رمبرانت

رمبرانت هارمنزون فان رين (1606 - 1669)، رسام هولندي.

في نهاية عبثية قاسية .. وبما يوازي خمسة دولارات وعشرين سنتا .. دفنت أمستردام في مدافن الفقراء والمتسولين جسد رمبرانت أعظم مصور أنجبه التاريخ تاركا وراءه للإنسانية كنوزا من روائع الفن لاتقدر بثمن .

.. وأخذته الأرض دون تقدير من أحد ولكن ظل رمرانت مصارع الظل والنور هو العبقري الذي لم يطاوله أحد من الفنانين قدرة وإبداع في ترويضهما .. فلى مدى حياته غاصت فرشاته تنقب في اللون الداكن عن خيط النور .. تنتشله .. تنشره ضوءا يطفو فوق وجها لإنسان .. أو جزءا منه .. أو قطعة ثوب .. ليوجهه حينما يجب أن يكون الضوء دراميا وفنيا .. فصار الضوء والإعتام على سطح لوحاته إنسانيا .. ودرامية لوحاته لاتحتمل الوسط الضوئي .. فإما الضوء أو الإعتام في المصدر . لذلك يأتي ضوئه هاجما مشعا من خلال نافذة يقتحمها نور الخارج .. أو يأتي باهتا معتما متسللا عبر شمعة منزوية في أحد أركان المشهد أو مصباح في عمق اللوحة .

عاش رمبرانت حياة فنية مغرقة في اللون الداكن .. وعاش حياة درامية مغرقة في البؤس والهوان .. ومن بؤس حياته المعتمة خلف وراءه أعظم لوحات مشعة فنيا في تاريخ الفن الأوروبي والعالمي .. ولتكون لوحاته مثل نفسها هي مصدر ضوء بزغ لحياة مغرقة في الهموم .

وتنتهي حياة رمبرانت إلى مقابر الشحاذين والفقراء دون مودعين .. وتنتهي لوحاته إلى أكبر متاحف العالم حيث أمامها يقف الآلاف منبهرين ..

وليشهد مؤرخو الفن ونقاده في العالم على أن رمبرانت أعظم مصور أنجبه التاريخ .

.. ورمبرانت هارمنزون فان رين مصور عبقري وإبنا للقرن السابع عشر الباروكي .. وإبنا لعائلة من الخبازين فكان أفضل قطعة خبز هولندية على مدى تاريخها الزاخم بالفنانين .

ولد في ليدن الهولندية في 15 يوليو 1606 وفيها مات بعد 63 عاما ..

نشأ في طاحونة ومخبز يملكهما والده على ضفاف نهر الراين ..

التحق بالجامعة في سن الرابعة عشر .. وتركها بعد شهور رغم غضب والده واتجه لدراسة التصوير بتشجيع أمه .

التحق بمرسم المصور جاكوب فان سوا ينبرج ف مدينته ليدن .. وإشباعا لرغبته في التعلم اتجه إلى أمستردام عام 1624 ليتعلم في مرسم الفنان بيتر لاستمان أشهر مصوري هولندا آنذاك .

.. لم يكمل دراسته بالمرسم بعد ماشاهد أعمال الفنان الإيطالي كارفاجيو وانبهر بطريقته في استخدام الضوء وقدرته على توجيه الإيماءات والحركات داخل اللوحة .. في حين لم ينبهر بلوحات روبنز الأرستقراطية النزعة .. ولا بأسلوب لاستمان في إثارته للعواطف .

وبدأ رحلة ذاتية لإيجاد أسلوب مميز له بعيدا عن أسلوب الفن الهولندي ..

حدث هذا في سن التاسعة عشر من عمره .. وعكف جادا باحثا ومجربا في مرسمه حتى شاءت شهرته .. وفي العام التالي اختار أمستردام مكانا مناسبا لتحقيق ذاته وبيع لوحاته .. وبالفعل حقق مكاسب طائلة لم ينالها فنان في مثل سنه .. فقد كان يلبي طلبات فنانين مجتمعين .. فكان من أسرع وأمهر الرسامين دقة وبراعة وكان يرسم دون انقطاع وقد فقد الكثير من أعماله ورغم ذلك لدينا مالايقل عن 500 لوحة وحوالي 300 حفر ((إتشنج)) وأكثر من 1500 رسما .

وبدأ اسمه يحلق عاليا فوق أسماء سائر الفنانين الهولنديين لما يتميز به من مهارة فنية وسعة أفق وأمانة .. وقد ساعدته صفاته هذه على الزواج من حبيبته ساكسكيا التي عشقها رغم أنها ابنة لإحدى الأسر العريقة التي لم ترضى عن هذا الزواج حتى وفاته .. ولمهاراته كان يحدد أسعار لوحاته وتتدفق الأموال عليه دفقا .. ومع ذلك اضاعها في ولائم أقامها لأصدقائه وقروض لكل من قصده .. طالبا المساعدة وحين احتاج المساعدة تنكر له الأصدقاء .

وفاضت لوحاته بدفء الحياة .. لذلك ظلت إلى اليوم تثير المشاعر لاهتمامه باللمسة الإنسانية ومشاهد الحياة اليومية التي اهتم بها في لوحاته .. كما كان من أوائل مصوري أوروبا الذين أنزلوا التصوير الديني إلى أرض الواقع وجعلوا من فنهم معبر عن الضعف الإنساني وقوته .. فكان الإنسان وما في أغوار أعماقه أشد ثراءا وأرفع قيمة فنية وتعبيرية لديه من لوحات فناني القرن السادس عشر الذين هدفوا إلى نقل الطبيعة لإرضاء طبقة الأثرياء .. أو لتمثيلهم المواضيع الدينية لتوضع داخل الكنائس ..

وشحذ رمبرانت نفسه للتبير عن الذوق الهولندي بعيدا عن الأرستقراطية وكانت وسيلته الضوء الكاشف دائما لما بالداخل ..

وهي الوسيلة الهامة الإنسانية عنده في التعبير الفني والنفسي في الكشف عن خفايا النفس البشرية .. وطغت السمة المتفائلة ذات المسحة الناعمة شيء من الحزن والأسف . لكن الأسف الحقيقي القاسي نجده في حياته وليس في لوحاته .

.. وكان الناس لمهارته يقولون في أمستردام : ((لو لم يرسمك رمبرانت لما أصبحت شيئا مذكورا)) . وفي ذلك الوقت كانت أمستردام تعتبر أكثر المدن الأوروبية إثارة وأهمية ومحط الأنظار .

وبدأت تتكشف على طرف فرشاته دلالات غامضة النفس البشرية لم يطرقها قبله فنان . فروبنز اقترب من هذا الإحساس الغامض تجاه النفس لكنه وقع أسير جمال الجسد الإنساني .. وجان فان آيك الذي قدم للإنسانية أروع لوحات الليل إذا برمبرانت يأتي وقد شق بفرشاته جدار الليل وحول الظلال الباهتة إلى ظلمات متراكمة غلقت الوجود داخل اللوحة .. وبذلك ظلت لوحاته شاهدة وباقية مطلة علينا من أعماق مالا تدركه العين ولكن تدركه الروح بشفافيتها في غاية ايسر . مما سهل على كل من شاهد لوحات رمبرانت أني قع اسير غموضها وسحرها الخاص .

ولم يكتف رمبرانت بكشف أغوار نفس من يجلسون أمامه ليخرج بفرشاته الداكنة مابداخلهم بل جعل من نفسه نموذج للرسم وللتأمل العميق لما للذات من تغير عبر السنين وماتتركه على الوجه من علامات لاتخطئها العين هي تجاعيد آثار وقع خطوات الزمن داخل النفس وقد انعكس صداها إلى الخارج .. لذلك اهتم برسم أقرب الذوات إليه وهي نفسه واهتم برسم عدد كبير من لوحات العجائز .. وإن بحثنا لن نجد فنان خلف هذا القدر الكبير من الصور الذاتية مثلما فعل رمبرانت حتى إنه كان يصور نفسه في العام الواحد مرتين تقريبا ..

وحلقت عبقريته بلا حدود من رسم الصور الشخصية وما أحاطها من مسحة سيكولوجية وكأنه عالم للنفس البشرية إلى تصوير البورتريهات الجماعية ..

.. وكانت أهم وأول الصور الجماعية التي أنجزها في أمستردام فور استقراره بها وهو في السادسة والعشرين من عمره تلك التي رسمها تلبية لطلب تلقاه من الدكتور نيقولاس تولب ليصوره هو وأطباء قسم الجراحة بمستشفى أمستردام أثناء إلقاءه درس التشريح عليهم .. وذهب رمبرانت إلى غرفة التشريح ليصورهم صورة تضم ثمانية من الطباء مجتمعين حول جثة رجل شاحبة ممدة فوق منضدة التشريح وقد انكبوا على لاجثة يرمقونها بعيون مدققة فاحصة .

الصورة نموذج لصور البورتوريهات الجماعية التي شاءت في هولندا .. وتفوقه المذهل في إبداعها كان سبب ذياع صيته وسمعته .. وهو هنا يقدم ثمانية بورتريهات مجتمعين في لوحة واحدة .. الضوء موحي بأنه قادم من نافذة أو مصباح جهتنا نحن المشاهدين للوحة .. فأضاء الوجوه جميعا وجسد الجثة المسجاه أمامهم والذي حظى بأكبر قدر من إنصباب الضوء عليه .

وقفت الشخصيات إلى يمين الدكتور توليب في غير تنظيم وهذا لم يكن مألوفا في الصور الجماعية ..

يبرر عدم توجه نظرهم جميعا إلى لاجثة أن الدكتور توليب نفسه ينظر إلى جهة ما .. فهو يشرح وضع نظري والباقين منهم من ينظر إلى الدكتور أو الجثة أو منصت فقط .. فاللوحة لم يصورها رمبرانت أثناء محاضرة حقيقية لكنها محاضرة تشريح من أجل التصوير .. وظهر فيها بوضوح دكتور توليب رافعا بالمقص الطبي إحدى عضلات الذراع اليسرى موضحا للأطباء نظام عملها ..

وصورة هذه العضلات لم ينقلها رمبرانت من الواقع بل من رسومات توضيحية في كتاب طبي عن جسم الإنسان لأدريان فان اسيجل ..

ونجح رمبرانت بحساسيته العالية في نقل الإحساس بأننا أمام مشهد تشريح لذراع حقيقية يجمعه في مشهد للأطباء في حالة تركيز شديد رغم أنه ليس أمامهم ذراع مفتوحة وبين أمانة التفصيلية العلمية الخاصة بعضلات الذراع وتشريحها .

وقد رسم ربرانت لوحته من زاوية إلى أقصى يمين المشهد فقد ظهر باطن قدمي الجثة دليل أنه صور المشهد من زاوية منخفضة ليعطي الاهتمام لوجود الأطباء النبهاء كطلب تخليدهم في اللوحة .. وقد ظهر في مقابل قدمي الجثة كتابا طبيا ضخما مفتوح .. نراه من الخلف وكأن الدكتور توليب يسترشد بالمرجع العلمي إلى جانب الدرس العملي فكانت اللوحة كاشفة عن الروح العلمية والعملية التي سادت ذلك العصر والتقدم الطبي الذي حظت به هولندا .

اللوحة درامية ويؤكد دراميتها - غير الموضوع نفسه - تلك الظلال الساقطة على أطباء الدرس وكأنهم قد كتموا الأنفاس للحظة أكدتها برودة الظلال على الوجوه .. كما أن خلفية اللوحة تبدو وكأن حجرة التشريح تقع في قبو منحني أسفل مستشفى أمستردام .. مما زادها برودة ووحشة .

عالم الإعتام الذي أحاط بالأطباء له روعة مفعمة بالأنفاس المتوترة من الأطباء وسط هذا العالم الغامض الفارق بين الموت والحياة .. ومتعة ومغامرة استكشاف المجهول داخل جسد الإنسان ..

تعرضت هذه اللوحة للإهمال أثناء تنظيفها خلال القرنين الماضيين حتى تلاشت أجزاء من الشخصيات الواقفة بأقصى اليسار في مساحات ضبابية سوداء .

وقد أتم ربمبرانت هذه اللوحة عام 1632 وهي تعد من أعظم لوحاته التصويريرة الخالدة والتي يقال أن الدكتور تولب مات وهو يتطلع إلى صورته داخلها وهو فخور .

.. ومضى ربمبرانت يصور زوجته التي يعشقها ساسكيا مخلدا إياها في عدة لوحات .. إحداها وهي ((متشبهة بفلورا)) 1634 في متحف الأرميتاج بليننجراد . وصورها وهي مرتدية أزياء تاريخية أ\و شاعرية وصورها قبل زواجهما وبعده .. ومن أجمل الصور التي تكشف سعادتهما تلك الصورة اليت ضمتهما معا يضحكان في جذل من فرط سعادتهما بعد زواجهما بعام تقريبا .. وهذه اللوحة من صور رمبرانت النادرة التي يظهر فيها ضاحكا ..

في اللوحة تجلس ساكسيا ورمبرانت ونراهما من الخلف ولكنهما يلتقيان برأسيهما إلينا وقد انعكس على وحهيهما الضوء الناعم القادم من جهتنا ويبدو أ، رمبرانت صور هذه اللوحة من المرآة خلفه .. ساسيكا الجميلة تجلس فوق ساقي زوجها ومن خلفهما يظهر جزء من مائدة فوقها طعام مغطى برأس طاووس معدني .

يبدو رمبرانت شابا نضرا مقبلا على الحياة . يرتدي قبعة سوداء تزينها ريشة بيضاء جميلة متدلية إلى الجانب سقط عليها الضوء فزادها بهاء وإلى جانبه يتدلى سيفه . ويرفع بيده اليمنى كأسا طويلا كأنه يدعونا لنشرب معه نخب زوجته التي يعشقها وهي تلتفت سعيدة في أبهى زينتها إلى حيث يقف المشاهد ليراهما معا وقد تزينت بالحلي النفيسة .. ومن يدقق النظر في وجه ساسكيا يجدها مستمتعة بهذه المكانة الخاصة .. وفي نفس الوقت هي خجلة من هذا العرض الجماهيري .

رسم رمبرانت هذه اللوحة بين عامي 35 - 1636 ومحفوظة الآن يمتحف درسن .

.. في تلك الفترة رسم ربمران لوحته ((رفع الصليب)) 1633 والموجودة بميونخ .. نرى في مشهد درامي مؤثر سقوط الضوء على المسيح وإضاءة جسده كاملا وأحد الموجودين فقط وخيم الظلام الدرامي الموحي على باقي اللوحة .. وفي الخلفية والجانبين ازدادت اللوحة قتامة ولكن يمكننا رؤية جمع غفير يبدون كأشباح مما يزيد من تأكيد دراميتها العالية وما تتركه من إحساس مكتف بالمعاناة لايزول .

وقبلها صور لوحة ((تقديم يسوع الطفل إلى الهيكل)) 1628 وقد وفق رمبرانت في هذه اللوحة بالتعامل مع الفراغ الشاسع خلف الشخوص مستخدما ببراعة الضوء الذي سلط فوق الوجوه والثياب والجدران دون إفراط والمشهد كله يرى بوضوح . مع توزيع كم الظلال التي تناسب وقار المشهد الذي سيطر عليه اللون المخملي مع الإضاءة الناعمة التي أضفت كثير من البريق على المشهد ..

ولصور ربمرانت الدينية آلفة كبيرة ويرجع هذا لاسحر الأخاذ فيها إلى أن رمبرانت لم يرسمها لتعرض في الكنائس فقد كان حرا في تصوير الموضوعات الدينية واستنباط وابتكار موضوعات جديدة تنطوي على رؤى خاصة به وحدة .. إلا أنه كلف مرة واحدة من قبل بلدية أمستردام بتصوير لوحة ((نزول المسيح من الصلب)) 1632 بعد أن رأوا لوحته ((رفع الصليب)) .

وقبل هذا العام 1626 رسم لوحة ((توبيا الأعمى يتهم أنا بسرقة الجدي)) والتي تعتبر من أعماله الأولى بعد تركه مباشرة مرسم بيتر لاستمان . وقد رسمها في ليدن حين كان يتقاسم مرسم مع جان ليفيز وقد صورها عن قصة قد يكون مشكوك في صحتها عن كتاب توبيا وهو يتهم ((أنا)) بسرقة الجدي .. إضاءة اللوحة شديدة وألوانها محددة من ظلال كثيفة . وفوق هذا يبدو فيها تأثر رمبرانت التلميذ بخطوط لاستمان .

.. ورسم لوحة ((النبي إرميا حزينا)) على دمار أورشليم عام 1628 وموجودة الآن بمتحف ريكس بأمستردام . التي كشف فيها الضوء بذكاء وجه النبي إرميا ذو اللحية الذهبية المضيئة كما انكشف بوضوح بريق الأواني الذهبية والحاشية العريضة أسفل ثوبه .. وقد خلق الرسام جوا دراميا محيطا رغم الضوء الساطع يتحد وحزن النبي إرميا فنفذ إلى أعمق مايستكين في أعماقه الغارقة في تفكير حزين بلا نهاية أو أمل لما حدث . فانعكف في محرابه في حالة من التأمل الحزين الذي ساعد الضوء في المقدمة والعتمة في الخلفية معا على إبراز قدر كبير من الدراما باللوحة .

.. وفي 1628 أنجز لوحته (اثنان من الفلاسفة يتناقشان)) وقد لعب الضوء في اللوحة دورا كبيرا ومثيرا ويوحي الضوء الساطع على وجهي الشيخان وملابسهما بحالة التنوير والوصول إلى حل للمعضلة الفلسفية التي يناقشانها .. وقد قيل أن مايتجادلان فيه يتصل بقضية لاهوتية وقضية تخص وصية الميت ..

اللوحة أنجزها رمبرانت في سن صغير لكن وضح فيها ملامح فنه التي تأكدت على مدى تاريخه الفني من اهتمامه باللون الدرامي وتوزيع الضوء وإظهاره بإحداث تضاد شديد بين الشخصيتين حتى أنه أحدث تضاد ضوئي داخل الشخص الذي عمق الصورة فالجانب الأيمن منه مظلم تماما والأيسر مضيء تماما .. اللوحة موجودة حاليا بنورنبرج .

.. أما ((الفيلسوف المتأمل في حجرته)) والموجودة حاليا بمتحف اللوفر في باريس فقد رسمها عام 1632 . وقد رسمها في موطنه ليدن .. ونشهد فيها فيلسوف جالس إلى جوار نافذة في حالة تأمل غارقا في الظلال إلا أن ضوءا أضاء جسده .. ضوء قادم عبر نافذة وحيدة .. وقد أدخل رمبرانت متعمد طريقتين للإضاءة داخل العمل الواحد للمقارنة بين ضوء النهار القادم عبر النافذة وبين ضوء وسط هذا الظلام تتناسب نفسيا والفراغ المحيط بها في سكون مطبق وقد ذابت الغرفة بعتامتها للتوحد والشيخ الفيلسوف في كيان واحد .. برع رمبرانت في اقتناس ملامح الوجه المتأمل والتأكيد عليه للإيحاء بالأظلام وإعادة توزيع الضوء على وجهه وكان الضوء داخل متسللا جزءا فجزءا .. ونشعر بوحدة هذا الفيلسوف وأنه لايشعر بما حوله من فيض دفق أفكاره التأملية وماطرحته على وجهه من ثراء روحي يسهل على المشاهد إدراكه ومعايشته بمجرد إلقاء نظرة إلى هذا الجالس المفهم بالحرارة العقلية وماتشعه من حيوية تحيط بالمفكر رغم السكون .. وقد بدت ألوان رمبرانت براقة لتتسق مع الحيوية العقلية رغم الإعتام والتضاد القوي بين النور والظلام .

.. ومثلما رسم رمبرانت الفيلسوف المتأمل رسم العديد من الفلاسفة والشيوخ في حالة عزلة وتأمل معتزلين في صوامعهم تماما كاعتكاف الفكر داخل جماجمهم ، فهذه الجماجم هي الأخرى صوامع وايضا لها نوافذ . ونوافذها في العين المنفتحة على العالم الخارجي ، كهذا الشيخ المسن المستغرق في التأمل داخل صومعته المظلمة قد أغمض جفونه وأسدلها .. وهذه الطريقة أجاد رمبرانت تصويرها مثلما أجاد رسم العميان وماكان يثيره فيهم ويبهره أيضا هو ذلك الإحساس لديهم بقناعتهم بالنظر إلى الداخل واكتفائهم بالنور الذاتي عن النور الخارجي . وعن هؤلاء الفلاسفة والعميان والمتأملين في خشوع وسكون داخلي يضيء الخارج . قال الناقد الفرنسي والمؤرخ التاريخي رينيه ويج : ((إن في الغرب كما في الشرق من كبار الشعراء كثيرا ماكانوا يصابون بالعمى كما تقول الحكاوي الشعبية .. ففي الغرب أول الشعراء بل أعظمهم وهو هوميروس كان أعمى .. صحيح أننا لانعرف على وجه اليقين هل وجد هوميروس حقا أم لا ..؟ وهو اسمه يحجب عدة أسماء أخرى ..؟ ومع ذلك فالأسطورة صحيحة لنها ترينا أن الشاعر يحيا بنور آخر غير نورنا وأنه لاحاجة به إلى فتح عينيه على الوقائع الخارجية .. إنه يحيا بنور الباطن..))

فهل أراد رمبرانت أن يقول شيئا غير هذا حينما صور فيلسوفه في نصف ظلمه مغلقا عينيه ابتغاء المزيد من التأمل ..

ولرمبرانت عدد ضخم من الرسومات المحفورة والمطبوعة وبالقلم لا حصر لها وجميعها منتشرة في 46 متحفا في أنحاء العالم بالإضافة للمقتنيات الخاصة .

ومن أبرع لوحاته المطبوعة بطريقة الحفر لوحة ((المسيح يشفي المرضى)) من مقتنيات متحف المتروبوليتان . وهي مطبوعة بطريقة الحفر على المعدن . وتعتبر هذه اللوحة نقطة تحول بارزة في تصاوير رمبرانت وقد عكس على اللوحة نوع من الظلال التي توحي بالجلال وعمق المشهد الإنساني شكلا وموضوعا .

وأيضا رسم رمبرانت المناظر الطبيعية في عدد قليل من اللوحات من أجملها لوحة ((منظر طبيعي والجسر الحجري)) 1638 بأمستردام .

وقبلها بعامين رسم رمبرانت من القصص القديم (سمل عيني شمشون أمام دليلة)) وا ستادل والموجودة بمتحف ستادل بفرانكفورت وفيها من العنف والقسوة ما أكده توزيع الإضاءة الشديدة القادمة . من الخارج بشكل مفاجئ إلى جانب الحركة العنيف في فقء عين شمشونوالتي أكدها رمبرانت في قسوة ووحشية لا نظير لها في تاريخه الفني . وهذه اللوحة من أكثر لوحاته في شدة الحركة وأيضا في شدة اندفاع الضوء إلى داخل الخيمة .. وقد رسمها لكونستنتين هيجنر الذي عمل مستشارا فنيا للأمير أورانج .. وفي خطاب أرسله ربمبرانت مصطحبا اللوحة أوصى بتعليقها في مصدر ضوئي قوي حتى تظهر عظمة التأثير الدرامي والحركي والضوئي معا ..

.. في عام 1635 أنجز رمبرانت لوحته ((بيلشاصر يرى الكتابة على الحائط)) والموجودة بمتحف الناشيونال جاليري بلندن .. وقد رسم هذه اللوحة بعد سماع قصتها من صديق له عن بيلشاصر (بالتازار) آخر ملوك بايل الذي أعد وليمه عظمى بأبهى الأدوات الذهبية كي يشرب الخمر هو وحاشيته فإذا عينيه تقع على يد إنسان تكتب عبارة بالعبرية على الحائط تنذره بالهلاك . وقد ملأت الدهشة والرعب القلوب حتى تساقطت الأدوات الذهبية من أيديهم من فرط الرعب الذي أكده في هوج الحركة .. كما أكده الضوء المتضاد مع الأظلام في جوانب اللوح وال1ي بدأ أن مصدر ضوء اللوحة هو الكتابة 1اتها وليست آتية من مصدر ضوئي خارجي .

وقد كان أكثر مايضايق رمبرانت ويغيظه أن يظنه الناس يهوديا وذلك لأن زوجته ساسكيا كانت يهودية وبيته يقع بالقرب من الحي اليهودي . وأنه كثيرا ما كان يتجول بذلك الحي لأن اليهود وملامح وجوههم كانت محل تأمل ودراسة منه حيث أنهم تجسيد لثقافة مغايرة تثري حصيلته التصويرية حيث شرع يصور أحداث الماضي المتصلة بالتوراه أو بالعصر الكلاسيكي ..

في إحدى ليالي عام 1624 زار رمبرانت في مرسمه ستة عشر رجلا كلهم كبرياء وغرور يطلبون منه عمل لوحة جماعية ضخمة لهم ليعلقونها في غرفة اجتماعاتهم حيث أنهم فرقة حراس الليل .. وعلى أن يظهر كل واحد منهم في اللوحة كأشجع الفرسان .

حدث هذا بعد مرور عشرة أعوام على إنهاء رمبرانت للوحته الجماعية ((درس التشريح)) .

واحتار رمبرانت كيف يجمع ستة عشر فارسا في لوحة واحدة . وكيف يرضى غرورهم ويحقق التوازن الفني له والتوازن النفسي لهم .

وناقش التفاصيل مع الكابتن فرانز ياننج كوك قائد الفرقة الذي أراد ألا يكون هو وفرقته أقل مهابة من فرقة ((حراس سانت جورج)) الذين رسمهم الفنان العظيم فرانزهالس .

واعتكف رمبرانت في مرسمه طوال عام 1642 للإنتهاء من هذه اللوحة الضخمة التي بدت عند انتهائها مثل عملاق مهيب ينشر الرعب في القلوب من النظرة الأولى فقد بلغ طولها ثمانية أمتار وعرضها ستة أمتار ..

وعلى غير المتوقع ثارت ثائرة الفرسان ونقموا على المصور حتى أن وصل الأمر بهم أن هددوه بالإضرار بمستقبله الفني وتجارة لوحاته مستغلين علاقاتهم الواسعة في المدينة ضده .. وبالفعل أدت ثورتهم المدمرة إلى تناقص الطلب على أعمال رمبرانت حتى نضب مورد رزقه .. ولم يدرك أحدا منهم أن تلك اللوحة التي أثارت تهكمهم وسخريتهم هي معجزة الفنان ومفخرة الفن الهولندي .

وسبب الثورة يعود إلى غرورهم الذاتي فقد أخذ كلا منهم يبحث عن نفسه في أركان اللوحة المظلمة فلا يكاد يتبين نفسه إلا بصعوبة ... وقد جعل بعضهم يظهر بنصف وجهه في الضوء والنصف الآخر في الظلام .. أو أظهر بعضهم من الجانب .. ولم يكونوا ستة عشر فارسا ممشوقا كابطال الأساطير القديمة كما تمنوا .. وما أثارهم أكثر أن وضع رمبرانت قائدهم ياننج كوك الذي يلمع في وسط اللوحة كالبطل المغوار وإلى جواره ضابط آخر نال أيضا نصيب وافر من الإضاءة في حين أن كل منهم ممن دفعوا لرمبرانت اختفوا في ظلام اللوحة رغم أنهم دفعوا أجرا متساويا من ((الجيلدرات)) مثلما دفع القائد فلماذا يميزه عنهم .

وقد صور رمبرانت هذه الكتيبة خارجة في موكبها تحوطهم الظلمة وقليل من الضوء مسلط بمهارة على شخصيتي المقدمة .

ولكن يمكننا أن نرى بوضوح تدفق الضوء وانتشاره ساقطا من الأمام ومن أعلى خلال التكوين بأسره وحتى بين المارة الذين تجمعوا حول الكتيبة . وقد تخلل الضوء الأركان والزوايا في تدرجات لونية توحي بالحيوية وتدفق الحركة التي يؤكدها وقفة الكابتن ياننج وبيده عصاه وموشح جسده بوشاح البطولة الأحمر يشرح إلى ضابط بجواره خطة ما .

وإلى الخلف أكدت الحركة اتجاهات حامل العلم الذي يلوح به . كما أن حركة الجنود تزخر بها اللوحة فقد وجد منهم من ينظف بندقيته أو يحشوها بالبارود .. وأيضا قارع الطبلة يقرعها إلى أقصى اليمين من اللوحة . وباقي الشخوص كل منهم يتجه برأسه أو ذراعه إلى جهة مختلفة مما يوحي بحالة طوارئ وحركة شديدة تعلن عن إقدامهم على أمر هام وخطير كشخصياتهم الهامة .

في هذه اللوحة تأكدت براعة رمبرانت في إفاضة اللون بالحركة وتأكيدها بمساقط الضوء واتجاهه بما يخلقه وراءه من درجات ظلية على الشخوص وساعده على ذلك أسلوبه المندفع والراسخ معا في تشييد الأشخاص مستخدما تدريجا فريدا من الثور إلى الظلمة مع تركيباته اللونية الكثيفة التي تساعد على إبراز كلا من خاصيتي البريق اللوني والقتامة .

وهذه اللوحة الهامة تعتبر من البورتريهات الجماعية للوحدات العسكرية . ولمدة طويلةمن الزمن كان يطلق عليها ((نوبة الحراسة ليلا)) .. ثم أطلق عليها ((غارة سرية الكابتن فرانز يانتج كوك)) .. وضعت اللوحة أول الأمر داخل القاعة الكبرى لمبنى الحرس الوطني ثم آلت إلى بلدية أمستردام عام 1715 .. ووجدوا أنها أكبر م المساحة التي خصصت لها فاقتطعوا منها للأسف عشرين سنتيمتر من أعلى ومثلهما من أسفل . واقتطعوا من الجانب الأيمن عشرة سنتيمترات ومن الجان بالأيسر ستين سنتيمترا .. وأصبحت الآن ((حراس الليل)) من مقتنيات متحف ريكس بأمستردام .

وحين أجريت عليها عام 1947 عمليات تنظيف كانت المفاجأة حيث اتضح أن الموضوع قد جرى تصويره نهارا وأن كثافة طلاء رمبرانت زادت اللوحة عتمة مع السنوات .. وفي المتحف بأمسترادام توجد صورة أخرى مصغرة من هذه اللوحة كانت بمثابة المحاولة الأولى للوحة الكبيرة .

.. وفي عام 1972 تعرضت اللوحة لاعتداء مجنون عليها أصابها بتلف فادح وتم ترميمها .. وكهذا الاعتداء على اللوحة التي سببت من قبل الاعتداء والانتقام على راسمها يتأكد مالها وله من حظ سيء .

فعلى قدر ما تعتبر هذه اللوحة علامة مضيئة في فن الباروك الهولندي إلا أنها كانت علامة مظمة في حياة رمبرانت الشخصية فاأكثر من فارس من فرسانها رفضوا دفع نصيبهم من أتعاب رمبرانت لأنه وضعهم في الظلام .. وأحدهم أوقفه في الطريق مهددا إياه بالقتل لأنه أخفى وجهه وراء ذراع جندي ممدودة أمامه .. خاصة وهذا الجندي يقل عنه في الرتبة وهو الموجود إلى يمين اللوحة .

.. وقد تمسك ربمرانت بموقفه الفني من لوحته ورفض التعديل لأنه فنان وليس مقاول .. وعمله الإبداع الجمالي وليس عد الرؤوس وإسقاط الضوء عليها .. والنتيجة أن فقد مصدر رزقه ولكن لم يفقد حريته كفنان ..

كان صوت ساسكيا في ذلك التوقيت والهجوم الذي استقبلت به ((حراس الليل)) نهاية محزنة لنشاط الفنان الذي يعتبر اسمه علما على الفن الهولندي .. فبعد وفاة زوجته ساسكيا متأثرة بمرضها بعد ثمان سنوات من زواجهما تاركة له طفل صغير بعد وفاة طفلين آخرين لهما .. كانتت لوفاة علامة تراجيدية لنهاية الحظ في حياة ربمبرانت .. كما توقف الضوء في لوحاته عن الانتشار .. وتركت لوحاته في منتصف النهار مظلمة .

وفقد زبائنه بطريقة ذات شقين كوميدي وتراجيدي .. وكوميديا سببه هذا الوضع الذي انقلب ضده بعد إنجاز رائعته ((حراس الليل)) .ز وتراجيديا هو ما آلت إليه حالته من انهيار مأسوي مفجع لأزمة حتى نهاية حياته .

ولع ربمرانت منذ شبابه بالوجوه المسنة الوقورة التي تطفئ فيها الحياة الحسية وتوقد مكانها الحياة الروحية . فكان شغفه بالمسنين يجعله يغوص بين تجاعيدهم وينقب عن معاني وفيرة يظهرها في أعماله في تفاصيل دقيقة ذات أهمية بالغة بالنسبة إليه كمنقب في النفس البشرية وأحيانا يكاد يقترب من التحليل النفسي لشخوصه وإظهار ما بالداخل إلى الخارج في يسر وحكمة . فكان بحق مصور الروح المنعكسة على القسمات أو مصور النفس الإنسانية ، فلم يكن ناقلا عن الوجه بل منقبا ومحللا عن النفس ..

وفي لوحاته عن المسنين نجد أنه كان يندرج في مراحله الفنية مع تقدمه في العمر مزيدا من الضوء املنسحب عبر شخوصه ويقلل من الضوء داخل العمل نفسه ففكانت اللوحة الأحدث دائما هي الكاشفة بشدة عن فلسفته تجاه النور وظل والإنسان والأكثر عتمة وإظلام فوق وجه المسن . ففي لوحته ((الفيلسوف المتأمل)) 1632 رأينا قبلا هذا الفيلسوف الجالس في الظلال والضوء المخترق النافذة إلى وجهه يكشف عينيه المتغلقتين اللتين يشغلهما ما بالداخل أكثر مما بالخارج . وبعد سنوات نجد رمبرانت وقد أزاد من الظلمة في لوحات تحمل نفس الموضوع حول أفكار وتأملات الشيوخ كلوحة ((الشيخ المستغرف في تأملاته)) 1657 الموجودة بالناشيونال جاليري بواشنطن نراه غارقا في عالم لا محدود بلا بداية ولا نهاية والضوء علامة رمزية فقط فوق وجهه وكف يديه الممسك بالريشة التي لم تكتب بعد وهي وسيلته إلى العالم الواقعي للتعبير عن أفكاره ورؤاه الفلسفية ز. وكأنه جعل من الضوء الخافت فوق وجهه مجرد دليل على وجوده فقط .

ويرسم لوحة ((هوميروس الضرير)) 1666 والموجودة بلاهاي وقد أصبح ضريرا وفي غنى عن النور كلية مكتفيا بما يشعر في داخله من نور ذاتي انعكس على كيانه وإضائته بحساسية مفرطة ريشة رمبرانت على جبهته وكتفه ولحيته بشكل أخاذ .

وتدخل خياة رمبرانت فتاة ريفية اسمها هندريكا ستوفلز جاءت إلى بيته لتخدمه هو وابنه الصغير من زوجته الراحلة ساسكيا ولتدبر شئون المنزل ونظافة المرسم .. واستطاعت عندريكا أن تستولي على قلب رمبرانت وظلت حبيبته إلى أن توفيت وبعدها توفي ابنه وتركاه وحيدا في الحياة .

في ذلك الوقت كانت تزداد حياة رمبرانت قتامة وكلما شعر بالغربة في مدينته ازدادت القتامة . فقد سيطر عليه هذا الإحساس وهو يسمع بنفسه سخرية الناس منه بعد حادث لوحة ((حراس الليل)) وأخذوا يتندرون بشهرته وأنه مدعاه للسخرية .

حتى أنهم وصفوه بالصفاقة لأنه يزج بنفسه في المشاهد الدينية التي يصورها فيرسم نفسه من ضمن شخوصها .

وأخذ يرسم صور حبيبته هندريكا في عدة لوحات .. في عام 1647 رسم لوحة ((سارة تنتظر طوبيا في سريرها الليلي وقد رسم سارة على هيئة حبيبته هندريكا .. وقصة سارة هذه رسمها أيضا بيتر لاستمان الذي تتلمذ رمبرانت في مرسمه في أمستردام وحكاية هذه اللوحة اكتشفت مؤخرا بعد المقارنة بين لوحتي الفنانان لاستمان ورمبرانت ، فسارة قد تزوجت سبعة مرات قبل زواجها من طوبيا وفي كل مرة كان الشيطان يقتل أزواجها .. وفي عام 1655 رسم ((هندريكا تخوض ماء الجدول)) وقد رسمها في فترة كانت المصاعب تتزاحم عليه ويقل الطلب على لوحاته .. وتميزت هذه اللوحة بتماسك الجسد البشري وبضربات الفرشاة الخاطفة السريعة الرشيقة خاصة في جلباب هندريكا الأبيض الذي رفعته إلى ما فوق ساقيها حتى لايبتل بالماء ، وايضا انفردت هذه اللوحة برضبات لونية سريعة في الخلفية .. وقد توافق هذا الأسلوب السريع في ضربات الفرشاة مع تسجيل لحظة عابرة وهي لحظة خوض الماء .. وبعد ثلاث سنوات رسم لوحته 0(هندريكا واقفة بالباب المفتوح)) 1658 وقد اهتم في هذه اللوحة بإظهار شخصية الفتاة الآسرة باستخدامه ألوانا ساخنة في معالجة بشرة هندريكا وثوبها مع أعتام الخلفية وراءها مما ساعد على جمال تجسيدها وتأكيد شخصيتها المتلألئة وسط القتامة ككما لو كانت حلى من الذهب على ثوب من القطيفة السوداء ، فهندريكا عشيقته ونجح في إبراز عشقها له منعكسا على قسمات وجهها رغم ما ظهر فيه من حزن دفين .

في تلك الفترة اهتم رمبرانت بالجسد العاري فرسم لوحته ((بتشايع تأخذ حمامها)) 1654 الموجودة بمتحف اللوفر . وقد بلغ في هذه اللوحة ذروته الفنية .. فجعل جسد المرأة العارية في هذه اللوحة يشع نورا في قوام نسائي جميل وقد ساعد على إبراز جمالها وضيائها تلك الخلفية المعتمة حتى بدت المرأة وكأنها هي مصدر الضوء .. وكأنه ألقى المرأة والنور معا في بوتقة واحدة ليخرج بعنصر جديد .. والمرأة العارية هنا مختلفة عن نساء روبنز العاريات فامرأة رمبرانت هنا إلى جانب جمالها المادي تأتي بحركة من رأسها بميلها إلى اليمين مرخية عينيها في نظرة حالمة وديعة كأنها جسدت الوداعة في تلك النظرة .. فكانت أكثر حلما ورومانسية من عاريات غيره من الفنانين .

وفيما بعد .. في عام 1888 كتب الفنان فان جوخ إلى شقيقه ثيو قائلا : ماذا لرمبرانت بذاته أو تقريبا وحده بين المصورين ذلك الحنان في النظرة التي نراها سواء في ((حجاج عاموس)) أو في ((العرس اليهودي)) أو في بعض أمثال الشكل الملائكي الغريب كالصورة التي كان لك الحظ في أن تراها .. هذا الحنان المنحصر .. هذه النظرة اللانهائية لما فوق البشر التي تبدو هناك .. هكذا طبيعية .. تعثر عليها في مواضيع كثيرة عند شكسبير .. ثم في الصورة الشخصية الحزينة أو المرحة مثل ((ساسكيا)) .. إنه فاض بها فوق الجميع .. حين أفكر في التأثيرين وفي صعوبات الفن أيامنا هذه .. ما أعظم الدروس لنا في نفس ذلك الشيء .

وبعد بتشايع يرسم ربمرانت ((القديس بطرس ينكر المسيح)) 1660 الموجودة بامستردام وهي لوحة تعد إحدى روائعه ودليل مقدرته البارعة . في التوزيع الدرامي للضوء والظلمة حتى صارت الشخوص غائصة في الظلمة .. ويأتي الضوء الخلفي راسما لوجوه الشخصيات جانبيا ومظهرا لتفاصيل الوجه ومكنون النفس وقد أكد رمبرانت على انعكاس ضوء وحشي على وجه بطرس الذي يمزقه القلق المريع .

وفي ذلك الوقت عام 1662 قصد رمبرانت خمسة من أعضاء شركة تجارة قماش أو نقابة لهم ليكلفوه بتصوريهم في لوحة تجمعهم تذكارا وإعلانا عن ثرائهم وجودة بضاعتهم ومكانتهم الاجتماعية .. ولأنهم تجار فقد ذهبوا لى رمبرانت لأنه في ضيق مادي وسيرضى بالسعر الزهيد بعد ما انقلب الحال ضده من اليسر إلى العسر .

ونف رمبرانت هذه اللوحة الهامة التي تعد من أعمال المرحلة الأخيرة في حياته قبل وفاته بسبعة أعوام والتي تفصلها ثرلاثون عاما عن لوحته الجماعية ((درس التشريح)) 1632 . وقد قصدوه أيضا لأن رمبرانت كان لازال الأبرز والأمهر والأشهر بين فناني هولندا في عمل لوحات البورتريه الجماعي والذي ارتفع بمهارته بهذا الفن إلى مكانة عالية .

وكان من بين الفنانين الهولنديين الذين مارسوا في البورتريهات الجماعية هم : فرانزهالس .. جان فيرمير . توماس دكيسير .. وعمل رمبرانت بكل طاقته الفنية والذهنية لعمل لوحة جماعية يحقق فهيا كل عناصر النجاح الفني على كل من سخروا منه . رسم رمبرانت بكل طاقته الفنية والذهنية لعمل لوحة جماعية يحقق فهيا كل عناصر النجاح الفني ردا على كل من سخروا منه . رسم ربمرانت الخمسة مجتمعين في غرفة بمقر الشركة ومعهم تابعهم يقف بالخلف وقد ارتدوا قبعاتهم فيما عدا التابع . جعل ركيزة لوحته شخصا غائبا عن النظر لكنه حاضر وحضوره يؤكده اتجاه أبصار الأشخاص الستة في اللوحة إليه .. وهذا الشخص من المفترض انه يقف مكاننا نحن المشاهدين .. وفي لحظة حضور هذا الشخص ساد جو من التوتر والحركة للحظة من قبل التجار المجتمعين فتوقف ما كانوا يتناقشون فيه والتفتوا مركزين انتباههم إلى التاجر المقبل وقد تركوا دفترهم المفتوح أمامهم للحظة وسرعان ما سيعودون فورا إلى ماكانوا عليه بعد انصراف الزائر .. وهنا نجد إجادة رمبرانت على إضفاء حركة غير مألوفة حينما ترتبط بجاذبية الاستكشاف للقادم .

اهتم رمبرانت بقماش المنضدة الأحمر القرمزي الذي يوصي بالرخاء والرفاهية .. فلرمبرانت إعجاب ووفرة في الألوان الحمراء والقرمزية والزرقاء .. ما أن مواده الأثيره هي الأنسجة الداكنة والمخمل والفراء .

ولأن رمبرانت يهتم ويعشق إبراز ملامح الشخصيات وتعبيراتها بما تحمله من قسمات تكشف ما بداخل نفوسهم فنجده وقد عكس ردود أفعال مختلفة على قسما وجوه التجار الجالسين .. فالجالس إلى اليسار يكاد يبتسم بشكل خفيف وفيه تحد .. والواقف أمامه وإلى جوار ماسك الدفتر الجالس أكثر اهتماما بالحديث وقد صوره لحظة نهوضه من مقعهده .. ووقوفه لا يتعلق بالمجموعة بل بالقادم .. أما الجالس وأمامه الدفتر المفتوح يشير في ثقة بحركات خفيفة من أصابع يده تجاه القادم ويهم بالكلام باهتمام وبلا انفعال والباقون يتابعون المناقشة . فالكتاب المفتوح مزود بعينات الأقمشة التي ينتجونها كنموذج لجودة بضاعتهم وللمقارنة بينها وبين الأقمشة الأخرى .

أما التابع فلا يظهر على وجهه أي علامات اهتمام .

لم يهتم رمبرانت في هذه الصورة الجماعية كعادته بالألوان المتعتمة .. فالوجوه متألقة ويتعانق في في حيوية اللونان الأحمر والأصفر يطلان في مقدمة اللوحة وهما لونان محببان إلى رمبرانت .. وأيضا هناك التوازن غير المقلق . بين عناصر اللوحة جميعها . فالجالسين هم في راحة أكدتها المنضدة العريضة في مقدمة اللوحة مما أوحى بالثبات في الرأي والثقة لدى الجالسين .

ازداد ضعف نظر رمبرانت .. فحين كان يرسم العميان والمتألمين في الظلام كان نظره يتبدد رويدا رويدا وعاش في ظلام الفقر وفقر البصر .

وتحولت كلمات الازدراء من مواطنيه إليه إلى اضطهاد بشع واتهموه بالفجور لعشقه هندريكا وحذروا الناس من التعامل معه وطردوه من بيته وألقوا بحاجاته إلى وسط الطريق ثم أشهروا إفلاسه بعد أن أخذوا مقتنياته الهامة ولوحاته وطرحوها في مزاد رخيص لسداد الديون المتراكمة عليه بعدما أصبحت منقولاته ولوحاته ليست ملكا له ومحملة بحقوق دائنيه .

وطرحت لوحاته التي كان قد وصل سعرها إلى أرقام خيالية فيما قبل لتباع في مزاد طرح على جمهور عدواني ساخر منقلب ولم تلق لوحات العبقري البائس سوى بعض مزايدين مستخفين بأعماله وأبخسوا سعرها .. وبذلك كتب على رمبرانت العظيم أن يرى سمعته الفنية تهوى ويستهان بها أمام عينيه وهو مكتوف اليدين .

وكان من بين مقتنيات الفنان الخاصة التي طرحت في المزاد الرخيص إلى جوار أعماله .. رسما لفنان ألمانيا العظيم البرخت دورر وآخر من عمل زميله لوكا كراناخ .. ولوحة من عمل المصور الإيطال رفايللو وأخرى من عمل تيتسيانو وثلاث لوحات من عمل روبنس البلجيكي ومجموعة خزقية من اليابان ومنسوجات وسجاجيد من إيران ورسوم صينية . وقد بيعت كلها بأبخس الأثمان لمن لا يقدرونها ولايستحقونها .

واضطر الفنان وهو يقترب من سن الشيخوخة إلى سكن بيت حقير في أحد الأحياء القديمة .

في حين كان يبلغ في ذلك الوقت قدما من الارتقاء والروعة في فنه كلما زادت المعاناة والظلم عليه .. وبعمق المأساة مضى رمبرانت ينتج لوحات رغم ضعف بصره جعلت من سنوات حياته الأخيرة أعظم سنين حياته الفنية .

وأخذ يسجل في لوحاته إلى الفقراء ومعاناتهم ويصور حالات الشيخوخة .. فبعدما كان يسم مظاهر الثراء .. هو الآن يرسم مظاهر البؤس واليهود .

وللتغلب على ضعف بصره الذي أخذ في الزوال وحتى يتمكن من السيطرة على التفاصيل في لوحاه كان يرسم صوره مكبرة .. في حجم أكبر من الحجم الطبيعي كثيرا ليتمكن من تحديد التفاصيل ورؤيتها وإجادتها . وفي هذه الفترة ومع استمرار صيته خارج وطنه كفنان متمكنمن فنه طلب منه أحد الإيطاليين ويدعى أنطونيو روفو أن يصور لحسابه بعض اللوحات وكان منها لوحة ((الرجل المرتدي درعا)) 1665 ..

وفي هذه اللوحة أبرز بمهارة خبرة السنين والممارسة ملمس الأشياء إلى جانب بريق الإضاءة الساقطة إلى معدن الخوذة وتأكيدها لصلابة الدرع .. ومن قبل كان قد عهد إليه أيضا أحد النبلاء الإيطاليين 1652 ليرسم له لوحة أرسطو . فأنجز رمبرانت اللوحة بطريقة الفلسفية الخاصة به حيث ربط بين حكمة أرسطو وعبقرية الشاعر هوميروس فرسم لوحته الرائعة ((أرسطو يتأمل التمثال النصفي لهوميروس)) وكان التركيز في اللوحة على الضوء المسلط على الوجهين والرداء وكشف رمبرانت ما بنفس أرسطو من تلك الحيرة التي بدت على وجهه كما تخيله أثناء وقوفه أمام رأس تمثال هوميروس الضرير الذي بدأ وكأنه ينظر إلى الداخل والخارج في آن واحد .

ورغم تزايد معاناة رمبرانت لم تفارقه حماسته وحبه لعمله ولرسمه لنفسه لإكمال سلسلة لوحات سيرته الذاتية والتي بدأ بها منذ شبابه .. فرسم لوحة شخصية له قبل وفاته بأعوام قليلة جالسا إلى جوار شباك في غرفة الرسم واختفت من حوله كل مظاهر الثراء . فلم يعد هناك ذلك الثراء في الملبس كالذي بدا فيه في لوحته مع ساسكيا فلا يوجد سيف يتدلى من جانبه ولا عباءة موشاة بالدانتيلا وزال شاربه وانكمش وجهه تحت وطأة المعاناة وعذاباته وما لاقا من إهمال الآخرين ومن صفوف المهانة وقد لف رأسه في تلك اللوحة بلفافة رخيصة من القماش بدلا من القبعة السوداء المدلى منها الريشة في دلال في تلك اللوحة مع ساسكيا . ومن هذه الصور الذاتية العديدة أصبح اليوم كل شخص يعرف وجه ذلك الرجل الهولندي الذي رسم نفسه وهو صغير يفيض وجهه بالفخر بنجاحه حتى وصل به الحال أنه رسم وجهه الشاحب والعينين الضعيفتين من إفراطه بعمل رسومات بطريقة حفر الإبرة .. ورسم نفسه وجه عجوز محمل بمعاناة السنين ولكن دائما كانت وجوهه في كل الحالات معبرة عن الرضى الذاتي والإنسجام مع النفس .. فهو نموذج فني فذ .. ونموذج إنساني لإمكانية قهر الإنسان وتغلبه عل مايصادفه من خسائر فادحة في حياته .

وبدأت قوى رمبرانت تتبدد خاصة بعد وفاة ابنه الوحيد تيتوس عام 1668 . فانزوى ولم يغادر مرسمه ومضى يجتر أحزانه .. لا يسأل أحد شيئا وقد أظلمت الحياة وصارت في قتامة لوحاته .. وما عاد يقوى على إمساك الفرشاة إلا بصعوبة لإنهاء آخر صورة شخصية له والتي انتهى منها في نفس عام وفاته ليكون بذلك قد استطاع التعبير عن مكنون ذاته حتى آخر نفس ولتكون هذه اللوحة الأخير لنفسه أفضل مارسم في مجال الصورة الشخصية . وقد بدأ فيها رمبرانت مهدما ولكنه يحاول الصمود في لوحته ومواجهته المشاهد .. ولكن لم يتمكن من إخفاء تعبير بالغ الصدق بالألم والمعاناة التي تكشف ما بداخل نفسه من تهدم ومرارة وقد ضم كفيه في استسلام .

وفي نفس العام مات رمبرانت .. بعدما سلك طريقا شاقا كي يحصل على حريته كفنان .

مات وقد أحاط به في قسوة زحف ظلام العين .. وظلام الفقر .. وظلام الظلم ..

.. وبعد وفاته كان للعبة بقية .. بقية ساخرة وعبثية .. فقد أهان الجميع رمبرانت في موته مثلما أهملوه في حياته فأرقدوا جسده مقابر المتسولين في مراسم عاجلة تكلفت مايعادل الخمسة دولارات وعشين سنتا لهذا الذي ترك روائع هي بين أيدينا كنوز لا تقدر بالمال .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر

  • سلسلة الفن العالمي، رامبرانت، أخبار اليوم.