتج، وتنوعه، وجودته، يقول الفيزوقراطيين "إذن فلنترك الطبيعة (وهي بالإغريقية Physis) تحكم (Kratein) ولنترك الناس يخترعون، ويصنعون، ويتجرون وفق غرائزهم الطبيعية"، أو كما قال جورنيه فيما روى "اتركهم يفعلون Laissez Faire ما يرونه هم أصوب ما يكون". وكانت هذه العبارة قديمة فعلاً، فحوالي عام 1664، حين سأل كولبير رجل الأعمال لجاندر "ما الذي يجب أن نفعله نحن (أي الحكومة) لمساعدتك؟ أجابه "Nous Laisserfaire" اتركونا نفعله...اتركونا وشأننا."(30)

وكان صوت جان-كلود فانسان دجورنيه أول صوت واضح للفيزيوقيراطيين في فرنسا. ولا شك في أنه كان يعلم بالاحتجاجات التي قدمها بواجلبير وفوبان للويس الرابع عشر على القيود الخانقة التي فرضت على الزراعة في ظل النظام الإقطاعي. وقد أعجب بكتاب السرجوسيا تشايلد "ملاحظات موجزة عن التجارة والفائدة" (1668) إعجاباً حمله على ترجمته إلى الفرنسية (1754)، وأغلب الظن أنه قرأ كتاب رتشارد كانتلون "مقال عن طبيعة التجارة" (حوالي 1734) في طبعته الفرنسية (1755). ويؤرخ البعض من هذا الكتاب مولد الاقتصاد بوصفه "علماً"-أي تحليلاً منطقياً لمصادر الثروة، وإنتاجها، وتوزيعها. قال كانتون "أن الأرض هي المصدر أو المادة التي تؤخذ منها الثروة، ولكن الجهد البشري هو الشكل الذي ينتج الثروة"، ولم يعرف الثروة بأنها الذهب أو النقود، بل "صيانة الحياة، ووسائل الراحة وأسبابها"(31) وكان هذا التعريف في حد ذاته ثورة في النظرية الاقتصادية.

وكان جورنيه تاجراً ميسوراً يعمل أول الأمر (1729-1744) في قادس. وبعد أن اشتغل في معاملات تجارية واسعة النطاق في إنجلترا، وألمانيا، والأقاليم المتحدة، استقر في باريس، وعين "ناظر للتجارة" (1751). وفي رحلاته التفتيشية في أرجاء فرنسا لاحظ بشخصه القيود التي فرضتها اللوائح النقابية والحكومية على المشروعات الحرة والتبادل الاقتصادي، ولم يخلف لنا صيغة وكتوبة لآرائه، ولكن لخصها بعد موته (1756) تلميذه طورجو. وقد حث على التخفيف من النظم واللوائح الاقتصادية القائمة، إن لم يكن إلغائها. فكل إنسان يعرف خيراً مما تعرف الحكومة الإجراء الذي يلائم عمله خير ملائمة، فإذا كان حراً في السعي إلى مصلحته ازداد إنتاج السلع ونمت الثروة(32). "هناك قوانين فريدة أزلية، مؤسسة على الطبيعة وحدها، بمقتضاها توازن جميع القيم الموجودة في التجارة بعضها بعضاً وتثبت نفسها عند سعر مقرر، تماماً كما تنظم الأجسام المتروكة لثقلها نفسها فوق وزنها النوعي(33)".


أي أن القيم والأسعار تحددها العلاقات بين العرض والطلب، وهي علاقات تحددها بدورها طبيعة الإنسان. وخلص جورنيه إلى أن الدولة يجب أن ألا تتدخل في الاقتصاد إلا لتحمي الحياة، والحرية، والملكية، ولتشجع الإنتاج كماً وكيفاً بأسباب التشريف والمكافآت. وقد قبل مسيو ترودين رئيس مجلس التجارة هذه المبادئ، وخلع عليها طورجو قوة بلاغته واستقامته المعترف بها.

أما فرانسوا كزنيه فقد أتبع خطاً فزيوقراطياً اختلافاً طفيفاً. فهو لم ينسَ قط اهتمامه بالأرض لأنه مالك للأرض، ولو أنه أعد ليكون طبيباً، وقد جمع لنفسه ثروة بحذقه في الطب والجراحة، وارتقى حتى أصبح طبيباً لمدام دبومبادو وللملك (1749). وقد جمع في مسكنه بفرساي لفيفاً من الزنادقة-دوكلو، وديدرو، وبوفون، وهلفتيوس، وطورجو...هناك كانوا يناقشون كل شيء في غير تحرج إلا شخص الملك، الذي كانوا يحلمون بأن يجعلوا منه "حاكماً مطلقاً مستنيراً" يكون أداة للإصلاح السلمي، وشعر كزنيه الغارق إلى أذنيه في عصر العقل، أن قد آن أوان استخدام العقل في الاقتصاد. ومع أنه كان دجماً طبقياً شديد الإعداد بنفسه في كتبه، فأنه كان في شخصه إنساناً رقيقاً يتميز بالنزاهة في محيط لا يقيم للأخلاق وزناً.

وفي 1750 التقى بجورنيه، وسرعان ما فاق اهتمامه بالاقتصاد اهتمامه بالطب. وقد شارك بمقالات في موسوعة ديدرو تحت أسماء مستوردة بعناية. وقد عزا في مقاله "المزارع" هجر الزراع لها إلى الضرائب المرتفعة والتجنيد الإجباري. ولاحظ مقاله "الغلال" (1757) أن المزارع الصغيرة تعجز عن الإفادة من أكثر الوسائل إنتاجاً، حبذ المزارع الكبيرة التي يديرها "المقاومون"-وهذا سبق للشركات الزراعية العملاقة في عصرنا. وقال إن على الحكومة أن تحسن الطرق، والأنهار، والقنوات، وأن تلغي كل المكوس على النقل، وتحرر حاصلات الزراعة من جميع قيود التجارة.

وفي عام 1758 نشر كزنيه "جدولاً اقتصادياً" أصبح البيان الرسمي الأساسي للفزيوقراطيين. ومع أنه طبع في المطبعة الحكومية بقصر فرساي بإشراف الملك، فأنه أدان الترف باعتباره استعمالاً مبدداً للثروة كان يمكن استخدامه في إنتاج مزيد من الثروة. وقد قسم المجتمع إلى ثلاث طبقات: "طبقة منتجة من الزراع، والمعدنيين، وصيادي الأسماك؛ وطبقة قابلة للتوجيه (Disponiles) من الأشخاص الذين يُستخدمون في الوظائف العسكرية أو الإدارية، وطبقة غير مثمرة Classe St(rile من مهرة الصناع الذين يحولون حاصلات الأرض إلى أشياء نافعة، والتجار الذين يوصلون الحاصلات إلى المستهلك. وإذ كانت الضرائب المفروضة على الطبقة الثانية أو الثالثة تقع في النهاية (في رأي كزنيه) على ملاك الأرض، كانت أكثر الضرائب تمشياً مع العلم وأنسبها هي ضريبة واحدة (Impot Unique) تُفرض على صافي الربح السنوي لكل قطعة من الأرض. ويجب أن تُجمع الضرائب مباشرة بواسطة الدولة، ولا تُجمع أبداً بواسطة الماليين من الأهالي (الملتزمون العموميون)، ويجب أن تكون الحكومة ملكية مطلقة وراثية.

وتبدو مقترحات كزنيه اليوم وقد أفسدها الغض من قدر العمل، والصناعة، والتجارة، والفن، ولكن بعض معاصريه رأوا فيها إلهاماً منيراً. وفي رأي أكثر أتباعه حيوية وهو فكتور ريكيتي، مركيز دميرابو، أن "الجدول الاقتصادي" نافس الكتابة والوقود في كونه من أجل ابتكارات التاريخ. وقد أجاز هذا المركيز عصر فولتير من أوله لآخره بالضبط، لأنه ولد في 1715 ومات في 1789. ورث ثروة طيبة، وعاش عيشة الأمراء، وكتب كما يكتب الديمقراطيون، وعنون أول كتاب له "صديق الناس"، أو مقال في السكان (1756) واستحق بذلك الاسم الذي اتخذه "صديق الإنسانية". وبعد أن نشر رائعته تأثر بكزنيه، فراجع بناء على ذلك كتابه وزاده، إلى بحث من ستة مجلدات طبع أربعين طبعة وشارك في إعداد فكر فرنسا لثورة 1789.

ولم يقلق تكاثر البشر المركيز كما سيقلق مالنوس في 1798. فقد آمن بأن الأمة تعظم بكثرة سكانها، وأن هذا يسيره "توالد الناس كما تتوالد الفئران في جرن إذا توفرت لها أسباب الحياة(34)" وهو ما زلنا نراه إلى الآن. وخلص إلى وجوب تشجيع منتجي الطعام بكل الوسائل. وذهب إلى ان التفرقة في توزيع الثروة تثبط إنتاج الطعام، لأن ضياع الأغنياء تشغل الأرض التي كان في الإمكان أن تصبح مزارع خصبة. وقالت مقدمة ميرايو للملك أن الفلاحين: "هم أكثر الطبقات إنتاجاً، الذين لا يرون من تحتهم غير مرضعتهم ومرضعتك-الأرض الأم، والذين يرزحون أبداً تحت ثقل أشق الأعمال والذين يباركونك كل يوم، ولا يسألونك شيئاً غير السلام والحماية. وبفضل عرقهم، بل ودمهم ذاته (وهو ما لا تعرفه!) تشبع مطامع ذلك الحشد من البشر غير النافعين الذين لا يفتئون يقولون لك أن عظمة الملك في قيمة وعدد...النعم التي يقسمها على أفراد حاشيته. لقد رأيت مساعد جابٍ للضرائب يقطع يد امرأة فقيرة تشبثت بقدرها لتمنع استيلاءه عليها وفاء للدين. وكانت آخر ما في بيتها من آنية. فماذا كنت تقول في هذا أيها الملك العظيم(35)؟".

وقد هاجم المركيز الثائر في كتابه "نظرية الضرائب" (1761) الملتزمين العموميين بجباية الضرائب لأنهم طفيليون يغتالون أقوات الأمة. وحرض الماليون الغاضبون لويس الخامس عشر على أن يحبسه في الشاتو دفانسين (16 ديسمبر 1760) ولكن كزنيه أقنع مدام دبومبادور بأن تتشفع له، وأطلق لويس سراح المركيز (25 ديسمبر) ولكنه أمره بأن يلزم ضيعته في لوبنيون. وأحال ميرابو الضرورة إلى فضيلة، فدرس الزراعة دراسة عملية مباشرة. وفي 1763 أصدر كتاب "الفلسفة الريفية" الذي قيل فيه إنه "أشمل بحث في الاقتصاد قبل آدم سميث(36)"، ووصفه جريم بأنه "الأسفار الموسوية للمذهب الفيزوقراطي(37)". وبلغت جملة مؤلفات هذا المركيز، الذي كان نسيج وحده، أربعين كتاباً حتى عام وفاته- وذلك رغم المتاعب التي سببها له ابنه الذي زجه في السجن حين أعيته الحيل عسى أن يكون في ذلك سلامة لكليهما. وكان كابنه ذاك عنيفاً فاسقاً، تزوج للمال، واتهم امرأته بالزنا، وتركها تعود إلى أبوها، واتخذ له خليلة. وقد ندد بأوامر الاعتقال الملكية باعتبارها ضرباً من الظلم لا يطاق، وبعد ذلك حمل الوزارة على أن تصدر خمسين أمراً منها لتعينه على تأديب أسرته(38).

وليس من اليسير علينا أن ندرك اليوم ذلك الهيجان الذي أثارته مطبوعات الفيزوقراطيين، والحماسة التي اصطبغت بها حملاتهم. وتطلع تلاميذ كزنيه إليه كأنه سقراط الاقتصاد: وعرضوا عليه كتاباتهم قبل طبعها، وفي كثير من الحالات كان يشارك في كتبهم. وفي 1767 أصدر لومرسييه دلا ريفيير، الذي حكم المارتنيك فترة، كتاباً عده آدم سميث أوضح شرح للمذهب وأفضله ترابطاً(39) واسمه "النظام الطبيعي الأساسي للمجتمعات السياسية" يقول فيه أن في العلاقات الاقتصادية قوانين تقابل تلك التي وجدها نيوتن في الكون، والعلل الاقتصادية منشؤها إغفال تلك القوانين أو انتهاكها:

"أتريدون لمجتمع ما أن يبلغ الغاية من الثراء، والسكان، والقوة؟ اتركوا مصالحه إذن للحرية، وليكن هذا قانوناً عاماّ، فبفضل هذه الحرية (التي هي العنصر الأساسي للصناعة) وبفض الرغبة في التمتع-التي تحفزها المنافسة وتتبرها الخبرة والقدرة-تضنون أن يسعى كل إنسان على الدوام لأقصى مصلحة مستطاعة له، ومن ثم يسهم بكل ما في مصلحته للخاصة من قدرة في الخير العام، سواء للحاكم ولك فرد في المجتمع(40). وقد لخص بيير-صموئيل ديون هذه الدعوة في كتابه "الفيزوقراطية" (1768) الذي خلع على المذهب اسمه التاريخي. كذلك نشر ديون النظرية في دوريتين كان نفوذهما محسوساً من السويد إلى توسكانيا. وقد عمل مفتشاً عاماً للصناعات تحت رئاسة طورجو. وسقط بسقوطه (1776). وعاون على المفاوضة مع إنجلترا على عقد المعاهدة التي اعترفت باستقلال أمريكا (1783) وانتخب عضواً بمجلس الأعيان (1787) والجمعية التأسيسية (1789). وتمييزاً له في هذه الجمعية عن عضو آخر يدعى ديون، سمي ديون دنمور، نسبة للمدينة التي مثلها. وقد عرض اليعاقبة فتعرض للخطر حين تقلدوا زمام الأمور، وفي 1799 نفى نفسه إلى أمريكا، ثم عاد إلى فرنسا عام 1802، ولكن في 1815 أختار الولايات المتحدة وطناً نهائياً له، وهناك أسس أسرة من أشهر الأسر الأمريكية.

وبدا في ظاهر الأمر أن مذهب الفيزوقراطيين يناصر الإقطاع لأن السادة الإقطاعيين كانوا إلى ذلك الحين يملكون أو يتقاضون الرسوم الإقطاعية من ثلث أرض فرنسا على الأقل. ولكنهم-وهم الذين لم يكونوا يدفعون أي ضرائب تقريباً قبل 1756-هالهم فكرة تحميل ملاك الأرض جميع الضرائب، كذلك لم يستطيعوا أن يقبلوا إلغاء المكوس الإقطاعية على نقل البضائع داخل أملاكهم. أما الطبقات الوسطى، التي كانت إلى تشريعات جديدة، فقد ساءها زعم الفيزوقراطيين أنها شطر عقيم غير منتج من الأمة ومع أن جماعة الفلاسفة كانوا في الغالب يوافقون الفيزوقراطيين على الاعتماد على الملك أداة للإصلاح إلا أنهم لم يستطيعوا موافقتهم على مصالحة الكنيسة(41). وقد ذهب ديفد هيوم؛ الذي زار كزنيه في 1763، إلى أن الفيزوفراطيين أكر ما يوجد اليوم من الجماعات تعلقاً بالأوهام وخيلاء منذ تدمير الصوريون. وسخر منهم فولتير (1768) في قصيدته اللاذعة المسماة "الرجل ذو الأربعين أيكوه"(41). وفي 1770 أصدر فرديناند وجالياني، وهو إيطالي من المترددين على "مجمع" الملحدين الذين كان يجمعهم دولباخ في بيته كتاباً اسمه "حوار حول تجارة الغلال" ترجمه ديدرو إلى الفرنسية في السنة نفسها. وقال فولتير أن أفلاطون موليير لابد قد شاركا في كتابة هذا المؤلف في الاقتصاد الذي كان "علماً يقبض الصدر". وقد هزأ جالياني بخفة روح باريسية بزعم الفيزوقراطيين أن الأرض وحدها مصدر الثروة. وقال أن تحرير تجارة الغلال عن جميع اللوائح والنظم معناه خراب بيوت مزارعي فرنسا، وقد يجر إلى المجاعة في أرض الوطن في الوقت الذي يصدر فيه التجار الأذكياء الغلال إلى الدول الأخرى. وهذا ما حدث بالضبط في 1768، و1775.

ويروى أن لويس الخامس عشر سأل كزنيه ماذا يصنع إن كان ملكاً فأجاب "لا شيء". "فمن يحكم إذن"؟ "القوانين"-وكان الفيزوقراطي يقصد بذلك "القوانين" الملازمة لطبيعة الإنسان والتي تتحكم في العرض والطلب ووافق الملك على أن يجربها. ففي 17 سبتمبر 1754 ألغت وزارته جميع المكوس والقيود المفروضة على بيع الغلال-القمح، والجاودار، والذرة-ونقلها داخل المملكة. وفي 1764 شملت هذه الحرية تصدير الغلال إلا إذا بلغت ثمناً مقرراً. وهبط سعر الخبز حيناً نتيجة تركه لعملية العرض والطلب، ولكن محصولاً رديئاً في 1765 رفع سعره فوق السعر العادي بكثير جداً. وبلغ نقص الغلال مرحلة المجاعة في 1768-69، فكان الفلاحون ينبشون عن الطعام في زرائب الخنازير، ويأكلون العشب والحشيش. وفي أبشرية تعد 2.800 نسمة راح 2.200 يستجدون الخبز. وشكا أفراد الشعب من أن المضاربين يصدرون الغلال بينما هم يواجهون المجاعة. واتهم الناقدون الحكومة بأنها تتكسب من عمليات هؤلاء المحتكرين في "ميثاق المجاعة" وامتد رنين هذه النقمة المرة التي تعزف على ميثاق المجاعة. هذا الذي وقع عام 1761، خلال السنوات التالية ليتهم-حتى لويس السادس عشر الرحيم بالكسب من خلال الخبز. وكان بعض الموظفين مذنبين فيما يبدو، أما لويس الخامس عشر فلم يذنب. فلقد كلف بعض التجار بشراء الغلال في السنين الطيبة، وخزنها، ثم عرضها في السوق في السنين العجاف، ولكن حين بيعت هذه الغلال ارتفعت أسعارها ارتفاعاً أعجز فقراء الشعب عن الشراء. واتخذت الحكومة تدابير مـتأخرة لعلاج الحالة، فاستوردت القمح ووزعته على أفقر الأقاليم. وطالب الشعب برد هيمنة الدولة على تجارة الغلال، وشارك البرلمان في هذه المطالبة. في هذه الأزمة نشر فولتير قصيدته المسماة الإنسان ذو الأربعين ايكو. وأذعنت الحكومة، وفي 23 ديسمبر 1770 ألغيت المراسيم التي أباحت حرية الاتجار في الغلال.

على أن أفكار الفيزوقراطيين شقت طريقها رغم هذه النكسة، سواء في فرنسا أو خارجها. وكان مرسوماً قد صدر في 1758 وقرر حرية التجارة في الصوف ومنتجاته. وزار آدم سميث كزتية في 1765، وراعه منه "تواضعه وبساطته" ورسخ ميله إلى الحرية الاقتصادية. وكان رأيه "أن أكبر غلطة لهذا النظام...في اعتباره طبقة الصناع؛ ورجال الصناعة والتجارة طبقة عميقة غير منتجة على الإطلاق"، ولكنه خلص إلى "أن النظام، بكل ما فيه من عيوب، ربما كان أقرب ما نشر إلى الآن من الحقيقة حول موضوع الاقتصاد السياسي"(57). وقد انسجمت أفكار الفيزوقراطيين مع رغبة إنجلترا-التي أصبحت الآن أعظم الأمم المصدرة في خفض رسوم التصدير والاستيراد. ووجد هذا المذهب القائل بأن الثروة تنمو نمواً أسرع في ظل التحرر من القيود الحكومية على الإنتاج والتوزيع، آذاناً صاغية في السويد تحت حكم شارل الثالث. وكان حب جفرسون للحكومة التي تمارس أقل قدر من الحكم، من بعض النواحي، صدى للمبادئ الفيزوقراطية. وقد أقر هنري جورج بتأثير الفيزوقراطيين على دعوته لضريبة واحدة تفرض على العقار. واستهوت فلسفة حرية المشاريع والتجارة طبقة رجال الأعمال الأمريكيين، وأعطت دفعة جديدة للتطور السريع الذي حظيت به الصناعة والثروة في الولايات المتحدة. وفي فرنسا أتاح الفيزوقراطيون أساساً نظرياً لتحرير الطبقات الوسطى من العقبات الإقطاعية والقانونية التي عرقلت التجارة الداخلية والتقدم السياسي، وقبل أن يموت كزنيه (16 ديسمبر 1774) كان عزاء له أن يرى أحد أصدقائه يعين مراقباً للمالية ولو أفسح له في الأجل خمسة عشر عاماً أخر لشهد انتصار الكثير من الأفكار الفيزوقراطية في الثورة الفرنسية.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ظهور طورجو 1727 - 1774

أكان طورجو فيزوقراطياً؟ إن خلفيته الفنية المنوعة تمنع كل تخصيص يلصق به، فلقد ولد في أسرة عريقة "من أصل طيب" Une Bonne Race كما قال لويس الخامس عشر-شغل أفرادها المناصب الهامة أجيالاً عديدة بكل كفاية. وكان أبوه مستشاراً للدولة وسر تجار باريس، وهو أرفع منصب إداري في باريس، وأخوه الكبر أميناً للالتماسات والمطالب في برلمان باريس وعضواً بارزاً فيه. وكانت النية توجيه طورجو (آن روبير-جاك)، وهو الابن الأصغر إلى وظيفة القسوسية. واجتاز بتفوق جميع الامتحانات في كلية لوي-لجران، وفي مدرسة سان-سولبيس اللاهوتية؛ وفي الصوربون، وأصبح "الأبيه دبروكور" وهو بعد في التاسعة عشرة. وتعلم قراءة اللاتينية، واليونانية، والعربية، والأسبانية، والإيطالية، والألمانية، والإنجليزية، والكلام بثلاثة من هذه اللغات على الأقل بطلاقة. وفي 1749 انتخب رئيساً للصوريون، وبوصفه هذا ألقى محاضرات أثارت اثنتان منها ضجة خارج نطاق اللاهوت.

ففي يوليو 1750 ألقى محاضرة على الصوريون باللاتينية في "الفوائد التي أفاد بها توطيد المسيحية الجنس البشري"، وقال إنه أنقذت العالم القديم من سلطان الخرافة، وصانت الكثير من الآداب والفنون والعلوم، وقدمت للبشر المفهوم المحرر لقانون العدالة يسمو فوق كل ألوان التعصب والأنانية البشرية. "أفيستطيع الإنسان أن يطمع في هذا من أي مصدر آخر غير الدين؟...إن الدين المسيحي دون غيره.....هو الذي أخرج إلى النور حقوق الإنسان"(47). وفي هذه التقوى تسمع صدى الفلسفة؛ وواضح أن الرئيس الشاب كان قد قرأ مونتسيكو وفولتير، وتأثر لاهوته بعض الشيء بما قرأ. وفي ديسمبر 1750 ألقى محاضرة في الصوربون عنوانها "جدول فلسفي بالتقدم المطرد للعقل البشري". وكان هذا التعبير عن ديانة التقدم الجديدة إنجازاً رائعاً من فتى في الثالثة والعشرين. وقد سبق كونت-وربما حذا حذو فيكو-فقسم تاريخ العقل البشري إلى ثلاث مراحل: مرحلة لاهوتية، وأخرى ميتافيزيقية، وثالثة علمية. قال:- "قبل أن يفهم الناس العلاقة العلية بين الظواهر الطبيعية، كان طبيعياً جداً أن يفترضوا أنها صادرة عن كائنات عاقلة، غير مرئية، شبيهة بهم...فلما أدرك الفلاسفة سخف هذه الخرافات عن الأرباب دون أن يكتسبوا بعد بصراً بالتاريخ الطبيعي، حاولوا تفسير أسباب الظواهر بعبارات تجريدية مثل الظواهر والقوى. ولم توضع الفروض-التي أمكن تطويرها بالرياضيات وإثباتها بالتجربة؛ بملاحظة التفاعل الميكانيكي المتبادل للأجسام-إلا في فترة متأخرة"(48).

وقال الشاب الألمعي إن الحيوانات لا تعرف التقدم، فهي تظل كما هي جيلاً بعد جيل، أما الإنسان فبفضل تعلمه تجميع المعرفة وتوصيلها يستطيع تحسين الأدوات التي يستخدمها في التعامل مع بيئته وفي إثراء حياته. مادام هذا التجميع والتوصيل للمعرفة والتكنولوجيا مستمراً فلا مندوحة عن التقدم وإن عطلته أحياناً الكوارث الطبيعية أو تقلبات الدول. وليس التقدم متماثلاً، ولا هو عام، فبعض الأمم يتقدم وبعضها يتقهقر، وقد يركد الفن في حين يتحرك العلم قدماً، ولكن الحركة في جملتها حركة إلى الأمام. وفضلاً عن هذه الآراء، تنبأ طورجو بالثورة الأمريكية فقال "إن المستعمرات أشبه بالفاكهة التي تتشبث بالشجرة إلى أن تنضج، وحين تغدو مستكفية بذاتها تفعل ما فعلته قرطاجة، وما ستفعله أمريكا يوماً ما(49)".

وقد خطط طورجو لكتابة تاريخ الحضارة وهو بعد الصوربون مستوحياً في ذلك فكرة التقدم. ولم يبقَ من مشروعه هذا سوى مذكرات خطها لبعض فصول الكتاب، ومنها يتبين أنه قص أن يضمنه تاريخ اللغة، والدين، والعلم، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، كما يضمنه قيام الدول وسقوطها(50). فلما ورث عن أبيه دخلاً كافياً قرر أواخر عام 1750 أن يترك الوظيفة الكنسية وألح عليه زميل من الآباء الدينيين في البقاء واعداً إياه بالترقي السريع، ولكن طورجو أجاب على ما روى دبون دنمو "لا أستطيع أن أفرض على نفسي لبس قناع طوال حياتي(51)". ولم يكن قد رسم إلا لوظيفة كهنوتية صغيرة، لذلك كان حراً في الاشتغال بالسياسة. وفي يناير 1752 أصبح نائباً عاماً مناوباً، وفي ديسمبر أصبح مستشاراً في البرلمان، وفي 1753 اشترى منصب "أمين الالتماسات والمطالب"، الذي اشتهر فيه بالاجتهاد والعدل. وفي 1755-56 رافق جورنيه في جولات تفتيشية في الأقاليم، وتعلم الاقتصاد الآن بالاتصال المباشر مع الزراع والتجار، والصناع، وعن طريق جورنيه التقى بكزنيه وعن طريق كزنيه التقى بميرابو الأب، ودبون دنمور، وآدم سميث. ولم ينخرط قط في زمرة المدرسة الفيزوقراطية ، ولكن ماله وقلمه كانا أهم سند لمجلة دبون المسماة التقاويم.

وفي غضون هذا (1751) استطاع بفضل ذكائه وسلوكه المهذب أن يلقى الترحيب في صالونات مدام جوفران ومدام دجرافيته، ومدام دوديفان والآنسة دلسبيناس. وهناك التقى بدالامبير، وهلفتيوس؛ ودولباخ، وجريم، ومن بين الثمرات المبكرة لهذا الاتصال كتاب (1753) من رسالتين "في التسامح". وكتب لموسوعة ديدرو مقالات في الوجود، والاشتقاق اللغوي، والمهرجانات، والأسواق، ولكن حين أدانت الحكومة مشروع الموسوعة كف عم موافاتها بمقالاته. وخلال جولاته في سويسرا وفرنسا زار فولتير (1760) وبدأ صداقة معه دامت حتى وفاة فولتير. وكتب حكيم فرنيه إلى دالامبير يقول: (قل أن رأيت طوال حياتي رجلاً ألطف منه أو أوسع إطلاعاً(52)). وادعى جماعة الفلاسفة أنه واحد منهم، وراوده الأمل في أن يؤثروا على الملك عن طريقه.

وفي 1766 كتب لطالبين صينيين على وشك العودة إلى الصين مجملاً للاقتصاد من مائة صفحة عنوانه "تأملات في نشوء الثروة وتوزيعها". فلما نشر في مجلة "التقاويم" (1769-70) أشاد به الناس شرحاً من أكثر شروح النظرية الفيزوقراطية إحكاماً وقوة. قال طورجو أن الأرض مصدر الثروة الوحيد، وكل الطبقات فيما عدا زراع الأرض يعيشون على الفائض الذي ينتجه الزراع فضلاً عن حاجاتهم؛ وهذا الفائض يؤلف "صندوق أجور" تدفع منه أجور طبقة مهرة الصناع. ثم يسوق صيغة مبكرة لما أصبح فيما بعد يطلق عليه "قانون الجور الحديدي" يقول:

"إن أجر العامل يحدده مستوى معيشته بالمنافسة بين العمال. والعامل المجرد الذي لا يملك غير ذراعيه وجده، لا يملك شيئاً إلا بقدر ما يوفق في بيع كده لغيره، وصاحب العمل ينقده أقل ما يستطيع من أجر، وبما أنه يستطيع الاختيار بين العديد من العمال، فإنه يفضل أقلهم أجراً. ومن ثم يضطر العمال إلى خفض سعرهم في المنافسة فيما بينهم، وفي كل أنواع العمل لابد أن يحدث هذا، وهو يحدث فعلاً، وهو أن أجر العامل يحدده ما هو ضروري لإعاشته"(53). ويسترسل طورجو مؤكداً أهمية رأس المال. فلابد أن يوفر شخص ما، بمدخراته، أدوات الإنتاج ومواده قبل أن يتسنى له استخدام العامل، ولابد له من إعاشة العامل قبل أن يرد بيع الناتج له رأس ماله. وإذا لم يكن هناك ضمان على الإطلاق لنجاح مشروع ما، فيجب السماح بربح ليوازن خطر فقد رأس المال. "فحركة رأس المال هذه انطلاقاً ورجوعاً هي قوام دورة النقود، تلك الدورة النافعة المثمرة التي تشيع الحياة في جميع جهود المجتمع، والتي شبهت بكل حق بدورة الدم في الجسم الحيواني"(54). ويجب عدم التدخل في هذه الدورة، وأن يسمح للأرباح والفائدة، كما يسمح للأجور، بأن تصل إلى مستواها الطبيعي حسب العرض والطلب، ويجب أن يعفى من الضرائب أصحاب رؤوس الأموال، وأرباب المصانع، والتجار، والعمال؛ فلا تُفرض إلا على ملاك الأرض الذين يستردون ما دفعوه بتقاضي ثمن أغلى لمحاصيلهم. وينبغي أن لا يفرض إي رسم على نقل أو بيع أي سلعة من سلع الاستهلاك.

في هذه "التأملات" أرسى طورجو الأساس النظري لرأسمالية القرن التاسع عشر قبل التنظيم الفعال للعمل. فهذا الرجل الذي كان من أرحم وأنبل رجال زمانه لم يستطع أن يتطلع إلى مستقبل للعمال أفضل من أجور الكفاف. ومع ذلك أصبح هذا الرجل خادماً للشعب متفانياً في عمله. ففي أغسطس 1761 عُين ناظراً ملكياً لمديرية ليموج، وهي من أفقر أقاليم فرنسا، وقد قدر أن 48% إلى 50% من دخل الأرض فيها يضيع ضرائب للدولة وعشوراً للكنيسة. وكان في فلاحي الإقليم كآبة في نبلائه فظاظة. كتب إلى فولتير يقول: "من سوء حظي أن أكون ناظراً ملكياً. وأقول من سوء حظي لأن السعادة في هذا الزمان الممتلئ بالتناحر واللوم لا تتوافر إلا في حياة الفلسفة بين الكتب والأصدقاء". ورد عليه فولتير قائلاً: "ستكسب أهل ليموج وجيوبهم؛ في اعتقادي أن الناظر الملكي هو الشخص الوحيد الذي يمكنه إفادة الناس. إلا يستطيع إصلاح الطرق، وزرع الحقول، وتصريف المستنقعات، وتشجيع الصناعات؟".

وقد فعل طورجو هذا كله. فكافح بهمة طوال ثلاثة عشر عاماً، أكتسب فيها محبة الشعب وكراهية النبلاء. فالتمس مراراً ، ودون جدوى، من مجلس الدولة أن يخفض معدل الضريبة، وحسن توزيع الضرائب، ورفع المظالم، ونظم خدمة موظفي الحكومة، وحرر تجارة الغلال، وشق 450 ميلاً من الطرق؛ وكانت هذه الطرق جزءاً من برنامج إنشاء الطرق الذي ينظم البلاد كلها (والذي بدأته الحكومة الفرنسية في 1732) والذي ندين له بالفضل في هذه الطرق الجميلة ذات الأشجار الوارفة الغلال التي تنتشر اليوم في ربوع فرنسا. وكانت الطرق قبل طورجو تشق بالسخرة، فألغى السخرة في ليموج، ودفع أجر العمال من ضريبة عامة على الكافة. وأقنع الفلاحين بأن يزرعوا البطاطس غذاء للإنسان لا للحيوان فقط. وقد ظفر بإعجاب الناس جميعاً لما اتخذ من تدابير فعالة لإغاثة الشعب في فترات المجاعة التي امتدت بين سنتي 1768 و1772.

وفي عشرين يوليو 1774 دعاه الملك الجديد للانضمام إلى الحكومة المركزية واغتبطت فرنسا كلها وتطلعت إليه منقذاً مرجواً للدولة المتداعية.

الشيوعيون

بينما كان الفيزوقراطيون يرسون الأساس النظري للرأسمالية، كان موريللي ومابلي، ولانجيه، يشرحون الاشتراكية والشيوعية. فقد عزت الطبقات المتعلمة نفسها بمتع هذه الأرض بعد أن تخلت عن آمالها في السماء: فتجاهل الأغنياء منهم المحظورات الدينية، وأطلقوا العنان لرغباتهم في الثروة والقوة والنساء والخمر والفن؛ ووجد العامة عزاء في عالم مثالي تقسم فيه خيرات الأرض بالقسط بين البسطاء والموهوبين، وبين الضعفاء والأقوياء.

ولم تقم في القرن الثامن عشر حركة اشتراكية، ولا جماعة محددة مثل جماعة المسوين في إنجلترا كروميل، أو يسوعي برجوازي الشيوعيين. وأقتصر الأمر على أفراد متفرقين أضافوا أصواتهم إلى صيحة متصاعدة ستصبح في "جراكوس" بابوف عاملاً في الثورة الفرنسية. ونذكر القراء بأن الكاهن الشكوكي جان ميزلييه طالب في كتابه "الميثاق" الذي أصدره عام 1733 بمجتمع شيوعي يقسم فيه الناتج القومي بالتساوي بين الناس ويتزاوج فيه الرجال والنساء وينفصلون كما يشاءون، ثم ألمع إلى أنه مما يعين في هذا اليباب أن يقتل بعض الملوك(55). وبعدة سبعة أعوام من طبع هذه الدعوة ندد روسو في "مقاله" الثاني (1755) بالملكية الخاصة لأنها أس جميع شرور الحضارة، ولكنه حتى في صيحته أنكر أي برنامج اشتراكي. وما وافى عام 1762 حتى كان أبطال كتبه أفراداً ينعمون بالثروة.

وفي نفس العام الذي صدر فيه كتاب روسو "مقال في أصل عدم المساواة" ظهر كتاب عنوانه "ناموس الطبيعة" لراديكالي مغمور لا نكاد نعرف عنه شيئاً غير اسمه الأخير، إذا استثنينا كتبه، وهو موريللي Morelly. ولا نخلط بينه وبين أندريه موريلليه Morellet الذي التقينا به مشاركاً في تحرير الموسوعة. وقد بدأ موريللي بإيقاظ الإفهام بكتابه "رسالة في فضائل ملك عظيم" (1751) الذي صور ملكاً شيوعياً. وفي 1753 أضفى على حلمه الشاعرية بقصيدته "غرق الجز الطافية، أو الملحمة الملكية". وهنا نرى الملك الطيب، ربما بعد أن قرأ الكاتب مقال روسو الأول، يعود بشعبه إلى حياة بسيطة فطرية. وكان خير عرض للمثال الشيوعي وأكمله كتاب موريللي "ناموس الطبيعة" (1755-60) وقد نسبه الكثيرون إلى ديدرو، وصرح المركيز دارجانسون بأنه يفوق كتاب مونتسكو "روح الشرائع" (1748). وقد ذهب موريللي، كما ذهب روسو، إلى أن الإنسان خير بطبعه وإلى أن غرائزه الاجتماعية تحمله على السلوك الطيب، وأن القوانين أفسدته بتقرير الملكية الخاصة وحمايتها. وامتدح المسيحية لميلها إلى الشيوعية، وأسف لأن الكنيسة أقرت الملكية، فإقامة الملكية الخاصة أورثت البشر "الغرور، والحمق، والكبرياء، والجشع، واللؤم، والنفاق، والشر..وكل شيء شرير ينتهي إلى هذا العنصر الخفي المؤذي، وأعني به شهوة التملك(56)". ثم ينتهي السفسطائيون إلى أن طبيعة البشر تجعل الشيوعية ضرباً من المحال، في حين إن الذي حدث في التتابع الواقعي للأحداث هو أن انتهاك الشيوعية هو الذي أفسد الفضائل الفطرية للإنسان. ولولا الجشع والأنانية، والمزاحمات، والأحقاد التي ولدتها الملكية الخاصة لعاش الناس معاً في أخوة مسالمة متعاونة.

ولابد للبدء في إعادة البناء من إزالة العوائق من طريق التعايش الحر في الأخلاق والسياسة "فتعطى كامل الحرية للعقلاء من الناس في مهاجمة الأخطاء والأهوال التي تدعم نزعة التملك" وينبغي أن يؤخذ الأطفال من آبائهم وهم في السادسة وينشئوا تنشئة مشتركة بواسطة الدول حتى يبلغوا السادسة عشرة، وعندها يعادون إلى ذويهم بعد أن تكون المدارس قد دربتهم على التفكير بلغة الصالح العام لا التملك الشخصي. وينبغي ألا يسمح بالملكية الخاصة إلا في أخص خصائص الحاجات الشخصية "فتجمع كل النواتج في مخازن عامة لتوزع على كل المواطنين لسد حاجات الحياة"(57). ويجب أن يعمل كل قادر على العمل، فيساعد في المزارع من الحادية والعشرين إلى الخامسة والعشرين. ويجب ألا يكون هناك طبقة عاطلة، ولكن لكل فرد الحرية في أن يعتز في الأربعين على أن تدير الدولة رعايته في شيخوخته. وتنقسم الأمة إلى مدن حدائق لها مركز للبيع والشراء وميدان عام. ويحكم كل جماعة مجلس من الآباء الذين تزيد أعمارهم على الخمسين، وتنتخب هذه المجال مجلس شيوخ أعلى يحكمها كلها وينسق فيما بينها.

ولعل موريللي بخس قدر النزعة الفردية الفطرية في البشر؛ وقوة غريزة الاقتناء، ومقاومة التعطش للحرية والاستبداد اللازم للإبقاء على حالة من مساواة غير طبيعية ومع ذلك كان تأثيره كبيراً. فصرح بابيف بأنه تشرب شيوعيته من كتاب موريللي "ناموس الطبعة" والراجح أن شارل فورييه استمد من نفس المصدر خطة المستعمرات التعاونية (الكتائبية Phalansteries) (1808) التي أفضت بدورها إلى تجارب شيوعية من أمثال مزرعة بروك (1841). وفي "ناموس" موريللي نلتقي بذلك المبدأ الشهير الذي انحدر ليلهم الثورة الروسية وينكبها، ونعني به "من كل حسب قدرتها، ولكل حسب حاجاته".(58)

أما جماعة الفلاسفة فقد رفضوا بوجه عام نظام موريللي باعتباره غير عملي، وقبلوا الملكية الخاصة نتيجة لا مناص منها للطبيعة البشرية. ولكن في 1763 وجد موريللي حليفاً قوياً في سيمون-هنري لانجيه، وهو محامٍ هاجم القانون والملكية جميعاً. فبعد أن شطب اسم لانجيه من جدول المحامين نشر (1777-92) "حوليات سياسية" وهي مجلة أطلق فيها وابلاً من النيران على الشرور الاجتماعية. فالقانون في رأيه قد أصبح أداة لتحليل وصيانة المقتنيات التي كسبت أصلاً بالقهر أو الغش: "إن القوانين يُقصد بها أولاً تأمين الملكية. وبما أنه يمكن الآن أن يؤخذ من الغني أكثر مما يؤخذ من الفقير، فمن الواضح أنها ضمان يعطى للأغنياء ضد الفقراء. وقد يعسر علينا أن نصدق-وإن كان هذا يمكن بيانه بجلاء-أن القوانين من بعض نواحيها مؤامرة على الكثرة العظمى من البشر(59).

ويترتب على ذلك أن حرباً طبقية لا مندوحة عنها تستعر بين أصحاب الملكية أو رأس المال، وبين العمال الذين لا بد لهم من بيع كدحهم لأرباب العمل الملاك، منافسين في ذلك بعضهم بعضاً وقد أحتقر لانجيه دعاوى الفيزوقراطيين بأن تحرير الاقتصاد من سيطرة الدولة سيجلب الرخاء تلقائياً، لأنه على النقيض من ذلك يعجل بتركز الثروة، فترتفع الأسعار، وتتخلف الأجور. وسيطرة الأغنياء على الأسعار من شأنها الإبقاء على عبودية الأجير حتى بعد "إلغاء" الرق قانوناً، "فكل ما جنوه (أي العبيد السابقون) هو العذاب الدائم من خوف الموت جوعاً، وهو خطب أعفي منه على الأقل أسلافهم ممن تردوا في هذا الدرك الأسفل للإنسانية"(60). فقد كان العبيد يسكنون ويطعمون على مدار السنة، أما في الاقتصاد غير المقيد فإن رب العمل حر في أن يقذف بالعمال في مهاوي التسول إذا لم يستطع جني الربح من ورائهم، ثم يجعل التسول جريمة.وفي رأي لانجيه أنه لا دواء لهذا كله إلا الثورة الشيوعية. على أنه لم يوصي بها لجيله، لأنها ستفضي على الأرجح إلى الفوضى لا إلى العدالة؛ ولكنه أحس بأن الأحوال المواتية لثورة كهذه آخذة في التشكل السريع؛ يقول:

"لم يحدث قط أن كان الفقر أعم ولا أشد فتكاً بالطبقة التي تبلى به، ولعل أوربا لم تكن في يوم من الأيام أقرب منها اليوم إلى الانقلاب التام وسط هذا الرخاء الظاهر...وقد بلغنا بالضبط، بطريق عكسي تماماً، تلك النقطة التي بلغتها إيطاليا حين أغرقتها حرب العبيد (التي قادها سبارتاكوس) في حمام من الدم، وحملت النيران والتقتيل إلى أبواب عاصمة الدنيا ذاتها"(60).

وقد نشبت الثورة وهو حي بعد رغم نصيحته وقذفت به إلى الجولتين (1794).

وأما الأبيه جابييل بونودمايلي نو فقد احتفظ برأسه لأنه مات قبل الثورة بأربع سنوات وكان سليل أسرة كريمة في جرينوبل، وأحد أخوته جان بونو دمايلي الذي عاش روسو معه في 1740، والأخر كوندياك الذي أثار ضجة بأبحاثه السيكولوجية. ثم قريب مشهور آخر هو الكردينال دتنسان، حاول أن يجعل من جابرييل قسيساً، ولكنه لم يجاوز مراتب الكهانة الصغرى، واختلف إلى صالون مدام تنسان في باريس، ثم استسلم لإغراء الفلسفة. وفي 1748 تشاجر مع الكردينال، وأنصرف إلى الدرس في خلوته، وبعدها كانت أهم أحداث حياته هي كتبه، وكلها ذاع صيته في الماضي.

وقد أفاد من الأعوام السبعة التي قضاها في باريس ولمرساي علماً بالسياسة، والعلاقات الدولية؛ والطبيعة البشرية. وأسفر هذا كله عن مزيج فذ جمع بين التطلعات الاشتراكية والشكوك المتشائمة. وقد أصر مايلي على أن المعايير الخلقية التي تطبق على الأفراد يجب أن تطبق على سياسة الدول (وهو عكس ما قال به مكيافللي)، ولكنه أدرك أن هذا يتطلب نظاماً من القانون الدولي يمكن فرضه. وكان كفولتير وموريللي موحداً بغير المسيحية، ولكنه آمن بأن لا سبيل إلى صيانة الفضيلة إلا بديانة قوامها العقاب والثواب فوق الطبيعيين، لأن أكثر الناس "قضي عليهم بطفولة العقل الدائمة"(62). وقد آثر أخلاقيات الرواقيين على أخلاقيات المسيح، والجمهوريات الإغريقية على الملكيات الحديثة. واتفق مع موريللي على أن رذائل البشر مبعثها الملكية لا الطبيعة؛ فهي "أس جميع البلايا التي نكب بها المجتمع(63)". "وقد تربعت شهوة الغني على عرش متضخم في قلب الإنسان، فخنقت كل ما فيه من حب العدل والإنصاف(64)"، وكلما ازدادت التفرقة بين حظوظ البشر تأججت هذه الشهوة. فالحسد، والطمع، والفوارق الطبقية، تسمم ما في طبيعة البشر من مودة فطرية. فيستكثر الأغنياء من أسباب الترف والبذخ، ويتردى الفقراء في مهاوي الذل والهوان. فأي خير في الحرية السياسية ما دامت العبودية الاقتصادية قائمة؟ "إن الحرية التي يحسب كل أوربي أنه يستمتع بها ليست سوى حريته في أن يترك عبوديته لسيد ويسلم نفسه إلى سيد آخر(65)".

وكم يكون البشر أسعد وأهنأ إذا اختفت ألفاظ "هذا ملكي" "وذلك ملكك". وزعم مايلي أن الهنود الحمر كانوا أهنأ بالاً في ظل شيوعية اليسوعيين في برجواي من فرنسيي جيله، وأن السويديين والسويسريين في ذلك الجيل، الذين تخلوا عن الجري وراء المجد والثراء قانعين برخاء معتدل، هم أسعد حالاً من الإنجليز الذين يغزون المستعمرات والتجارة. وذهب إلى أن الأخلاق في السويد تحظى بمقام أعظم من الشهرة، وأن القناعة أثمن في نظر القوم من الثراء الطائل(66). أن الذين يملكون الحرية الحقيقية هم أولئك الذين لا تهفو نفوسهم بالغنى. ولن تتوافر السعادة في مجتمع كذلك الذي يدعو إليه الفيزيوقراطيون، لأن الناس ستثيرهم على الدوام الرغبة في أن يتساووا في مقتنياتهم مع من يفوقونهم ثراء.

وهكذا خلص ما يلي إلى أن الشيوعية هي النظام الاجتماعي والوحيد الذي يدعم الفضيلة والسعادة. "أقيموا اشتراكية السلع، وعندها لن يكون أيسر من إقرار المساواة بين أحوال العيش، وإرساء رفاهية الإنسان على هذا الأساس المزجوج."(67) ولكن كيف السبيل إلى إقامة شيوعية كهذه والناس على مثل هذا الفساد؟ هنا يرفع الشكوكي في مابلي رأسه، وسيلم في قنوط بأنه ليس في قدرة أي قوة بشرية اليوم أن تعيد إقرار المساواة دون أن تحدث من ضروب الخلل والاضطراب ما يفوق تلك التي تحاول تفاديها(68). فالديمقراطية رائعة نظرياً، أما عملياً فهي تفشل بسبب جهل الجماهير وحبها للاقتناء(69). قصارى ما نستطيعه هو أن نعرض الشيوعية مثلاً أعلى ينبغي أن تسعى إليه الحضارة شيئاً فشيئاً في حذر، وتغير ببطء عادات الإنسان الحديث من التنافس إلى التعاون. ويجب ألا يكون هدفنا الاستكثار من الثروة، ولا حتى الاستكثار من السعادة، بل إنماء الفضيلة، فالفضيلة وحدها هي مجلبة السعادة. وأول خطوة في سبيل الحصول على حكومة أفضل هي دعوة مجلس طبقات الأمة، الذي ينبغي أن يضع دستوراً يخول السلطة العليا لجمعية تشريعية (وهذا ما تم. في 1789-91). وينبغي تحديد مساحة الأطيان التي يمتلكها الفرد، وتقسيم الضياع الواسعة للاستكثار من ملكية الفلاحين للأرض، ووضع القيود الصارمة على إرث الثروة، وإلغاء " الفنون عديمة الجدوى" كالتصوير والنحت.

وقد تبنت الثورة الفرنسية كثيراً من هذه المقترحات. ونشرت مجموعة أعمال مابلي في 1789، ثم في 1792، ثم 1793، ورتب كاتب نشر عقب الثورة هلفتيوس، ومابلي، وروسو، وفولتير، وفرانكلن، بهذا الترتيب بوصفهم أكبر ملهمي ذلك الحدث، وقديسي الدين الجديد الحقيقيين(70).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الملك

أما لويس الخامس عشر فقد ابتسم سخرية من هؤلاء الشيوعيين-على قدر علمه بهم-لأنهم قوم حالمون لا وزن لهم، وراح يتنقل في ود من فراش إلى فراش. وأما البلاط فواصل قماره المستهتر وزهوه المسرف، من ذلك أن أمير سوبيز أنفق 200.000 جنيه على توفير أسباب اللهو للملك في يوم واحد، وكان كل انتقال لجلالته إلى أحد مقاره الريفية يكلف دافعي الضرائب 100.000 جنيه. وكان خمسون من كبار القوم يملكون "أوتيلات" أي قصوراً في فرساي أو باريس؛ وكان عشرة آلاف خادم يبذلون العرق في كبرياء وفخر لتلبية حاجات النبلاء؛ والأحبار، والخليلات والأسرة المالكة وإشباع غرورهم. وكان للويس نفسه ثلاثة آلاف جواد و217 مركبة، و150 غلام يرتدون حللاً من المخمل والذهب، وثلاثون طبيباً يقصدونه وينظفون أمعاءه ويسممونه. وقد أنفق البيت المالك في سنة واحدة (سنة 1751) 68.000.000 جنيه-وهو ما يقرب ربع إيراد الحكومة(71). وشكا الشعب ولكن أكثر شكاواهم كانت غفلاً من التوقيع، وفي كل عام كشفت عشرات النشرات والملصقات، وأغاني الهجو، عن كراهية الملك. وقد جاء في أحد الكتيبات "إذا كنت يا لويس مرة موضع حبنا فما ذلك إلا لأن رذائلك كانت لا تزال مجهولة لنا. وفي هذه المملكة، التي نضبت من أهلها بسببك، وأسلمت نهبها للمشعوذين الذين يحكمون معك، إن بقي فرنسيون، فإنما يبقون ليكرهوك(72)".

فكيف انقلب لويس المحبوب ملكاً محتقراً مهاناً؟ أننا لو صرفنا النظر عن إسرافه، وإهماله، وفواحشه، لن نجده في ذاته بالسوء الذي صوره به التاريخ الحقود. كان في بنيته رجلاً وسيماً، طويلاً، قوياً، قادراً على الصيد طوال المساء واللهو مع النساء في الليل. أفسده معلموه، فأفهمه فيلرو أن فرنسا كلها ملكه بالوراثة والحق الإلهي. وقد خفف من كبرياء الملكية وشهوتها الظل الذي خلفه لويس الرابع عشر وتقاليده، إذ ألح على الملك الحدث إلحاح الهاجس، وأورثه الجبن، إحساسه بالعجز عن الارتفاع إلى ذلك المستوى الجليل من الفخامة وقوة الإرادة؛ فأصبح عاجزاً عن البت في الأمور، وترك مهمة اتخاذ القرارات لوزرائه مغتبطاً. وأتاحت له قراءاته وهو غلام، وذاكرته القوية، بعض الإلمام بالتاريخ، واكتسب مع الوقت معرفة لا يستهان بها بالشؤون الأوربية؛ واحتفظ سنوات كثيرة بمراسلاته الدبلوماسية السرية. كان ذكياً في تراخٍ وفتور، يحكم حكماً شديداً ولا رحمة فيه على أخلاق من أحاط به من الرجال والنساء؛ في وسعه أن يجاري خير العقول في بلاطه حديثاً ونكته، ولكن يبدو أنه قبل حتى أسخف العقائد اللاهوتية التي تبثها فيه فلوري وهرصي. وبات الدين عنده أشبه بالحمى المتقطعة إذ راح يتذبذب بين التقوى والفجور. فكان يعاني من خوف الموت والجحيم، ولكنه يقامر على غفران خطاياه وهو في النزع الأخير. وقد أوقف اضطهاد الجانسنيين، وإذ نستحضر تاريخ تلك الحقبة نتبين أن جماعة الفلاسفة استمتعوا في حكمه بين الحين والحين بقدر كبير من التسامح.

كان يقسو أحياناً، ولكنه في الأكثر رحيم. تعلمت بومبادور ودورباري أن تحباه من أجل شخصه كما أحبتاه من أجل السلطة التي منحهما إياها. وكانت برودة عاطفته وتحفظه جزءً من حياته وانعدام ثقته بنفسه، ولكن وراء ذلك التحفظ عناصر من الحنان والرقة أعرب عنها خاصة في محبته لبناته، وقد أحببنه أباً منحهن كل شيء إلا القدوة الحسنة. وكان في سلوكه عموماً تلطف وكياسة ولكنه كان قاسي الفؤاد أحياناً، ويتكلم في هدوء مفرط على أمراض أفراد حاشيته أو موتهم الوشيك. وقد نسي تماماً أن يسلك مسلك الرجل المهذب وهو يقيل فجأة دارجانسون، وموريا، وشوازيل؛ ولكن هذا أيضاً ربما كان نتيجة عدم ثقته بنفسه. فقد شق عليه أن يقول لا لإنسان في وجهه. ومع ذلك كان قادراً على أن يواجه الخطر بشجاعة كما كان يفعل في الصيد أو في فونتنوا.

وكان على ظهوره بمظهر الوقار أمام الناس لطيفاً حلو العشرة بين أخصائه، يعد لهم القهوة بيديه الكريمتين. وقد راعى قواعد السلوك المعقدة التي أرساها لويس الرابع عشر للملكية ولكنه أنكر الشكلية التي فرضتها على حياته. وكثيراً ما كان يستيقظ قبل تقليد "الاستيقاظ" المقرر رسمياً ويوقد ناره بنفسه لكي لا يوقظ خدمه، ويغلب عليه أن يلبث في فراشه حتى الحادية عشرة. أما في الليل، فإنه بعد أن يحتفل رسمياً بذهابه إلى فراشه، قد يتسلل ليلهو بمحظيته أو حتى ليتفقد مدينة فرساي متنكراً وكان يلوذ بالصيد من مراسم البلاط المتكلفة، وفي الأيام التي لا يهرب فيها للصيد كانت بطانته تقول "أن الملك لا يعمل اليوم شيئاً(73)". وكان يعرف عن كلاب صيده أكثر مما يعرف عن وزرائه؛ إذ رأى أن في قدرة وزرائه أن يعنوا بشؤون الدولة خيراً منه، فلما نبه إلى أن فرنسا في طريقها إلى الإفلاس الثورة؛ عزى نفسه بهذه الفكرة "ستسير الأمور على هذه الوتيرة حتى ينتهي أجلي".

أما من الناحية الجنسية فقد كان وحشاً فاسقاً. ولقد تغتفر له اتخاذه المحظية التي اتخذها حين ضاقت الملكة ذرعاً بفحولته، وقد نفهم اقتناءه ببومبادور؛ وحساسيته لجمال المرأة وظرفها وحيويتها المشرقة، ولكن قل في تاريخ الملوك ما أشبه حقارة تنقله بين الفتيات اللاتي أعددهن لفراشه في البارك أو سير واحدة تلو أخرى. وكان مجيء دوياري بالقياس إلى هذا رجوعاً إلى الحالة السوية.

دوباري

بدأت حياتها في قرية من قرى شمبانيا تدعى فوكولير حوالي 1743 باسم ماري-جان بيكي، ابنة الآنسة آن بيكي، التي تبدو أنها لم تمط اللثام قط عن شخصية أبي الفتاة. ومثل هذه الخفايا كانت مألوفة بين الطبقات الدنيا. وفي 1748 انتقلت آن إلى باريس وأصبحت طاهية للمسيو دومونسيه الذي رتب إلحاق جان، وهي في السابعة، تلميذة داخلية بدير سانت-آن للراهبات. هناك مكثت الفتاة الجميلة تسع سنوات، يلوح أنها لم تعوزها فيها السعادة؛ وقد احتفظت بذكريات حلوة عن هذا الدير المنظم، وتلقت فيه تعليماً في القراءة والكتابة والتطريز، واحتفظت طوال حياتها يتدين بسيط ولا يتشكك، وبإجلال الراهبات والقساوسة، وكان إيواؤها للقساوسة المطاردين في الثورة من العوامل التي أفضت بها إلى الجيلوتين(75).

فلما خرجت من مدرسة الدير اتخذت اسم صديق أمها الجديد، المسيو رانسون، لقباً لها أرسلت إلى حلاق للتعلم فنه، ولكن هذا الفن اشتمل على الإغواء، وجان-الجميلة جمالاً لا يقاوم-لم تعرف كيف تقاوم. ونقلتها أمها وصيفة لمدام ولاجارد، ولكن ضيوف هذه السيدة غالوا في الاهتمام بجان، فما لبثت أن طردت. واجتذب دكان القبعات الذي التحقت به بائعة عدداً غير عادي من الزبائن الذكور. فأصبحت خليلة اختص بها سلسلة من الفجرة. وفي 1763 تلقاها جان دوباري؛ وهو مقامر كان يجلب النساء للفاسقين من البلاء. وخدمت هذا القواد-متخذة اسم جان دفوبرنيه الأنيق-خمس سنوات مضيفة في حفلاته، وأضافت شيئا من التهذيب الصقل لمفاتنها. ثم رأى دوياري أنه هو أيضاً، كمدام بواسون، قد اكتفش "طبقاً شهياً للملك". وبيان ذلك أن الملك الطيب ستانسلاس مات عام 1766 في اللورين فأصبح بذلك إقليماً من إقليم فرنسا، وانهارت صحة ابنته ماري (ملكة فرنسا التقية المتواضعة) انهياراً سريعاً بعد موته لأن حبهما المتبادل كان سنداً لها في حياة العبودية الطويلة التي عاشتها مع زوج خائن العهود الزوجية، في بيئة غريبة. وفي 24 يونيو 1768 لفظت أنفاسها الأخيرة فبكاها الجميع حتى الملك. وقد علل بناته بالأمل في أنه لن يتخذ المزيد من الخليلات. ولكن في شهر يوليو رأى جان التي كانت سائرة بالصدفة على غير هدى في قصر فرساي في براءة كبراءة لابومبادور وهي راكبة في أرض الصيد. "سينار" قبل أربع وعشرين سنة.

وراعه فيها جمالها الشهواني ومرحها وطبعها اللعوب. فها هنا امرأة تستطيع أن توفر له اللهو من جديد وتدفئ قلبه البارد الحزين، فأرسل إليها تابعه لبيل. ولم يتردد (الكونت) دوباري في التفريط فيها لقاء مقابل ملكي. ورغبة في تهدئة المظاهر أصر لويس أن تتزوج الفتاة. فزوجها الكونت بسرعة لأخيه جيوم، الكونت دوباري الحقيقي، المفتقر، بعد أم استقدمه لهذا الغرض من لفنياك بغسقونية. وحيته تحية الوداع عقب حفل الزفاف مباشرة (أول سبتمبر 1768)، ولم تقع عليه عيناها بعد ذلك قط. وكوفئ جيوم بمعاش قدره 5.000 جنيه، فاتخذ له خليلة واصطحبها إلى لفنياك حيث عاشرها خمسة وعشرين عاماً، ثم تزوجها حين علم أن زوجته أعدمت بالجلوتين.

ولحقت جان، التي اتخذت الآن اسم الكونتس دوباري، بالملك سراً في كومبيين، ثم علانية في فونتنيلو. وسأل الدوق رشيليو لويس ماذا يرى في هذه اللعبة الجديدة، فأجاب جلالته "لا أكثر من أنها تنسني أنني سأبلغ الستين بعد قليل.(76)" وريعت بطانته. فقد كان في استطاعتهم أن يفهموا في غير غباء حاجة الملك إلى خليلة، أما أن يأخذ امرأة عرفها العديدون منهم مومساً، ثم يرفعها إلى مقام يعلو على المركيزات والدوقات!! وكان شوازيل قد منى نفسه بأن يقدم أخته للملك (خليلة تحمل لقباً)، فراحت هذه النبيلة المرفوضة تحرض أخاها-الذي كان الحذر من طبعه-على العداء الصريح لهذه الدعية الجميلة، ولم تغتفر له دوباري فعلته قط.

وسرعان ما تقلبت الخليلة الجديدة في الذهب والجواهر, وخلع عليها الملك معاشاً قدره 130.000 فرنك بالإضافة إلى راتب سنوي قدره 150.000 فرنك، تفرض على مدينة باريس وولاية برجندية. وهرع الجواهريون إلى تزويدها بالخواتم والعقود والأساور والتيجان وغيرها من أسباب الزينة المتألقة التي اقتضوا الملك ثمنا لها 2.000.000 فرنك في أربع سنوات. وبلغت جملة ما تكلفته الخزانة في تلك السنوات الأربع 6.000.375 جنيهاً(77). وسمع أهل باريس بجمالها المتألق، وحزنوا لأن بومبادور جديدة أقبلت لتبتلع ضرائبهم.

وفي 22 إبريل 1769 قدمت رسمياً في البلاط، وطلعت على أفراده في شعلة متوهجة من الحلي والجواهر وهي تتكئ على ذراع ريشليو. وأعجب الرجال بمفاتنها، أما النساء فاستقبلنها بما يجرؤن عليه من فتور. واحتملت هذه الإهانات في هدوء، وأرضت بعض الحاشية بتواضع سلوكها والضحك الرخيم الذي كانت تشرح به صدر الملك. ولم تبد أي ضغينة حتى لأعدائها (باستثناء شوازيل)، واكتسبت الرضى باستمالة جلالته لإصدار قرارات عفواً أكثر مما كان يصدر من قبل. وشيئاً فشيئاً جمعت حولها رجالاً ونساء من النبلاء الذين تشفعوا بها عند الملك وقد حرصت على رعاية أقاربها كما فعلت بومبادور من قبل، فاشترت أملاكاً ولقباً لأمها، وحصلت على معاشها لخالتها وأبناء خالتها، ثم دفعت ديون جان دوباريس، وخلفت عليه مالا كثيراً، وأشرت له فيلا أنيقة في لبل-جرودان. وظفرت لنفسها من الملك بالشاتو لوفسيين الذي كان أمير لامبال وأميرتها يشغلانه، على حافة الحديقة الملكية في مارلي. واستخدمت أعظم معماري الجيل، جاك-انج جابرييل، ليعيد بناء القصر على هواها، وصانع الأثاث المدقق بيير جوتيير ليزخرفه بأثاث وتحف فنية بلغ ثمنها 756.000 جنيه.

وكانت تعوزها خلفية التعليم والاختلاط التي جعلت من بومبادور راعية مختارة ذواقة للأدب والفلسفة والفن. بيد أنها جمعت عدداً كبيراً من الكتب الأنيقة التجليد، من هومر إلى كتب الفحش، ومن تأملات بسكال الورعة إلى رسوم فراجونار البذيئة. وفي 1773 أرسلت تحيتها وصورتها إلى فولتير مع قلبه على كل وجنة وأجاب بأبيات فيها ذكاء شعره المعهود: "ماذا! أقبلتان في ختام حياتي! تتفضلين بأن ترسليه لي! قبلتان! إن واحدة تكفي وزيادة، أي إيجيريا المعبودة، لأنني سأموت فرحاً في القبلة الأولى(78)".

وطلبت إلى لويس الخامس عشر أن يسمح لفولتير بالعودة إلى باريس فرفض، وكان عليها أن تقنع بشراء تشكيلة من الساعات من فرنيه وفي 1778. حين أتى الإقطاعي العجوز إلى باريس ليموت، كانت من بين الكثيرين الذين صعدوا سلم بينه في شارع بون لتقدم له احترامها. وقد فتن بزيارتها، وختمها بالنهوض من فراشه ليصحبها إلى الباب. وفي نزولها التقت بجاك بيير بريسو، رجل الثورة المستقبل، وكان يرجو أن يقدم إلى فولتير مخطوطة في القانون الجنائي، وحاول الدخول إليه بالأمس ففشل، وكان يعيد الكرة الآن، فقادته عوداً إلى باب فولتير ورتبت له أن يدخل. وقد استعاد في مذكراته "ابتسامتها المفعمة دفئاً ولطفاً(79)".

لقد كانت طيبة القلب سمحة النفس ما في ذلك ريب. احتملت دون رد عداء الأسرة المالكة ورفض ماري انطوانيت التحدث إليها. وكان شوازيل دون غيره هو الذي لم تستطع الصفح عنه لأنه لم ين عن محاولة طردها من البلاط. وسرعان ما وضح أن واحداً منهما لابد أن يرحل.

شوازيل

كان سليل أسرة لورينية عريقة، وأصبح في مطلع حياته الكونت دستانفيل، وقد ظفر بالتشريف لبلائه في حرب الوراثة النمساوية. وفي 1750 حين كان في الحادية والثلاثين استعاد لأسراته ثراءها بزواجه من وارثة غنية. وسرعان ما ظفر بمكان مرموق في البلاط بفضل ذهنه الوقاد وذكائه المرح، ولكنه عطل رقيه بمعارضته لبومبادور. وفي 1752 نقل ولاءه فأكتسب عرفانها بصنيعه حين أفشى لها سر مؤامرة دبرت لطردها. فحصلت له على وظيفة سفير في روما ثم فينا. وفي 1758 دعي إلى باريس ليحل محل برنيس وزيراً للخارجية، ورقي دوقاً ونبيلاً من نبلاء فرنسا. وفي 1761 نقل وزارته هذه لأخيه سيزار، ولكنه واصل توجيه السياسة الخارجية، أما هو فاتخذ لنفسه وزارتي الحربية والبحرية. وتعاظم سلطانه حتى كان يتغلب أحياناً على الملك ويخيفه(80). وقد أعاد بناء الجيش، والبحرية، وقلل من المضاربة والفساد في الحربية وفي تموين الجيش، وأعاد النظام إلى صفوف الجيش، وأحل ذوي الكفايات من غير حملة الألقاب محل حملتها ممن شاخوا في سلاح الضباط. وطور المستعمرات الفرنسية في جزر الهند الغربية، وأضاف كورسيكا إلى ممتلكات التاج الفرنسي، وتعاطف مع جماعة الفلاسفة، ودافع عن الموسوعة، وأيد طرد اليسوعيين (1764) وأغضى عن إعادة تنظيم الهيجونوت في فرنسا. وقد حمى أمن فولتير في فرنيه، وأيد حملته دفاعاً عن أسرة كالاس، وظفر من ديدرو بمديح قال فيه "أي شوازيل العظيم، إنك لتسهر على مقدرات الوطن(81)".


ويمكن القول على الجملة إن سياسته أنقذت فرنسا إلى حد معتدل من الكارثة التي جرها إليها الحلف النمساوي المنكوس. فخفض الإعانات المالية التي كانت تدفعها عادة إلى السويد، وسويسرا، والدنمرك، وبعض الأمراء الألمان. وشجع الجهود التي بذلها شارل الثالث ليدخل أسبانيا إلى حظيرة القرن الثامن عشر، وحاول أن يعزز قوة فرنسا وأسبانيا بميثاق الأسرة (1761) الذي أبرمه الملكان البوربونيان. وقد تعثرت الخطة، ولكن شوازيل فاوض إنجلترا على صلح بشروط تفضل كثيراً ما كان الموقف العسكر يبرره. وقد تنبأ بثورة المستعمرات الإنجليزية في أمريكا، ودعم مركز فرنسا في سان دومنيج والمارتنيك، وجواديلوب، وغيانا الفرنسية، أملاً في إرساء سلطان استعماري جديد يعوض فرنسا عن فقد كندا. وقد تبنى النابليونان هذه السياسة في 1803 و1863.

ويجب أن نضع مقابل هذه المنجزات إخفاقه في وقف التغلغل الروسي في بولندا وإصراره على قيادة فرنسا وأسبانيا في أعمال عدائية مجددة مع إنجلترا. وكان لويس قد سأم الحرب فاستمع بذهن مفتوح لأولئك الذين يعملون على إسقاط شوازيل. وقد فتن الوزير الأريب الكثيرين بمجاملته للبلاط، واستضافته المسرفة للأصدقاء، وسعة حيلته وجهاده في خدمة فرنسا، ولكنه قوى المنافسات فأحالها عداوات بنقده الصريح وحديثه المستهتر. وأتاحت معارضته لدوباري معارضة لا هوادة فيها لأعدائه سبيلاً إلى أذن الملك. وأيد ريشليو-الذي لا يكل-دوباري. وكان ابن أخيه الدوق ديجون يتحرق شوقاً للحلول محل شوازيل رئيساً للحكومة. ونزلت الأسرة المالكة التي أنكرت نشاط شوازيل ضد الشيوعيين إلى استعمال الخليلة المزدراة أداة لعزل الوزير العديم التقوى.

وطلب إليه لويس غير مرة أن يتجنب الحرب مع إنجلترا ومع دوباري. ولكن شوازيل واصل الإئتمار على الحرب خفية، وازدراء الخليلة جهراً. وأخيراً استجمعت كل قواها ضده وفي 24 ديسمبر 1770 أرسل الملك المغيظ رسالة مقتضبة إلى شوازيل جاء فيها "يا لبن عمي، إن عدم رضائي عن خدماتك يضطرني إلى نفيك إلى شانتلوب حيث يتعين عليك أن ترحل في ظرف أربع وعشرين ساعة". وتحدى أكثر الحاشية غيظ الملك بالإعراب عن عطفهم على الوزير المقال بعد أن صدمه هذا الطرد الفجائي لرجل أدى لفرنسا خدمات جليلة. وركب نبلاء كثيرون إلى شانتلوب ليواسوا شوازيل في منفاه. وكان منفى مريحاً لأن ضيعة الدوق كانت تحوي قصراً من أبدع القصور، وحدائق خاصة من أرحب الحدائق في فرنسا؛ ثم إنه كان يقع في تورين غير بعيد من باريس. هنالك عاش شوازيل حياة الأبهة والأناقة، لأن دوباري أقنعت الملك بأن يرسل إليه 300.000 جنيه فوراً وتعهداً بستين ألفاً كل عام. وحزن جماعة الفلاسفة لسقوطه، وبكى الطاعمون على مائدة دولباخ قائلين: "لقد ضاع كل شيء" وقال ديدرو في وصفهم إنهم غرقوا في دموعهم.

تمرد البرلمانات

جاءت بعد شوازيل "حكومة ثلاثية" كان ديجون وزير الخارجية فيها ورينيه نيكولا دمويو مستشاراً، والأبيه جوزيف ماري تريه مراقباً مالياً. وأعطى تريه لدوباري كل ما طلبته من مال، ولكنه فيما عدا ذلك خفض المصروفات تخفيضاً بطولياً. فأوقف استهلاك الديون، وخفض نسبة الفائدة على الديون الحكومية، ووضع الجديد من الضرائب، والفروض، والرسوم وضاعف الرسم الحكومي على النقل الداخلي. وبلغت جملة ما وفره 36.000.000 جنيه، وأضاف 15.000.000 إلى الدخل. والواقع أنه إنما أجل الانهيار المالي بتفليسة مؤقتة ولكن الكثيرين عانوا من تخلف الحكومة في إيفاء ديونها، وضموا أصواتهم لأصوات السخط الذي لم يهدأ. وما لبث العجز أن عاد إلى التفاقم حتى بلغ 40.000.000 جنيه في آخر سنوات الحكم (1774). وكان هذا الذي يبدو اليوم ديناً أهلياً متواضعاً لأمة تتمتع بالاستقرار المالي مبرراً إضافياً لقلق أولئك الذين أقرضوا الحكومة مالاً، والذين سمعوا الآن، بعداء أقل الصيحات المتصاعدة بطلب التغيير.

وكانت أزمة الذروة في العقد الأخير من حكم لويس الخامس عشر هي كفاح وزرائه للحفاظ على سلطة الملك المطلقة ضد تمرد البرلمانات. وهذه البرلمانات (كما رأينا) لم تكن هيئات نيابية أو تشريعية كالبرلمان البريطاني بل غرفاً قضائية تقوم بعمل محاكم الاستئناف في ثلاث عشرة مدينة فرنسية. زد على ذلك أنها ادعت-كما ادعى البرلمان الإنجليزي ضد تشارلز الأول-بأنها تدافع عن "القانون الأساسي" أو التقاليد المقررة لأقاليمهم ضد الاستبدادية الملكية، وإذ كان الوصي فليب دورليان قد أكد حقه في "الاعتراض" أو الاحتجاج على المراسم الملكية أو الوزارية، فإنهم تقدموا خطوة أخرى فطالبوا بألا يصبح أي من هذه المراسيم قانوناً ما لم يوافقوا عليه ويسجلوه.

ولو كانت البرلمانات قد انتخبها الشعب، أو انتخبتها أقلية متعلمة مالكة (كما في بريطانيا) لكان ممكناً أن تكون أداة انتقال إلى الديمقراطية، ولقد كانت إلى حد ما رقيباً صحياً على الحكومة المركزية. ومن ثم فإن الشعب بصفة عامة أيدها في كفاحها ضد الملك. على أنها كانت من أشد القوى محافظة في فرنسا، لأن أعضاءها كلهم تقريباً كانوا من أثرياء المحامين. وأصبح هؤلاء المحامون، بوصفهم "نبلاء الرداء" منغلقين بانغلاق نبلاء السيف، "وقرر البرلمان تلو البرلمان قصر المناصب الجديدة التي تحمل النبالة....على الأسر النبيلة فعلاً(83)". وكان برلمان باريس أكثرها غلواً في المحافظة، وبارى الأكليروس في معارضة حرية الفكر أو النشر؛ وحرم كتب جماعة الفلاسفة بل أحرقها أحياناً. وكان قد انحاز إلى الجانسنية التي أدخلت لاهوتاً كلفنياً في الكنيسة الكاثوليكية. وقد لاحظ فولتير أن برلمان تولوز الجانسني عذب وقتل جان كالاس، وإن برلمان باريس صدق على إعدام لابار، في حين نقضت وزارة شوازيل الحكم على كالاس وحمت الموسوعين. وزاد كرستوف دبومون، رئيس أساقفة باريس، الصراع حدة بين الجانسنيين والكاثوليك التقليديين إذ أصدر أمره إلى الكهنة الخاضعين له بألا يناولوا القربان إلا للأشخاص الذين اعترفوا على يد كاهن غير جانسني.


ومنع برلمان باريس الكهنة من إطاعة هذا الأمر مؤيداً من أكثرية الشعب، واتهم رئيس الأساقفة بأنه يثير انشقاقاً في الكنيسة، واستولى على بعض أملاكه غير الكنسية.وأعتبر مجلس الدولة الملكي هذه الأجزاء مصادرة غير قانونية، وأمر البرلمان بالانسحاب من الخلافات الدينية. فأبى، لا بل وضع "اعتراضات كبرى" (4 مايو 1753) كانت إلى حد ما إرهاصاً بالثورة: فقد قال الأعضاء أنهم يعلنون ولاءهم للملك ولكن "إذا كانت الرعية دين بالطاعة للملوك، فإن هؤلاء يدينون بالطاعة للقوانين(84)". والمعنى الذي تضمنه هذا القول هو أن البرلمان بوصفه حارساً للقانون ومفسراً له، سيقوم بوظيفة المحكمة العليا فوق الملك. وفي 9 مايو أصدر مجلس الدولة أوامر ملكية مخنوقة بنفي معظم أعضاء برلمان باريس من العاصمة. وهبت برلمانات الأقاليم وأهل باريس لمناصرة المنفيين. ولحظ المركيز دارجنسون في ديسمبر أن "الباريسيين في حالة انفعال مكظوم(85)". وأمرت الحكومة جنودها بخفر الشوارع وحماية بيت رئيس الأساقفة لخشيتها من فنتنة شعبية. وفي مارس 1754 كتب دارجنسون يقول "كل الاستعدادات تجري لحرب أهلية(86)". ووضع الكردينال دلاروشفوكو حلاً وسطاً ينقذ ماء الوجه؛ فطلبت الحكومة إلى المنفيين أن يعودوا (7 سبتمبر)، ولكنها أمرت البرلمان والأكليروس أن يكفا عن النزاع. ولكن أحداً لم يطع الأمر، وواصل رئيس أساقفة باريس حملته الجانسنية، وواصلها بعنف حمل لويس على نفيه إلى كونفلانس (3 ديسمبر):وأعلن البرلمان أن المرسوم البابوي الصادر ضد الجانسنيين ليس قانوناً من قوانين الإيمان، وأمر الكهنة بتجاهله. وتذبذبت الحكومة، وأخيراً أمرت البرلمان بقبول المرسوم البابوي (13 ديسمبر 1756) نظراً لحاجتها إلى سلفة من الأكليروس نعينها على خوض حرب السنين السبع.

وأدار الجدل العنيف رؤوساً كثيرة. ففي 5 يناير 1757 هاجم روبير-فرانسوا داميان الملك في أحد شوارع فرساي؛ وطعنه بمطواة كبيرة، ثم لزم مكانه ينتظر القبض عليه. وقال لويس لحراسه المهملين "تحفظوا عليه ولكن لا يؤذه أحد(87)". واتضح أن الجرح غير ذي بال، وقال المهاجم "لم يكن في نيتي قتلك الملك، ولو شئت لقتلته. وإنما فعلت ما فعلت ليمس الله قلب الملك ويؤثر فيه ليعيد الأمور إلى سيرتها الأولى(88)". وفي رسالة أرسلها من سجنه إلى الملك أعاد القول بأن "رئيس أساقفة باريس هو سبب كل هذه الضجة حول الأسرار المقدسة، لأنه أمسكها عمن يريد تناولها(89)". وقال أنه قد أثاره ما سمعه في البرلمان من خطب، "ولو أنني لم أدخل قط داراً للعدالة....لما وصلت إلى هذا المكان قط(90)". وقد هاجته هذه الخطب هياجاً حمله على أن يرسل في طلب طبيب ليقصده، ولكن لم يأتي طبيب، ولو أنه قصد (كما قال) لما هاجم الملك(91). وحاكمته غرفة البرلمان الكبرى، وأدانته، وحكمت عليه، ثم حكمت على أبيه، وأمه، وأخته، بالنفي المؤبد. وعانى داميان ألوان التعذيب التي نص عليها القانون عقاباً لقتله الملوك: فمزق لحمه بكماشات محمية، ورث عليه الرصاص المغلي، ومزقت أوصاله جياد أربعة (28 مارس 1757). ودفعت نبيلات النساء المال نظير تمكينهن من مشاهدة هذه العملية من مواقع مواتية. أما الملك فأعرب عن اشمئزازه من ضروب التعذيب هذه وأرسل المعاشات للأسرة المنفية.

وأسفر العدوان عن بعض العطف على الملك، وشارك اليهود والبروتستانت في الصلاة من أجل سرعة شفائه، ولكن حين علم الناس أن الجرح لم يكن اكثر من "شكة دبوس" في عبارة فولتير (Piqure d'(pingle) ارتد تيار التأييد الشعبي إلى ناحية البرلمان. وبدأ الناس يتنافسون في موضوع الحكومة النيابية وما يقابلها من الملكية المطلقة. كتب دارجنسون يقول "إنهم يرون في هذه البرلمانات علاجاً للأصواب التي يعانون منها....أن الثورة تضطرم تحت الرماد". وفي يونيو 1763 عاد برلمان باريس يؤكد أن "مراجعة البرلمان للقوانين هي أحد القوانين التي لا يمكن انتهاكها دون انتهاك لذلك القانون الذي أوجد الملوك أنفسهم(92)". ومضى برلمان تولوز شوطاً أبعد، فأعلن أن القانون يقتضي "رضاء الأمة الحر الطليق(93)" ولكنه عني بلفظ "الأمة" في البرلمانات. وفي 23 يوليو 1763 قدمت هيئة قضائية هامة تدعى محكمة المعوقات يرأسها مالزيرب الشجاع الأمين إلى الملك تقريراً عن فقر الشعب وعن العجز والفساد في إدارة مالية في الدولة؛ ورجته الهيئة "أن يصغي للشعب نفسه عن طريق مندوبيه في اجتماع لمجلس طبقات المملكة(94)". وهذه أول مطالبة صريحة بمجلس الشعب الذي لم يدع منذ 1614.

وفي الصراع الخطر الذي تمخض عن طرد اليسوعيين من فرنسا (1764)(95). اتخذ برلمان باريس موقف الهجوم وفرض رأيه على الملك. وفي يونيو ونوفمبر أرسل برلمان رين، وهو دار القضاء العالي ببريتني، إلى لويس اعتراضات شديدة اللهجة على الضرائب التي فرضها الدوق ديجون الذي كان آنئذ حاكماً على الإقليم. فلما لم يتلقَ جواباً يرضيه أوقف جلساته، واستقال معظم أعضائه (مايو 1765)، ونشر نائبه العام، لوي رينيه دلاشالوتيه، هجوماً على الحكومة المركزية فقبض عليه وعلى ابنه وثلاثة مستشارين واتهموا بالتحريض على الفتنة. وأمر الملك برلمان رين بمحاكمتهم، فرفض، وأيدت الرفض جميع برلمانات فرنسا يظاهرها في ذلك الرأي العام. وفي 3 مارس 1766 ظهر لويس أمام برلمان باريس وحذره من الإغضاء عن الفتنة. وأعلن تصميمه على الحكم ملكاً مطلق السلطان.

"في شخصي وحدي تستقر سلطة السيادة، ولي وحدي السلطة التشريعية غير مشروطة ولا مجزأة. وكل النظام العام ينبثق مني. وشعبي وأنا واحد، وحقوق الأمة ومصالحها، الأمة التي يجرؤ البعض على جعلها هيئة منفصلة عن الملك، هي بالضرورة متحدة مع حقوقي ومصالحي، مستقرة في يدي دون غيري(96)".

وأضاف أن الأيمان التي أقسمها لم يقسمها للأمة: كما أكد البرلمان، بل لله وحده. وواصل برلمان باريس دفاعه عن برلمان رين، ولكنه في 20 مارس قبل النظرية التالية رسمياً، باعتبارها "مبادئ أساسية لا مناص منها" وهي "أن السيادة للملك وحده، ولا يُسأل إلا أمام الله...والسلطة التشريعية مستقرة كلها في شخص الملك(97)". وحث شوازيل وغيره الملك على بذل تنازلات متجاوبة فأفرج عن لاشالويته وزملائه المسجونين، ولكنهم نُفوا إلى سانت قرب لاروشيل. ودعي ديجون من بريتني، وأنظم إلى أعداء شوازيل. واستأنف برلمان رين جلساته (يوليو 1769).

ودخل فولتير الصراع بإصداره "تاريخ برلمان باريس بقلم الأبيه بج" عام 1769. وقد أنكر أنه مؤلف الكتاب، وكتب خطاباً ينقده لأنه "آية في الأغلاط والسخف، وجريمة ضد اللغة(98)". ومع ذلك فالكتاب بقلمه. ومع أنه كتبه على عجل فقد دل على ما بذل فيه من بحث تاريخي لا يُستهان به. غير أن النزاهة تعوزه، فهو اتهام طويل للبرلمان باعتباره مؤسسة رجعية قاومت في كل مناسبة التدابير التقدمية- كإنشاء الأكاديمية الفرنسية، والتطعيم ضد الجدري، والإدارة الحرة للقضاء. واتهم فولتير البرلمانات بالتشريع الطبقي، والخرافة، والتعصب الديني. فلقد أدانت أقدم الطابعين في فرنسا، وهللت لمذبحة يوم القديس برتلميو، وحكمت بحرق المرشال دانكر كما تحرق الساحرات. وقال فولتير أنها أنشئت لوظائف قضائية بحتة، وليس لها سلطة التشريع، ولو اتخذت هذه السلطة لأحلت محل أوتقراطية الملك وأليجاركية المحامين الأغنياء المتحصنة ضد أي رقابة شعبية. وكان فولتير قد كتب هذه المذكرة المسهبة خلال سطوة شوازيل الذي شجعت ميوله اللبرالية الاعتقاد بأن التقدم ميسور أشد ما يكون يسراً علي يد وزير مستنير في ظل ملك مستنير. أما ديدرو فلم يوافق فولتير، وقال أن البرلمانات مهما كانت رجعية النزعة فإن مطالبتها بحق الإشراف على التشريع ضابط مرغوب فيه على الاستبداد الملكي(99).

وجاءت عودة ديجون إلى باريس بأزمة جديدة. فقد أتهم برلمان رين الدوق بارتكاب عمل محظور، وأذعن لمحاكمة برلمان باريس له على هذه التهم، فلما وضح أن الحكم سيصدر بأنه مذنب لجأت مدام دوباري إلى الملك ليتدخل. وأيدها في ذلك المستشار موبو، وفي 27 يوليو 1770 أعلن لويس أن الجلسات تفشي أسراراً للدولة. وعلى ذلك يجب إنهاؤها ثم ألغى شكاوى الفريقين المتبادلة، وأعلن براءة كل من ديجون ولاشالوتيه، وأمر جميع أطراف النزاع بالكف عن إثارة الشعور العام. وتحدى البرلمان هذه الأوامر باعتبارها تدخلاً تعسفياً في سير العدالة المشروعة، وأعلن أن الشهادة أضرت ضرراً بليغاً بشرف ديجون، وأوصى بوقفه عن ممارسة جميع وظائفه بصفته نبيلاً حتى تثبت براءته بالطريقة القانونية الواجبة. وفي 6 سبتمبر أصدر البرلمان قراراً Arr(t( كان فيه اختبار بقوة الملك:

"أن تعدد أعمال سلطة مطلقة تمارس في كل مكان ضد روح ونص القوانين التأسيسية للملكية هو برهان دامغ: على أن هناك نية مبيتة لتغيير شكل الحكومة، ولإحلال الأعمال الشاذة لسلطة تعسفية محل سلطان القوانين المتعادل على الدوام(100)".

ثم أجل البرلمان جلساته حتى 3 ديسمبر.

وأستغل موبو هذه المهلة ليعد دفاعاً متصلباً عن السلطة الملكية. ففي 27 نوفمبر أصدر بتوقيع الملك مرسوماً سلم بحق الاعتراض ولكنه حرم أي رفض لمرسوم يجدد بعد سماع الاعتراضات. ورد البرلمان بأن التمس من الملك أن يسلم مشيري العرش الأشراف لانتقام القوانين(101). وفي 7 ديسمبر دعا لويس البرلمان إلى فرساي، وفي جلسة رسمية لــ(سرير العدالة) أمر الأعضاء بأن يوافقوا على مرسوم 27 نوفمبر ويسجلوه. فلما عاد القضاة إلى باريس قرروا الكف عن أداء جميع وظائف البرلمان حتى يسحب مرسوم نوفمبر. وأمرهم لويس باستئناف جلساتهم، فتجاهلوا الأمر. وحاول شوازيل إقرار السلام في ربوع الوطن لخوض حرب أنجح خارجه، فأقاله لويس، وهيمن موبو الآن على مجلس الدولة بينما راحت دوباري تحوم حول الملك، وأرته لوحة فانديك التي رسمها لتشارلز الأول ملك إنجلترا؛ وحذرته من مصير كمصيره قائلة "إن برلمانك أيضاً سيضرب عنقك(102)".

وفي 3 يناير 1771 أمر لويس ثانية بقبول مرسوم نوفمبر. ورد البرلمان بأن المرسوم ينتهك قوانين فرنسا الأساسية. وفي 20 يناير فيما بين الساعة الواحدة والرابعة صباحاً سلم جنود الملك المسلحون لكل قاضٍ "إدارة ملكية" تخيره بين الطاعة أو النفي من باريس. وأكدت الكثرة الساحقة حبهم للملك، ولكنه ظلوا على عنادهم. وعليه ففي اليومين التاليين نفي 165 عضواً في برلمان باريس إلى أنحاء شتى في فرنسا. وهتف الشعب لهم وهم يبرحون قصر العدالة. وتحرك الآن موبو ليحل منظمة قضائية جديدة محل البرلمانات. فأنشأ في باريس بمرسوم ملكي محكمة عليا تتألف من مجلس الدولة وبعض الفقهاء اللينيين؛ وأنشأ في آراس، وبلوا، وشالون؛ وكليرمون-فران، وليون وبواتييه، "مجالس عليا" لتكون محاكم استئناف للأقاليم. وأصلحت بعض المفاسد القضائية، وأوقف بيع الوظائف، وتقرر أن يكون التقاضي من الآن بالمجان. وهلل فولتير للإصلاح، وتنبأ في تهور "إنني واثق تمام الثقة أن المستشار سيحقق نصراً كاملاً، وأن الشعب سيحب هذا الانتصار"(103). ولكن الشعب لم يستطع أن يتقبل في رضى هدم مؤسسة عريقة القدم كالبرلمانات فما من شيء يكثر الناس من إدانته ويعمق حبهم له كالماضي. واحتقرت معظم الجماهير المحاكم الجديدة لأنها أدوات إضافية تستعين بها الأوتوقراطية الملكية. وحزن ديدرو على نهاية البرلمانات وإن لم يكن مخدوعاً فيها، فقال إن ذلك "خاتمة الحكم الدستوري..ففي لحظة واحدة قفزنا من الحالة الملكية إلى أشد حالات الاستبداد"(104). وأعرب أحد عشر نبيلاً من نبلاء المملكة، بل بعض أعضاء الأسرة المالكة، عن عدم موافقتهم عل المحاولة التي يبذلها موبو لاستبداد البرلمانات. ولم ينشب بين الشعب هياج واضح، ولكن كلمات الحرية، والقوانين، والشرعية، التي ترددت كثيراً في البرلمان مؤخراً أخذت تتداولها الألسن. واصطبغت الهجائيات الموجهة للملك الفاسق بعنصر جديد من الجرأة والمرارة، ودعت الملصقات الدوق أورليان لتزعم الثورة.

وتورطت البرلمانات كارهة تقريباً، وبرغم نزعتها المحافظة، في خميرة من الأفكار الثورية. وكان مقالا روسو، وشيوعية موريللي، ومقترحات مابلي والاجتماعات السري لجماعة الماسون الأحرار، وفضح الموسوعة للمفاسد المتفشية في الحكومة والكنيسة، وسيل النشرات المتداولة في أرجاء العاصمة والأقاليم-كلها كانت تعارض معارضة عنيفة دعوى السلطة المطلقة والحق الإلهي التي يدعيها ملك خامل عربيد. وهكذا أخذ الرأي العام (M. Tout Le Monde) يتحرك بوصفه قوة في التاريخ.

كان أثقل النقد إلى عام 1750 يقع على الكنيسة، ولكنه بعد ذلك راح يقع بازدياد على الدولة بعد أن حفزه حظر الموسوعة. كتب هوراس ولبول من باريس في أكتوبر 1765:

"لم يعد للضحك سوق هنا..يا للقوم الطيبين، إن وقتهم لا يتسع للضحك، فواجبهم الأول هو هدم الله والملك؛ ويشارك الرجال والنساء، والعظماء والحقراء في هذا الهدم من كل قلوبهم..أتعلم من هم "الفلاسفة" أو ما مدلول اللفظ هنا؟ أولاً هو يشمل كل إنسان، ثانياً يعني الرجال الذين يهدف الكثيرون منهم، بعد أن أقسموا على خوض الحرب على الملكية، إلى هدم الدين كله وأكثر من هؤلاء إلى القضاء على سلطة الملك"(105).

وفي هذا الحكم مغالاة بالطبع، فمعظم جماعة الفلاسفة (باستثناء ديدرو على الأخص) كانوا أنصار للملكية يتجنبون الثورة. وهاجموا النبلاء وكل الامتيازات الوراثية؛ وانتقدوا عشرات المفاسد وطالبوا بإصلاحها؛ ولكنهم كانوا يرتعدون فرقاً من فكرة إعطاء السلطة كلها للشعب(106). ومع ذلك كتب جريم في "رسائله" في يناير 1768 يقول: "إن السأم العام من المسيحية، الذي يتضح في جميع الأرجاء، لا سيما في الدول الكاثوليكية؛ والقلق الذي يهيج عقل الناس بشكل غامض ويدفعهم إلى مهاجمة المفاسد الدينية والسياسية-كل هذا ظاهرة يتسم بها قرننا، كما اتسم القرن السادس عشر بروح الإصلاح، وهو ينذر بثورة داهمة لا مفر منها"(107).

رحيل الملك

لم يؤتَ لويس الخامس عشر كما لم يؤتَ من قبله لويس الرابع عشر فن الموت في الوقت المناسب. لقد كان عليماً بأن فرنسا تترقب زواله، ولكنه لم يطق التفكير في الموت. كتب السفير النمساوي "أن الملك يبدي الملاحظات بين الحين والحين عن سنهِ، وصحتهِ والحساب العسير الذي لا بد أن يقدمه يوماً ما للخالق الأعظم"(108). وقد يتأثر لويس تأثراً عابراً باعتكاف ابنته لويز-ماري في دير كرملي تكفيراً عن ذنوب أبيها فيما زعموا؛ وقيل إنها كانت تدعك أرض الحجرات وتغسل الملابس. فلما ذهب لزيارتها وبخته على عيشته وتوسلت إليه أن يطرد دوباري ويتزوج الأميرة دلامبال ويصلح ما فسد بينه وبين الله.

وقد مات عدة أصدقاء له في أخريات عهده، وقع اثنان منهم صريعين تحت قدميه بهبوط في القلب(109). ومع ذلك بدا أنه يجد لذة رهيبة في تذكير الشيوخ من حاشيته بقرب موتهم. قال مرة لأحد قواده. "إنك تشيخ يا سوفريه، فأين تريد أن تدفن؟" فأجاب سوفريه "عند قدمي جلالتك يا مولاي". وقيل أن هذا الجواب "جعل الملك واجماً كثير التفكير(110)". وقالت مدام دؤوسيه أنه "لم يُخلق رجل أكثر منه اكتئاباً وغماً(111)". وكان موت الملك انتقاماً طال انتظاره، انتقمه على غير عمد جنس النساء الذي هام به وحط من كرامته، فحين لم تكفِ حتى دوباري لإشباع شهوته، جاء إلى فراشه بفتاة يبلغ من حداثتها أنها لم تكد تبلغ سن الزواج. وكانت تحمل جراثيم الجدري، فنقلت عدواه إلى الملك. وفي 29 إبريل 1774 بدأ هذا المرض يهاجمه. وأصرت بناته الثلاث على ملازمته وتمريضه مع أنهن لم يسبق لهن التحصين ضد الجدري (وقد أصبن بالمرض جميعهن ولكنهن شفين) وكن يتركنه في الليل فتحل دوباري محلهن. غير أن الملك صرفها برفق حين رغب في تناول الأسرار المقدسة في 5 مايو قائلاً: "أعلم الآن أنني مريض مرضاً خطيراً. أن فضيحة متز يجب ألا تتكرر.


أني أدين بنفسي لله ولشعبي. وإذن يجب أن نفترق. فاذهبي إلى قصر الدوق ديجون الريفي في روبيل وانتظري أوامر جديدة. وصدقيني إنني سأظل على الدوام أحتفظ لك بشعور المحبة العميقة(112)". وفي 7 مايو صرح الملك في حفل رسمي أمام البلاط بأنه نادم على ما فرط منه من فضائح أمام رعاياه، ولكنه أصر على أنه لا يدين بأي مؤاخذة على سلوكه إلا لله وحده(113). وأخيراً رحب بالموت. فقال لابنته لم أشعر في حياتي بمثل هذه السعادة(114). ولفظ أنفاسه في 10 مايو 1774 وهو في الرابعة والستين، بعد أن حكم تسعة وخمسين عاماً. وحمل جثمانه الذي لوث الهواء على عجل إلى المدافن الملكية في سان دنيس دون أبهة وسط تهكم الجميع الذي اصطف على الطريق. واغتبطت فرنسا مرة أخرى بموت ملكها كما اغتبطت من قبل عام 1715.