قصة الحضارة - ول ديورانت - ك 2 ج 17

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب السابع عشر: حياة الشعب

الفصل الأول: منتجو الثروة

البداية في الغابة - الزراعة - التعدين - الصناعات اليدوية - التجارة - المال - الضرائب - المجاعات - الفقر والغنى


لم تتلق تربة الهند بذور المدنية عن رضى، فقد كان شطر عظيم منها تغطيه الغابات تسكنها وتذود عنها سباع ونمور وفيلة وثعابين وغيرها من الكائنات الفردية غير الاجتماعية التي تزدري المدنية على مذهب روسو؛ فقام صراع حيوي لانتزاع الأرض من هذه الأعداء، ودام الصراع متخفياً وراء ستار الحركات الاقتصادية والسياسية جميعاً؛ فقد كان "أكبر" يصيد النمور بالقرب من "مأثورة" ويمسك بالفيلة المتوحشة في أماكن كثيرة تخلو منها اليوم خلواً تاماً؛ وقد كنت تصادف الأُسْد إبان العصور الفيدية أينما سرت في الشمال الغربي من الهند أو في أجزائها الوسطى، أما اليوم فلا يكاد يوجد في شبه الجزيرة كلها؛ لكن الثعبان وصنوف الحشرات لا تزال هناك ماضية في حربها؛ ففي سنة 1926م فتكت الحيوانات المفترسة من الهنود بما يقرب من ألفين (من بين هؤلاء 875 قتلتهم النمور الضارية في أرجاء البلاد)، أما سم الأفاعي فقد أودى بعشرين ألفاً من الهنود ذلك العام(1).

ولما خلصت الأرض على مر الزمن من الكواسر، تحولت إلى حقول يزرع فيها الأرز والقطاني والذرة والخضر والفواكه؛ فلقد رضيت الكثرة الغالبة من السكان خلال الشطر الأعظم من تاريخ الهند بعيش متواضع قوامه هذه الأغذية الطبيعية، وكانوا يجففون اللحم والسمك والطيور لطائفتي المنبوذين والأغنياء ، ولكي يجعلوا طعامهم أشهى- أو ربما أرادوا معونة أفروديت(4)- زرعوا وأكلوا مقداراً غير مألوف في سائر البلاد من التوابل، مثل البهار الهندي والزنجبيل والقرنفل والقرفة؛ ولقد صادفت هذه التوابل تقديراً عظيماً عند الأوربيين حتى لقد انطلقوا في البحار سعياً وراءها فوقعوا على نصف الكرة الأرضية الذي كان مجهولاً؛ مع أننا جميعاً نظن أن أمريكا قد كشفت لتكون للحب مسرحاً؛ كانت الأرض في العصور الفيدية ملكاً للشعب في الهند(5) ومنذ أيام "تشاندرا جوبتا موريا" أصبح العرف بين المُلاَّك أن يطالبوا لأنفسهم بملكية الأرض كلها، ثم يؤجرونها للزراع مقابل أجر وضريبة يدفعان كل عام(6)وكان الري في العادة من واجبات الحكومة، ولقد ظل أحد السدود التي شيدها "تشاندرا جوبتا" حتى سنة 150م ، ولا نزال نشاهد آثار القنوات القديمة في شتى أرجاء الهند، كما نشاهد آثار البحيرة التي احتفرها احتفاراً "راج سنج"- راجبوت رانا في موار- لتكون خزاناً لمياه الري (1661م) وأحاطها بحائط من المرمر طوله اثنا عشر ميلاً(7). والظاهر أن قد كان الهنود أول شعب استنجم الذهب(8) فيحدثنا هيرودوت(9)والمجسطي(10) عن "النمل الكبير الذي يحفر الأرض طلباً للذهب، وهو أصغر قليلاً في حجمه من الكلاب، لكنه أكبر من الثعالب" وقد عاون هذا النمل عمال المناجم في إخراجهم للذهب، وذلك حين يخدش الرمل فيظهر الذهب الدفين ولقد كانت الهند مصدراً لكثير من الذهب الذي استخدم في امبراطورية فارس في القرن الخامس قبل الميلاد؛ كذلك استنجمت هناك الفضة والنحاس والرصاص والقصدير والزنك والحديد- وكان استنجام الحديد في وقت باكر من التاريخ إذ كان في سنة 1500 ق.م(11)؛ وارتقت صناعة طرق الحديد وصبه في الهند قبل ظهورها المعروف لنا في أوربا بزمن طويل، فمثلاً أقام "فكرامادتيا" (حوالي سنة 380م) في دلهي عموداً من حديد لا يزال محتفظاً ببريقه حتى اليوم، بعد أن انقضى عليه خمسة عشر قرناً؛ ولا يزال سر احتفاظه ببريقه من عوامل الصدأ والتآكل، الذي يرجع إلى نوع المعدن ذاته أو إلى طريقة طرقه وصبه، لا يزال سر ذلك لغزاً يحير علم المعادن الحديث(12)؛ وقد كان صهر الحديد في أفران صغيرة توقد بالفحم من كبرى صناعات الهند قبل الغزو الأوربي لتلك البلاد(13) لكن هذه الصناعة الهندية لم تصمد لمقاومة مثيلتها في أوربا، لأن الثورة الصناعية في أوربا علمتها كيف تؤدي هذه الصناعة بنفقات قليلة وعلى نطاق واسع؛ ولم يعد الناس من جديد إلى استغلال الموارد المعدنية الغنية في الهند واستكشافها إلا في يومنا هذا(14).

وظهرت زراعة القطن في الهند في عصر سابق لظهوره في أي بلد آخر، والأرجح أنه كان ينسج قماشاً في "موهنجو دارو"(15) يقول هيرودوت في نص هو أقدم ما بين أيدينا من مراجع عن القطن، يقول في جهل ممتع: "وهناك أشجار حوشية تثمر الصوف بدل الفاكهة، وصوفها يفوق صوف الأغنام جودة وجمالاً؛ ويصنع الهنود ثيابهم من هذه الأشجار"(16) ؛فلما شن الرومان حروبهم في الشرق الأدنى، عرفوا هذا "الصوف" الذي تثمره الأشجار(17)؛ وروى لنا الرحالة العرب الذين زاروا الهند في القرن التاسع بأنه "في هذه البلاد يصنع الناس أثواباً يبلغون بها درجة من الكمال لا تصادف لها مثيلاً في أي مكان آخر- فهي من الحياكة والغزل على درجة من الرقة تسمح لك أن تنفذ الثوب من خاتم متوسط الحجم"(18)، ونقل العرب في العصر الوسيط هذا الفن عن الهند، ومن الكلمة العربية "قطن" أخذنا نحن كلمتنا الانجليزية(19) وكلمة "موسلين" أطلقت بادئ ذي بدء على الغزل الرقيق الذي كان يصنع في الموصل على غرار النماذج الهندية؛ وكذلك كلمة "كالكو" (أي البفتة) أطلقت على مسماهما لأن هذا الصنف من القماش جاءنا لأول مرة (1631م) من مدينة كلكتا الواقعة على الشواطئ الجنوبية الغربية؛ ويحدثنا "ماركوبولو" عن "جوجارات" في سنة 1293م فيقول: "إنهم هنا يطرزون بالوشي على نحو من الدقة لا يبلغه أي بلد من بلاد العالم" (20)، وما تزال "شيلان" كشمير، و"سجاجيد" الهند شاهدة حتى اليوم على براعة النسج الهندي من حيث حبك الديباجة وتصميم الزخارف ، على أن النسج لا يعدو أن يكون واحداً من صناعات يدوية كثيرة في الهند، والنساجون إن هم إلا فئة واحدة من فئات الصناعة والتجارة التي أشرفت على تنظيم الصناعة في الهند وإخضاعها لقواعد وأصول، ونظرت أوربا إلى الهنود نظرتها إلى الخبراء في كل ضروب الصناعة اليدوية تقريباً- صناعة الخشب وصناعة العاج وصناعة المعادن وتبييض القماش والصباغة والدبغ وصناعة الصابون ونفخ الزجاج والبارود والصواريخ النارية والإسمنت وغيرها(21)، واستوردت الصين من الهند مناظير سنة 1260م ؛ ويصف لنا "برتييه" الرحالة الذي جاب الهند في القرن السابع عشر يصف لنا الهند بأنها تطنّ بأصوات الصناعة طنيناً؛ وكذلك رأى "فتشي" سنة 1585م أسطولاً من مائة وثمانين مركباً تحمل متنوعات شتى من السلع على نهر جمنة.

وازدهرت التجارة الداخلية، حتى لقد كانت جوانب الطرقات- وما تزال- أسواقا للبيع والشراء؛ وأما تجارة الهند الخارجية فهي من القدم مثل تاريخها(22) فهناك آثار وجدناها في سومر وفي مصر تدل على تبادل تجاري بين هذين القطرين والهند، وفي عهد ليس أحدث تاريخاً من سنة 3000 ق.م(23)؛ وازدهرت التجارة بين بابل والهند عن طريق الخليج الفارسي بين عامي 700 و 480 ق.م؛ ومن يدري فلعل "العاج والقردة والطواويس" التي جاء بها سليمان، إنما جاءت من المورد نفسه وعن نفس الطريق؛ وأخذت سفن الهند تشق البحار إلى بورما والصين في عهد "تشاندرا جوبتا" ؛ وازدحمت أسواق الهند "الدرافيدية" بالتجار اليونان الذين أطلق عليهم الهنود اسم "يافنا" (الآيونيين)، وكان ذلك في القرون التي سبقت والتي لحقت مولد المسيح(24)؛ وكذلك اعتمدت روما في أيام ترفها المادي، على الهند في استيراد التوابل والعطور والدهون، ودفعت أثماناً عالية فيما ابتاعته من الهند من حرير ووشي وموصلي وأثواب الذهب، حتى لقد اتهم "بلني" روما بالإسراف لأنها كانت تنفق كل عام خمسة ملايين دولار على ما تستورده من الهند من أسباب الترف؛ وكانت روما تستعين كذلك بالفهود والنمور والفيلة التي تأتي بها من الهند، على إقامة ألعابها في المصارعة، وتأدية طقوس القرابين عند الكولوسيوم(25)؛ وما حاربت روما الحروب البارئية إلا ليظل لها طريق التجارة إلى الهند مفتوحاً؛ ثم حدث في القرن السابع أن استولى العرب على فارس ومصر، ومنذ ذلك الحين، أخذت التجارة بين أوربا وآسيا تمر خلال أيدي المسلمين، ومن ثم قامت الحروب الصليبية، وظهر كولمبس؛ وانتعشت التجارة الخارجية من جديد في ظل المغول؛ ولهذا ازدهرت بالغنى مدينة البندقية ومدينة جنوا وغيرهما من المدن الإيطالية، بسبب قيامها بما تقوم به الموانئ للتجارة الأوربية مع الهند والشرق؛ وإن النهضة الأوربية لتدين للثروة التي جاءت بها هذه التجارة، أكثر مما تدين للمخطوطات التي جاء بها اليونان إلى إيطاليا؛ وكان "لأكبر" إدارة بحرية تشرف على بناء السفن وتنظم حركة الملاحة في المحيطات، فاشتهرت موانئ البنغال والسند ببناء السفن، وبلغت تلك الموانئ بهذه الصناعة حداً من الاتقان حدا بسلطان القسطنطينية أن يصنع سفنه هناك بدل صناعتها في الإسكندرية، لقلة النفقات هناك؛ بل إن "شركة الهند الشرقية" ذاتها بنت كثيراً من سفنها في موانئ البنغال(26).

واستغرق تطور النقد الضروري لتيسير هذه التجارة عدة قرون؛ ففي أيام بوذا كانت قطع النقد مستطيلة الشكل غليظة الصنعة، وكانت تصدرها سلطات اقتصادية وسياسية مختلفة، ولم تصل الهند إلى مرحلة النقد الذي تضمن الحكومة قيمته إلا في القرن الرابع قبل الميلاد، بتأثير فارس واليونان(27)؛ فأصدر "شرشاه" قطعاً نقدية جميلة الشكل من النحاس والفضة والذهب، وجعل الروبية العملة الأساسية في أرجاء المملكة(28). وفي عهد "أكبر" و "جهان كير" كانت قطع النقود في الهند أرقى من مثيلاتها في أية دولة أوربية حديثة من حيث تصميم شكلها من الوجهة الفنية، وصفاء معدنها(29)، وكما كانت الحال في أوربا في العصور الوسطى، كذلك كانت في الهند في تلك العصور، مع أن نمو الصناعة والتجارة قد عاقته هنا وهناك كراهة دينية للربا. يقول المجسطي: "إن الهنود لا يقرضون مالهم بالربا ولاهم يعرفون كيف يقترضون؛ وإنه لمما يجافي الأوضاع المقررة عند الهندي أن يقترف الخطأ في حق غيره أو أن يحتمل الإيذاء من غيره، ولهذا تراهم لا يبرمون عقوداً ولا يطلبون الضمانات"(30). فإذا ما عجز الهندي عن استغلال ما ادخره في مشروعاته التي يقوم بها بنفسه آثر أن يخفيه أو أن يشتري به جواهر لكونها ثروة يسهل إخفاؤها(31)، ولعل عجزهم هذا عن اصطناع نظام ييسر القروض كان مما عاون "الثورة الصناعية" أن تمهد سبيل السيطرة الأوربية على آسيا؛ ومع ذلك فعلى الرغم من كراهة البراهمة للاقتراض، أخذت عمليات الاقتراض تزداد شيئاً فشيئاً، وكانت نسبة الربح تختلف باختلاف الطبقة الاجتماعية التي ينتمي اليها المقترض، من اثني عشرة إلى ستين في المائة، وكان المتوسط في جملته عشرين في المائة(32)، ولم يكن الإفلاس يتخذ وسيلة لتصفية الديون، وإذا مات مدين عن دين، كان على أبنائه وأبناء أبنائه إلى الجيل السادس أن ينوبوا في الوفاء بذلك الدين(33).

وفرضت ضرائب باهظة على الزراعة والتجارة تدعيماً لأركان الحكومة، وكان على الفلاح أن يتنازل من محصوله عن مقدار يتراوح بين سدسه ونصفه، وكذلك فرضت ضرائب كثيرة على تبادل السلع وإنتاجها كما كانت الحال في أوربا في عصورها الوسطى، وفي أوربا في عصرنا القائم(34)؛ جاء "أكبر" فرفع ضريبة الأراضي إلى ثلث المحصول، لكنه لقاء ذلك ألغى كل صنوف الضرائب الأخرى(35)؛ ولئن كانت هذه الضريبة على الأرض باهظة، إلا أن من حسناتها أنها كانت ترتفع مع ازدهار المحصول وتهبط مع الأزمات؛ وإذا ما أصيبت البلاد بمجاعة، فقد كان الفقراء- على الأقل- يموتون دون أن تفرض عليهم الضرائب؛ ولم تخل البلاد من سني المجاعة حتى في أيام "أكبر" ذات الرخاء (1595- 1608)، والظاهر أن مجاعة سنة 1556م أدت بالناس إلى أكل اللحوم البشرية وإلى الخراب الشامل؛ إذ كانت الطرق رديئة والمواصلات بطيئة الحركة، فلم يكن يسيراً على فائض منطقة من المناطق أن يطعم أخرى مما أصيب بالقحط. وكما هي الحال في كل أرجاء العالم، كان في الهند إذ ذاك تفاوت واسع بين الفقر والغنى، ولكنه لم يبلغ اليوم في الهند أو أمريكا؛ ففي أسفل السُّلَّم كانت هناك أقلية صغيرة من العبيد، ويتلوهم صعوداً فئة "الشودرا" الذين لم يكونوا عبيداً بقدر ما كانوا مأجورين على عملهم، ولو أن منزلتهم الاجتماعية كإجراء كانت تُوَرَّث، كما هو الحال في سائر المنازل الاجتماعية بين الهنود؛ وكان الفقر الذي وصفه "الأب دِبْوَا" (1820م)(36) نتيجة الخمسين عاماً من الفوضى السياسية، ولو أن حالة الشعب في ظل المغول كانت مزدهرة نسبياً (37)، فلئن كانت الأجور متواضعة تتراوح بين ما يساوي ثلاث سنتات (السنت عملة أمريكية تساوي مليمين) وتسعاً كل يوم في عهد "أكبر" إلا أن الأثمان كانت بخسة بما يقابل تلك الأجور القليلة؛ ففي سنة 1600م كانت الروبية (وهي تساوي في المتوسط 5ر32 سنت) تشتري 194 رطلاً من القمح أو 287 رطلاً من الشعير؛ وأما في سنة 1901م فلم تكن الروبية تشتري إلا 29 رطلاً من القمح أو 44 رطلاً من الشعير(38)؛ ولقد وصف الحالة إنجليزي سكن الهند في سنة 1616م فوصف "وفرة المواد كلها "بأنها" وفرة عظيمة جداً في طول البلاد وعرضها".

ثم أضاف إلى ذلك قوله: "إن كان إنسان هناك في مستطاعه أن يجد زاده من الخبز في وفرة لا تعرف قحطاً"(39). وقال إنجليزي آخر طاف بالهند في القرن السابع عشر: "إن نفقاته كانت تبلغ في المتوسط أربع سنتات كل يوم"(40). بلغت ثروة البلاد ذروتها في عهد "تشاندرا جوبتا موريا" و "شاه جهان" فقد ضربت الأمثال في أرجاء العالم كله بثروة الهند في ظل ملوك "جوبتا" ؛ وصور "يوان شوانج" مدينة هندية بقوله إنها جميلة تزينها الحدائق وأحواض الماء، ومعاهد الآداب والفنون، "وسكانها من ذوي اليسار وبينهم أسر على ثراء عظيم؛ وتكثر بالمدينة الفاكهة والأزهار... وللناس مظهر رقيق يلبسون أردية الحرير اللامعة؛ وحديثهم...واضح يوحي بالمعاني، وهم منقسمون نصفين متعادلين، نصف يتبع الأرثوذكسية في الدين، ونصف آخر يمقت هذه الرجعية الدينية"(41)، ويقول "إلْفِنْستون" : "إن الممالك الهندية التي ثل المسلمون عروشها كانت من الثراء بحيث كَلَّ المؤرخون عن ذكر ما غنمه الغزاة هناك من جواهر هائلة المقدار ونقود كثيرة"(42)، ووصف "نِكُولو كونتي" ضفاف الكنج (حوالي سنة 1420م) فقال إنها تمتلئ بصف من المدن الزاهرة واحدة في إثر أخرى، وكلها حسن التخطيط غني بالحدائق والبساتين والفضة والذهب والتجارة والصناعة(43)؛ وكانت خزينة "شاه جهان" مفعمة بما فيها حتى لقد احتفر تحت الأرض غرفتين قويتين، سعة كل منهما 000ر150 قدماً مكعبة، وتكاد تمتلئ بالفضة والذهب(44) ويقول "فنسنت سمث" : "إن الشواهد المعاصرة لذلك الزمن لتقطع باليقين الذي لا يعرف الشك أن سكان الحضر الذين كانوا يسكنون أهم المدن، كانوا من ذوي اليسار"(45)، ووصف الرحالة مدينتي "أجرا" و"فتحبور سكرى" بأن كلاً منهما أعظم من لندن وأعرض منها ثراء(46)؛ ولقد ألفى "أنكتيل دوبرون" نفسه حين طاف بأقاليم "الماهاراتا" سنة 1760م "وسط العصر الذهبي ببساطته وسعادته.. فقد كان الناس باسمين أقوياء وفي صحة جيدة"(47)، وزار "كلايف" مرشد أباد سنة 1759م فقال إن تلك العاصمة القديمة للبنغال تساوي لندن التي عرفها في عصره مساحة وعدد سكان وثراء، وفيها من القصور ما لا تقاس إليه قصور أوربا، ومن الأغنياء رجال لا يدنو منهم غنيٌّ في لندن(48)، ويقول "كلايف": "كانت الهند قطراً لا ينفد ثراؤه"(49)، ولقد حاكمه مجلس النواب على الإسراف في الأموال التي اغتصبها لنفسه، فدافع كلايف عن نفسه في براعة، إذ جعل يصف الغنى الذي وجد نفسه محاطاً به في الهند- فمدنٌ غنية تعرض عليه أي مبلغ أراد ليجنيها من فوضى النهب، وأغنياء يفتحون له أسراباً تكدس فيها الذهب والجواهر أكداساً أكداساً ليأخذ منها ما أراد، ثم ختم دفاعه قائلاً: "إنني في هذه اللحظة أقف هاهنا دهشاً كيف قنعت بالقليل الذي أخذت"(50)


الفصل الثاني: تنظيم المجتمع

الملكية - القانون - تشريع مانو - تطور نظام الطبقات - نشأة البراهمة - امتيازاتهم ونفوذهم - واجباتهم - دفاع عن نظام الطبقات


لما كانت الطرق رديئة والمواصلات عسيرة، كان غزو الهند أيسر من حكمها؛ فلقد حتمت طبيعة سطحها أن تظل هذه البلاد الشبيهة بأن تكون قارة بأسرها، خليطاً من دويلات مستقل بعضها عن بعض، حتى جاءتها السكك الحديدية فوصلت ما تفرق من أجزائها؛ وفي مثل هذه الظروف لا يمكن لحكومة أن تضمن لنفسها البقاء إلا بجيش قوي؛ ولما كان الجيش بحاجة إلى قائد مستبد الرأي ليحكمه بكلمة منه دون التأثر بفصاحة الكلام يقوله غيره في شئون السياسة، فإن صورة الحكومة التي تكونت في الهند هي الملكية بطبيعة الحال؛ ولقد تمتع الناس بقدر كبير من الحرية في ظل الأسرات الحاكمة الوطنية، وذلك من جهة يرجع إلى الاستقلال الذاتي الذي كانت تتمتع به القرى في الريف ونقابات العمال في المدن، كما يرجع من جهة أخرى إلى القيود التي فرضتها الطبقة الأرستقراطية البرهمية على سلطة الملك(51)؛ وإنك لتجد في قوانين "مانو" تعبيراً عن الأفكار الرئيسية في الهند عن الملكية، على الرغم من أن تلك القوانين أقرب إلى التشريع الخلقي منها إلى التشريع القانوني لأوضاع الحياة الجارية؛ فعندهم إن الملكية ينبغي أن تكون قوية الشكيمة في حياد، وأن ترعى مصالح الناس رعاية الوالد لولده(52)؛ غير أن الحكام المسلمين كانوا أقل مبالاة من أسلافهم الهنود بهذه المثل العليا وهذه القيود؛ لأنهم كانوا أقلية فاتحة، فأقامت حكمها صراحة على تفوقها العسكري؛ فيقول مؤرخ مسلم في وضوح جميل: "إن الجيش هو عدة الحكومة وعتادها"(53)، وقد كان أكبر شذوذاً في هؤلاء الحكام المسلمين، لأنه اعتمد قبل كل شئ على رضى الشعب لازدهاره تحت حكومته المستبدة في اعتدال ورحمة؛ ولعل حكومته في ظروفها كانت خير حكومة يمكن قيامها، وأهم عيوبها - كما أسلفنا - هو اعتمادها على شخصية الملك، لأن السلطة العليا المتركزة في يد الحاكم كانت خيراً في عهد "أكبر" لكنها كانت شراً مستطيراً في عهد "أورنجزيب"؛ ولما كان الحكام الأفغان والمغول قد ارتفعوا إلى سلطانهم بالعنف، فقد كانوا دائماً عرضة إلى الهبوط عن سلطانهم بالاغتيال، وكادت الحروب التي تشن ليحل ملك مكان آخر، تكلف من النفقات ما تكلفه الانتخابات في عصرنا الحديث، ولو أن تلك الحروب لم تكن عقبة في سبيل اضطراد الحياة الاقتصادية كما هي الحال مع انتخاباتنا اليوم . لم يكن القانون في ظل الحكام المسلمين إلا إرادة الإمبراطور أو السلطان؛ وأما في ظل الملوك الهنود فقد كان مزيجاً مضطرباً من الأوامر الملكية ومن تقاليد القرى وقواعد الطبقات وكان الذي يتولى القضاء رئيس الأسرة، أو رئيس القرية، أو شيوخ الطبقة، أو محكمة النقابة، أو مدير الإقليم أو زير الملك أو الملك نفسه(55) على أن المحاكمة كانت سريعة الإجراء سريعة الحكم، ولم تعرف البلاد نظام المحاماة في القضايا على أيدي رجال القانون إلا بعد قدوم البريطانيين(56) وكان التعذيب مألوفاً في عهود الأسرات الحاكمة كلها حتى ألغاه "فيروزشاه"(57) والموت هو العقوبة في عدد كبير جداً من الجرائم، فقد كانوا يعاقبون به سرقة المنازل وإتلاف أملاك الملك خاصة، أو السرقة على النطاق الذي نراه اليوم يجعل من السارق عموداً من عمدان المجتمع؛ وكانت سائر ألوان العقاب قاسية تشمل بين أنواعها بتر الأيدي والأقدام والأنوف والآذان وفقء الأعين وصب الرصاص المصهور في الحلوق وتهشيم عظام الأيدي والأقدام بمطرقة خشبية وإحراق الجسم بالنار وإنفاذ المسامير في الكفوف والأقدام والصدور، وقطع أعصاب المفاصل ونشر الناس بمناشير الخشب ثم قطع جسومهم أجزاء وإنفاذ القضبان المسنونة فيهم وشويهم على النار أحياء وقذفهم تحت أقدام الفيلة لتدقهم دقاً حتى يموتوا أو رميهم فريسة للكلاب المتوحشة الجائعة . ولم يكن هناك تشريع قانوني واحد يشتمل الهند بأسرها، فكان يحل محل القانون في شئون الحياة اليومية ما يسمونه "ذارماشاسترا" أي النصوص العرفية التي تفصل ما للطبقات من نظم وواجبات، والذي كتب هذه النصوص رجال من البراهمة،كتبوها من وجهة نظر برهمية خالصة؛ وأقدم هذه النصوص ما يسمى "بتشريع مانو" ؛ ومانو هذا هو السلف الأسطوري الذي تسلسلت عنه جماعة المانوية (أو مدرستها الفكرية) المؤلفة من براهمة بالقرب من دلهي؛ وقد صورته هذه النصوص ابناً لله يتلقى القوانين من براهما نفسه(59) وهذا التشريع مؤلف من 2685 بيتاً من الشعر، كانوا يرجعونه إلى سنة 1200 ق.م، لكن الباحثين اليوم يردونه إلى القرون الأولى بعد ميلاد المسيح(60) ولقد أريد بهذا التشريع بادئ الأمر أن يكون بمثابة الدليل أو الكتاب الصغير الذي يرشد براهمة المانوية هؤلاء إلى أوضاع السلوك الصحيح، لكنه أخذ على التدريج يتطور فيصبح تشريعاً يحدد قواعد السلوك للمجتمع الهندي كله، وعلى الرغم من أن ملوك المسلمين لم يعترفوا به قط، إلا أنه اكتسب كل ما للقانون من قوة داخل حدود نظام الطبقات، وستتبين خصائص هذا التشريع إلى حد ما خلال الصفحات الآتية بما أوردناه فيها من تحليل للمجتمع الهندي وأخلاقه، لكنه على وجه العموم كان يتسم بمظهر خرافي من حيث قبوله لمبدأ المحاكمة بالمحنة وتطبيقه تطبيقاً متزمتاً لقانون العين بالعين والسن بالسن، وإشادته مرة بعد مرة بطبقة البراهمة في فضائلها وحقوقها ونفوذها(62)، وكان من تأثير هذا الكتاب أن زاد زيادة عظيمة من سيطرة نظام الطبقات على المجتمع الهندي. كان هذا النظام الطبقي قد ازداد تزمتاً وتعقيداً منذ العصر الفيدي، لأن طبيعة النظم الاجتماعية من شأنها أن تزيد تلك النظم صلابة على مر الزمن، ولأن اجتياح الهند- من جهة أخرى- بالشعوب الأجنبية والعقائد الخارجية قد زاد من صلابة نظام الطبقات ليقوم سداً قوياً يحول دون امتزاج دم المسلمين بدم الهنود، فقد كان أساس الطبقات في العصر الفيدي هو اللون، ثم أصبح الأساس في العصور الوسطى الهندية هو المولد، وكان معنى التقسيم الطبقي شيئين، معناه من جهة وراثة الوضع الاجتماعي، ومعناه من جهة أخرى قبول كتاب "ذارما"- أي قبول ما تفرضه التقاليد على أفراد كل طبقة من التزامات وصنوف أعمال.

وعلى رأس الطبقات وأكبر المستفيدين من نظامها، وهم الثمانية ملايين من ذكور طبقة البراهمة(63)؛ وكانت طبقة البراهمة هذه قد أصابها الضعف حيناً من الزمن بسبب نهضة البوذية في عهد "أشوكا" لكن البراهمة بما كان لهم من دأب وصبر يتصف بهما الكهنة على اختلاف أوطانهم، مالوا للحوادث، ثم استعادوا نفوذهم وسيادتهم في ظل ملوك "جوبتا" ؛ وما نزال نرى وثائق منذ القرن الثاني بعد الميلاد بمنح عظيمة - خصوصاً إقطاعيات من الأرض - توهب لطبقة البراهمة وكانت هذه المنح - شأنها شأن أملاك البراهمة كلها - معفاة من الضرائب حتى جاء البريطانيون(66) فتشريع مانو يحذر الملك من فرض ضريبة على برهمي، حتى إن نضبت كل موارد المال الأخرى، لأن البرهمي إذا ما أثار غضبه يستطيع أن يسحق الملك وجيشه جميعاً بتلاوة لعنات ونصوص سحرية(67)؛ ولم يكن من عادة الهنود أن يوصوا بشيء قبل موتهم فيما يختص بميراثهم، لأن من تقاليدهم أن أملاك الأسرة لا بد أن تظل ملكاً مشاعاً للأسرة كلها، وهي تنتقل انتقالاً آلياً من موتى الذكور في الأسرة إلى أحيائهم لكن الأوربيين بما يسودهم من نزعة نحو الفردية، لم يكادوا يدخلون في الهند نظام الوصايا، حتى رحب به البراهمة ترحيباً عظيماً، ليتخذوا منه حيناً بعد حين وسيلة للاستيلاء على الأراضي لأغراض كهنوتية(70) وكان أهم عنصر في تقديم القرابين للآلهة هو الرسوم التي تدفع للكاهن المشرف على إقامة الطقوس الخاصة بذلك، ورأس التقوى كلها هو السخاء في دفع تلك الرسوم(71) وكذلك كان من موارد الكهنة الخصبة الإتيان بالمعجزات وغير ذلك من ألوف الخرافات، فلقاء رسم معين يستطيع البراهمي أن يجعل من العاقر ولوداً، ونظير أجر معلوم ينبئ البرهمي بما خط في لوح القدر؛ وكان البراهمة يستخدمون رجالاً يطلبون إليهم أن يتظاهروا بالجنون وأن يعترفوا بأن هذا المس الذي أصابهم إنما جاءهم جزاء وفاقاً لما قتروا في العطاء للكهنة؛ وكان الرجل من البراهمة يقصد في كل حالات المرض أو المحاكمات أو حالات التشاؤم ببعض النذر السيئة أو الأحلام المزعجة أو البدء في مشروع جديد، كان الرجل من البراهمة يقصد في كل تلك الحالات طلباً لمشورته، وللمشير أجر مشورته(72). وكان البراهمة يستمدون نفوذهم من احتكارهم للعلم، فهم القائمون على صيانة التقاليد وهم الذين يدخلون على تلك التقاليد ما شاءوا من تعديل؛ وهم الذين يتولون تربية النشء، ويكتبون الأدب أو يقومون على نشر المكتوب منه، وهم الخبراء بكتب الفيدا التي هبط بها الوحي ولا يأتيها الباطل؛ ولو أنصت رجل من طبقة "الشودرا" إلى تلاوة الكتب المقدسة، امتلأت أذناه بالرصاص المصهور (هكذا تقول كتب القانون البرهمية)، وإن تلاها هو انشق لسانه، ولو حفظ شيئاً منها قطع جسده نصفين(73)، هذه النذر وأمثالها - التي لم توقع فعلاً إلا في حالات نادرة - هي التي كان يلجاً إليها الكهنة ليصونوا لأنفسهم العلم فلا يشاركهم فيه معتد؛ وهكذا أصبحت البرهمية مذهباً خاصاً بفئة معينة تحيط نفسها بسياج، لا تأذن لأحد من غير أفرادها أن يسهم في العلم به(74) وينص تشريع مانو على أن يكون من حق البرهمي سيادته على سائر الكائنات(75) على أن الفرد منهم لم يكن ليتمتع بكل ما للبراهمة من نفوذ وامتيازات حتى ينفق في مرحلة الاستعداد أعواماً كثيرة، وبعدئذ "يولد ولادة جديدة" وتجري له طقوس الخيط الثلاثي(76)، فإذا ما تم له ذلك، أصبح منذ هذه اللحظة كائناً مقدساً، وأصبح شخصه وملكه مما لا يجوز عليه الاعتداء؛ بل يذهب "مانو" في ذلك بعيداً فيقرر أن "كل ما هو كائن في الوجود ملك للبراهمة"(77)؛ وكان لا بد لصيانة الطبقة البراهمية من منح عامة وخاصة - وهي لا توهب لهم على سبيل الإحسان، بل من باب الواجب المقدس(78) وكان السخاء في العطاء للبرهمي من أسمى الواجبات الدينية؛ ويستطيع البرهمي الذي لا يجد ترحيباً كريماً في أحد المنازل أن يُذهِبَ عن صاحب البيت كل ما كان استحقه من جزاء عن حسناته السابقة جميعاً ولو اقترف البرهمي كل جريمة ممكنة، لما حَقَّ عليه القتل، فللملك أن ينفيه، لكن لا بد له أن يأذن بالاحتفاظ بملكه(82) ومن حاول أن يضرب برهمياً، كان لزاماً عليه أن يصلى عذاب النار مائة عام، وأما من ضرب برهمياً بالفعل، فقد حقت عليه الجحيم ألف عام(83) وإذا اعتدى رجل من الشودرا على عفاف زوجة رجل من البراهمة، صودرت أملاكه وحكم عليه بالخصي(84) وإذا قتل رجل من الشودرا زميلاً له من الشودرا، كان له أن يكفر عن جريمته بعشر بقرات يهبها للبراهمة، فإذا قتل أحداً من "الفيزيا" كانت كفارته للبراهمة مائة بقرة، وإذا قتل أحداً من "الكشاترية" ارتفعت كفارته إلى ألف بقرة يعطيها للبراهمة، أما إذا قتل برهمياً فلا بد من قتله، ذلك لأن جريمته القتل عندهم لم تكن إلا بقتل برهمي(85). وكان على البرهمي في مقابل هذه الامتيازات أعمال والتزامات كثيرة وفادحة؛ فلم يكن يقوم بواجبات الكاهن العملية وكفى ، لكنه كان إلى جانب ذلك يعد نفسه للمهن الكتابية والتربوية والأدبية، وكان ينتظر منه



 صفحة رقم : 820   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع


أن يدرس القانون وأن يحفظ كتب الفيدا وكل واجب آخر من واجباته، إنما يأتي بعد ذلك في الأهمية(86)، ولو لم يستطع البرهمي سوى إن يتلو كتب الفيدا، فإنه بذلك وحده يصبح جديراً بطمأنينة النفس بغض النظر عما قام به غير ذلك من طقوس أو إنتاج(87)، أما إن حفظ عن ظهر قلب كتاب "رج فيدا" ، فإنه يستطيع بعد ذلك أن يحطم العالم تحطيماً دون أن يعد ذلك منه اقترافاً لجريمة(88)، وليس من حقه أن يتزوج خارج طبقته، فإن تزوج امرأة من طبقة الشودرا، عد أبناؤه من الطبقة الدنيا، طبقة "الباريا" ، وفي ذلك جاء في كتاب مانو : "إن الرجل الطيب العنصر بمولده إنما يفسد عنصره بصحبة الأَدْنين، أما من كان دنياً بمولده فيستحيل أن يسمو بصحبة الأعلين"(89)، كان على البرهمي أن يستحم كل يوم، وأن يعود فيستحم مرة أخرى إذا حلق له حلاق من الطبقة الدنيا؛ وعليه أن يطهر المكان الذي أعده لنومه بروث البقر، ولا بد له أن يراعي طقوساً صحية دقيقة في مباشرته لضرورات طبيعته(90)، ومحتوم عليه أن يمتنع عن أكل البصل والثوم ونبات الفطر ونبات الكرات؛ ولم يكن يجوز له أي ضرب من ضروب الشراب غير الماء، ويشترط أن يستخرجها وأن يحملها برهمي(91)، وتحرم عليه صنوف الدهون والعطور واللذة الحسية والجشع والغضب(92)، وإذا مس شيئاً نجساً، أو لمس أجنبياً (حتى إن كان ذلك الأجنبي هو الحاكم العام للهند) كان لا بد له من أن يطهر نفسه بالوضوء الذي تحدده الطقوس، ولو اقترف إثما، كان لزاماً عليه أن يتقبل عقاباً أعنف مما يقع على مرتكب الإثم نفسه من طبقة دنيا؛ فمثلاً لو سرق رجل من طبقة الشودرا شيئاً، حكم عليه أن يدفع غرامة



 صفحة رقم : 821   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع


قدرها ثمانية أمثال قيمة الشيء المسروق، وإذا سرق رجل من طبقة " الفيزيا " شيئاً دفع غرامة تساوي ستة عشر مثلاً، والرجل من "الكشاترية" يدفع اثنين وثلاثين مثلاً، وأما البرهمي فيدفع غرامة قدرها أربعة وستين مثلاً؛ وكان يستحيل على البرهمي أن يؤذي كائناً حياً(93). وأخذت قوة الكهنة تزداد من جيل إلى جيل حتى أصبحوا أطول ما عرفه التاريخ من طبقات الأرستقراطية بقاء على وجه الدهر، وذلك لاعتدالهم في مراعاة هذه القواعد من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنهم وجدوا شعباً أثقلته فلاحة الأرض فأخضعته لتقلبات الجو التي بدت لهم كأنها تقلبات أهواء شخصية، فشغلهم ذلك كله عن النهوض بأنفسهم من الخرافة إلى نور العرفان؛ فيستحيل أن تجد هذه الظاهرة العجيبة في أي مكان آخر غير الهند - وهي ظاهرة نموذجية تمثل بطء التغير في الهند - وأعني بها أن تظل طبقة عليا محتفظة بامتيازاتها وعلو مكانتها على مر العصور بكل ما شهدته من غزوات وأسر حاكمة وحكومات مدى 2500عام؛ ولا ينافسهم طول البقاء إلا "الشاندالا" طريدة الطبقات؛ أما فئة "الكشاترية" القديمة التي كان لها السلطان على الميدان الفكري والسياسي في عهد بوذا، فقد توارت بعد عصر جوبتا؛ وعلى الرغم من أن البراهمة اعترفوا بمحاربي "راجبوت" واعتبروهم بمثابة تطور طرأ على الطبقة المحاربة القديمة، إلا أن الكشاترية - بعد سقوط راجبوتانا- لم يلبثوا أن زالت دولتهم، وأخيراً لم يبق إلا طائفتان كبيرتان، وهما طائفة البراهمة التي كانت طبقة الحكام في الهند من الناحية الاجتماعية والفكرية، ثم يأتي تحتهم ثلاث آلاف طبقة هي في حقيقة الأمر عبارة عن النقابات الصناعية . ولو استثنيت نظام الزوجة الواحدة من حيث إساءة تطبيقه، لجاز لك أن تقول إن نظام الطبقات أكثر النظم الاجتماعية سوء تطبيق، ولولا ذلك لوجدت ما تقوله في الدفاع عن هذا النظام، فله حسنة التصفية الاجتماعية التي تصون ما نزعم أنه دم نقي من الشوائب ومن الانقراض اللذين ينتجان حتماً عن فك قيود الامتزاج بالزواج؛ وكذلك لنظام الطبقات حسنة أخرى، وهي تدعيمه لطائفة من عادات الطعام والنظافة التي كان يتحتم على كل إنسان أن يراعيها وأن يسمو إليها صوناً لكرامته؛ وكذلك خلع ثوب النظام على ما بين الناس من تفاوت وفروق، لولاه لأصبحت فوضى بغير ضابط، ووفّر على الناس هذه الحمى التي تطغى عليهم في عصرنا الحديث، حمى الصعود في سلم المجتمع والزيادة من كسب المال؛ ونظم الحياة لكل إنسان بأن حدد له تشريعاً معيناً للسلوك في طبقته، كما أعطى أفراد الطبقة الواحدة وسائل تعينهم على الاتحاد في العمل ضد كل استغلال أو استبداد؛ ثم هيأ نظام الطبقات أيضاً مهرباً من الطغيان أو الدكتاتورية العسكرية اللذين لا محيص عن أحدهما بديلاً للأرستقراطية، وأتاح لبلد حرم الاستقرار السياسي بسبب ما قاساه من مئات الغزوات والثورات أتاح له نظاماً واستقراراً في شؤونه الاجتماعية والخلقية والثقافية، لم ينافسه فيهما بلد آخر إلا الصين؛ ولقد طرأ على الدولة مئات التغيرات الفوضوية، لكن البراهمة احتفظوا باستقرار المجتمع بفضل نظام الطبقات، وبهذا احتفظوا بالمدنية وزادوا منها ونقلوها إلى الخلَف، واحتملتهم الأمة صابرة، بل احتملتهم فخورة بهم، لأنه لم يغب عن إنسان واحد أنهم في النهاية هم القوة الحاكمة التي ليس للهند عنها محيص.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: الأخلاق والزواج

"ذارما" - الأطفال - زواج الأطفال - فن الحب - الزنا - الحب الشعري - الزواج - الأسرة - المرأة - حياتها العقلية - حقوقها - "البردة" - السوتي (أي موت الزوجة لموت زوجها) - الأرملة


إذا ما انقرض من الهند نظام الطبقات، تحتم أن يطرأ على الحياة الخلقية فيها طور طويل الأمد تسوده الفوضى، لأن التشريع الخلقي في هذه البلاد قد ارتبط بنظام الطبقات ارتباطاً يكاد لا يكون له انفصام، والأخلاق عندهم هي "ذارما"- أي أنها هي قواعد السلوك في الحياة لكل إنسان كما تحددها له طبقته؛ فلأن تكون هندوسي المذهب، فليس معنى ذلك اعتناقك لعقيدة بقدر ما هو اتخاذك مكاناً معيناً في نظام الطبقات، وقبولك "الذارما" أي الواجبات التي تترتب على مكانك ذاك، وفق ما تقضي به التقاليد والقوانين؛ ولكل مكان من ذلك النظام التزاماته وقيوده وحقوقه، ولا مندوحة للهندوسي الورع أن يسلك حياته ملتزماً تلك الالتزامات والقيود والحقوق، واجداً فيها قناعة الراضي بالطريق الذي مهد له لكي يسير فيه، ولا يطوف بباله قط أن يجاوز حدود طبقته إلى طبقة أخرى؛ جاء في كتاب "بهاجافادجيتا"(98): "خير لك أن تؤدي عملك المقسوم لك أداء سيئاً من أن تؤدي عملاً مقسوماً لغيرك أداء حسناً"؛ إن "ذارما" للفرد من الناس هي بمثابة النمو الطبيعي للبذرة- تحقيق مرسوم الطريق لطبيعة كامنة فيها وقضاء مكتوب عليها(99)، ولقد بلغ هذا التصور للأخلاق من الرسوخ في القدم مبلغاً جعل من المتعذر على الهندوس جميعاً ومن المستحيل على الكثرة الغالبة منهم أن ينظروا إلى أنفسهم نظرة لا تجعلهم أعضاء طبقة معينة، تهديهم وتقيدهم وقوانينها؛ وفي ذلك يقول مؤرخ إنجليزي : "يستحيل تصور المجتمع الهندي بغير نظام الطبقات"(100).

وإلى جانب "ذارما" الخاصة بكل طبقة على حدة؛ نرى الهندوسيين يعترفون "بذارما" عامة، أي التزامات تلتزم بها جميع الطبقات، وتتضمن قبل كل شئ احتراماً للبراهمة وتقديساً للبقر(101)؛ ويأتي بعد ذلك في الأهمية واجب النسل، ففي تشريع "مانو" ما يلي(102): "النسل وحده يكمل الرجل، فهو يكمل إذا ما أصبح ثلاثة- شخصه وزوجه وابنه"؛ فليس الأبناء حسنة اقتصادية لآبائهم فحسب، يعولونهم في شيخوختهم بغير أدنى تردد في هذا الواجب؛ بل هم إلى جانب ذلك سيمضون في عبادة الأسرة لأسلافها، ويقدمون لأرواح هؤلاء الأسلاف طعاماً آناً بعد آن، حتى لا تفنى أرواحهم إذا امتنع عنها الطعام(103)، وبناء على ذلك لم يعرف الهنود ضبط النسل، وعد الإجهاض جريمة تساوي في فداحتها جريمة قتل برهمي(104)، نعم كان يحدث أحيانا أن تقضي الأمهات على الأجنة(105)، لكن ذلك كان نادر الوقوع، لأن الوالد كان يسره أن ينسل الأبناء، ويفخر إذا كان له منهم عدد كبير؛ وإن حنان الشيوخ على الصغار بين الهنود لمن أجمل ظواهر المدنية الهندية(106).

ولم يكد الطفل عندهم يشهد النور حتى كان يأخذ أبواه في التفكير في زواجه، لأن الزواج- في النظام الهندي- إجباري للجميع، والرجل الأعزب طريد الطبقات، ليس له في المجتمع مكانه ولا اعتبار، وكذلك بالنسبة للفتاة إن طال بها الأمد عذراء بغير زواج، فذلك عار أي عار(107) على أن الزواج لم يكن يترك لأهواء الفرد يختار من يشاء، أو لدفعة الحب تدفع العاشق إلى زواج من يهوى، بل كان الزواج عندهم أمراً حيوياً تهتم له الجماعة كلها والجنس كله، فيستحيل أن يوكل أمره إلى العاطفة بما لها من قصر بعواقب الأمور، أو إلى المصادفة تجمع من شاءت بمن شاءت(108) فلا بد أن يتولى الوالدان أمر زواج الوليد قبل أن تستولي عليه حمى الرغبة الجنسية فتقذف به إلى زواج مصيره في نظر الهنود- إلى خيبة الرجاء واليأس المرير: ولقد أطلق "مانو" اسم "زواج الجانذارفا" على الزيجات التي تتم باتفاق الزوجين، ووصف أمثال هؤلاء وصفاً شائناً إذ وصفهم بأنهم وليدو الشهوة؛ نعم إن التشريع يبيح مثل هذا الزواج، لكن الزوجين عندئذ يوشكان ألا يجدا عند الناس شيئاً من الاحترام . ولقد أدى النضوج المبكر بين الهنود، الذي يجعل البنت في سن الثانية عشرة مساوية لزميلتها في أمريكا في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، إلى خلق مشكلة عويصة في النظام الاجتماعي والخلقي فهل الأفضل أن يدبر الزواج بحيث يطابق سن النضوج الجنسي، أم الأفضل أن يرجأ- كما في أمريكا- حتى يبلغ الرجل نضوجه الاقتصادي؟ والظاهر أن الحل الأول للمشكلة يؤدي إلى ضعف البنية في أبناء الأمة(110) ويزيد من عدد السكان زيادة سريعة لا تتمشى مع مقتضيات الظروف، ويضحي بالمرأة تضحية تكاد تكون تامة في سبيل النسل؛ وأما الحل الثاني فيؤدي إلى مشكلة أخرى وهي التأخير الذي تأباه الطبيعة، وإلى كبح الرغبة الجنسية كبحاً يؤدي إلى حبوطها، كما يؤدي إلى الدعارة والأمراض السرية؛ ولقد آثر الهنود لأنفسهم زواج الأطفال على اعتبار أنه أهون الشرين، وحاولوا أن يخففوا من أخطاره بأن يجعلوا بين الزواج وبين إثماره فترة تبقى فيها العروس مع والديها حتى يتم نضجها (111)؛ هذا عندهم نظام اجتماعي قديم، ومن قدمه جاءت قداسته، وإنما نبتت جذوره بادئ ذي بدء في رغبة الناس في منع التزاوج بين الطبقات تزاوجاً قد تسببه مجرد الجاذبية الجنسية العابرة(112) ثم ازداد في نفوس الناس قوة فيما بعد، بسبب أن المسلمين الغزاة، الذين لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً حتى لو لم يكونوا غزاة فاتحين، كانت ديانتهم لا تحرم عليهم أن يسبوا النساء المتزوجات ليكن لهم إماء(113)؛ وأخيراً اتخذ النظام شكله الجامد الذي جعله تصميماً عند الأبوين على وقاية ابنتهما من استثارة الذكور لحساسيتها الجنسية.

والدليل على أن هذه الحساسية عند البنت كانت مرهفة إلى حد ما، وعلى أن الذكر قد يعهد إليه أداء وظيفته البيولوجية لأقل مثير يثير شهوته، ظاهر في أدب العشق عن الهنود؛ فكتاب "كاما سوترا" ومعناها "مذهب الشهوة" هو أشهر كتاب من بين مجموعة كبرى كلها تعبر عن اشتغال عقولهم إلى حد ملحوظ بفنون العلاقة الجنسية في صورتيها الجسدية والعقلية؛ ويؤكد لنا مؤلف الكتاب أنه كتبه "وفق المبادئ التي جاءت في الكتاب المقدس لفائدة العالم؛ وكاتبه هو فاتسيابانا، كتبه عندما كان يحيا حياة طالب ديني في بنارس، ولا يعينه شئ في الدنيا سوى التأمل في ذات الله"(114) ويقول هذا الناسك : "إن من يهمل فتاة، ظناً منه أنها أكثر حياء من أن تكون موضع صلة جنسية، تزدريه هذه الفتاة نفسها وتعده حيواناً يجهل طبيعة ما يدور في عقل المرأة"(115) ويصور لنا "فاتسيابانا" صورة جميلة لفتاة عاشقة(116) لكنه يتجه بمعظم حكمته إلى تصوير فن الأبوين في التخلص منها بالزواج، وفن الزواج في إشباع رغبات جسدها.

ولا يجوز لنا أن نفرض بأن الحساسية الجنسية عند الهنود وقد انتهت بهم إلى إباحية أكثر من الحد المألوف عند غيرهم؛ فقد أقام زواج الأطفال سداً في وجه العلاقات الجنسية السابقة للزواج؛ والعقوبات الدينية الصارمة التي كانوا ينذرون بوقوعها ليحملوا الزوجة على الوفاء لزوجها، جعلت الزنا أصعب جداً وأندر جداً مما هو عليه في أوربا أو أمريكا؛ وكان الزنا في الأعم الأغلب مقصوراً على المعابد؛ ففي الأصقاع الجنوبية كانت رغبات الرجل الشهواني تشبعها له من كن يطلق عليهن "خادمات الله" طائعات في ذلك أوامر السماء، وما خادمات الله- أو "دفاداس" كما يسمونهن- إلا العاهرات؛ وفي كل معبد في "تامل" مجموعة من "النساء المقدسات" اللائي يستخدمن المعبد أول الأمر في الرقص والغناء أمام الأوثان، ثم من الجائز أن يستخدمن بعد ذلك في إمتاع الكهنة البراهمة؛ وبعض هؤلاء النسوة- فيما يظهر- قد قصرن حياتهن على عزلة المعابد وكهانها، وبعضهن الآخر قد وسع من نطاق خدماته بحيث يشمل كل من يدفع أجراً لمتعته، على شريطة أن يدفعن لرجال الدين جزءاً من كسبهن عن هذا الطريق، وكان كثير من زانيات المعابد- أو فتيات الرقص- يقمن بالرقص والغناء في الحفلات العامة والاجتماعات الخاصة، على نحو ما يفعل فتيات "الجيشا" في اليابان؛ وكان بعضهن يتعلمن القراءة، فيكن وسيلة أحاديث ثقافة في المنازل حيث لا تجد الزوجة ما يشجعها على القراءة، ولا يسمح لها بمخالطة الأضياف، وهؤلاء الفتيات القارئات شبيهات بمن كن يسمين hetairai عند اليونان؛ ويحدثنا نص مقدس أنه في سنة 1004 م كان في معبد الملك الكولي "راجا راجا" في تانجور أربعمائة امرأة من "خادمات الله" ؛ وأكسب الزمان هذه العادة صبغة الجلال، فلم ير فيها أحد ما يتنافى مع الأخلاق؛ حتى إن السيدات المحترمات كن آناً بعد آن يهبن ابنة إلى مهنة العهر في المعابد، بنفس الروح التي يوهب بها الابن إلى الكهنوت(117)، ويصف "ديبوا"- في أول القرن التاسع عشر- معابد الجنوب بأنها في بعض الحالات كانت "تتحول إلى بيوت للدعارة ولا شئ غير هذا" ، وكانت عامة الناس تطلق على "خادمات الله"- بغض النظر عن مهمتهن في بداية الأمر- اسم الزانيات، ويستخدمونهن على هذا الأساس؛ ولو أخذنا بقول هذا "الأب" الكهل، الذي لم يكن أمامه ما يبرر أن يتعصب للهند فيما يكتب، علمنا أن :

"واجباتهن الرسمية تتألف من الرقص والغناء داخل المعابد مرتين كل يوم ... وكذلك في الاحتفالات العامة كلها؛ وهن يؤدين الرقص أداء رشيقاً إلى درجة مرضية، على الرغم من أن طريقة الرقص تثير الشهوة وليس في إشارتهن شئ من الوقار؛ وأما غناؤهن فيكاد كله يتألف من أشعار فاحشة تصف ما مر في تاريخ آلهتهم من حوادث الإباحية الجنسية"(118).

في هذه الظروف التي يسودها عهر المعابد وزواج الأطفال، لم يبق أمام ما نسميه "بالحب الشعري" إلا أضيق الفرص؛ نعم إن التفاني المثالي الذي يبديه أحد الجنسين تجاه الآخر، له آثاره الظاهرة في الأدب الهندي- مثال ذلك ما نراه في أشعار "شاندي داس" و "جاياديفا"- لكنه في الأغلب يتخذ رمزاً للروح تسلم زمامها لله؛ أما في الحياة الواقعة، فأكثر ما تظهر فيه هذه الروح هو تفاني الزوجة في زواجها تفانياً كاملاً؛ وأحيانا ترى شعرهم الغزلي من الطراز الخيالي السامي كالذي يصوره شعراؤنا المحافظون على تقاليد الأخلاق المتزمتة من أمثال "تنسن" و "لنجلفو" ، وأحياناً أخرى تراه من الطراز الجسدي الحسي كالذي نعرفه في عصر اليصابات(119)؛ فهذا أديب منهم يوحد بين الدين والحب، ويرى الجانبين معاً متمثلين في نشوة الدين ونشوة الحب؛ وهذا أديب آخر يذكر قائمة من ثلاثمائة وستين عاطفة مختلفة تملأ قلب المحب، ويعد الأشكال المختلفة التي رسمتها أسنانه على جسد حبيبته، أو يصف كيف أخذ يزين نهدي حبيبته برسوم أزهار من معجون الصندل العبق؛ وكذلك يصف لنا مؤلف قصتي "نالا" و "داما يانتي" في ملحمة "ماهابهاراتا" آهات المحبين الحزينة وشحوبهم كأحسن ما تراه عند الشعراء الجوالين في فرنسا(120).

لكن أمثال هذه الأهواء المتقلبة لم يركن إليها نادراً في تقرير الزواج في الهند؛ ولقد أباح "مانو" ثمانية صنوف من الزواج، كان أدناها في القيمة الخلقية هو الزواج بالاغتصاب والزواج "بالحب" ؛ وأما الزواج بالشراء فهو الصورة المقبولة على أنها الطريقة المعقولة لتدبير الزواج بين رجل وامرأة؛ فالمشرع الهندي من رأيه أن صور الزواج التي تنبني على أسس اقتصادية هي في نهاية الأمر أسلم الصنوف عاقبة(121)، وفي أيام "دبوا" كانت العبارة الهندية التي تعنى "يتزوج" ، والعبارة التي تعني "يشتري زوجة" "عبارتين مترادفتين" .

وأحكم الزواج زواج يدبره الوالدين مراعين فيه كل قواعد الزواج من داخل أو من خارج، فالشاب ينبغي أن يتزوج داخل طبقته الاجتماعية، لكنه يختار زوجته من خارج مجموعته العائلية(123)؛ وله أن يتزوج من زوجات كثيرات لكن واحدة منهن فقط يكون لها السيادة على الأخريات، ويشترط فيها أن تكون من طبقته الاجتماعية؛ على أن الأفضل- في رأي مانو- أن يقتصر الزوج على زوجة واحدة وكان على الزوجة أن تحب زوجها في تفان ُيصبّره على المكاره، وأما الزوج فلم يكن ينتظر منه أن يبدي لزوجته حباً شعرياً، بل حماية أبوية(126).

كانت الأسرة الهندية من الطراز الأبوي الصميم، فالوالد هو السيد الكامل السيادة على الزوجة والأبناء والعبيد(127) وكانت المرأة مخلوقاً جميلاً يحب، لكنها أحط منزلة من الرجل؛ تقول أسطورة هندية: أن "تواشتري" المبدع الإلهي، حين أراد في البداية أن يخلق المرأة وجد أن مواد الخلق قد نفذت كلها في صياغة الرجل، ولم يبق لديه من العناصر الصلبة بقية، فإزاء هذه المشكلة طفق يصوغ المرأة من القصاصات والجذاذات التي تناثرت من عمليات الخلق السابقة، يختار قصاصة من هنا وجذاذة من هناك:

"فأخذ استدارة القمر، وتثنى الزواحف وتعلق المحلاق وارتعاش الكلأ ودقة قصبة الغاب وازدهار الزهور وخفة أوراق الشجر وانخراط خرطوم الفيل ونظرات الغزال وتجمع النخل وخلاياه، وبهجة أشعة الشمس المرحة وبكاء السحاب وتقلب الريح وجبن الأرنب وزهو الطاووس وطراوة صدر الببغاء، وصلابة جلمود الصخر، وحلاوة العسل، وقسوة النمر، ووهج النار الدافئ وبرودة الثلج وثرثرة أبي زريق، وهديل الحمام، ونفاق الكركي ووفاء الشكرافاكا، ومزج كل هذه العناصر مزجاً صنع منه المرأة ثم وهبها للرجل"(129) لكن على الرغم من هذه العدة كلها، لم يكن للمرأة في الهند ألا أسوأ الحظوظ؛ فمكانتها العالية التي بلغتها في العصور الفيدية، زالت عنها بتأثير نفوذ الكهنة وبفعل المثل الذي رسمه المسلمون؛ فترى الروح العامة في "تشريع مانو" موجهة ضدها في عبارات تذكرنا بمرحلة أولى من مراحل اللاهوت المسيحي: "إن مصدر العار هو المرأة، ومصدر العناء في الجهاد هو المرأة، ومصدر الوجود الدنيوي هو المرأة، وإذاً فإياك والمرأة "(130) وفي فقرة أخرى تقرأ : "إن المرأة لا تقتصر قدرتها على تضليل الأحمق عن جادة السبيل في هذه الحياة، بل هي كذلك قادرة على تضليل الحكيم؛ فهي تستطيع أن تمسك بزمامه وأن تخضعه لشهوته أو لغضبته" (131) ولقد نص التشريع على أن المرأة طوال حياتها ينبغي أن تكون تحت إشراف الرجل، فأبوها أولاً وزوجها ثانياً وابنها ثالثاً(132)، وكانت الزوجة تخاطب زوجها في خشوع قائلة له: "يا مولاي" و "يا سيدي" بل "يا إلهي" وهي تمشي خلفه بمسافة إن مشيا على مرأى من الناس، وقلما يوجه إليها هو كلمة واحدة (133) وينتظر من المرأة أن تبدي إخلاصها بخدماتها في كل المواقف، بإعدادها للطعام، وبأكلها لما يتبقى بعد أكل زوجها وأولادها، وبضمها لقدمي زوجها إذا حانت ساعة النوم(124) يقول مانو: "إن الزوجة الوفية ينبغي أن تخدم ... سيدها كما لو كان إلهاً، وألا تأتي شيئاً من شأنه أن يؤلمه، مهما تكن حالته، حتى إن خلا من كل الفضائل"(135) أما الزوجة التي تعصي زوجها فمآلها أن تتقمص روحها جسد ابن آوى في خلقها التالي(136).

ولم يكن نساء الهند يتلقين تعليماً -كأخواتهن في أوربا وأمريكا قبل عصرنا هذا الحديث- إلا إن كن من سيدات الطبقة الراقية أو من زانيات المعبد(137)، ففن القراءة كان في عرفهم لا يليق بامرأة؛ ذلك لأن سلطانها على الرجال لا يقوى به، ثم هو يؤدي إلى نقص فتنتها؛ فيقول "طاغور" على لسان "شترا" في إحدى مسرحياته: "إن المرأة يسعدها أن تكون امرأة فقط- أن تلف نفسها حول قلوب الرجال بابتسامتها وتنهداتها وخدماتها وملاطفاتها؛ فماذا يجدي عليها العلم وجليل الأعمال؟"(138) وليس من حقها أن تلم بكتب الفيدا(139)، ففي الماهابهاراتا: "إذا درست المرأة كتب الفيدا كانت هذه علامة الفساد في المملكة" ، ويروي المجسطي عن أيام "تشاندرا جوبتا": "إن البراهمة يحولون بين زوجاتهم- ولهم زوجات كثيرات- وبين دراسة الفلسفة، لأن النساء إن عرفن كيف ينظرن إلى اللذة والألم، والحياة والموت نظرة فلسفية، أصابهن مس من جنون، أو أبين بعد ذلك أن يظللن على خضوعهن"(141).

ثلاثة أشخاص في تشريع مانو لا يجوز لهم أن يملكوا شيئاً : الزوجة والابن والعبد، فكل ما يكسبه هؤلاء يصبح ملكاً لسيد الأسرة(142)؛ على أنه يجوز للزوجة أن تحتفظ بملكية المهر والهدايا التي جاءتها عند زواجها، وكذلك يجوز لأم الأمير أن تحكم البلاد في مكان ابنها حتى يبلغ الرشد(143)؛ ومن حق الرجل أن يطلق الزوجة لخيانتها الزوجية، لكن الزوجة لا تستطيع أن تطلق زوجها لأي سبب من الأسباب(144)، وفي مقدور الزوج إذا ما شربت زوجته الخمر أو إذا مرضت أو إذا شقت عليه عصا الطاعة أو كانت مسرفة أو شكسة، أن يتزوج من غيرها في أي وقت شاء (لا أن يطلقها)؛ على أن في "التشريع" فقرات توحي بالرفق المستنير في معاملة المرأة: فلا يجوز ضربهن "حتى بزهرة" ولا يجوز مراقبتهن مراقبة تجاوز الحدود في صرامتها، لأن دهاء مكرهن عندئذ يجد سبيلاً للشر، وإذا أحببن جميل الثياب فمن الحكمة أن تشبع فيهن ما أحببن "لأن الزوجة إذا حرمت أنيق الثياب فلن تثير في صدر زوجها ميلاً إليها" على حين أنه "إذا زينت الزوجة زينة بهيجة، اكتسب المنزل كله مسحة الجمال"(145) ، ويجب أن تخلى الطريق للمرأة كما تخليه للكهول والكهنة، والواجب أن يطعم "الحاملات والعرائس والكواعب قبل سائر الأضياف"(146) ولئن فات المرأة عندهم أن تحكم باعتبارها زوجة، فلها أن تحكم بوصفها أما، وإن كانت المرأة أما لأطفال كثيرين، استحقت عند الناس أعظم العطف والتقدير؛ فحتى تشريع مانو الذي يؤيد سيطرة الوالد في الأسرة، ينص على أن "الأم أولى بالتوقير من ألف والد"(147).

ولاشك أن دخول الأفكار الإسلامية كان عاملاً على تدهور مكانة المرأة في الهند بعد العصر الفيدي، فقد جاءت إليها عادة "البردة" (أي الستار)- وهي عزل النساء المتزوجات- مع الفرس والمسلمين، ولذلك فهي أقوى جذوراً في شمال البلاد منها في الجنوب؛ ولكي يحمي الأزواج الهنود زوجاتهم من المسلمين- وهذا عامل من عدة عوامل- فقد اصطنعوا نظام "البردة" وتمسكوا به في تزمت بلغ من شدته أن المرأة المحترمة لا تستطيع أن تبدي نفسها لغير زوجها وأبنائها، ولا يمكنها الانتقال خارج دارها إلا مستورة بقناع سميك؛ حتى الطبيب الذي يعالجها ويجس نبضها، لا مندوحة له عن أداء واجبه خلال ستار(148)؛ وإنه لمن الخروج على القواعد الخلقية في بعض الأوساط أن تسأل عن زوجة غيرك أو أن تتحدث وأنت ضيف إلى سيدات البيت الذي يضيفك(149).

كذلك عادة إحراق الأرامل على الكومة التي احترق فيها أزواجهن جاءت إلى الهند من خارج، ويقول عنها "هيرودوت" أنها كانت عادة جارية بين السُّكَّيت القدماء وأهل تراقيا؛ ولو كان لنا أن نصدقه في روايته، إذن لعلمنا أن زوجات الرجل من أهل تراقيا كن يقتتلن تسابقاً على امتياز القتل على قبر الزوج(150)، ولعل هذه الشعيرة قد هبطت إلى الهنود من عادة قديمة كادت تشمل شعوب العالم البدائية كلها، وهي التضحية بواحدة أو اكثر من زوجات الأمير أو الغني، أو من خليلاته، والتضحية معها بطائفة من عبيده، وغير ذلك مما لابد من تقديمه قرباناً إثر وفاته، وذلك ليعنى هؤلاء بالميت في الحياة الآخرة(151)؛ ويذكرها كتاب "إتارفا فيدا" على أنها عادة قديمة؛ أما "رج فيدا" فيذكر لنا أن هذه العادة في العصر الفيدي كانت قد خف شأنها حتى أصبحت محصورة في مطالبة الأرملة بالرقاد على كومة الحطب التي أعدت لزوجها لحظة قبل إحراق جثته(152).

ثم تعود قصيدة "ماهابهاراتا" فتصف هذه العادة الاجتماعية وصفاً يدل على عودتها كاملة بغير شعور من الناس بفداحة ما يفعلون، وهي تذكر أمثلة كثيرة لهذه العادة ثم تضع للناس قاعدة عامة مؤداها أن الأرملة الطاهرة لا تحب أن تحيى بعد زوجها، بل تراها تدخل النار فخورة بصنيعها(153)، وكانوا في هذه المناسبات يحرقون جسد الزوجة في حفرة من الأرض، أو يدفنونها حية، كما كان يحدث بين قبيلة "تلوج" في الجنوب(154)؛ ويروي لنا سترابو أن عادة قتل الزوجة بعد موت زوجها كانت شائعة في الهند أيام الإسكندر، وأن قبيلة "كاثي"- وهي قبيلة تسكن البنجاب- اتخذت من هذه العادة قانوناً حتى لا تدس زوجة لزوجها السم فتقتله(155) ولا يذكر "مانو" عن هذه العادة شيئاً؛ ولقد عارضها البراهمة أول الأمر، لكنهم عادوا فقبلوها، وأخيراً خلعوا عليها قداسة دينية تحميها من العبث، وذلك بأن جعلوها مرتبطة بأبدية الرابطة الزوجية: فالمرأة إذا ما تزوجت رجلا كان عليها أن تظل زوجته إلى الأبد، وستعود إلى الارتباط الزوجي به في حياته المقبلة(156)؛ وهذه الملكية المطلقة من الزوج لزوجته، اتخذت في "راجستان" صورة ما يسمونه "جوهور" وهي عادة تقضي على الرجل من أهل راجبوت، إذا ما أصابه نوع معين من الهزيمة، أن يضحي بزوجاته قبل أن يتقدم هو إلى الموت في ساحة القتال(157)؛ وانتشرت العادة في حكم المغول انتشارا واسعاً على الرغم من كراهية المسلمين لها، ولقد فشل ملوك المسلمين، حتى "أكبر" بكل نفوذه، في زحزحة هذه العادة من النفوس، وحاول "أكبر" ذات مرة أن يثني عروساً هندية عن تقديم نفسها طعاماً للنار على كومة الحطب التي أحرقت خطيبها الميت، وتوسل إليها البراهمة بما يؤيد رجاء الملك، لكن العروس أصرت على التضحية فلما دنت منها السنة اللهب، وكان "دانيال"- ابن "أكبر"- عندئذ ماضيا في إقناعها بالعدول، إجابته قائلة: "كفى، كفى"؛ وحدث كذلك لأرملة أخرى أن رفضت مثل هذه التوسلات بالإقلاع عن التضحية بنفسها، ووضعت إصبعها في شعلة مصباح حتى التهمتها النار، ولكونها أمسكت عن إظهار ألمها بأية علامة من علاماته، فقد عبرت عن ازدرائها لأولئك الذين نصحوها بالإقلاع عن إحراق نفسها جرياً مع الطقوس(158)؛ وفي "فيجاياناجار" كان قتل الزوجة هذا يتخذ صورة جمعية، فلا يكتفي فيه بقتل زوجة واحدة أو عدد قليل من زوجات الأمير أو القائد بعد موته، بل كان لابد لكل زوجاته أن يتبعنه إلى الموت؛ ويروى لنا "كونتي" أن "الرايا" أو الملك قد اختار ثلاثة آلاف من زوجاته البالغ عددهن اثني عشر ألفاً، ليكن مقربات له "على شرط أن يحرقن أنفسهن مختارات عند موته، وأن ذلك ليعد شرفاً عظيماً لهن"159) وأنه من العسير علينا أن نحكم إلى أي حد كانت الأرملة الهندية في عصور الهند الوسطى راضية النفس عن هذه العادة بقوة التأثير الديني والعقيدة، وبقوة الرجاء في أن تعود إلى الاتحاد بزوجها في الحياة الآخرة.

وأخذت "السوتي"- قتل الزوجة بعد موت زوجها- تقل شيئاً فشيئاً كلما ازدادت الهند اتصالاً بأوربا، ولو أن الأرملة لم تزل تعاني صعاباً كثيرة، فما دام الزواج قد ربط المرأة بزوجها رباطاً أبدياً، فإن زواجها مرة ثانية بعد موت زوجها كان يعد جريمة فادحة، ومن نتائجه المحتومة أن يحدث للزواج اضطراباً في حياته المقبلة، وعلى ذلك كان لابد للأرملة وفق قانون البرهمي أن تظل بغير زواج وأن تحلق شعرها وتحيى حياتها (إذا لم تؤثر لنفسها القتل في نار زوجها) معنية بأطفالها ومشتغلة بأعمال البر والإحسان(160) ولم يكن يحكم على الأرملة بالفقر، بل الأمر على عكس ذلك، إذ كان لها الحق الأول في أملاك زوجها(161) غير أن هذه القواعد لم تجد قبولاً إلا عند النساء المحافظات على التقاليد من نساء الطبقتين العليا والوسطى- وهؤلاء نسبتهن ثلاثون في المائة من مجموع السكان- وأما المسلمون والسيخ والطبقات الدنيا فقد أهملوا تلك القواعد إهمالاً تاماً(162) والرأي عند الهنود هو أن هذه العذرية الثانية التي تصطنعها الأرملة عندهم شبيهة بامتناع الراهبات في المسيحية عن الزواج ففي كلتا الحالين ترى طائفة من النساء يرفضن الزواج ويكرسن حياتهن لأعمال الإحسان


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: آداب السلوك والعادات والأخلاق

الاحتشام الجنسي - الصحة - الملبس - المظهر - رقة الفن عند الهنود- سيئات وحسنات - الألعاب - الأعياد - الموت


إن العقل الساذج قد يصعب عليه التصوير بأن هؤلاء الناس الذين قبلوا نظماً اجتماعية مثل زواج الأطفال وعهر المعابد وقتل الزوجة بعد موت زوجها، هم كذلك غاية في رقة الحاشية والاحتشام والمجاملة؛ فلو غضضت النظر عن عدد قليل هن زانيات المعابد، لوجدت البغاء نادراً في الهند، وألفيت العفة الجنسية مصونة إلى حد يستوقف النظر؛ يقول "دبوا" الذي لا يعطف على الهنود في كتابته: "لابد من الاعتراف بأن آداب السلوك واحترام المعاملة الاجتماعية أوضح في قواعدها وأكثر اتباعاً لدى طبقات الهنود كلها، حتى أدنى هذه الطبقات منزلة، منها عند أي شعب أوربي له ما للهنود من مكانة اجتماعية"(164)؛ فالدور الرئيسي الذي يلعبه الجنس في الحديث وفي النكات عند الغربيين، لا تعرفه آداب السلوك بين الهنود، فهذه الآداب تحرم تحريماً قاطعاً كل علاقة علنية بين الرجال والنساء من شأنها أن تعبر عما بينهم من ارتفاع الكلفة، وهي تعتبر التلاصق البدني بين الجنسين في الرقص شيئاً مرذولاً قبيحاً(165)؛ وتستطيع المرأة الهندية أن تذهب خارج دارها أنى شاءت دون أن تخشى من أحد اعتداء أو إساءة(166)؛ بل إن الوضع في عين الشرقي على عكس ذلك؛ إذ يرى الخطر في ذلك واقعا كله على الجنس الآخر، فترى "مانو" يحذر الرجال: "إن المرأة نزاعة بطبعها دائماً أن تغري الرجل، ومن ثم كان واجباً على الرجل ألا يجلس في عزلة مع امرأة حتى إن كانت من أقرب ذوات قرباه" ولا ينبغي لرجل أن ينظر إلى أعلى من عقبي فتاة عابرة(167).

وتأتي النظافة في منزلة بعد العبادة مباشرة؛ فليست القواعد الصحية "بالخلق الأوحد" كما ظن أناتول فرانس، بل هي عندهم جزء حيوي من العبادة؛ ولقد سن "مانو" من عدة قرون تشريعاً يستلزم تهذيب البدن، ففي تعليماته مثلاً: "يجب على البرهمي أن يستحم في الصباح الباكر وأن يزن جسده وينظف أسنانه، ويغسل عينيه ويعبد الآلهة"(168) والمدارس الأهلية تجعل أولى المواد في برامجها آداب السلوك الطيب والنظافة الشخصية؛ فعلى الهندي ذي المكانة المحترمة أن يغسل جسده كل يوم وأن يغسل ثوبه الذي سيرتديه، وإنه ليقشعر تقززاً إذا ما لبس الثوب- بغير غسل- أكثر من يوم واحد(169) ويقول "سير وليم هيوبر": "إن الهنود يضربون المثل لنظافة الأجسام بين القبائل الأسيوية كلها، بل لعلهم يضربونه بين أجناس العالم بأسره ولقد أصبح وضوء الهنود يجري مجرى الأمثال"%=‌@قال هندي كبير- هو لاجبات راي- مخاطباً أوربا: "قبل أن تعرف الشعوب الأوربية شيئاً من قواعد الصحة بزمن طويل، وقبل أن تتبين فوائد فرجون الأسنان والاستحمام اليومي بزمن طويل، كان الهنود بصفة عامة يتبعون العادتين، فلم يكن في منازل لندن أحواض الاستحمام حتى عشرين سنة مضت، وكان فرجون الأسنان من أسباب الترف الكمالي"(171).@ وفيما يلي وصف عادات الأكل عند الهنود كما وصفها يوان شوانج منذ ألف وثلاثمائة عام: "إنهم يندفعون إلى التطهر بدافع من أنفسهم، لا يجبرهم عليه أحد، فحتم عندهم أن يغتسل الآكل قبل وجبته، ويستحيل أن تقدم الفتات والبقايا لوجبة أخرى؛ ولا تستعمل أوعية الطعام لأكثر من أكلة واحدة، فما كان منها مصنوعاً من الخزف أو من الخشب يجب رميه بعد استعماله، وأما ما كان منها مصنوعاً من ذهب أو فضة أو نحاس أو حديد، وجب إعادة صقله؛ ولا يلبث الهنود بعد فراغهم من طعامهم أن يلوكوا مساويكهم لتنظيف أسنانهم، ولا يلمس أحد منهم أحداً إلا إذا اغتسلوا متوضئين"(172).

فمن عادة البرهمي أن يغسل يديه وقدميه وأسنانه قبل كل وجبة وبعدها؛ وهو يأكل بأصابعه من الطعام الذي يقدم على ورقة من أوراق الشجر، اعتقاداً منه مما يتنافى وقواعد النظافة أن يأكل مرتين من طبق واحد، بسكين واحدة أو شوكة واحدة، حتى إذا ما فرغ من طعامه، غسل أسنانه سبع مرات(173) وفرجون أسنانه دائماً، لأنها غصن شجرة يقطعه لتوه لأن الهندي يعتقد أنه مما يسئ إلى سمعته أن ينظف أسنانه بفرجون من شعر الحيوان، أو أن يستعمل الفرجون الواحد مرتين(174)، فما أكثر السبل التي يستطيع بها الناس أن يحتقروا بعضهم بعضاً؛ ولا ينفك الهندي يمضغ ورقة من أوراق نبات الفلفل التي تصبغ الأسنان صبغة قاتمة لا يرضاها لنفسه الأوربي؛ بل لا يرضاها الهندي لنفسه، لكن هذه المضغة مضافة إلى الأفيون الذي يأكله حيناً بعد حين، يعوضانه عن امتناعه المألوف عن تدخين التبغ واحتساء المسكرات.

في كتب القانون الهندي نصوص صريحة على ما ينبغي اتباعه من القواعد الصحية في حيض المرأة(175)، وفي تلبية نداء الطبيعة؛ فلن تجد من القوانين ما هو أدق في ذكر التفصيلات وأرصن في طريقة التعبير، من تلك التي تذكر طقوس التبرز عند البراهمة(176) فالبرهمي إذا ما انخرط في سلك الكهنوت وجب ألا يستعمل في هذه الطقوس إلا يده اليسرى، ويجب أن يستخدم الماء في تنظيف هذه الأجزاء، وإنه ليعد بيته نجساً إذا دخله الأوربيون، لأنهم يكتفون في هذه العملية بالورق(177)؛ وأما المنبوذون وكثيرون من طبقة الشودرا فهم أقل من ذلك مراعاة للدقة، وقد يزيلون هذه الضرورة الطبيعية في أي مكان من جانب الطريق(178)، ولذا فإن الأحياء التي تسكنها هذه الطوائف يكتفي فيها من أجل الصحة العامة "بمجرور" مفتوح يشق في وسط الطريق(179). وفي مناخ حار كمناخ تلك البلاد، تكون الثياب نافلة، فكنت ترى السائلين والأولياء الصالحين عراة الأجسام، وبذلك العرى أكملوا درجات السلم الاجتماعي؛ ولقد تهددت إحدى طوائف الجنوب- كما فعلت قبيلة دوخوبور في كندا- بالهجرة إلى مكان آخر لو اضطر أفرادها إلى لبس الثياب(180)، وكانت العادة حتى أواخر القرن الثامن عشر- على الأرجح- أن يسير الجنسان في الهند الجنوبية (ولا يزال الناس على هذه الحال في بالي) عراة فيما يعلو أوساطهم(181)، وكان الأطفال يكتسون في الأغلب بخرزات وحلقات؛ ومعظم الناس يمشون حفاة الأقدام؛ وإن لبس الهندي الأصيل حذاء اتخذه من القماش، لأنه لا يجوز تحت أي ظرف أن ينتعل حذاء من الجلد؛ وعدد كبير من الرجال كان يكفيه من الثياب خرقة على ردفيه، فإذا أرادوا الزيادة من الغطاء لفوا أوساطهم بثوب، وطرحوا طرفه المرسل على الكتف اليسرى؛ وأما أهل راجبوت فكانوا يلبسون السراويل من كل لون وشكل، وصداراً مخروماً بمنطقة في أسفله، ولفاعاً حول الرقبة، وخفاً أو حذاء في القدم، وعمامة على الرأس؛ جاءتهم هذه العمامة مع المسلمين، ثم أخذها الهنود، وجعلوا من عاداتهم أن يلفوها لفاً متقناً حول رءوسهم في أشكال مختلفة تدل على طبقة لابسيها، لكنها في جميع الحالات تتألف من قماش حريري لا ينتهي طوله، تظل تفكه بغير نهاية كأنه مسحور، فقد يبلغ طول القماش في العمامة الواحدة إذا ما نشرته- سبعين قدماً(182)؛ ونساؤهم يلبسن أثواباً فضفاضة من حرير يسمونها "ساري" أو يلبسن "خداراً" من نسيج البلاد، يتلفعن به على أكتافهن، ويربطنه عند الوسط ربطاً وثيقاً، ثم يرسلنه على القدمين، وهن يتركن أحيانا جزءاً من أجسادهن البرونزية عارياً تحت الثديين؛ ومن عاداتهم كذلك أن يطلوا شعورهم بالزيت فيقيهم حرارة الشمس اللافحة؛ أما الرجال فيفرقون شعورهم في الوسط، ثم يجمعون أطرافه في حزمة خلف الأذن اليسرى، وأما النساء فيضفرن بعض شعرهن حوية فوق الرأس، ثم يرسلن بقية الشعر إرسالاً، وكثيراً ما يزينه بالزهور، أو يغطينه بلفاع؛ فكان لرجالهم هندام لطيف، ولفتياتهم جمال، وجميعهم ذوو قوام رائع(183)، وكثيراً ما يكون الهندي من عامة الناس بقماشة ثوبه على ردفيه أكثر في طلعته جلالا من دبلوماسي أوربي كامل الثياب الرسمية. ومن رأى "بييرلوتي": "أنه مما لا يحتمل جدالا أن جمال الجنس الآري يبلغ ذروة كماله ورقته في الطبقة العليا في الهند"(184) وكلا الجنسين ماهر في استخدام الدهون للتجمل. ونساؤهم يشعرن كأنما هن عراة إذا كن بغير حلى، وعندهم أن خاتماً يوضع في جانب الأنف الأيسر يدل على الزواج، وفي معظم الحالات، تراهم يرسمون على الجبهة رمزاً يدل على العقيدة الدينية.

وإنه لمن العسير أن تنفذ خلال هذه الظواهر الخارجية لتصف أخلاق الهنود، لأن كل شعب فيه خليط من فضائل ورذائل، وترى الزائرين يختارون من هذه ما يروقهم بحيث يؤيدون وجهة نظرهم أو يزينون روايتهم بما يمتع. يقول "الأب دبو": "أظن أن أبشع رذائلهم هي الخيانة والخداع والغش... وهي صفات شائعة بين الهنود جميعاً... ويقيناً إنك لن تجد على الأرض شعباً يستخف بحلف اليمين أو شهادة الزور كما يستخفون(185). ويقول "وستر مارك": "لقد قيل أن الكذب هو الرذيلة القومية عند الهنود"(186). ويقول ماكولي: "الهنود مخادعون متلونون"(187) فالكذب إذا اقترف بنية حسنة كان مغتفراً في رأي "مانو" وفي مواضعات الحياة العملية؛ فمثلاً إن كان قول الصدق سيؤدي إلى موت كاهن، فالكذب عندئذ له ما يبرره(188) لكن "يوان شوانج" يروى لنا فيقول: "إنهم لا يعرفون الخدع ويرعون التزاماتهم التي أقسموا عليها... وهم لا يعتدون على ما ليس لهم متعمدين، ويتنازلون عن حقوقهم أكثر مما تقتضي العدالة"(189). ويقول "أبو الفضل" الذي لا يذهب بهواه من الهنود، يقول عن هنود القرن السادس عشر: "إنهم متدينون، محببون إلى النفوس، مرحون، محبون للعدل، زاهدون في الحياة، قادرون في التجارة، يدعون للصدق، ويعترفون بالجميل، ويتصفون بالوفاء الذي لا حد له"(190).ويقول عنهم "كير هاردي" الأمين: "إن أمانتهم مضرب الأمثال، فهم يقترضون ويقرضون، لا تلزمهم في ذلك إلا كلمة غير مكتوبة، ويكادون لا يعرفون عدم الوفاء للدين" (191). ويقول قاض بريطاني في الهند: "لقد عرضت أمامي مئات القضايا التي كانت أملاك الفرد منهم وحريته وحياته متوقفة كلها على كذبة يقولها، ومع ذلك يأبى على نفسه الكذب"(192). فكيف لنا أن نوفق بين هذه الشهادات المتضاربة؟ يجوز أن يكون التوفيق بينها غاية في البساطة، وهو أن بعض الهنود أمين وبعضهم خائن.

وكذلك قل إن الهنود غاية في القسوة وغاية في الرقة في آن معاً؛ فلقد استحدثت اللغة الإنجليزية لفظة قصيرة قبيحة، استعارتها من تلك الجمعية السرية العجيبة- التي تكاد تكون طبقة اجتماعية- جمعية "الغادرين" التي ارتكبت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر آلاف الجرائم الشنيعة، وذلك- كما قالوا- بغية تقديم هؤلاء الضحايا قرابين للإلهة "كالي"(193)، وأما الكلمة التي استحدثتها اللغة الإنجليزية لتدل على هؤلاء الغادرين فهي Jhugs وقد كتب عنهم "فنسنت سمث" بلغة ليست غربية عن عصرنا هذا، فقال: "هذه العصابات توشك ألا تخشى أحداً، وتكاد تتمتع بحصانة تامة... فلها دائماً حماة أقوياء؛ ولقد هبط الشعور الخلقي عند الناس هبوطاً بحيث لا تشهد فيهم أثراً للجزع من هذه الجرائم المدبرة التي يقترفها هؤلاء "الغادرون" ، وذلك أن هذه الفئة المجرمة قد انخرطت في مجرى أمور الحياة جزءاً منها لا يتجزأ؛ وقبل أن يفتضح سر هذه الجمعية، ... كان يستحيل عادة أن تظفر بدليل يثبت الجريمة على هؤلاء الغادرين، حتى الذين اشتهروا منهم بين الناس"(193أ).

ورغم ذلك فالجرائم في الهند قليلة نسبياً، وحوادث الاعتداء نادرة، فالعالم كله مجمع على أن الهنود من الوداعة بما أوشك أن يكون جبناً وضعفاً(194) فهم يجاوزون الحدود في التزلف وحسن الطوية، وقد طحنتهم رحى الغزو والحكومات المستبدة الأجنبية زمناً امتد وطال إلى حد افقدهم القدرة على أن يكونوا من المقاتلين الأشداء، إلا إذا فهمنا القتال بمعنى احتمال الألم، عندئذ ترى لديهم من الشجاعة ما لا يشق لهم فيه غيار(195) ولعل أبشع سيئاتهم عدم المبالاة والكسل، ولو أن هاتين الصفتين في أعين الهنود ليستا من السيئات، بل هما ضرورتان للمناخ ومواءمة أنفسهم لجو بلادهم، مثل حلاوة الطبع، التي تتصف بها الشعوب اللاتينية؛ والحمى الاقتصادية التي جن بها الأمريكيون؛ والهنود حساسون، عاطفيون، ذوو أهواء وأصحاب خيال؛ ولذلك تراهم أبرع في الفن والشعر منهم في الحكم والتنفيذ، فلئن وجدتهم يستغلون بعضهم بعضاً استغلالاً فيه من الشدة والعنف ما تلمسه في المستغلين بسواهم في أي بلد من بلاد العالم، فقد كانوا كذلك يتصفون بسخاء لا يقف عند حد، وهم أكرم أهل الأرض للضيف، إذا ما غضضت النظر عن الشعوب الهمجية الأولى(196) فحتى أعداؤهم لا يسعهم إلا الاعتراف بحسن مجاملتهم(197)؛ وهذا هو إنجليزي سمح الأخلاق يلخص لنا تجاربه الطويلة فيعزو للطبقات العليا من أهل كلكتا "آداب السلوك المهذبة ووضوح التفكير وكماله وشعور التسامح والتمسك بالمبدأ، مما يطبعهم بطابع السادة المهذبين في أي بلد من بلاد العالم"(198). والعبقرية الهندية في عين الغريب عن البلاد تبدو حزينة سوداء، ولاشك في أن الهنود لم يصادفهم في الحياة كثير مما يبرر لهم المرح؛ وتشير محاورات بوذا إلى أنواع كثيرة مختلفة من اللعب، بينها لعبة شديدة الشبه جداً بلعبة الشطرنج%=@الشطرنج من القدم بحيث ترى نصف الشعوب القديمة تدعيه لنفسها، لكن الرأي السائد بين الباحثين في منشأ هذه اللعبة هو أنها نشأت في الهند، ويقيناً أننا نجد هناك أقدم شبيه لها مما لا يحتمل الجدل (حوالي سنة 750 م)، وكلمة شطرنج بالإنجليزية chess جاءت اشتقاقاً من الكلمة الفارسية شاه ومعناها ملك، وكلمة "كش الملك" بالإنجليزية Checkmate هي في الأصل "شاه مات" أي "مات الملك" ويسميه الفرس "شطرنج" ولقد أخذوا الكلمة واللعبة كليهما من الهند عن طريق العرب، وكانت اللعبة في الهند يطلق عليها اسم "شاطورنجا" ومعناها "الزوايا الأربع"- الفيلة والجياد والعربات الحربية والمشاة؛ ولا يزال العرب يسمون القطعة التي هي بالإنجليزية "Bishop" بالفيل(200).

ويروى لنا الهنود أسطورة ممتعة يعللون بها نشأة اللعبة، فتقول هذه الأسطورة أنه في بداية القرن الخامس من التاريخ الميلادي، أساء ملك هندي إلى أعوانه المعجبين به من طبقتي البراهمة والكشاترية، وذلك بأن أهمل مشورتهم ناسيا أن حب الشعب له هو أرسخ دعامة لعرشه، فأخذ برهمي- يدعى سيسا- على نفسه أن يفتح عيني الملك الشاب باختراعه لعبة تكون فيها القطعة التي تمثل الملك- رغم سموها عما عداها في الجلال والقيمة (كما هي الحال في حروب الشرق)- إن تركت وحدها تكاد تتجرد من كل حول وقوة، ومن ثم جاءت لعبة الشطرنج؛ ولقد أعجب الملك باللعبة إعجابا دعاه إلى أن يطلب إلى سيسا أن يحدد لنفسه ما شاء من جزاء، فطلب سيسا في تواضع حفنة من أرز، وإنما يحدد مقدارها بأن توضع حبة واحدة من الأرز في المربع الأول من مربعات رقعة الشطرنج، وعددها أربعة وستون، ثم يضاعف في كل مربع لاحق عدد حبات الأرز في المربع السابق، فوافق الملك من فوره، لكنه سرعان ما دهش إذ رأى أن وعده ذاك يقتضي أن يدفع كل ما في ملكه، فانتهز "سيسا" هذه الفرصة السانحة، وأشار إلى مولاه كيف يمكن الملك أن يضل عن جادة السبيل إذا ازدرى رأي مستشاريه.@ ، لكن لا هذه الألعاب التي أعقبتها تدل على فرح ومرح كاللذين تراهما في ألعاب الغربيين؛ وأدخل "أكبر" لعبة "البولو" في الهند في القرن السادس عشر، التي جاءت على الأرجح من بلاد فارس ثم شقت طريقها عبر التبت إلى الصين واليابان(202) وكان يمتعه أن يلعب بلعبة "باشيسي" (وهي التي تسمى اليوم بارشيسي) في مربعات تحفر في أرض فناء القصر في "أجرا" وكان يتخذ اللعبة قطعاً حية من الإماء الجميلات(203).

وكانت الأعياد الدينية الكثيرة تخلع لوناً زاهياً على حياة الشعب، وأعظم هذه الأعياد "دورجا- بوجا" الذي يقام تكريماً للإلهة الكبرى أم الإلهات "كالي"، فيأخذ الهنود في الاحتفال والغناء عدة أسابيع قبل قدوم ذلك العيد؛ ثم يأتي يوم الحفل العظيم، فيسير موكب تحمل فيه كل أسرة تمثالاً للإلهة، ويتجه صوب الكنج حيث يلقون في النهر بتلك التماثيل الصغيرة، ثم يعود الجميع إلى ديارهم ليس على وجوههم شئ من علائم المسرح السابق(204).

وأما الاحتفال "المقدس" الذي كانوا يقيمونه تكريماً للإلهة "فاسانتي" فقد كان يصطبغ بشيء من المجون، إذ يحملون- وهم مشاة في صف- رموزاً للعلاقة الجنسية يهزونها هزات تمثل حركات العملية الجنسية(205) وكان وقت الحصاد في "شوتاناجبور" إيذاناً بإباحية خلقية "حيث يطّرح الرجال جانباً كل أوضاع التقاليد، ويخلع النساء عن أنفسهن كل حياء، ويترك للفتيات الحبل على الغارب يفعلن ما شئن بغير قيود" ؛ وهناك قبيلة تدعى "بارجاني"- وهي طبقة من الفلاحين تسكن تلال "راج محل"- تقيم احتفالاً زراعياً كل عام، يباح فيه لغير المتزوجات أن ينغمسن في علاقات جنسية حرة من كل ضابط أو نظام(206).

ولاشك أن في هذه الحفلات آثاراً من السحر الزراعي القديم، الذي كان مراده أن يزيد الأسر والحقول خصوبة؛ وأما حفلات الزواج التي تتمثل فيها أكبر حادثة في حياة الهندي، فقد كانت أكثر احتشاماً؛ وكم من أب جلب على نفسه الخراب في إعداد وليمة فاخرة بمناسبة زواج ابنته أو ابنه(207). وفي ختام الحياة يقام حفل ختامي- هو الاحتفال بإحراق جثمان الميت، فقد كانت الطريقة المألوفة في أيام بوذا هي الطريقة الزرادشتية في تعريض الجثة لسباع الطير؛ إلا إن كان الميت علماً من الأعلام البارزين، فعندئذ تحرق جثته بعد موته، على كومة من الحطب، ثم يدفن رماده في ضريح يحفظ ذكراه(208) لكن هذه الطريقة في إحراق الجثة عمت الناس جميعاً فيما بعد، حتى لترى كل ليلة حطباً يجمع ويكوم لإحراق الموتى؛ وفي عصر "يوان شوانج" لم يكن من الحوادث النادرة أن يقبل الكهول المتقدمون في السن على الموت راضين، فيطلبوا إلى أبنائهم أن يسبحوا بهم في زورق على نهر الكنج إلى منتصفه حيث يقذفون بأنفسهم في نهر الخلاص(209) ومثل هذا الانتحار في ظروف معينة قد صادف في الشرق قبولاً أكثر مما صادف في الغرب؛ فكان مباحاً في عهد "أكبر" للكهول وللمرضى الذين لا رجاء في شفائهم، ولأولئك الذين ابتغوا تقديم أنفسهم قرباناً للإلهة؛ وأن بين الهنود آلافاً كان آخر عبادتهم أن يجيعوا أنفسهم حتى الفناء، أو أن يدفنوا أنفسهم في الثلج، أو يهيلوا على أنفسهم روث البقر ثم يشعلوا فيه النار، أو أن يتركوا أنفسهم للتماسيح تلتهمهم عند مصب الكنج؛ ولقد نشأ بين البراهمة نوع من "الهاراكيري" (وهو اسم للانتحار عند اليابانيين يأتونه تخلصاً من عار) فينتحر المنتحر ليرد عن نفسه أذى أو يحتج على إهانة؛ وحدث أن فرض أحد ملوك راجبوت ضريبة على طبقة الكهنة، فطعن عدد كبير من أغنى البراهمة أنفسهم انتحاراً بين يديه، وهم يستنزلون عليه لعنة هي في زعمهم أبشع اللعنات وأشدها أثراً- ألا وهي لعنة يستنزلها كاهن وهو يلفظ الأنفاس الأخيرة؛ وتنص كتب التشريع البرهمي على أن من أراد أن ينتزع روحه بيده، عليه صيام ثلاثة أيام، وأما من حاول الانتحار وفشل في إنجازه فعليه أن يؤدي أقسى ما عرفوه من كفارة وتوبة(210)، إلا أن الحياة مسرح له مدخل واحد ومخارج عدة.