خسارة المصري اليوم (مقال)

خسارة المصري اليوم، مقال كتبه يسري فودة على صفحته الشخصية في فيسبوك، في 11 نوفمبر 2012.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المقال

الواجب الأخلاقي و الواجب الوطني يدعوانني إلى كتابة هذه السطور انتصاراً للحقيقة و تمييزاً بين الأصيل و المصطنع. فقد استيقظت صباح الأربعاء الماضي، 7 نوفمبر، على إشارة أولى في الصفحة الأولى لجريدة "المصري اليوم" إلى تغطية لحوار خاص كنت قد أجريته قبلها بيومين مع وزير البترول المصري، المهندس أسامة كمال، في برنامج "آخر كلام".


هناك إذاً اهتمام خاص؛ فوسائل الإعلام عادةً لا تعلي شأن ما يأتي به منافسوها إلى هذا الحد، خاصةً أنه ليس من قبيل ذلك النوع من السبق الصحفي الذي لا يمكن

للجريدة إعادة إنتاجه بشكل مباشر مع مسؤول من الواضح أنه أتاح نفسه للإعلام وسط ما وصفه هو بـ "ضجة إعلامية".


داخل الجريدة، بامتداد سبعة أعمدة، موضوع يشمل عنواناً يقول: "الجيولوجي عبد الحليم حسن: خرائط الشافعي مزيفة". الشافعي هو الدكتور نائل الشافعي، الأستاذ المصري غير المتفرغ في معهد ماساتشوسيتس للتقنية في مدينة بوسطن الأمريكية، الذي أخذ على عاتقه إجراء بحوث متعمقة متعددة المصادر لعمليات التنقيب و الاستكشاف في مياه شرقي البحر الأبيض المتوسط. و الخرائط هي تلك التي نشرها في مواقع مختلفة من مصادر مختلفة تؤكد اهتماماً محموماً متصاعداً من جانب جيران مصر، خاصة الإسرائيليين و قبرص و اليونان، لم نتأكد بعد بصورة قاطعة من أنه لا ينتهك الحدود الاقتصادية لمصر.


أما الجيولوجي عبد الحليم حسن فهو موظف سابق في وزارة البترول. منذ أن أذعنا تحقيقاً استقصائياً بعنوان "حرب الغاز" قبل أسابيع قليلة، أعقبناه بمناقشة مفتوحة مع ممثلين لأطراف مختلفة من بينهم المسؤول عن الاتفاقيات و الاستكشافات في وزارة البترول إلى جانب الدكتور نائل الشافعي، أخذ عبد الحليم على عاتقه تفنيد المعلومات و الوثائق و الخرائط التي قدمها الأخير في سياق بحثه المستفيض. هذا حقه مثلما هو حق كل مصري يمكن أن يساهم في رفعة مصر إذا خلصت النوايا. لكن هذا أتى دائماً بطريقة رآها الشافعي تخرج لسبب ما عن الموضوعية و تدخل في نطاق الشخصنة.


غير المفهوم مهنياً أن تستعين المصري اليوم في إطار موضوع صحفي من المفترض أنه يرصد تصريحات وزير البترول في لقاء تليفزيوني امتد ثلاث ساعات برأي "خبير" لم يكن له وجود في ذلك اللقاء أصلاً، و أنه إن كان لابد من ذلك فإن صعوبة الفهم تزيد حين تستعين الجريدة برأي "خبير" واحد له وجهة نظر أحادية الجانب، معروفة سلفاً، لا ترتقي فوق مستوى الشك في مدى موضوعيتها بالنظر إلى علاقته بوزارة البترول.


غير أن المشكلة الكبرى أن تسمح جريدة في حجم و مكانة المصري اليوم لنفسها بأن تنقل عن هذا "الخبير" ما لا شك في انضوائه تحت باب القذف دون أن تتيقن من وجود أي سند لمزاعم خطيرة إن ثبتت يمكن أن تودي بصاحبها إلى حبل مشنقة. بل إنها لا تكلف نفسها حتى عناء وضع تلك المزاعم القاسية أولاً أمام المقذوف بحقه من باب إخلاء المسؤولية القانونية و الأخلاقية و الوطنية قبل النشر.


تنقل الجريدة في الفقرة الأولى عن الجيولوجي، الذي تصفه بأنه "صنايعي بترول"، أن "كل ما قدمه الباحث نائل الشافعي، خبير الاتصالات العالمي، من معلومات حول حدود مصر البحرية في البحر المتوسط مغلوط و مزيف، و لا يستند إلى أي مرجعية علمية موثقة"، و أنه، أي الخبير أحمد عبد الحليم، "كشف عن أن هدف هذه الحملة مدفوعة الأجر هو عرقلة خطط مصر في تنمية مناطقها الاقتصادية عبر البحث و اكتشاف الغاز".


تكرر هذا النقل مرة أخرى في سياق متن الموضوع دون إشارة من الجريدة في أي موضع إلى أنها تملك من الأدلة أو الأسانيد ما يريح ضميرها المهني و الأخلاقي أمام تلك المزاعم الخطيرة. بل إنها لا تشير إليها في أي موضع باعتبارها مزاعم أو ادعاءات، و إنما باعتبارها "كشفاً" لما لا يمكن تفنيده. تلجأ الجريدة في سياق ذلك إلى هذه المفردات: "اتفق" .. "قال" .. "كشف" .. "أكد" .. "استنكر" .. "أضاف"، و هي أفعال يعلم المحترفون من الصحفيين أن بعضها على الأقل يوحي باحتكار الحقيقة و أنها تقود القارئ في اتجاه بعينه.


لم تقم الجريدة إذاً بواجبها المهني و لا الأخلاقي و لا الوطني في موضوع على هذا القدر من الحساسية. فلا هي قدمته في صورة مزاعم و ادعاءات تقبل الدحض، و لا هي منحت المقذوف بحقه فرصة الرد كي تمنح قارئها فرصة الفهم، و لا هي أشارت إلى أي سند أو دليل، و لا هي حتى وقفت على الحياد في طريقة العرض. و بعد ذلك كله تقرر الجريدة أن تقتطع جانباً من تلك المزاعم كي يشكل جانباً من العنوان الرئيسي للمقال، ثم تقرر أن هذا المقال في ذلك اليوم هو قمة أولويات الجريدة كلها فتمنحه الإشارة الترويجية الأولى على الصفحة الأولى.


حاولت جاهداً و مخلصاً إقناع المسؤولين عنها بأن الجريدة حق عليها الاعتذار بصورة لا تقبل اللبس: "اعتذر .. يعتذر .. فهو معتذرٌ"، لكن ما نشرته الجريدة في اليوم التالي لم يرتفع إلى مستوى المسؤولية. إشارة رفيعة في النصف السفلي من الصفحة الأولى تأخذك إلى صفحة داخلية حيث مساحة لا تقترب حتى من نصف مساحة الموضوع الأصلي، عنوانها: "الشافعي يستنكر اتهامه بقيادة حملة مدفوعة الأجر حول غاز المتوسط".


أقدر للجريدة صادقاً ذلك الكم من المدائح في شخصي لدى نهاية المقال و رغبتها في عودتي إلى الكتابة فيها. لكنني لست أنا الموضوع و لست المقذوف بحقه بشكل مباشر. الموضوع أن مواطناً مصرياً اجتهد في محاولة التأكد من حقوق مصر في عُرض البحر، و يعترف اعتراف العلماء بأنه لا يحتكر الحقيقة، و في مقابل ذلك تسمح الجريدة لمن وصفته بأنه "صنايعي بترول" بأن يتهمه بما يلي: أولاً، أن الشافعي عميل مأجور، حين نقلت عن ذلك الخبير أن "هذه الحملة مدفوعة الأجر". و ثانيا، أنه خائن للوطن، حين نقلت عنه قوله إن تلك الحملة تهدف إلى "عرقلة خطط مصر في تنمية مناطقها الاقتصادية عبر البحث و اكتشاف الغاز". و ثالثاً، أنه مزيِّف، حين نقلت عن الخبير قوله إن كل ما قدمه الشافعي من معلومات "مغلوط و مزيَّف". كل هذا دون إشارة إلى أي سند أو دليل يدعم زعماً يمكن أن يؤدي بالمزعوم في حقه إلى الحكم بالإعدام شنقاً.


من الذي يمكن أن يلوم الدكتور نائل الشافعي الآن حين يصر على الدفاع عن عرضه الشخصي و المهني و الوطني أمام محكمة؟ إذا حدث هذا سنكون جميعاً خاسرين: "المصري اليوم" و السيد "الخبير" و وزارة البترول و الحكومة و مصلحة الوطن. ذلك أن المرء لا يتصور أن قاضياً عادلاً يمكن له أن يبت فيما إذا كانت الخرائط و المعلومات "مغلوطة و مزيفة" دون أن يفتح بطن الموضوع كله من أوله إلى آخره، ناهيك عن إجراء تحقيق استخباراتي من الطراز الأول يمكن له أن يثبت تهماً خطيرة كالعمالة و الخيانة العظمى. حين يحدث هذا ستكون مصالح الوطن الحساسة مادة شهية للإعلام كل يوم، داخل مصر و خارج مصر، بينما يتجه المكسب الوحيد إلى الخصوم و المعتدين من الجيران و من المشتبكين معنا في المصالح. أي شركة تنقيب أو استكشاف محترمة يمكن عندئذ أن تستعيد حماسها لعقد اتفاق مع وزارة البترول؟ و أي خصم في المصالح - كائن أو محتمل - يمكن أن يرتدع و نحن مفككون متناحرون؟


بعد ظهر غد (الإثنين، 12 نوفمبر 2012)، يعقد السيد وزير البترول، المهندس أسامة كمال، اجتماعاً فنياً مع ممثلين عن جهات مختلفة في الدولة، وفاءً لمبادرة أطلقها أثناء لقائنا الخاص به في برنامج "آخر كلام"، لفتح ملف الحدود الاقتصادية و علاقتها بالتنقيب و الاستكشاف في شرقي البحر المتوسط. تفضل السيد الوزير بطلب مساعدتي في إقناع الدكتور نائل الشافعي بالحضور ضمن دعوات أخرى وجهها لعدد من خبراء مصر في هذا المجال. عندما اتصلت به، و هو في الولايات المتحدة الأمريكية حيث مقر عمله، وجدته و قد استبد به القلق على أمنه الشخصي و على سلامته البدنية و النفسية، خاصة بعد موقف تعرض له في مطار القاهرة قبيل أن يستقل الطائرة التي عادت به إلى أمريكا قبل أسابيع قليلة. وضعت هذا أمام السيد الوزير فوعدني جازماً بتوفير أقصى درجات الحماية له، ثم أكد التزامه بذلك في رسالة إليكترونية إلى الشافعي.


لا تزال الفرصة سانحة أمام المسؤولين عن جريدة "المصري اليوم"، التي كنت - و مازلت - أعتز بها و بزملائي فيها و بما أضافوه إلى واقع الإعلام المصري و العربي. أرجو من الجريدة التي سعدت كثيراً بالكتابة لها في يوم من الأيام أن تربأ بنفسها عن كبرياء ليس في محله من أجل واجب مهني وطني في صميم محله، و أن تقدم اعتذارها على صفحاتها بصورة لا لبس فيها؛ فالكبير فقط هو الذي يعتذر. مثلما أرجو من المسؤولين عنها، و لهم كل التقدير، أن يغتنموا فرصة وجود الدكتور نائل الشافعي في مصر في هذه الزيارة الوطنية القصيرة أن يقدموا له دعوة كريمة على شاي مصري أصيل و قطعة حلوى من "لابوار".


المصادر