العلاقات المصرية الأثيوبية

العلاقات المصرية الأثيوبية

1855-1935

د. أنتوني سوريال عبد السيد

الهيئة المصرية العامة للكتاب 2003

الجزء الأول


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تقديم

يسرني أن أقدم للقارئ الكريم هذا الكتاب عن العلاقات المصرية الأثيوبية 1855-1935 الذي كتبه الدكتور أنتوني سوريال عبد السيد. ويقدم فيه مسحا للعلاقات المصرية الأثيوبية على مدى قرن كامل من الزمان من جوانبها السياسية والدينية والثقافية.

وهي دراسة مهمة تناول في الباب الأول منها العلاقات السياسية بين مصر وأثيوبيا منذ عهد سعيد حتى وقوع الاحتلال البريطاني. كما تحدث عن أثر الاحتلال البريطاني لمصر والثورة المهدية في السودان على العلاقات السياسية المصرية الأثيوبية من 1822-1935.

وقد تناول في الباب الثاني العلاقات الدينية بين مصر وأثيوبيا، وفي تحدث عن المسيحية في أثيوبيا ومدى علاقتها بالكنيسة المصرية، كما تناول عصر الوفاق من 1855-1909، وتعرض لبداية الخلاف من 1909-1935، ومشكلة دير السلطان بالقدس.

وقد خصص الباب الثالث للحديث عن العلاقات الثقافية بين مصر وأثيوبيا من 1907-1927، ونشاط مصر الثقافي في أثيوبيا من 1927-1935.

وأملي أن ينتفع بهذه الدراسة الباحث المتخصص والقارئ المثقف.

رئيس التحرير د. عبد العظيم رمضان.


المقدمة

يتناول هذا البحث، دراسة موضوع العلاقات المصرية الأثيوبية منذ منتصف القرن التاسع عشر تقريبا، وحتى نشوب الحرب الايطالية الأثيوبية سنة 1935. وهذه الفترة ، هي حلقة من حلقات طويلة، مرت بها العلاقات المصرية الأثيوبية عبر القرون المختلفة، منذ العصر الفرعوني وحتى الآن، وأهم ما يميز هذه الفترة الزمنية، أنها متكاملة تقريبا سياسية ودينيا وثقافيا. فمن الناحية السياسية، تعتبر سنة 1855 بداية لأثيوبيا الموحدة، وكانت قبل ذلك التاريخ مقسمة إلى مقاطعات يلعب حكامها الدور الأساسي في سياستها الخارجية، في حين أن امبراطورها الرسمي ليس له أي سلطة فعلية. وكما وحدت أثيوبيا سياسيا في ذلك التاريخ، وحدت دينيا وعادت السلطة الدينية كاملة للمطران المصري الذي مر بظروف عصيبة قبل هذا التاريخ.

كذلك تعتبر سنة 1935 نهاية لهذه الفترة الزمنية، لأنها بداية لمرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين فالحرب الايطالية الأثيوبية وما نتج عنها من احتلال ايطاليا لأثيوبيا، جعل العلاقات المصرية الأثيوبية تدخل مرحلة جديدة مختلفة تماما عن سابقتها سواء أكان ذلك سياسيا أم دينيا، فمن الناحية السياسية، ارتبطت مصر في سياستها الخارجية مع السياسة البريطانية التي تأثرت بدورها بما يجري من تغيرات دولية حدثت في هذه الفترة أدت بعدها إلى قيام الحرب العالمية الثانية، كذلك تعتر سنة 1935 مرحلة جديدة من الناحية الدينية، إذ كانت مقدمة لانفصال الكنيسة الأثيوبية عن الكنيسة المصرية، كما تعتبر هذه السنة، هاية للعلاقات الثقافية بين البلدين والتي بدأت في سنة 1907.


ولقد أوضح هذا البحث، مراحل وأسباب حالة العداء التي شابت القرن التاسع عشر منذ عهد محمد علي، وحتى الاحتلال البريطاني لمصر، سواء كان هذا العداء من جانب حكام أثيوبيا المتعصبين مثل الامبراطور تيودور وخليفته الامبراطور يوحنا الرابع، أو نتيجة للأطماع التي كانت لدى محمد علي أو حفيده اسماعيل باشا. والتي انتهت بهزيمة الأخير في حربه التي شنها ضد أثيوبيا. ونتج عنها تدهور أحوال مصر وأملاكها على حدود أثيوبيا وشاطئ البحر الأحمر الأفريقي، واستيلاء بريطانيا على مصر في سنة 1882.

ولقد عملت السياسة البريطانية منذ احتلالها لمصر على تصفية أملاكها في السودان وساحل أفريقيا الشرقي، وبالفعل تم ذلك فعقدت أثيوبيا معاهدة عدوة في سنة 1884، أخذت على مصر بموجبها كل أملاكها في السودان الشرقي، وبذلك انتهت فترة العداء المباشر وحل محلها ما قد يطلق عليها العداء غير المباشر نتيجة لاحتلال بريطانيا لمصر وعداء فرنسا لها، مما أدى بالأخيرة إلى التحالف مع أثيوبيا والمهديين في السودان ضد بريطانيا ومصر التي كانت تطالب العودة السودان إليها.

ولما وصلت الأمور إلى أقصاها وأصبحت تهدد بريطانيا واحتلالها لمر، قررت انجلترا الاتصال بمنليك امبراطور أثيوبيا وخليفة يوحنا الرابع وضمت السودان إلهيا وانتهت مرحلة العداء غير المباشر بين مصر وأثوبيا. ومع بداية القرن العشرين بدأت مرحلة جديدة يشوبها العلاقات الطيبة بين البلدين، فقد وقعت في سنة 1902 معاهدة بين مصر وبريطانيا، أصبح للأخيرة نفوذ قوي لدى بلاط منليك. وقد انتكست هذه العلاقات الطيبة بين منليك وبريطانيا على علاقة أثيوبيا بمصر، اذ تحسنت كثيرا عما كانت عليه في القرن التاسع عشر.

على أنه مع استقلال مصر الرسمي، تطورت هذه العلاقات الودية بينها وبين أثيوبيا تطورا جديدا، وان كان هذا التطور لم يصل إلى ما كان يجب ويتلاءم مع العلاقات الطبيعية والتاريخية بينهما. ومع ذلك فقد استقبلت مصر بعد استقلالها لأول مرة ولي عهد أثوبيا الراس تفري، الذ أصبح فيما بعد الامبراطور هيلاسلاسي الأول. ثم تم تبادل التمثيل السياسي بينهما، كما أعرب شعب مصر عن مشاعره الفياضة نحو الشعب الأثيوبي عندما وقف بجانبه في صراعه المستميت من أجل حفاظه على استقلاله ضد الأطماع الايطالية التوسعية.

وكما كانت العلاقات السياسية بين البلدين غنية بأحداثها، فقد أوضح هذا البحث أيضا أن العلاقات الدينية بينهما لم تكن أقل غنى منها. فقد بدأت هذه العلاقات الدينية منذ القرن الرابع الميلادي واستمرت حتى الآن، وحرص الأولى على الأخيرة وكفاحها ضد المجادلات اللاهوتية التي تفشت في كنيسة أثيوبيا، حتى نجح أحد المطارنة المصريين وهو الأنبا سلامة الثالث في القضاء عليها، وعودة المبادئ الأرثوذكسية السلمة إليها مرة أخرى، وكان ذلك مع بداية ما عرف بعصر الوفاق. الذي بدأت مع عصر الامبراطور تيودور سنة 1855.

وكانت مظاهر هذا الوفاق هي تحالف السلطة المدنية المتمثلة في الامبراطور مع المطران المصري والكنيسة المصرية، وهو ما كان مفقود إبان الفترة التي سبقت توليه الامبراطور تيودور العرش، ويعتبر عهد خليفته يوحنا الرابع العصر الذهبي للعلاقات الدينية بين الكنيسة المصرية وأثيوبيا. وبن المطران المصري والامبراطور، وقد استمر عصر الوفاق هذا طوال عهد منليك الثاني، إلا أنه في أواخر عهده بدأت العلاقات الدينية تهتز بسبب رغبة الأثوبيين في السيطرة على دير السلطان دون الأقباط، وبن المطران المصري والامبراطور، وقد استمر عصر الوفاق هذا طوال عهد منليك الثاني، إلا أنه في أواخر عهده بدأت العلاقات الدينية تهتز بسبب رغبة الأثوبيين في السيطرة على دير السلطان دون الأقباط، إلا أنها مرت بسلام، وانتهى عصر الوفاق هذا بتدهور صحة منليك وتنازله عن العرش لحفيده لدج ياسو.

ويعتبر بدء عصر الخلاف، مع عهد لدج ياسو، الذي كان يرغب في تكوين دولة علمانية حديثة. فبدأ ينال من سيادة الأنبا متاؤس ونفوذه، إلا أن عهده لم يستمر طويلا بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى وتدخل الخلافء ضده للسياسة العدائية التي اتبعها نحوهم. مما أدى إلى عزله وتعيين زوديتو امبراطورة والراس تفري وليا للعهد. وقد بدأ الأخير في رسم خطة للاستقلال الذاتي بكنسته عن الكنيسة المصرية، وتنفيذها تدريجيا، حتى نجح في تعيين أساقفة أثيوبيين لأول مرة. وانتهى عصر الخلاف هذا بالحرب الايطالية الأثيوبية والاحتلال الايطالي لأثيوبيا.

ويحق مصر أنت تفخر بأنها أن تفخر بأنها أدخلت التعليم المدني لأول مرة في أثيوبيا. فقد أوضح هذا البحث أن تأسيس مدرتسي منليك الثاني وهرر ، تم على أيدي المدرسين المصريين، وقد ظل المدرسون المصريون المرسلون من قبل البطريرطية المصرية، يقومون بمهمة التدريس حتى سنة 12927، وذلك عندما طلبت، ولأول مرة أيضا، الحكومة الأثيوبية من الحكومة المصرية ارسال بعثة تعليمية حكومية إلى أثيوبيا حتى قيام الحرب الايطالية فتوقفت، وعاد المدرسون المصريون بسببها إلى مصر.


وبالرغم من أهمية أثيوبيا لمصر والعلاقات بينهما، فإنها لم تنل اهتماما كبيرا من البحث والدراسة سواء في تاريخها الحديث أو في تطور علاقاتها مع مصر، ولم نجد إلا رسالة واحدة تركزت في حروب اسماعيل مع أثيوبيا. ولم تهتم بما قبلها أو ما بعدها. كذلك لم نجد أي دراسة علمية سليمة تناولت علاقات مصر بأثيوبيا في عهد منليك أو في الثلاثين عاما لأولى من القرن العشرين. أما بالنسبة للعلاقات الدينية بين البلدين، فلا نجد على الإطلاق أي دراسة علمية لها مع أنها لا تقل أهمية لمصر عن العلاقات السياسية. وربما يعود ذلك إلى احجام الباحثين عن الدراسة هذا الموضوع لحساسيتته أولا، ولصعوبة الوصول إلى المصادر الأصلية التي يجب توافرها وتسهيل الاطلاع عليها ثانيا وأخيرا لقلة المراجع الأجنبية التي تتناول التطورات الدينية في أثيوبيا وفي مصر وكذلك لا نجد أي دراسة مستفيضة للعلاقات الثقافية بين مصر وأثيوبيا.

ولقد زاد من صعوبة البحث في العلاقات المصرية الأثيوبية – بصفة عامة – بالاضافة إلى قلة المصادر الأصلية وصعوبة الإطلاع عليها – أن المكتبات المصرية تنقصها المراجع الأجنبية الحديثة التي تتناول تاريخ وتطور أثيوبيا وعلاقاتها الدولية على مر العصور، وحتى المراجع الموجودة في هذه المكتبات فإن الاشارة فيها إلى العلاقات بين مصر وأثيوبيا يسيرة للغاية وبالقدر الذي يسمح به لابراز مجهودات الدول الأجنبية العظيمة في كبح جماح الطغيان المصري ضد أثيوبيا الضعيفة، أو لاظهار مدى تقصير الكنيسة المصرية ازاء كنيسة أثيوبيا وأنها السبب في تخلف المسيحية الأثيوبية وبالتالي تخلف أثيوبيا الحضاري، وفي هذا المجال تصف محاولات الراس تفري (الامبراطور هيلاسلاسي) بأنه محرر كنيسته من استعمار الكنيسة المصرية لها.

وكان من عوامل احجام الباحثين على دراسة العلاقات المصرية الأثيوبية، وجود اعتقاد بأن هناك علاقة قوية مؤثرة بين العلاقات السياسية والعلاقات الدينية وبمعنى آخر أن هناك تأثير للكنيسة المصرية على السياسة المصرية ازاء أثيوبيا. وبالتالي فخوفا من التورط في موضوعات لا يتم فيها البحث بما يجب أن يتم عليه من موضوعية وتحليل كاملين، تجنب الباحثون تناول هذا الموضوع مما زاد من صعوبة دراسة العلاقات المصرية الأثيوبية بصورة عامة.

والواقع أنه لم يكن هناك أي تأثير ايجابي للكنيسة المصرية على علاقة مصر السياسية نحو أثيوبيا. فلم تكن الحكومة المصرية تتدخل في علاقة الكنيسة المصرية بأثيوبيا، ولم تستغلها بما يفيد تدخل مصر بصفة عامة أو تدخل الكنيسة المصرية. كما أن الأخيرة لم تفرض رأيا معينا على الحكومة المصرية ازاء أثيوبيا، أو حتى تستفيد من خبرتها في مجال العلاقات الخارجية وتعمل به في علاقاتها مع أثيوبيا والدليل على ذلك – على سبيل المثال لا الحصر – عصر يوحنا الرابع الذي يعتبر قمة تدهور العلاقات السياسية في عهده كان عصرا ذهبيا للعلاقات الدينية.

وتعتبر من ضمن الصعوبات التي يواجهها الباحث في هذا الموضوع مشكلة اختيار لفظ واحد يطلق على هذه البلاد، فأما يكون أثيوبيا أو الحبشة. ولقد اخترت أثيوبيا ووحدته في جميع أجزاء الرسالة ما عدا الأسماء التي عرفت واشتهرت باسم الحبشة مثل "بنك الحبشة" أو "اللجنة العامة للدفاع عن قضية الحبشة" وما شابه ذلك. وكان سبب اختيار لفظ أثيوبيا هو أنه مفضل لدى الاثيوبيين، كما أنني وجدت بعض الكتب القديمة نسبيا تطلق لفظ أثيوبيا عليها، هذا بالاضافة إلى أنها تعرف الآن بهذا الاسم وانتهى استعمال لفظ الحبشة.

ولقد قسمت بحثي هذا إلى مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة، وخصصت الباب الأول، للعلاقات السياسية بين مصر وأثيوبيا وقسمته إلى تمهيد وثلاثة فصول تناولت الأوضاع السياسية الداخلية في أثيوبيا وعلاقتها مع مصر في عهد محمد علي، ثم العلاقات السياسية منذ عهد سعيد باشا وحتى الاحتلال البريطاني لمصر، وأثر الاحتلال البريطاني والثورة المهدية في السودان على العلاقات المصرية الأثيوبية، وأخيرا تطور العلاقات بين البلدين في الفترة من 1902-1935.

وخصصت الباب الثاني للعلاقات الدينية بين البلدين، وقسمته إلى أربعة فصول، تناولت تطور هذا العلاقة منذ أن تبعت كنيسة أثيوبيا الكنيسة المصرية، وعصر الوفاق بينهما والذي بدأ في سنة 1855 وانتهى في سنة 1909. ثم عصر بداية الخلاف، وبدأ في سنة 1909 وانتهى بالحرب الايطالية الأثيوبية سنة 1935.

أما الباب الثالث فقد تناول العلاقات الثقافية بين مصر وأثيوبيا ، وقسمته إلى فصلين ، تناولا هذه العلاقات منذ بدايتها في سنة 1907 وحتى الحرب الايطالية الأثيوبية في سنة 1935، ثم مشكلة دير السلطان وأثرها على العلاقات الأثيوبية.

ولقد اعتمدت في بحثي هذا على الوثائق التاريخية سواء أكانت في دار الوثائق التاريخية والتي شملت على السجلات والدفاتر أم وثائق مجلس الوزراء وكانت هذه لحظة إطلاعي عليها قد وصلت مؤخرا إلى الدار، وصنفت تصنفا أوليا وكنت أول من يطلع عليها. وقد استعنت بهذه الوثائق في دراسة العلاقات السياسية بين البلدين في الفترة من 1902-1935.

كذلك لقد اطلعت على مجموعة كبيرة من الوثائق في الدار البطريركية، ولقد عانيت كثيرا حتى استطعت أن أصل إليها وأطلع عليها. ولم أكتف بالوثائق فقط، بل اطلعت على مجموعة كبيرة من الدوريات الهامة التي صدرت في مصر منذ أواخر القرن الماضي وحتى سنة 1935. وأهم هذه الدوريات موجودة بدار الكتب بالقاهرة، ولقد أشرت إليها في هوامش البحث.

هذا بالاضافة إلى استعانتي بمجموعة كبيرة من المراجع والكتب والدوريات الأجنبية الحديثة الهامة والتي ليس لها وجود في مكتبات القاهرة. ولقد ذكرت هذه المراجع في هوامش البحث.

ولا يسعني قبل أن أختم مقدمة البحث هذه، إلا أن أعترف بعجزي عن تقديم واجب وعظيم شكري واعتزازي بالجميل لأستاذي الأستاذ الدكتور السيد رجب حراز أستاذ التاريخ الحديث ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة. لطول صبره واحتماله في طول مدة هذا البحث الشاقة ولمساعدته وارشاداته وتوجيهاته لي والتي كان لها أحسن الأثر في اخراج هذا البحث بهذه الصورة.

كما أتقدم بالشكر إلى الاستاذ عاصم الدسوقي الأستاذ المساعد بكلية الآداب سوهاج جامعة أسيوط، لمساعدته القيمة لي إذ أمدني ابان وجود سيادته في الولايات المتحدة الأمريكية بمجموعة قيمة من المراجع والكتب الأجنبية الحديثة. كان لها أثر كبير في اتمام هذا البحث.

كذلك أتوجه بالشكر إلى المرحوم الأستاذ الدكتور زاهر رياض ، الذي أمدني – ابان حياته – بالكثير من المعلومات وبالذات في مجال العلاقات الثقافية بين مصر وأثيوبيا. كان رحمه الله يعمل في التدريس بالمدارس الأثيوبية قبل قيام الحرب الايطالية الأثيوبية . ولقد أشرت في هوامش باب العلاقات الثقافية إلى هذه المعلومات التي أمدني بها.

كما أتقدم بالشكر إلى مدير دار الوثائق التاريخية ولاسادة العاملين بهذه الدار لما قدموه لي من معونة صادقة، كذلك أشكر كل السادة العاملين بالدار البطريركية، وبالمكتبات القبطية لمساعدتهم لي. كما أتوجه بالشكر إلى العاملين بمراقبة الدوريات والمخازن بدار الكتب لتعاونهم الصادق ومساعدتهم القيمة لي طوال مدة اطلاعي على الدوريات.

كذلك أتوجه بالشكر إلى الأستاذ علي هنداوي، الذي تكرم بمراجعة الرسالة لغويا. كما أشكر جميع السادة الذين ساعدوني في نسخ هذه الطرسالة جزى الله عني جميع من ساعدني وعاونني بخير الجزاء.

والله ولي التوفيق



الباب الأول

العلاقات السياسية بين مصر وأثيوبيا

تمهيد: العلاقات السياسية المصرية الأثيوبية في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

الفصل الأول: العلاقات السياسية بين مصر وأثيوبيا منذ عهد سعيد وحتى الاحتلال البريطاني 1855-1882.

الفصل الثاني: أثر الاحتلال البريطاني لمصر والثورة المهدية في السودان على العلاقات السياسية المصرية الأثيوبية 1882-1900.

الفصل الثالث: العلاقات السياسية بين مصر وأثيوبيا 1902-1935.


تمهيد: العلاقات السياسية المصرية الأثيوبية في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تعتبر العلاقات السياسية بين مصر وأثيوبيا (1) من اقدم العلاقات في التاريخ الافريقي فهي ترجع إلى مصر الفرعونية (2)، واستمرت تنمو وتزدهر عبر العصور التالية (2)، إلى أن غلب عليها الركود في فترة الحكم العثماني (4)، وذلك بسبب اشتراك الدولة العثمانية في الصراع بين الإمارات الاسلامية وأثيوبيا، واستقرارها في شواطئ الأخيرة ومنعها الأثيوبيين من الاتصال بالبحر والعالم الخارجي. وقد ظل هذا الوضع مستمرا حتى وصول محمد علي إلى الحكم في مصر وفتحه السودان بعد ذلك، مما أدى إلى وجود حدود مشتركة بين مصر وأثيوبيا، كما أن تعولية ابراهيم باشا علي (إيالة جدة والحبش) بعد قضائه على الدولة الوهابية الأولى كان من أسباب تجدد الصراع مرة أخرى وكان في هذه المرة بين المصرييين والأثيوبيين (5).

وكانت أثيوبيا في ذلك الوقت تمر بأخطر فترة من فترات تاريخها السياسي والتي أطلق علهيا عصر الفوضى الكبير، والتي هي جزء من عصر الفوضى الذي حدده المؤرخون بنهاية حكم الامبراطور فاسيلداس في القرن السابع عشر. وكان من العوامل المؤدية غلى هذه الفوضى العزلة التي فرضها هذا الامبراطور على البلاد بعد طره للكاثوليك وشكه في الأجانب بصفة عامة فضرب سورا حديديا حول اثيوبيا. ومنعت الثقافة والمدنية نتيجة لذلك من الدخول إلى البلاد. وزاد من أمر هذه الفوضى الحروب الطويلة التي خاضتها وقاست منها البلاد ثلاثة قرون أنهكتها انهاكا تاما، وزاد الأمر سوءا غزو قبائل الجالا (6) للبلاد وتحكمها في أحوالها وأباطرتها. وأخيرا السيطرة القوية لرجال الدين على مظاهر الحياة الأثيوبية. وقد أدى ذلك إلى تدهور المستوى الديني في البلاد وانتشار الخرافات والشعوذة وازدادت ثروات رجال الدين نتيجة لامتلاكهم ثلث الأراضي والانتاج في البلاد (7).

وقد اختلف المؤرخون على نهايةعصر الفوضى هذا. فذكر بعضهم أنه ينتهي بتولية تيودور الثاني العرش في سنة 1855، وذكر آخرون أن عصري تيودور ويوحنا الرابع كانا محاولات وتمهيدا لخلق أثيوبيا الحديثة في عصر منليك الثاني أي أن عصر الفوضى استمر حتى بداية حكم هذا الامبراطور الأخير. وفي داخل عصر الفوضى هذا حدد المؤرخون فترة زمنية أطلق عليها "عصر الفضوى الكبير" ويبدأ بنهاية حكم الامبراطور تكلاهيمانوت في أواخر القرن الثامن عشر وحتى بداية حكم الامبراطور تيودور الثاني سنة 1855 وهي فترة امتدت إلى أكثر من سبعين عاما (8). وعلى هذا تكون الصورة كالآتي: عصر الفوضى يبدأ من سنة 1665، وينتهي في سنة 1889، أما عصر الفوضى الكبير فيبدأ من نهاية حكم الامبراطور تكلاهيمانوت في أواخر القرن الثامن عشر وينتهي ببداية حكم الامبراطور تيودور سنة 1855.

ويرجع سبب تسمية هذه الفترة بعصر الفوضى الكبير إلى الفوضى والانحلال وتدهور الأحوار في البلاد، التي فاقت غيرها متى الفترات السابقة لها. فقد أصبح الرؤوس والزعماء هم أصحاب النفوذ المطلق، وبات الأباطرة ألعوبة في أيديهم يعيونهم ويعزلونهم كما يشاءون. ولم يكن في مقدور أحد من هؤلاء الأباطرة أن يحوز عن جدارة لقب ملك الملوك Negus Nagast بل كانوا جميعا لا حول لهم ولا قوة (9). ولم يكن الامبراطور مهددا فقط من الرؤوس والزعماء بل كان أيضا مهددا من جانب المولك الذين حكموا من قبله ومازالوا على قيد الحياة. فكان أحدهم يحكم من منطقة والآخرون في مناطق أخرى. وكلهم من الاسرة السليمانية الحاكمة، ووراء كل منهم رأس من الرؤوس يؤيده ويريد أن يعينه امبراطور للبلاد (10).

هذا بالاضافة إلى النزاع الذي نشب بين الرؤوس مثل النزاع الذي قام بين الراس جوجسا زعيم الجالا من جانب، والتحالف الذي قام بين الراس جبراييل حاكم مقاطعة سيمين والراس ولدسيلاسي حاكم تيجري، واستطاع ولدسيلاسي أن يقبض على السلطة بين يديه، إلا أنه لم يستطع الاستيلاء على جندر العاصمة. ولقد رغم ولدسيلاسي في أن يضع حدا لهذه الحروب فاتصل بالانلجيز لتساعده، وعقد معها معاهدة سياسية تجارية (12)، إلا أنه توفي قبل أن يحقق ذلك، وبوفاته عاد مرة أخرى الراس جوجسا للسيطرة على الامبراطور والقصر (13).

وينتهي جيل من الرؤوس ويبدأ جيل آخر وتنشب بينهم الحروب مرة أخرى. فدخل الراس سابا جاديس (*) الذي خلف ولدسيلاسي على حكم تيجري في صراع مع حكام المقاطعات الأخرى انتهت بهزيمته وقتله في أوائل سنة 1831 (14). وكان أوبي حاكم سيمين هو الذي قضى عليه (15). واستطاع بذلك أن يصبح صاحب السيادة الفعلية على البلاد بهذا الانتصار وبفضل المحالفات التي كونها مع الرؤوس الآخرين. (16).

وأصبح الموقف في أثيوبيا بعد ذلك ينحصر في أوبي، ويحكم تيجري وسيمين وولكيت ووجيرا، والملك سهلاسيلاسي في شوا (17)، والراس عالي حفيد الراس جوجسا زعيم الجالا السابق الذي وصل إلى السلطة في سنة 1831 بعد وفاة أسلافه، وكان هناك حكام أقل شأنا مثل جوشو حاكم جوجام وداموت، والراس أحمد حاكم واراهيمنو، وكينفو في الغرب، وهؤلاء لعبوا دورا ثانويا في تطور الأحداث في أثيوبية (18).

ولما كان الملك سهلاسيلاسي لا يشترك في صراع الرؤوس في الشمال، فقد انحصر الصراع في هذه المرحلة الأخيرة من عصر الفوضى الكبير بين أوبي والراس عالي. وبالفعل فقد بدأ الأخيران بستعد كل منهما للآخر. ونشط أوبي في دس المكائد ، فادعى أن الراس عالي محتال لادعائه بأحقيته للعرش لذا وجب القضاء عليه، كما اتصل بالفرنسيين والانجليز طالبا مساعدتهم في الحصول على مطارن مصر لتتوجيه امبراطور على البلاد (19). الا أن الراس عالي استطاع هزيمة أوبي وأسره وسجنه (20)، وان كان قد أفرج عنه بناء على نصيحة من المطران المصري سلامة الثالث، وعاد أوبي إلى أملاكه ومقاطعاته التي يحكمها في مقابل عهد منه بعدم التحالف والحرب مرة أخرى ضد الراس علالي (21).

وبالرغم من انتصار الراس عالي، فإن مركزه كان بعيدا عن الاستقرار والأمان. فقد كان أعداؤه مازالوا نشيطين ضده في جوجام متمثلا في بيروجوشو، ولاستا في فاريس اليجاس كما أن أهلي أمهرا وبيحة مدر كانوا أكثر بعدا عنه بسبب الدعاية التي روجها ضد أوبي وحلفاؤه. وثار ضده أيضا حلفاؤه السابقون حكام الولو الذين كانون يؤيدونه (22) وزاد الأمر سوءا وقوع والدته في صراع ضد الثوار وقطاع الطرق المنتشرة في مقاطعتها مما اضطر الراس عالي أن يمد لها يد المساعدة لكي يعيد سيطرتها على مقاطعتها (23). على أن ذلك لم يشغله تماما عن مراقبة أوبي، وبالتالي أصبح كل منهما يراقب الآخر معتقدا أن هذا الآخر هو عدوه الوحيد الذي يجب عليه أن يخشاه. ولكن فجأة ظهر شاب يدعى كاسا استطاع هزيمة الراس عالي سنة 1853 وسيطر على الأمهرا فأصبح وسط البلاد خاضعا له تماما مما جعله يمثل احدى القوى الهامة في البلاد (24)، ثم استطاع بعد هزيمة أوبي ووجد المساحة خالية تقريبا أمامه، فطلب تتويجه من المطران المصري، وتم ذلك في 7 فبراير سنة 1855 وتسمى باسم تيودور الثاني (25).

وفي الوقت الذي كانت أثيوبيا غارفة في هذه الفوضى السياسية، كان انتصار ابراهيم ابن محمد علي، على الواهبيين في شبه الجزيرة العربية، قد أعاد حقوق السيادة العثمانية على الحجاز وما يتبعها، وعينه السلطان العثماني علي باشوية جده في يوليو سنة 1820، وكان يتبعها ايالة الحبش وأهم موانيها سواكن ومصوع ولذلك فقد سمي ابراهيم باشا "بمتصرف جدة والحبشة" أو والي ايالة الحبشة ومتصرف سنجق جدة (26).

وكان العثمانيون قد نجحوا في أوائل القرن السادس عشر في بسط نفوذهم على ساحل البحر الأحمر الأفريقي والآسيوي من السويس إلى مضيق باب المندب ، ذلك بعد طرهم للبرتغالليين منه. وأن يجعلوا من البحر بحيرة عثمانية، ووضعوا حاميات عثمانية في المواني الهامة الواقعة على شاطئيه وأغلقوا هذا البحر في وجه الاوروبيين (27). وقد تمسك العثمانيون طوال القرون التالية وحتى أوائل القرن التاسع عشر بحقوق السيادة على شاطئ البحر الأحمر الغربي بأجمعه. وكان لتمسكهم هذا آثار خطيرة لأن الولاية القضائية التي كانت لسواكن ومصوع شملت بلاد أثيوبيا إلى جانب ما يتاخم حدودها الشمالية والجنوبية من أقاليم ممتدة إلى باب المندب (28).

والواقع أن استجابة محمد علي لنداء السلطان العثماني في القضاء على الحركة الوهابية كانت تخدم أغراضه ، بعد أن لمس أهمية البحر الأحمر الذي تحول من حالة الركود إلى حالة نشطة بسبب الحملة الفرنسية على مصر وخروجها بجيش أتى به الانجليز من الهند، مما ترتب عليه الربط بين مصر والهند في خطط حربية وسياسية. لذلك نجد محمد علي سنة 1809 يبدأ أول عمل سياسي بدخوله مع حاجم الهند العام في مكاتبات لاقامة علاقات سياسية (29). ويذكر هيل ، أن محمد علي أدرك أنه بسيادته على البحر الأحمر ، يمكنه أن يعيد إليه أهميته التجارية القديمة، فتستفيد مصر من الطرق التجارية المارة عبره. ولا شك أن محمد علي بعد حملته على الوهابيين، قد لمس النفوذ التجاري المتزايد لشركة الهند الانجليزية على سواحل شبه الجزيرة العربية والبحر الأحمر (30).

وعلى هذا فقد آل محمد علي على نفسه أن يحول هذا البحر إلى بحيرة مصرية (31)، بعد أن رسخت السيادة المصرية – في ظل السيادة العثمانية – في موانئ مصوع وسواكن وتعيين ابنه ابراهيم باشا واليا عليها. وحاول أن يحتل بربره سنة 1821، كما تفاوض مع سلطان لحج في جنوب شبه الجزيرة العربية لكي يحصن ميناء عدن الاستراتيجي التابع له (32). واستولى أسطول محمد علي على الموانئ الهامة في اليمن على البحر الأحمر، ووضع بها حاميات قوية ولم يبق من الموانئ الهامة سوى عدن التي استطاع الانجليز احتلالها (33)، وبذلك استطاع محمد علي أن نيشر نفوذه على الساحل الآسيوي للبحر الأحمر (34). كما أنه فتح السودان وضم اقليم التاكه، وبذلك أصبح الساحل الأفريقي للبحر الأحمر خاضعا لمصر، واصبح هناك أيضا حدود مشتركة بين أثيوبيا من جهتي الشمال والغرب، وتاخمت ولايتي تيجري من الشمال وجندر من الغرب (35)، ولقد ذكر أحد الرحالة الأجانب أن محمد علي يطمع في فتح أثيوبيا حتى يكون سيدا على وادي النيل كله من مصبه إلاى منبعه (36). على أن الحملة على السودان لم تتعد في فتحها أبعد من دنقلة وبربر وشندي وسنار وكردفان. وربما كان لتحذيرا القنصل البريطاني العام في مصر اثر في أن محمد علي لم يفتح أثيوبيا الذي أكد على ذلك للقنصل البريطاني (37).

على أن الأمور تطورت بعد ذلك تطورا خطيرا. فقد كان لمقتل اسماعيل بن محد علي على يد الملك نمر وهروب الأخير إلى اقليم التاكه قيم إلى سنهيت وأخيرا استقراره في منطقة والكيت بين نهر ستيت والقلابات، ثم زواج ابنه من ابنة الراس الأثيوبي أوبي، كان لهذا أثر كبير في العلاقات المصرية الأثيوبية (38). ذلك أن الملك نمر كان أو أسس امارة شبه مستقلة في المنطقة الخاضعة للحكم والادارة المصرية في السودان، ومن ثم فقد نال الملك نمر تأييد الأثيوبيين له، وبالتالي أمن ظهره واستمر في غاراته على الحدود السودانية والأهالي والقرى الواقعة عليها، مما سبب اضطرابا كبيرا في استقرار الأمور في تلك المناطق المتاخمة لحدود أثيوبيا. ولقد دمر الدفتردار – زوج ابنة محمد علي – المنطقة كلها بعد أن طرد الملك نمر من التاكه وستيت وصوفي والقلايات ولم يتراجع إلا بعد أن محا كل علامة لأي نوع من الادارة (39).

وعندما أراد محمد علي أن يدعم نفوذه في مصوع – في ظل السيادة العثمانية – أرسل حملة في سنة 1826 استطاع فيها احتلال مصوع . ولا جدال في أن حكومة محمد علي قصدت من هذا الاحتلال أن تكون بمثابة خطوة في نشر نفوذ مصر على أثيوبيا وكل ساحل البحر الأحمر الأفريقي. كذلك ربما تكون بقصد السيطرة على رؤوس أثيوبيا المساعدين للملك نمر واعتداءاته على أهالي وقرى السودان. ولكن تركيا رفضت في هذا الحين السماح لمصر بتوطيد نفوذها على ساحل البحر الأحمر الغربي، ذلك الساحل الذي يواجه الأماكن الاسلامية المقدسة في اقليم الحجاز خوفا، من تعرض نفوذها – أي تركيا – للخطر في هذه البلاد لذلك اضطرت حكومة مصر إلى إجلاء مصوع (40).

ولقد كانت أحوال السودان بعد انتهاء حكم الدفتردار مضطربة أشد الاضطراب، وحاول خلفاؤه اعادة الهدوء والأمن إلى البلاد إلا أن ذلك لم يتم إلا في عهد خورشيد باشا حكمدار السودان سنة 1835، وبفضل عدد من الوحدات الحربية التي زوده بها الملك نمر. وكان الأثيوبيون بالاضافة إلى تشجيعهم لهذا الملك كانوا يشجعون شيوخ الجهات المجاورة لهم على طول حدودهم مع السودان على الخروج على سلطان الحكومة المصرية واعلان العصيان. كذلك اعتاد رؤوس أثيوبيا المجاورين للادارة المصرية – بالرغم من صراعاتهم الداخلية – على الاغارة على الأقاليم السودانية المجاورة لهم ونهبها، وكانوا يفرضون إتاوة تعرف بالقبر على سكان هذه الجهات السودانية مثل فازوغلي والقلابات (41).

والواقع أن حكام أثيوبيا لم ينظروا بعين الارتياح إلى امتداد النفوذ المصري إلى السودان وضمه لأجزاء كانت أثيوبيا تدعي ملكيتها لها. هذا بالاضافة إلى أن هؤلاء الحكما علموا بنية محمد علي بضم بلادهم إليه. كل ذلك أدى إلى توتر العلاقات بين أثيوبيا ومصر وإلى سيادة القلق والاضطرابات على حدود الادارة المصرية في السودان مع أثيوبيا. وزاد من هذه الاضطرابات تعدي القبائل الأثيوبية عليها وارتكابها أعمال السلب والنهب بتشجيع من حكامها بهدف خلق المتاعب لمصر وزعزعة مركزها الحربي في هذه المناطق (42). وساعد على زيادة هذه الاضطرابات طبيعة تلك المناطق ونوعية سكانها. حيث أنهم قبائل رحل لا يعترفون بحدود ما تقيد تحركاتهم ولذلك فقد كانوا ينتقلون بين البلدين. ومع أن أثيوبيا كانت تشجعهم على هذا ، فإن تحركاتهم كانت تثير الادارة المصرية في السودان لما جبلت عليه هذه القبائل من عدم الخضوع والطاعة الا بقدر ما يحقق لها هذا الخضوع من مصالح، فاذا ما اشتدت قبضة الادارة المصرية عليهم عبروا الحدود إلى الأراضي الأثيوبية وناؤوا السلطات المصرية وقاموا بأعمال السلب والنهب سعيا وراء الكسب واستجابة لرغبتها في القتال وظهارا لولائهما واخلاصهما لرؤوس أثيوبيا. وساعد أيضا على عدم الاستقرار في مناطق الحدود، تشجيع كلا الطرفين المصري والأثيوبي الفارين من كل الجانبين وبسط الحماية عليهم وامدادهم بكل ما يحتاجون اليه من مؤن وسلاح. ولم يكن هذا الاجراء بطبيعة الحال يشجع على استتباب الأمن أو استقرار الأحوال في تلك المنطقة (43).

ولقد بدأ خورشيد باشا ، بعد أن هدأت أحوال السودان الداخلية، في الاغارة على حدود أثيوبيا والتوغل فيها بقصد جلب الرقيق، فخضع الأهالي شرقي القضارف كما خضع الشيخ ميري Miri زعيم التكارنة في القلابات وكثير من الشيوخ والزعماء على طول الحدود الأثيوبية وكانوا كلهم مطالبين بدفع جزية من الرقيق، وكان هذا يدفعهم إلى الاغارة على المناطق الأثيوبية لصده (44). ولم يكتف خورشيد بذلك بل زاد من غاراته على الحدود الأثيوبيا متتبعها القبائل الهاربة من الضرائب نحو الهضبة الاثيوبية. وبالرغم من عدم وجود مركز مصري ثاب في ذلك الحين في منطقة التاكة، فقد وصلت الغارات المصرية في سنة 1832 إلى أبعد من سبدرات Sabdrat شرق كسلا (45). ومع أنه هزم في سنة 1834 على يد الهدندوة ، فإن السنوات التالية شهدت استمرار الغارات المصرية طمعا في الماشية والرقيق حتى اعترفت قبائل هذه المنطقة بسيادة باشا مصر عليها (46) واستمر الضغط المصرية أيضا فيما بين العطبرة والرهد واعتبرت المتمة في سنة 1834 ضمن الأراضي الداخلية في الادارة المصرية للسودان (47).

ونتيجة لنشاط الملك نمر، فقد ركز المصريون جهدهم في منطقة شرق القضارف وما بعدها على الحدود الأثيوبية لمقاطعة مالكتي Malkait والتي كان يستخدمها الملك وحلفاؤه من زعماء القبائل السودانية الهاربة، كقاعدة لغاراتهم. وكان محمد علي يهتم بهذه الطرق لمكاسبها ولأنها احدى الوسائل التي تدعم الاستقرار وتزيد من ميزانية الدولة التي يحتاج إليها. لذلك فقد رصدت مكافأة لمن يأتي برأس هذا الملك الذي كان يمثل شوكة في جانب الادارة المصرية. ولكن بدون نتيجة لحماية الأثيوبيين له. وفي نهاية سنة 1834 أغار الملك نمر على سنار، فاضطر المصريون إلى الاغارة على ماليكت (48) وطلب المصريون من الحاكم الأثيوبي اوبي تسليم الملك نمر ولكنه رفض ذلك (49).

وفي مايو سنة 1837 دخلت قوات مصرية كبيرة المتمة ومعهم زعيم التكارنة في القلابات وبدأت تتقدم إلى جندر ناهبة وحارقة المناطق التي تعبرها. وفزعت العاصمة الاثيوبية واعتقتدت أنن نية المصريين نهب المدينة، وبسرعة جمع كيفنو (50) حاكم دامبيا جيشه وحارب المصريين الذين كانوا يتأهبون للعودة إلى القلابات وهزمهم في موقعة كالنابو Kalnabu بالقرب من رشيد وقتل وأسر الكثير من القوات المصرية وقتل أيضا الشيخ ميري زعيم التاركنة (51). وعادت القوات الأثيوبية بعد انتصارها. وعاقبت أهالي المتمة ثم رجعت إلى دامبيا. وأعلن كيفنو خورشيد باشد بأنه اذا جرؤ المصريون مرة أخرى على الدخول إلى الاقاليم الأثيوبية فانه سينزل إليهم بجيش ضهم ليأدبهم (52). وقبل خورشيد باشا هذا التحدي وزحف في النصف الثاني من سنة 1837 إلى المتمة ووكهني Wekhnie على بعد مسيرة ثلاثة ايام أو أربعة من جندر العاصمة الأثيوبية على أنه لم يقابل أي جيش أثيوبي، فرجع إلى القلابات بلا قتال فحصنها وزاد حاميتها وعاد إلى الخرطوط (53).

واستمرت قوات خورشيد باشا في أعمالها على طول الحدود الأثيوبية وكهني وفازوغلي وطلب من مصر أن ترسل له مددا حربيا ليدعم به قواته. فأرسلت له كتيبة بقيادة أحمد باشا أبو ودان وصلت السودان في سنة 1838 (54). ولقد كان من منائج تصاعد العمليات الحربية بني مصر وأثيوبيا وارسال مدد إلى السودان في نظر القناصل الاوروبيين في مصر أن الموقف أصبح خطيرا ومهددا بالانفجار. مما دعا بريطانيا أن تبلغ محمد علي عن طريق قنصلها في مصر سنة 1837، بأنه قلقة بالنسبة لتصاعد هذه العمليات ولا ترضى عنها حكومة بريطانيا التي تحافظ على استقلال أثيوبيها (55). وكان أوبي حاكم تيجري يحتج لدى أصدقائه الفرنسيين لاعتدءاتهم. وبسبب النفوذ الفرنسي الذي كان سائدا في عهد محمد علي، أن قرر الأخير سحب حكمداره خورشيد باشا من السودان في مارس سنة 1838 )56).

وقل النشاط الحربي بين الادارة المصرية وأثيوبيا في عهد أحمد باشا أبو ودان الذي خلف خورشيد باشا في حكمدارية السوادن، وذلك بسبب انشغاله بزيارة محمد علي للسودان. وأصدر محمد علي أوامره إلى حكمداره أثناء مغادرته لسنار في بداية سنة 1839 بأن يهتم بفتح طرق القوافل والتجارة – ولو بالقوة اذا لزم الأمر – بين السودان وأثيوبيا. والتي كانت من قبل تمثل مصدر دخل هام للسودان. وكان هذا الطريق قد أصابته الاضطرابات كما رأينا بسبب غارات الملك نمر وحلفاؤه من رؤوساء القبائل القاربة من الادارة المصرية. وأيضا بسبب رجال العصابات وقطاع الطرق الأثيوبيين والرؤوس الأثيوبيين (57).

لذلك ففي عامي 184-1841، ركز أحمد باشا جهوده في النيل الأزرق وفي منطقة السافانا الشاسعة التي تمتد بين النهر والجبال الأثيوبية وساحل البحر الأحمر (58)، ففتحت التاكه وأسست مدينة كسلا في المعسكر الذي أنشأه أحمد أبو ودان لجيشه لشن الحملات على الحدود الأثيوبية الشمالية. وقد اعتمد على قلعة كسلا الواقعة على الحدود مع أثيوبيا في تشكيل المجموعات المغيرة على هذه المناطق (59). وكان ثمة نوع من الحروب المتقطعة على الحدود بين الحامية المصرية والقبائل الأثيوبية. وكانت هذه المنطقة نموذجا فريدا لميدان حرب العصابات حيث تبدأ الأحراش والغابة مكونة نوعا من الشقة الحرام بين الأثيوبيين والمصريين (60).

وأعاد ضم اقليم التاكه إلى الإدارة المصرية في السودان مشكلة سواكن ومصوع مرة أخرى (61) وكان محمد علي يجدد محاولاته دائما حتى تأذن له الدولة العثمانية في ضمهما للادارة المصرية بالرغم من انساحباها منها سنة 1826 (62). وقد شرح محمد علي للباب العالي بأن الادارة المصرية أصبحت الآن تمارس سلطتها على طول البحر الأحمر والاقليم الذي يقع خلفه ما عدا مصوع وسواكن ولقد أصبح في أمس الحاجة إلى موانئ على الساحل لتشجيع عمليات النقل والتجارة (62).

والواقع أنه منذ خروج الادارة المصرية من مصوع ، والرؤوس الأثيوبيون يتطلعون إلى أن يكون لهم فيها نفوذ قوي أو يحتلونها أو تكون في أيدي صديقة لهم، وذلك بغرض تسهيل عملية وصول الأسلحة النارية إليهم. وكان من أوائل الرؤوس الذين يرغبون في ذلك رؤوس مقاطعة تيجري القريبة من مصوع. وقد حاول سباجاديس حاجم تيجري دعوة إنجلترا لاحتلال مصوع أو اعطائها له. وذلك بهدف تسهيل عملية استيراد الأسلحة النارية له والتي ستساعده على تدعيم مركزه بين حكام أثيوبيا (64). وفي نفس الوقت أرسل إلى محمد علي برسالة يطلب فيها وده، وربما كان يقصد تحذيره أو ابعاده عن ما يرمي إليه. وعلى أي حال فقد ارسل إليه محمد علي يشكره على عباراته الرقيقة، وأهداف بعض الأسلحة وخلافه وطلب من الاستمرار في المراسلة (65). وربما رفض محمد علي محالفته أو مصادقته خشية أن ينتج عنها سيطرة هذا الحاكم الأثيوبي على مصوع أوزيادة نفوذه عليها، مما قد يساعد على فقدان الدولة العثمانية نفوذها في المنطقة. وكان محمد علي يحافظ على دورها وتاييدها في الدور الأول من حكمه والذي ينتهي في سنة 1830. والمعروف أن مصر كانت قد أخلت مصوع تنفيذا لأوامر الدولة العثماينة سنة 1926 ولأن محمد علي كان مشغولا بحروب المورة والاضطرابات التي في الحجاز، جعلته لا يركز جهوده في السودان فقد كان يمر بمرحلة دقيقة بعد الاضطرابات التي سببها الدفتردار لينتقم لمقتل اسماعيل بن محمد علي وبذلك نجد أن محمد علي لم يحاول أن يصعد الموقف أكثر من ذلك.

ولقد شعر العثمانيون بعجزهم عن السيطرة على هذه المناطق ازاء نشاط الرؤوس المتكررة مستغلين في ذلك توتر العلاقات بين محمد علي والباب العالي. ومحاولين انتزاع حقوق السيادة على ساحل البحر الأحمر الافريقي لأنفسهم. فساروا يتعدون بين الحين والآخر على استقلال نواب أركيكو وغيرهم من حكام الشاطئ الصغر ، بل لقد عرض أحدهم وهو أوبي حاكم تيجري على فرنسا بأن يتنازل عن خليج أمفيلا لكن فرنسا رفضت هذا العرض. كما رفضت أن تشمله بحمايتها في مقابل تنازله عن خليج أركيكو وكل تجارة السهل الساحلي لها مدعيا أن هذه المنطقة كانت خاضعة للرؤوس الأثيوبيين بينما لم يكن الأتراك يملكون سوى جزيرة مصوع فقط. كما حاول أن يبسط نفوذه بنفسه على الساحل ويحتل جزيرة مصوع فقط. كما حاول أن يبسط نفوذه بنفسه على الساحل ويحتل جزيرة مصوع نفسها. ومن ثم فقد توغلت قواته في اقليم سمهر وذلك في سبتمبر سنة 1844 إلا أنه سرعان ما غاردها عندما وصلت القوات التركية وأجبرته على ذلك. وبالرغم من ذلك فقد ظلت منطقة الحدود التي تفصل سمهر عن أثيوبيا مسرحا لنفس حوادث الغزو والسلب التي كانت تجري في الماضي (66).

لهذا فقد رأى الباب العالي إجابة طلب محمد علي بشأن ضم سواكن ومصوع إليه. وكان ذلك في سبتمبر سنة 1846، فأجرتها له مدى حياته (67). وفي مارس سنة 1847 جاء اسماعيل للاضطلاع بشؤون الادارة في مصوع وسواكن من قبل الحكومة المصرية، كما جاءت قوة حربية مصرية لتتفقد أحوال ساحل البحر الأحمر الأفريقي حتى باب المندب. وشرع حاجم مصوع المصري في اعداد احصاء تقريبي للقبائل المنتشرة على طول الساحل بين سواكن وبررة توطئة للاستيلاء على كل الساحل الافريقي حتى راس غردافوي باسم والي مصر (68). وقد لفت أوبي حاكم تيجري نظر الحاكم المصري الجديد لمصوع إلى أن يتذكر أن الساحل كله ملك لأثيوبيا. وأجابه الحاكم المصري بأن مصوع وأركيكو من أملاك السلطان العثماني وأنها أصبحت الآن من أملاك نائبه محمد علي وتبع رسالته هذه بضرب أركيكو بالقنابل من البحر. وارسل أوبي قائده ليغير على ضواحي مصوع ليسلبها (69).

ومن ثم فقد تعددت الأسباب التي جعلت محمد علي يقرر غزو أثيوبيا وضم الأراضي في ساحل البحر الأحمر الغربي التي كانت للعثمانيين حقوق عليها منذ القرن السادس عشر. من ذلك، فشل حكومة مصر في انشاء علاقات طيبة مع حاكم جندر باعتبار أنه صاحب السلطة المركزية في أثيوبيا. وكان محمد علي منذ أن تخلى عن فكرة غزو هذه البلاد. يرى أن من حسن السياسة توثيق العلاقات الطيبة معه. لا سيما وقد صارت الأراضي المصرية بعد امتلاك مصوع متاخمة لأثيوبيا. لذلك فقد أرسل محمد علي إلى هذا الحاكم رسولا يعرض عليه صداقته. إلا أن هذا الرسول لم يصل إلى جندر فقد أوقفه حاكم تيجري، واغتصب الهدايا المرسلة من محمد علي إلى حاكم جندر ثم رد الرسول إلى مصر بعد أن أرسل معه إلى محمد علي قميصا أبيض من القطن وثوبا من ثياب البلاد الوطنية ومبلغا من المال (70).

وكان محمد علي صادقا بالفعل في رغبته هذه بتحقيق السلام وتبادل العلاقات الطيبة مع أثيوبيا. فقد ذكر للقنصل الفرنسي العام في مصر أن حكمدار السودان سوف يوقع معاهدة سلم وسلام مع الأقاليم الشمالية الأثيوبية وأضاف أن العداوة بين الشعبين المصري والأثيوبي لم تكن جدية ولكن يجب المحافظة على طرق القوافل التجارية ، فاذا لاقت المتاعب فان حاكم السودان سيرسل إلى الحدود لفتح هذه الطرق التجارية. وبذلك فشلت هذه المحاولة (71).

وكان من أسباب توتر العلاقات بين مصر وأثيوبيا ، استمرار اعتداء الملك نمر على الادارة المصرية في السودان. اذ كان يقوم بغاراته من والكيت على حدود السودان الشرقي واحدى المقاطعات الاثيوبية، ويشجعه أوبي الذي عينه رأسا على هذه المقاطعة. بل انهم – أي الأثيوبيين – لم يكتفوا بذلك، بل استمروا طوال حكم محمد علي في مهاجمة الحدود السودانية سواء في كسلا أو في القلايات (72)، ولذلك فقد رأت الحكومة المصرية أن ترسل حملة من سواكن ومصوع لغزو أثيوبيا والاستيلاء على جميع أراضي سواحل البحر الأحمر العربي التي دخلت في حوزة الدولة العثمانية في النصف الأول من القرن السادس عشر (73). على أن ذلك لم يتم بسبب وفاة محمد علي (74).

ولا جدال في أنه قد تتأيد بفضل نشاط السياسة المصرية في النصف الأول من القرن التاسع عشر الاعتراف أو التسليم بأنه الشرعية امتدت على طول ساحل البحر الأحمر الأفريقي من حدود الباشوية المصرية شمالا إلى رأس نمردافوي جنوبا بما في ذلك أثيوبيا. وقد استمرت مصوع وسواكن في حوزة محمد علي على طوال حياته على أنه في عهد عباس رجعتا إلى الدولة العثمانية وذلك في يونيو سنة 1949 (75). أما بالنسبة للحدود الشرقية للسودان مع أثيوبيا فقد ظل الملك نمر في اعتداءاته عليها مشجعا من حكام أثيوبيا، وكان من نتيجتها تخريب كل البلاد الواقعة بين نهر ستيت ومدينة القلابات. وظلت العلاقات بين الادارة المصرية في السودان وأثيوبيا خلال حكم عباس الأول سيئة وغير ودية (76).





. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفهرس

(1) اشتق اسم أثيوبيا من الترجمة لكلمة (كوش Kush) المصرية من اللغة اليونانية الى اللغة الاثيوبية القديمة (الجعيز) والتي ترجمت ب(Iteypeya) ومن هذا أطلق على البلاد. وقد ظهر هذا الاسم في الترجمة الأمهرية للمخطوطات القديمة. وهناك أسطورة تقول بأن حام أنجب كوش وكوش أنجب أيتوبيس Aethiopis وعلى اسمه تسمت البلاد حتى هذا اليوم. ودفن في المكان الذي قامت فيه اكسيوم نسبة الى ابنه Aksumaui وكان الاسم الغالب هو الحبش المشتق منه الحبشة. ويرجع إلى اسم قبيلة سامية اسمها حبشات استقرت في البلاد وجاءت من جنوب جزيرة العرب وأصبحوا سادة البلاد غير المحبوبين من الأهالي ولذلك فضلوا الاسم القديمة أثيوبيا.

Budge, W.: History of Ethiopia, vol. I, pp. 120-121, p. 142. (2) زاهر رياض: تاريخ أثيوبيا، ص 225. (3) المرجع السابق: من ص 226-234. (4) المرجع السابق: ص 235. (5) المرجع السابق: ص 110. (6) ظهرت هذه القبائل على مسرح الأحداث في أثيوبيا في نهاية القرن الخامس عشر، وكانت في بداية أمرها قبائل سلمية ولكنها تحولت إلى حياة الحرب والقتال وشجعها على ذلك الخراب الاقتصادي والضعف الذي انتاب اثيوبيا، فاجتاحت البلاد من جنوبه إلى شرقه دون أن تجد قوة تعارضها بل كانت المقاومة الضعيفة هي التي دفعتها إلى السلب والنهب والتخريب. ومنذ القرن الثامن عشر وسيادة قبائل الجالا في صعود. اذ اعتمدت عليهم الامبراطورة منتواب ضد الأمراء والزعماء الخارجين عنها. بل انها زوجت ابنها الى زوجة من الجالا وبذلك زاد نفوذهم بصفتهم أخوال الامبراطور الجديد (يواسي سنة 1755) الذي أرسل في الاستعانة بهم . وبذلك أصبحت سلطتهم تزداد منذ هذا التاريخ في البلاد. وكان الشعب غير راضي عن سلطة الجالا، لذا فقد ثار ضد الامبراطور وطلب الأخير من الراس ميكاييل مساعدته في اخضاع الثوار. وبالرغم من مرافقته فإنه الأمور ساءت بين الاثنين بعد ذلك بسبب الراس ماسيل الجالي الذي حرض الامبراطور ضد الراس ميكاييل عندما أزداد نفوذ الأخير في البلاد. وقد أدى ذلك إلى عزل الامبراطور بعد أن ثبت توطؤه ضد الراس ميكاييل الذي أصبح يتحكم في تعيين الأباطرة الأثيوببين، على أن ذلك لم يستمر طويلا. فقد ظهرت من جديد قوة الجالا في عهد الامبراطور أجولا متمثلة في المؤامرات التي دبرها الرؤوس الجاليون حتى سيطروا على هذا الامبراطور. وظل نفوذ الجالا موجودا وكان آخر هؤلاء الرؤوس الراس عالي الذي استمر نفوذه وسيطرته على البلاد حتى قضي عليه تيودور الثاني. - زاهر رياض، المرجع السابق، ص 103. - Parkyns, m: Life in Abyssinin Vol. II. Pp. 104-105 & Budge W.: op. eit., p. 488.

(7) زاهر رياض، المرجع السابق ص 105-107 وكذلك: (8) Littman, E: Abassyenin p. 61. (9) Rein. G.K.: Abyssinien Band I, p. 89 (10) Mathew D.: Ethiopia, the study of a policy 1540-1935. (11) Budge, W.: op. cit,. vol. II, p. 480. (12) Coulbeaux, J.B.: Histoire politique et religieuse D’Abyssinie, vol II, p. 330. (13) Buge, W.: op, cit., vol II, p. 480.

(*) كان سبا جاديس يأمل في الحصول على الأسلحة النارية التي أحضرها ولد سيلاسي من بريطانيا، على أنها احتجزت في مصوع، ولم يستطع سباجاديس أن يقنع المصريين باعطائها له. كما أنه حاول الحصول على مساعدة البريطانيين الحربية والفنية ولكنه فشل في ذلك. وكان يعتقد أ،ه اذا حصل على الأسلحة النارية سيسيطر على البلاد ويخصلها من قبائل الجالا ورؤوسها المسيطرين على الامبراطور، والواقع أن تيجري هي المنطقة الوحيدة من مناطق أثيوبيا المختلفة التي يمكنها أن تستورد الأسلحة بسهولة لقربها من البحر الأحمر. (14) Abir. M.: Ethiopia, the era of princes, p. 35. (15) Abir, M.: op. cit., p. 35-36 & Pakyns, M: op. cit., pp. 114. (16) Coulbeaux J.B.: op. cit., vol II, p. 385 & Rein, G.K.: op. cit., p. 114. (17) كان لموقع شوا في أقصى الجنوب أثر كبير في أنها لم تشترك في الصراع الناشب في الشمال وذلك لصعوبة الوصول إليها. وأيضا للسياسة التي اتبعها ملوك شوا في البعد بسياستهم عن هذا الصراع، وكان ملوك شوا هم الوحيدين الذين يلقبون بالملوك لأنهم من السلالة السليمانية التي لها الحق في العرش دون غيرهم. وكان الملك سهلا سيلاسي سليل هذه الأسرة ملكا على شوا. وقد اتبع سياسة أسلافه في البعد عن الصراع الناشب في الشمال وذلك الى أن تسنح لهم الظروف بعودة الأسرة السليمانية إلى العرش الامبراطوري وقد تم ذلك في عهد ملنيك الثاني حفيد الملك سهلا سيلاسي. (18) Abir, M.: op. cit., pp. 37. (19) انظر الفصل الثاني من الباب الثاني. (20) Abir, M.: op. cit., pp. 110-111. (21) Ibid, p. 112. & budge, W.: op. cit., p. 485. (22) Abir, M.: op. cit., p. 112 (23) Ibid: p. 110. (24) Budge, W.: op. cit., vol II, p. 448. (25) Ibid: p. 110. (26) Douin, G.: Histoire du Sudan Eygptien, p. 59. (27) السيد رجب حراز: التوسع الايطالي في شرق افريقيا، ص 62. (28) محمد فؤاد شكري: مصر والسيادة على السودان، ص 23-24. (29) شوقي الجمل: تاريخ سودان وادي النيل، ج2، ص 18. (30) Hill, R.: Egypt in the Sudan (1820-1881). P. 8. (31) فاروق عثمان أباظة: عدن والسياسة البريطانية في البحر الأحمر، 1839/1918، ص 83. (32) Abir, M: The origins of the Ethiopian border problem , pp. 443-444. (33) السيد رجب حراز: المدخل إلى تاريخ مصر الجديدة، ص 245-247. (34) Abir, M.: op. cit., pp. 443-444. (35) فاروق عثمان أباظة: المرجع السابق، ص 106. (36) Wadington, G. Journal of a visity to some part of Ethiopia. P. 91. (37) Robinson, E.A.: Nimr, the last king of shendi. SN. (38) Sabri, m>: L’empire Egyptien sous Ismail. P. 66. (39) Hoskins, G.A.: travels in Ethiopia, p. 92 & Barker, S.: tributraries of Abyssinina, pp. 139-140. (40) السيد رجب حراز: التوسع الايطالي في شرق أفريقيا، ص 64. (41) Shukry, M.F.: The Khedive Ismail and Slavery in the Sudan. P. 240. (42) مكي شبيكة: السودان عبر القرون، ص 106، وكذلك شوقي الجمل، المرجع السابق، ص 295-296. (43) المصدر السابق: ص 9-11. (44) مكي شبيكة: تاريخ ملوك السودان، ص 29. (45) نعوم شقير: تاريخ السودان وجغرافيته، ج3، ص 51. (46) Combes, E.: Voyage en Egypt, en Nubie II, p. 350. (47) Ibid. p. 173. (48) Robimson, E.A.R.: op. cit., p 44. (49) Abir, M.: op. cit., p. 450. (50) كان كينفو مسجونا وأفرج عنه الراس عالي وعينه على دابيا وهو عم الامبراطور تيودور. ولقد حكم مقاطعته بالعدل وأسعد الأعالي وفقراءهم وساد السلام وعم الهدوء فيها.

Budge, W.: op. cit., vol. II . p. 480, p. 354 & Mathew, D. op. cit., p. 153. (51) نعوم شقير: المرجع السابق، ج 3، ص 23 وكذلك Budge, W.E. op. cit., vol III. P. 489.

(52) Mathew, D.: op. cit., p. 154. (53) نعوم شقير: المرجع السابق، ج3، ص 24 ، وكذلك: Robinson. E.A.R.: op. cit., p. 115. (54) مكي شبيكة: المرجع السابق، ص 110، وكذلك نعوم شقير ، المرجع السابق ، ج3، ص 24. (55) محمد فؤاد شكري، المرجع السابق، ص 26. (56) Longrigg, S.: A short history of Ethiopia, p. 83. (57) Robinson E.A.R.: op. cit., p. 38. (58) Longrigg, S.: op., cit., p. 38. (59) Moorhead, A.: The blue Nile, p. 189. (60) Ibid, p. 1965. (61) شوقي الجمل: المرجع السابق، ج2، ص 56. (62) محمد فؤاد شكري، المرجع السابق، ص 52. (63) شوقي الجمل: المرجع السابق، ج2، ص 56. (64) Abir, M.: op. cit., p. 447. (65) أمين سامي: تقويم النيل، عصر محمد علي، الجزء الثاني، ص 317. (66) السيد رجب حراز: المرجع السابق، ص 65-67، وكذل محمد فؤاد شكري، المرجع السابق، ص 27. (67) محمد فؤاد شكري: المرجع السابق، ص 65-67. (68) السيد رجب حراز: المرجع السابق، ص 68-68، وكذلك محمد فؤاد شكري، المرجع السابق ص 27. (69) Longrigg, S.: op. cit., p. 86. (70) السيد رجب حراز: المرجع السابق، ص 68. (71) Abir, M.: op. cit., p 86 (72) Shukry, M.p>: op. cit., p. 257 & Longrigg, S.: op. cit., p. 84. (73) السيد رجب حراز: المرجع السابق، صح 68. (74) المصدر السابق: ص 71. (75) المصدر السابق: ص 71-72، وكذلك محمد شكري : المرجع السابق، ص 28-29؟ (76) Shukry, M.F.: op. cit., p. 257-258.






الفصل الأول: العلاقات السياسية بين مصر واثيوبيا منذ عهد سعيد وحتى الاحتلال البريطاني 1855-1882

تمهيد:

رأي عباس الأول بعد توليه عرش ولاية مص، أنها لا تستطيع أن تقوم بالاشراف على مصوع وسواكن وتعزيز السيادة المصرية العثمانية على طول ساحل البحر الأحمر الأفريقي حتى راس غردافوي، وذلك بسبب خروجها من صراع طويل مع الباب العالي أدى إلى انهاك قواها ومواردها، وبالتالي أصبحت في حاجة إلى فترة استجمام تستعيد فيها نشاطها وتصلح أحوالها. لذلك اتخذ خطه تتفق مع قدرة مصر على تحمل عبء الحكم الاداري في هذه المناطق فأعاد مصوع وسواكن إلى الدولة العثمانية، وعلل ذلك بأن هذين المينائين يبعدان كثيرا عن مركز الحكومة المصرية في الخرطوم والقاهرة، وبالتالي يصعب ارسال النجدات إلى هذه المناطق البعيدة بسرعة، فضلا عن أنه كان يخشى حدوث احتكاك بين السلطان المصرية وقناصل الدول هناك وفي أثيوبيا (1).

وبالاضافة الى ذلك، فقد كان الأثيوبيون يشعرون بأن لهم حقوقا قديمة على جميع ممتلكات مصر الواقعة جنوب أسوان، لذلك تخلى عباس عن مصوع تجنبا للاحتكاك معهم وان كان قد عمل على توطيد سلطة الادارة المصرية في السودان وتأمين حدودها، وذلك ليمنع الأثيوبيين من الاعتداء عليها (2). أي بمعنى آخر تخلى مصر عن غزو أثيوبيا والاحتكاك بها، وفي نفس الوقت صد اعتداءاتها بقوة على حدود السودان الشرقية.

وكانت الحدود بين السودان وأثيوبيا غير متفق عليها، وذلك بالرغم من محاولات مصر في هد محمد علي للوصول إلى اتفاق بشأن تحديدها، لأن أثيوبيا لم تكن تعترف بشرعية امتلاك مصر لبعض مناطق الحدود (3). وقد أدى ذلك الى اضطراب العلاقات بين مصر وأثيوبيا، وساعد على ازدياد اضطرابها، أن مناطق الحدود هذه كان يسكنها قبائل رحل لا يسهل بقاؤهم في مكان واحد، ولا يسع مصر السيطرة عليهم، بل كان الأثوبيون يشجعون شيوخ الجهات المجاورة لهم من السودان على الخروج على سلطان الادارة المصرية واعلان العصيان. كما اعتاد حكام أثيوبيا على الاغارة على الاقاليم المجاورة لهم ونهبها (4)، مما أدى إلى اهتمام الادارة المصرية بتدعيم حامياتها حتى تستطيع صد هذه الغارات (5)، بل شنت هي أيضا الغارات على الحدود الأثيوبية (6).

وقد زاد من تدهور العلاقات بين الادارة المصرية في السودان وأثيوبيا واضطراب الحدود بينهما غارات الملك نمر وأولاده. ففي حكمدارية عبد اللطيف باشا في عهد عباس، ثار تكارنة القلابات من جراء تعديات هذا الملك وأولاده، فأعدوا حملة قوية لقتالهم، إلا أنهم لقوا هزيمة قاسية على يد هذا الملك وحلفائه من القبائل الأخرى الهاربة من الادارة المصرية. وقد شارك الراس عالي في غنائم هذه الموقعة، حيث كان يأخذ دائما عشر الغنائم، كما كان يضفي حماية على الملك وأولاده. وانتشر خبر هذه المعركة في جميع أنحاء السودان، مما نتج عنه ازدياد عدد الفارين من الأهالي إلى الملك نمر (7). وكان يدفعهم إلى ذلك الضرائب الباهظة المفروضة عليهم والقسوة التي اتبعت في جبايتها (8)، وقد أخذ هؤلاء الفارون، ومعهم الملك نمر وأولاده، في اثارة الفتن والقلاقل على الحدود السودانية الأثيوبية، مما أدى إلى سعي الادارة المصرية في السودان إلى الاتصال بالراس عالي والد جزماتش كاسا حاجم اقليم كوارا، لاعادة هؤلاء الهاربين الى أوطانهم (9)، على أن شيئا مما سعت إليه الادارة المصرية لم يتحقق، بل لم تخف حدة الاعتداءات على أراضي السودان، وانما تكررت عدة مرات، وازداد هرب الأهالي وبعض الزعماء السوددانيين ، وازاء ذلك طلب حكمدار السودان سليم باشا الجزايرلي من حكومة القاهرة، تدعيما حربيا من الجنود والذخيرة لتقوية مناطق الحدود وصد الغارات الأثيوبية (10).

وبالرغم من مساهمة الراس عالي في اضطراب الحدود السودانية، إلا أنه كان على علاقة ودية مع عباس الأول والي مصر. فقد ارسل مندوبا يدعى احكيبي مسره مريم إلى مصر في اكتوبر 1852، لحل بعض المسائل المتعلقة بين البلدين (11). وكان أهم هذه المسائل اثنتين: الأول ما يتعلق بدير السلطان وبرغبة الراس عالي في استرجاعه، على أنه نتيجة لعدم وجود بطريريك للأقباط في ذلك الوقت، أرجأ عباس بحث هذا الموضوع وكتب إلى الراس عالي بذلك (12) والثانية، تتعلق بالبطريرك الجديد واختياره، وكان هناك اتجاه لتعيين القس داود خلفا للبطريرك الراحل بطرس السابع. وكان هذا القس قد ارسله البطريرك الراحل مندوبا له لحل بعض المشاكل الدينية في أثيوبيا، كان من نتائجها أن اتخذ هذا القس موقفا عدائيا تجاه الراس عالي ووالدته والأتشيجي وما يمثلوه من هرطقة دينية مؤيدا في ذلك الأنبا سلامة الثالث مطران أثيوبيا ضدهم (13). وقد أثار ذلك حنق الراس عالي عليه، مما جعله يرسل مندوبه هذا لكي يحول دون تعيين القس داود بطريركا ويهدد بقطع العلاقات الدينية بين مصر وأثيوبيا في حال تعيينه (14). وبالفعل فقد تأثر عباس الأول بما عرضه المندوب، وعارض في بداية الأمر تعيين هذا القس بطريركا، ولم يوافق إلا بعد انتهاء حكم الراس عالي وتدخل القنصل العام الانجليزي في مصر، واصبح داود بطريركا على اسم كيرلس الرابع (15).

ولما انتهت زيارة المندوب الاثيوبي لمصر، أنعم عليه عباس الأول بالأوال هوومن معه. ورافقه في عودته بعثة شرف برياسة أمير اللواء عمر بك، حملت معها الهدايا الكبيرة مع رسالة ودية للراس عالي وكاسا (16)، وقد واصلت بعثة الشرف هذه طريقها بعد وفاة المندوب الأثيوبية، ووصلت إلى العاصمة الأثيوبية وأدت مهمتها على الوجه الأكمل، وقوبلت مقابلة طيبة، ثم عادت بعد ذلك إلى السودان ومعها عدد من الرقيق هدية للحكومة (17).

وبالرغم من هذه العلاقات الطيبة السلمية وحرص عباس الأول على الحفاظ عليها فان العلاقات المتدهورة بين اثيوبيا والادارة المصرية في السودان ظلت كما هي. فقد استمرت اعتداءات الحدود يشجعها حكام أثيوبيا مؤيدين لأعمال أولاد الملك نمر وذلك بالرغم من أن عباس الأول كان يأمر حكمدارييه في السودان بالعمل على ازالة أسباب التوتر على هذه الحدود بالطرق السلمية (18).

وقد ظل هذا الوضع المضطرب على حدود الادارة المصرية في السودان مع أثيوبيا طوال حكم عباس الأول وبداية حكم سعيدج باشا، عندما روعت السودا، بسبب انتصار كاسا على منافسيه من حكام أثيوبيا الآخرين، ونشره برنامج مشروعاته واصلاحاته ومنها غزو السودان حتى الخرطوم والوصول بحدود امبراطوريته إلى القدس. وقد أدى ذلك الى ارسال أورطتين من الجند من القاهرة إلى السودان علاوة على ما به من الجنود وكذلك بعض العتاد الحربي (19). غير أن سعيد باشا سار على نفسه سياسة سلفه عباس الأول وهي سياسة التهدئة والحل السلمي والاتفاق.

أولا: العلاقات في عهد سعيد باشا

تولى الحكم في مصر سعيد باشا في يوليو سنة 1854 (20). وفي الوقت الذي كان كاسا (21) يضع اللمسات الأخيرة لتوحيد أثيوبيا تحت حكمه، اذ لم تحل هذه السنة إلا وكان حاكما على جندر وجوجام بعد أن هزم الراس عالي وحاكم جوجام، ولم يكن يناصبه العداء سوى حاكم تيجري وعاهل سوا فقط، ولكن كاسا سرعان ما تغلب على أوبي حاكم تيجري، وتوج في 7 فبراير سنة 1855، امبراطورا على أثيوبيا باسم تيودور الثاني (22)ز

وكان سبب اختياره هذا الاسم، اسطورة أثيوبية قديمة ظلت متداولة حتى عهده، واعتقد الناس أن الوقت قد حان لتحقيقها، وقد آمن تيودور بها ايمانا شديدا حتى اعتقد أنه اختير لتحقيقها. وكانت هذه الأسطور تقول، أنه سوف يظهر ملك أثيوبي من سلالة سليمان، ويعترف به كأعظم شخص على الأرض، وتمتد سطوته على كل أثيوبيا ومصر، وسيكون سيفا مصلتا على الكافرين خارج فلسطين ويطهر القدس ويخلصها من المسلمين، ويحتل عرش سليمان الحكيم، ويدعى تيودوروس Theodora (23). ولذلك فقد كان تيودور يطمح إلى أن يوقع هزيمة ساحقة بالمصريين في السودان، ثم يحول مياه النيل إلى مجرى آخرن ليتم له خراب مصر واخضاعها . كذلك يرغب في الاحتلال الدائم لمنطقة القلاابات واخضاع مديرية سنار. كما كان يبدي استياءه من احتلال الأتراك لموانئ أثيوبيا البحرية (سواكن ومصوع)، للدول الاوروبية ومندوبيها، ويرغب في طردهم منها (24).

ولتحقيق آماله هذه، كان عليه أن يوحد أثيوبيا، لذلك فقد انشغل في بداية عهده بتوطيد حكمه في تيجري وشوا، التي استولى عليها في نوفمبر سنة 1855، ثم بعد ذلك يحارب المصريين (25). وربما كان هذا تقسيرا منطقيا للعلاقات الطيبة التي كانت موجوة بين مصر وأثيوبيا في بداية عهده، اذ ليس من المعقول أن يفتج جبهة جديدة قوية ومركزه ما زال مهددا في أثيوبيا، أو ربما تكون هذه البداية الطيبة في العلاقات نتيجة للتأثير القوي للأنبا سلامة الثالث، المطران المصري لكنيسة اثيوبيا، على الامبراطور في بداية عهدهما معا، أو ربما يكون السببان معا.


ومما يؤكد ذلك أن الامبراطور تيودور أرسل في وينو عام 1855 رسالة مصحوبة بالهدايا ومعها رسالة من مطران أثيوبيا سلامة الثالث، بقصد اقامة علاقات طيبة مع مصر (26). وقد رحب بها سعيد باشا وأمر حكمداره بأن يعمل على حل مشاكل الحدود وهروب سكانها، عن طريق تبادل الرسائل الودية بينه وبين حكام أثيوبيا المجاورين للحدود، أي أن يتبع طريق المفاوضة السلمية بدلا من شن الحرب وذلك تمشيا مع رغبة تيودور في السلام (27).

ويبدو أن تيودور اتخذ هذه السياسة المزدوجة تجاه مصر، لعدم استطاعته مواجهتها في ذلك الوقت (28). لذلك قرر تدعيم قواته ومدها بالاسلحة الحديثة المتطورة، وفي نفس الوقت شجع العمليات الحربية العدوانية على الحدود وطلب من الدول الاوروبية ان تمده بالفنيين العسكريين لتصنيع السلاح وتطويره في بلاده، هذا في الوقت الذي أظهر لمصر النوايا الحسنة (29).

وفي ضوء هذه السياسة، استمرت غارات الملك نمر وبعض الرؤوس الاثيوبيين بل انتشرت في القاهرة تقول أن تيودور بدأ يعد لهجوم كبير على الحدود الشرقية للسودان، وقد كانت هذه الشائعة (30) من الأسباب التي جعلت سعيد يفكر في زيارة السودان لوضع حد لهذه المشاكل التي ثارت بين الادارة المصرية في السودان وأثيوبيا. وان الهدف الأول لرحلته إلى السودان هو التحضير لهذا الغزو (31)، وأن السلطان العثماني هو الذي منع سعيد من غزو أثيوبيا، ونصحه بارسال بطريرك الاقباط ذي المنزلة الرفعية في أثيويبا إليها، لعله ينجح في الوساطة ويعيد العلاقات الطيبة بين البلدين (32).

وبالفعل عرض سعيد باشا على البطريرك أن يقوم بهذه المهمة السياسية، وقد قبلها الأخير بالرغم من علمه بمشاق الطريق ووعورته ومعارضة الأثيوبيين بتعيينه بطريركا مهددين بقطع العلاقات الدينية (33). وربما كان قبول البطريرك هذه المهمة نابعا من واجبه كرئيس لكنيستين تكونان جزءين من أسقفية الاسكندرية ولذلك فعليه أن يمنع سفك الدماء بين البلدين، ويعمل على استباب الأمن والسلام وازدهار التجارة بين البلدين. وربما أن الأحوال الدينية قد تحسنت عندما علم أن الأنبا سلامة مطران أثيوبيا قد أخذ وضعه الطبيعي، وأن العقيدة الأرثوذكسية السليمة قد سادت تبعا لذلك وأراد أن يطمئن ويتأكد بنفسه. وربما يكون قد أجبر على القيام بهذه المهمة ولم يستطع الفكاك منها. وأخيرا فربما تكون هذه الاحتمالات كلها هي التي دفعته إلى القيام بها.

رحلة البطريرك ونتائجها:

سافر البطريرك مزودا من سعيد باشا بهدايا ثمينة للامبراطور الأثيوبي وبرسالة إلى حكمداره بالسودان، أدعى فيها أن سفر البطريرك هذا جاء بسبب مرض مطران أثيوبيا وعدم استطاعته القيام بواجباته الدينية، مما دعا البطريرك إلى السفر بنفسه إلى أثيوبيا للاشراف على الكنيسة الأثيوبية، وعلى ذلك طلب منه أن يسهل مهمة البطريرك في الذهاب والإياب (34).

ويلاحظ أن سعيد لم يذكر الهدف الحقيقية لمهمة البطريرك وذلك حرصا منه على سريتها وضمانا لنجاحها، حتى لا يفهم خطأ أن مصر لا تستطيع محاربة تيودور، أو أنها لجأت إلى التهدئة والمفاوضا مما قد يثير التساؤلات في السودان وينتج عنها استهتار السودانيين بالسلطة وازدياد اضطرابات الحدود وهجرة المزيد من زعماء وقبائل السودان إلى الحدود وإلى أولاد الملك نمر وبذلك نجد أن سعيد باشا فعل كل ما هو مناسب وملائم لهيبته وهيبة مصر، لكي يحافظ على السلام والأمن وان إرساله للبطريرك في سفارة تليق به وبمكانة الإمبراطور الأثيوبي لدليل على ذلك، فالمعروف أن البطريرك هو الخليفة الرسمي للقديس مرقس والحبر الأعظم لكنيسة أثيوبيا (35).

ومع ذلك فقد احتاط سعيد من نتائج فشل مهمة البطريرك وأعد العدة للحرب في حالة فشل البطريرك في مهمته، فعزم على السفر إلى السودان ليشرف بنفسه على الشئون الحربية، وتظاهر بأن الغرض من رحلته إلى السودان هو الوقوف على حالة أهله (36). وبالفعل قام سعيد برحلته، وصحبه عدد من الأجانب من بينهم فرديناند دليسبس وعدد من النبلاء، بالاضافة إلى قوة ضخمة من القوات المصرية (37).

وعندما علم الامبراطور تيودور بوصول البطريرك إلى حدود بلده، خف إلى لقائه مرحبا به وسار معه حتى دخل عاصمة ملكه مجدالا معه في ديسمبر سنة 1856. وشاع الخبر في أطراف البلاد فعم الفرح وأقيمت الصلاة في جميع الكنائس الأثيوبية وتفاوض البطريرك مع الامبراطور بشأن وقف عمليات اعتداء الجنود الأثيوبيين على الحدود السودانية، وتحديد الحدود بصفة نهائية بين أثيوبيا والسودان، وأحرز البطريرك نجاحا في مفاوضاته هذه ، وطلب الامبراطور أن يقوم بتتويجه فوافق البطريرك ، وهذا يعني اعتراف الحبر الأعظم للكنيسة الأثيوبية به امبراطورا للبلاد مما يقوي مركزه ويدعمه ازاء مناوئيه. فكانت فرصة لأن يدعو الامبراطور جميع حكام أثيوبيا وأمرائها وقوادها إلى حفل تتويجه الثاني على يد البطريرك ، ليظهروا التفافهم حول الامبراطور ويقسموا يمين الطاعة والولاء (38).

وقد رأى البطريرك في احتياج الامبراطور إلى عمال فنين متخصصين في صناعة الأسلحة وتدريب جيوشه، فرصة لتوثيق العلاقات المصرية الأثيوبية، فعرض عليه مساهمة مصر في امداده بكل ما يحتاجه في تكوين جيش قوي حديث. فطلب البطريرك من الامبراطور الموافقة والتوقيع على مشروع خطاب موجه منه إلى سعيد باشا ، ليرسل له ضباطا وعساكر مصريين وأسلحة لتدريب وتدعيم جيشه (39). وذكر "بلودون" في كتابه، أن بعضهم، ربما يكون من المبشرين البروتوستانت الذين جاءوا إلى أثيوبيا لتنشر الدين المسيحي على مذهبهم تحت ستار أنهم حرفيون في سناعة السلاح، وهو ما كان يطلبه تيودور ويلح في طلبه من الدول الأوروبية، اعتقدوا أن طلب البطريرك هذا يهدد وجودهم ومهمتهم في البلاد، ولذا فقد بدر منهم ما جعل الامبراطور يثور ويغضب على البطريرك (40).

وبالرغم من حاجة تيودور للمعونة العسكرية ، فإنه لم يكن يريدها من البلاد الاسلامية وذلك بسبب تعصبه الديني الأعمى، وقد أدى هذا إلى تصديقه هذه الوشاية، التي ادعت أن البطريرك ليس إلا جاسوسا أرسله سعيد باشا وليس مبعوثه وأنه مسلم في قلبه (41) ، وجاء إليه ليخدعه حتى لا يستعد لمقابلة والي مصر الذي زحف على السودان لهذا الغرض، وبذلك يتمكن من الاستيلاء على بلاده (42).

وذكروا له أيضا أن البطريرك أحضر معه كساء مسمم النسيج يقضي في الحال على من يلبسه، وذلك كهدية له. وبالفعل كان ضمن الهدايا التي أحضرها البطريرك برنس من الجوخ الأحمر المزركش بطراز الذهب والفضة والحرير الملون فانزعج الامبراطور، وارسل من يستكشف له خبر مجئ سعيد باشا إلى الخرطوم فجاءه الخبر بوصول جيش عظيم من المصريين، وبذلك تأكدت هذه الوشاية، فأمر بسجن البطريرك في مقره، وأحاط به الحراس من الجند ، ومنع الدخول عنده. ووضعه تحت الرقابة الدقيقة (43)، بل كاد يقتله لولا تدخل الامبراطورة والشيوخ وأقنعوا الامبراطور أن يبقيه حيا حتى يتحقق من صدق الخبر أو كذبه، فاذا ما ثبت قتلوه، والا فيكون قد قتل ظلما وعدوانا (44).

ومن جهة أخرى تقدم القنصل الفرنسي إلى سعيد باشا، وأكد له أن كلا من البطريرك والامبراطور تيودور اتفقا على غزو مصر وسوف يقدم لهما أقباط مصر كل مساعدة (45). وكانت فرنسا لا تعترف بتيودور امبراطورا، وتؤيد منافسه نيجوسي حاكم تيجري وتريد أن توليه عرش أثيوبيا بدلا منه، لذلك فقد اعتقدت أنها اذا نجحت في اثارة الحرب بين البلدين ، واثارة الاضطراب الذي يحدث في أثيوبيا نتيجة للحرب، فانها ربما تستطيع أن تحقق غرضها هذا بالاضافة إلى أنها كانت تنظر بعين الريبة والشك في البطيرك نتيجة محاولاته في تحقيق الوحدة بين الكنائس الأرثوذكسية والكنيسة الأسقفية الانجليزية مما قد يؤدي غلى تدهور نفوذها في مصر في عهد سعيد باشا (46).

وقد أدت هذه الظروف إلى تدهور الموقف تماما بالنسبة للبطريرك وللعلاقات بين البلدين، ولم ينقذ الموقف سوى الامبراطورة والقنصل الانجليزي وتدخلهما في تهدئة ثورة الامبراطور (47). وفي نفس الوقت استطاع البطريرك أن يرسل من سجنه من يبلغ سعيد باشا بأنه كان على وشك النجاح في مهمته السياسية لولا حضوره ومعه الجيش، وطلب منه ارجاعه (48). وقد رد سعيد باشا على ذلك بأنه لا يفكر في محاربة أثيوبيا، وأن سبب رحلته هذه تمدين السودان وحل مشاكل أهله. وطلب توجيه رسالته هذه إلى الامبراطور ليعم حقيقة زيارته للسودان وتلوضيح نواياه الطيبة نحوه (49). وبالفعل عاد سعيد باشا إلى القاهرة مباشرة (50). وعندما علم الامبراطور تيودور بعودة والي مص إلى بلاده، ودحضت أكذوبة الكساء المسمم رد للبطريرك اعتباره واعتذر غليه (51).

وقد أن انتهت مهمة البطريرك في أثيوبيا عاد إلى بلاده ويصحبه وفد أثيوبيا من قبل الامبراطور حاملين هدايا ثمينة ورسالة لسعيد باشا مضمونها السلام والمحبة. وقد رحب بهم سعيد باشا ترحيبا كبيرا، وحملهم رسالة إلى امبراطورهم يؤكد فيها ميله إلى السلام معه ورغبته في تدعيم التجارة بين البلدين، وقد له هدايا عبارة عن مدافع وذخيرة وخيام ومستلزماتها، وارسل مع الوفد الاثيوبي هذا مندوبا من قبله لكي ينوب عنه في تبليغ الامبراطور صدق مشاعره نحوه (52).




وكان مع رسالة المجاملة هذه رسالة أخرى يعرض له فيها الاضطرابات التي تحدث على الحدود السودانية ، وتتمثل في هروب بعض المشايخ والعربان القاطنين على الحدود إلى أثيوبيا، من الضرائب المقررة. وأيضا فرار المجرمين من القصاص، وساق سعيد باشا أمثلة على ذلك، فذكر ولد ميرية شيخ القلابات الذي عثر في أوراقه على ورقة كتب فيها أن تيودور أعطاه الدار لحد سنار وفازغلي، وأن هذه الدار من حق الامبراطور الأثيوبي، كما أشار إلى خطورة ما يسببه أولاد الملك نمر من اضطرابات على الحدود، وقد دعى سعيد باشا الامبراطور تيودور إلى وضع حد لهذه المشاكل، وأنه أمر حاكم السودان بعدم التعدي على آية منطقة أثيوبية، وحث تيودور على أن يعمل مثله مع رؤوسه التابعين له حتى تستقر البلاد وتأمن الحدود ويطمئن الأهالي ويتجهون إلى تنمية بلادهم (53).

وبالرغم من رغبة سعيد باشا الصادقة في السلام مع الامبراطور الأثيوبي فإن الأخير أوضح مدى سوء نيته ، "أنه كان يتبع سياسة مزدوجة مع مصر، فمع أن رسالته التي أرسلها مع الوفد الأثيوبي، توحي برغبته في السلام، فإن أعماله كلها تناقض ذلك، وبلذلك نستطيع القول أن بعثة البطريرك هذه لم تنج والدليل على ذلك رسالة سعيد باشا السابقة إلى الامبراطور والتي تؤكد استمرار الأحوال التي سبقت رحلة البطريرك والتي استمرت إلى ما بعد وصول الأخير إلى مصر. بل هناك أدلة قاطعة أثبتتها الرسالة السابقة على اشتراك تيودور الفعلي فيها وذلك ابان زيارة البطريرك لأثيوبياها، وعليه فان رحلة البطريرك لم تثمر عن ايجابية فيما يتعلق بمشاكل الحدود بين البلدين.

والواقع أن تيودور لم ينظر إلى بعثة البطريرك هذه نظرة سياسية مجردة بل نظر إليها من زاويته الدينية والضيقة إلى حد أنه صب جام غضبه على البطريرك، إبان زيارته وبعدها، حيث كان دائما يذكر أن والي مصر ارسل رجلا يدعو نفسه بطريركا لكي يستولي على عشره، بالرغم من خضوع تيودور له ، لم يرضي هذا البطريرك بذلك، بل طلب أن يعطي التاج لكي يعطيه للمصريين. كما اتهم تيودوير للبطريرك بأنه لم يأت إلى أثيوبيا إلا لأخذ بلاده وتقديمها غنيمة باردة للمصريين. وقد ظل تيودور يذكر هذه الاتهامات الكاذبة التي وجهها للبطريرك حتى بعد أن ظهرت براءته ورحل عن أثيوبيا (54). ومن هذا يتضح فشل البطريرك في مهمته السياسية.

ولقد شعر سعيد باشا بفشل البطريرك ، أو كما حاول الملتفون حوله من المناوئين للبطريرك أن يصوروا له أن هذا الفشل يرجع إلى عدم لياقة هذا البطريرك لهذه المهمة. والواقع أن فشل مهمة البطريرك إنما يعود إلى شخصية تيودور الصليبية نفسها، وهو ما لم يدركه سعيد باشا أو ربما أدركه وتجاهل رغبة منه في السلام معه. ولذلك أرسل له عبد الرحمن بك التركي يحمل هدايا ثمينة، لكي يستعاض بها عن الأخطاء التي نتجت بسبب عدم فطنة رجل الدين السابق (55).


وقد وصل هذا المبعوث المصري إلى دمبيه في سنة 1859، حيث أكرمت وفادته وقبلت الهدايا واحتفي به أولا ثم ما لبث أن انقلب تيودور عليه واحتجزه سنتين في مجدلا وأخيرا وبعد ورود جملة رسائل شديدة اللهجة وتهديدية من الحكومة المصرية، سمح له بالسفر، بعد أن أمر تيودوير بنهب ما معه وفي طريق عودته وقبل أن يتجاوز حدود أثيوبيا. وبعد قيام عبد الرحمن بك عائدا إلى مصر، كتب تيودور للحكومة المصرية يتهم الرسول باقترافه عدة جرائم، ولما علم عبد الرحمن بها خشى ألا يستطيع الاتيان بالأدلة التي تؤكد ما فعله به هذا الامبراطور من جرائم فظيعة، ففضل أن ينتحر بالسم حتى لا يواجه النتائج والتهم التي قد تنسب إليه في مصر من سعيد باشا، وما قد ينتج عنها من اذلال وتعذيب له (56).


خطة تيودور العدائية وفشلها:

وهكذات اتضحت نوايا الامبراطور تيودور تجاه مصر، وأ،ه كان يفعل ذلك حتى يتسعد لمحاربتها وأن احتجازه للبطريرك وللمبعوث المصري، يعطيه الوقت لكي يدعم جيشه ويقويه ليعتدي به على السودان ومصر. وكان تيودور يتوقع خطأ أن يهاجمه المصريون، سواء كان يهدف الحصول على الأراضي جديدة، أو لتدمير العناصر الإسلامية في أثيوباي. وكان الاوروبيون يتوقعون الحرب بين تيودور والمصريين أو الأتراك. سواء نتيجة لمشاكل الحدود أو للحصول على مصوع أو بسبب العنصر الصليبي الكامن في شخصية تيودور ذاتها. وبالرغم من صدق مصر في السلام فإنه كان متخوفا من هجوم مصري مفاجئ في مرحلة لم يكن فيها مستعدا للحرب، لذلك أرسل مبعوثيه إلى مص مع البطريرك بخطاب ودي، وكان هذا مجرد تغطية لما كان ينويع وذرا للرماد في أعين المصريين عن هذه النواية الخفية.

وباختفاء نيجوسي المناوئ لتيودور، والذي كانت تؤيده فرنسا، بدأ تيودور يتجه إلى صراعه المقبل مع المصريين (57). فبعث في اكتوبر سنة 1862 – مبتدئا خطته الهجومية التي طال انتظارها – برسائل إلى كل من انجلترا وفرنسا والقرى الأوروبية الأخرى يطلب فيها اقامة علاقات وثيقة معها هدفها تدعيم اثيوبيا ضد – ما اعتقده وتصوره – أنه التهديد المتزايد من الاعتداءات المصرية على أراضيه وأيضا مده بالخبرة الصناعية المتقدمة. وقد أصرت فرنسا في ردها على الامبراطور على أن يعيد للمبشرين الكاثوليك ومعتنقي المذهب الكاثوليكي حقوقهم أولا. ولما كان هذا ضد معتقدات تيودور الدينية ، فقد صرف النظر عن مساعدة فرنسا له وسمح للقنصل الفرنسي بمغادرة أثيوبية (58). أما بريطانيا فلم تهتم بخطابه كثيرا (59)، وذلك لرفضها من قبل الموافقة على أي من خططه السياسية ، أي أنها ترفض تأييد مشروعاته العدائية ضد مصر ومصوع (60).

وتؤكد رسالته إلى انجلترا وفرنسا نظرته التعصبية وأطماعه التوسعية، فقد ذكر فيها أن آباءه الأباطرة نسوا الله، فمكن الجالا والأتراك من التسلط على بلادهم ولكنه خلقه وعهد إليه بهذه الامبراطورية ليحكمها، وبقوة الله طرد الجالا، أما بخصوص الأرتك فقد طلب منهم أن يغادروا أرض أسلافه إلا أنهم رفضوا، ولذلك فإنه الآن على وشك الدخول في صراع معهم لقد منعه الأتراك المحتلون لساحل البحر الأحمر من أن يرسل سفارته إلى بريطانيا وفرنسا عندما كان في شدة. وعبر تيودور عن خوفه من سقوط سفرائه في أيدي الأتراك، عندما يرسلهم إلى هذه الدول، لذلك فهو يناشدهم أن يتكفلوا بسلامة مرور سفرائه في كل مكان، وأبدى الامبراطور رغبته في أن يتلقى ردا عن خطاباته هذه ، واختتم رسائله قائلا: انظروا كيف يضطهد المسلمون المسيحيين (61) وذلك لاثارة حميتهم الدينية فيساعدوه على اشعال حرب صليبية، في زمن انتهت فيه هذه الحروب منذ أمد بعيد.

وفي نفس هذا العام عقد تيودور تحالفا مع أولاد الملك نمر، أيد فيه غاراتهم على الحدود السودانية التي تصاعدت وازدادت حدتها وخطورتها بسبب تدعيم وتأيييد الامبارطور لهم (62)، مما دفع مصر إلى أن ترسل امدادات قوية يرأسها موسى حمدي لتعزيز القوات المصرية في السودان (63). ولم يكتف تيودور بذلك بل أرسل رسالة إلى حكمدار السودان "موسى حمدي" ذكر فيها أنه ليس من حق المصريين البقاء في الخرطوم، ورسم له حدود أثيوبيا الطبيعية التي هي منطقة التقاء النيل الأزرق بالنيل الأيبض حتى شندي شمالا، وهي بلاد الملك نمر وأولاده الأصلية – ومن تلك البلدة وفي خط مستقيم إلى عطبرة. وأوضح له ، له أنه لما كانت هذه المنطقة صحراوية ولا توجد بها آية علامات محددة فانه سوف يرسل شعبه ليحفر أخدودا من النيل إلى العطبرة، وأشار إلى أن حدود مصر يجب أن تكون شمال هذا الاخدود (64).

وازاء هذه التهديدات قام موسى حمدي بعدة حملات تأديبية استطاع أن يستعيد القلابات من الأثيوبيين الذين كانوا قد استعدوا للزحف على الخرطوم ولكن عندما علموا بقدوم القوات المصرية ارتدوا بسرعة ولم يتبعهم موسى حمدي خوفا من تدخل الدول الاوربية، ولأن سعيد باشا كان قد سمح له بالتفتيش على هذه المناطق وعمل بعض الاجراءات التنظيمية لاستعادة الهاربين من المشايخ والأهالي وتأديبهم، ثم العودة إلى مقر حكمه وألا يتعرض للقوات الأثيوبية ما دامت لم تعتد هي عليه، بل حذره من أن يكون سببا في وقوع تصادم من جانبه قد يؤدي إلى الحرب مع أثيوبيا (65).

وقد نفذ موسى حمدي هذه التعتليمات، فبعد أن طرد الأثيوبيين من القلابات وطاردهم بعض الشئ، عاد إلى الخرطوم ومعه العربان العاربون، وشرع في تحصين القلابات بالمدافع والجنود، وعين آدم بك قائدا عليهم، ثم ارسل جيشا إلى أولاد الملك نمر فأكتسح بلادهم،ـ وذهب إلى اقليم التاكه ليؤمنه فمكث مدة ثم رجع إلى مقر حكمه (66). ولقد استطاع موسى حمدي بنشاطه الحربي على الحدود مع أثيوبيا، أن يعيد الهدوء إليها ويلقي الرعب في قلب تيودور، ويقضي على فكرة غزو السودان. وعاد الامبراطور مرة أخرى إلى تدعيم قوته في بلاده وتقوية جيشه (67).

ومما ساعد على تخلي تيودور عن غزو السودان، خيبة أمله في الحصول على تاييد فرنسا وبريطانيا، وبالذات من الأخيرة، وانشغاله لما نتج عنها. ذلك أن القنصل الانجليزي كاميرون الذي خلف بلودن، قد اقترح على تيودور أن يبعث الى بريطانيا يطلب عقد اتفاقية صداقة جديدة مع الملكة، ولعل ما كان يقصده كاميرون لم يكن يعدو التبادل الرسمي للمجاملات، ولكن تيودور انتهز الفرصة وأرسل رسالته يطلب فيها التحاف ضد مصر والمسلمين، وكلف كاميرون بحملها إلى ملكة بريطانيا. وبينما كان كاميرون في طريقه إلى مصوع، تلقى رسالة من الخارجية البريطانية بأن يقوم بزيارة الحدود السودانية الأثيوبية، ويكتب لها عن مدى امكان زراعة القطه فيها. وكانت انجلترا في ذلك الوقت تبحث عن منطقة جديدة لزراعة القطن، وذلك بسبب الحرب الأهلية في أمريكا (68).

وبالفعل قام كاميرون بجولة في مناطق الحدود هذه ، وفي منطقة بوجوس في شمال شرق أثيوبيا، وحاول أن يحمي سكانها المسيحيين الاثيوبيين من الاعتداءات المصرية عليها فتوسط لدى السلطات المصرية لمصلحتهم ولوقف الغارت عليهم، ومن بوجوس ذهب إلى كسلا ليعرض مطالب شعبها على الحاكم المصري ثم اجته إلى المتمة والقلابات ليتفقد الوضع القائم على الحدود بين الادارة المصرية في السودان وأثيوبيا، وليجمع المعلومات المتعلقة بتجارة وزراعة القطن والتي طلبتها الخارجية البريطانية منه. وطلب كاميرون من نائبه في مصوع أن يحذر كل زعماء الحدود من عمل غارات على القرى الأثيوبية الواقعة على هذه الحدود ، وبعد أن أتم كاميرون رحلته هذه عاد إلى أثيوبيا (69).

ويلاحظ أن رحلة كاميرون هذه كانت أيضا تخدم مصالح تيودور وأثيوبيا (70) ومع ذلك فقد كان الامبراطور الأثيوبي يسم بالحيانة كل أثيوبي أو أي حليف يتصل بحكام السودان الاسلامي أو يقوم بزيارته. ومع أن كاميرون كان يعلم ذلك، وأنه لم يأبه به وانطلق في مهتمه السابقة. ومضت بضعة شهور قبل أن يعلم تيودور بذلك وكان يخيل له أن كاميرون قد غادر أثيوبيا إلى ساحل البحر الأحمر في طريقه إلى انجرتا بينما كان هو في كسلا والقلابات، أي في السودان، مما أدى إلى غضبه وهياجه وشكه في هذا القنصل بل وفي بريطانيا، وتصور أنها تدبر حملة على أثيوبيا تنطلق من السودان (71).

ومما زاد من غضبه، أن القنصل لم يأته برد خطابه من ملكة بريطانيا، بل أن الخطاب الذي وصل كاميرون بعد ذلك لم يشر مطلقا إلى خطاب تيودور الأخير. واعتبر الامبراطور هذا الصمت الطويل اهانة له، فوضع القنصل الانجليزي والمبشرين البروتستانت التابعين له في السجن (72). واعتقد الامبراطور أن انجلترا تؤديد مخططات المصريين ضده وتباركها، وأيد ذلك سحب الحماية البريطانية عن الاثيوبيين في القدس (73). والواقع أن بريطانيا في ذلك الوقت قد أرادت أن تحد بل وتنسحب من تحالفها مع أثيوبيا (74). وطلب لورد راسيل وزير خارجيتها من كاميرون الكف عن التدخل في شئون أثيوبيا الداخلية والعودة إلى مقره في مصوع (75).

وبذلك نجد أن انجلترا لم توافق على تحركات قنصلها كاميرون، كما أن مصر شكت في تحركاته هذه واتهمته بأنه يدبر غزو الاراضي المصرية، وأصر اسماعيل والي مصر الجديد على سحب هذا القنصل من أثيوبيا (76). وكانت نتيجة تطور هذه الحوادث، أن تحول انتباه تيودور عن غزو السودان ومصر حتى بيت المقدس – امنيته القديمة – واشنغل بصراعه مع مناوئيه في أثيوبيا والأسرى الانجليز.


ثانيا العلاقات في عهد اسماعيل باشا

بالرغم من تخلي تيودور عن فكرة غزو السودان ومصر، إلا أن ذلك لم ينتج عنه خدوء الحال في الحدود السودانية الأثيوبية، فقد ظلت مضطربة بسبب تهرب القبائل النازلة في هذه المنطقة من دفع الضرائب. مما نتج عنه استمرار وقوع الاشتباكات بين مصر وأثيوبيا على طول الحدود الممتدة من المتاكة حتى القلابات وفازوغلي (77).

ولقد حافظ اسماعيل في بداية عهده على السلام مع أثيوبيا، فطلب من حكمداره في السودان تجنب الاحتكاك والعمل على توطيد الأمن والسلام على طول الحدود بين البلدين (78)، وتوطين الفارين الأثيوبيين على الحدود، معاملتهم معاملة حسنة فلا يطردهم أو يعيدهم إلى بلادهم، وهو بذلك لا يحاول أن يزيد من مشاكل تيودور الداخلية، بل يوطد حكمه بطريقة غير مباشرة، كما أنه عدل نهائيا في هذه الفترة من حكمه عن ارسالة أية قوات عسكرية إلى اثيوبيا لقتال شعبها، حتى تسمح ظروفه أو الظروف الدولية بذلك. ومعنى هذا أن اسماعيل كان ينوي غزو أثيوبيا، ولكنه في بداية حكمه حافظ على السلام لدرجة أنه كان يقبل الفارين الأثيوبيين ولا يحاول استغلالهم ضد تيودور (79).

ومع ذلك استمرت الاضطرابات على الحدود يدعمها ويزيدها حكام الحدود الأثيوبية. وقد شهد اقليم التكاة العديد من غارات دجاج هايلو حاكم اقليم هماسين وولدمراج حاكم عدى – أبو Adi – Abu لدرجة أن اسماعيل أصدر أوامره إلى وكيل حكمدار السودان جعفر مظهر أن يهتم بنقطة كوفين الواقعة شرقي كسلا، ويقيم بها حامية حربية قوية تحت رياسة أحد كبار الموظفين ممن لهم خبرة بالادارة لتكون بمثابة درع يقي الأهالي من هذه الغارت (80). كما نجح الحكمدار من أن يقيم اتحادا بين قبائل الحدود في اقليم التاكة ضد غارات الأثيوبيين (81). وبالفعل فمن طريق تدعيم كوفييت حربيا وتكوين هذا الحلف، توقفت غارات الأثيوبيين ولم تتكررد إلا في عهد يوحنا الرابع (82). وبذلك هدأت المنطقة إلى حين.

كذلك استطاع موسى حمدي هزيمة أولاد الملك نمر ، وأسر أعداد كبيرة منهم (83*، ومن تبقى منهم قضى عليهم جوباز المناوئ لحكم الامبارطور تيودور، بسبب حنقه عليهم، لعدم مساعدتهم إيها ضد تيودور، وهكذا انتهت مشكلة الملك نمر وأولاده (84).

حملة بيسون: كانت نتيجة الاضرابات في الحدود في منطقة اقليم التاكة وبوجوس، أن رحبت مصر باقتراح بيسون Count Bisson ربما بقصد انشاء دولة حاجزة في هذه المنطقة مثلما فعلت أثيوبيا عندما تبنت الملك نمر وأولاده، حتى يحين الظرف المناسب ليغزو اسماعيل أثيوبيا. واذا لم يكن هذا مبررا لحملة بيسون هذه فما هو الواقع وراء قبول اسماعيل لها، وهو لا يعلم شيئا عنه سوى ما عرضه بيسون نفسه من اقامة مزرعة كبيرة لزراعة القطن تحميها مصر؟

وصل بيسون إلى مصر في سبتمبر سنة 1863 ، وأخبر اسماعيل بأنه ينوي القيام بمشروع زراعي صناعي في السودان الشرقي بالقرب من حدود أثيوبيا، وكان هناك اعتقاد بأن بيسون يقوم ايضا بمهمة سياسية. وهي الافراج عن القنصل الفرنسي ليجيان الذي قيل أن تيودور قبض عليه، وقد وافق اسماعيل على سفر بيسون وأتباعه إلى حدود أثيوبيا عن طريق مصر والسودان (85).

والواقع أن اسماعيل لم يوافق على مشروع بيسون الا بعد أن أعلن في مصر هدفه الحربي، وهو اقامة مركز حربي على حدود السودان مع أثيوبيا، وقدمت مصر له المساعدات الفعالة وأمر اسماعيل حكمداره في السودان بضرورة تقديم العون الكامل لبيسون وتاييده في حالة حربه مع أثيوبيا. وكان اسماعيل يعتقد أن تأييده لبيسون خدمة تنتقم بها فرنسا من تيودور الذي قبض على قنصلها وأهانه (86). ومما يؤكد ذلك أنه عدل عن أوامره، عندما أنكرت فرنسا صلتها به، فأمر حكمداره بأن لا يصحبه إلى الحدود الأثيوبية ولا يسمح له بقامة تحصينات قريبة من الحدود، وفي حالة اغارته على أثيوبيا يقدم له الذخيرة فقط دون الجنود، أو بعبارة أخرى تتحول هذه المنطقة – منطقة بيسون – إلى منطقة حاجزة تخفف من اعتداءات الأثيوببين على حدود السودان. وكان السبب في تحول اسماعيل هذا هو خوفه من أن تتهمه الدول الاوربية بأنه يعمل على التحرش بأثيوبيا ومحاربتها بعد اعلان فرنسا تخليها عن بيسون، وكان اسماعيل لا يرغب في ذلك في بداية عهده. وعليه فقد أمر حكمداره في السودان باحتجازه في الخرطوم أطول فترة ممكنة إلى حين صدور تعليمات أخرى (87)، وربما كان ذلك لمعرفة رد الفعل لوجوده عند بريطانيا والنتائج التي قد تترتب على ذلك فيما بعد.


وبوصول بيسون وجماعته إلى السودان – بدأت تنكشف حقيقته، فادعى أن الحكومة المصرية وعدته بالقيام على رأس حملة ضد اثيوبيا يتولى قيادتها. وأنها أسندت إليه الاشراف على الأعمال الحربية في جميع أنحاء السودان. وأشار على موسى حمدي أن يبعث إلى مصر باقتراح فتح أثيوبيا في العام التالي سنة 1864، على أن يبدأ هو بتدريب القوات المصرية طبقا للأسلوب الفرنسي، وأوضح له أن ظروف غزو أثيوبيا قد اصبحت مهيئة بفضل البعثة التبشيرية الكاثوليكية، التي أرسل رئيسها إلى الأب ستيللا في بوجوس برسالة ذكر فيها أنه اتفق مع سكان تيجري على القيام بثورة ضد تيودور ، وذكر بيسون أنه يعلق الآمال على الجيش الفرنسي فيما اذا أحجمت مصر عن غزو أثيوبيا. فان فرنسا سوف تقوم به. واضاف أن انجلترا تعارض غزو مصر لأثيوبيا. وقد سببت تصريحات بيسون هذه ارتباكات شديدة للحكمدار، الذي لم يكن يعرف شيئا مؤكدا عن حقيقة أمرها فارسل إلى القاهرة يستوضح كنه هذه الحملة والغرض منها وأهدافها (88).

ويتضح مما سبق مدى تورط الارسالية الكاثوليكية في بوجوس في هذا الموضوع وكان سبب وجود الارسالية التبشيرية الكاثوليكية في هذه المنطقة، هو افتقادها الأمان الديني والسياسية في تيجري (89). مما دفعها إلى الاتجاه شمالا والاستقرار في بوجوس وقاد الارسالية إلى منطقتها الجديدة هذه كل من سابيتو وستيلا وذلك في سنة 1852 ، حيث نقلوا مركز الارسالية من عدوة إلى أكلاجوزيه Akakal Gusay.

وبدأت الارسالية تمارس نشاطها التبشيري وتدعم وجودها بانشاء كنيسة أثيوبية كاثوليكية بعيدة عن التيارات السياسية التي كانت موجودة في أثيوبيا في ذلك الوقت (90).

وظلت هذه الارسالية في حمى أوبي ونيجوسي من بعده وكانت فرنسا تؤيد الأخير وتعترف به امبراطورا على أثيوبيا بدلا من تيودور. غير أن الأخير استطاع أن يقضي عليه ويقتله، وبذلك فقدت الارسالية الكاثوليكية حاميها وقضي على أحلامها بالعودة إلى أثيوبيا. لأن تيودور كان لا يسمح بممارسة نشاطها التبشيري في بلاده (91). وازاء ذلك كان لابد للارسالية أن تبحث عن قوة تساندها في التخلص من تيودور ويساعدها في العودة إلى أثيوبيا. ولهذا فليس من المستبعد أن تقف وراء الكونت بيسون الفرنسي الكاثوليكي. وأن تستغل رغبة مصر القديمة، وتحثها من جديد على غزو أثيوبيا. فتنشب الحرب بين البلدين، وقد ينتج عنها التخلص من تيودور أو اضعافه، وبالتالي يسهل عليها العودة إلى أثيوبيا والمعروف أن النفوذ الفرنسي كان سائدا في مصر في عهدي سعيد واسماعيل من بعده وبالتالي فان نسبة نجاح هذه الخطة كانت كبيرة.

وقد اهتمت بريطانيا بأنباء هذه الحملة (حملة بيسون) عندما علمت بها وأمرت قنصلها العام في مصر مستر كولكهون بالتحري عنها عندما طلبت من سفيرها في فرنسا الاتصال بالخارجية الفرنسية بهذا الخصوص. وقد أنكرت الخارجية الفرنسية معرفتها ببيسون، بل قالت أن الامبراطور الفرنسي لا يعلم عنه شيئا، أما القنصل الانلجيزي في صمر، فقد قابل الخديو وأخبره بأن حكومة بريطانيا لا تسمح بأي اعتداء على أثيوبيا أو تأييد الكونت بيسون لنفس الغرض (92)، وبالفعل أرسلت الحكومة المصرية تعليماتها إلى حكمدارها في السودان بألا يقدم له أي مساعدات ويعامله كأي سائح عادي ولا يقيم وزنا لما يدعيه لنفسه، وفي حالة مطاردة الأثيوببين له في داخل الحدود المصرية عليه أن يطردهم بالقوة، ويعمل على اضعاف قوة الاب ستيلا بفض أنصاره من حوله، وأكدت له حكومة مصر عدم النية في غزو أثيوبيا، ولكنها ستوالي ارسال الأسلحة والجنود إليه للمحافظة على الحدود وتوطين الأمن (93).

أما بيسون فقد وصل إلى كسلا، والتقي بالأب ستيلا الذي عرض عليه محاربة أثيوبيا والقضاء على حكم تيودور بواسطة القوات المصرية، وعليه فقد حصل بيسون على سهل ستث، وهو جزء من بوجوس على الحدود مع تيجري عن طريق الحصول على تنازلات من الأهالي، ثم استمر بعد ذلك في الحاق باقي اقليم بوجوس والاستعداد، لارسال حملات إلى داخل المناطق المجاورة له لكي يستولي على الماشية والعمال. وأراد أن يورط السلطات المصرية مع أثيوبيا بأن أرسل إلى حكمدار السودان مهولا له من شأن الخطر على السودان من جيش أثيوبيا. وأن الامبراطور يحشده ليخترق الحدود السودانية. ولذلك يجب عليه أن يستعد لما سيترتب على ذلك من نتائج وقد أثارت أعمال بيسون هذه الادارة المصرية في السودان التي توقعت أن استمرار وجوده على الحدود سوف يعجل بالحرب بين مصر واثيوبيا. ومما أيد ذلك أن بيسون عدل عن الذهاب إلى مستعمرته المقترحة بناء على نصيحة الأب ستيلا بالبقاء في نقطة كوفيت شرقي كسلا لقربها من الحدود الأثيوبية ولأنها من الأملاك المصرية. مما يضمن استمرار ضيافة مصر له كما أنه يستطيع القيام بحملاته الحربية على أثيوبيا، وبالتالي يورط موسى حمدي فيضطر إلى التدخل. وبذلك يحقق الاب ستيلا هدفين أولهما الحرب بين مصر وأثيوبيا وزعزعة حكم تيودور ثم ابعاد بيسون عن بوجوس مقر الارسالية الكاثوليكية حتى لا تجلب في المشاكل ويعرضها للخطر اذا قام تيودور بصد بيسون، وبالتالي يعرف دورها فيطردها ويعرف الأهالي حقيقة دور الارسالية في هذا الموضوع فينصرفون عنها (94).

غير أن حملة بيسون هذه لم تنجح، وذلك لعدم تعاون الادارة المصرية في السودان معه تنفيذا لأوامر اسماعيل باشا التي أرسلها الى حكمداره موسى حمدي كما رفض الجنود الذين أرسلوا من قبل الحراسة القيام ببناء الاستحكامات بعد أن هجره العمال بسبب عدم دفعه لأجورهم، بل انه سحب هؤلاء الجنود وترك بيسون دون حراسة، ولم يأبه مدير التاكة لشكواه، ووضعه تحت المراقبة الدقيقة وأخذ يضيق عليه الخناق حتى تخلى عنه بعض المتعاقدين معه، كما أن قبائل المنطقة أعلنت معارضتها له حينما وجدت السلطات المصرية لا تؤيده. كل هذه العوامل دفعت بيسون إلى التخلي عن مشروعه والعودة في صيف سنة 1864 إلى مصر ثم الرحيل بعد ذلك إلى فرنسا (95).

ولم يكن لهذه الحملة من نتئاج هامة سوى أنها زادت من تدهور العلاقات بين مصر وأثيوبيا، وأثر هذا التدهور على العلاقات بين أثيوبيا وانجلترا، فقد اعتقد الامبراطور خطأ أن رحلة كاميرون إلى كسلا إنما هي للاتصال بأعدائه ومناوئيه ولمعاونتهم في غزو أثيوبيا والقضاء على حكمه. مما دفعه إلى القبض على كاميرون في 3 يناير سنة 1864، مع أن وصول بيسون إلى هذه المنطقة كان بعد هذا التاريخ (96)، ورفضت مصر طلب مغامر آخر فرنسي كاثوليكي كان هدفه غزو أثيوبيا، وذلك حتى لا يؤول على أنه عمل عدائي استفززاي ضد تيودور، وهذا ما كانت تتجنبه مصر (97)، وهكذا استفادت مصر من ذلك بأن أوضحت للعالم عامة وانجلترا خاصة أنها لا تفكر في غزو أثيوبيا وأنها رفضت مساعدة بيسون وأمثاله، وارضاء لانجلترا عندما طلب قنصلها من الحكومة المصرية ذلك.


اسماعيل يضم مصوع وسواكن:

كان اسماعيل يبغي التوسع، ولكن عندما تسمح ظروفه الداخلية والخارجية بذلك . وكان الدافع له ايقاف تجارة الرقيقة. وحاجته إلى تدعيم مركز الادارة المصرية في السودان (98).

فالنسبة للظروف الخارجية، كان يعلم أن بريطانيا لن تسمح له بغزو أثيوبيا، كما أنه مشغولا بمشكلة كريت التي كلفه الباب العالي بها (99)، لذلك فقد ركز جهده في تدعيم مركزه في السودان استعدادا لغزو أثيوبيا بعد ذلك، وعليه فقد تطلع إلى ضم سواكن ومصوع إلى حكمه، وذلك لأهميتهما في تحقيق أهدافه وأطماعه (100).

وكانت أهمية سواكن تتمثل في أنها المنفذ الوحيد لاقليم التاكة على البحر الأحمر ، وبالتالي كانت أعظم مركز تخزين للغلال والبضائع من وإلى صعيد مصر، هذا بالاضافة إلى سرعة الاتصال بالسودان (101). أما مصوع فتنبع أهميتها من أن من يسيطر عليها يستطيع فرض سيادته على الساحل واقليم سمهر الذي يسيطر على الطرق المؤدية إلى أثيوبيا، وبالتالي تستطيع مصر مراقبة تحركات القبائل المغيرة على الحدود السودانية (102)، ومنها ترسل – في الوقت الملائم – قواتها لغزو أثيوبيا وهو ما حدث فعلا قيما بعد.

ولهذا فقد قرر اسماعيل ضم المينائين وفرض سيادته عليهما. فأرسل إلى الأستانة مذكرة برر فيها هذا قال فيها بأن الأجانب يحرضون القبائل التي تقطن بين مصوع وأثيوبيا واقليم التاكة على الاستقلال والخروج على الادارة المحلية – التركية وذلك تحت ستار الدين والمدنية. وقد يترتب على نجاحهم انتشار الفوضى والاضطرابات في المنطقة مما يؤدي إلى تدخل أثيوبيا فتستخدمهم لمصالحها ضد أملاك السلطان ، أما اذا كانت هذه المنطقة خاضعة له، فإن ذلك يسهل انتقال مأموري التاكة إليهم وقيامهم بالمراقبة وتوطيد الأمن والقضاء على تجارة الرقيق التي قيل أن الدولة العثمانية تشجعها. وأشار إلى محاولات الارسالية الكاثوليكية لفرض الحماية الفرنسية على المنطقة وسكانها. واعتبر تدخل قنصل فرنسا في بوجوس وفرضه الحماية الفرنسية على قبائلها أمرا خطيرا قد يتحول إلى ايجاد علاقة له في المنطقة. ولذلك فان ضم هذين المينائين للادارة المصرية يجنب هذه المنطقة من بعض المشاكل التي قد تنجم عن هذا التدخل الأجنبي فهيا (103).

كذلك برر اسماعيل طلبه هذا للدول الاوربية، أنه يرغب في القضاء على تجارة الرقيق في هذه المنطقة ولن يتم ذلك إلا بضم مصوع وسواكن للادارة لامصرية التي تستطيع أن تحقق ذلك، وقد أوضح اسماعيل ذلك لسفير بريطانيا في تركيا هنري بولور أثناء زيارته لمصر (104). وكان لوساطة هذا السفير في تركيا أثر كبير في اتمام ضم سواكن ومصوع لمصر. وكان سبب هذه الوساطة، خوف بريطانيا من حصول فرنسا على موضع قدم في أي مكان على طول الساحل الافريقي للبحر الأحمر بعد أن استولت على أوبوك خارج مضيق باب المندب (105). وكانت موافقة انجلترا هذه نابعة من السياسة التي اتبعتها وهي الانسحاب بقدر الامكان من الارتباطات والتحالفات مع أثيوبية (106). وربما كان لتوتر العلاقات الاثيوبية البريطانية بسبب سجن تيودور للقنصل الانلجيزي والمبشرين أثر في ذلك.

وقد أصدر الباب العالي قراره بالحاق سواكن ومصوع بالادارة المصرية في السودان في مايو سنة 1865. وتسلمت مصر سواكن مباشرة بعد صدور هذا القرار أما مصوع فقد تأخر تسلمها بسبب ثورة الجند في التاكه (107)، ولم يتم تسلمها إلى في العام التالي أي في ابريل سنة 1866، واحتلها مصر كما احتلت أركيكو، ووضعت الحامية المصرية في المواقع التركية على طول الساحل الافريقي للبحر الأحمر (108). وبنجاح اسماعيل في ضم هذين المينائين ، أصبح في امكانه الاستيلاء على اقليم بوجوس الذي يخترقه الطريق المباشر بين مصوع وكسلا، وطريق الجمال إلى اقليم هماسين. كذلك ضم اقليم الزنادقلي الخاضع لأثيوبيا والذي تصل حدوده إلى شمال غربي مصوع بنحو ستة أميال (109). هذا بالاضافة إلى أن مصوع تعتبر المنفذ الطبيعي لأثيوبيا ونافذتها على العالم الخارجي (110).

وبالطبع كانت بريطانيا تعرف مدى خطورة منح مصر سواكن ومصوع على العلاقات المصرية الأثيوبية وما يترتب عليها من تطورات ونتائج، ومع ذلك وافقت وتوسطت في ذلك الى حد أن أحد الكتاب الانجليز أوضح أن معنى احلال مصر محل تركيا في السيادة على أملاك الأخيرة على ساحل البحر الأحمر الافريقي، مما يعنيه ضمنا أن أثيوبيا أيضا كانت تعتبر تابعة للدولة العثمانية، ومن ثم أصبحت خاضعة لمصر مع ملاحظة أن الأخيرة لم تكن بضعف تركيا، ومن ثم فقد تسعى لأن يكون هذا الخضوع حقيقة بالفعل لا بالقول وفحسب. وعلى أي حالة فان هذه هي السياسة التي صارت عليها برطانيا في التخلي تدريجيا عن أثيوبيا (111)، كما أننا سنجد أن هناك تعاون بين مصر وانجلترا قبل الحملة الانجليزية على أثيوبيا وفي أثنائها.


موقف مصر من الحملة الانجليزية على أثيوبيا وأثره على العلاقات بين البلدين:

اعتقد تيودور أن بريطانيا تتواطأ مع مصر على غزو بلاده لذلك قبض على قنصلها وعلى المبشرين البروتوستانت ، مما أثر قلق الحكومة البريطانية على رعاياها حتى أنها خافت عليهم من الحشود المصرية على الحدود الأثيوبية السودانية. والتي كانت مصر قد أرسلتها عن طريق ميناء واكن، بعد ضمه إليها – للحفاظ على الأمن والسلام داخل مقاطعات الحدود الخاضعة للادارة المصرية في السودان (112). وكانت هناك شائعات تقول أن هذه القوات أرسلت لتضيف مناطق أخرى في هذه الجهات لمصر (113).

خافت بريطانيا من هذه الحشود على قنصلها ورعاياها أسرى تيودور من أن يؤكد ذلك اعتقاده بأن بريطانيا تؤدي مصر بل، وتعتزمات معا غزو البلاد. وكانت هناك شائعة تقول أن شركة انجليزية ستنفذ مشروع مد خط حديدي من سواكن إلى كسلا لنقل هذه القوات المشتركة التي ستغزو أثيوبيا. وقد أدت هذه الشائعات إلى اعادة القيود على القنصل البريطاني والأسرة الآخرين. لذلك كانت بريطانيا تخشى من أية حركة معادية من جانب مصر تجاه أثيوبيا مما قد يهدد رعاياها بالخطر. وقد استجابت مصر لبريطانيا بل وتعاونت معها في تهدئة الأحوال على الحدود مع أثيوبيا فلم تنتهز فرصة أتيحت لها لضم تيجري إليها، فقد عرض جوباز حاكم لاستا المناوئ للامبراطور تيودور وشعب تيجري ضمها لمصر إلا أنها رفضت لسببين أولهما أنها كانت مشغولة بحرب كريت ولم يكن لديها الامكانيات الحربية لكي تناصر أحد المناوئين ضد الامبراطور وتتحمل ما قد ينتج من ذلك من نتائج، وثانيهما أنها كانت تأخذ في الاعتبار خوف بريطانيا على حياة الرعايا وأن أية حركة معادية من جانب مصر قد ينتج عنها القضاء على هؤلاء الأسرى (114).

وبالرغم من حرص مصر هذا، فقد كان الامبراطور تيودور يحاول التحرش بها فتحالف مع أحد زعماء دارفور (أحمد شنا)، على أ، يزحف على الخرطوم في الوقت الذي يزحف فيه أحمد شنا وحاكم جبل الداير على كردفان، ولكن هذه الخطة لم تنجح لأن تيودور انشغل بمقاومة الحملة الانجليزية التي قضت عليها. وكان من حرص مصر على هدوء الأوضاع بينها وبين أثيوبيا، أنها لم تتخذ أي اجراء حربي أو معادي لتيودور، بل كل ما فعلته أن كلفت حكمدار السودان بأن يتحصص أحوالهم ويقف على حقيقة أمرهم ويوافي الخديوي بتفاصيل هذا الموضوع (115).

كذلك قدمت مصر بقدر استطاعتها، تسهيلات لكل المحاولات السلمية التي قامت بها بريطانيا لانقاذ قنصلها والمبشرين البرتوستنات وكانت الحكومة البريطانية قد بدأت تدرس الوسائل الواجب اتخاذها لاطلاقهم . وكان أمامها أحد طريقين، أما الجوء إلى القوة أو اتباع الطرق الدبلوماسية، فآثرت أولا استخدام الوسائل الدبلوماسية (116). فاختار ستانتون القنصل العام البريطاني في مصر مستر وليام جيفورد بلجراف مبعوثا إلى تيودور لكي يتفاوض معه بشأن اطلاق سراح الأسرى وذلك بعد أن طال انتظار رسام في مصوع واتصل بالحكومة المصرية التي اتخذت في الحال اجراءات هامة تتعلق برحلة بلجراف السريعة إلى أثيوبيا في النيل فوضعت باخرة تحت طلبه. وصدرت الأوامر إلى السلطات في أعالي البلاد بتسهيل هذه الرحلة حتى حدود أثيوبيا. غير أن ظهور هرمورد رسام في السويس وضع حدا لرحلة بلجراف. اذ كلف رسام مرة أخرى بالذهاب إلى مصوع (117).

وكانت الحكومة البريطانية قد كلفت رسام بالتفاوض مع تيودور بشأن اطلاق سلاح أسراه. وعندما وصل رسام إلى مصر مع زملائه، بعث بعدة رسائل إلى الامبراطور يستأذنه في الدخول إلى بلاده. ولكن تيودور تجاهل هذه الرسائل مدة عام (يوليو 1864- اغسطس 1965) ثم سمح أخيرا له بالحضور إليه وحالت دون وصول رسام إلى الامبراطور الثورة في تيجري. وموسم الأمطار في طريق كسلا القلابات. ولذلك كتب رسام إلى تيودور يستأذنه في الانتظار حتى ينتهي موسم الأمطار (118). وفي أثناء ذلك جاء رسام إلى مصر لاجراء الاتصالات التلغرافية مع لندن بشأن مهمته، ولشراء الهدايا النفيسة للامبراطور، ثم عاد إلى مصوع ليبدأ رحلته إلى مقر الامبراطور تيودور (119). غير أن رسام فشل في مفاوضاته مع الامبراطور لاعتقاد الأخير أنه إذا أطلق سراحهم سيفقد الوسيلة التي يتصل عن طريقها مع الحكومة الانجليزية (120).

وعندما فشلت الوسائل الدبلوماسية في الافراج عن الأسرى، قررت بريطانيا استخدام القوة لتخليص رعاياها من أسر تيودور (121). فأصدرت أوامرها إلى حاكم عدن الكولونيل ميروزير ليتقصى أحوال أثيوبيا الداخلية ولدراسة الطرق التي تربط ساحل البحر الأحمر الافريقي بالهضبة الأثيوبية، وبالفعل قام في يناير سنة 1867 بجولة في ساحل البحر الأحمر الافريقي فمر بمصوع وطاف بساحل سمهر وخليج انسلي لتقصي أحوال أثيوبيا الداخلية ومعرفة الأماكن المناسبة لنزول قوات الحملة البريطانية التي تقرر ارسالها إلى أثيوبيا. ووقع اختيار ميروزير على طريق أمفيلا – عدوه (122).

ولقد أثار نشاط الانجليز هذا على ساحل البحر الأحمر الأفريقي، شكوك حاكم مصوع المصري، الذي ارسل إلى القاهرة يخبرها بهذا النشاط، فكلفت حكمدارها في السودان جعفر مظهر باشا بالقيام بجولة تفتشية على طول ساحل البحر الأحمر حتى باب المندب. وبالفعل قام الحكمدار بهذه الجولة التفتيشية حيث وزع الهدايا والاعلام على شيوخ القبائل ودعاهم إلى الاعتراف بسيادة الحكومة المصرية. وقد وجد ترحيبا كبيرا منهم. ودعا جعفر مظهر في تقريره حكومة مصر إلى ضم أثيوبيا إليها منتهزة فرصة الفوضى الناشبة في أنحائها، وعدم تضامن رؤسائها مع امبراطورهم، وأنهم لن يقاوموا أي تغيير في الحكم، كما أن السكان النازلين بالقرب من الحدود المصرية متضامنون مع مصر ولذلك فإن فرص نجاح مصر في ضم أثيوبيا كبيرة موفقة (123) . أي أن جعفر مظهر أراد أن تقوم مصر بالحرب بدلا من انجلترا وذلك خوفا على السيادة المصرية على هذه المناطق.

كذلك فقد أثار قرار اعلان انجلترا الحرب على الأثيوبيا اعتقاد بأن بريطانيا لن ترضى بمجرد انزال العقاب بالامبراطور تيودور ولكنها ستحاول اقتطاع منطقة من أثيوبيا على الأقل واحتلالها بل اشيع أن انجلترا تطمع في الاستيلاء على جزيرة مصوع واحتلال مصر نفسها بعد هزيمة أثيوبيا (124).

ولقد أثارت هذه الشائعات مخاوف حكومة مصر التي لم تجهر بها. وقد رأت الحكومة الانجليزية ضرورة تكذيب هذه الشائعات في تبديد مخاوف مصر ، فأمر قنصلها في القاهرة أن يؤكد للخديوي أن القوات الانجليزية سوف تغادر أثيوبيها بعد اطلاق سراح الأسرى وأنها لا تنوي غزو هذه المنطقة من البحر الأحمر. ومع ذلك فقد أعرب الخديوي لحكومة لندن رغبته في التوسط بينها وبين تيودوير. فوافقت بريطانيا على اقتراحه، وبالفعل بعث الخديوي برسالة إلى تيودور (125)، حثه فيها على إطلاق سراح الأسرى حتى يتجنب الحرب مع بريطانيا ويجنب بلاده ويلاتها. وعرض عليه في حالة موافقته على اطلاق سراح أسراه أن يرسلهم إلى مصوع أن إلى آخر حدود مملكته ويخبره ويخبر انجلترا حتى توقف تقدم جنودها في أثيوبيا. وحذره من تمسكه باحتجاز الأسرى سوف يدفعه – أي الخديوي اسماعيل – إلى أن يسمح للقوات البريطانية بالمرور في أملاكه إليه وان كان هذا لا يبغيه ولكنه سيضطره إزاء تمسكه إلى أن يفعل هذا ودعاه إن يسمع صوت العقل ويعمل بنصيحته (126).

وقد حمل أحد رجال الدين الأقباط هذه الرسالة، ورسالتين أخريتين من بطريرك الأقباط والأخرى من برطيرك الأرمن الأرثوذكس. وبالاضافة إلى هذه الرسائل أرسلت رسالة إلى عبد القادر باشا الذي عين مندوبا فوق العادة في مصوع بسبب ظروف الحملة الانجليزية ، جاء فيها بأنه في حالة الافراج عن الأسرى يرحب بهم ويسلمهم إلى القنصل الانجليزي، ويخبره في الحال، أما في حالة لم يفرج عنهم، فيعمل على توصيل القس القبطي حامل هذه الرسائل إلى الحدود (127)، على أن تيودور لم يهتم بهذه الرسائل واستمر في سجنه لهولاء الأسرى (128).

وبالرغم من تأكديات الحكومة البريطانية بقصر هدف الحملة على اطلاق سراح الأسرى، فإن الخديوي احتاط لذلك، فسعى عند الباب العالي لاحضار قواته المشتركة في اخماد ثورة كريت، وارسلها إلى الحدود الاثيوبية حتى تكون مستعدة لما قد تتطور إليه الأمور في هذه المنطقة (129). وبعد ما فعل اسماعيل هذا لم يجد أمامه شيئا سوى أن يقدم معاونته للحملة البريطانية التي قررت انجلترا إلرسالها وعينت سير روبرت نابيير قائدا علهيا (130).

وحصلت الحكومة البريطانية في اغسطس سنة 1867 على موافقة الباب العالي بمرور القوات البريطانية بمصر والنزول في ميناء زولا بالقرب من مصوع على شائط البحر الأحمر الأفريقي. كما وافق على منح كل مساعدة ممكنة للحملة الانجليزية كذلك حصلت بريطانيا على موافقة اسماعيل على مرور القوات الانجليزية بمصر، ورحب بتقديم كل مساعدة ممكنة لها فمدها بالدواب، والمواد التموينية مما ساعد على نجاح الحملة في مهمتها، كما صرح لها بأن تنشئ خطاتلغرافيا بين مصوع وسواكن، وأمر حكمدار السودان بتقديم كافة التسهيلات اللازمة لهم وعين حكمدار السودان مشرفا عاما على هذه المنطقة حتى يضمن سرعة حصول الحملة الانجليزية على ما تحتاجه لنجاح مهمتها (131). ولم يكتف اسماعيل بذلك بل عين عبد القادر باشا مندوبا فوق العادة وحدد مقر اقامته في مصوع واخضع له كل السلطان العسكرية في هذه المنطقة وذلك لتسهيل مهمة الحملة الانجليزية في اطلاق سراح الأسرى (132).

وبالرغم من هذه المساعدات التي قدمتها مصر للحملة الانجليزية، فإن اسماعيل باشا لم يستفد منها شئيا، كما أن انتحار تيودور لم يفد مصر أيضا اذ أن الحملة الانجليزية اختارت قبل رحيلها من أثيوبيا رجلا متعصبا آخر يتلاءم في الواقع مع السياسة الانجليزية في المنطقة ولا يقل تعصبا عن تيودور ، اذ كان هو الآخر يرغب في طرد المصريين من كل السودان ومن ساحل البحر الأحمر الأفريقي، فتركت له كمية ضخمة من السلاح والذخيرة. وأحد العسكريين الكبار في الحملة وهو الجنرال كيركهام Kirkham في خدمته لتدريب جيشه، وكان الدافع إلى ذلك هو الخوف من التقدم المصري واحتمال الاعتداء على أثيوبيا اذ كانت في ذلك الوقت حملة صمويل بيكر إلى أعالي النيل وخوف الأثيوبيين منها. وما قد تمثله من تهديد (137) لبلادهم. كما أن مصر لم تستفد من منشئات الحملة ومهماتها وأدواتها التي تركتها ف يميناء زولا، لأنه ثبت عدم صلاحية المدينة كمركز لمحافظة مصوع (138).

ومع ذلك فقد أوجدت هذه الحملة لمصر ظروفا استطاعت أن تؤكد أمام بريطانيا حقوق سيادتها على ساحل البحر الأحمر الأفريقي حتى باب المندب (139). بالاضافة إلى اتباع سياسة أكثر تحديدا واحكاما من السياسة التي كانت تتبعها من قبل في ساحل البحر الأحمر الغربي وفي السودان الشرقي ، فقد اتجهت مصر إلى التوسع بضم أقاليم أخرى إلى سيادتها (140) – وساعد على ذلك أن بريطانيا لم تعد تهتم كثيرا بأثيوبيا بعد أن أصيبت بخيبة أمل كبيرة في صنيعتها تيودور، كما أنها أرادت أن تحد من تدخلها في الشئون الاثيوبية (141). واكتفت بتدعيم كاسا الذي أختير كخليفة لتيودور. وتركت له خبيرا عسكريا مما جعله من أقوى الزعماء في البلاد (142). والدليل على ذلك أنها لم تحاول أن تمنع اسماعيل من شن الحرب على أثيوبيا كما كانت تفعل من قبل ولم يفهم اسماعيل هذه السياسة الجديدة وسرعان ما تورط في حروب مع أثيوبيا. انتهت بهزيمته وقضت على عهده في مصر واستقلالها بعد ذلك.

علاقة مصر برؤوس أثيوبيا المتنافسين على عرش تيودور:

نتج عن انتخار الامبارطور تيودور، أن حلت باثيوبيا الفوضى وصراع الرؤوس للوصول إلى العرش. وكان المتنافسين ثلاثة هم كاسا في تيجري، وواجشوم في جوباز في أمهرا، ومنليك في شوا (143). وكان اسماعيل يتابع هذا الصراع ولكنه لم يتدخل فيه. والدليل على ذلك أنه استقبل وزيرا أرسله كاسا يصحبة القساوسة والرهبان، وتقبل هداياهم (144). ووافق على ارسال مطران إلى كاسا ليقوم بتتويجه (145). كما أرسل حكمدار السودان بطلب آخر أنباء الصراع مع أنه لم يكن يعرف أحدا منهم فكان يميز كاسا "الذي أرسل إليه مطرانا من مصر كما أنه لم يعلم بما قام به نابيير قائد الحملة الانجليزية من ترك أسلحة كثيرة وخبير حرب" فلو كان يعلم لما سأل هل هو غالب أم مغلوب (146).

والواقع أن اسماعيل لم يكن له سياسة معينة ازاء رؤوس أثيوبيا المتنافسين فهو يستقبل مبعوثي كاسا، ومبعوثي منافسه جوباز (147) ويرفض مساعدة كاسا عندما طلب منه ذلك عن طريق النايب محمد عبد الرحيم أمير مصوع وناظر سمهر (148). ويكتفي بتهنئة تكلا جورجيس عندما أرسل إليه يخبره بأنه أصبح ملكا على أثيوبيا (149)، ويوافق في نفس الوقت تقريبا على سفر وفد مرسل قبل كاسا إلى ملكة انجلترا ويكرمهم عند نزولهم في مصر ويقبل هداياهم المقدمة من كاسا إليه (150).

والسؤال الذي يطرح نفسه ، لماذا لم يؤدي اسماعيل أحد من هؤلاء المتنافسين لكي يستغله فيما بعد لتحقيق أطماعه، تماما كما فعلت بريطانيا مع كاسا؟ والسبب في ذلك أنه لم يكن يعلم شيئا عن اثيوبيا سوى أن هناك رأسين من رؤوسها يتنازعان على العرش بعد موت تيودور، لأنه لو كان يعلم لأيد تكلا جورجيس ضد كاسا الذي دعمه نابيير بالأسلحة والعتاد الحربي. ولكانت النتيجة المنتظرة لذلك على أسوأ الفروض هي ازدياد الاضطرابات والصراع بينهما مما يضعهما معا، ولازداد بالتالي فترة الصراع بينهما مما يسهل لاسماعيل باشا الاستيلاء على البلاد أو على الأقل الأجزاء الشمالية من أثيوبيها المتاخمة لأملاكه في شرق السودان. أما إذا أراد أن يتخلى عن سياسة التوسع، ويحافظ على العلاقات الطيبة مع أثيوبيا فعليه أن يؤيد كاسا، وبذلك يكسبه إلى جانبه ويحافظ على سلامة وأمن حدوده. ولما حدث بعد ذلك حروب بينهما، على أن اسماعيل لم يكن لديه هذه الخلفية عن أثيوبيا في ذلك الوقت (151)، أو عن هذه السياسة، واختار ان يبقى على الحياد بينهما على أمل أن يزيد من ضعف أثيوبيا مما يساعد على تحقيق توسعاته وأطماعه. وفي هذا أثبت اسماعيل قصر نظره إذ سرعان ما استطاع كاسا أن يهزم تكلا جورجيس بفضل الدعم العسكري الانجليزي وينتبه إلى الخطر المصري الجاثم على حدوده، بل استغله كما سنرى في تدعيم حكمه وسيادته على كل أثيوبيا (152).

وعلى آية حال لم تدم طويلا هذه العلاقات الطيبة الظاهرة بين مصر وأثيوبيا لأن اسماعيل كان يرغب في تدعيم سيادته على السودان الشرقي. ويتطلب ذلك ضم منطقة بوجوس الواقعة بين اقليم التاكة ومصوع إلى مصر (153). وقد تصادفت هذه الرغبة مع تطور الأحوال في المنطقة، ذلك أن بوجوس هذه أصبحت موطن الارسالية الكاثوليكية. وكان كاسا قد اتبع عدائية تجاهها، بسبب مساعدتها لجوباز منافسه، وحاول منزنجر قنصل فرنسا في مصوع أن يثني كاسا عن ذلك إلا أنه فشل ومن ثم فقد شجع الزعماء المناوئين لكاسا في طلب الحماية الفرنسية وذلك لخلق توزان مع موقف كاسا. وكان من بين هؤلاء ولدميكا بيل حاكم هماسين. الذي اتصل بنابليون الثالث امبراطور فرنسا وعين هنزنجر حاكما على كيرين وذلك لحماية المبشرين الكاثوليك ولما علم كاسا باتصالات ولدميكا بيل السرية وتصرفاته هذه عزله وسجنه في عدوة بضع سنوات (154).

وتصاعدت الأزمة بين الكاثوليك وكاسا عندما ثبت تواطؤهم في اثارة الثورة بين الزعماء الأثيوبيين واكتشاف رسالة من الأسقف توفيير في ممتلكات جوباز بعد هزيمته تذكر أنه اذا وافق على اعطاء المبشرين حرية العمل في اثيوبيا. فانهم سيمدونه بالمدافع والبنادق وكل ما يحتاجه من السلاح والذخيرة. وقد أدى ذلك إلى أن يرسل كاسا قواته إلى قرى بوجوس حيث حرقوا الكنائس والمنازل وبيوت المبشرين ونهبت القرى، فهرب المبشرين الكاثوليك . وكان لتصاعد هذا العداء بين كاسا والمبشرين ، أن تقابل قنصل فرنسا في مصر مع الخديوي اسماعيل وطلب منه الوساطة في هذا الموضوع. وقد وعده الخديوي بذلك، وبأنه سوف يقنع البطريرك بأن يرسل تعليماته إلى مطرانه في أثيوبيا فيما يتعلق بهذه المسألة وارسال قس مصري إلى كاسا لاقناعه بالكشف عن كل أعمال الاضطهاد وترك المبشرين الفرنسيين يواصلون أعمالهم. وقد وجد القنصل الفرنسي أن اسماعيل كان ميالا بشدة نحو البعثة الفرنسية (155). وكتب منزنجر إلى مصر بأن الكاثوليك يتطلعون إلى أن يصبحوا رعايا مصريين ويريدون الحماية والمساعدة المصرية (156).

ولقد أرسل الخديوي إلى كاسا برسالة مع أحد رجال الدين الأقباط، حثه فيها على التسامح الديني المذهبي وأوضح له أن هناك دولا قوية كاثوليكية قد تكرر مأساة تيودور مرة أخرى اذا ما استمر في سياسته العدائية هذه، وحذره من ان استمرار هذه السياسة قد يدفعهم إلى المجئ إلى الحدود المصرية ، وعندما سيمد يد المساعدة لهم ويعطيهم أراضي يسكنون فيها مواساة لهم رغم مخالفتهم لديانته والتي تعتبر فرضا على كاسا لا عليه (157).

ويتضح من هذه الرسالة أن اسماعيل لم يعرف الدور العدائي الذي قام به هؤلاء المبشرون ضد كاسا، انما انساق وراء ميوله الفرنسية وأطماعه. وربما أرسل اسماعيل هذه الرسالة بهذه اللهجة ، بداية لتدخله في هذا الاقليم تمهيدا لضمه وهو ما حدث فعلا.

وقد تسلم كاسا هذه الرسالة بعد احتفالات تتويجه امبراطورا على اثيوبيا في يناير سنة 1872 باسم يوحنا الرابع، واعتقد أنها مجرد أوامر صادة من حاكم إلى أحد أتباعه، وأنها رسالة تهديد اذ كان يطلب فيها اعادة بناء الكنائس وعودة وجودة الكاثوليك ورد أملاكهم ومعاملة المبشرين معاملة حسنة، ولذلك رفض يوحنا الرابع رسالة الخديوي، وبالتالي تأزم الموقف بين البلدين (158).


بوجوس وتصاعد العداء بين البلدين:

بدأت ظهر بوجوس كعامل مؤثر في العلاقات بين البلدين، ومنذ أن تدخل اسماعيل إلى جانب الإرسالية الكاثوليكية ضد يوحنا الرابع، كما كانت لغارات ولد مراج الاثيوبي على بوجوس أثر كبير في تدهور العلاقات بين مصر وأثيوبيا، إذ طلب مشايخ هذه المنطقة الحماية المصرية (159). ووافق اسماعيل على طبلهم هذا وأمر منزنجر بتنفيذه (160). وكان الأخير قد استقال من وظيفته كقنصل لفرنسا في مصوع. والتحق بخدمة مصر في أبريل سنة 1871 وعينه الخديوي محافظا لمصوع (161). وفي أواهر يونيو سنة 1872 غادر منزنجر مصوع على رأس قوة مصرية متوجها إلى بلاد بوجوس وضمها إلى مصر (162)، كما ضم ايليت أيضا الواقعة بين هماسين ومصوع (163).

حدث هذا في الوقت الذي كان يوحنا مشغولا بالقضاء على ثورة الجالا في الجنوب غير أنه عاد بسرعة إلى عاصمته عدوة وأرسل قوة حربية أثيوبية غلى حدود أثيوبيا الشمالية لحمايتها والواقع أن يوحنا لم يكن في حالة تسمح باعلان الحرب وذلك بسبب ثورة الجالا وخروج بعض الرؤوس عن طاعته بل والتجائهم إلى مثل هايلو ولد جورجيس وولد ميكائيل (164). لذلك لم يكن هناك من سبيل أمام يوحنا سوى أن يرسل مبعوثا من طرفه إلى الخديوي اسماعيل يدعي محمد ناصب الجبرتي في 31 يوليو سنة 1872 حاملا رسالة منه (165)، يوضح له فيها أن بوجوس هي أرض أثيوبية منذ زمن بعيد تعين حكامها، وهاجم الذين يحاولون الايقاع بين مصر وأثيوبيا. وأشار إلى أن الامبارطورية الأثيوبية كانت تضم المنطقة الساحلية وشكا من أعمال منزنجر التي قد تؤدي إلى افساد العلاقات بين البلدين، وطلب منه أن يسحب القوات المصرية من بوجوس كمقدمة لتحسين العلاقات (166)، لكن اسماعيل احتجز هذا المبعوث الأثيوبي لمدة تقرب من عام، اذ ظل في مصر حتى اغسطس سنة 1873 (167).

وفي نفس الوقت ارسل الامبارطور يوحنا الرابع مستشاره العسكري كيركهام إلى بعض الدول الاوروبية (النمسا – روسيا – ألمانيا – فرنسا – بريطانيا) في نهاية شهر اغسطس سنة 1873 بهدف أن تقنع هذه الدول اسماعيل بالانسحاب من بوجوس ومساعدة أثيوبيا في الحصول على ميناء أمفيلا وسهول الملح، وكلاهما مؤثر في الأحوال الاقتصادية الأثيوبية (1698). غير أن الدول الاوروبية لم تهتم بهذا الموضوع. بل وقفت إلى جانب صمر. أما بريطانيا فكانت أقل اهتماما (169)، اذ كان رد ملكتها على وزير خارجية حكومتها على الامبراطور فيما يتعلق باعتداءات المصريين على بلاده، أن حكومة اسماعيل قد أخبرت بريطانيا أنه ليس في نيته ضم أي جزء من أراضي اثيوبيا في المستقبل، ولذلك فالملكة ووزير خارجيتها يعتقدان أن مخاوف يوحنا غير ذات موضوع (170). وكانت انجلترا منذ أن حدثت الاعتداءات في بوجوس، قد أرسلت مستر ستانتون لكي يستطلع الأمور والتطورات التي حدثت بهذه المنطقة، وقد أخبره الخديوي بأنها ليست صراعا على الحدود لأن يوحنا غزا منطقة كانت تنتمي إلى اقليم التاكة منذ أن غزا محمد علي السودان، ولا أساس لما يطالب به يوحنا بممتلكات على الساحل لأنه خاضع كله – من السويس إلى بربرة – للسيطرة المصرية. وأن انجلترا نفسها استأذنت الباب العالي عندما أرسلت حملتها في عهد تيودور لكي يسمح لها بالمرور عبر أراضيها إلى أثيوبيا. وأوضح له أنه اذا كان يوحنا لا يعترف بسلطة البابالعالي فان الخديوي قد يضطر إلى الحرب مع أثيوبيا لينتقم من الاعتداءات التي تقع على أقاليمه واذا لم يتراجع خلال ثلاثة اشهر عن كل الأراضي والممتلكات التي استولى عليها، ودفع تعويضات إلى من تضرروا ، فإنه سوف يحتل بوجوس. وعندما علم جرانفيل بهذا القرار الخطير، أمر ستانتون بأن يخبر الخديوي أن هذا العمل المقترح ضد أثيوبيا سوف يعتبر أمرا مرضي عنه من جانب بريطانيا، وحث الخديوي على تلمس حل وسط لصراع الحدود هذا كذلك أمر جرانفيل سفيره في القسطنطينة بالتوصية بأن يحاول حث الباب العالي على اصدار الأوامر بوقف مشروع الخديوي اسماعيل الحربي هذا، حتى يبحث عن حل منصف لهذه المشكلة (171).

على أن اسماعيل أرسل مذكرة إلى الباب العالي شرح فيها أسباب فتحه لمنطقة بوجوس وذلك ليقدم الحماية الواجبة لأتباع السلطان في هذه المنطقة وأوضح أنه ليس للحكومة المصرية الحق في أن تضع شرعية خضوع هذه المنطقة للدولة العثمانية في وضع يسمح بقبول حل وسط من أية قوة أجنبية أخرىة. وهكذا أستطاع اسماعيل أن يقرن المصالح المصرية بالمصالح العثمانية وفي أنه يحافظ على أملاكها. وأوضح أن قواته لن تتخطى الحدود الأثيوبية وأن مصر ليست لها أطماع توسعية فيها وأنه يبغي تنشيط التجارة والزراعة بين البلدين (172).

كما قابل الخديوي أخيرا المندوب الاثيوبية وذلك بعد أن توسط القنصل الانجليزي في اتمام هذه المقابلة. وذكر الخديوي للمندوب الاثيوبي أنه اذا أراد يوحنا اعادة العلاقات الطيبة بين البلدين فان اسماعيل مستعد لذلك ولعقد اتفاق تجاري يعتلق بالضرائب الجمركية. وقد سرت بريطانيا من هذا التقدم الواضح نحو علاقات ودية بين مصر واثيوبيا. وكتب جرانفيل إلى يوحنا بأنه قد يتسلم مفاتحة من الخديوي لبدء علاقات طيبة معه. أما فيما يتعلق بمسألة رغبة الأثيوبيين في ميناء على البحر الأحمر فقد ذكر جرانفيل أنه من المستحيل على الحكومة البريطانية أن تتدخل في هذا الأمر (173).

وهكذا استطاع اسماعيل أن يهدئ من الموقف العالمي ضده وأن يقنع بريطانيا بأنه لا ينوي الاعتداء على أثيوبيا. كما وضع عدم اهتمام بريطانيا بتطور الأحداث بين مصر واثيوبيا (174). وربما كان سبب هذه اللامبالاة من جانبها معرفتها تماما بأن النتيجة هي وقوع الحرب بين الدولتين وتورط اسماعيل في مشاكل مالية.

وبعد أن تم احتلال بوجوس، أراد اسماعيل أن يؤكد ضمها بتحديد الحدود بين مصر واثيوبيا وذلك بالطرق السلمية، فاستدعى منزنجر من مصوع لأخذ رايه في هذا الموضوع ، واتفق على اجراء مفاوضات في هذا الشأن مع الامبارطور يوحنا إلا أن هذه المفاوضات لم تسفر عن شئ بسبب اشنغال يوحنا بمقابلة الرؤوس الخارجة على حكمة. وكذلك لأ، كيركهام أرسل إليه من اوروبا يقول له بأن بعض الدول الاوروبية ستؤيده. كما شاع في مصوع أنه سيجد معاونة من بعض الجهات وساعد علىتعديم هذه الشائعة زيارة وكيل قنصل فرنسا في مصوع له وايهامه إياه بأن فرنسا تؤيده بالرغم من موقفه تجاه المبشرين الكاثوليك (175).

لذلك فقد صرف يوحنا النظر عن التفاوض مع منزنجر. ودفع بمجموعة كبيرة من الخيالة والمشاه المسلحة إلى الهجوم على ايماسا السودانية الواقعة على بعد يوم من كوفيت المركز العسكري، فقتلوا عددا من الأهالي ومن ضباط هذه المنطقة وأسروا عددا من النساء والأطفال وسرقوا الماشية. وتكررت الغارات الاثيوبية على القرى السودانية، مما أدى إلى وقوع اصطادمات بين القوات المسلحة المصرية والقوات الاثيوبية، وبالتالي إلى ازدياد التوتر بين مصر واثيوبيا (176).


وازاء ذلك عين اسماعيل منزنجر، في فبراير سنة 1873، مديرا لعموم شرقي السودان ومحافظا لسواحل البحر الأحمر من سواكن إلى رهيطة، بما في ذلك اقليمي بوجوس والتاكة (177)، كما ارسل في ابريل سنة 1873 امدادات حربية وعسكرية غلى مصوع لتعديم القوة المصرية العسكرية في هذه المنطقة (178). وكان الهدف من ذلك توحيد هذه المناطق تحت قوة وسلطة واحدة، لكي تستطيع مواجهة الغارات الاثيوبية والرد عليها. وأوضح أن اسماعيل آلى على نفسه تأديب يوحنا على ما يرتكبه من أعمال عدائية ضد مصر، وهكذا أصبح الصلح والسلام بعيدا عن البلدين. والواقع أن منزنجر لم يكن يعمل على استقرار الأمر بين البلدين، وذلك بسبب عدائه الشخصي ليوحنا واستغلاله طبيعة اسماعيل الطموحة التوسعية. فزين له احتلال هماسين زيادة على بوجوس، مما زاد من توتر العلاقات بين البلدين وتصعيدها (179).

كان هذا موقف مصر ازاء أثيوبيا، أما موقف الأخيرة فقد بلوره يوحنا الرابع برفضه الاستجابة للرغبة في السلام الذي عرضها عليه اسماعيل في رسالته بشرط رد الماشية والأسرى. فبعد ثمانية أشهر من رسالة اسماعيل، بعث يوحنا إلى الخديوي برسالة برفض فيها مطالبه وتمسك بالمناطق التي استولى عليها اسماعيل (بوجوس-ايليت)، وذكر أنها أقاليم اثيوبية ، كما أدعى بملكية اثيوبيا لمواني ساحل البحر الأفريقي. وقد عدد اسماعيل باحتلال هماسين حتى يتمكن من اطلاق سراح الأسرى والتعويض اللازم للأهالي نتيجة للخسائر التي تكبدوها من جراء الغارات الاثيوبية. وبذلك وضح أن تحقيق السلام بينهما أصبح مستحيلا (180). فبالاضافة إلى توتر العلاقات كان احتلال مصر لبوجوس قد وضع في يدها معبرا سهلا لشمال اثيوبيا. اذ كانت كيرين قاعدة صالحة للهجوم علىاقليم هماسين الخصب، وجهات اثيوبيا الشمالية (181). كما أن سكان اقليم هماسين ارسلوا إلى منزنجر أثناء فتح بوجوس يبدون له رغبتهم في الدخول إلى الحكم المصري (182) وبالطبع كا موقف يوحنا ازاء هذا هو موقف الغاضب، وقرر أن يحارب المصريين حتى النهاية. وذلك بالرغم من فشل رحلة كيركهام إلى اوروبا ورفضها مساندته بطريقة عملية فعالة، ورسالةملكة بريطانيا التي ظهر منها أنها بجانب اسماعيل ضمنا (183).

والواقع أننا لو نظرنا إلى كل من الطرفين نجد أن كليهما مسئول عن تدهور الأمور بينهما. وذلك لأن اسماعيل، بالرغم من أن هناك من يقول أنه كان يريد السلام مع أثيوبيا (184)، كان بتوسعه في شمال اثيوبيا وغربها لا يوحي بذلك، بل اتخذ ذلك وسيلة لتحقيق طموحه وأحلامه، كما أن يوحنا لم يسع من أجل السلام بين البلدين كما حاول البعض ان يصوره (185)، لأن خلفيته الدينية التعصبية التي تعد استمرار لسياسة تيودور السابقة، ومحاولة كل منهما القضاء على المصريين والأتراك، كل ذلك جعل السلام بين البلدين مستحيلا ، ولذلك فالسنوات التالية قد شهدت قمة تدهور العلاقات السياسية بين البلدين وأدت في النهاية إلى حرب بينهما.

العوامل والظروف التي أدت إلى وقوع الحرب بين مصر واثيوبيا:

ولما كان يوحنا لا يستطيع أن يشن حربا كبيرة ضد مصر في ذلك الوقت بسبب الاضطرابات والثورات التي قامت ضده، اذ أن حكمه لم يكن قد استقر بعد، هذا بالاضافة إلى تخلي الدول الاوروبية عنه، لذلك فقد اثار عن طريق كيركهام مسألة عدم وجود ميناء لاثيوبيا، ومدى احتياجها إليه. وأوضح لبريطانيا أن المصريين بتحكمهم في الساحل الافريقي للبحر الأحمر ، يتحكمون في تجارة اثيوبيا عن طريق مضاعفة الرسوم عن البضائع مما يضاعف أثمانها في الأسواق الاثيوبية، كما أنهم يمنهون اتصال أثيوبيا بالخارج وهذا يحرمها من تحقيق التقدم والازدهار (186).

وقد أدى ذلك إلى توسط القنصل البريطاني في مصر لدى الحكومة المصرية. واقترح الغاء الضرائب الجمركية بين مصر واثيوبيا مما يسمح للأخيرة بالتجارة الحرة مع العالم الخارجي، وقد وعده نوبار بعرض اقتراحه هذا على الخديوي. وانتهت الأمور بأن عرض الخديوي على مبعوث يوحنا الذي لم يكن قد غادر مصر بعد، أنه على استعداد لعقد اتفاق تجاري مع اثيوبيا ينظم الضرائب الجمركية (187).

غير أن هذا لم يرضي يوحنا الذي كان يهدف من وراء حصوله على ميناء على البحر الأحمر إلى تسهيل استيراده للأسلحة والذخيرة التي تساعده ضد الثائرين عليه. ولقد اعتقد يوحنا أن توريط بريطانيا عن طريق غير مباشر، قد يساعده في الحصول على هذا الميناء. لذلك فقد كانت الحركة المضادة منه ازاء توسع المصريين ، أن أنشأ ولاية جديدة ملاصقة للحدود المصرية، بل ضم غليها بعض الأجزاء الخاضعة لمصر. وعين عليها كيركهام، وسميت بولاية جندا، وكانت تشمل على مقاعد جيندا. (188). ومنطقةواسعة تشمل الحافة الشمالية الشرقية من الهضبة الاثيوبية، وتضم الساحل الممتد من شمال خليج انسلي في الشمال إلى خليج امفيلا وسوهو في الجنوب. وتضم ميناء زولا المصري والقبائل النازلة حوله (189).

وقد منح يوحنا هذه الولاية الحكم الذاتي. فرفع كيركهام العلم البريطاني عليها في ديسمبر 1874 وادعى انها منطقة محايدة لا تدخل في الصراع الدائر بين مصر واثيوبيا. وبالتالي فان ما يطالب به يوحنا من ميناء فهو لهذه المنطقة المحايدة واعتقد يوحنا أنه بتعيين كيركهام عليها، أن بريطانيا ستسارع بفرض حمايتها عليها وعلى أتباعها، وتسعى لتحقيق ميناء خارجي لها. فيستفيد هو من ذلك غير أن بريطانيا رفضت طلب كيركهام بوضع هذه الولاية تحت حمايتها. غير أن قنصل فرنسا في مصوع سارزك وعد الجنرال الانجليزي بالحصول على الحماية الفرنسية له شخصيا (190).

وقد بدأ كيركهام يطالب أهالي زولا وجيندا وأمفيلا وملاحة اسالة بدفع الضرائب له بموجب فرمان أظهره لهم صادر من سوحنا اليه يخوله بحكم هذه المنطقة وتحصيل الضرائب منها. وكانت مصر تحصل الضرائب من هذه المناطق المطلة على الساحل والغريبة منه منذ أن حصلت على مصوع من الباب العالي وكذلك ملاحة اسالة وهي من ضمن اراضي الدناكل التابعة لحكوةم مصوع. وكان الاثيوبيون من قبل ذلك لا يحصلون على اية ضرائب من هذه الأماكن (191). وقد أدركت مصر محاولات يوحنا هذه للحصول على مياء على البحر الأحمر، وبالتالي يسهل له الحصول على الاسلحة اللازمة له فيشدد غاراته على الحدود المصرية. لذلك احكمت مصر رقابتها على سواحل البحر الأحمر لمنع دخول الاسلحة بجميع أنواعها إلى اثيوبيا حتى ولو كانت للصيد. وامتدت هذه الرقابة حتى جمرك السويس والاسكندرية (192). ولم يكتف اسماعيل بمنع السلاح بل حاول منع اتصال يوحنا بالدول الاجنبية على آية صورة كانت ، وذلك خوفا من تدخل هذه الدول فيما يحدث من صراع الحدود بين الدولتين، وكان يوحنا ينتهز فرصة وجود الرحالة الأجانب في بلاده فيبلغهم بمتاعبه مع مصر (193).

كذلك شجع اسماعيل على التمرد ضد يوحنا، بجلب المتمردين إليه فوافق على تعيين منزنجر لاثنين من كبار أعداء يوحنا معه (194)، كما تبع هذه السياسة مع باقي الرؤوس الثائرين على يوحنا في غرب ووسط وجنوب اثيوبيا. فكانت ترسل اليهم الهدايا (195). وقد اثار هذا الاجراء جانب اسماعيل، غضب يوحنا على أنه نجح في اخضاعهم وضمهم إلهي بجنودهم واسلحتهم حتى تجمع له جيوش ضخمة أثارت مخاوف المصريين، مما جعل مدير عموم قبلي السودان يطلب من مصر امدادات عسكرية، واعلنت حالة الطوارئ على الحدود ازاء تحركات يوحنا بجنوده الضخمة هذه، غير أن يوحنا لم يهجم على الحدود المصرية في ذلك الوقت (196).

ومع أن يوحنا استطاع أن يخضع كل الرؤوس الخارجة عنه تقريبا، الا ان منليك استطاع بدهائه أن يفلت من الخضوع ليوحنا، بالرساله احد رجال الدين في شموا ومعه مبلغ كبير من المال مؤكدا ولاءه له (197). وكان منليك في ذلك الوقت يبحث عن قوة تساعده ضد يوحنا ، كما أن مصر كانت تسير على سياستها في جذب المناوئين لحكم الامبراطور، لذلك فقد تقابل الرفان معا، وكانت البداية عندما استولت مصر على بوجوس، فقد ذهب أحد كبار الاثيوبيين إلى منليك ونصحه بالتعاون مع المصريين لمصلحته، فاتجه منليك إلى أبناء الشيخ أبو بكر باشا حاكم زيلع وأوفده إلى مصر لاقتراح نوع من التحالف مع الخديوي ضد يوحنا الذي رحب بتقوية علاقات مصر مع شوا حتى لا ينضم ملك شوا مع يوحنا ضد مصر (198). وحاول منليك أن يحصل من مصر على بعض الحرفيين والفنيين لتمدين بلاده. غير أن ذلك لم يتم بالرغم من استمرار الاتصالات بين مصر وشوا، كما أن اسماعيل لم يستثن منليك من حظر السلاح الذي فرضه على اثيوبيا في ذلك الوقت (199).


والواقع أننا لو قيمنا سياسة الخديوي اسماعيل بشأن تحريض رؤوس اثيوبيا ضد امبراطورهم نجد أنه اكتفى بالتأييد المعنوي فقط أي بتشجيعهم على الخروج عن طريق الرسائل والهدايا وليس عن طريق مدهم بالسلاح الخبرة الحربية، بل طبق عليهم ما طبق على يوحنا فيما يتعلق بحظر السلاح عليهم وربما فعل اسماعيل ذلك خوفا من أن يدعي أحد الرؤوس تمرده، وبالتالي يحصل على السلاح فيستفيد به يوحنا. غير أن ذلك يوضح بجلاء أن اسماعيل لم يستطيع أن يصل بخطته هذه إلى صورتها المنشودة، واستخدامها الاستخدام الأمثل ضد يوحنا. وربما كان السبب في ذلك أنه لم يعول علهيا كثيرا وبالتالي لم يفكر فيها، أو لانشغاله في مد سلطته ونفوذه على سائر مواني البحر الأحمر والقرن الأفريقي، زيلع وبربرة وهرر (200)، وربما للعنجهية التركية وثقته الزائدة في جيشه وفي نفسه واعتقاده أن اثيوبيا دولة همجية من السهل غزوها ولا داعي للدراسة والبحث والتخطيط.

وقد أدت سياسة التوسع التي اتبعها اسماعيل في شرقي افريقيا، إلى زيادة التوتر بين مصر وأثيوبيا، فقد شعر يوحنا بأن المصريين قد حاصروا بلاده من جميع الجهات، فبدأ يستعد للحرب مع المصريين (201)، فأخذ يحث جيوشه، ويحصن عاصمته عدوة. وكان يوضح لكل من يتوجه إليه أنه قصد ضرب القوات المصرية الموجودة على الحدود، وقد تأكد منزنجر بنفسه من استعداد يوحنا الحربي وأرسل إلى القاهرة يخبرها بمدى خوف الأهالي في هذه المناطق من استعدادات يوحنا الحربية (202).

ولذلك فقد بدأت مصر ترسل الامدادات العسكرية، كما طلبت من حاكمها في شرقي السودان حماية الأهالي وصيانة شرف الحكومة (203). وبالرغم من حالة التأخب هذه ، فإن يوحنا لم يهاجم الحدود المصرية ولم يعلن الحرب على المصريين وربما يعود ذلك للحالة المضطربة التي كانت تعم بلاده وخاف أن يبدأ هو بالهجوم على مصر، فينتج عن ذلك ازدياد التوترات ضده مما يهدد حكمه. لذلك آثر أن يدفع المصريين أن يبدأوا بالهجوم حتى يستغله في اثارة النصرة الدينية والقومية عند المسيحيين الأثيوبيين ضد اعتداء المصريين على بلادهم. وهذا ما حدث بالفعل بعد ذلك (204).

بالاضافة إلى ذلك، فربما كان يوحنا يعلم بما كانت تعانيه مصر من أزمة مالية حادة، وبالتالي فان حشد هذه القوات وما يتطلبه من مصروفات باهظة يؤدي إلى استنزاف مقدرتها، فلا تستطيع أن تفكر في محاربته مادام هو لا يهاجم الحدود وبالتالي تستمر عملية الاستنزاف هذه (205). كذلك ربما كان يوحنا يدرك أن استمرار حشد هذه القوات الضخمة بدون قتال ينال من روح الجنود المعنوية ويفقدهم بذلك القدرة القتالية، وبذلك يمكنه هزيمتهم بسهولة. ومما يؤكد ذلك أن أحد قواد يوحنا وهو الراس قبرو حاكم هماسين أرسل إلى منزنجر يطلب الصلح، ولكن الأخير رفض ذلك لأنه ليس صادرا من يوحنا إلى الخديوي (206). كما أن اسماعيل وافق على اقتراح منزنجر بارسال رسالة إلى يوحنا تكون من طرفه، لا من طرف الخديوي، الذي أشار عليه بأن تتضمن رسالته هذه عن خدف يوحنا من تحركات جيوشه وحشدها وما بيغيه منها. ويدعوه إلى الرجوع بما معه من جنود إلى داخل حدوده. وانه اذا رفض فان مصر ستدافع عن حدودها بالرغم من أنها لا تريد الهجوم على اثيوبيا وانما ضد المغيرين الاثيوبيين على حدودها (207).

على أن هذه الرسالة بالرغم من أن منزنجر أرسلها، إلا أنها لم تصل إلى يوحنا نتيجة خطأ من أراكيل بك حاكم مصوع، الذي سلمه رسالة تخص منليك وتتعلق برد الحكومة المرية على ما يطلبه من الفنيين والحرفيين لتمدين مملكة شوا (208)، كذلك أشار على منزنجر أن يعمل على تحريض منليك على يوحنا حتى تقوم الحرب بينهما (209)، وذلك بهدف استنزاف قوة يوحنا العسكرية. على أن الحكومة المصرية استمرت في ارسال قواتها إلى مناطق الحدود وبالذات في بوجوس لأنها كانت السبب في تدهور العلاقات مع اثيوبيا. وبالتالي فهي هدف يوحنا الأول (210).

واستمر يوحنا في حشد قواته وتدريبها على الأسلحة التي تركها له نابيير وذلك بهدف تدعييم الاعتقاد لدى مصر بأنه سوف يشن الحرب ضدها، وبذلك تستمر حالة الطوارئ في القوات المصرية وما يتبعها من زيادة المصروفات، كما استولى على مداخل الطرق المؤدية الى داخل بلاده القريبة من الحدود المصرية وحشد فيها قواته وذلك لاجبار مصر على اعلان الحرب أو على الاقل استمرارها في اعلان الطوارئ بين قواتها وبالتالي يكون ضررها عظيما على الحكومة المصرية (211). كما بدأت يمهد الطرق ويصلحها وبالذات الطرق التي تربط عاصمته بكل من هماسين والمناطق المجاورة لحدود مصوع وجندر في الجنوب وذلك لمساعتده على الانسحاب في حالة الهزيمة أو لضرب مناوئيه بسرعة بعد انتهائه من الانتصار على المصريين (212). هذا بالاضافة إلى أنه قام بشن غارات محدودة على الأهالي حتى يبث الفزع فيهم ويؤكد لهم أن حكومة مصر لا تملك القدرة على حمايتهم، وقد نتج عن ذلك ازدياد شكوى السكان من رعايا الحكومة المصرية القريبين من أراضي أثيوبيا (213).


مصر تقرر الحرب:

ازاء هذا رأى محافظ مصوع أراكيل بك، أنه أصبح على مصر حماية رعاياها من الغارات الاثيوبية ، وحفظ ماكنتها وهيبتها في السودان، كما أن الخديوي اسماعيل لم يجد بدا ازاء تهديدات واستفزازات يوحنا من تأديبه. واستقر الأمر على ارسال حملتين في وقت واحد، أحداهما بقيادة منزنجر وتزحف على اقليم عيسى الواقع بين اثيوبيا والممتلكات لامصرية عند تاجورة على ساحل الصومال في الجنوب واحتلال اوسا التي يحكمها شيخ مستقل وتقويع معاهدة مع منليك ملك شوا (214).

وكان منليك قد أعاد اتصاله مع مصر، ويبدو أنه كان هناك شبه اتفاق على أن تقوم مصر بتمهيد وفتح طريق بين مصر وأثيوبيا عن طريق البحر الأحمر إلى شوا مباشرة بعيدا عن شمال أثيوبيا وأسندت إلىمنزنجر مهمة فتح هذا الطريق (215)، ولكن هذه المهمة تأجلت بسبب توتر العلاقات مع يوحنا وتصاعد الغارت الأثيوبية على الحدود المصرية (216). غير ان ازدياد هذه الغارات وتوتر العلاقات أدى إلى ارسال حملة أرندروب، وصدرت الأوامر إلى منزنجر بالقيام فورا بفتح الطريق بين الساحل وشوا عن طريق التدهور قررت مصر أن تمد منليك بشحنة من الأسلحة وذلك كمساهمة من مصر لكي يؤيدمنليك حملة منزنجر، ومناوئه يوحنا (218).


حملة أرندروب:

بدأ اسماعيل ينفذ خطته ، فقلد الكولونيل أرندروب الحملة الأولى في 17 سبتمبر 1875، وعلى ذلك غادر مصر إلى مصوع لقيادة القوات فيها وفي سنهيت (216)، وقد صحبه كمساعدين له في الحملة كونت زيكي، وميجور دورهولتس، وميجور دينسيون كان هؤلاء من العسكريين الأجانب (220). أما من المصريين فكان القائمقام رستم ناجي والبكباشي عمر رشدي. وانضم إليهم أراكيل بك محافظ مصوع (221). وقد وصل أرندروب ومن معه من المساعدين إلى مصوع في 26 سبتمبر سنة 1875 (222).

وكانت التعليمات الصادرة إلى أرندروب تقضي ببحث الآثار التي نجمت عن تحركات وغارات جيوش يوحنا على الأهالي في كل من مصوع وبوجوس، والا يحارب يوحنا اذا تقهقر بيجوشه، ويبقى بعيدا عن أراضي أثيوبيا، على أن يكون مستعدا لصد اي عدوان، ولا يقتفي أثر الأثيوبيين خلف حدود هماسين إلا إذا كان هناك ميزة حربية هامة. واذا لم يرد الامبراطور على رسالة منزنجر الودية فعلى أرندروب أن يحتل هماسين ويظل محتلال لها حتى يقدم الامبراطور الضمانات التي يراها أرندروب أنها تحفظ السلام وتوقف الغارات الاثيوبية، واذا تم ذلك فعلى أرندروب أن يخلي هماسين فورا، اذا لم يقدم يوحنا هذه الضمانات، فيحتل بجانب هماسين الأراضي التي ادعى يوحنا بتبعيتها له في جنوب شرقي مصوع وفي جيندا ومنطقة استخراج الملح في شمال أرضي الدناكل، وهي ولاية كيركهام، واقصائه عنها ثم الاحتياط لصد أي هجوم مضاد من الأثيوبيين (223). وضم بعض مناطق من اقليم هماسين لكي ينفذ الخديوي مشروعه بمد خط حديدي بين مصوع والخرطوم عن طريق كسلا (224).

وبمجرد أن وصل أرندروب إلى مصوع، أرسل رسالة إلى الامبراطور أوضح فيها أن هدف الحملة هو تحديد الحدود بين مصر ,اثيوبيا (225)، وأن مصر لا تنوي غزو أثيوبيا، ولكن الخديوي يخاف من تعيين كيركهام حاكما لأسمرة وجيندا وأمفيلا (226) ولأن الأخير قام بأعمال ضايقت الحكومة المصرية غير أن يوحنا لم يرد على رسالته ربما بتخرريض من كيركهام الذي أوهمه بأن مصر تنوي اذلال اثيوبيا اذا ما هو رد على الرسالة (227).

وعلى ذلك فقد زحف أرندروب على أسمرة في اقليم هماسين وأخذ يتقدم. في هذا الاقليم يغريه على ذلك انسحاب يوحنا السريع أمامه إلى داخل البلاد (228) وقد استولى أرندروب على جنيدا وعلى منزل كيركهام وانزل العلم الانجليزي ، ورفع العلم المصري. وكان كيركهام مع الامبراطور ولم يكن في ولايته (229). وتابع أرندروب زحفه نحو الجنوب ، وكانت خطة الأثيوبيين استدراجه داخل البلاد حتى تطول طرق مواصلاته ويبتعد عن مركز تموينه وينال منه التعب والاضطراب نتيجة سيه في مناطق جبلية وعرة، وعند ذلك يطبق عليه يوحنا بيجشه ويقضي عليه (230). ولذلك رفض دعوى أرندروب إلى التفاوض بدلا من الحرب. وكان أرندروب قد عرض عليه أن يكون نهر المأرب حدا فاصلا بين مصر وأثيوبيا (231).

وازاء ذلك لم ير أرندروب بدا من الزحف جنوبا، مقسما قواته إلى قسمين قاد أحدهما بنفسه ، واسند الآخر إلى الكولنيل دور هولتس. وكان أرندروب ، يجهل في الواقع عدد القوات الأثيوبية التي استطاع يوحنا جمعها (232). والواقع أن يوحنا استطاع أن يثير النعرة الدينية والقومية عند الأثيوبيين ويحولها إلى حرب صليبية أخرى. فنجح في أن يجمع الرؤوس المعادين له وجعل مطران أثيوبيا يعلن الحرب المقدسة ويحرم كل من يرفض الاشتراك في هذه الحرب، وأعلن أن المصريين يعتدون عليه وأن الحرب قد أعلنت بينه وبين الحكومة المصرية . وعلى الجنود التجمع في عدوة، وبالفعل فقد تجمع لديه جيش ضخم فاق أرندروب بمراحل (233).

وبالرغم من أن أرندروب لم يعرف حجم جيوش يوحنا، فإنه لم ينتظر الامدادات التي طلبها في زحفه جنوبا نحو عدوة حتى وصل إلى وادي جندب الذي يؤدي إلى نهر المأرب، حيث شيد المصريون معسكرا حصينا ثم تابعت الحملة زحفها. وفي 18 نوفمبر وقعت في كمين أعده يوحنا لها. وفي أثناء الاشتباك وصل أراكيل بك بالامدادات المطلوبة. واشترك في القتال ، إلا أن معركة كهندت انتهت بهزيمة ساحقة للقوات المصرية، وقتل كل من أرندروب وأراكيل بيك والكونت زيكي، ورستم ناجي، وهرب دور هولتس (234). أما ماجور دينسيون الأمريكي وعمر رشدي فلم يشتركا في المعركة اذ كانا بعيدين عنها على قمة جبل آدي هوالا Addi Huala لكن الاثيوبيين حاصروا هذا الموقع، ودخل الامبراطور مع دينسيون في مفاوضات انتهت بهروب ما تبقى من الحملة إلى مصوع بعد أن تركت أسلحتها كاملة. وقد خسرت مصر في هذه المعركة أربعة عشر بلوك من السودانيين وثمانية بلوكات مصرية ومجموعة من أكفأ الضباط المصريين وكمية من المدافع والاسلحة ومهماتها وأسر بعض المصريين (235).

وقد كان لهزيمة حملة أرندروب أثر سيئ في سنهيت ومصوع حيث ساد الفزع بين الأهالي الذين اعتقدوا أن يوحنا سيزحف على هذه المناطق ويستولي عليها (236). لذلك دعمت الحكومة المصرية حامياتها المنتشرة في هذه المناطق (237). وأرسلت احدى السفن الحربية المصرية إلى مصوع لحماية المدينة من الأثيوبيين. كما منعت الحكومة المصرية حضور أي شخص كان من الذين اشتركوا في هذه الموقعة إلى مصر وذلك لمنع الشائعات المزعجة بين شعب مصر (238).

أما يوحنا، فقد رفض ما اقترحه عليه كبار رجال دولته من الاستمرار في الحرب ودخول مصوع، وذلك لأنه لم يكن يتوقع أن ينتصر عندما يصطدم بالثقل الحربي المركز في مصوع وما قد يثيره ذلك عند الدول الاوروبية. التي كانت تحافظ على الوضع. هذا بالاضافة إلى أن الاغارة على مصوع حياة الكثير من الاوروبيين في هذه المدينة. كما ان الاغارة على المدينة يحتاج إلى خطة مدروسة وجيش منظم ومدرب على تنفيذها. وعلاوة على ذلك فانه كان يتوقع هجوما مصرية من جهة القلابات. وكان المفروض فعلا أن توجه مصر حملة من هذه المنطقة لمهاجمة يوحنا من الغرب في نفس وقت حملتي أرندروب ومنزنجر، إلا أنها لم تفعل ذلك. ربما لانها اعتقدت أن حملتي أرندروب ومنزنجر تكفيان للقضاء على حكم يوحنا. ومع ذلك احتاط يوحنا لذلك. وكلف راس عادال بمراقبة الحدود الغربية وتحركات القوات المصرية فيها. ولم تستغل مصر شك يوحنا في اخلاص هذا الراس له فتركت الجهة الغربية دون استغلال. وكان من الأسباب التي جعلته يحجم عن الاستمرار في محاربة المصريين ضعف ثقته في منليك وبخاصة بعد أن وصلته أخبار بأن مصر ترغب في اثارة ملك شوا ضده، لذلك فقد آثر العودة إلى عاصمته وأرسل قوة لمراقبة الحدود المصرية في شرق السودان (239).

والواقع أن هزيمة أرندروب تقع تبعتها في المقام الأول على الخديوي اسماعيل فمع أنه شاهد الحملة الانجليزية على اثيوبيا والتي انهت حكوم تيوديور والدراسات التي قامت بها بريطانيا، وعدد جنودها، والمعدات الحربية وما صرف عليها من أموال بلغت تسعة ملايين جنيه، واختيارها رجلا كفء تمرس على الحروب في المرتفعات والجبال، وتجنبت العوامل التي قد تجعل اثيوبيا متحدة ضدها بأن رفضت اشتراك مصر معها في الحرب، وبالرغم من أن اسماعيل لمس ذلك لكه فانه اعتبر اثيوبيا دولة همجية من السهل اخضاعها فارسل حملتين فقط (أرندروب ومنزنجر) مجموع قواتها خمسة آلاف أو سنة آلاف مقاتل فقط. في حين أن حملة نابيير بلغ عدد جنودها 14.683 جنيدا. كما أن هناك فرقا شاسعا بين أرندروب، وروبر نابيير، فلم يكن الأول يعمل شيئا عن الحروب، ومع ذلك عينه اسماعيل قائدا للحملة ورقاه من ملازم إلى كولونبيل (أميرلاي) مباشرة، أما الثاني فان أعماله في الهند تؤهله لقيادة الحملة الانجليزية (240).

غير أن اسماعيل تغاضي عن ذلك كله، ووقع فريسة لرجال حاشيته والمتملقين له حيث بالغوا في تقدير قوة جنود مصر وأن فرقة واحدة تساوي عشرين ألفا من الاثيوبيين كما أشار منزنجر إلى مقدرته على غزو اثيوبيا جميعها بأورطتين مصريتين فقط وقليل من النفقات. وقد أعجب اسماعيل بذلك (241). وربما كان هذا السبب في جعله لا يهتم كثيرا بنوعية قائد الحملة الذي لم يكن يستمع لنصائح من معه من كبار الضباط المصريين المدربين ذوي الخبرة في الحروب في هذه المناطق. وكان أكبر أخطائه تقسيم قواته إلى أقسام في أماكن متباعدة وعدم معرفة حجم قوات عدوه ومقدرتها الحربية ولا بطبيعة تضاريس المنطقة التي سيحارب فيها (242).

بل ان تسرعه في الزحف جنوبا قبل أن تصله الامدادات التي طلبها يؤكد أنه لم تكن هناك خطة مدروسة يسير عليها، كما يؤكد أيضا أنه كان يعتقد مثلما كان يعتقد اسماعيل، أن الاثيوبيين قوم يسهل هزيمتهم. فلو كان يعقتد غير ذلك لما كان تقدم هكذا سريعا في أراضي اثيوبيا قبل أن تصله الامدادات. وساعد على هزيمة أرندروب أيضا، ما نسب إلى بعض الضباط المشتركين في الحملة من اهمال وتخاذل بعكس بعضهم مثل رستم ناجي الذي اشيد بموقفه (243). كذلك سمح أرندروب لبعض الصحفيين الانجليز بالتجول بين وحدات جيوشه، دون أن تكون هناك رقابة عليهم، ثم انتقالهم إلى معسكر يوحنا في ظروف غامضة. مكنت الاثيوبين من عرفة عدد القوات المصرية الزاحفة ونوعية سلاحها واتخاذ التدابير اللازمة للقضاء عليها في الوقت المناسب (244).

هذا بالاضافة غلى أن السلطات المصرية في مصوع وشرقي السودان لم تعلن ما قد نسميه الآن بالاحكام العرفية أو حالة الطوائ، بل تركت الحرية الكاملة للأجانب في الانتقال من الأراضي المصرية إلى الأراضي الاثيوبية. وقد استغل الاجانب هذه الحرية لصالح يوحنا. وكان على رأسهم دي سارزيك قنصل فنرسا السابق في مصوع، فبالرغم من علزه من مصنبه، فإنه لم يترك أثيوبيا وظل بها ينتقل بحرية تامة من مصوع إلى أثيوبيا ناقلا المعلومات العسكرية عن القوات المصرية إلى يوحنا بل أنه قام بتهريب الاسلحة والذخائر عبر الخطوط المصرية بالرغم من الحظ الذي فرضته مصر على مرورها إلى أثيوبيا. وكان هذا القنصل يظهر عداء صريحا لمصر ويشجع يوحنا على أعماله العدائية ضدها (245).

وبالرغم من أن مصر لم تستفد شيئا من هذه الحملة، إلا أن يوحنا استفاد كثيرا اذ عم حكمه المزعزع في اثيوبيا. وسيطر إلى حد ما على الرؤوس المناوئين له اذ بفضل جهاده الصليبي ضد الحملة المصرية جعلهم ينظرون إليه على أنه حامي المسيحية في اثيوبيا (246)، كما استفاد بما غنه من سلاح جيد فعال لم يستعمل، تركته الحملة بعد انسحابها.

حملة منزنجر باشا:

وفي أثناء حملة أرندروب، أمر اسماعيل منزنجر باشا بأن يقود حملة عسكرية تتجه إلى اثيوبيا من ميناء تاجورة إلى اوسا ثم مملكة شوا وأخيرا إلى جندر (247). وذلك لاقامة تحالف مع حكام شوا وجندر وأمهرا وجوجام، وهي المناطق التي تعارض يوحنا وبالتالي محاصرته في اقليم تيجري ثم القضاء عليه. وبذلك تعتبر حملة منزنجر مكملة لحملة أرندروب الأولى من الجنوب بينما الثانية تهاجم من الشمال (248). وقد دعم هذه اخطة أن منزنجر حصل على وعد من منليك بمساعدة المصريين وحملته ضد يوحنا، وعلى ذلك فكان الهدف أن تتحد حملة منزنجر مع قوات منليك ويهاجما يوحنا من الجنوب عن طريق مقاطعة ايفات التي كانت أوسا جزءا منم مملكتها الاسلامية، ويضم الجالا المسلمين في الوالو والياجو الذين كانوا يرغبون في الانتقام من مسيحي الأمهرا وتيجري (249).

وكان هدف اسماعيل من هذه الحملة – بالاضافة إلى ما سبق – حماية حدود وتدعيمها والتوسع التدريجي في هذه المناطق، بضم اوسا إلى مصر وهي التي كانت تقع بين أملاك الأخيرة على الساحل واثيوبيا في الداخل، وتتحكم بحكم موقعها في الطرق الخارجة من شوا والجالا إلى ساحل البحر الأحمر، وعقد اتفاقية من منليك لحرية ونمو التجارة، بين شوا ومصر، ومنع تجارة الرقيق والتحالف ضد يوحنا (250). وأخيرا فان هذه الحملة كانت استجابة لطلب منليك ورغبته في تدعيم العلاقات مع مصر (251).

وبمجرد أن وصل منزنجر بحملته إلى ميناء تاجوره، دعا كبار المشايخ في المنطقة إلى الدخول في طاعة الخديوي، كما أرسل إلى ملك شوا يخبره بوصوله إلى ميناء تاجوره وأنه في الطريق إليه (252) وقد عانت حملة منزنجر العديد من الصعوبات نتيجة عدم تعاون الأهالي معها بسبب نظرتهم إليها على أنها جاءت للقضاء على تجارة الرقيق التي يجنون من ورائها ارباحا طائلة (253). كما أن بعض الشيوخ كانوا يعادون هذه الحملة، ومن أهمهم الشيخ محمد ولد العيطة شيخ قبيلة عدوة مارا ويقيم في المناطق المرتفعة المجاورة لبحيرة أسالة، والثاني محمد ولد هنفري سلسطان أوسا أو شيخ قبلية أساري مارا، أما الأول فكان يبدي ولاهءه للحكومة المصرية ولمنزنجر بينما يبطن غير ذلك. والثاني كان يظهر السوء منذ البداية، غير أن منزنجر اعقتد بأنه لن يقاوم الحملة كما أنه لن ينضم إليها (254). كذلك ترك منزنجر بعضا من جنوده بسبب عصيانهم بحجة قلة المرتبات (255).

وقد غادر منزنجر طاجوره، مبتدئا رحلته إلى أوسا وذلك في 27 اكتوبر سنة 1875 (256) غير أن كل من محمد ولد العيطة ومحمد هنفري، اتحدا معا في القضاء على حملة منزنجر هذه ، وبالفعل نجحا في ذلك، وهي معسكرة بالقرب من بحيرة أوسا في 14 نوفمبر سنة 1875، وعاد منها ما تبقى إلى تاجوره، فوصولوا في 21 نوفمبر سنة 1875 (257). وهكذا فشلت هذه الحملة وقتل قائدها تماما مثلما فشلت حملة أرندروب. وقد قيل أن يوحنا أرسل بعض قواته للقضاء على حملة منزنجر هذه، وقد خطط الخديوي في التحالف مع الرؤوس المناوئين ليوحنا (258).

والواقع أن هناك عوامل أخرى قد ساهمت في فشل منزنجر، فبالرغم من ان اسماعيل كان مسئولا بالدرجة الأولى عن فشل حملة أرندروب، فانه هو أيضا مسئول عن فشلة حملة منزنجر ، وان كان ذلك بدرجة أقل، ويشاركه في هذه المسئولية منزنجر نفسه ، ذلك أن عدد جنود حملة منزنجر يؤيد ويؤكد أنه لم يخطط لها التخطيط السليم الواجب. فقد استجاب اسماعيل لمنزنجر عندما أوهمه بأنه بأعداد قليلة من الجنود يستطيع فتح أثيوبيا، ولم يفكر اسماعيل في أن يحيل موضوع الحملة إلى هيئة أركان حربه لدراسته دراسة مستفيضة تضع بعدها توصياتها، وفي ضوئها تتخذ الخطوات التالية، بل ان اسماعيل لم يهتم بدراسة هذه المنطقة ووضع الخرائط التفصيلية الا بعد نكبة حملة منزنجر (259). كما أن منزنجر أساء تقدير طبيعة هذه البلاد وأهلها، مع أنه عاش فيها فترة طويلة وتزوج منها وخبرها وخبر أهلها ومقدرتهم الحربية. وبذلك انضم بعمله هذا إلى من ساعد على تخريب مصر باستنفاد ثروتها في حملة فاشلة (261). وقد ساهم منزنجر بدوره في القضاء على حملته، فهو أولا لم يكن عسكريا بل مدنيا كما أنه وثق في ولد العيطة، ولم يضع في اعتباره أنه جاء ليحتل بلاده وهو الأجنبي عنهم وانه قد يخونه لذلك، كذلك اساء منزنجر تقدير موقف زعماء القبائل في هذه المناطق، فقد كان يعتقد أنهم يرحبون به، ولم يعرف على أي أساس يكون هذا الترحيب، وهو الذي جاء ليمنع تجارة الرقيق مصدر رزقهم. وكان نتيجة عداء الأهالي، أنه ترك جزءا كبيرا من حملته في ميناء تاجوره، وذهب بعدد قليل من الجنود والمعدات مما سهل القضاء عليه (261). كما أن الحالة النفسية لمنزنجر كانت سيئة جدا لفقده ابنه قبل قيامه بهذه الرحلة. بالاضافة إلى علمه بمؤامرات أراكيل بك ضده لدرجة أنه ذكر لأحد الآباء الكاثوليك أن الحكومة لامصرية قد أرسلته في مهمة ولكنه لن يعود منها ثانية، وتحقق ما كان يتوقعه (262).

على أن شيئا يجب أن نشير إليه وهو موقف منليك من حملة منزنجر، فبالرغم من أنه علم بوصول هذه الحملة ، فإنه لم يسارع بارسال قوة حربية تفتح هذا الطريق من شوا إلى الساحل وتقابل حملة منزنجر القادمة من الساحل إلى شوا وهذا يؤكد أن منليك لم يكن ينوي التحالف بل انه اتبع سياسة مرنة مع مصر ويوحنا كان هدفها على الاقل الاحتفاظ باستقلاله بمملكة شوا حتى تسنح له الظروف في السيطرة على أثيوبيا. وعلى ذلك فهو لم يطور علاقته مع مصر إلى حد التحالف الصريح، كما أنه لم يصل بعداوته مع يوحنا إلى الحرب والمواجهة.

وكان منليك قد اتبع سياسة التقارب مع مصر لهدفين أولهما القضاء على يوحنا وذلك بمحاربة الأولى للثاني فيتم اضعافع والقضاء عليه، مما يسهل على منليك توليه عرش أثيوبيا. والثاني في تجنب العداء مع مصر والاستفادة منها ما أمكن في تمدين بلاده، كما يجنبها من أن تحتلها مصر بعد أن اقتربت منها كثيرا باحتلالها لهرر سنة 1875. وهو نفسه عبر عن هذه المخاوف في رسالة يعث بها إلى اسماعيل ذكر فيها، ان جيوشه – أي جيوش اسماعيل – احتلت تاجوره وأواشي وحقول الملح وهرر وأن جيشه يقترب من شوا. وعلم بأن جيوش مصر ستتقابل في مملكة منليك (شوا) وأوضح له بأنه على تمام الوفاق معه وانه لم يكن هناك أي تفاهبم بينهما حتى تأتي جيوش مصر لتحتل بلاده. واخبره أنه منع كافة احتياجات شوا من الأسلحة اللازمة لحفظ سيادته على مملكته. وأخيرا أوضح له بأنه يخشى أن تحتل جيوش مصر مملكة شوا (263).

الواقع أن كلا من اسماعيل ومنليك كان يريد أن يستغل الآخر لحسابه. فقد كانت خطة الخديوي تنحصر في وضع يوحنا بين فكي الرحى، وبعد الانتخاء منه يضم أثيوبيا إلى الامبراطورية المصرية, وما يؤكد ذلك ان اسماعيل كان يرغب في احتلال كل المناطق الحصورة من النيل غربا إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي والتي تحيط بمصب نهر الجوبا حتى البحيرات الاستوائية، بالطبع بما فيها أثيوبيا كلها وذلك بهدف تمدين وتحضير هذه المناطق، لذلك كان منليك يخاف المصريين وتطويقهم لأثيوبيا (264). مما دفعه بأن يعقد مع يوحنا معاهدة سلام في سنة 1875 (265). وعندما تسلم منليك الأسلحة المصرية المهداة من اسماعيل لشن الحرب على يوحنا. سارع وأرسل إلى الامبراطور الاثيوبية رسالة يقول له فيها: "أنه لا يحاربه بتاتا" (266). وهكذا نستطيع أن نقول أن منليك نجح بدهائه في أن يورط مصر في الحرب مع يوحنا، في حين أنه لم يشترك فيها، كما أن مصر فشلت في توريط منليك في الحرب ضد يوحنا، وبذلك يكون المستفيد من هذا الصراع يوحنا ومنليك أما مصر فقد فقدت جنودها وأموالها ثم استقلالها بسبب هذه الحروب.


حملة راتب باشا:

أحدثت هزيمة الجيش المصري في جندت والقضاء على حملة منزنجر تأثيرا سيئا في مصر وباتت الحكومة المصرية تخشى أثر هذه الهزائم التي ألمت بقواتها على نفوذها في السودان كله (267). لذلك فقد اتخذت بسرعة الترتيبات اللازمة لارسال حملة جديد’، وبالفعل تكونت حملة ضخمة في عددها ومعداتها واسندت قيادتها إلى راتب باشا قائد الجيش المصري، وكانت الأوامر الصادره له أن يعيد الهيئة للجيش والحكومة المصرية في نفوس الأهالي، وأن يحقق الهدف الأساسي لحملة أرندروب، أي تأمين الحدود المصرية وهزيمة يوحنا واحتلال عدوة وإجباره على عقد اتفاقية يحترم فيها حدود مصر ثم الانسحاب والعودة إلى مصوع (268).

وقد ضمت حملة راتب هذه الجنرال لورنج الأمريكي كرئيس لهيئة أركان حملة الحرب، ووليم داين وكثيرا غيرهم من الضباط الأجانب (269). وانضم لهذه الحملة أيضا بقايا حملة أرندروب في مصوع. ومن المصريين عثمان رفقي باشا وراشد راقم وأحمد عرابي وعلي الروبي وغيرهم. كما رافق الحملة نجل الخديوي الأمير حسن وأوصى الخديوي راتب باشا ولورنج بالعناية بنجله (270).

ولم تعارض بريطانيا وفرنسا حملة إسماعيل هذه، فكتبت حكومة بريطانيا إلى قنصلها في مصر بأنه ليس لديها الرغبة في التدخل لمنع هذه الحملة المقترح ارسالها لتأديب يوحنا، أما فرنسا فقد كانت تعتبر نفسها حتى هذا الوقت في منزلة متقدمة في مصر. كما أن نفوذها الأدبي كان سائدا في جميع أنحاء البلاد لذلك لم تضع العقبات أمام رغبات الخديوي في الانتقام، وقد أوضحت موقفها هذا صراحة عن طريق البعثان الكاثوليكية الفرنسية وقنصلها في مصوع، اذ أرسلت إلى الأخير تحذره من اتخاذ أي موقف عدائي ضد الحملة، وتنصحه بعدم التورط هو أو حكومته الفرنسية في صراع بسبب هذه الحملة وهدفها (271).

وبمجرد أو وصل راتب وحملته إلى مصوع جاء العديد من الحكام الاقليميين والرؤوس الاثيوبيين، ليعلنوا ولاءهم له وللخديوي،عارضين التحالف معه ضد طغيان يوحنا (272). كذلك يطالبون الانضمام إلى السيادة المصرية (273). وبالطبع لم يكن كل من قدم ولاءه لمصر مخلصا لها، فقد كان بعضهم يقدم ولاءه أيضا إلى يوحنا مثل حاكم جندر (274). وبالرغم من ذلك فقد كان ولد ميكائيل حاكم هماسين يميل فعلا إلى مصر ويؤيدها ضد يوحنا، ويعود ذلك إلى سجن الأخير له مدة تقرب من ستة سنوات بعد اتصاله وتعاونه مع الارسالية الكاثوليكية ضد يوحنا (275). وقد وافق راتب باشا على منح ولد ميكائيل حماية مصر وتأمينه على حياته ووظيفته. وبدأ الأخير يقوم بالتجسس على تحركات جيوش يوحنا ويبلغها إلى راتب باشا (276)ز

وكان يوحنا على دراية تامة بضخامة قوة هذه الحملة ومدى خطورتها عليه وعلى حكمه، لذلك فقد كان يبث في جنوده وشعبه الشجاعة والصمود، كما أخذ يستعد للحرب فأرسل جواسيسه ليجمعوا له المعلومات عن الحملة وتحركاتها كما استولى على المضايق والمعابر الموصلة إلى سنهيت وأسمرة وقياخور، كما فرض ضرائب كثيرة على الأهالي لتمويل الحرب المقبلة على مصر (277). كما منع كل اتصال بين بلاده ومصوع (278). وبدأ ينال من الروح المعنوية لجنود حملة راتب فأرسل تدريجيا بعض جنود حملة أرندروب وهم في حالة صحية سيئة نتيجة لعمليات التعذيب الوحشية التي تتنافى مع الضمير الإنساني (279). كما أرسل كيركهام برسائله إلى ملكة بريطانيا يشكو لها اعتداءات المصريين عليه وعلى بلاده، وفي نفس الوقت عرض كيركهام السلام على راتب باشا، وكان يوحنا يهدف من ذلك إلى احباط الروح المعنوية للجنود المصريين وبالفعل فقد تركت رؤية هؤلاء المعذبين أثرا سيئا في نفوذ جنود حملة راتب باشا بل وضباطها، اذا ملأتهم بالرعب بدلا من اثارة حميتهم للانتقام من هذا الامبارطور الوحشي، لذلك بدأ ضباط الحملة وجنودها يستجيرون بشدة من هذه الحرب ويعلنون عدم ضروريتها، هكذا انعدم الهدف الذي يحارب من أجله جنود مصر، بعكس الاثيوبيين الذين يحاربون دفاعات عن بلادهم (280).

وحمل كيركهام رسالة من يوحنا إلى اسماعيل، عرض فيها السلام، والاستمرار في القتال اذا لم تنسحب مصر جيشها من بلاده (281). غير أن اسماعيل رفض لأنه كان قد صمم على الانتقام واسترداد هيبة مصر العسكرية في أملاكها أمام العالم أجمع. لذلك لم يكن لهذا الخطاب أي تاثير واستعد الطرفان للقتال وأبلغت مصر اعلانها الحرب على اثيوبيا للدول الأوروبية في 14 يناير سنة 1876 (282).

وبدأت الحملة زحفها، فاستولى راتب باشا على هضبة جورا، وأقامت فيها قلعة قوية، واستولى عثمان رفقي بجزء من القوات المصرية للحملة على قياخور التي كان يفصلها عن جورا وادي صغير لم يسيطر عليه وبالتالي أصبح من السهل على يوحنا أن يصل إليه (283). حاول راتب باشا الاتصال بمنليك، عندما أشيع أنه موجود في عدوة، مع أنه كان بالقرب منها فقط ليوهم يوحنا بوقوفه بجانبه. وكانت التعليمات قد صدرت لراتب باشا بأن يعرف موقفه تماما ازاء مصر وهل ما زال أو انضم إلى يوحنا، فاذا كان مع مصر فعلى راتب باشا أن يعترف به ملكا لأثيوبيا (284).

غير أن راتب باشا فشل في الاتصال بمنليك، وذلك لأن يوحنا احتل كل الطرق الموصلة إلى ملك شوا، وبث جواسيسه في كل مكان لاحباط أي محاولة للاتصال به وذلك لشكه في ولائه له، كما أن راتب باشا لم ينجح في الاتصال بأي رأي من الرؤوس الخارجين على الامبارطور بسبب سيطرته القوية على البلاد ورؤوسها وهكذا استطاع يوحنا أن يحبط خطة الخديوي في تأليب الرؤوس الأثيوبيين عليه، ووحد البيلاد كلها تحت سيطرتها، وعندما تجمعت قواته وقوات رؤوسه أمرهم بالاستعداد للقتال والتدريب (285).

وعندما أتم يوحنا استعداده للقتال، بدأ يتحرك نحو مواقع الحملة المصرية تمهيدا للاشتباك معها (286)، وبالرغم من أن يوحنا استطاع توحيد صفوفه، فإننا نجد النقيض في صفوف الحملة المصرية، فقد كان هناك صراع بين راتب باشا والجنرال لورنج رئيس الأركان على أسلوب القتال والمواجهة مع يوحنا (278). وعندما وصلت الحملة أخبار تحرك يوحنا وتوقع هجومه على قياخور حيث قائدها عثمان باشا رفقي، أخرج راتب باشا بتوجيه من جنرال لورنج جزءا كبيرا من الحملة لقتال يوحنا خارج استحكامات قلعة جورا، وتقابل المصريون والاثيوبيون في 7 مارس سنة 1876 حيث انهزم الأولون هزيمة قاسية لم يتمكن من بقى على قيد الحياة منهم العودة إلى قلعة جورا إلا بصعوبة بالغة وكان من هؤلاء الأمير حسن وراتب باشا ولورنج وغيرهم من باقي الضباط أو الجنود والأحياء (288).

ولما كان يوحنا يريد القضاء عل المصريين تماما في بلاده، فقد كرر الهجوم ثانية على الحملة في 9 مارس سنة 1876. وفي هذه الجولة لم يخرج المصريون من قلعة جورا بل احتموا بها فحاصرهم الأثيوبيون حصارا قويا ومع ذلك فقد استماتت الحملة المصرية في دفاعها عن موقعها واستطاعت أن تنزل بالاثيوبيين هزيمة ساحقة تكبدوا فيها خسائر فادحة في الأرواح والرؤوس معاوني يوحنا (289) أما خسائر المصريين فقد كانت قليلة جدا (290). وقد أدت هزيمة يوحنا هذه إلى انسحابه من أرض المعركة بل واخلاء المنطقة المحيطة بالقلعة والرحيل عنها تماما (291).

ومما يدل على انتصار الحملة المصرية في موقعة 9 مارس أنها ظلت باقية في مركزها (292). وان يوحنا لم يحاول أن يعيد هجومه عليها بعد 9 مارس لأنه تأثر تأثرا كبيرا بهزيمته في هذا اليوم، كما أن مؤونة جيشه قد نفذت مما قد يؤدي إلى هزيمة قاسية أخرى له لو فكر في الهجوم مرة أخرى على الحملة. وبالاضافة إلى ذلك ، فإن الأثيوبيين لا يجيدون موقف الدفاع الذي قد يحدث نتيجة لهزيمة أخرى، لذا قرر يوحنا الانسحاب (293). بل أن يوحنا أرسل في 13 مارس إلى راتب باشا يعرض الصلح مع الحكومة المصرية، وهو عمل لم يعمله من قبل ولا يعمله لو كان انتصر في 9 مارس. وقد وافقت مصر على مبدأ الصلح، فشرع يوحنا في 18 مارس في الانسحاب إلى عدوه، وبعد ذلك بشهر تقريبا انسحب المصريون بدورهم إلى مصوع، وبدئ على الفور في اجراءات المباحثات لتسوية النزاع المصري الأثيوبي (294).

وبالرغم من انتصار حملة راتب في 9 مارس، فانها لم تحقق هدفها في القضاء على حكم يوحنا، ذلك لأن اسماعيل لم يحقق للحملة القيادة الواحدة المسئولة المتجانسة. فقد كان هناك جفاء بين راتب باشا ولورنج باشا انعكس هذا الجفاء على هزيمة 7 مارس (295). كما تأثرت الحملة بكراهية الضباط الجراكسة للضباط الأجانب بسبب المنافسة بينهما على المناصب الكبرى. وكراهية الضباط المصريين للضباط الجراكسة، كما كان هناك شئ من التخاذل من بعض القادة مما ساعد أيضا على هزيمة 7 مارس مثل تخاذل عثمان رفقي عن مساعدة راتب باشا في هذه المعركة، وكان في امكانه ومن قلعته بقياخور، أن يضرب بمدافعه البعيدة المدى القوات الإثيوبية، إلا أنه لم يفعل. وقد اعترفه هو بذلك وعلل تخاذله بأنه خاف أن يفعل ذلك حتى لا يسحبهم إلى قلعته (296). وعانت الحملة أيضا من نقص الدواب مما عاق سرعة تحركها، وأعطى الفرسة ، لكي يسارع يوحنا إلى احتلال المواقع الهامة ويدعم استحكاماته فيها _\(297). كما أ، عدم مد الخط التلغرافي بين مصر قياخور أثر تاثيرا كبيرا في وصول الاشارات التلغرافية وبالتالي كان ذلك سببا في عرقلة وصول الامدادات الحربية في الوقت المناسب (298)، هذه هي العوامل الهامة التي أدت إلى فشل الحملة في تحقيق هدفها بالرغم من انتصارها في 9 مارس.

وقد نتج عن هذه الحروب ان زاد الارتباك المالي في مصر نتيجة زيادة الديوم وبالتالي زيادة التدخل الأجنبي في مصر، ثم خسارة مصر بخير شبابها في هذه الحروب، كما أنها لم تحل مشكلة الحدود (299). هذا بالنسبة لمصر، أما بالنسبة ليوحنا فقد استفاد منها كثيرا، فقد دعم حكمه في البلاد وسيطرته على الرؤوس، الخارجين عليه وأصبح بطلا وحاميا للدين في نظر شعبه (300). بل ان منليك بعد أن اتضح له مدى ضعف مصر الحربي خرج عن تأييده لمصر مثله في ذلك مثل الرؤوس الآخرين الذين تنكروا لمصر بعد هزيمتها وعدم تحقيق أمانيهم (301)، وشهر منليك بالمصريين عند ملك ايطاليا بأنهم أضروا مملكته وسببوا له المتاعب وأرادوا الاستيلاء عليها وكذلك فإنه سيحاربهم وسيكون ملك ايطاليا شاهدا أمام حكومات اوروبا لكي لا يعتبروه معتيدا عليهم. وواضح أن منليك يريد أن ينتهز ضعف مصر واضمحلال امبراطوريتها لكي يستولي على ولاية هرر (302).

على أي حال فقد كان يوحنا يحاول استقرار الأوضاع والمشاكل على عدم معارضته بل ان شعب شوا، نتيجة لما أحرزه يوحنا من انتصارات أجبر منليك على العودة إلى مملكته عندما اقترب من عدوه، وذلك عن طريق آخر غير الطريق المألوف، وذلك ليتجنب قوة يوحنا من أن تقطع عليه طريق العودة، كما أنه قدم له عددا كبيرا من الخيول مساهمة في الحرب ضد مصر (303). وفي سنة 1878 اعترف منليك بيوحنا امبراطورا لأثيوبيا كلها وأنه تابع له، وانه لا يستطيع أن يقف أمام قوة يوحنا والتي كانت قد بلغت أوجها في ذلك الوقت (304). وهكذا نجد أن مصر دون أن تدري دعمت حكم يوحنا ووحدت البلاد سياسيا تحت سيطرته، وكان هدفها عزله والقضاء عليه ولذلك لم تجد بدا من التفواض والصلح معه لاقرار السلام.



المفاوضات مع الامبراطور يوحنا:

وبدأت المفاوضات بين علي الروبي والامبارطور،ووافق فيها 13 مارس مندوبه برسالة إلى الأمير حسن نجل الخديوي يطلب المفاوضة في السلام والصلح بين البلدين (305). وعندما علم اسماعيل برغبة يوحنا هذه وافق عليها فورا فهو لم يكن أقل رغبة منه في الصلح (306). لذلك فقد أوقفت الحرب تمهيدا للبدء في المفاوضة (307) وقد طلب اسماعيل من نجله وقائده أن يعر على يوحنا أن يعيد إلى مصر الاسرى الاصحاء منهم أو الجرحى (308). غير أن يوحنا عندما وجد أن الخديوي يدعم قواته في أثيوبيا، طلب الجلاء عن بلاده وعودة الجيش المصري بمهماته وجنوده جميعا إلى مصوع، وذلك في حمياة قواته حتى يصلوا سالمين إلى هذه البلدة (309). غير أن راتب باشا رفض ذلك، وطلب منه أن يرسل مندوبا مفوضا من قبله للتفاوض معه في الصلح (310). ووافق الامبارطور على هذا وأرسل مندوبه حاملا رسالة منه يطلب فيها أن يحدد راتب باشا مبعوثه ويرسله إليه. وبالفعل عين راتب باشا البكباشي علي الروبي وأرسله إلى يوحنا بتعليمات تنحصر في استرداد الأسلحة والافراج عن الأسرى وحرية التجارة بين البلدين (311).

وبدأت المفاوضات بين علي الروبي والامبراطور، وافق فيها الأخير على عودة جميع الأسرى من حملة أرندروب ومعركة 7 مارس، وعقد معاهدتين للتجارة، والبريد مع مصر على غرار ما هو جاري بين الدول الأخرى، أما مسألة الأسلحة ، فقد اشار يوحنا إلى صعوبة جمعها من جنوده غير النظاميين ويطلب من الخديوي اعتبارها بمثابة هدية منه له (312)، غير أن اسماعيل تمسك بارجاع السلاح أولا ثم بعد ذلك يتفق على المسائل الأخرى مثل الحدود والتجارة (313).

وقد أخذت مشكلة ارجاع السلاح هذه حيزا كبيرا من المفاوضات بين راتب باشا ويوحنا لدرجة أنها كادت توقف سيرها، مما دفع راتب باشا إلى الانسحاب إلى قلعة جورا وهدم استحكاماتها والانقال إلى قلعة قياخور، وذلك لدفع مفاوضات الصلح إلى الأمان، واثباتا لحسن نية مصر في الوفاق والسلام (314). وأخيرا حلت مشكلة السلاح، عندما اقترح إسماعيل على قائده قبول ما يقدمه منها، كما طالبه بأن يعمل على استرداد جميع الأسرى المصريين والعرب، وقد نقل راتب باشا رغبة الخديوي إلى يوحنا عن طريق مندوبه (315). وقد ذهب المندوب الإثيوبي ومعه علي الروبي وأخبر يوحنا برغبة الخديوي بعودة الأسرى جميعهم، وعقد المعاهدات التي تنظيم التجارة والبريد بين البلدين. وقد وافق يوحنا على هذه الرغبة، فعادا كل من المندوب الإثيوبي والمصير إلى راتب باشا حيث أخبراه بموافقة الإمبراطور هذه (316).

وكان راتب باشا قد أوصى على الروبي أن يتأخر عند الإمبراطور يوحنا بضعة أيام وذلك ليجد الفرصة اللازمة لنقل الجنود ومعداتهم إلى قياخور والمحطات الأخرى في الوقت الذي يكونون فيه مشغولين بتحرير الشروط والمعاهدة (317). وتم بالفعل الاتفاق على شروط المعاهدة، وصل بها مندور الإمبراطور وعلي الروب إلى مقر راتب باشا بقياخور، كما وصل عدد كبير من الأسرى المصريين – بلغ 214 أسيرا – من موقعة جندب و7 مارس . وكانت المعاهدة من نسختين مختومتين بخاتم الامبراطور وشملت تسهيلات التجارة وحماية التجار وتسهيل انتقال البريد بين البلدين واستقرار السلام بينهما. وقد وقعها راتب باشا بخاتمة، واحتفظ باحدى النسختين واستعد ليعدي النسخة الأخرى إلى يوحنا (318).

ولكنه احتجز نسختي المعاهدة، وذلك لأن توقيعها يتعارض مع بقاء الجنود المصريين في مواقعهم، وانه اذا حدث شقاق بعد التوقيع بسبب بقاء هذه، القوات في مواقعها، فإن هذا سوف يؤدي إلى النزاع مع يوحنا مرة أخرى بأي صورة كانت، لذلك ارسل يسأل ما اذا كان الخديوي ينوي ابقاء القوات المصية في النقط الهامة، فيجب من الآن التوقف عن التوقيع حتى يم الاتفاق على الحدود بين البلدين وعلل راتب باشا عدم توقيعه بأن يوحنا لم يرسل الأسلحة وباقي الأسرى، وقد وافقه الخديوي على ذلك (319). وكان راتب باشا يخاف على جيشه من توقيع المعاهدة وما زالت قواته في إثيوبيا لم تنسحب تماما خاصة وأن يوحنا بقواته لم يكن بعيدا عنها (320).

ولكي يحقق يوحنا السلام، أبدى استعداده لجمع الأسرى المصريين وارسالهم إلى راتب باشا في أقرب فرصة، وذلك لكي يوقع راتب المعاهدة، كما أعلن مغادرته لعدي جواله في طريقه إلى عاصمته. وبالفعل بذل يوحنا جهدا كبيرا في جمع الأسرى المصريين وارسلهم إلى راتب باشا (321) ومع ذلك فان القائد المصري أخبر الامبارطور بأن الأسرى المصريين لم يعودوا كلهم (322) ، كما أرسل إلى حكومة مصر يخبرها بأن يوحنا لم يسلم الأسلحة واقترح عليها أن تجعل البطريرك يتصل بالمطران المصري في أثيوبيا ليستغل مكانته عند الامبراطور ليجعله يرد الأسلحة (323) وقد رد يوحنا على راتب بأن عدد المصريين قليل للغاية وأنه سيعمل على عودتهم إليه (324) وكان واضحا أن يوحنا صرف النظر عن قتال المصريين، اذ واصل انسحابه نحو عاصمته، كما أنه بعد أن وصل إليها قام بتسريح قواده وجنوده (325)ز

ونتيجة لذلك أرسلت حكومة مصر علي الروبي مندوبا رسميا مفوضا منها ومنحته سلطة التفاوض وعقد الصلح مع الامبراطور (326). وقد طلب علي الروبي منحه هدايا ليقدمها إلى الامبراطور لكي يتمكن من تحقيق أهدافه من استرداد الأسلحة ومد الحدود المصرية حتى نهر المأرب (327). غير أن مهمة علي الروبي فشلت، وذلك لطلبه مد حدود مصر إلى نهر مأرب وهو ما قد عرضه من قبل أرندروب ورفضه الامبراطور، بل رفض استمرار المفاوضات معه ولم يرض بتسليم أي جزء من بلاده أو من الأسلحة وأخبره أنه سوف يرسل معه مندوبا من طرفه إلى الخديوي ليتفاوض معه مباشرة (328).

ومما ساعد على فشلها أيضا، أن مصر استمرت في تشجيع الرؤوس المناوئين للامبراطور وعلى رأسهم ولد ميكاييل حاكم هماسين، مما جعل يوحنا يعتقد بأن تأييد راتب باشا لهذا الرأس المنشق يوضح أن التفاهم معه لا يؤدي إلى نتيجة فأرسل مندوبه إلى الخديوي في القاهرة مباشرة (329). وبالفعل جاء هذا المندوب إلى مصر وتفاوض مع الخديوي، غير أن هذه المفاوضات لم تسفر عن شئ، فلم تخطط الحدود بين البلدين كما لم تحصل أثيوبيا عل امتيازات معينة تمكنها من استخدام ميناء مصوع (330).

وكان يوحنا يأمل في الصلح مع مصر لكي يحصل على مطران جديد بدلا من المطران المتوفى، لذلك أعلن على شعبه أن اتفق مع مصر وأن المطران الجديد سيحضر، وستعود قواف التجارة إلى سيرها الطبيعي بين أثيوبيا ومصوع (331). غير أن مصر عملت عن طريق راتب باشا على اشاعة عدم الاتفاق مع يوحنا بين الرؤوس الأثيوبيين وذلك لتحريضهم ضد الامبراطور فأرسل القائد المصري عدة رسائل إلى هؤلاء الرؤوس جاء فيها، بأنه لم يتم الصلح ولن يحضر مطران مصري إليه (332) ، وبذلك فشلت مهمة المبعوث الأثيوبيا في الاتفاق مع الحكومة المصرية وعاد إلى بلاده، وعندما عاد لم يخبر يوحنا بأطماع إسماعيل الحقيقية التي لم يكتشفها، لذلك اعتقد الامبراطور أن القواد المصريين للحملة هم الذين يبغون الحرب والتوسع، فبعث إلى عثمان رفقي الذي عين قائدا للحملة بعد رحيل راتب باشا في 15 يناير 1877 (333) برسالة قطع فيها المفاوضات معه تماما ورفض محاولاتهم لتحديد الحدود بين البلدين واستيلائهم على أراضي بلاده (334).

ومع انقطاع المفاوضات ، عادت الغارات الاثيوبية المكثفة على الحدود والقرى المصرية، (335)، وقاد هذه الغارات الرأس ألولا الذي منع أهالي هماسين وغيرها من البلاد الأثيوبية من التوجه إلى مصوع للتجارة أو لأي غرض آخر. وقد أدت هذه الغارات إلى انتشار الفزع والاضطراب بين هذه المناطق مما دفع عثمان رفقي إلى أن يرسل بعض قواته لتدعيم مناطق الحدود ، ولحفظ الأمن واطمئنان الأهالي بها كما دعمت قلعة أركيكو وحامية مصوع، وبعث عثمان رفقي برسالة تحذير إلى الامبراطور وقائده الرأس ألولا من هذه الغارات، إلا أن يوحنا ضرب بها عرض الحائط ولم يهتم بها (336).

ولما كان يوحنا يرفض التفاوض مع عثمان رفقي لاعتقاده أنه ينتجه سياسة عدائية توسعية مخالفة تماما لسياسة اسماعيل والتي ظن خطأ بأنه لا يبغي العداء أو التوسع، كان لابد من شخص جديد يقوم بالتفاوض فسعى القنصل الانجليزي إلى تعيين جورج تشارلس جوردون حاكما عاما للسودان ليتولى هذه المهمة وبالفعل تم ذلك ووصل جوردون إلى مصوع في 26 فبراير سنة 1877، وكان الهدف الهام والعاجل هو حل المشاكل القائمة بين مصر وأثيوبيا وعقد معاهدة سلام مع يوحنا (337). وقد أخبر عثمان رفقي الامبارطور يوحنا بهذا التعيين وأنه لا مانع من استئناف المفاوضات معه اذا كان يرغب في ذلك (338).

وقد أرسل جوردون إلى يوحنا بمجرد وصوله إلى مصع، يطلب منه ارسال مبعوثه للتفاوض معه، واعتقد جوردون خطأ بأن يوحنا سيكون سعيدا لاجراء مفاوضات السلام معه، الا أنه لم يكن مصيبا، اذ كانت مطالب يوحنا كشرط لاستقرار دائم مع مصر منحه ميناء مصوع وبلاد بوجوس وتسليم ولد ميكاييل أو على الأقل إجباره، على الكف عن الاغارة على أثيوبيا. ولما كان من الصعب على مصر التخلي عن صديقها المخلص هذا، فإن جوردون قد عرض عليه أن يحكم بعض الاقاليم في المناطق المصرية بعيدا عن الحدود الإثيوبية (229)، وحاول جوردون لكي يكسب ثقة يوحنا، أن طلب من مصر تعيين المطران الذي يطلبه وذلك ليدفعه إلى ابرام الصلح واستقرار الأمور بين البلدين (340).

لكن الحكومة المصرية رفضت طلب جوردون هذا، لأن يوحنا لم يطلب هذا المطران بصفة رسمية، وتخاف من ارساله فيقتل بسبب اضطراب الأمور في أثيوبيا نفسها، وبينها وبين مصر. كما ألمحت إلى أهمية وجود المطران المصي في أثيوبيا وتأثيره في تدعيم حكم يوحنا، مما قد يؤدي إلى زيادة غاراته على الحدود المصرية وبالتالي فشل المفاوضات معه. على أنه في حالة الصلح معه فإن مصر على استعداد لارساله إليه، بل ينص عليه في شروط هذا الصلح (341). وقد اقتنع جوردون برأي الحكومة المصرية هذا، بل طلب عدم تعينه حتى ولو طلبه الامبراطور الرسمي إلا بعد فترة من الوقت (342). وربما ساعد على اقتناع جوردون بهذا، أن يوحنا لم يرد عليه عندما دعاه للمفاوضة.

وكرر جوردون اتصالاته بالأثيوبيين، فاتصل بالولا قائد يوحنا، وعرض عليه الصلح ووافق الولا على ذلك ولكن بعد القضاء على الرؤوس الخارجة على يوحنا، وأنه – أي ألولا – سوف يعرض على يوحنا مشروع الصلح، وبعد عودته يرسل إلى جوردون رسالة يذكر فيها الرد على مشروع الصلح هذا (343). وعلى ذلك حرر جوردون شروط الصلح من أربع نسخ اثنتين باللغة العربية، واثتنين باللغة الأثيوبية وأرسلها مصحوبة برسالة منه إلى الامبراطور، وقد وقع جوردون على هذه النسخ الأربعة وعلى الرسالة أيضا، بقصد حث الامبراطور على الموافقة، أما في حالة عدم الموافقة فيرسل رسالة يستدعيه فيها إليه وذلك لاستمرار المفاوضات لوضع حل للمشاكل المتفاقمة بين البلدين، (344). وقد وافق الخديوي على الشروط التي وضعها جوردون، كأسس للصلح وذلك عندما أرسلها إليه بناء على طلبه (345).

وكانت هذه الشروط تتلخص في التخلي عن الحرب ومنع نشوبها مرة أخرى، وحل مسألة الحدود بارجاعها إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وتنمية التجارة بين البلدين، العفو عن كل من إلتجأ إلى مصر من قبل، ومنع عساكر ولد ميكاييل بالتعدي على حدود أثيوبيا، وموافقة مصر على وجود مندوب ليوحنا في مصوع لرعاية رعاياه وحرية ارسال البريد للطرفين، وتحديد الكمية المسموحج بمرورها من الذخيرة والسلاح كل عام وضمان اتصال يوحنا بالخارج وسفر كل من يرغب من الأثيوبيين بالتوجه إلى الدول الأوروبية، ودخول الأوربيين إلى أثيوبيا بدون قيد أو شرط (346).

ووافق يوحنا – بعد شهر ونصف من اعلامه بها – على هذه الشروط وأسرع جوردون وأخبر الخديوي بموافقة يوحنا هذه فهنأ الخديوي جوردون على هذه الأخبار السارة (347). وكان الدافع وراء موافقة يوحنا هذه هي ثورة منليك في الجنوب (348)، وولد مياكييل في الشمال، وبالتالي خوفا من اتفاق الأخير مع المصريين منتهزين في ذلك فرصة انشغال يوحنا مع منليك فيزخفون معا على عدوه، وبذلك يصبح يوحنا بين شقي الرحى. وكان ولد ميكاييل قد عرض على جوردون فعلا التحالف معا للقضاء على يوحنا إبان صراعه مع منليك، إلا أن جوردون رفض هذا العرض، وطلب منه أن يحافظ على السلام مع الامبراطور يوحنا (349).

لكن ولد ميكاييل لم يوافق على رغبة جوردون في حفظ السلام مع يوحنا، لأنه فهم هدف الامبراطور الخادع من موافقته على شروط الصلح، وانه أراد أن يوهم منليك بأنه قد اتفق مع المصريين، وأنه لا معنى لخروجه هذا، وكان يوحنا يعلم تماما باتصال منليك بمصر (350). هذا بالاضافة إلى أن ولد ميكاييل كان يريد العودة إلى حكم هماسين التي كان يحكمها أجداده وعزله عنها يوحنا (351). لذلك لم يقبل هذا الاتفاق أو الهدنة المسلحة لأنها تدعم حكم يوحنا (353).

وقد بدأ ولد ميكاييل في يولية سنة 1877 محاولاته لنسف هذا الاتفاق فهدد الأهالي في هماسين، باعدام كل من يزرع الأرض، مما دفعهم إلى هجرة أراضيهم في سنهيت، وأرسل الامبراطور إلى مدير سنهيت المصري رسالة يطلب فيها عودة أهالي هماسين إلى بلادهم حسب شروط الصلح ومنعم من زراعة أراضي سنهيت. وقد أمر جوردون بعودة هؤلاء الأهالي إلى بلادهم بالقوة وذلك حرصا على الاتفاق مع يوحنا (353). كما حاول جوردون سجن ولد ميكاييل بسبب أعماله هذه إلا أن الحكومة المصرية رفضت ذلك (354). مما أدى إلى ازدياد أعماله العدوانية ضد هماسين وإلى احتاج يوحنا عليها وعلى سكوت مصر ازاءها (355).

ولما كان من الصعب على جوردون التخلص من ولد ميكاييل بسبب مؤازرة مصر له عرض على يوحنا الاشتراك معا في القضاء على ولد ميكاييل، ولكن الامبراطور لم يجبه إلى طلبه هذا (356). وازاء ذلك تفتق إلى ذهنه عن فكرة أن يدفع ولد ميكاييل إلى الاغارة على عدوه منتهزا غياب يوحنا لمحاربة منليك، وذلك على ألا يكون بعلم الحكومة المصرية أو بايعاز منها (357). وربما كان سبب دفع جوردون لولد ميكاييل هذا هو اعتقاده بأن قوة يوحنا وجيشه قد يقضي عليه، ولكنه عندما نجح ولد ميكاييل في أن يفتح الطريق إلى عدوه حاول منعه وطلب منه الكف عن الحرب والحضور إلى مصوع (358). بل طلب من مصر أن ترسل جيشا قويا لتحتل هماسين وضفاف نهر مأرب (359).

لكن ولد ميكاييل رفض الانصياع له، وعبر عن استيائه قائلا بأنه لا يخضع له ولا لانجلترا وإنما لمصر ولحكومتها وان جنوده يحملون أسلحتها وكان عثمان رفقي قد أمده بكمية كبيرة من الذهيرة. وقد واصل ولد ميكاييل زحفه حتى أنه قتل قائد حامية عدوة، وأصبح الطريق مفتوحا للاستيلاء على عاصمة يوحنا (369). وعندما رأى جوردون ذلك كتب إلى مدير التاكه ومأمور سنتهيت أن يعملا على إيقاف ولد ميكاييل والقبض عليه حتى لا يكون سببا في نسف المفاوضات مع يوحنا. بل طلب عدم عودته مرة أخرى إلى أراضي حكومة مصر (361). وواضح أن جوردون عندما وجد أن فكرته قد فشلت بل قد تؤدي إلى ازدياد نفوذ ولد ميكاييل، وقد ينتج عنها اضعاف حكم يوحنا وأثيوبيا، نقض تأييده وتشجيعه لولد ميكاييل واعتبره عاصيا لأمره وطلب ايقافه.

والواقع أن جوردون كن يعمل لتدعيم حكم يوحنا ، فبالاضافة إلى محاولة وقف تقدم ولد ميكاييل فإنه اقترح اقتراحا غريبا على الحكومة المصرية بأن تمنح يووحنا حكم بوجو التي كان يطالب بها من قبل، وذلك بحجة التخلص من تابع مخلص لها هو ولد ميكاييل. ولما كان جوردون يعلم أن مصر لن توافق على ذلك (362)، عاد فاقترح أن تعطي مصر لأثيوبيا خراج هذه المنطقة وهو مبلغ كبي يصل إلى سبعة آلاف ريال سنويا، وهو ما كان يوحنا يأخذه قبل خضوعها لمصر، أي أن يعترف ويؤكد تبعية هذه المنطقة ليوحنا، بل إنه يريد دفع أموالها لأثيوبيا لدعم حكم امبراطورها ويؤكد سيادته على بوجو وأن مصر تديرها لحسابه، وبذلك يحافظ على وحدة وسلامة أثيوبيا (363).

وقد رفضت مصر هذه المقترحات وتمسكت بتبعية بوجوس لها، كما استنكرت اعطاء يوحنا أموالا قد يفهم منها على المستوى الدولي أنها – أي مصر – تابعة لاثيوبيا وفي هذا تحقير وازدراء لا يليق بها أن تفعله (364). وقد تراجع جوردون عن اقتراحه هذا، وذلك لحكومة مصر أنه سيتباحث لو قابل الامبراطور في موضوع ولد ميكاييل فقط (365).

وأرسلت مصر إلى عثمان رفقي بأن لا يتعرض ولا يتدخل في شئون ولد ميكاييل ولا ينفذ أوامر جوردون بالقبض عليه أو إرجاعه إلى منطقته (366) كما أمر اسماعيل بأن لا يتدخل في هذا الموضوع ما دام ولد ميكاييل يحارب يوحنا من تلقاء نفسه دون تدخل مصر (367). وقد برر جوردون عمله هذا بأن اعتداء ولد ميكاييل هذا قد يؤدي إلى الحرب مع يوحنا، ولا يعلم رد الفعل الأوروبي اذا نشبت هذه الحرب، اذ من السهل تفسيرها بأن مصر حرضت ولد ميكاييل ضد أثيوبيا (368). لكن انتصار ولد ميكاييل هذا قد انقلب إلى هزيمة على يد ألولا الذي أرسله يوحنا (369). وقد نتج عن ذلك هروب ولد ميكاييل إلى ايليت، وطلب من السلطات المصرية في مصوع تزويده بالمؤن، فرفض جوردون، أرسل إلى مصر يطلب مددا حربيا لحماية مصوع من الهجوم قد يقوم به ولد ميكاييل، واقترح في حالة تعذر وجود قوات كافية أن يطلب من قنصل بريطانيا في مصر أن يراسل حاكم عدن ليرسل باخرة حربية إلى مصوع مؤقتا لهذا الغرض (370).

غير أن مصر لم تهتم باقتراح جوردون هذا وانما اهتمت بالولا الذي قد يغزو بوجوس في تعقبه لولد ميكاييل، لذلك طلبت من حكمدارها أن يتخذ الاجراءات، الكفيلة بحماية هذه المنطقة، وحماية الارسالية الكاثوليكية كذلك (371). وعندما وجد ولد ميكاييل نفسه محاصرا من المصريين والأثيوبيين، طلب الصلح مع يوحنا، وبالفعل تم ذلك (372)، هذا في الوقت الذي اتفق فيه الامبراطور مع منليك – بدون حرب – على أن يعترف الأخير بالأول كملك لأثيوبيا (373)، وهكذا بفضل جوردون ، استطاع يوحنا أن يوحد بلاده كلها تحت سيطرته، وأصبح يفاوض مصر وهو في مركز القوة، في حين أن مصر فقدت أخلص رجالها الأثيوبيين، ولد ميكاييل الذي كان يثير المتاعب ليوحنا، وكان من المفروض تدعيمه وتحويل منطقته إلى دولة حاجة تسبب المتاعب ليوحنا، وربما استطاع ولد ميكاييل أن يضم إليه بعض الرؤوس المتناوئين للامبراطور، فيقوض حكمه تدريجيا، ولكن ذلك لم يحدث بفضل سياسة جوردون التي اتبعها في التخلي عنه.

وعندما استقر الأمر ليوحنا، أرسل إلى جوردون بطلب منه أن تبدي حكومة مصر رغبتها في الصلح رسميا، وقد عرض جوردون ذلك على حكومة مصر وطلب منها الرأي في اعطاء الامبراطور نقطة أميديب، وتعليماتها بشأن تخطيط الحدود، وارسال مطران مصري إلى أثيوبيا، وقد أخبرته – حكومة مصر – أنها لا تفرط في أراضيها وتوافق على ارسال مطران إلى أثيوبيا (374). وعلى ذلك فقد أرسل جوردون بالموافقة إلى يوحنا الذي ارسل إليه مندوبه فقابله في القضارف، حيث سلمه شروط الصلح التي يتم التفاوض على أساسها (375)ز

وكانت تنحصر في تمسك مصر بأملاكها في بوجوس والنمسا ومنهل والماريا بقسميها وأميديب وما يجاورها، وتعترف مصر بيوحنا امبراطورا لأثيوبيا التي يكون لها قنصل لرعايا مصالحهاة ورعاياها في مصوع، وتعين مطرانا لها، وتسمح لجميع الاثيوبيين الراغبية في زيارة القدس بالمرور بل وتقديم المساعدات اللازمة لهم متى حملوا خطابات من حكومتهم، وتمنع مرور السلاح عبر أملاكها إلى أعداء يوحنا بقدر الامكان، وتتعهد أثيوبيا برد الأسرى إلى مصر (376)، وأوصى جوردون حكومة مصر أن تسعى لدى بريطانيا لاعادة تاج تيودور الذي أخذه نابيير إلى لندن سنة 1668 واذا لم يتيسر ذلك فيصنع تاج شبيه به، بهدف كسب ثقة يوحنا ونجاح المفاوضات معه، كما أوصلى بسرعة تعيين المطران وارسال أحد الأوروبيين مع مندوب مصري للتفاوض مع الامبراطور حتى يطمئن إلى عقد الصلح مع مصل. وكان هذا المفاوضان (الأوروبي والمصري) سيتفاوضان نيابة عن جوردون مع الإمبراطور وذلك لاضطراره إلى العودة إلى الخرطوم (377).

وبالرغم من توصياته هذه فإن جوردون أرسل مع المندوب الأثيوبي المندوب الأوروبي فقط دون مندوب مصري، ومعه شروط الصلح، وكان هذا المندوب هو وستانلي الإنجليزي Wesatanely (378). على أن هذا المندوب الإنجليزي فشل في الوصول إلى أي اتفاق مع الامبراطور بشأن هذه الشروط المعروضة عليه (379)، اذ أن يوحنا طلب اعطاءه بوجوس والهلهل والقلابات وشنجالا والماريات، كما طلب مقابلة جوردون شخصيا، وقد أوضح الأخير للمسئولين في مصر أنه لا يوافق على اعطاء يوحنا ما ذكره للمندوب الأوروبي (380)، وبذلك فشلت المفاوضات وتأزم الموقف من جديد، واد من تأزمه أن حليف الأمس أصبح عدو، إذ أرسل ولد ميكاييل مندوبه إلى مدير سهنيت يخبره بأنه ارسل بعض أتباعه لزراعة الأرض في هلهل بالقوة. وبالفعل تم ذلك، ولم تستطع القوة الحربية المصرية الصغيرة أن تحول دون ذلك (381). وربما كان ما فعله ولد ميكاييل يعود إلى أن يوحنا بدأ يخطط من جديد للهجوم على الحدود المصرية مستغلا في ذلك ولد ميكاييل، إذ عينه على المنطقة الواقعة بين القاش وسنهيت وأمره بالهجوم على الأخير. وقد تعهد ولد ميكائييل للامبراطور، بقطع أسلاك التلغراف ومواسير مياه الشرب التي تمد مصوع، ونهب الأهالي الخاضعين لمصر، يشاركه في ذلك رأي ألولا (382).

وبالرغم من خطورة هذه التطورات على أملاك مصر في هذه المنطقة، فإنها لم تحاول أن تفعل أكثر من تكليف الحكمدار باتخاذ الاحتياطات الكفيلة لمنع أي هجوم أثيوبي على الأراضي المصرية أو التعدي عليها (383)، كما أن جوردون اعتبرها مجرد شائعات لا اساس لها من الصحة، وذكر أنه لا فائدة من قلة الجنود أو كثرتهم بسنهيت، وعلل ذلك بأن اجراءات الصلح جارية لأن الامبراطور طلب مقابلته شخصيا، وأنه لم ينفذ ذلك بسبب رغبة الحكومة المصرية في استدعائه إلى مصر، بمعنى آخر أن يوحنا لا يفكر في الهجوم على مصر وأنه مستمر في رغبته في الاتفاق والمصلح معها (384)، لكن الحكومة المصرية رأت تأجيل زيارة جوردون لمصر حتى ينهي مفاوضاته مع يوحنا، وعلى ذلك فقد أرسل جوردون برسالة إلى يوحنا يطلب فيها مقابلته (358).

والواقع أنه لم يكن في وسع مصر في هذا الوقت سوى ذلك، لأنها لا تستطيع إرسال حملة لمحاربة يوحنا مرة أخرى لعدم موافقة الدول الأوروبية المسيطرة على مالية مصر بعد انشاء صندوق الدين، ولما كان جوردون يعلم ذلك جيدا، فقد ذكر أنه ليس هناك سوى ذهابه إلى يوحنا أو تعيين مندوب من طرف الخديوي ، وبالاتحاد مع دولتي إنجلترا وفرنسا، وأوضح بأنه ما زال مستعدا للهذاب إليه (386). وهكذا دخل جوردون في فلسفة سياسية ليحقق ليوحنا أمنية قديمة، وهي ضم بوجوس والتي كان جوردون، أشار من قبل إلى اعادتها له أو منحه ضرائبها، وبذلك يكون جوردون قد ساهم في توطيد حكم يوحنا واخضاع ولد ميكايل له وأخيرا اعادة بوجوس له.

وكانت قوات ولد ميكاييل قد دخلت سنهيت ورابطت فيها، وطلب قائده المؤن لجنوده (387). وطرد مزارعي الدخان الأجانب (388). وقد أدى انتشار القوات الأثيوبية في المنطقة الحدود والاقاليم الخاضعة لمصر، ان اضطراب الأمن والمواصلات والبريد بين مصوع وسنهيت بسبب تعدي الأثيوبيين هذا (389). ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أحاط ولد ميكاييل بقواته طابية كيرين، وطالب أهلها بدفع الضرائب وقد تم له ذلك بسبب ضعف حامية الطابية المصرية (390). وقد شجع ضعف مصر هذا على استمرار تهديد ولد ميكاييل لدرجة أن بعض قواته دخلت المناطق التابعة لمصر وطالبتها بالضرائب، كما فرض ولد ميكاييل نفوذه وقوته على سلطات مصوع المصرية (391).

وفي أثناء ذلك عزلت الدول الأوروبية اسماعيل عن حكم مصر في يونيه 1879 (392) وعندما عمل جوردون ذلك قدم استقاله (393). وهكذا انتهى حكم اسماعيل وحكمدارية جوردون للسودان وأملاك مصر في شرق السودان وشمال أثيوبيا مهددة من الامبراطور يوحنا ورؤوسه. بعد أن كانت مصر تهدد أثيوبيا وحكم يوحنا، وذلك بفضل جوردون وسياسته.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ثالثا: العلاقات في الفترة الأولى من عهد توفيق 1879/1882

اشتد التدخل الأوروبي في الشئون الداخلية لمصر على أيدي ممثلي الدول السياسية والقناصل من ناحية، ووكلاء المرابين الدوليين وسماسرتهم من ناحية أخرى، مما أدى إلى نشوب صراع بين حكام مصر وهذه الوصاية الدولية بلغت إلى أوجه سلطتها عندما عزلت الخديوي اسماعيل (394). وقد أصاب التدخل الأوروبي بعزل اسماعيل وتعيين توفيق مركز الخديوي بالضعف، مما نتج عنه اعتماد حكومة الخديوي الجديدة على مؤازرة هذه "الوصاية الدولية"، وتدهور الأوضاع الداخلية في مصر والسودان وثورة شعبيهما بعد ذلك على هذا التدهور والتدخل الأوروبي (395).

وكانت نتيجة هذا الضعف أن حددت حكومة توفيق حكمادرية جوردون للسودان وتكليفه بحل مشكلة الحدود بين أملاك مصر وأثيوبيا، وتوطيد السلام مع الامبراطور يوحنا (396)، وذلك بالرغم من فشله السابق وتطور الأحداث حتى أصبحت قوات يوحنا تهدد وتغير على الأراضي الخاضعة لمصر في شرق السودان.

بدأ جوردون بعد أن أعيد تكليفه بمهمة رسول السلام مع يوحنا، يقوم بنشاطه السياسي في القاهرة في ظل "الوصاية الدولية" على مصر، أي أنه يعمل لصالحها ولمصر بعد أن كان يعمل في حكمداريته السابقة ذد مصر بتوطيد حكم يوحنا. لذلك كتب إلى القنصليين العامين لفرنسا وانجلترا في مصر بضرورة تدخلهما للحصول على ما سماه "بالأشياء الحلوة"، وتجنب الأشياء المرة ، أي أنه ما دامت مصر قد أصبحت في مثل هذه الحالة الضعيفة، فإنه آن لهما أن يحافظا على أملاكها معا ولا داعي للتنافس، وأن يعملوا على إبعاد يوحنا عنها (397). وبالفعل استجاب قنصلا فرنسا وانجلترا لتوجيهات جوردون هذه. وهو شئ لم يحدث من قبل بل كان يحدث العكس فجعلا دولتيهما متحدتين معا في ارسال برقيات إلى الامبراطور يوحنا يأمر أنه بالتخلي عن مطامعه في حدود الحكومة المصرية، وإنهما سيهاجمانه، اذا قام بغاراته على هذه الحدود. كذلك أصدرت فرنسا تعليماتها إلى قنصلها في مصوع بالتوجه إلى ولد ميكاييل ورأس ألولا، ويأمرهما بوقف غاراتهما على حدود مصر (398). ولم يكتف جوردون بذلك بل أرسل إلى عدن وجدة يطلب إرسال مراكب مدفعية إلى ميناء مصوع (399).

وكتب الخديوي توفيق إلى محافظ مصوع وسواكن، يطلب منه أن يحرر رسائل إلى ولد ميكاييل ورأس ألولا والامبراطور، بأن فرنسا وانجلترا تحذرهم من الاعتداء على حدود مصر، وأن جوردون سيحضر لمقابلة الإمبراطور، ويطلب – أي الخديوي – وقف هذه الغارات حتى يصل حكمدار السودان، وشدد الخديوي على محافظة مصوع وسواكن بأن يكون مستعدا لأي تطور قد يطرأ حتى يصل جوردون ويتسلم مهامه (400).

وإبان رحلة ذهاب جورجون إلى مصوع، التي وصلها في 6 سبتمبر 1879 (401)، ازدادت الغارات التي كان يشنها الرؤوس الأثيوبيون على الحدود المصرية، تلك الغارات التي أشاعت الفزع بين الأهالي بسبب أعمالهم البربرية (402). كما انتشر جنود ولد ميكاييل والامبراطور وجيوش أربعة من كبار الرؤوس الأثيوبيين في قرى سنهيت يطلبون بالقوة من أهاليها المؤونة. هذا في الوقت الذي كان زعيهم فيه فيه عدوه لحضور المؤتمر الذي دعى الامبراطور إليه في عيد الصليب (17 توت) 27 سبتمبر سنة 1879. وقد علل وجودهم بأنهم ينوون الاغارة على نقطة سنهيت بعد عيد الصليب هذا (403). ولم تستطع السلطات المصرية في هذه المنطقة أن تعمل شيئا لهم بل أوقف اتخاذ أي اجراء ضدهم حتى جوردون (404).

وبدأ جوردون بعد وصوله إلى مصوع، يتدارس الموقف مع قنصل فرنسا فيها فاتضح له سوء موقف مصر في يوجوس، وعرض جوردون هذا الموقف السئ على الخديوي وذكر أن جنود أثيوبيا المنتشرين فيها، يجمعون الضرائب من أهاليه. وأوضه أنه سيقابل راس ألولا المفوض من طرف الامبراطور في كل ما يجريه. كذلك أخبر جوردون الامبراطور عن طريق الرأس ألولا أنه سيقابل ومعه تفويض من الخديوي لانهاء مشكلة الحدود. وأشار أنه في حالة رفض راس ألولا مقابلته، فيعني ذلك أن الامبراطور قرر الحرب ضد مصر، وفي هذه الحالة فإنه سيتوجه إلى سنهيت ليعمل ما تحتمه عليه الظروف. وكرر جوردون رجاءه إلى كل من قنصل انجلترا وفرنسا بالتأكيد على الامبراطور بعدم محاربته لمصر لأن هذا يعني أنها تحتاج للدفاع عن نفسها حوالي 300.000 جنيه يلزم أخذها من الأرباح المفروض أن تأخذها هذه الدول كعائد لأموالها التي اقترضتها مصر منها، أي أن جوردون الآن أصبح يتفاوض لحساب "الوصاية الدولية" وليس لحساب الخديوي ومصر (405).

وبعد أن عرض جوردون الموقف على الخديوي بدأ يشرح خطته الحربية والسياسية والمتوقفة على الخطوة التي ستقوم بها أثيوبيا في 27 سبتمبر سنة 1879. فذكر أنه في حالة فشل مقابلته مع ألولا، سيعود غلى مصوع وينتهز فرصة أن الاثيوبيين لن يهجموا قبل هذا اليوم، فيقوم بتوزيع الجنود على المراكز الهامة حتى تكون مستعدة قبل هذا التاريخ، واقترح – قبل فشل مقابلته مع ألولا – إخلاء قلعه كيرين وترحيلها إلى مصوع لتقويتها وذلك لأنه في حالة الحرب ستقطع أثيوبيا الطريق مما سيؤدي إلى سقوطها وبالتالي تفقد مصر 180 جنديا مصريا موجودين في هذه القلعة ومع هذا الجلاءالمصري عن سنهيت لا يكون هناك أي حق لمص فيها بعد ذلك (406).

وفي حالة فشل المفاوضات مع ألولا وانسحاب مصر من بوجوس، فإن جوردون سيتوجه إلى أميديب ويتخذ الاحتياطات اللازمة لمنع وصول الأثيوبيين قرب مدينة كسلا كذلك يرسل الأسلحة غلى أعداء يوحنا بالقلابات، أي أنه الآن يبحث عن أعداء يوحنا لتدعيمهم بعد أن قضى على تحالف ولد ميكاييل معه، وفقدت مصر بذلك أخلص صديق لها من حكام أثيوبيا، ولكن الوضع تغير في هذه المرحلة عنه في مرحلة الخديوي اسماعيل، واقترح أيضا في حالة فشل مفاوضاته مع ألولا ورفض توفيق اخلاء قلعة كيرين، أن يترك فيها حاميتها ويتخذ الاجراءات التي تمليها عليه الظروف إلا أنه طلب ضرورة ارسال أورطة من مصر إلى مصوع، كما ألح مرة أخرى على ضرورة أن يخاطب توفيق قناصل دول أوروبا في القاهرة حتى يهتموا بمنع وقوع الحرب حرصا على مصالحهم. كما أنه اشترى الذرة الكافية لمؤونة الجنود، وأبقى وابور المنصورة في مصوع لنقل المياه العذبة إلى مصوع (407).

وقد رفض الخيدوي فكرة جوردون، إخلاء قلعة كيرين، وطلب منه أن يعمل على حمايتها مع باقي الحدود المصرية، ووافق الخديوي على مخاطبة قناصل الدول الأوروبية ونفذها فعلا، وأعرب توفيق باشا عن أمله في نجاح مفاوضات جوردون مع كل من رأس ألولا والامبراطور يوحنا حتى يعم السلام بين البلدين (408).

وعلى أية حال فقد قام جوردون في 13 سبتمبر بالتوجه لمقابلة راس ألولا (409). وفي هذا لايوم تسلم رسالة من مدير سنهيت تقول بأن ألولا قبض على ولد ميكاييل وأتباعه وقتل إبنه (410). وقد اعتقد جوردون أن هناك انقسامات وخلافات على أثيوبيا وإن مركز يوحنا مزعزع، لذلك فربما كان هذا السبب وراء ما ذكره للخديوي من أنه لن يوافق على ضياع شئ من الحدود، كما أنه لن يلين في مفاوضاته مع يوحنا (411). واعتقد أيضا أن سجن الامبراطور ولد ميكاييل يعني أن أثيوبيا لن تحارب مصر، وان قوات ولد ميكاييل المنتشرة في بوجوس، تفضل استقلالها عن أثيوبيا وعن مصر، وبالتالي يمكن ازالتها من تلك المنطقة (412).

ويبدو أن جوردون كان يشعر بأن مفاوضاته مع الامبراطور ستفشل وأن يوحنا سيضعه في السجن وذلك بالرغم من أن الأخير وصف جوردون بأنه أخوه وأخذا يشكو له ما فعله اسماعيل به من شن الحرب ضده (413). والتفسير الوحيد لهذا الاحساس الذي انتاب جوردون أنه سيتفاوض مع يوحنا لحساب "الوصاية الدولية" على مصر أي كمستعمر وليس كما كان يفعل في عهد اسماعيل يدعم حكم يوحنا، أي أن هناك تفير في سياسة جوردون ليس في صالح يوحنا وبالتالي شعر بأن الأخير سيسجنه عندما يلمس هذا الغير وعلى أية حال فقد طلب جوردون في حالة القبض عليه أن يعين علي باشا غالب قائدا للقوات المصرية في السودان وحسن حلمي قائدا لحكمدارية السودان ليقوم بتصريف أمورها فترة اعتقاله المنتظر (414).

وأخيرا وصل جوردون إلى جورا وقابل ألولا في 16 سبتمبر وتعهد الأخير له بعدم التعدي أو القتال مع المصريين لمدة أربعة شهور قادمة. وأدرك جوردون من ذلك عدم امكانية ألولا التفاوض في مسألة الحدود، لذلك قرر مقابلة الامبراطور في دبراط بور حيث كان مقيما بها في ذلك الوقت (415) وبالفعل وصل جوردون إلى هذه المدينة في 27 اكتوبر سنة 1879 (416)، وفي اليوم التالي قابل الامبراطور الذي ذكر له أنه ما دامت مصر تريد السلام فيجب أن يحصل على المتمة والقلابات وشنجالا وبوجوس، وأن تتنازل مصر عن زيلع وأمفيلا، وترسل مطرانا ومليونا أو مليونين من النفود، وفي حالة عدم الدفع فإنه سيقبل مصوع بدلا من النقود. وذكر له بأنه يستطيع أن يطلب دنقلة وبربر والنوبة وسنار وبمعنى آخر كل السودان تقريبا ويصل بحدود إلى مصر نفسها، ومع ذلك فهو لن يطلبها وانما يطلب هرر التي اعتبرها جزءا من أثيوبيا مع أنها لم تكن كذلك بل كانت امارة إسلامية مستقلة. وذكر أنه سيحرر خطابا إلى الخديوي بمطالبه هذه. وعندما قال له جوردون أن مطالبه هذه لن تجاب، ذكر أن الخديوي يكرهه ويلزم أن يحاربه، وحدد ستة أشهر للرد على مطالبه هذه، اعتبارا من تاريح وصول جوردون إليه. على أن يوحنا لم يحرر هذا الخطاب وترك جوردون وذهب في رحلة استجمام، وظل جوردون، ينتظر عودته في دبراطابور من 28 اكتوبر حتى 6 نوفمبر لتسلم هذا الخطاب الذي يحوي مطالب الامبراطور، وكانت هذه أول مرة يعرف فيها جوردون ومصر والعالم الأوروبي مطالب يوحنا وأمانيه وذلك بعد محاولات عدم قام بها جوردون من قبل للتعرف على مطالبه هذه (417).

وقد حاول يوحنا ضم جوردون إلى جانبه معتقدا بأنه مادام مسيحيا وانجليزيا فهو في صفه (418)، ولكن جوردون كان يعمل لصالح دولته الحقيقية بريطانيا، ذلك أن يوحنا كان مصمما على أن يحصل على منفذ على البحر الأحمر وهو أمر لم تكن بريطانيا تحبذه، خوفا من أن يتطور التقارب الأثيوبي الروسي إلى أن تسيطر روسيا على أثيوبيا، مما قد يسبب المتاعب مستقبلا لبريطانيا (419). وهي التي كانت قد عقدت مع مصر معاهدة في سبتمبر سنة 1877 تعترف فيها بالسيادة المصرية على الساحل الأفريقي للبحر الأحمر حتى رأس هافون. وكان الدافع الأساسي لهذه المعاهدة هو المحافظة على المصالح الانجليزية في تلك المناطق بشكل يضمن تفوق النفوذ الانجليزي في البحر الأحمر وسواحل الصومال وإبعاد الدول الأوروبية الأخرى عنها، ولذلك اشترطت على الخديوي اسماعل وخلفائه بل وعلى السلطان العثماني ألا يمنح أي قطعة أرض في مصر أو ملحقاتها لأي دولة أجنبية. والواقع أن بريطانيا راي في احتفاظ مصر بسيادتها على هذه المناطق انما هو في صالحها، ريثما تتهيأ الفرصة لاحتلال مصر بعد أن تخلت عن سياستها التقليدية في المحافظة على ممتلكات الدولة العثمانية بعد شرائها لأسهم مصر في شركة قناة السويس وبعد ما وجدت ما عليه مصر من ضعف حربي (420) لذلك لم يستطع جوردون أن يوافق يوحنا على منحه مياء على ساحل البحر الأحمر وربما كان هذا هو السبب في جعل الامبراطور يترك جوردون ويذهب إلى منطقة الحمامات في رحلة استجمام (421).

واستؤنفت المفاوضات بعد عودة الامبراطور إلى ديراطابور، وحاول جوردون أني وضح له أن حكومة بريطانيا مستعدة لتنفيذ مطالبه في بوجوس، وطلب مطران وتسهيل استيراد الاسلحة ونقل البريد وانتقال الأهالي من وإلى مصوع وبوجوس وأضاف أنه بالرغم من تعليمات الخديوي بعدم التنازل عن بوجوس إلا أنه سيبذل مساعيه في هذا الشأن. وفي مقابل هذه الامتيازات طلب جوردون هدنه سياسية لمدة ستة شهور بين مصر وإثيوبيا، وأن تكون مطالب الامبراطور والهدنة مكتوبة في رسالة الامبراطور إلى الخديوي، وقد ظل جوردون يلح في طلب هذه الرسالة، إلا أن الامبراطور رفض ذلك ولم يقبل ما عرضه عليه جوردون من امتيازات، كما أنه لم تكن لديه الرغبة في مهادنة مصر، وقد أدى تمسك كل من يوحنا وجوردون إلى تدهور العلاقات بينهما (422).

وأخيرا كتب الامبراطور رسالة إلى الخديوي لم يشر فيها مطلقا إلى مطالبه ولا إلى الهدنة التي اقترحها جوردون (423). وكانت الرسالة – كما وصفها جوردون – اهانة للخديوي توفيق، فلم يذكر أي لقب للخديوي كما خطابه بكلة أنت Tnau والتي لا تستعمل إلا لشخص أقل في الرتبة، كذلك أوضح في رسالته ما معناه أنه لا يريد الوفاق مع الخديوي إلا عن طريق الدول الأجنبية (424). وعندما أشار جوردون إلى يوحنا بأنه لم يذكر ما سبق أن ذكره من قبل بشأن طلباته، أخبره بأنه حرر هذا الخطاب بحسب ما رأى فيه مصلحته (425). وكان يوحنا من الذكاء بحيث أنه لم يصرح بأطماعه في رسالة موجهة إلى الخديوي ليطلع عليها الدول الأوروبية، وكان القنصل اليوناني في السويس ميتساكيس Miteasakis يزور أثيوبيا في فترة زيارة جوردون للامبراطور، ونصحه بأن يبعث إلى الدول الأجنبية برسالة يستغيث فيها بهم ويطلب مساهمتهم في التوسط لحل المشاكل القائمة مع مصر (426). وهكذا فشلت مهمة جوردون في وضع حل للصراع القائم بين مصر وأثيوبيا (427). وألقى جوردون مسئولية فشله على الامبراطور الأثيوبي (428).

وقد غادر جوردون معسكر الامبراطور في 8 نوفمبر ومعه خطاب يوحنا إلى الخديوي (429)، متجها إلى القلابات أقرب بلاد السودان إلى معسكر الامبراطور في دبراطابور (430). على أن الامبراطور الأثيوبي غير خط سير جوردون إلى مصوع لا إلى القلابات (431). ولم يفهم السبب في جعل يوحنا يغير طريق جوردون هذا بعد أن وصل على بعد يوم واحد من حدود السودان. واعتقد جوردون أن السبب هو رغبة الامبراطور في مصالحته لأنه غادر معسكر يوحنا متكدرا (432)، على أن يوحنا لم يقابله مرة أخرى (433). وربما كان السبب في ذلك، خوف الامبراطور على حياة جوردون بسبب وجودة ثورة زعيم جداسي. وجوردون نفسه ذكر أنه لم يكن مرتاحا وهو في هذه المنطقة لذلك ارسل إلى القلابات يطلب ارسال قوة حربية مكونة من 200 رجل إليه. وبينما هو في هذه المنطقة جاءه رجال الامبراطور ليعودوا به إلى طريق مصوع (434). والواقع أن يوحنا يسوءه بالطبع مقتل جوردون في بلاده ويؤدي إلى تدهور علاقاته بصفة عامة مع الدول الأجنبية وبريطانيا بصفة خاصة، كما أن ذلك يكشف بجلاء مدى الفوضى السائدة في بلاده، وأن الامبراطور لا يستطيع السيطرة عليها وبالتالي لا تهتم بمطالبه بل ربما يكون هناك نتائج أخطر من ذلك لو قتل جوردون.

وقد أرسل جوردون بمجرد وصوله إلى مصوع في 9 ديسمبر 1879 رسالة إلى القاهرة لم يشر فيها فشله، وانما حاول تغطيته بأن ذكر أن حكم يوحنا الاستبدادي لن يستمر طويلا لأن الأهالي سيقضون عليه، بسبب المظالم التي ارتكبها ضدهم. وأن جميع الرؤوس في أثيوبيا لا يريدون محاربة مصر وأن بعضهم مستاء من يوحنا. وطلب من مصر أن ترسل أورطة عسكرية تصل قبل قيامه من مصوع عائدا إلى القاهرة، وذلك لتدعيم المحافظة عليها في مواجهة أي عدوان قد يقع عليها من الأثيوبيين (435). أرسلت هذه الأورطة، وأرسلت أورطة أخرى إلى اقليم التاكة وذلك وبالفعل لصد أي هجوم أثيوبي على أي من المنطقتين (436).

وأخيرا اعترف جوردون بفشله في مفاوضاته مع يوحنا، وأنه لا يعرف نواياه تجاه مصر، لذلك يقترح تدعيم كافة المراكز والنقاط المصرية المنتشرة في شرق السودان، ولكي تتغلب مصر على المشكلة المالية التي تترتب على هذا التعديم والتي قدرها جوردون بأربعين ألف جنيه وهو مبلغ كبير لا تتحمله ميزانية السودان، عرض على حكومة مصر التنازل عن ميناء زولا القريب من مصوع إلى إيطاليا فتحل محل مصر في صراعها مع يوحنا وذكر أنه لن يمض أكثر من ستة شهور ألا وتقع الحرب بين ايطاليا وأثيوبيا (437).

على أن مصر رفضت اقتراح جوردون هذا كما رفضته بريطانيا التي كانت تؤدي السياسة المصرية في البحر الأحمر في ذلك الوقت ضد القوى الأوروبية الأخرى (438) وعندما شعرت مصر بمدى خطورة عدم الاتفاق مع يوحنا ارسلت سفينتين حربيتين ترابطان بصفة دائمة في مصوع لمساعدة حاميتها في الدفاع عنها ضد أي عدوان أثيوبي يقع عليها. واستدعت الحكومة المصرية جوردون إلى القاهرة لكي تتفاوض معه في آرائه واقتراحاته (439). وبمجرد وصوله إلى القاهرة قدم استقاله وغادرها إلى لندن في أوائل شهر يناير سنة 1880 (440). وترك العلاقات بين البلدين متدهورة كما كانت ان لم تكن أسوأ مما كانت عليه قبل مجيئه.

وقد أخبر الامبراطور الأثيوبي قائده ألولا بفشل المفاوضات مع مصر، وأطلب سراح ولد ميكاييل للاستفادة من معرفته بطرق سنهيت وهماسين والبلاد المجاورة للحدود الأثيوبية، وسمح له بأن يقوم بغاراته ونهب هذه المناطق. وأمر الامبراطور قائده ألولا بوضه حامية عسكرية في أسمرة على الحدود لحين حضوره بنفسه لكي يدرس معه أمر الهجوم على مصوع، هذا وقد أغار رأس ألولا على خور بكرة التابع للتأكد بقصد نهب مواشيه وبعد ذلك نهب عربان جهة مصوع. وقد أثارت هذه الأعمال العدوانية للأثيوبيين الرعب في نفوس الأهالي في هذه المنطقة فتركوا أماكنهم وانتقلوا إلى بندر مصوع، وسارع محافظ مصوع وسواكن يستند بحكومة القاهرة لكي ترسل له مددا عسكريا قويا ليستطيع به المدافعة عن حدود مصر ضد اعتداءات الاثيوبيين ويطمئن الأهالي ويهدئهم (441).

ولقد أسرعت حكومة القاهرة ، ازاء تدهور الأوضاع في هذه المناطق، وأرسلت توجيهاتها إلى سنهيت بأن تأخذ كافة احتياجاتها من الجنود والذخيرة من حامية أميديب القريبة منها سرا، وارسلت إلى مصوع أورطة جنود وسفينة حربية وأشارت على محافظةها أن يأخذ احتياجاته الحربية من حامية سواكن حتى تصل إليه الامدادات الحربية من القاهرة (442). كما عينت حكومة مصر حسن باشا حلمي في منصب الحكمدارية، وأمرته بالتوجه إلى منطقة شرقي السودان لمراقبة تحركات الاثيوبيين وأعطته صلاحيات مطلقة لكي يتخذ ما يراه ازاء هذه التحركات على الحدود كما أنها في نفس الوقت لفتت نظره إلى تجنب اثارة المشاكل مع أثيوبيا (443). كما شددت على مدير التاكه بأن يهتم بتقوية مراكز المديرية الواقعة على الحدود وتدعيم الحاميات المصرية الموجودة فيها بصورة تجعلها قادرة على التصدي لهجوم الاثيوبيين عليها وأبدت استعدادها له بتلبية احتياجاته الحربية سواء منها – حكومة مصر – أو الادارة المصرية في الخرطوم (444).

وبالفعل قام كل من محافظ مصوع وسواكن ومدير التاكه باتخاذ الاجراءات الكفيلة بتدعيم هذه المناطق، وطلب مدير التاكه من حكومة مصر مده بالجنود لكي يسد العجز الموجود في حاميات سنهيت وأميديب والقلابات بل وكسلا والفراديب التي تواجه منطقة غورة الأثيوبية (445). وحدد مدير التاكه احتياجاته بألف جندي مدعمين بذخيرتهم ومهماتهم الحربية لكي يسد هذا العجز الواضح في هذه الحاميات (446). وقد حققت مصر مطالب محافظ مصوع، وأرسلت إليه امدادات عسكرية وحربية ولفتت نظره إلى أن يعتبر حاميات بعض النقاط غيرالهامة مثل طوكر وسواكن احتياطيا له يستدعي منها ما يحتاجه عند الضرورة (447). أما بالنسبة لمدير التاكه، فنتيجة لعدم استطاعة مصر تجهيز هذا العدد الضخم من الجنود، طلبت منها الاستفادة بعربان الحدود التابعين لمصر (448). وبالفعل قد تم ذلك ووضع العربان للتصدري لما قد يقع على هذه المناطق من غارات الأثيوبين (449) هذا وقد قام حسن باشا حلمي بمهام وظيفته الجديدة على طول الحدود مع أثيوبيا (450).

وهكذا نستطيع القول أنه مع بداية سنة 1880 كانت العلاقات المصرية الأثيوبية في قمة تدهورها واصبحت أراضي حكومة القاهرة مهددة بالأثيوبيين الذين كانوا يواصلون غاراتهم واعتدائتهم علهيا (451). على أن الأثيوبيين لم ينظموا حربا شاملة على جميع النقاط المصرية المنتشرة على هذه الحدود، وذلك كما ذكر جوردون بأنهم غير قادرين عليها، بل على الاغارة فقط (452). وبالرغم من غاراتهم هذه وسيطرتهم الفعلية على سنهيت (453)، فشل الامبراطور في تحقيق أهدافه عن طريق المفاوضات، مما جعله يلجأ إلى الدول الأوروبية ومنها بريطانيا يطلب منها التوسط في العلاقات بينه وبين مصر. وفي أثناء ذلك عملت بريطانيا بفشل مفاوضات جوردون وأن يوحنا أصدر أوامره إلى راس ألولا بالتقدم نحو مصوع، فأسرعت ملكتها وأرسلت خطابات إلى يوحنا ومنليك في ديسمبر 1879 تطلب الامتناع عن الهجوم على المناطق التي يحتلها المصريون، وتعرض التوسط في هذا الصراع المصري الاثيوبي (454).

وفي يوليو سنة 1880 أبلغ القنصل الانجليزي العام في مصر سير ادوارد مانيت لورد جرانفيل بأني يوحنا يقبل عرض بريطانيا ببذل مساعيها الحميدة في هذا الصراع حتى يتم التفاهم بين البلدين. وقد عرض ذلك على رئيس الوزراء المصري رياض باشا (455). وقد نتج عن هذا التدخل الانجليزي أن خفت حدة الصراع بين البلدين، وأعيد فتح باب المفاوضات مرة أخرى بينهما في نهاية سنة 1880 وبعد أن ظل مغلقا منذ مفاوضات جوردون الأخيرة في ديسمبر سنة 1879 (456).

وكان يوحنا في الواقع يريد الاتفاق مع مصر لكي يحصل منها على مطران لكنيسته يساعده في سياسته الدينية التي بدأ ينفذها في أنحاء البلاد في ذلك الوقت (457). وكانت مصر لا تقل عنه رغبة في السلام مع أثيوبيا، ويتضح ذلك في فرمان توالية محمد رؤوف باشا الذي خلف جوردون في حكمدارية السودان في مارس سنة 1880، فقد أكد هذا الفرمان رغبة مصر القوية في السلام مع أثيوبيا (458). كما أن يوحنا أعاد العلاقات التجارية بين البلدين، كذلك استجابت مصر وأعادت العلاقات التجارية مع أثيوبيا. وكان لهذا القرار المتبادل أثر كبير في تهدئة الصراع بين البلدين (459) وقد سر يوحنا عندما علم بأن الأوامر صدرت إلى السلطات المصرية على طول الحدود المصرية بتسهيل العمليات التجارية بين مصر وأثيوبيا (460).

وقد انتهز يوحنا هذا التقارب مع مصر، وطلب منها ارسال مطران وثلاثة أساقفة، وقد استقبل الخديوي بعثة يوحنا التي أرسلها مصحوبة بهدايا ثمينة للخديوي والبطريرك، واستقبالا طيبا، ووافق على طلب يوحنا الخاص بارسال المطران والأساقفة الثلاثة إليه (461)، كما أرسل الخديوي هدية حربية عبارة عن 800 بندقية ووصفها بأنها هدية للمحبة، كما أعرب الخديوي عن رغبته في السلام مع أثيوبيا. وأشار إلى التسامح الديني الموجود في مصر وأنه لا تفرقة بين عنصري شعب مصر، وأنه ربما ذكر ذلك لما قد يكون قد سمعه عن السياسة التعصبية التي كان يتبعها في بلاده ضد المسلمين الأثيوبيين، ودعاه إلى السلام (462)، وقد شكره يوحنا على هديته الحربية، وطلب أن تستمر المحبة وأن لا تتطور إلى عداوة مثلما حدث في عهد سلفه الخديوي اسماعيل. لذلك دعاه إلى العودة إلى أملاكه الأصلية كما كانت من قبل، وتحديد الحدود بين البلدي، وأنه قد طلب تدخل ملوك أوروبا في تحديد الحدود حتى لا تقع الحرب بينهما (463).

وبالرغم من تحسن العلاقات بين مصر واثيوبيا نسبيا، فإن مصر كانت تخاف دائما من أن يغير الرأس ألولا أو غيره من الرؤوس الأثيوبيين على المراكز والحاميات المصرية المنتشرة في هذا المناطق. لذلك فقد كانت مصر تراقب تحركات جيوش رؤوس أثيوبيا وعلى رأسهم رأس ألولا ، وكانت حكومة مصر تستفسر عما تفعله حامياتها المنتشرة في حالة هجوم يشترك فيها الامبراطور مع رؤوسه وكانت النتيجة أنه في حالة النجاح في منعهم ، فإن الأثيوبيين سيتمكنون من نهب وسلب الأهالي الخاضعين للحكومة المصرية، وقد يؤدي ذلك إلى ميل الأهالي إليهم لحماية أنفسهم من القتل كما أن هجوم الاثيوبيين ينتج عنه اضطراب عام في هذه المناطق فتتعطل الطرق والمواصلات، وأوضحت أيضا أن القوات الحربية كافية فقط لدفاع عن النقاط والاستحكامات وهي في داخلها (464)، لذلك فقد صدرت الأوامر من القاهرة إلى الحاميات بأن تبقى في استحكاماتها ولا تخرج منها في حالة الحرب مع الاثيوبيين المغيرين، كما أمرت حكومة مصر المسئولين في شرق السودان بتدعيم هذه الحاميات والمراكز (465).

وقد ظل الوضع على ما هو عليه ولم تتطور الأمور إلى حروب جديدة، كما أن سير المفاوضات كان بطيئا لم يثمر شيئا. مما جعل يوحنا يرسل مرة أخرى لملكة بريطانيا في أوائل سنة 1880 يطلب منها منحه مياء أو مد حدوده إلى البحر الأحمر. واستطلعت الحكومة البريطانية عن طريق قنصلها في مصر رئيس مجلس النظار محمود باشا سامي رايه في ذلك، فذكر أن الحكومة المصرية تنوي ارسال مندوبين إلى أثيوبيا من أجل عقد معاهدة سلام، وأن هؤلاء المندوبين سوف يعينون في الحال لدراسة ما اذا كان من الممكن منح أية امتيازات اقليمية لاثيوبيا، وان الحكومة المصرية ترغب في سلام متبدال ودائم بينها وبين أثيوبيا. وقد طلب ماليت أن تعرض عليه دراسات هؤلاء المندوبين ليعرضها بدوره على حكومته، وذلك لأن يوحنا يرغب في توسطها، ومن ثم فإن تاييدها للعرض المصري قد يؤثر عليه كثيرا مما يساعد على حل هذه المشكلة. وكان ماليت يعتقد أن امتلاك أثيوبيا لميناء على البحر الأحمر قد يكون خطرا على مصر وأن أية تنازلات لا يجب الدفاع عنها من جانب بريطانيا، الا اذا أصبح موقفها من الحماية نحو مصر قد تغير إلى العداء. ومع ذلك لم يتم شئ من هذا اذ أن بريطانيا احتلت مصر في سنة 1882 (446).

وربما كان السبب وراء بطء المفاوضات وعدم احرازها أي تقدم، أن مصر انشغلت بالثورة العرابية، وعندما وصلت إلى الحكم انشغلت بنفسها وبالأخطار المحدقة بها، ولم يكن لديها من الوقت ما يسمح لها بالتفرغ لشئون السودان، واستقرار الحدود بينه وبين أثيوبيا. ولذا وجد محمد رؤوف حكمدار السودان نفسه في موقف لا يحسد عليه، فالحكومة العرابية لم تهتم به كما أنه لم يكن لديه الامكانيات اللازمة سواء من الجنود أو الذخيرة أو المال لكي يدعم الحكم المصري في السودان، وكان نشوب الثورة المهدية وتفاقهما جعله يصرف كل جهده للقضاء عليها بعد أن وصلت إلى مرحلة هددت فيها الحكم المصري في السودان، وكان نشوب الثورة المهدية وتفاقهما جعله يصرف كل جهده للقضاء عليها بعد أن وصلت إلى مرحلة هددت فيها الحكم المصري في السودان تهديدا خطيرا، لذلك لم يحاول أن يدفع بعجلة المفاوضات مع يوحنا مباشرة، بل ظل التفاوض كما راينا عن طريق بريطانيا وقنصلها في مصر. وبالرغم من جهد محمد رؤوف باشا في علاج الثورة المهدية فإن الحكومة العرابية اعتبرته عاجزا عن اخماد ثورة المهدي وعزلته، وعينت عبد القادر باشا حلمي حكمدارا على السودان في 21 فبراير سنة 1882 وألحقت تحت حكمداريته كل السودان وملحقاته (467).

على أن هذا التغيير لم يؤد إلى أي تحول في العلاقات المصرية الاثيوبية، اذ أن الحكمدار الجديد انشغل هو أيضا بالثورة المهدية، وأخفقت جهوده هو أيضا في القضاء عليها لنفس الاسباب التي أدت إلى خافق سلفه (468). وبذلك نستطيع أن نقول أن الثورة المهدية في مرحلتها الأولى أدت بصورة غير مباشرة إلى عدم استقرار مشاكل الحدود بين مصر وأثيوبيا، كما أن الاحتالال البريطاني لمصر قد لعب دورا كبيرا في العلاقات بين البلدين التي دخلت مرحلة جديدة متأثرة بها.








الفصل الثاني: أثر الاحتلال البريطاني لمصر والثورة المهدية في السودان على العلاقات السياسية المصرية

=تمهيد

كان لاحتلال بونابرت لمصر أثر كبير في استعمارها بعد ذلك. اذ وضح لبريطانيا أهمية مصر لامبراطوريتها وأن من يسيطر عليها يستطيع أن يهدد أقصر طريق موصل بين بريطانيا وامبراطوريتها. على أ، التنافس الفرنسي الإنجليزي على مصر، أجل هذا الاحتلال البريطاين إلى سنة 1882 (1). وقد أدى هذا التنافس إلى ازدياد تدخلها في شئون مصر الداخلية مما نتج عنه نوع من الوصاية الدولية عليها. لاسيما بعد أن نجحت في عزل اسماعيل وتولية توفيق وكان في عملها هذا دليل على ما وصلت إليه من قوة ونفوذ على البلاد. وكان توفيق لا يميل إلى النظم الدستورية أو الحكم النيابي مما صادف هوى لدى بريطانيا وفرنسا. كما أن ذلك لم يجد قبول من الرأي العام المصري بصفة عامة ورجال الجيش المصريين منهم بصفة خاصة مما نتج عنه قيام الثورة العرابية (2).

وقد أثار انتصار الثورة العرابية وتأييد الشعب لها وتشكيل مجس النواب واعداد الدستور الجديد، كلا من بريطانيا وفرنسا لأن هذه الاجراءات الديمقراطية ستحد من سيطرتها في البلاد فقررتا العمل معا في احتلال مصر (3). إلا أن بريطانيا قامت منفردة بهذا العمل واحتلت مصر في 14 سبتمبر سنة 1882. وقد نتج عن ذلك أن زال التفاهم الفرنسي البريطاني وظلت فرنسا تطالب بجلاء بريطانيا عن مصر وتنتهز كل الفرص لتحقيق هذا الجلاء (4).

وقبل احتلال انجلترا لمصر بعام تقريبا نشبت الثورة المهدية في السودان نتيجة الشدة والعنف في القضاء على تجارة الرقيق والتي طبقها كل من صمويل بيكر وجوردون ومحمد رؤوف باشا. بالاضافة إلى الضرائب الفادحة التي فرضت على الأهالي فزاد من تذمرهم ودفعهم إلى الاتفاف حول محمد أحمد الذي لقب نفسه بالمهدي المنتظر (5). وادعى بأنه مكلف من الله عز وجل بتأسيس دولة اسلامية مترامية الأطراف عاصمتها مكة. وهكذا نشبت الثورة المهدية وانتشرت في أنحاء السودان وأدى انتشارها في السنوات القليلة التالية إلى أن عجزت حكومة الخرطوم الضعيفة عن كبح جماحها أو اخمادها ولم يكن في مقدور حكومة مصر بسبب الاضطرابات الداخلية بها إرسال النجدات إلى الحامية المصرية في السودان.

وعندما احتلت بريطانيا مصر بعد ذلك، اتخذت سلطات الاحتلال موقفا سلبيا ازاء الثورة المهدية، اذ آثرت عدم تحمل مسئولية أي اجراء تتخذه حكومة الخديوي توفيق في القاهرة للقضاء على هذه الثورة. ولقد كان هذا الموقف مبعث الكارثة التي ألمت بحملة هيكس باشا في موقعة شيكان بكردفان في 5 نوفمبر سنة 1883. وقد نتج عن هذه الكارثة نتيجتان هامتان أولهما تأثيرها على الموقف في السودان عموما ولا سيما في السودان الشرقي وفي علاقات مصر وأثيوبيا، والثانية تأثيرها على سياسة الحكومة البريطانية التي قررت التدخل بعد أن كانت ممتنعة حتى هذا الوقت ولعبت دورها بين هاتين الدولتين (6).

ومما لا شك فيه أن الاحتلال البريطاني لمصر وقيام الثورة المهدية في السودان قد لعبا دورا هاما في العلاقات السياسية بين البلدين، وذلك في عهدي كل من الامبراطور يوحنا وخليفته الامبراطور منليك، وان كان الدور قد اختلف في عهد كل منهما فمع أنه كان هناك اتفاق بين بريطانيا ويوحنا ضد مصر والثورة المهدية فإن الأمر اختلف في عهد منليك الذي حاول الاتفاق مع الثورة المهدية ضد مصر وبريطانيا إبان عملية استرداد السودان.


أولا: في عهد يوحنا الرابع

توتور منطقة الحدود المصرية الأثيوبية:

لم يستمر طويلا الهدوء النسبي الذي ساد الحدود المصرية الأثيوبية منذ أن حدث التقارب بين مصر وأثيوبيا في سنة 1880، اذ أنه في سنة 1883 بدأت العلاقات بين البلدين تتوتر من جديد، وكان يوحنا قد دعم حكمه في أثيوبيا التي تمتعت بهذا الهدوء النسبي، واهتم بتحسين أحوال بلاده السياسية والدينية والاقتصادية (7). ويبدو أن يوحنا أراد أن يدفع بريطانيا بعد أن احتلت مصر إلى حل المشاكل المتفاقمة بينه وبين الحكومة المصرية، لذلك بدأ يتجه إلى الاستيلاء على كل المناطق الشمالية حتى سواكن وفي الغرب إلى الخرطوم، وأصدر أوامره إلى قواده ورؤوسه وراس ولد ميكاييل في تيجري وحدودها القريبة من الحدود المصرية وتكلاهيمانوت في الغرب في بجة مدر، وهكذا عاد التوتر على الحدود المصرية (8).

وقد شعرت السلطات المصرية على الحدود الأثيوبية بالاستعدادات الحربية التي يقوم بها الامبراطور يوحنا فأخبرت بها حكومة القاهرة. وأدى ذلك إلى إخلاء سكان قرة حطملو وأم كلوا والبرمي واماتري وترحيلهم إلى مصوع، وتدعيم حاميات هذه القرى. وكان أحد الرؤوس الأثيوبيين وهو بلاتاقبرو يتجول بجيشه في أيليت يستطلع أحوال الحاميات المصرية، وشاهد عملية اخلاء هذه القرى وقام بقطع أسلاك التلغراف في هذه المنطقة واشتبك مع احدى الدوريات المصرية مما أدى إلى قتل رئيس هذه الدورية ومعه خمسة وجرح إثنان وأسر ثلاث من أفرادها كما استولى على أسلحتهم ومهماتهم. وقد نهب بلاتاقبرو ماشية هذه القرى وحرق منازل سكانها، وان كان بعض الأهالي هجموا عليه وأخذوا منه بعض ما نهبه. وقد نتج عن هذه الغارة العنيفة اضطراب عظيم في هذه المنطقة دفع سكان القرى إلى الهرب منها إلى مصوع كذلك تكشف هذه الغارة عن مدى ضعف الكيان العسكري والاداري المصري في هذه المنطقة ومدى تغلغل الجيوش الأثيوبية فيها حتى أنها وصلت إلى مصوع نفسها المركز الرئيسي للنفوذ والجيش المصري. وقد أدى ذلك إلى ايقاف ترحيل الأورط، كما أن حكمدار السودان علاء الدين باشا توجه إلى مصوع للتحقيق في كيفية نزول بلاتاقيرو ووصوله إلى ساحل البحر الأحمر وهي الحالة الأولى من نوعها، اذ لم يسبق أن وصل أحد القادة الأثيوبيين إلى ما وصل إليه هذا القائد (9).

ولما كانت مصر مشغولة بالثورة المهدية وبالاحتلال البريطاني في مصر وسلبيته ازاء ما يجري في السودان وحدوده، كما أنها لم يكن لديها القدرة الكافية للرد على هذه الغارة، لذلك أرسلت مندوبا من جهتها إلى بلاتاقبرو ليستطلع أسباب هذه الغارة العنيفة. وقد عاد المندوب ومعه مبعوث من بلاتاقبرو يحمل رسالة من هذا القائد الاثيوبي موجهة إلى حكمدار السودان، يذكر فيها بأن غارته هذه كانت غارة انتقامية لما حدث من قبل من المصريين حيث أغاروا على مقاطعة هذا القائد ومعهم أحد الأثيوبيين الخارجين عن طاعة الامبراطور يوحنا ويدعى كيفلا، وادعى ادعاءات كاذبة ليبرر بها غارته هذه وقد ثبت أن السلطات المصرية في هذه المنطقة بريئة منها (10). كما أنها تؤكد سوء النية التي كان يضمرها الأثيوبيين تجاه مصر في هذه المنطقة. وقد استغل الاثيوبيين احتماء الخارجين عن طاعة الامبراطور بالسلطات المصرية في مصوع وكيرين من أمثال الفيتوراري ديبوب وهو ابن عم الامبراطور، راس أريا، وكيفلا كوسيلة للهجوم والغارة على الحدود المصرية مدعين أن مصر تشجعهم وتؤيدهم (11). وانهم أي الأثيوبيين يريدون تأديبهم والقبض عليهم واعادتهم إلى أثيوبيا (12) وكما أغير على الجهات القريبة من مصوع فإن الأثيوبيين أغاروا كذلك على حدود الجيرة الواقعة غرب أثيوبيا والخاضعة لمصر (13). وقد أدت غارات الأثيوبيين هذه على حدود الجيرة إلى أن ينبه على حامية الجيرة وجميع النقط المجاورة لها بالتيقظ (14). كما اتخذت القبائل الموجودة في هذه المنطقة استعدادها للطوارئ. ونتيجة لوجود جيش أثيوبي في هذه المنطقة أرسلت فرقة حربية من القضارف غلى نقطة الجيرة لتدعيمها فأصبح عدد جنودها يزيد على أربعمائة جندي بالاضافة إلى أفراد القبائل الموجودة بها وذلك استعداد لما قد يقوم به هذا الجيش الأثيوبي من اعتداءات على الحدود المصرية، وفي نفس الوقت صدرت الأوامر إلى سلطات الجيرة بأن تعمل اذا أمكنها بالطرق السلمية اقناع قادة الجيش الأثيوبي هذا باخلاء منطقة الحدود ورد ما نهبوه (15).

واستمرارا لسياسة يوحنا التي اتبعها منذ أن احتلت مصر وهي العمل على توتر الحدود المصرية الاثيوبية حتى يجبر بريطانيا على التدخل في المشاكل الواقعة بين البلدين وحلها حلا يرضي يوحنا، رفض رأس الولا عرضا من حكمدار شرق السودان يهدف إلى استقرار الحدود المصرية الأثيوبية وتأمين الطرق وتنمية التجارة، ويقضي بوضع نقط مشتركة من الجنود المصريين والأثيوبيين على طول الحدود بهدف وقف الغارات الأثيوبية واحلال السلام. واصطر راس ألولا على أن الهدوء لن يستتب إلا اذا حصل على مالية سنهيت دون تدخل من جنودها المصريين، والتخلي عن ملكيتها مع جملة جهات أخرى. كما طلب تسليمه الجواسيس الذين أرسلهم للتجسس على النقط المصرية وذلك بالرغم من محاولة اقناعه بعدم أحقيته في ذلك مما جعله يهدد بتخريب المنطقة. واستعد لذلك فعلا. كما رفض رأس ألولا عرضا آخر من الأهالي. وقد حاول قنصل فرنسا بمصوع لعلمه الظروف التي تمر بها مصر، أن يساهم في اقرار السلام على الحدود فعرض على ألولا بأن يحصل على مالية سنهيت بواسطة رجاله ولكن سرا، أي بدون علم الحكومة المصرية أو تتغاضى عنه، وذلك حتى يتم الاتفاق بين البلدين بشأن الحدود بينهما، ويبدو أن حكمدار شرق السودان وافق ضمنا على هذا الاقتراح إلا أنه لم يثق في الأثيوبيين لذلك فلو سلم لهم بما يريدوه فربما زاد طمعهم وبذا يصلون إلى أقصى أهدافهم. وبالطبع فان التسليم بمطالب الأثيوبيين سيؤدي إلى ارتماء جميع القبائل في هذه المنطقة في أحضان الأثيوبيين وبذا يتعذر على الحكومة المصرية السيطرة عليهم (16). وبالرغم من محاولات التوفيق هذه فقد استمرت غارات كل من رأس بلاتاقبرو ورأس ألولا على الحدود والقرى المصرية، وعندما لم يجد يوحنا أي اهتمام لدى بريطانيا، أمر رؤوسه بتصعيد غاراتهم، فأغاروا في أغسطس 1883 على عربان بني عامر النازلين بشرق خور بركة (17). ومما يؤكد هذا التصعغيد عدم الرغبة في الاتفاق والتعايش السلمي مع المصريين بل طردهم من هذه المناطق والاستيلاء عليها رسميا وفعليا، أن رأس ألولا قال لحكمدار شرق السودان "ارجعوا إلى بلادكم فأنتم ضيوفنا وها أنا قائم لننهب حسب العادة" وبالفعل فقد قام بنهب ربع قرى من قسم سمهر وكذلك جهات حرقيقو الخارجية. وأنه أي ألولا – أعطى هذا الحكمدار ورقة مكتوبة باللغة الأثيوبية وأوهمه بأنها شرط من شروط الصلح (18). ولم يكتف رأس ألولا بذلك بل وضع جنوده على كل الطرق الموصلة إلى مصوع وما يجاورها بهدف منع السكان الهاربين منه من دخول المدينة. وبالرغم من أن السلطات المصرية في مصوع أبلغت حكومة القاهرة بخطورة الموقف وبعجز الحاميات المصرية عن صد أي هجوم قد يقوم به رأس ألولا (19)، فإنه لم يمض أسبوع على ورود هذه البرقية إلى مصر إلا وكان ألولا قد هجم بجيشه على سآتي Saati وهي خارج مصوع مباشرة وطرد المصريين منها وقتل عددا كبيرا من حاميتها (20). وبالرغم من خطورة هذه الحالة واستنجاد محافظ مصوع بضرورة إرسال امدادات عسكرية وذخيرة، فإن حكومة مصر بدلا من أن ترسل تعزيزات حربية لسد النقص وتدعيم الحاميات فإنها لم تفعل سوى أن استبدلت بلوكين بآخرين أي أن النقص ظل قائما وضعف الحاميات المصرية مازال مستمرا (21).

ومع زيادة التوتر المؤيد من الامبراطور يوحنا، فإنه كان طوال هذا التوتر يراسل ملكة بريطانيا أكثر من مرة، مطالبا بريطانيا بالتوسط في استقرار السلام مع مصر. وأخيرا قررت بريطانيا أن ترسل بعثة إلى مصوع لدراسة أوضاع الحدود والحاميات المصرية في هذه المناطق (22). وكانت بريطانيا في الواقع بعد أن احتلت مصر في سنة 1882، إن لم يكن قبل ذلك، تعمل على تصفية الامبراطورية المصرية التي كونها اسماعيل وجيش وأبناء مصر (23). لذلك فقد اتبعت بعد احتلال مصر سياسة تقوم على عدم التورط في أي عملية عسكرية ضد الثورة المهدية والاهتمام فقط بالدفاع عن حدود مصر وأمنها وعدم تحمل مسئولية تعيين أي شخص سواء لحكمدارية السودان أو للقوات والنجدات المصرية المرسلة للسودان لاخماد ثورة المهدي ذلك خوفا من فشل أي اجراء اتخذ بناء على مشورة بريطانية، كما أنها ليس لديها أي استعداد لارسال أية حملات للسودان ولكن ترحب بوصول التقارير الوافية عن الأوضاع فيه والأخطار التي قد تتعرض لها مصر نتيجة تطور هذه الأوضاع، وذلك عن طريق ارسال فرد أو أفراد يقوموا بدراسة الحالة هناك دراسة وافية وذلك ليمدوا المسئولين البريطانيين بالمعلومات التي أدعوا أنهم لا يعلمونها، هذا بالاضافة إلى محاولة اقناع مصر بالتخلي عن السودان أو جزء منه، ولما كان هذا يعتبر مرفوضا من جانب حكومة مصر فلا أقل من أن تكون الخدمة العسكرية في السودان هي المنفى لكل عناصر الفتن والاضطراب في مصر من الضباط والجنود المتذمرين من أيام الخديوي إسماعيل والمطرودين في الخدمة بعد إلغاء جيش عرابي، والذين يمكن بهم مواجهة المواقف في السودان (24). وكانت هذه السياسة نابعة من تصريحات رئيس الوزراء البريطاني والمسئولين الإنجليز بأن احتلالهم لمصر هو احتلال مؤقت وأنه ليس لبريطانيا أي مطامع في مصر وأنها ستجلو عنها بعد تأمين مسند الخديوية والاطمئنات إلى الاستقرار الداخلي (25).

لذلك فقد كانت الاستجابة لرغبة يوحنا في التدخل، لا يتسق مع سياسة بريطانيا وأهدافها في الفترة الأولى من عهد احتلالها لمصر. ومما يؤكد ذلك أن المستشار العسكري الإنجليزي سير تشارلس ويلسون قد مذكرة إلى لورد جرانفيل عن طريق القنصل الانجليزي في مصر في 2 أكتوبر سنة 1882 ذكر فيها أن السودان كان دائما مصدر ضعف ومكلفا لمصر. ويرجع ذلك إلى الفتوحات التي لم يكن منها فائدة مما أدى إلى تصدع العلاقات المصرية الأثيوبية. لذلك يقترح أن تتخلى مصر عن بوجوس والقلابات لاثيوبيا وتحويل ميناء مصوع إلى ميناء حر بالاضافة إلى التخلي عن كردفان ودارفور، ومنع استيراد السلاح وتسهيل تعيين المطران المصري لكنيسة أثيوبيا واقرار السلام بهذه الشروط، وأن يقوم بالمفاوضات المصرية مع أثيوبيا إنجليزي (36). ويتضح مما سبق أنه كان يهتم بمصلحة بريطانيا فهو يريد التخلي عن المناطق البعدية عن مجرى نهر النيل الذي يغذي مصر، أي أنه لا يريد التفريط في أي جزء قد يهدد مجرى النيل وبالتالي يهدد مصر. كما يريد أن يصفي الموقف مع يوحنا المخلص لبريطانيا على حساب مصر، وهو كذلك لم يفكر في أن يخلي أي جزء من مديرية التاكه أو سواكن حتى لا يهدد سلامة مواصلات بريطانيا لو سقطت التاكه أو سواكن في أيد أجنبية معادية لبريطانيا. كذلك اقترح أن يدار السودان أو ما يتبقى منه عن طريق ضباط إنجليز حتى يدار ادارة طيبة حاذقة. وفي نهاية تقريره طلب أن ترسل بريطانيا بعثة من ضابطين بريطانيين لدراسة الأوضاع في السودان وكتابة تقرير عن ذلك. ويلاحظ أم ماليت القنصل البريطاني لم يهتم بما جاء في هذا التقرير ويختص بمشكلة الحدود مع أثيوبيا أو بما اقترحه ويلسون بالتنازل عن بوجوس والقلابات لها وإنما أوصى وهو يقدم هذه المذكرة إلى جرانفيل بالموافقة فقط على ارسال البعثة المقترحة لوضع التقرير المطلوب عن الحالة في السودان (27).

وبالفعل أخذت حكومة بريطانيا بتوصية قنصلها ماليت بارسال بعثة بريطانية لدراسة وكتابة تقرير عن أحوال السودان، ويبدو أن يوحنا كان على علم بذلك لأنه زاد من ضغطه على الحدود وأظهرها بحالة من التوتر الشديد مع استمراره في ارسال رسائله إلى ملكة بريطانيا لحل هذه المشكلة وتحقيق مطالبه. وربما كان ذلك هو السبب الذي جعل يوحنا يغير على الحدود المصرية بهذه الصورة المكثفة منذ فشل مفوضات جوردون ومن قبلها، حتى يوحي للبعثة المقترح ارسالها مدى خطورة الحالة على الحدود وبالتالي تميل إلى التسليم بمطالبه بعد أن يضعها أمام الأمر الواقع. وبالرغم من ذلك فقد أكدت حكومة بريطانيا عندما تم اختيار كولونيل ستيوارت والايطالي مسيداليانك (28)، أن مهمة هذه البعثة لا تعدو وضع تقرير عن أحوال البلاد وأن يكون مفهوما بأنهم يعملون بأية صفة أهلية أو عسكرية. وفي هذا توضيح لمدى سلبية الحكومة البريطانية في أن تتحمل أية مسئولية للأحداث التي تجري في السودان وذلك حتى تدفع أي تفسير خاطئ لخطوة ارسال هذه البعثة بأنها تمهيد للتدخل من جانب بريطانيا في شئون السودان (29).

وكان هذا ضد رغبة يوحنا في دعوته لبريطانيا للتدخل والضغط على مصر ولحل مشاكله في الحدود مع مصر، وفي ديسمبر سنة 1882 وصل ستيورات إلى الخرطوم عن طريق سواكن وبربر، وبعد أن انتهى من دراسة أوضاع السودان وكتب تقريره، غادره في مارس سنة 1883 عائدا إلى القاهرة عن طريق سناروكسلا ومصوع. وعندما وصل إلى مصوع، كتب تقريرا آخر، غير تقريره الأول عن السودان، وبعث به من مصوع في 18 أبريل سنة 1883 إلى القنصل الانجليزي ماليت بين فيه الحالة في السودان ومضنه توصياته عن اصلاح الادارة والحكم في هذا الجزء من السودان (30)، وقد أوصى سيتورات بعودة بوجوس إلى أثيوبيا وأوضح أنه بالرغم من خضوع هذه المنطقة لمصر في بداية السبعينات فإن الامبراطور يوحنا لم يعترف بتاتا بهذا الضم، كما أوصى بمنح أثيوبيا ميناء على البحر الأحمر، على أنه لم يوصي بمصوع وإنما أشار إلى بعض الموانئ الجنوبيها منها، وبالرغم من هذين التقريرين فإن حكومة جلادستون لم تحاول التدخل في فرض ما أوصى به ستيوارت على حكومة مصر، وذلك تطبيقا لما سبق أن ذكرناه بعدم التدخل في شئون السودان الداخلية أو التورط فيها (31)، وكل ما فعله هو ابلاغ الحكومة المصرية بالتوصيات التي تضمنها تقريرا ستيوارت (32).

وهكذا ظلت مشاكل الحدود بين مصر وأثيوبيا على ما هي عليه. اذ أن ما أوصى به ستيوارت لم تأخذ به مصر فلا عادت بوجوس إلى الامبراطور يوحنا ولا منح ميناء على البحر الأحمر جنوبي مصوع، وكان ستيوارت قد وعد الوفد الأثيوبي الذي قابله في مصوع بمنح أثيوبيا هذا الميناء، لذلك فعندما لم يتحقق هذا الوعد شدد الأثيوبيين غاراتهم على المناطق الخاضعة لمصر، فأغاروا على ميناء زولا وصلوا إلى البحر الأحمر كما ذكرنا من قبل، وربما قصد يوحنا بغارته هذه أن تسلم مصر هذا الميناء إليه. والمعروف أن هذه الغارة أثارت الحكومة المصرية، فأرسلت تطلب التحقيق في كيفية وصول الأثيوبيين إلى البحر الأحمر (33).

وبالرغم من ذلك فقد ظل الموقف كما هو وحتى نهاية سنة 1883 تقريبا، على أن الموقف قد بدأ يتغير في نوفمبر سنة 1883 بسبب هزيمة حملة هيكس – التي وجهتها مصر ضد المهدي – في موقعة شيكان في 5 نوفمبر سنة 1883 (34). ولقد كان لهذه الهزيمة أثر كبير على تطور الأحداث في شرق السودان وفي العلاقات بين مصر وأثيوبيا فقد نتج عنها أن تمتع المهدي بنفوذ كبير وسيطرة تامة جنوب الخرطوم واحتشد حوله ألوف السودانيين في الأبيض، وأرسل المهدي دعاته يحملون أنباء انتصاراته إلى مختلف جهات السودان، كما أرسل جيوشه لاخضاع الحاميات المصرية في دارفور وبحر الغزال وبربر ودنقله والسودان الشرقي. وكانت المنطقة الأخيرة حتى هذه الهزيمة بعيدة عن الثورة المهدية ويسودها الهدوء، وعندما علمت بهذه الهزيمة وفد إلى المهدي زعماء القبائل في سواكن ومنهم عثمان دقنه الذي عين من قبل المهدي داعيته الجديد على سواكن وطركر وكسلا. وقد بويع عثمان دقنه بالامارة من جانب قبائل السودان الشرقي، ثم رفعت راية الثورة في هذا المنطقة (35). وازاء ذلك نصحت بريطانيا مصر باخلاء السودان (36) بأكمله ما عدا سواح البحر الأحمر، وذلك حتى لا تتيح الفرصة أمام الدول الأوروبية المنافسه لها وخاصة فرنسا من السيطرة على هذه المناطق وتهديد قاعتدها البريطانية في عدن وخط مواصلاتها البحري الرئيسي إلى مستعمراتها عبر البحر الأحمر. ولهذا رأت أن تحافظ على سلطة الحكومة المصرية في سواكن، وأرسلت وحدتها البحرية إليها لكي تحتفظ بها بأي ثمن خوفا من أن تستولي عليها إحدى الدول الاوروبية المنافسة وتتوسع في السودان حتى تصل إلى النيل فتهدد مصر والسلطات الإنجليزية بها، هذا بالاضافة إلى ابقاء وساكن في حوزة مصر قد يفيد عندما تستخدم كقاعدة حربية لاسترداد السودان عندما يحين الوقت لذلك (37).

وقد كان لتدهور أحوال السودان بصفة عامة والاضطرابات التي عمت السودان الشرقي بصفة خاصة والتي كان من ورائها عثمان دقنه وتهديده وحصاره للحاميات المصية أو جودة فيه هذا بالاضافة إلى تصعيد أثيوبيا لغاراتها على الحاميا المصرية في سنهيت ومصوع والتهديد بالهجوم على المدينة الأخيرة، كل هذا دفع شريف باشا رئيس الوزراء المصري غداة وصول أنباء هزيمة حملة هيكس أن يهتم بمسألة تسوية الحدود مع أثيوبيا، وذلك خوفا من أن تتحالف أثيوبيا مع المهديين في السودان أو نتيجة للعداء والحرب بين البلدين في عهد إسماعيل أن تنتهز فرصة ثورة المهدي وتقوم بالهجوم بمفردها على القوات المصرية في شرق السودان، لذلك أعلن شريف باشا عن رغبته في حل مشكلة الحدود بين البلدين بشكل يرضي الطرفين حتى يصل إلى حسن جوار فعلي مع أثيوبيا. ولما كانت الحكومة المصرية لا تضمن ترحيب بريطانيا لمعرفتها بمدى ولاء واعجاب يوحنا بملكة فيكتوريا وأن تدخلها سيؤدي إلى أن تقبل أثيوبيا عرضها. كما أن بريطانيا سترحب بأن تقوم بهذا العمل وبخاصة مع صديقها امبراطور أثيوبيا (38).

وقد أرسل شريف باشا برغبته في تدخل بريطانيا في حل مشاكل مصر مع أثيوبيا إلى سير ايفلين بارنج المعتمد البريطاني وذلك في مذكرة مرسلة في 24 نوفمبر سنة 1883، ذكر فيها أيضا أنه في حالة قبولها التدخل عليها أن تعين الضابط الذي يتعاون مع المندوبين الأثيوبيين والمصريين لرسم حدود البلدين في منطقة بوجوس. وقد أوصى بارنج حكومته عندما رفع ‘ليها مذكرة شريف باشا هذه بأن لا تضيع الوقت وعليها أن تقوم بها في أقرب فرصة ممكنة. ورحب الحكومة البريطانية بقيامها بالوساطة اللازمة ولكنها اشترطت أن تقبل حكومة مصر لكل ارتباط وتعهد يهدف إلى ارضاء الامبراطور يوحنا وذلك قبل تدخلها في المسألة (39). وواضح أن قبول بريطانيا الوساطة في هذا الفترة هو معرفتها تماما أنها أصبحت في موقف قوة وتستطيع فرض شروط يوحنا على مصر منتهزة الظروف السيئة التي تعانها في السودان، كما أن ذلك يحقق أهداف بريطانيا أيضا في اخلاء السودان وتدعيم النفوذ البريطاني في أثيوبيا ومصر، أي أن الوقت المناسب قد جاء لتحقيق أهدافها التي تتسق مع مطالب أثيوبيا.

وكان شريف باشا قد عرض الأسس التي تستعد مصر للتفاوض بشأنها مع أثيوبيا، وتشمل تعديلات الحدود بشكل يرضي الامبراطور يوحنا، على أن تحتفظ مصر بأي نقط هامة على خط الحدود الجديد الفاصل بين البلدين، وكذلك ترفض مصر منح أثيوبيا أي ميناء على البحر الأحمر وان كانت على استعداد لكي تتخذ الاجراءات التي تسهل حركة التجارة والاتصال بين أثيوبيا والعالم الخارجي، كما أنها ستحصل رسوما مخفضة على البضائع الأثيوبية، واشترطت مصر منع استيراد السلاح لأثيوبيا، وهكذا فعندما استعلم وزير خارجية بريطانيا عما اذا كانت مصر مستعدة لأن تقبل مقترحات سير تشارلز ويلسون والتي ضمنها تقريره في 29 سبتمبر سنة 1882 اتضح أن مصر تقبل عودة بوجوس إلى أثيوبيا وترفض التنازل عن القلابات كما أنها تقدم كافة التسهيلاة لتعيين المطارنة، وتعارض في تحويل ميناء مصوع إلى ميناء حر، وتصر على تحصيل الضرائب المعقولة على البضائع الاثيوبية المارة بهذا الميناء (40). وفي أثناء قيام بريطانيا باستطلاع آراء الحكومة المصرية حول ما تقدمه من تنازلات لأثيوبيا، قامت باخبار الامبراطور يوحنا رسميا بأنها قبلت التوسط بينه وبين الحكومة المصرية (41). وقد رحب الامبراطور بذلك (41).


بعثة الوساطة، والآراء المختلفة لحل المشاكل بين مصر وأثيوبيا:

وقعد عينت بريطانيا سير أدميرال وليام هبوت رئيسا لبعثة الوساطة التي قررت بريطانيا ارسالها إلى أثيوبيا ، ولما شعر بأ،ه يجب أن يصحبه رجل ثقة إنلجييز فقد فضل أن يكون هذا الرجل على معرفة سابقة بأثيوبيا وبشعبها وذلك لمساعدة البعثة في مهتمتها ولانجاح التعاون مع مندوبي مصر وأثيوبيا في تحديد الحدود بينهما. ولهاذ أختير كابن سبيدي الذي عاش فترة من الوقت في أثيوبيا ابان حكم تيودور كما أنه كان يستطيع التحدث باللغة الأمهرية (43). وكان وراء اختياره اللورد نابيراوف مجدالا قائد الحملة الانجليزي على أثيوبيا (44).

وقد قدم سبيدي مذكرة تقترح وجهة نظره في المشاكل الواقعة بين مصر واثيوبيا، وأشار إلى خطورة التحالف بين أثيوبيا والمهدي المنتظر وذلك في حالة رفض مطالب يوحنا الخاصة بتعديل الحدود ومنحه أحد الموانئ. ولمنع هذا التحالف يجب اجبار مصر على تسليم المتمة والقلابات وبوجوس لأثيوبيا علاوة على منحها أحد موانئ البحر الأحمر، وأوضح أن ذلك لن يؤثر في ميزان القوى في هذه المنطقة نتجية لسهولة استيراد الأسلحة من هذا الميناء الممنوح ليوحنا لان هذه الأسلحة غالية لاثمن لا يستطيع شرائها. كما أ، في وسع بريطانيا أن تهدد يوحنا بسحب هذا الميناء في حالة هجومه على الأراضي المصرية . وعين سبيدي هذا الميناء الممنوح لأثيوبيا ميناء زولا، وذلك لرفض مصر التنازل عن مصوع كما أن هذا الميناء وما حواليه تسكنه قبائل مسلمة ترفض الخضوع لأحكام مسيحيين. وطلب أن تتنازل مصر عن شريط ساحلي يمتد من راس جودام في الشمال إلى رأس شاكا في الجنوب، ويشتمل على خليج انسلي والحواقل وحنفيله وهي منطقة شبه خالية من السكان ويسهل انشاء المدن والموانئ بها. ودعا بريطانيا وألمانيا إلى الاشراف على مصالح أثيوبيا وشعبها الذي يستوطن هذه المنطقة، وأيد منح ملك أثيوبيا حاكم هذه المنطقة المعين من قبل انجلترا وألمانيا لقب "بحر نجش"، وخوفا من أن تتعامل اثيوبيا مع دول معادية لبريطانيا كفرنسا أو روسيا فقد طلب على أن ينص في المعاهدة المقترحة مع أثيوبيا على عدم التصرف في هذه المنطقة أو الميناء إلى أية دولة أخرى أو إلى أي من رعاياها أو رعايا أجانب، وذلك سواء كان بالبيع أو الهبة. وفي حالة صعوبة منح هذا الميناء فيمكن لبريطانيا اغراء يوحنا على قبول فكرة الحصول على ميناء حر وبشكل يمنع مصر من التدخل في شئون أثيوبيا ويترك كل المنازعات بين المصريين والاثيوبيين في أيدي أحد الضباط البريطانيين الذي يعين مقيما لبريطانيا له سلطات واسعة معترف بها من الامبراطور الاثيوبي وخديوي مصر، ويمنع بتاتا وجود أي مصر في هذه المنطقة وذلك لتحاشي المشاكل والاضطرابات.

ويتضح من هذا أن سبيدي يدعو بريطانيا لاقامة محمية بريطانية في هذه المنطقة على البحر الأحمر بين عدن وقناة السويس يمكن منها الاشراف على شئون أثيوبيا والتوغل فيها أن أمكن ذلك، وبمعنى آخر فان اقتراحات سبيدي تدور حول منع يوحنا من التحالف مع المهديين بمنحه ميناء علىالبحر الأحمر وتشرف عليه بريطانيا وعلى حق استغلال موارد أثيوبيا وتجارتها ووضعها تحت سيطرتها، وذلك على حساب مصر التي لن تحصل على أي مقابل لهذه التضحيات وأصر سبيدي قبل أن يسافر إلى مصر على أن تحصل هذه البعثة على وعد رسمي منصوص عليه في خطابات اعتمادهم كأعضاء فيها، يتضمن لأثيوبيا لاسم الملكة فكتوريا واللورد نابيير تنازلا عن ميناء مصري أو وعدا باقامة ميناء حر (45). ودعى كيركهام بريطانيا لفرض حمايتها عليه إلا أنها رفضت، وكان هذا الاجراء من أسباب الحرب بين البلدين لذلك فبالتأكيد لو قدم هذا الاقتراح ليوحنا كان سيلقى قبولا وتشجيعا منه (46).

بل إن نابيير وافق على هذه الاقتراحات مما يدل على أنه كان هناك تفكير يدور ابان زمن الحملة الانجليزية على أثيوبيا في انشاء هذه المحمية. ومن المعروف أن كيركهام مستشار يوحنا كان أحد أعضاء هذه الحملة الإنجليزية. على أنها لم تستطع تحقيقها لعدم صدور التعليمات لنابيير بذلك، كما أن بريطانيا رفضت التورط في مشاكل دولية اذا ما أيدت هذا المشروع. وقد وافق نابيير على كتابة خطاب إلى الامبراطور يوحنا يوصيه فيه ببعثة هيويت ويشعره ببنود وشروط المعاهدة المقترحة. واشترط أ،ها اذا كان الهدف من ذهاب البعثة إليه هو مجرد أن يمسك يده الآن عن استرجاع الأراضي التي أخذتها مصر منه فعنده الفرصة لكي يستردها فورا في هذا الوقت ، ولا يرغب نابيير أن يشارك في منعه لأنها فرصة لاثيوبيا لا يجب أن تضيعها. لذلك فهو يوقع على الخطاب على ضمان أن بريطانيا ستعترف بمطالبه وتحققها له أما اذا كان عكس ذلك فهو يسحب توقيعه (47). وبالرغم من أن نابيير أيد منح يوحنا ميناء زولا فإنه فضل أن تضمن بريطانيا له ممرا حرا في مصوع معفي تماما من ضرائب الترانسيت ومن أية رسوم أخرى، ووضع هذا الممر تحت الحماية البريطانية وتعيين مندوب لكي تشرف عليه. وأصر على ضرورة استمرار الحماية البريطانية هذه سنوات طويلة. وكان سبب اقتراحه هذا المعاناة التي كابدتها الحملة الإنجليزية على سواحل البحر الأحمر بالرغم من تفوق معداتها، وهو ما يحتاجه يوحنا لكي يعد ويستخدم هذا الميناء دون عون خارجي. هذا بالاضافة إلى صعوبة المواصلات مع زولا والظروف المناخية القاسية التي لا يتحملها الاثيوبيون، واتفق فالنتين بيكر قائد القوات الصمرية (بلوكات النظام) في شرق السودان، مع اللورد نابيير وسبيدي على منح أثيوبيا الميناء الذي تحتاج إليه حتى يمكن الحصول على رضاها، بشرط وضع هذا الميناء تحت اشراف وحماية إنجلترا، وتحديد كمية ونوعية السلاح الذي تستورده أثيوبيا عن طريق هذا الميناء، وعقد معاهدة تجارية بين بريطانيا وأثيوبيا تمنح الانجليزي جميع الحقوق التي يتمتعون بها في بلادهم، كما أوصى بأن تمنح أثيوبيا خليج انسلي وذلك لسهولة الوصول إليه برا وبحرا، كما أنه يمكن الادعاء بأنها ليست أرضا مصرية بشكل أوضح من مصوع نفسها (48).

ومع أن بريطانيا لم تأخذ بوجهات نظر أي من هؤلاء، فإن هذه الأراء بالتأكيد قد أثرت في الاتجاه العام لوضع الشروط التي نصحت بها الحكومة المصرية والتي ستعرض على يوحنا. ولا يغيب عنا أن أحدهم كان ضمن ابعثة التي وجهت إلى أثيوبيا وهو الكابت سبيدي (49). وواضح منها أنها لم تعر مصر أي اهتمام في المحافظة على أملاكها، بل كان الهدف هو تدعيم حكم يوحنا وتقويته وفي نفس الوقت مراعات مصالح وأهداف بريطانيا في هذه المنطقة (50).

وكان هذا الاختلاف في وجهة النظر على التفاصيل بين لورد نابيير وسبيدي وبيكر سببا في دفع جرانفيل إلى ترك المسئولية النهائية المتعلقة باختيار الشروط التي ستقترح على يوحنا تقع على ايقلين بارنج في القاهرة، لذلك فقد أمر سبيدي بأن يضع نفسه تحت تصرف قنصل بريطانيا العام في مصر (51). ووصل سبيدي إلى مصر واجتمع مع رئيس النظار المصري نوبار باشا ليناقش معه الشروط التي ستعرض على الامبارطور يوحنا وذلك في 28 ديسمبر سنة 1883، وفي اليوم السابق أخبر بارنج باختيار وليام هيويت لرياسة البعثة المرسلة إلى الامبراطور يوحنا وأنه سيحمل خطابا من الملكة فيكتوريا إلى الامبراطور (52).

وكان وصول سبيدي إلى مصر في نفس اليوم الذي وصفت فيه إلى القاهرة نصيحة بريطانيا الاجبارية الخاصة باخلاء السودان والتي استقال بسببها شريف باشا وخلفه نوبار في رياسة الوزراء فوافق على اخلاء السودان. ويلاحظ أن بريطانيا قامت بكل هذه الاجراءات السابقة قبل أن تلزم مصر باخلاء السودان، وبالرغم من ذلك فإن كل الآراء السابقة واتجاه الحكومة الإنجليزية تشير إلى أن تصفية النفوذ المصري في شرق السودان واخلاله، وبعبارة أخرى فإنه اذا كانت مصر ستجبر على اخلاء السودان ووافقت عليه فلا معنى اذن للتمسك بميناء مصوع أو بأي جزء آخر في هذه المنطقة. وكان هذا ما اعتقده بارنج من أن أحسن خطة تتبع في حالة اخلاء السودان هي منح أثيوبيا مصوع مع شريط من الارض إلى الشمال وإلى الجنوب منها علاوة على كل الأراضي الواقعة إلى الداخل والتي يمكن ليوحنا أن ينجح في حكمها. وكان الهدف من ذلك هو تقوية أثيوبيا بشكل يسمح لها بالوقووف أمام الثورة المهدية وايجاجد توازن قوى في المنطقة يسمح لبريطانيا بالبقاء في مصر (53).

ولم يوافق نوبار في اجتماعه مع سبيدي على اقتراحه بالتنازل عن مصوع وأيده في ذلك الخديوي، اعتقادا منهما بأن ذلك قد يثير عداءا شعبيا جديدا ضدهما في مصر. كذلك فانه ما دام قد اتفق على اخلاء شرق السودان فلا داعي لاعطاء هذه المنح المجانية لاثيوبيا. على أنهما وافقا على حرية مرور التجارة بما فيها الأسلحة من ذلك الميناء، وتعيين أحد الانجليزي محافظا عليها. وقد وافق بارنج على ذلك وأشار على حكومته بأن ترسل البعثة على هذا الاساس للتفاوض مع يوحنا، وبرر موافقته هذه – مع أنه يميل إلى منح مصوع لاثيوبيا – إلى أن التنازل عن هذه المنطقة من البحر الأحمر قد يسبب مشاكل مع الباب العالي، بالاضافة إلى المعغارضة القوية من الخديوي ونوبار باشا (54)ز

وقد أدى تدخل سبيدي وضغطه على حكومة بريطانيا لتنفذ مشروعه إلى تأجيل سفر البعثة وذلك بسبب رفض نوبار وخوفه مما أشار إليه سبيدي من أن امبراطور أثيوبيا قد يحتفظ بأعغضاء البعثة اصرى اذا ما رفض منحه أحد الموانئ على البحر الأحمر. وأخيرا انتهت المشكلة بأن قبل نوبار تزويد البعثة بالسلطات اللازمة للتنازل عن جزء من الساحل عدا مصوع. وهكذا أصبح على سبيدي أن يسافر في اقرب فرصة إلى مصوع، كما أن وزارة الخارجية البريطانية أصدرت تعليماتها للأدميرال هيويت رئيس البعثة بأن يتوجه إلى مصوع لكي يرسم خط الحدود ويتنازل عن بوجوس لاثيوبيا ويضمن لها حرية التجارة في مصوع وارسال المطارنة المصريين لكنيستها وذلك في نظير تعهد الامبراطور يوحنا بحماية تقهقر الحاميات المصرية الموجودة على طول حدوده (55).


ولم يرض هيويت بهذه التعليمات المحددة التي صدرت اليه وطلب منحه سلطات واسعة لانهاء هذه المسألة دون الرجوع إلى حكومة لندن التي تعرف تماما مطالب الامبراطور الاثيوبي، وبالتالي فليس هناك ما يدعو إلى التشدد في شروطها معه مما ينتج عنه فشل البعثة، وأيده في ذلك بارنج، وتم له ما أراد (56). فقد صدرت التعليمات الأخيرة له في 8 مارس سنة 1884 وقد كانت تنص على أنه على يوحنا الرابع أن يسهل مرور أفراد الحاميات المصرية الموجودة بالقرب من حدوده في داخل ممتلكاته، واستعداد بريطانيا تقبل أي خلاف ينشأ بين مصر وأثيوبيا، وأن تترك له حرية اقليم بوجوس، ومنحه حرية التجارة بما فيها الأسلحة وتحت حماية بريطانيا في مصوع، واعطاءه وعدا بارسال اسقف لبلاده من مصر. كما أن حكومة بريطانيا لم تبد أي اعتراض على احتلال أثيوبيا للقلابات وذلك في حالة ما اذا وجدت البعثة أن هذا التنازل أمر ضروري لنجاحها في مهمتها ولكنها أصرت على ضرورة النص في صلب المعاهدة على تحفظ عام من كل ما يتعلق بحقوق الباب العالي الشرعية (57).

معاهدة عدوة:

وبناء على هذه التعليمات الجديدة التي قدمت إلى حكومة مصر لتوافق عليها موافقة كشلية، ولتعد خطابا موجها من الخديوي إلى الامبراطور يوحنا يحمله مندوبها ميسون بك محافظة مصوع والذي سيرافق البعثة إلى اثيوبيا ويقدمه للتعريف به وتفويض منها له ليتفاوض باسمها مع الحكومة الأثيوبية في المسائل المتعلقة بالبلدين، بناء على هذه التعليمات غادرت البعثة المكونة من الأدميرال وليام هيويت ويساعده كابت سبيدي ويمثل الجانب البريطاني وميسون بك ويمثل الحكومة المصرية، مصوع متجهة إلى الأراضي الأثيوبية لكي تتفاوض مع الامبراطور وتوقع المعاهدة معه في ضوء التعليمات التي صدرت إليها (58). وكتب الأدميرال في 24 أبريل سنة 1884 رسالة الى يوحنا يوضح فيها تفاصيل شروط المعاهدة المقترحة بين مصر وأثيوبيا وبريطانيا. وكان الامبراطور في منطقة ثيمبين ، فاقترح في رده على هيويت أن تكون المفاوضات معه في ماكالي. ولكن بعد أن وصل الأدميرال وبعثتها إلى عدوة في 26 أبريل اصر على ألا يتقدم أكثر من ذلك، مما جعل الامبراطور يوافق على أن يأتي إليه ويقابله في هذه المدينة، ولما كان ذلك يستغرق حوالي ثلاثة اسابيع، فقد طلب إليه أن يناقش شروط الاتفاق مع راس ألولا وذلك حتى يصل اليه وبالفعل تم ذلك واستطاعت البعثة وألولا الوصول إلى رضا متبادل عن النص الفعلي للاتفاقية، وفي 26 مايو كان الامبراطور قد وصل الى عدوة واستقبل الأدميرال وبعثتها استقبالا رسميا طيبا حيث تسلم الخطابات الموجهة من الملكة فيكتوريا والخديوي واللورد نابيير وكذلك الهدايا التي قدمت له من المدافع والبنادث، وقد سر الامبراطور سرورا عظيما بها (59).

وفي 28 مايو تقابل الامبراطور مع البعثة مرة أخرى حيث بحث هذه المرة بنود المعاهدة المقترحة والتي قدم الادميرال مشروعها الى الامبراطور، وقد قبلها وان كان قد استفهم عن انسحاب الحاميات المصرية من مصوع منكولو. ولما لم تكن لدى هيويت أية أوامر بالانسحاب من مصوع أو منكولو فقد أجابه بأنه ستبقى حامية صغيرة في منكولو. وقد قبل يوحنا ذلك الوضع مادام هذا تحت الحماية البريطانية. كما أقنع الامبراطور بأنه ليس من مصلحته أن يحصل على ميناء، وذلك عندما أبدى الأخير رغبته في الحصول على أراضي تطل على البحر. وسأل عن كسلا وهل ستعطى له، فأخبره هيويت أنه غير مزود بأي سلطة لاعطائها له، واذا كان يوحنا وافق على ذلك فانه لم يخف رغبته في الاستيلاء عليها اذا ما وقعت في أيدي قوات المهدي. وفي 31 مايو استنأنفت المناقشة حول موضوع الجمارك في مصوع، فاقترح الامبراطور أنه بعد اسقاط مصاريف الميناء يقسم مناصفة ما يتبقى من حصيلة الجمارك بين مصر واثيوبيا، وطلب النص على ذلك في المعاهدة. ولما كان ذلك يتعارض مع حقوق سيادة الدولة العثمانية على هذا الميناء فقد نجح الادميرال في أن يحول الامبراطور نظره عنها إلى أفضيلة حصول اثيوبيا على حرية التجارة في مصوع، وأنه يستطيع أني قيم نقطا للجمارك في بلاده يفرض فيها الرسوم ويحصل ما يريده. وفي اليوم الذي حد للتوقيع على المعاهدة (3 يونية سنة 1884) طلب أن تسري المادة التي تنص على حرية التجارة في مصوع من هذا اليوم بدلا من أول أكتوبر سنة 1884. وقد وافق هيويت على ذلك وعدلت هذه المادة. وعندما تم ذلك وقع الامبراطور المعاهدة التي عرفت بمعاهدة عدوة. وعندما انتهت البعثة من مهمتها عادت إلى الساحل حيث بقى كابت سبيدي في مصوع لتنفيذ شروط هذه المعاهدة بالتعاون مع ميسون بك محافظة مصوع (60).

وقد اشتملت المعاهدة على ست مواد، نص فيها على حرية التجارة والسماح لأثيوبيا بالقيام باستيراد الأسلحة بمجرد توقيع هذه المعاهدة. كما أعيدت إلى اثيوبيا بموجب المعاهدة منطقة بوجوس وذلك في أول سبتمبر سنة 1884، وعند جلاء القوات المصرية عن تحصيناتها في كسلا وأميديب وسنهيت تؤول ملكية هذه التحصينات بما تشمل عليه من مباني وأسلحة وذخيرة إلى أثيوبيا. وتعهد الامبراطور بتقديم كافة التسهيلاة الممكنة للقوات المصرية في انسحابها من كسلا وأميديب وسنهيت عبر الحدود الاثيوبية إلى مصوع. كما تعهد الخديوي بتقديم كافة التسهيلا اللازمة لتعيين المطارنة المصريين الذين تحتاجهم كنيسة أثيوبيا. وتعهد الطرفان مصر واثيوبيا – بتبادل المجرمين الفارين من العدالة. وأخيرا أحيل أي خلاف بين خديوي مصر وامبراطور أثيوبيا بعد التصديق على هذه المعاهدة الى بريطانيا حيث يقبل الطرفان تحكيم ملكتها (61). على أن يوحنا بعد توقيعه على هذه المعاهدة أرسل إلى الخديوي يقول أن مسألة مصوع لم تنته وفق رغبته، وادعى أن الخديوي يعلم أن مصوع كانت منذ عهد قريب خاضعة لأجداده أباطرة أثيوبيا (62).

وقد اختلفت شروط المعاهدة قليلا عن التعليمات الأصلية التي صدرت إلى هيويت قبل توجه للتفاوض مع يوحنا. فبالرغم من أن التعليمات كانت قد حرصت على حقوق السيادة العثمانية على سواحل البحر الأحمر أو في شرق السودان، فإن المعاهدة لم تشر إلى هذه الحقوق، بل أنه عندما طالب يوحنا باعطائه كسلا أجابه الادميرال بأنه غير مزود بأية سلطة لاعطائه هذه المدينة، فهو لم يحدد الجهة التي زودته بالسلطة. وبالتالي يمكن استنتاج أنه ما دام هو مبعوثا من بريطانيا ومعه مندوب مصر اي أن كلا الدولتين لم تخولا له سلطة منح الامبراطور مدينة كسلا. وما يؤكد ذلك أن مقدمة المعاهدة لم تشر إلى تبعية مصر للدولة العثمانية بل ذكرت أن الخديوي باعتباره حاكما مستقلا مساويا لملكية بريطانيا وامبراطور إثيوبيا، بالرغم من أن ذلك يتعارض مع معاهدة لندن سنة 1840، وربما قصدت بريطانيا إبعاد الدولة العثمانية عن هذه المنطقة حتى لا تدخل في مشاكل دولية تعوق تحقيق أهدافها التوسعية بعد ذلك سواء في مصر أو في السودان أو في باقي المناطق الواقعة على ساحل البحر الأحمر أو القرن الأفريقي، كما أنها ذكرت اسم الخديوي توفيق بجانب ملكة بريطانيا وامبراطور أثيوبيا فعلت ذلك بهدف ايهام الدول الاوروبية المنافسة لها مثل فرنسا – التي عملت بعد ذلك على اخراجها من مصر – بأنها تعترف ضمنا باستقلال مصر وأن احتلالها لهذا البلد انما هو احتلال مؤقت سرعان ما ينتهي عندما تستقر أحوالها الداخلية (63).

والواقع أن بريطانيا فعلت هذه السابقة حتى تدعي سيطرتها على مصر وتبعد أي نفوذ عثماني تدريجيا، وذلك حتى تستطيع عندما تسنح لها الظروف بعد ذلك باعلان احتلالها لمصر، كما أن ذلك يساعدها على احتلال بعض البلاد التي كانت تخضع لمصر مثل زيلع وبربرة، أو ربما فعل هيويت ذلك بتعليمات سرية خاصة صدرت إليه بخلاف التعليمات المعلنة الأخرى. وما يؤكد ذلك أن هيويت أرسل إلى جرانفيل بعد توقيع المعاهدة يقول أن يوحنا سيسهل الانسحاب عبر أرضه للحاميات المصرية في شرق السودان مع أن المعاهدة لم تذكر سوى حاميات كسلا وسنهيت وأميديب. أما الحاميات الأخرى مثل القلابات والجيزة والقضارف فانه لم يشر إليها بل أن التعليمات التي صدرت إلى هيويت ذكرت أن بريطانيا لن تعترض في حالة احتلال أثيوبيا للقلابات، ومع ذلك لم يشر اليها في المعاهدة (64).

وربما كان ذلك للاحياء إلى مصر بخطورة الوضع في شرق السودان، والواقع أنها ترفض احتلال أثيوبيا للقلابات وستجد بعد ذلك عندما يتم استرداد السودان أن بريطانيا ترفض رغبة الامبراطور منليك في ضم القلابات إليه وربما يعود ذلك الى الأهمية التجارية لهذه البلدة، وكذلك لم تشر التعليمات إلى تسليم المجرمين الهاربين كما أشارت إليه هذه المعاهدة وذلك لتدعيم حكم يوحنا في أثيوبيا الذي كان يعاني من الثوار الخارجين عن طاعته وحماية السلطات المصرية في مصوع وغيرها لهم (65).

وفي مجال تدعيم حكم يوحنا كررت بريطانيا ما سبق أن فعله نابيير بعد أن نجحت حملته بأن منح مجموعة ضخمة من الأسلحة ساعدته على أن يصل الى حكم أثيوبيا وقد فعلت بريطانيا في هذه المعاهدة مثل ذلك بأن منحته الأسلحة والذخيرة والاستحكامات التي تركتها مصر له بموجب المعاهدة لتدعيم حكمه، ولكي يستطيع أن يقف في وجه الثورة المهدية، لادراك بريطانيا التام بأنه لابد وأن يحدث اصطدام بينها وبين يوحنا الذي يعتبر امتدادا للصراع الذي كان بين مصر وأثيوبيا وكانت تخاف أن ينهزم يوحنا أمامها وبالتالي يسهل وصول المهديين إلى سواحل البحر الأحمر ما يهدد مصالح بريطانيا كما سهلت له حرية استيراد الأسلحة للهدف نفسه، وهكذا كانت المعاهدة في المكان الأول تدعيما لحكم يوحنا وتقوية دولته على حساب مصالح مصر والثورة المهدية وفي نفس الوقت يخدم طريقها إلى الهند (66).


اخلاء الحاميات المصرية

وقد أخبر قائد القوات المصرية في شرقي السودان بنصوص هذه المعاهدة، عندما تقابل مع الأدميرال هيويت وميسون بك في مصوع في 9 يونية سنة 1884، وذكر له أيضا أن سنهيت وأميديب والقلابات والجيرة والتاكة وباقي نقط الحدود ستسلم إلى أثيوبيا في شهر سبتمبر التالي وذلك بعد عودة جميع الجنود المصريين إلى مصوع بواسطة القوات الأثيوبية بقيادة رأس ميكاييل. كما ذكر له أنه ف يحالة حدوث غارة على احدى النقاط المصرية عليه أن يقوم بتبليغ رأس ميكاييل المسئول عن تنفيذ الاخلاء (67). وكانت طريقة الاخلاء الآتي تتوجه جيوش اثيوبيا إلى القلابات والتاكة وما هم بالقرب من النقط المقيمة فيها جنود مصر حيث يجري تسليم هذه النقط بكامل معداتها ومهماتها اليهم، وبحسب أمر الامبراطور أو من ينوب عنه تتوجه هذه الحاميات إلى الجهة التي يحددها لهم، فان كانت داخل أثيوبيا كان جنود هذه الحاميات عزلاء، أما اذا كانت الحاميات على أطراف مديرية التاكة فانه يسمح لهم بالانسحاب بأسلحتهم وربما كان ذلك لحمايتهم من غارات المهديين حتى أميديب ومنها إلى مصوع بدون سلاح وبعدها تسلم أميديب إلى الأثيوبيين وتتوجه حاميتها إلى سنهيت حيث تسلم سلاحها إلى مخازن حامية سنهيت، وكانت أولوية الانسحاب للحاميات البعدية عن الحدود الأثيوبية إلى أثيوبيا أو سنهيت ثم اخلاء الأخيرة وما يجاورها على الحدود الأثيوبية وتسليمها إلى الاثيوبيين بعد ذلك (68).

ولما كانت بريطانيا تنوي سحب جميع الحاميات المصرية من كافة أنحاء السودان، وليس من النقط التي جاءت في المعاهدة فحسب، فقد بعثت ملكة بريطانيا برسالة إلى يوحنا بعد توقيع المعاهدة تقول فيها أنها تعتمد عليه في تقديم كافة التسهيلات لانسحاب أية قوات مصرية قد ترغب في المرور عبر أثيوبيا إلى الساحل. وكانت مصر قد أصدرت أوامرها بأن تتجمع قواتها المنتشرة في أنحاء السودان، في المحطات المحددة في المعاهدة الموقعة في أثيوبيا، لذلد فقد أجلت عمليت تسليم بوجوس إلى أثيوبيا التي كان محددا لها 12 سبتمبر سنة 1884، ولم يتم في هذا الوقت سوى تسليم طابية صغيرة هي طابية الصباب فقط الواقعة على بعد أربعة أميال من سنهيت كما سلمت معها جميع معداتها الحربية إلى نائب راس ألولا. وقد ادى هذا التسليم إلى جعل الأهالي حول قلعة سنهيت تابعين لاثيوبيا، أي أن سنهيت أصبحت تابعة فعلا لأثيوبيا ما عدا قلعة سنهيت التي لم تسلم وذلك حتى يتم اخلاء السودان من الحاميات الأخرى (69).

ولقد اثار عدم تسليم سنهيت ، كلها بما فيها من منشآت واسلحة الى أثيوبيا، أن أرسل رأس ألولا يحتج على ذلك إلى كابت سبيدي، وقد انزعج الأخير وأسرع وأرسل الى الامبراطور يوضح له أن رأس ألولا قد فهم نصوص المعاهدة خطأ واشار إلى أن اخلاء حامية سنهيت سيحدث فقط عندما تغادر حاميات كسلا وأميديب وسنهيت. وضم سبيدي إلى رسالته هذه رسالة الملكة فيكتوريا التي تطلب فيها تسهيل انسحاب الحاميات المصرية الموجودة في كل أنحاء السودان. وبالرغم من أن الامبراطور في رده نفى فهم ألولا الخاطئ للمعاهدة فانه بسبب رسالة الملكة فيكتوريا قد وافق ضمنا على ذلك وذكر بأنه لن يصر على الرجوع إلى النص الحرفي للمعاهدة وأمهلهم حتى العاشر من اكتوبر سنة 1884. وقد برر مافقته بأنه يتطلع إلى أن تحكم هذه المنطقة بواسطة حكامه، لذلك فانه في سبيل هذا الهدف وافق على تأجيل رحيل الحامية. وقد وافق كل من بارنج ووزير خارجية بريطانيا على تفسير سبيدي للمعاهدة والذي شرحه للامبراطور بأن يتم تسليم بوجوس إلى أثيوبيا بعد مغادرة حاميات كسلا وسنهيت وأميديب، وذلك حتى يتسنى اخلاء السودان كله من المصريين بالرغم من النص في المعاهدة على تسليم بوجوس في سبتمبر سنة 1884 (70).

على ألا يفهم من ذلك أن بريطانيا قد نقضت المعاهدة بعدم تسليمها بوجوس ولكنها استغلت رغبة يوحنا الشديدة في مضها إليه للمساعدة على اخلاء كسلا من حاميتها المصرية والتي كانت محصارة بين المهديين . وبالرغم من الحماس الذي أبداه يوحنا لانجاد حامية كسلا فان تدخل الأثيوبيين في السودان قد يؤدي الى نتائج خطيرة حذر منها الأدميرال هيويت (71). كما أن جوردون عندما علم بأن يوحنا سوف ينجد الحاميات المصرية علق بقوله أن اذلك سيدعم ثورة المهدي، اذ أن دخول شعب همجي يدعي المسيحية ضد أهل هذه البلاد المسلمين الذين ظلوا صامدين ضد المهدي سيؤدي إلى ازدياد الموقف في شرق السودان سوءا وان منحه سنهيت يقطع الطريق الآمن من مصوع إلى كسلا (72).

لذلك فبالرغم من أن يوحنا وقائده الولا استعدا بقواتهما لنجدة حامية كسلا فان سبيدي ارسل الى الامبراطور يسأله أن يرسل قواته لا إلى كسلا، ولكن للمساعدة في انسحاب الحامية المصرية من القلابات وسمح له بالاستيلاء على الأسلحة والذخيرة التي للحامية. وكانت الحجة سوء موقف الحامية المصرية في القلابات وحاجتها الشديدة للانقاذ (73). وقد لبى الامبراطور هذا الطلب بسبب تأييد الملكة له فأخر الامبراطور حملته لنجدة كسلا. وقد أخبر بذلك نوبار باشا رئيس النظار الذي تفاوض مع بارنج وقرر الاثنان التمسك بالحالة الحاضرة في كسلا حتى تتضح الأوضاع في الخرطوم (74). وما يحدث من تطورات وخاصة بعد أن أرسلت حملة لانقاد جوردون وذلك في أواخر سنة 1884 (75).

والواقع أن بريطانيا أرادت أن تحول دون انقاذ يوحنا لحامية كسلا، يدل على ذلك خطاب سبيدي المشار إليه من قبل بتوجيه يوحنا إلى القلابات منع أنه لم يرد ذكرها في المعاهدة، كما أن ملكة بريطانيا طلبت منه انقاذ كل الحاميات، أي أنها تؤيد ضمنيا انقاذ حامية القلابات، وبالتالي تؤيد ما طلبه سبيدي، بل انه أرسل رسالته ورسالة الملكة معا إلى الامبراطور بهدف تدعيم طلبه هذا. ولم تحاول ملكة بريطانيا أن تطلب من الامبراطور سرعة انقاذ حامية كسلا المحاصرة منذ شهر نوفمبر سنة 1883 وهي تعلم أنها اذا طلبت هذا فان الامبراطور سينفذه فورا ارضاء لها ولكنها لم تفعل. وربما خشيت بريطانيا من انقاذ يوحنا لحامية كسلا، وهو الذي يرغب في ضمها غليه كما ألمح هيويت ابان تفاوضهما معا، أن يستولي عليها وقد يهزم قوات المهدي وتكون بداية لتوسع يوحنا في السودان، وبالتالي يفسر ذلك بأن بريطانيا تشجع يوحنا على احتلال أملاك مصر في الوقت الذي يثبت فيها امكانية وقف انتشار ثورة المهدي بل وهزيمته على أيدي قوات اثيوبية لا قوات مصري بريطانية مشتركة. ولكن ذلك يخالف ما كانت تخطط له بريطانيا وهو العمل على انتشار الثورة المهدية وتشعبيتها واخلاء المصريين للسودان، وبالتالي فان سقوط حامية كسلا في أيدي المهديين يؤيد سرعة اخلاء السودا، وفي نفس الوقت يحافظ على مدينة كسلا ضمن حدود السودان عندما يحين وقت استرداده فلا تطالب اثيوبيا بضمها إليها. ومع ذلك فقد طالبت أثيوبيا بها فعلا عندما تم فتح السودان.

ومما يؤكد ذلك أن بريطانيا فيما بعد شجعت ايطاليا على احتلال كسلا بعد أن عقدت معها اتفاقية برجوعها إلى السودان عندما تسترده مصر. وهذا الاتفاق كان مستحيلا عقده مع يوحنا في ذلك الوقت لسببين أولهما عدم الرغبة في الكشف عن خططها المستقبلية حيال السودان في ذلك الوقت المبكر بالاضافة إلى معرفتها برغبة يوحنا في ضم هذه المدينة اليه. لهذا فضلت بريطانيا سقوط كسلا على أن ينقذها يوحنا. ويؤكد ذلك أن الكولونيل شيرماسيد حاكم سواحل البحر الأحمر اعتقد أن حضور السفن الايطالية محملة بالجنود أمام مصوع في أول فبراير سنة 1885 فرصة جديدة أمام العرب والاثيوبيين في شرق السودان، ولكن سيرافيلين بارنج أبلغه، بأن جزءا من قوات حملة الانقاذ – بعد سقوط الخرطوم في 26 يناير – قد يصل إلى سواكن ولكن ليس هناك أية حملة مصرية أو انجليزية ذاهبة الى كسلا التي كان على حاميتها أن تقرر الخروج والسير صوب البحر الأحمر أو مفاوضة المهديين. كما استبعد الاستعنة بقوات ايطالية كانت في مصوع لانقاذ حامية كسلا لأن ذلك ليس في مصلحة بريطانيا (76). فلو كان هناك نية انقاذ حامية كسلا عند بريطانيا لتم ذلك سواء على يد الايطاليين أو الاثيوبين ولكن محاولة اتهام أثيوبيا بأنها لم تسارع بانقاذ كسلا هو تغطية للهدف الحقيقي الذي تريد بريطانيا تحقيقه وهو سقوط السودان بحدوده في أيدي المهديين واسترجاعه بحدوده أيضا دون أن يكون هناك فضل أو ادعاء من الايطاليين أو الاثيوبيين في اي جزء منه.

ومما يؤكد أن بريطانيا لم تكن مهتمة الا بمصالحها في سواحل البحر الأحمر وشرقي السودان بالرغم من حاجة حامية كسلا إلى نجدة رأس ألولا (77)، والتي كان بسبب حصارها أرسلت بعثة هيويت إلى إثيوبيا (78)، كذلك بالرغم من علم بريطانيا برغبة يوحنا في الحصول على ميناء مصوع وأنه فهم من المعاهدة أن هذا الميناء سوف يكون يوما جزءا من أثيوبيا (79)، فان بريطانيا وافقت على أن تحتل ايطاليا مصوع (80)، وذلك بعد أن ظلت تعارض في نشاط ايطاليا على الساحل الأفريقي للبحر الأحمر طوال السبعينات حيث استطاع الايطاليون أن يؤسسوا مستعمرتهم في عصب وما يجاورها. على أن ذلك تغير في الثمانينات حيث راح جرانفيل يتحول عن معارضة اعتداءات الايطاليين على حقوق السيادة التي كانت للخديوية المصرية على هذا الساحل (81)، وبموافقة جرانفيل وبارنج احتلت ايطاليا مصوع وانسحبت الحامية المصرية منها عائدة إلى مصر في 6 فبراير سنة 1886 (82).

وكان الدافع وراء موافقة بريطانيا على استيلاء ايطاليا على مصوع هو خوفها من التدخل الفرنسي في المنطقة أووقوع الامبراطور الأثيوبي تحت تأثير معاد لبريطانيا قد يضر مصالحها، فقد اشار هيويت في مذكرة له في يناير سنة 1884 إلى أن القنصل الفرنسي في مصوع يعمل على كسب مزيد من النفوذ الفرنسي مع يوحنا امبراطور أثيوبيا. وفي نوفمبر صدرت الأوامر إلى نائب القنصل الفرنسي في الخرطوم بأن يخطط لبعثة إلى أثيوبيا تهدف الى مزيد من العلاقات السياسية والتجارية بين فرنسا ويوحنا، وأن يكون في عدوة مندوب فرنسي دائم (83)، وابان زيارة بعثة هيويت ليوحنا استقبل الأخير نائبي فرنسا واليونان، وكما قلقت بريطانيا من النشاط الفرنسي نظرت بعين الشك والريبة إلى نشاط نائب القنصل اليوناني ميتزاكيس وذلك بسبب موقفه العدائي ازاء جوردون أثناء زيارته ليوحنا سنة 1879. وقد دفع ذلك بريطانيا إلى التحري عنه ولم تطمئن الا بعد أن تأكدت من أن مهمته تنمية التجارة، بل ويمكن الاستفادة منه لصالحها. أما بالنسبة لنائب القنصل الفرنسي فقد نجح قنصل فرنسا في الخرطوم في الحصول على دعوة من الامبراطور لزيارة نائب القنصل الفرنسي في مصوع وتم ذلك في 23 أبريل سنة 1884 أي قبل وصول بعثة هيويت إلى أثيوبيا حيث استقبله بترحبا وأعلن محبته لفرنسا وأعدا بأنه لن يعقد أية معاهدة بدون توسط هذا النائب الفرني الذي ارسل نسخة من معاهدة هيويت إلى بلاده (84). وكانت مصر قبل انسحابها من مصوع قد صادرت في أوائل سنة 1883 شحنة أسلحة فرنسية كبيرة كانت وجهتها إثيوبيا. كما أشارت سلطات مصوع المصرية في ذلك الوقت إلى تقارب فرنسي أثيوبي وإلى زيارة نائب قنصل فرنسا للامبراطور يوحنا (85).

وكان مثل هذا النشاط الأوروبي الفرنسي بصفة خاصة سببا في قلق بريطانيا التي أصبحت تتدخل في شئون مصر وتتعجل اخلاءها لامبراطوريتها الأفريقية. ولما كانت وزارة الخارجية البريطانية حريصة على عدم ترك فراغ سياسي ليس في السودان بل في القرن الأفريقي أيضا كما سنرى فيما بعد، وبالرغم من أن بريطانيا لم تكن راغبة في الاستيلاء على مصوع وغيرها فانها أيضا لم تكن راغبة في السماح فرنسا في التدخل في هذه المشاكل القريبة من النيل ومنابعه. لذلك نظرت بعين الشك والريبة إلى محاولاتها للتقرب للامبراطور يوحنا مما دفعها إلى الموافقة على رغبة ايطاليا في الاستيلاء على مصوع وما يجاورها وهكذا تخلت بريطانيا عن معاونة حليفتها مصر في المحافظة على أملاكها كما كانت تفعل في السبعينيات وعن يوحنا الذي قد يرتمي في أحضان فرنسا أو قد ينهزم أمام المهديين فيهددون مصالحها في هذه المناطق وطرق مواصلاتها إلى امبراطوريتها في الشرق، لذلك فضلت أن يحكم مصوع الايطاليون الضعفاء عن المنافس القوي لها فرنسا. والواقع أن بريطانيا أصرت على أن تستعمل الايطاليين (مخلب قط) على الساحل الأثيوبي على البحر الأحمر لتمنع الفرنسيين من الزحف على حوض النيل من الشرق ولتحافظ على السودان حتى تسترده مع مصر بعد ذلك (86).

وقد كان من الممكن أن ينعكس ما قامت به بريطانيا من تسليم مصوع للايطاليين على عملية انسحاب الحاميات المصرية من كافة مراكزها على الحدود، اذ قد يعتبرها الامبراطور عملا عدائيا ضده ويوقف عمليات الانسحاب أو يتخذ الجنود المصريين رهينة عنده ولكن لم يفعل ذلك، وبالتالي فان كل ما قيل أن الامبراطور لم يفعل أي شئ لانقاذ حامية كسلا بالرغم من المحاولات التي بذلت لحضه على الاسراع على نجدة هذه الحامية (87)، ما هو الا محض افتراء وما قصد بهذه المحاولات الا تغطية الرغبة في سقوطها على أيدي المهدية، ودخلت في مناقشات حول تفسير المعاهدة مع يوحنا وقائده ألولا حتى يضيع الوقت وتسقط كسلا.

ومما يؤكد أن ألولا ويوحنا استعدا لانقاذ كسلا أن هيويت نفسه كتب من عدن ، في 22 يونية سنة 1884، 14 يولية من نفس العام أي بعد ابرام المعاهدة بفترة وجيزة بأن راس ألولا ومعه راس مياكييل وبقوة ضخمة تتقدم إلى داخل اقليم بركة طريق سنهيت متجها إلى كسلا، وفي نفس الوقت يتقدم الامبراطور بقواته حتى يلتقي بيلو Billo على بعد 40 ميلا من كسلا واصدر الامبراطور أوامره إلى زعماء القرى المختلفة التي ستمر عبرها قوات الانقاذ الأثيوبية بأعداد المؤن لها حيث انها ستمر بعد قليل متجهة إلى كسلا لانقاذها (88).

وبالرغم من هذه الاستعدادات فانه نتيجة لتطور المناقشات في تفسير المعاهدة كانت الأوامر تصدر بتأجيل زحف جيش الانقاذ هذا (89). وقد استمر هاذ التأجيل حتى وقت استيلاء الايطاليين على مصوع، وعندما ساءت حالة حامية كسلا استنجد شارمسيد بيوحنا في 11 أبريل 1885 يحثه على انجاد حامية كسلا على وجه السرعة ويعده بعشرة آلاف بندقية اذا ما قام بذلك. وعندما تحرك يوحنا أخيرا بعد انتهاء المناقشات حول المعاهدة كان الوقت قد مر وساءت حالة الحامية وربما كان الدافع إلى ارسال هذا الخطاب للامبراطور لنقاذ الحامية هو حلول فصل الصيف، وبالتالي تعذر الاسراع لنجدة الحامية التي كان واضحا أنها على وشك السقوط، ولقد أوضح راس ألولا سبب تعذر انقاذ الحامية في ذلك الوقت وهو أن جنوده كانوا في شهر يونية يذهبون إلى حقولهم لزراعتها ويتجمعون في مقر قيادتهم في سبتمبر، بالاضافة إلى صعوبة التحرك بجيش كبير في موسم الأمطار. بالرغم من معرفة شارمسيد بهذه الظروف فانه أرسل مساعد حاكم مصوع إلى الولا بهدية من الأسلحة والنقود يحثه على التحرك، وقد رد الولا بأنه سوف يقود الحملة بنفسه بعد انتهاء موسم الأمطار وتجميع قواته. أي في سبتمبر. وفي هذا الوقت جاءته رسالة تهديد من عثمان دقنة قائد المهديين في شرقي السودان (90).

وبان استعداد اولا لملاقاة عثمان دقنة والرد على تهديده وانقاذ حامية كسلا، جاءته الأنباء بسقوطها في أيدي المهديين في 19 يولية سنة 1885 ودخول عثمان دقنة المدينة في 26 أغسطس وبعد ذلك زحف إلى كوفيت حيث تقابل مع راس الولا الزاحف بالحبشة فكانت موقعة كوفيت التي هزم فيها عثمان دقنة ورجع إلى كسلا (91). ولم يستغل الولا هذا الانتصار وانما عاد إلى أسمرة ولم يقم بأي عمل عدائي ضد المهديين وربما كان السبب في ذلك الخطر الايطالي القادم من مصوع، بل ان يوحنا وجيشه الكبير كان على بعد 9 أيام فقط من كسلا ومع ذلك لم يقم بأي عمل عدائي ضد المهديين، وربما كان السبب في ذلك نصيحة القنصل اليوناني متزاكيس بألا يناصب السودان أو الثورة المهدية العداء، ويبدو أنه عمل بها وكذلك عمل بها الولا. وكانت هذه النصيحة التي أبداها القنصل اليوناني بناء على تعليمات صادرة إليه من وزير الخارجية اليوناني (92). وكنا قد ذكرنا من قبل أن التحريات البريطانية أكدت أنه يمكن استخدام هذا القنصل لخدمة المصالح البريطانية فلا يستبعد اذن أن تكون هذه النصيحة بناء على تعليمات سرية من بريطانيا إلى اليونان والقنصل اليوناني حتى تمنع يوحنا من الذهاب إلى كسلا.

واذا كان يوحنا لم يستطع انقاذ حامية كسلا، فانه باستثنائها قد قام بدوره تماما الذي فرضته عليه معاهدة عدوة، وخطاب الملكة فيكتوريا الذي طلبت فيه منه اخلاء جميع الحاميات المصرية. فقد قام يوحنا بانقاذ الحاميات المصرية من قلاعها، وسكان المدن الذين يرغبون في الرحيل والواقعة على طول الحدود الشمالية والشمالية الشرقية، ووصلت بأمان إلى مصوع ومنها إلى السويس. وكان عدد الحاميات التي أنقذها الامبراطور خمس حاميات هي أميديب ووصلت إلى مصوع في 10 أريل سنة 1885، وسنهيت ووصلت حاميتها مصوع في 19 منه. وفي 12 سبتمبر سنة 1885 شملت سنهيت بأكملها إلى أثيوبيا، وانسحبت حامية الجيرة في 8 يولية من نفس العام ووصلت إلى مصوع في أوائل فبراير من العام التالي. كما قام يوحنا بانقاذ حامية الجيدية وتوصلها إلى مصوع سالمة. أما حامية القلابات فقد كانت من أول الحاميات التي أنقذها جيش يوحنا وذلك منذ أن طلب منه انقاذها وقت أن كان يستعد لانقاذ كسلا، فانسحبت في سلامة في 18 فبراير سنة 1885، ووصلت إلى مصوع في آخر مايو من نفس العام. وبذلك تكون معظم الحاميات انقذت ما عدا كسلا، للظروف التي ذكرت من قبل، وحامية القضارف التي سقطت في أيدي المهديين في أبريل سنة 1884، أي قبل عقد معاهدة عدوة بشهرين تقريبا وبذلك لا يكون يوحنا مسئولا عن سقوطها (93).

اخلاء هرر وموانئ شرق أفريقيا

وبالرغم من أن هرر وموانئ شرق أفريقيا التابعة لمصر لم تتعرض لاي خطر من الثورة المهدية وذلك بسبب بعدها عنها، فان بريطانيا أجبرت مصر على الانسحاب منها (94)، وذلك لحاجة القاعدة البريطانية في عدن إلى زيلع وبربرة لتموينها وهما يعتبران مدخلا ومخرجا لاقليم هرر، وبالتالي فلكي تستوي بريطانيا على هذين المينائين يجب أن تخليهما مصر ومعهما هرر. وعليه فقد ادعى المقيم السياسي المساعد ميجور هنتر أن منليك ملك شوا يستعد للاستيلاء على هرر بمساعدة قبائل الجالا، وأن قبائل الصومال قد أعلنت أنها ستخرج المصريين من بربرة وزيلع، وقد ابلغ هنتر ذلك إلى معتمد بريطانيا في مصر وكان هدفه اظهار مدى التهديد الموجه إلى مصر في هذه المناطق ودعوة بريطانيا إلى التدخل للمحافظة على عدن نفسها عن طريق الاستيلاء على الموانئ المواجهة لها على الشاطئ الأفريقي التي تقوم بتموينها. والمعروف أن القاعدة البريطانية في عدن هي مفتاح البحر الأحمر ومحطة التموين الضرورية للمواصلات البحرية الامبراطورية مع الهند وأستراليا (95). وربما قصد هنتر من ابلاغه هذا أن ينبه بريطانيا إلى خطورة عدم التدخل في هذه المناطق مما قد يؤثر على قاعدتها عدن تأثيرا خطيرا اذ قد ينتهز منليك فرصة الثورة المهدية وعجز مصر عن مقاومتها للهجوم على هرر والقبائل الصومالية على بربر وزيلع، أو ربما كانت دعوته هذه – في أواخر ديسمبر سنة 1883، صدى لتصعيد يوحنا لغاراته على الحدود المصرية وقد يدفع يوحنا منليك في اطار هذا التصعيد الى غزو هرر مما يؤثر بالتالي على بربر وزيلع وتموين عدن، أو يكون هناك اتفاق سري بين هنتر ويوحنا لجعل بريطانيا تتدخل لحل مشاكل الحدود بينه وبين مصر وفي نفس الوقت يوضح لها مدى الفائدة التي ستحصل عليها نتيجة لهذا التدخل.

والواقع أن ما ادعاه ميجور هنتر كان يمثل فعلا شائعة ربما يكون هو الذي روجها أو يكون اتباع الامبراطور يوحنا في هذه المنطقة القاطنون في أوساهم الذين فعلو ذلك، حيث تم القضاء فيها على حملة منزنجر (96). أو يكون الاثناء معا هنتر ويوحنا، حيث أن تصفية أملاك مصر لا يخدم سوى بريطانيا والامبراطور الأثيوبي، أو يكون هناك اتفاق بين هنتر وحاكم زيلع، على أن يقوم الأخير بارسال رسائل إلى مصر يكون هدفها ابراز الخطورة على أملاكها في شرق أفريقيا حتى يساعد على اخلائها، وتتحق بذلك رغبة هنتر في حض بريطانيا على التدخل في هذه المناطق ويتم الاستيلاء على زيلع وبربرة وذلك بهدف تدعيم قاعدتها في عدن. أما منليك – وذلك احتمال قائم – مع رغم انكاره، وربما كان ذلك صحيحا اذ أنه لم ينتهز فرصة انشغال مصر بمشاكلها ويحتل هرر بل فعل ذلك بعد أن تم اخلاؤها، أي أنه هو أيضا استفاد من هذه الشائعة إلى حد ما، وكذلك فقد يكون وراء هذه الشائعة تواطؤ بين حاكم زيلع أبو بكر شحين المعين من قبل مصر على هذا الميناء، وبين منليك، فقد حاول أن يتفق معه في نهاية سنة 1883 على أن يكون خط حدود مملكة شوا يبدأ من نهر أواش Awash إلى خط منتصف الطريق ما بين انكوبر عاصمة شوا وهرر على أن يضمن حامية الساحل حرة يحكمها هو، كما أنه دعا منليك الى احتلال هرر في أبريل سنة 1884 أي قبل اخلائها في أكتوبر سنة 1884 من حاميتها المصرية، وذلك بعد أن تأكد من تدهور السيادة المصرية في السودان، واذا كان منليك أنكر ذلك رسميا في رسالته إلى مصر فإنه بالتأكيد قد جعله، بعد أن عرف بتدهور موقف مصر واخلائها لأملاكها، يتبع، سياسة الاتجاه نحو الشرق في توسعاته ويطمع في اقليم هرر الغني ويرغب في ضمه إليه (97).

وأخيرا قد تكون ايطاليا وراء هذه الشائعة، اذ أنها كانت تبغي التوسع وتريد تدعيم مستعمرتها في عصب، ويقتضي ذلك أن تتصل تجاريا وسياسي في بداية الأمر مع المالك والقبائل المجاورة لهذه المستعمرة. لذلك ارسلت ايطاليا الكونت بينزو انطونللي إلى منليك، الذي كان أول من اتصل بالايطاليين منذ نوزلهم في عصب لعقد معاهدة معه للحصول على مساعدته في تحسين أحوال المستعمرة. وفي طريقه إلييه عقد أنطوللي معاهدة مع السلطان محمد أنفاري سلطان أوسا في 15 مارس 1883، وطدت ايطاليا بها نفوذها في جهات أوسا والدناكل. وأخيرا وصل أنطوللي إلى منليك وعقد معه معاهدة في 21 مايو سنة 1883 عززت مركز ايطاليا التجاري والسياسي في هذه المناطق بل وأظهرت بجلاء أطماع إيطاليا في أثيوبيا نفسها، كما أنها اقنعت منليك بالتسليم بنوع من الخضوع المبهم (98). وقد أثار نشاط الايطاليين هذا خوف ميجور هنتر، فذكر بأنه يخاف من أن ترسل ايطالي حملة تضم بها هرر إلى أملاكها (99). وبذلك فقد تكون ايطاليا قد نشرت هذها الشائعة بهدف تغطية هدفها الحقيقي.

ولقد بدأت هذه الشائعة بأن أرسل محافظ زيلع أبو بكر شحيم إلى مصر يخبرها بسماعه أخبارا كاذبة من جهة هرر أشاعها بعض المفسدين عن عودة محمد نادي باشا حكمدار هرر السابق ومعه قوة حربية للاستيلاء على بعض المناطق التابعة لملك شوا. ولما كانت هذه الشائعة ذات نتائج خطيرة، فقد اتخذ محافظ زيلع الاجراءات التي تكذبها بهدف اعادة الأمن والسلام في هذه المناطق، بأن أصدر أوامره الى مأمور الضبطية بأن يعمل على القضاء على هذه الشائعة الباطلة ويقبض على مروجيها ويسجنهم وأن يوضح أن مصر تحافظ على علاقتها الطيبة مع جيرانها. وقد أثارت هذه الشائعة منليك فأرسل مبعوثيه إلى حاكم زيلع ليتأكد منها ويبدي تعجبه منها لأن علاقته مع مصر طيبة. وقد كذبها حاكم زيلع وأكد لمبعوثي منليك مدى حرص مصر على علاقتها الطيبة مع ملك شوا، بل أرسل ولده محمد مع هؤلاء المبعوثين إلى منليك ليؤكد مدى حرص مصر على علاقتها الطيبة معه ويكذب هذه الشائعة وينفيها ويطمئنه بما يوجب سكوته وعدم تصوره لشئ قد يوجب الكدر (100).

على أنه لم يتمر بضعة أيام حتى أرسل حاكم زيلع إلى مصر يبلغها بأنه عمل عن طريق ولده الذي ذهب مع مبعوثي منليك بأن الأخير عندما علم بعدم وجودجنود مصريين بعدد كاف لصد أي هجوم يقع على هرر، قرر الاغارة عليه وضمها إلى ملكه وأن الكونت أنطونللي عرض منليك على ذلك ابان زيارته لشوا في محاولة لتدعيم النفوذ الايطالي في شرق أفريقيا وأثيوبيا. وقد اتصل منليك بسلطان أوسا محمد أنفاري ربما لكي يعلم حقيقة الحملة القادمة والتي يرأسها محمد نادي، أو ليتحد معه ضد الحملة أو لغزو هرر، على أن منليك صرح لولد حاكم زيلع بارسال هذه الأخبار إلى والده ليرسلها بالتالي إلى مصر. وأكد مرة أخرى أن منليك صدق بعدم وجود قوات مصرية كافية في هرر وأنه قد يقوم بغزوها (101). وقد ذكر حاكم زيلع لحكومة مصر بأنه نبه حاكم هرر إلى هذا الخطر القادم من ملك شوا وأن يعمل على المحافظة على أملاك مصر في هذه المنطقة (102). وقد قام حاكم هرر بواجبه ازاء هذه الظروف، ولكنه ذكر لحاكم زيلع أن هذه الأخبار ليست على درجة من الأهمية والمبالغة التي بلغته وأنه حين علم بها أرسل مبعوثيه إلى الجهة القريبة من هرر والتي قبل بأن جنود منليك قد وصلتها للوقوف على حقيقة الأمر، واتضح أن منليك ارسل جنوده إلى منطقة قريبة من هرر ولكنها غير خاضعة لها، وذلك في محاولة لضمها إلى مملتكه، ولكن حملته هذه فشلت وعادت إلى شوا بعد ذلك، ولم يحدث أي تعدي من منليك على حدود أملاك مصر في هرر، وأكد أيضا أن هذه الأخبار عادية ولا تستعدي أن يسارع ويرسلها إلى محافظ سواحل البحر الأحمر، وأنه سوف يرسلها في البوستة المعتادة التي تحمل أخبار هرر كل خمسة عشر يوما، وأنه بالفعل أرسلها في البوستة العادية في 17 يونية سنة 1883 (103).

وبالرغم من أن الأمور كانت عادية كما أوضح حاكم هرر، فأن محافظة زيلع، أكد مرة أخرى خطورة الموقف في رسالة أخرى ارسلها إلى خديوي مصر، وليس إلى رئيس وزراء مصر شريف باشا ذي الميول الوطنية والذي ربما اعتقد أنه لا يميل الى الاخراء كما تأكد ذلك عندما رفض اخلاء السودان واستقال من منصبه عندما أجبرت بريطانيا مصر على ذلك. فهل قصد محافظ زيلع اخبار الخديوي بأن شريف باشا لا يهتم بالأخطار التي تهدد أملاك مصر في شرق أفريقيا أم أنه أراد تأكيد هذه الشائعة وخطورتها واخلاصه لمصر ومصالحها. وقد أشار ضمنا في رسالته للخديوي إلى أن هناك اجتماعا بين الامبراطور يوحنا والملك منليك وأنه قد تم التصاهر بينهما (104). والمعروف أن يوحنا كان قد صعد غاراته على حدود مصر في سنة 1883، فهل قصد محافظ زيلع أن يشير إلى أن هناك اتفاقا بين يوحنا ومنليك على أن يقوم الأخير بشن غاراته على حكمدارية هرر المصرية وذلك في اطار سياسة التصعيد الحربي ضد حصر في كافة أملاكها على حدود أثيوبيا من جميع الجهات، أم أنه أراد تغطية أهدافه وتحقيقها منتهزا المشاكل المتزايدة على مصر في هذه الفترة بمحاولة اظهار اخلاصه عن طريق رسالته هذه إلى الخدييو واثارة المشكلة وتدعيمها حتى يستغلها بعد ذلك الانجليز في تحقيق آمالها التوسعية في هذه المنطقة. وبالفعل فقد أحاط قنصل بريطانيا في مصر ماليت شريف باشا علما بأن قنصل بريطانيا في الصومال أخبره بأن منليك قد استعد بستين ألف جندي ليزحف بهم على هرر ويضمها إليه وأنه اسر برغبته هذه إلى ابن محافظ زيلع الذي كان يزوره وقتها. وطلب ماليت من شريف باشا معرفة مدى صحة ذلك (105).

وأخيرا ارسل شريف باشا رسالة إلى محافظ زيلع يعرب فيها عن دهشته هو والخديوي من شائعة غزو منليك لهرر في الوقت الذي لم يفكر فيه الخديوي الاغارة على شوا، أو حتى الاساءة إلى العلاقات مع منليك، كما أن مصر لم يخطر ببالها ارسال حملة لهرر لعدم وجود ما يسبب ذلك. وعتب شريف باشا على حاكم زيلع بأنه كان عليه سرعة تكذيب هذه الشائعة والعمل على عدم توصيلها إلى شوا وذلك حتى لا يترتب عليها تصديق الملك اياها، وطلب منه العمل على تكذيبها واظهار مقاصد الحكومة المصرية السلمية وأن يحرر رسالة للملك توضح رغبة مصر السلمية. وكان شريف باشا يعتقد بأن ارسال صورة رسالته مع رسالة من محافظ زيلع تزيل سوء الفهم وعيد العلاقات الطيبة ثانية بين مصر وشوا (106)، وبالفعل تم ذلك ورد منليك على رسالة شريف باشا مؤكدا حسن علاقاته مع مصر وموضحا بأنه ذهب إلى جهة إيتو لجمع الضرائب منها وما يجاورها وليس لغزو هرر ، وأنه لو كان يرغب في غزوها لما انتظر إلى هذا اليوم. على أنه ذكر أن هرر هي من أملاك أثيوبيا وأنه اذا كان قد سكت على غزو اسماعيل لها انما كان لرغبته في دوام المحبة معه، وأنه يرغب في استمرارها، ولكن القيود التي وضعت على البضائع الواردة لاثيوبيا في جمرك زيلع مرتفعة وطلب فتح هذا الجمرك لبضائع شوا حتى تستمر العلاقات الودية بينها وبين مصر (107) وقد وافقت حكومة الخديوي على تخفيف القيود الجمركية على واردات منليك بأن أعفت كل البضائع التي ترد إليه من رسوم الجمارك. أما المحصولات والبضائع وجميع الأصناف ذات الصفة التجارية فتخضع للضرائب طبقا لما هو سائد تجاريا بين الدول، كما وافقت على دخول عشرة آلاف خرطوش يطلبها منليك (108). وبالرغم من انتهاء هذه المشكلة فان محافظ زيلع اثار ما كان قد طلبه منليك من رغبة في تحديد الحدود بين أملاك مصر في شرق أفريقيا ومملكة شوا (109).

على أن ذلك لم يتم لأن ميجور هنتر كان قد أرسل برقية الى بارنج بتهديد منليك لهرر وقبائل الصومال بربره وزيلع ورغبته في اخلائهما من المصريين. وقد أرسل بارنج هذه البرقية إلى وزير خارجية بريطانيا الذي أرسل احدى السفن الحربية الى هذين المينائين لحمايتها (110). وبالرغم من كذب ادعاء هنتر هذا فان بارنج أيده وادعى هو أيضا بخطورة الحالة وساعده في ذلك نوبار باشا الذي خلف شريف باشا وطلب منه أن ترسل بريطانيا أحد ضباطها إلى هرر لدراسة امكانية توفير بعض حامياتها. وعندما وجد بارنج هذا الاتجاه عند نوبار، طلب من حكومته أن تعمل على منح هذا الاقليم استقلاله واعادته إلى الأسرة الحاكمة السابقة التي كانت تحكمه من قبل الفتح المصري له، واشار عليه بأن تعمل على اخلاء هرر من القوات المصرية بسرعة وأن تكلف هنتر بتنفيذ هذا الجلاء (111)، وبالفعل تم اخلاء هرر (112)، وبعد ذلك تم اخلاء زيلع وبربره واستولت بريطنيا على الأخيرتين (113).

وهكذا تم تجريد مصر من أملاكها الافريقية وساعدها على ذلك الامبراطور يوحنا الذي ارسلت اليه بريطانيا بعثة شكر برياسة هاريسون سميث ومعها بعض الهدايا له ولقائده راس الولا وابنه راس آريا سيلاسي، لما بذله من جهد في انقاذ الحاميات المصرية المحاصرة في السودان الشرقي باستثناء كسلا. وقد حمل سميث خطابا من ملكة بريطانيا إلى يوحنا وكذلك سيف الشرف الذي أهدته اليه، وتم ذلك في بورميدا ، حيث قابلت البعثة الامبراطور فيها (114).

وباخلاء السودان لم تعد هناك أية حدود مشتركة مع أثيوبيا وبالتالي لم تعد هناك أية علاقات سياسية بين مصر وأثيوبيا في الفترة الباقية من حكم يوحنا وساعد على ذلك انه انشغل مع الثورة المهدية التي ورثت عن مصر مشاكل الحدود مع أثيوبيا وتابعتها مع الامبراطور الاثيوبي (115). كذلك فقد كان للمشاكل المتصاعدة مع ايطاليا بسبب أطماعها أثر كبير في انشغال يوحنا بها، وقد ضاعف من مشاغل يوحنا مشاكل أخرى بعيدة عن مصر مثل تجدد الصراع بنيه وبين منليك بسبب تعاون الأخير مع الايطاليين، ثم وفاة ابنه آرسيا سيلاسي والذي كان قد تزوج من ابنة منليك زوديتو مما جعل كل الترتيبات التي كان قد اتفق عليها بين يوحنا ومنليك في أن يخلف الأخير الأول ويتولى الحكم بعد ذلك ابن الامبراطور يوحنا آريا سيلاسي. وكان هذا الاتفاق محاولة من يوحنا للحد من قوة منليك المتزايدة وتهديده له في حكم أثيوبيا، وكان وفاة آريا سيلاسي سببا في عودة منليك إلى تهديد حكم يوحنا مرة أخرى (116). وهكذا انشغل الامبراطور يوحنا بمشاكل بلاده الداخلية والخارجية وظل يكافحها حتى استطاع المهديون هزيمته وقتله في معركة القلابات سنة 1889 (117) وبذلك انتهى حكم يوحنا لاثيوبيا وخلفه الامبراطور منليك الثاني (118).

ثانيا: في عهد منليك الثاني سنة 1889 - 1902

بالرغم من أنه لم تكن هناك علاقات سياسية مباشرة هامة بين مصر وأثيوبيا في عهد منليك الثاني مثلما كان في عهد سلفه يوحنا، فانه كان هناك علاقات سياسية بين البلدين وان كانت بصورة غير مباشرة تاثرت بالصراع الدائر بين ثلاث دول اوروبية هما انجلترا وفرنسا وايطاليا في هذه المنطقة، اتخذت فيه أثيوبيا تحت حكم منليك الثاني اتجاها مضادا وذلك لتأييده لفرنسا ونشاطها المعادي لانجلترا ومصر بحكم أنها خاضعة لها، وأيضا ايطاليا التي كانت تسير في ذك الوقت في ركاب بريطانيا، وكان مجال هذا الصراع بين هذه الدول الاوروبية والأفريقية السودان والثورة المهدية. وهكذا فاننا نستطيع أن نقول أن العلاقات المصرية الأثيوبية في عهد منليك تحولت من صراع حربي إلى صراع دبلواسي سياسي لم ينتج عنه حرب بينهما سواء أكانت مباشرة أم غير مباشرة.

والواقع أن تأثير هذا الصراع الدولي على العلاقات المصرية الأثيوبية يعود إلى إعلان منليك نفسه امبراطورا على كافة أنحاء أثيوبيا بعد وفاة يوحنا مباشرة. حقيقة أن هذا الصراع كان موجودا من قبل ولكنه محدودا ومحصورا بين يوحنا وأطماع ايطاليا في مصوع والمناطق المجاورة لها. ومع وفاة يوحنا ووصول منليك للعرش الاثيوبي بدأت تتلاحق الأحداث وتتطور تطورا سريعا وقد استطاع منليك أن ويجهها لمصلحته مستغلا في ذلك هذا الصراع الدولي ، وقد تأثرت مصر ومصالحها في السودان به. ذلك أن منليك لم يستطع أن يثبت حكمه بدون مساعدة أو استقلال الايطاليين له (119). فعند وفاة يوحنا اعترف بابنه منجاشا وكان ابنا غير شرعي، وأوصى به رعيته ورؤوسه وقواد جيشه، وكان هذا ايحاء لهم بتنصيبه امبراطورا من بعده على أن ذلك لم يتم، اذ لم يصلوا الى اتفاق فيما بينهم على هذا الاتجاه. وقد عاد الرؤوس والقواد الى مملكة تيجري بعد وفاة يوحنا في القلابات ولم يكن بينهم من يؤدي منجاشا سوى الراس الولا (120). وعندما عاد إلى تيجري التف شعبها حوله، وساعد على هذا أن شعب تيجري كان يكن كراهية شديدة لشوا، كما أنهم كانوا يعتقدون أنهم سادة أثيوبيا، وأن تصنيب منليك امبراطورا يحرمهم من هذه السيادة. لذلك قرر رؤوس تيجري – عندما سمعوا بأن منليك ينوي تتويج نفسه في أكسوم – قتله اذا ما حاول ذلك. وعلى ذلك فقد وثق منليك من أنه لن يستطيع تتويج نفسه الا بمساعدة ايطاليا فأظهر لها الود والصداقة حتى يستطتيع استغلالها في تحقيق هدفه هذا، وان كان لا يود ذلك في الحقيقة، وعليه فقد رأى منليك أن من الأوفق في هذا الظروف أن يترك سكان تيجري عدة شهور تحت رحمة الاعتداءات الايطالية بهدف اذلالهم وكسر شوكتهم (121)ز

وكان الايطاليون قد استولوا على سآي في اطار توسعاتهم بعد استيلائهم على مصوع وأيدتهم في ذلك بريطانيا لسببين: الأول محاربة المهديين والثاني رقابة الفرنسيين في سواحل البحر الأحمر والتصدي لهم (122). وعندما احتج الولا قبل توجهه لانقاذ حامية كسلا على احتلال الايطاليين لسآتي، وذلك لأنها تعتبر بداية التهديد الجدي لأثيوبيا اذ أنها كانت تعتبر من الأراضي المحايدة بين مصر وأثيوبيا، وكان ضمان حيادها يساعد على سهولة وأمان التجارة وطرقها، وكان احتلالها على يد الايطاللين يعني الاعتداء على أثيوبيا وسيادتها (123)، على أن الجنرال ساليتا استطاع أن يوهم رأس الولا بأنه سوف يرسل بعثة لعقد معاهدة صداقة مع الامبراطور يوحنا (124). على أن هذا لم يتم، فقد سحب الايطاليون بعثتهم التي كان من المفروض أن تصاحب بعثة البريطاني هاريسون سميث المرسلة إلى يوحنا بهدف التوسط بين ايطاليا واثيوبيا لمنع الحرب ولتشكره على جهوده المبذولة في انقاذ الحاميات المصرية من مواقعها في السودان، وذلك بسبب ما ذكره الكونت بيترو أنطونللي ممثل ايطالي في بلاط منليك ملك شوا في رسالته التي أرسلها إلى حكومة ايطاليا مشيرا إلى أن يوحنا ارسل إلى منليك رسالة كلها طعن وسب في ايطاليا والايطاليين. ولذلك فقد رأى وزير خارجية ايطاليا ازاء هذا الحقد وتلك الكراهية من يوحنا، أن يوقف البعثة الايطالية التي كان مقررا ارسالها لعقد معاهدة صداقة معه. وعادت البعثة الايطالية إلى مصوع وأكمل هاريسون سميث رحلته بمفرده، وبالرغم من ذلك فقد حاول الأخير مع يوحنا في مفاوضاته أن يوفق بين الأثيوبيين والايطاليين الا أنه فشل في مهمته (125). وقد أدى ذلك إلى ازدياد العداء بين يوحنا وايطاليا وكانت الأخيرة مستمرة في توسعاتها وتدعيم قوتها في هذه المناطق الجديدة مما أثار راس الولا الذي حاصر قلعة سآتي واستطاع أن يقضي على الامدادات الايطالية التي كانت مرسلة إلى هذه القلعة في سهل دوجالي في 26 يناير سنة 1887 (126).

وبالرغم من هذه الهزيمة فان ايطاليا استطاعت أن تدعم مكانتها في مستعمرتها هذه (127)، فاستطاعت بموافقة بريطانيا أن تجعل رأس قصار هو الحد الشمالي لمصوع والفاصل بينها وبين النفوذ البريطاني المصري في سواكن وبذلك أمنت حدها الشمالي (128). أما جنوبا فقد عملت ايطاليا على مد مستعمرتها إلى هضاب الحبشة الجنوبية، ولتحقيق ذلك عقدت معاهدات تجارية وسياسية مع كل من سلطان أوسا ومنليك ملك شوا، وبموجب هذه المعاهدات تدعم النفوذ الايطالي في هذه المناطق (129). وعندما فرغت ايطاليا من تدعيم مستعمرتها، بدأت تتطلع إلى التوسع مرة أخرى فاستولت على سآتي مرة أخرى في فبراير سنة 1888 وكان رأس الولا قد أجبر الايطاليين على الجلاء منها، وفي هذه المرة دعم الايطاليون قوتهم فيها وحصنوها تحصينا قويا لدرجة أن يوحنا نفسه لم يستطيع اقتحامها، لذلك قرر الدخول في مباحثات مع السلطات الايطالية من أجل عقد صلح معها. على أن هذه انتهت بأن رفض يوحنا أي تناول منه عن أي منطقة أثيوبية لايطاليا. كما رفض ارسال أي مبعوث ايطالي إليه للتفاوض معه وانسحب بعدها من أمام سآتي في أوائل أبريل سنة 1888 كي يواجه خطرا آخر غير خطر الايطاليين وهو خطر المهديين الذين كانوا قد بدأوا يغيرون على الأراضي الأثيوبية الغربية ثم تجدد النزاع بينه وبين منليك (130).

واستغل الايطاليون انشغال يوحنا بمشاكله الداخلية وانسحابه المفاجئ من أمام سآتي وهدوء الحالة الشمالية الشرقية الأثيوبية، فعزلوا الجنرال سان مارزانو وعينوا الكولونيل بالديسرا الذي كان من سياسته أن ينتهز فرصة انشغال يوحنا هذه ويغزو هضاب اثيوبيا الشمالية التي يلائم مناخها القوات الايطالية. وبالفعل بدأ يستعين ببعض الرؤوس الصغار في مملكة تيجري وكان منهم دبيب وكيفلا، اللذان كانا موالين لمصر وكانا يساعدانها ضد هجمات الولا في سنة 1883. وقد استطاع القائد الايطالي أن يستغل كراهيتهم للامبراطور وراس ألولا إلى أقصى حد لصالح ايطاليا. بعكس المصريين الذين لم تمكنهم الظروف من ذلك، وقد احتل كيفلا كيرين عاصمة سنهيت لحساب ايطاليا في يوليوة سنة 1888 (131). واستولى دبيب على أكلي كوازي وأسمرة واحتل القائد الايطالي جيندا وبدأ يزحف إلى عدوه (132). وكان يوحنا قد قتل في هذه الأثناء، وحاول منليك فرض تتويجه على مملكة تيجري التي رفضت ذلك فما كان منه إلا أن انسحب منها وتركها عرضة للغارات والاحتلال الايطالي وعاد إلى شوا. وكان راس الولا ومعه منجاشا قد وصلا إلى تيجري وشعر بالأخطار المحدقة بها من الايطاليين ومن منليك، لذلك وضع نصب عينيه محاربة الايطاليين وصد زحفهم عن تيجري من ناحية والوقوف في وجه أطماع منليك من ناحية أخرى (133).

لذلك فقد رأى منليك بفطنته أن يعتمد على حلفائه الايطالليين في التخلص من رأس منجاشا منافسه على العرض ومؤيديه من الرؤوس، لذلك سمح للايطاليين بالتوسع في مملكة تيجري التي لم يكن له فيها أي نفوذ، بل حرضهم على احتلال أسمرة عاصمة اقليم هماسين في مقابل منع وصول السلاح إلى منجاشا (134). وبذلك يكون منليك من مؤسسي المستعمرة الايطالية التي عرفت بأريتريا بسلبيته هذه وربما لو أحرز انتصارا عليهم مثلما فعل يوحنا مع المصريين لاستطاع السيطرة على تيجري ولوضع حدا للتوسع الايطالي، ولكن منليك لم يفعل ذلك بل أسرع بمجرد أن علم بوفاة يوحنا بارسال رسالة إلى ملك ايطاليا يزف إليه بشرى وفاة مناوئهم الأول في أثيوبيا ويرجوه أن يصدر أوامره إلى حاكم مصوع بعدم الاستماع إلى ما يقوله الثوار (منجاشا والولا وغيرهم من رؤوس تيجري) ، وأن يمنه وصول أية أسلحة إليهم. كما أشار بأحقيته في العرض ، ونيته في المناداة بنفسه امبراطورا عليها (135). وكانت ايطاليا أيضا في حاجة إلى تأييد منليك لها (136)، لكي تستطيع أن تحقق بعض مطامعهها في أثيوبيا . وقد تفرض حمايتها على الإمبراطورية الأثيوبية كلها، وبالتالي تظهر أمام الدول الأوروبية الأخرى كمنطقة نفوذ ايطالية وبذلك تلاقت مطامع ايطاليا مع أهداف منليك مما أدى إلى عقد معاهدة بينهما تحقق لمنليك ارتقاء العرض ومطامع ايطاليا الاستعمارية في شرق أفريقيا (137). وقد عرفت هذه المعاهدة بمعاهدة أوتشيالي نسبة إلى القرية الاثيوبية التي وقعت فيها (138).

معاهدة أوتشيالي ، والعلاقات غير المباشرة بين مصر وأثيوبيا

من المعروف أن بريطانيا ساعدت ايطاليا على الاستيلاء على مصوع وحددت حدود مستعمرتها الشمالية عندما وافقت على أن تكون رأس قصار الحد الفاصل بين نفوذها في سواكن وهذه المستعمرة وضم ميناء زولا إليها والتي كان يرفرف عليها العلم المصري حتى أغسطس سنة 1888 (139). وكان هدف ايطاليا من وراء هذا التدعيم لمستعمرة ايطاليا (140)، أن تشغل أثيوبيا عن تنفيذ ادعاءاتها في السودان، وهي ادعاءات قديمة تخول لها امتلاك الأراضي الواسعة على طول النيل الأزرق الخرطوم ومجرى النيل الأبيض وذلك تحقيقا لامبراطورية أثيوبيا القديمة (1412). ولتمنه هذه المستعمرة الايطالية المدعمة توسع الفرنسيين الموجودين في أوبوك نحو السودان وذلك عن طريق بسط نفوذها على أثيوبيا واتخاذها منطلقا للوصول إلى أعالي النيل. ومن هذا المنطلق عقدت بريطانيا مع فرنسا اتفاقا في فبراير سنة 1888، تعهدت فيه الدولتان بألا تسعيا عن حقهما في معارضة أية محاولة قد تقوم بها دولة أخرى للاستيلاء عليها ووضعها تحت حمايتها (142). وأخيرا تقف ايطاليا سدا دون ثورة المهدي في الشمال. وفي حالة ما اذا وقعت الحروب بين الأثيوبيين والايطاليين والمهديين وهو ما حدث فعلا، فانه بالتأكيد سيؤدي إلى تدهور موقفهم جميعا، فيسهل على بريطانيا ابتلاع كل المنطقة (143).

وبالرغم من ذلك كله فان معاهدة أوتشيالي الموقعة بين منليك وايطاليا قد أثارت بريطانيا ونبهتها إلى خطر التوسع الايطالي في هذه المنطقة. فطبقا للمادة (34) من اللائحة العامة لمؤتمر برلين المنعقد في 1884/1885 بتعيين مناطق النفوذ في أفريقيا، التي تنص على ضرورة ابلاغ الدول الأوروبية الأخرى بما تحققه أحداها من امتلاك أي جزء من أراضي أو سواحل أفريقية، فقد أبلغت ايطاليا المادة السابعة عشرة فقد من معاهدة أوتشيالي إلى جميع عواصم الدول الأوروبية وأمريكا تقريبا ومنها لندن، وهذه المادة كانت تتضمن اعترافا من منليك بحماية ايطاليا على بلاده وبذلك تكون حكومة ايطاليا قد أعلنت رسميا عندما أبلغت الحكومات الأوروبية فرض حمايتها على أثيوبيا (144). على أن مواد هذه المعاهدة لم تعلن بها أي دولة أخرى، وذلك ربما لأنها خاصة بها أو كمحاولة ايطالية لاخفاء مطامعها الحقيقية. على أن نسخة كاملة من هذه المعاهدة وصلت الى حكومة بريطانيا في نوفمبر سنة 1889 بطريقة غير رسمية. واتضح لها أن الايطاليين لا يحاولون فرض نفوذهم على أثيوبيا وتأمين مركزهم فيها، وانما يعملون على تنفيذ برنامج توسعي في السودان الشرقي، ويعرض الحالة الراهنة لحوض النيل للأخطار (145). فقد كانت المادة الثالثة تنص على تكوين لجنة خاصة من اثنين من الايطاليين ومثلهما من الأثيوبيين لتخطيط الحدود بين أملاك ايطاليا وأثيوبيا والتي تمتد من أرافالي شرقا إلى عدى يوحنا غربا مارة بقرى هالاي وساجانيني وأسمرة وعدى نيفاس، على أن تقع هذه القرى جميعا داخل أملاك ايطاليا (146). ويعني ذلك دخول المناطق الواقعة على الضفة اليمنى لنهر مأرب ومدينتي كيرين وأمسرة والطريق المؤدي إلى كسلا ووادي نهر النيل تحت سيطرة إيطاليا. ومع أن هذه المنطقة الصغيرة المساحة ولا تتناسب مع أطماع ايطاليا فانها تتماع بموقع جغرافي هام، فهي حلقة الاتصال بين الاقليم الساحلي ومنطقة كسلا ووادي نهر النيل. وبذلك يتضح أن ايطاليا كانت تطمع في منطقة أكبر منها، تتمثل في السودان وهي اذ رضيت بها الآن فهي خطوة إلى ما ترمي إليه بعد ذلك (147).

أثار هذا الاتجاه الذي بدأت ايطاليا تفكر فيه، بريطانيا التي كانت تحرص على أمن مصر وحوض النيل، وكان جميع الرحالة الانجليز، وعلى رأسهم سير صمويل بيكر، قد أشار إلى أن من يسيطر على أعالي النيل يستطيع أن يسيطر على مصر. لهذا السب كان رياض باشا ناظر النظار المصري يضغط على سيرايفيلين بارنج بضرورة استرجاع السودان لحاجة مصر الشديدة اليه. ولكن بارنج في ذلك الوقت لم يكن مقتنعا ونصح ساسيوري بشدة ألا يقبل اعادة فتح السودان، ووافق الأخير على ذلك. وكان وراء نصيحة بارنج هذه عجز مصر بسبب ميزانيتها المضطربة عن أن تتحمل نفقات اعادة فتح السودان، على أن ذلك لا يمنع من أنه كان هناك تفكير في أنه يجب أن يعود السودان إلى مصر، وأن سبب تأجيل ذلك هو أن المهديين لم يكن لديهم الامكانيات التي تجعلهم يحولون مجرى نهر النيل. كما أنه ليست هناك قوة أوروبية قد وصلت بعد إلى هذه المنطقة لترسل حملات التهديد إلى أعالي النيل ، بالاضافة إلى أنه ما زال ممكنا أن ترحل بريطانيا عن مصر. ولكن هذه العوامل كلها تغيرت في سنة 1889 فقد تأكد بقاء انجلترا في مصر، بل اصبحت مص تمثل بشكل متزايد مركزا ومحورا للأهمية الاستراتيجية لانجلترا في البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي فان السيطرة على أعالي النيل من قبل أية قوة أجنبية أخرى قد يضعهم في موقف المساومة أو يؤدي إلى طردهم خارج مصر. وكان الايطاليون قد تقدموا من البحر الأحمر نحو السودان الشرقي، وبذلك كانوا يمثلون أول خطر من هذا النوع. وقد أدى ذلك الى قلق سالسبوري على كسلا وما قد تمثله كمدخل إلى السودان حيث أنها تسيطر على نهر العطبرة أحد روافد نهر النيل. مما دعاه الى استطلاع راي بارنج في هذا الموضوع في أغسطس سنة 1889 (148)، أي بعد عقد معاهدة أتشيالي في 2 مايو سنة 1889 (149).

وبالرغم من معارضة بارنج في التدخل في السودان فان معاهدة أوتشيالي التي وقعها منليك مع الايطاليين قد غيرت موقفه من هذه القضية، وذلك بسبب ما قد ينتج عنها من الأطماع الايطالية في السودان ونهر النيل وتاثير ذلك على مص (150). ويتضح هذا التغيير في رده على سالسبوري في 15 ديسمبر سنة 1889، فقد رأى بارنج أن الايطاليين يريدون الاستيلاء على كسلا، وأنه اذا لم تتفق الحكومتان البريطانية والايطالية على حدود المنطقة التي ستكون تحت حكم ايطاليا مباشرة فانها سوف تحاول بعد فترة وجيزة التوسع غربا، وهذا سيقودها حتما إلى وادي النيل، أما الى الخرطوم أو الى اية نقطة أخرى تجاورها، وبالتالي فانه من الضروري لصالح مصر تجنب حدوث مثل تلك الفاجعة، لأنه ليس من المبالغة القول بأن استقرار دولة متحضة في وادي النيل سوف يكون طامة كبرى على مصر بسبب امكانياتها الحضارية وما يمكن أن تفعله ويؤثر على الحياة في مصر نفسها. وأن ذلك لن يضر بمصر فقط بل بمصالح بريطانيا فيها، وانه لم يحدث مطلقا أنه أنكر ما ينكر اليوم أن التخلي عن السودان أمر يدعو إلى الأسف الشديد لأن هذه البلاد هي ملك بالطبيعة لمصر وأن الحكومة التي تحكم دلتا النيل يجب أن تحكم أيضا ضفاف النهر ان لم يكن إلى منابعه فعلى الأقل إلى مسافة بعدية على طول مجراه وأكد أحقية مصر في استرجاع السودان ومه أية دولة أخرى من الاستيلاء عليه. وكان سالسبوري يرى أنه من الصعب صد دولة أخرى عن دخول المنطقة المختلفة التي لم تستطع بريطانيا احتلالها بعد. ومع اعتراف بارنج في رسالته بقوة هذا الرأي ووجاهته فانه يذكر أن هذا لا ينطبق على مشكلة السودان لأنها لا تشبه غيرها لا من الناحية القانونية ولا من الناحية الواقعية، وذلك لأن السودان جزء من الامبراطورية العثمانية ومصر تدفع جزية عنه للباب العالي (151).

ولم يكتف بارنج بذلك بل حث بريطانيا على اعادة فتح السودان حماية لمصالحها. وأنه يجب عليها أن تمحو العار الذي ارتكبته بارغام مصر على اخلاء السودان، ويحمل حكومته المسئولية التاريخية في ذلك وانها شجعت ايطاليا على ان تحتل نصف أراضيها بصفتها صديقة لها. مع أنها قد تظهر بعد ذلك ميولا عدائية وتحتل منابع النيل الذي تعتمد عليه مصر. وواضح أن بارنج كان لا يأمن نوايا ايطاليا ويحذر منها، وأنه لا يستطيع انتظار ما يمكن حدوثه نتيجة لذلك دون أن يأسف عليه. كذلك فقد رأى بارنج أنه من الضروري أن تطلب حكومة بريطانيا من ايطاليا التوسع صوب اثيوبيا أولا ولا يحاولوا الاستيلاء على كسلا، على ألا يؤثر نشاطهم في أثيوبيا على السياسة البريطانية في السودان. كذلك حذر الورد دوفرين سفير بريطانيا في روما من أن الايطاليين قد يحاولون الامتداد إلى النيل الأعلى والسودان (152). وهكذا يتضح مدى تأثير معاهدة أوتشيالي التي وقعها منليك مع الايطاليين في مصالح مصر في السودان وشرقه، فانه لو لم توقع هذه المعاهدة لما ظهرت مطامع ايطاليا ولما تحركت بريطانيا لتحافظ على مصالحها ومصالح مصر مع السودان.

ولقد انعكس ذلك على الأوضاع القائمة في ذلك الوقت في شرق السودان بسبب تزايد نشاط الايطاليين فيها، اذ بدأت تصل الى بارنج في مارس سنة 1890 تقارير من سواكن، التي احتفظت مصر بها هناك، ذكر فيها أنه من المتوقع أن تزحف القوات الايطالية على كسلا قريبا. وعلى ذلك فقد أرسل بارنج إلى سالسبوري رسالة في 13 مارس سنة 1890 يقول فيها" أن مسألة زحف تقوم به مصر على طوكر من الأهمية بمكان ولقد شغل ذهني هذا الموضوع فترة من الوقت وربما يجدر بي في تاريخ قريب أن أخطاب سيادتكم بصدده". ثم عاد في 27 مارس 1890 يقول "من الأكيد أنه اذا لم تتحرك الحكومة الصمرية فمن المحتمل جدا أن يتلقى الايطاليون دعوة لأن يفعلوا ذلك". وبالفعل فقد استجاب سولسبوري أخيرا لنداء بارنج واحتلك طوكر في فبراير سنة 1891 (153).

وكان شرق السودان بعد أن قررت سلطات الاحتلال البريطاني الاحتفاظ بسواكن كمركز في هذه المنطقة للوثوب منها على السودان بعد ذلك، والذي يسطير عليه المهديون، لذلك فقد كانت هناك مناوشات بين عثمان دقنة وحامية سواكن، وكان الأخير يريد الاستيلااء على سواكن بهدف تنمية تجارة الرقيق مع بلاد العرب. وبالرغم من أن حامية سواكن هزمت هذا القائد فانها لم تفكر في تعقبه والقضاء عليه لان مهمتها كانت مهمة دفاعية فقط. وكان مركز عثمان دقنة مدينة طوكر الواقعة في وسط دلتا خور بركة الغنية، ويعتمد المهديون عليها في تموين جيوشهم في السودان الشرقي والتي اذا خرجت من أيديهم اضطروا إلى التخلي عن هذه المنطقة بأجمعها. وقد ظل هذا الوضع قائما دون أن يطرأ عليه جديد حتى عقدت معاهدة أوتشيالي، وظهرت واضحة الأطماع الايطالية في شرق السودان وطلبوا الاستيلاء على كسلا ذات الموقع الهام في منتصف الطريق تقريبا بين الخرطوم ومصوع. وقد طلب بارنج ذلك بأن تستولي القوات المصرية في سواكن على مدينة طوكر، وأيده في ذلك هولد سميث محافظ سواكن وذكر أن الهجوم على طوكر والاستيلاء عليها يرغم عثمان دقنة على الانسحاب إلى العطبرة (154). وقد أيد قائد الجيش المصري سير فرانسيس جرافيل اقتراح بارنج بضرورة الاستيلاء على طوكر ، وعلى ذلك ركز الأخير في رسالته الى سولسبوري على أهمية احتلال هذه المدينة لحماية نهر النيل من تهديدات الايطاليين والتي – على حسب رسالة بارنج اليه في أبريل سنة 1890 – اقتربت من أسوار سواكن نفسها، ورأى أن وادي النيل جدير بالحماية من الايطاليين التي ستلتهم ربوع السودان الشرقي وتطوي تحت نفوذها القبائل النازلة بين سواكن وبربر (155)ز

ومع أن سولسبوري كان مستعدا لموافقة بارنج على رأيه بخصوص كسلا التي تشرف على رافد مهم من روافد النيل (العطبرة)، إلا أنه رفض التسليم له فيما أبداه بخصوص طوكر، وأبدى دهشته من اعتقاد السلطات العسكرية أن امتلاك المنطقة المحيطة بسواكن يمكن أن تحمي جناح الجيش المعسكر في وادي حلفا التي تبعد عنها بثلثمائة ميل. لذلك فقد اعتقد أنه ليس لطوكر شأن بوادي النيل، وأصر على عدم الشروع في أي نشاط عسكري على البحر الأحمر حتى تتوفر لحكومة مصر الأموال اللازمة لكي تزحف على بربر ثم على الخرطوم. أي أن استئناف العمليات العسكرية في شرق السودان مرهون بتقدمها نحو بربر والخرطوم – الطريق الشمالي – لأن الأولوية في نظره في استرداد السودان يجب أن تعطي لمحور وادي النيل (156)، على أنه لم تمض مدة طويلة على تحذير بارنج لسولسبوري حتى حدث أول اصطدام بين الايطاليين والمهديين وذلك في يولية سنة 1890، حيث استطاعوا انزال هزيمة منكرة بالمهديين في أجوردات (157)ز

وزاء تحذيرات بارنج من خطورة ازدياد النشاط الايطالية في شرق السودان على مصالح مصر وبريطانيا في وادي النيل وتجنبا للعمليات العسكرية مع ايطاليا في السودان، راح سولسبوري يفكر في تسوية الحدود بين المستعمرة الايطالية والسودان الشرقي سلميا مع ايطاليا. لذلك فقد تفاوض مع السفير الايطالي في لندن وأوضح له أن الحكومة المصرية لن تتخلى عن حقوقها في السيادة على السودان كذلك فان حكومة بريطانيا نفسها تعتبر وادي النيل ضرورة حيوية لمصر (158). وانتهت هذه المفاوضات بوضع تصور عام لمناطق النفوذ بين بريطانيا وايطاليا في شرق أفريقيا كانت طوكر في الجانب المصري. وقد تعرض هذا التصور للنقد الشديد من جانب السلطات البريطانية في مصر، لذلك قرر سولسبوري ازاء هذا أن يذهب بارنج إلى روما ليتفاوض مع رئيس الحكومة الايطالية نفسه فرنسيسكو كريسبني وأصدر تعليمته إلى بارنج بأن يصر على أن تكون جميع روافد نهر النيل ملكا لمصر كما كانت قبل قيام الثورة المهدية، وأنه في حالة عدم تمكنه من اقناع الايطاليين بذلك فمن الأفضل وقف المفاوضات وارسال مذكرة إلى حكومة ايطاليا توضح مطالب بريطانيا وأوضح أن الحكومة الانجليزية لن تخسر شيئا اذا ما تأنت في مسألة تخطيط الحدود بين المستعمرة الايطالية والسودان، لأن حكومة ايطاليا تنتهج سياسة يستحيل تنفيذها ماليا وأنها سرعان ما تتخلى عنها، وعندها لن تحرص على مسائل الحدود هذه. ولذلك فان الامور سوف تبقى على ما هي عليه الآن ما دام كريسبي يعتلي كرسي الحكم في ايطاليا ولكنه لن يستمر طويلا لكبر سنة (159).

على أن مفاوضات بارنج (169) مع كريسبي في روما فشلت بسبب طلب الايطاليين السماح لهم باحتلال كسلا ورفض بريطانيا لهذا الطلب وتمسك بارنج بحقوق السيادة المصرية على السودان وهي الحقوق التي تسمح لمصر باسترجاع أملاكها المفقودة، بينما كان كريسبي يرى أن مصر فقدت حقوقها على السودان بسبب الاخلاء الناجم عن قيام الثورة المهدية، وعلى هذا لم يعترف الجانب الايطالي بحق مصر في استرداد السودان (161). وبذلك فشلت محاولة ايطاليا الاستيلاء على كسلا بفشل هذه المفاوضات.

بدأ بارنج – بعد عودته إلى القاهرة من روما – بتسليم التقارير الواردة اليه من البحر الأحمر والتي توضح ازدياد النشاط الايطالي في هذه المنطقة. وعلى ذلك فقد عاد يلمح على رئيس الوزراء البريطاني بضرورة فتح طوكر، وأن فتحها سوف يقضي على تهديد المهديين لسواكن كما يساعد على محاربة تجارة الرقيق في البحر. وأخيرا وافق سولسبوري على ارسال حملة إلى طوكر استولت عليها في 19 فبراير سنة 1981. وقد استقبل شعب كوكر القوات المصرية العائدة اليها استقبالا حماسيا رائعا. وكان لفتح طوكر اثر كبير في اطمئنان حكومة بريطانيا ومصر التي استردت جزءا عزيزا عليها، كانت تتهدده أطماع ايطاليا في شرق السودان. وزاد من اطمئنان الدولتين (مصر وبريطانيا) سقوط وزار كريسبي التي كانت تحلم بتكوين امبراطورية ايطالية في شرق أفريقيا (162). وكانت الوزارة الايطالية التالية (وزارة دي روديني ) لا تميل إلى الاتجاه نحو الاستعمار لرغبتها في الاقتصاد في النفقات الحربية. وقد أدى ذلك إلى اهمالها مسألة الحماية على أثيوبيا التي تمسكت بها حكومة كريسبي التي سبق النص عليها في المادة 17 من معاهدة أوتشيالي. وكان معنى تخلي حكومة دي روديني عن هذه الحماية تخليها أيضا عن أطماعها في السودان الشرقي. وبالتالي يمكن لبريطنيا أن تتفاوض معها باطمئنان. وبالفعل تم ذلك وأسفرت المفاوضات عن توقيع اتفاقيتين أحدهما في 24 مارس سنة 1891 وتختص الأولى بتخطيط مناطق النفوذ بين البلدين في شرق أفريقيا. والثانية في 15 أبريل من نفس العام وتختص بمناطق النفوذ على ساحل البحر الأحمر الغربي من رأس قصار جنوبي سواكن حتى النيل الأزرق (163).

ولقد تحدد بموجب هذين الاتفاقيتين خط الحدود بين أملاك ايطاليا وأملاك مصر ونفوذ بريطانيا في المنطقة المحيطة بأثيوبيا، فاعترفت بريطانيا باثيوبيا (بما فيها تيجري وشواهرر) داخل منطقة النفوذ الايطالي. في مقابل اعتراف ايطاليا بالحقوق التي تتمتعت بها بريطانيا في أعالي النيل والسودان بما في ذلك كسلا، وقد سمحت المادة الثانية من اتفاق 15 أبريل سنة 1891 لحكومة ايطاليا باحتلال كسلا بصورة مؤقتة، وفي حالة الضرورة الحربية. واعترفت بريطانيا وايطاليا بأن احتلال الأخيرة لكسلا لا يلغي حقوق سيادة مصر عليها التي ستظل محفوظة لها حتى تستطيع استردادها. ما تعهدت ايطاليا في المادة الثالثة بأن تمتنع عن اقامة منشآت للري على نهر عطبرة قد تؤثر على كمية المياه الواردة لمصر. وقد أكدت هذه المادة اعتراف ايطاليا بمصالح مصر وبريطانيا في حوض نهر النيل والاشراف على موارده المائية وروافده. ولما كانت مص خاضعة لبريطانيا فان هذه المادة تعتعرف لها بأن وادي النيل وروافده داخل نفوذها (164).

وقد تمت هذه الاتفاقات بين ايطاليا وبريطانيا دون أن تعلم بها مصر – وعندما علمت الحكومة المصرية بها أرسل وزير خارجيتها نجران باشا رسالة إلى سردار الجيش المصري جرانفيل باشا يذكر فيها "أن هذين الاتفاقيتين قد تما دون عمل حكومة الخديوي، ولذلك فانه يحق للباب العالي صاحب السيادة الشرعية على السودان أن يتخذ الاجراءات المناسبة". كما ذكر أن "رغبة حكومة مصر في تحاشي المشاكل التي قد تحدث في هذه المنطقة (شرق السودان) بين الأشخاص الرسميين الذين لا يهتمون عادة الا بتنفيذ التعليمات الصادرة إليهم، فقد كلفت أن أرسل لك هذا البروتوكول مع رجائي إلى حاكم سواكن أن تقبلوا منه احترام خط الحدود المبين به لحين صدور أوامر أخرى". قد أرسل السردار فعلا صورة من هذا الاتفاق الى حكومة سواكن وأخطرها بأنه يجب أن يحترم خط الخدود الفاصل بين أملاك مصر في السودان وأملاك ايطاليا وذلك لحين صدور أوامر أخرى (169).

على أي حال فانه نتيجة لاطلاق يد ايطاليا في كسلا أخذت تتحين الفرص لتحقيق ذلك حتى تنشر وتدعم نفوذها السياسي في السودان الشرقي وأيضا طرد المهديين من كسلا التي كانوا يشنون منها هجماتهم على مستعمرة إريتريا (166). وقد استطاع الايطاليون أن يحققوا انتصارا كبيرا على المهديين في موقعة أجوردات في 21 ديسمبر سنة 1893 (167). وفي نفس الوقت عاد إلى الحكم مرة أخرى فرنسيسكو كريسبي في أواخر سنة 1893 وعادت معه تطلعاته التوسعية وأراد أن يستغل انتصار أجوردات هذا في مد نفوذ ايطاليا السياسية في السودان الشرقي حتى كسلا والعطبرة وذلك تنفيذا لاتفاق 15 أبريل سنة 1891 الذي أبرمته حكومة دي روديني مع بريطانيا (168). وعندما عرضت الحكومة الايطالية اقتراحها باحتلال كسلا على كرومر لمعرفة مدى استجابة بريطانيا، أجابها بأنه لن يلقى ترحيبا من جانب الحكومة البريطانية. ما أنه رفض فكرة اشتراك قوات مصرية مع القوات الايطالية في كسلا وبقاء القوات المصرية في المدينة للدفاع عنها وانسحاب القوات الايطالية منها عائدة إلى اريتريا بعد ذلك. وعلل بارنج هذا الرفض بأن الحكومة المصرية ليس لديها من الرجال والمال ما يمكنها من القيام بعملية حربية مثل اعادة احتلال كسلا على أنه ذكر لهم بأنه في استطاعتهم احتلال المدينة بصورة مؤقتة (169) وعلى ذلك فقد آلت حكومة روما على نفسها أن تحتل كسلا بمفردها واستطاع فعلا ن يحتلها برايتيري القائد الايطالي في 17 يولية سنة 1894 (170).

وقد سبب سقوط كسلا في أيدي الايطاليين قلقا شديدا للحكومة البريطانية ، لذلك رأت ايطاليا أن تهدئ مخاوف بريطانيا ازاء هذا الفتح، فأكدت لها أن الاحتلال الايطالي لكسلا لن يضر بأنه مسألة اقليمية بل يحفظ مصوع وسواكن من أي اعتداءات جديدة قد يشنها المهديون ويضع ايطاليا في الوقت الحاضر في مركز المشارك مع انجلترا في احتلال الأراضي المصرية نظرا للمصالح المشتركة بين البلدين ، أي أن ايطاليا تريد التحالف مع بريطانيا لاقتسام الأراضي المصرية، وربما قصدت ايطاليا المشاركة مع بريطانيا في عمليات الفتح المقبلة حتى توسع من أملاكلها في هذه المنطقة على حساب حقوق مصر المشروعة فيها. على أن بريطانيا فطنت لهذا ورفضته ضمنا عندما رغبت في الحصول على تأكيدات رسمية بالتزام ايطاليا باتفاق 15 أبريل سنة 1891 من حيث اعتبار احتلال كسلا غير متعارض مع حقوق السيادة المصرية عليها، وأنه من الممكن أن تستردها مصر من ايطاليا في الوقت المناسب. واصبح من المعتقد أن صدور هذه التأكيدات من جانب حكومة كريسبي سوف يكون له أطيب الأثر في القاهرة والأستانة. وفعلا قدم كريسبي رئيس وزراء ايطاليا تعهدا رسميا بالتزامه بما جاء في اتفاق 15 أبريل سنة 1891 ولم يكن هناك سبيل أمام بريطنيا بعد أن اعترفت ايطاليا بمصالحها ومصالح مصر في هذ المنطقة وكسلا الا أن تقر احتلال ايطاليا بهذه المدينة (171).

وهكذا تأثرت مصر ومصالحها في شرق السودان الى حد كبير بعقد منليك معاهدة أوتشيالي مع ايطاليا بسبب توسع الأخيرة على حساب حقوق مصر المسلوبة وبتأييد بريطانيا في شرق السودان في مقابل اعتراف ايطاليا بوصاية بريطانيا على مصر وعلى أملاكها السابقة وخصوصا وادي النيل وفي هذا تدعيم وتأكيد احتلالها لمصر. اذ الملاحظ أنه في كل المفاوضات التي تمت بين ايطاليا وبريطانيا لم يكن هناك تمثيل حقيقي لمصر أو للدولة العثمانية. بل كانت بريطانيا تتستر وراء مصالح مصر وأنها تعمل على صيانتها وكان الواقع أنها تحافظ على مصالحها هي وأنها اتخذتها ستارا تخفي وراهء ما كانت تأمل فيه وتريد تحقيقه وهو تأكيد احتلالها لمصر والاستيلاء فيما بعد على أملاكها في السودان. وكانت ايطاليا تتفاوض دائما مع بريطانيا سواء مع حكومتها مباشرة أو مع ممثليها سواء في روما أو معتمدها بمصر وربما أيدت بريطانيا ايطالي في تحركاتها هذه بعد عقد المعاهدة بهدف تدعيم سيطرتها على مصر دوليا. وأن المفاوضات بين بريطانيا وايطاليا انما تؤكد سيادة الأولى على مصر واعترافا من الثانية بهذا الاحتلال (172). وبذلك قضى تمام على حقوق الأستانة في مصر والسودان، وتستطيع القول أن منليك بعقده هذه المعاهدة قد ساهم دون أن يدري في تدعيم الاحتلال البريطانيا لمصر ضاربا محاولات فرنسا في اجلاء بريطانيا عن مصر، كما أكد وأظهر ادعاءات بريطانيا في المحافل الدولية بأنها تحمي مصالح مصر في السودان وذلك حتى تأتي الفرصة المناسبة للاستيلاء عليه وهكذا فاذا كانت معاهدة اوتشيالي قد دعمت حكم منليك في أثيوبيا فانها أضرت بمصر ومصالحها في السودان. وأدى إلى تدعيم الاحتلال البريطاني سواء في مصر أو في السودان بعد ذلك. وبذلك نستطيع أن تقول أن مصر وهي مسلوبة الارادة دعمت حكم منليك بصورة غير مباشرة على حساب مصالحها في السودان.

هذا من جهة تأثير المعاهدة في العلاقات بين مصر وايطاليا وانجلترا وأثيوبيا. على أن لهذه المعاهدة جهة تأثير أخرى، وهي العلاقات بين مصر وفرنسا وانجلترا وأثيوبيا، أي مدى تاثر فرنسا بمعاهدة أوتشيالي وما قامت به من محاولات مضادة لها، وانعكاس ذلك على مصر وبريطانيا ومصالحهما في السودان وما قامتا به ازاء محاولات فرنسا هذه.

وكانت فرنسا قد غضبت من بريطانيا عندما خدعتها واحتلت وحدها مصر في سنة 1882، لذلك عملت منذ ذلك التاريخ على اجلائها عن مصر. ولما تأكدت من أن سياسة انجلترا أصبحت قائمة على جعل وادي النيل منطقة نفوذ لها، بدأت تفكر في خطة تتحدى بها السياسة الانجليزية في مصر وتعرقل مشروعاتها (173). وبالطبع تاثرت مصر بهذا التنافس. وكانت فرنسا تعلم مساعدة وتأييد بريطانيا لايطاليا في احتلال مصوع وتوسعها في هذه المنطقة، وذلك لتراقب النشاط الفرنسي وتحد من توغل مستعمراتها في أوبوك إلى أعالي النيل والسودان. لذلك بدأت فرنسا تضع العراقيل أمام التوسع الايطالي في شرق أفريقيا وتتلمس الفص لذلك. وبالرغم من فشلها في محاولاتها هذه فانها استمرت في مراقبتها للنشاط الايطالي في أثيوبيا وأصبحت تشجع بعض أبنائها من التجار ولاسيما تجار الأسلحة على القيام بناشط تجاري كبير في مملكة شوا وممارسة كل أنواع النشاط الاقتصادي بها. وكان من أشهر هؤلاء التجار التاجر شفنو الذي كان يبيع السلاح لمنليك بأرخص الأسعار مما أدى إلى قيام صداقة وطيدة بين الاثنين كان لها أثر كبير في حصوله على امتياز احتكار تصدير الملح من بحيرة أسال. كما استغلت فرنسا نفوذ المهندس السويسري إلج لصالحها. وكان قد استطاع بفضل نشاطه الكبير في خدمة منليك أن ينال الحظوة لديه حتى أصبح من أصدقائه المقربين، وعندما اعتلى منليك عرش اثيوبيا أصبح مستشاره الخاص وساعد فرنسا على الاستفادة من مكانة إلج هذه أنه كان على علاقة سيئة بالكونت أنطوللي لذلك استفادت فرنسا من معارضة إلج لنفوذ ايطاليا في بلاط منليك (174).

وقد ساعد الفرنسيون كذلك جميع التجار الأجانب الذين شعروا بأن معاهدة أوتشيالي هذه ستصيبهم ايضا مع التجار الفرنسيين في مصالحهم الاقتصادية مما أدى إلى اتفاقهم على مهاجمة أنطوللي ومعاهدته المبرمة مع منليك والعمل على زعزعة مركز ايطاليا في هذه البلاد، كان ذلك بسبب الامتيازات الاقتصادية والتجارية التي حصل عليها رعايا ايطاليا مما جعل لهم مركزا متفوقا على سائر الأجانب الذين كانوا في اثيوبيا (1275). كما وقفت الحكومة الروسية بجانب فرنسا ضد ايطاليا، وذلك استمرارا للصراع الذي كان في أوروبا اذ كانت ايطاليا ضمن التحالف الثلاثي الذي عمله بسمارك ضد فرنسا وروسيا. لذلك رأت الدولتان (فرنسا وروسيا) الاتفاق على العمل على تقويض نفوذ ايطاليا كرد على تمسكها بعضويتها في هذا التحالف الثلاثي من ناحية ومحاولة لتحقيق أغراضها في أثيوبيا على تقليص النفوذ الايطالي من ناحية أخرى (176). بالاضافة إلى رغبة روسيا فرض سيادتها الدينية على أثيوبيا وهو ما حاولت القيام به في عهد يوحنا الرابع واستمرت في محاولاتها عن طريق التقرب إلى منليك والتحالف معه ضد الايطاليين لكي تحصل من وراء ذلك على موطئ قدم في شرق افريقيا (177).

ويلاحظ مما سبق أن محاولات فرنسا ومعها روسيا ضد ايطاليا في هذه المنطقة، كانت تبوء بالفشل بسبب نجاح أنطونللي في التأثير والسيطرة على منليك وزوجته طايطو، وأكد هذه السيطرة حاجة منليك إلى الدعم الايطالي له حتى يستطيع السيطرة على البلاد (178). ومع أن عقد هذه المعاهدة قصد منه تدعيم السيطرة الايطالية على أثيوبيا فانها كانت سببا في تدهور العلاقات الايطالية الأثيوبية وتدعيم العلاقات الفرنسية الأثيوبية وازدياد ونمو النفوذ الفرنسي في اثيبويا، مما أدى بعد ذلك إلى تهديد مصالح مصر وبريطانيا في السودان وأعالي النيل. وساعد على ذلك أن بريطانيا تركت مجال المنافسة في أثيوبيا لنفوذ الفرنسيين المتزايد في بلاط منليك وأثيوبيا ولم تحاول منافسة النفوذ الفرنسي المتزايد الا عندما شعرت بأن مصالحها ومصالح مصر مهددة، عندئذ بدأت في منافسة هذا النفوذ، كما سنرى فيما بعد.

وكانت فرنسا ومعها روسيا قد بدأتها تستغلان تدهور العلاقات بين ايطاليا ومنليك نتيجة ارسال منجاشا بعد أن خضع له رسالة من القائد الايطالي كان قد ارسلها له ابان خروجه عن طاعة منليك يرحب فيها بصداقة منجاشا لايطاليا. وكان هذا يعتبر مختلفا لشروط معاهدة أوتشيالي والتي نص فيها على أن تكون الصداقة هي رائد العلاقات بين الدولتين. وقد فسر منليك ارسال هذه السرالة من القائد الايطالي إلى منجاشا بأنها محاولة لتخطي سلطته في سبيل تثبيت حدود مستعمرة إريتريا عند نهر المأرب. وكذل ضرب منليك بهذا الراس التيجري. كما ضربوا به من قبل الامبراطور يوحنا. لذلك بدأ يطرأ تغير كبير على تفكير منليك تجاه الايطاليين فبدا يشك ويسئ الظن بهم، وقد استغلت فرنسا بداية هذا التدهور بين منليك وايطاليا وعملت على زيادة الهوة بين الطرفين (179)، بأن اخبرت منليك بالتفسير الايطالي للمادة 17 من معاهدة أوتشيالي (180).

ذلك أن منليك بعد أن ضمن تأييد ايطاليا له بعقده هذه المعاهدة انتهز ذلك بأن توج نفسه في نوفمبر سنة 1990 وأعلن نفسه امبراطورا لأثيوبيا (181)، وارسل بعد التتويج إلى دول أوروبا رسائل بهدف الحصول على اعترافها به امبراطورا على أثيوبيا (182). ولقد بعثت حكومتها بريطانيا وألمانيا ببرقيتين متشابهتين إلى منليك جاء فيهما أن ابلاغ امبراطور أثيوبيا بخبر تتويجه على عرش هذه البلاد كان يجب أني تم عن طريق ايطاليا لا بواسطته مباشرة. وقد أثار هذا الرد غضب منليك وانتهز الفرنسيون والروس هذه الفرصة فأطلعتاه على الترجمة الايطالية للمادة السابعة عشر من معاهدة أوتشيالي الخاصة بفرص الحماية على أثيوبيا (183).

وكما توقعت فرنسا وروسيا ثار الامبارطور وأرسل رسالتين إلى ملك ايطاليا يحتج في الأولى على الاهانة التي أنزلها به الايطاليون بهذه الترجمة الخاطئة للمادة 17 في معاهدة أوتشيالي وطلب منه بأن يأمر بتصحيح ذلك واعلان هذا الخطأ للدولة الصديقة التي بلغتها هذه المادة. وطلب في الثانية تخطيط الحدود بين أريتريا وتيجري بصورة تدخل الأراضي الواقعة شرقي نهر المأرب في نطاق أثيوبيا. وبالرغم من تحول منليك هذا عن صداقته للايطاليين، فانهم حاولو الحفاظ على صداقته معهم لما في ذلك من تقوية مركز مندوبيها في المؤتمرات الدولية عندما يكون لديهم معاهدة معترف فيها من امبراطور أثيوبيا بحماية ايطاليا لبلاده، وهذا كان يرفعها إلى مصاف الدول الكبرى مثل إنجلترا وفرنسا وألمانيا التي لها مستعمرات ومناطق نفوذ. كما أن وجود مستعمرات تابعة لها يحل مشكلاتها الداخلية التي كانت تهددها بأوخم العواقب (184). وبذلك نستطيع أن نقول بأن فرنسا قد نجحت في زعزعة سلطة ونفوذ ايطاليا في أثيوبيا ، وأبان ذلك كانت حكومة كريسبي قد سقطت وخلفتها حكومة دي روديني والتي كانت سياستها عدم الاهتمام بالمسائل الأفريقية (185). واستمرت فرنسا في تحريض منليك على تهديد حقوق مصر في السودان وأعالي النيل، وبالتالي تهديد الوجود الانجليزي في مصر، وذلك في اطار دفعه إلى أن يعيد حدود أثيوبيا القديمة (186).

وبالفعل، انتهز منليك فرصة تخلي ايطاليا عن أطماعها في شرق أفريقيا، وأرسل منشورا في 10 أبريل سنة 1891 إلى الحكومات الأوروبية، وحدد فيه حدوده الغربية بضم القضارف وكركوج على النيل الأزرق، ومن كركوج يمتد خط حدوده إلى ملتقى نهر السوباط بالنيل الأبيض، ومن هناك يسير خط الحدود موازيا للسوباط متضمنا أقاليم أريولا جالا حتى بحيرة سيموري. وذكر بأنه سيحاول أن يعيد الحدود القديمة لأثيوبيا حتى تصل إلى الخرطوم وبحيرة نيانزا، ودعام نليك القوى الأوروبية إلى أن تعيد إليه حدوده الساحلية أو بعبارة أخرى طرد ايطاليا من أريتريا، وفي نفس الوقت حذرهم من الاعتداء على بلاده (187). وكان معنى صدور هذا المنشور أن منليك قد أنهى من جانبه مبدأ الصداقة والتحالف مع ايطاليا (188). وقد تصاعدت الأحداث بين أثيوبيا وايطاليا واتسعت حدة الخلاف بينهما إلى حد أن منليك أرسل إلى جميع الدول الأوروبية منشورا في 27 فبراير سنة 1893 يلغي فيه معاهدة أوتشيالي المعقودة بينه وبين ايطاليا في 2 مايو سنة 1889 (189).

وبذلك خسرت ايطاليا نفوذها في أثيوبيا بفضل النشاط الفرنسي فيها، وأدى ذلك أيضا إلى فشل السياسة البريطانية في الاعتماد على ايطاليا ضد فرنسا واحتمال تسلل الأخيرة إلى السودان وأعالي النيل. وكان هذا مما دفع ايطاليا إلى أن توجه نشاطها التوسعي إلى شرق السودان (190). وهكذا نستطيع أن نقول أن السياسة الانجليزية التي اتبعتها، في الاعتماد على ايطاليا في الحفاظ على مصالح بريطانيا ومصر ، قد فشلت بل وأدت إلى تهديدها في شرق السودان على يد ايطاليا، وفرنسا في أعالي النيل والسودان. وقد استطاعت بريطانيا أن تضمن مصالحها في شرق السودان بأن أبعدت ايطاليا عن وادي النيل وذلك بأن عقدت معها اتفاقا في 5 مايو سنة 1894 (191) راعت فيه أن تكون منطقة نفوذ ايطاليا (هرر وأريتريا وأثيوبيا والصومال الايطالي) بعيدة عن وادي النيل بعض الشئ، كما تكون سدا مانعا للنفوذ الفرنسي الذي قد يتوغل من المستعمرة الفرنسية أوبوك مخترقا هرر فأثيوبيا في أعالي النيل والسودان، حيث يهدد بالتالي الوجود الإنجليزي في مصر اذا سيطرت على مناطق أعالي النيل هذه (192). أو بعبارة أخرى فان انجلترا ظلت تؤيد وتدعم ايطاليا ضد فرنسا وأطماعها ومشاريعها في هذه المنطقة (193)، وفي نفس الوقت حافظت على مصالحها ايضا معها، لأنها لم تجد بديلات غير ذلك فهي لا تستطيع أن تعادي ايطاليا خوفا من ارتمائها في أحضان فرنسا فتهدد مصالحها في أفريقيا ومستعمراتها في الشرق وفي التحالف الثلاثي في أوروبا. كما أنها لم تتصل بمنليك في هذه الفترة ربما لعدم امكانية الاتصال به أو اعتمادها على ايطاليا في ذلك، وربما اعتقدت أن هذا تعدي على اختصاص حليفتها ايطاليا، وهذا يتضح من رسالتها إلى منليك ردا على رسالته التي يخبرها فيها بتولي العرش، وكان أن أدى ذلك إلى ازدياد نفوذ فرنسا في اثيوبيا وتهديد مصالح مصر وبريطانيا في السودان وأعالي النيل وذلك لارتباط سياسة بريطانيا بايطاليا (194). حيث كانت بريطانيا تدرك من وراء الاتفاقيات مع ايطاليا أنه يجب على مصر دائما في سبيل الدفاع عن نفسها أن تكون في مركز تسيطر فيه على أثيوبيا سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة (195).

إلغاء معاهدة أوتشيالي، والعلاقات غير المباشرة بين مصر وأثيوبيا

ولقد انتهزت فرنسا إلغاء منليك لمعاهدة أوتشيالي في فبراير سنة 1893 فبدأت تنفذ ما كانت تهدف إليه وهو الوصول إلى أعالي النيل والسودان وضم إقليم بحر الغزال إلى أملاكها في غرب أفريقيا معتبرة في ذلك أن هذه المناطق قد أصبحت مشاعا لأي دولة تسارع وتستولي عليها منذ أن احتلها مصر. وكانت فرنسا تبغي تهديد الاحتلال البريطاني في مصر عن طريق تهديده بقطع مياه نهر النيل بعد أن تسيطر على منابعه إلى جانب مزايا عديدة أهمها سبق البلجيكيين في الوصول إلى النيل الأعلى الذي كانوا يطمعون في امتلاكه (196). بالاضافة إلى أن هذا يحقق مشروعها الاستعماري التوسعي وهو الذي عرف بمشروع (من البحر الأحمر إ لى ساحل المحيط الأطلسي) أي عمل حزام من المناطق التي تحتلها فرنسا بعرض القارة الأفريقية من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر، وكانت فرنسا تمتلك سواحل خليج تاجورة المطل على خليج عدن (مستعمرة الصومال الفرنسي) كما كانت تمتلك مناطق واسعة في أفريقيا الغربية. ولذلك بدأت منذ بداية الثمانينيات من القرن التاسع عشر وانطلاقا من معارضتها للاحتلال البريطاني لمصر في التخطيط لهذا المشروع حتى تستطيع تنفيذه وبالتالي تهديد بريطانيا في مصر، ولهذا السبب شجعت الحكومة البريطانية ايطاليا على النزول في مصوع سنة 1885 وساندتها على توسيع مستعمرتها اريتريا، بهدف الحد من التوسع الفرنسي ومنع اتصال فرنسا بحوض نهر النيل. هذا في الوقت الذي كانت بريطانيا فيه تفكر في ربط مستعمراتها الأفريقية طوليا أي من القاهرة شمالا إلى الكاب جنوبا، ثم بدأت في بداية العقد التاسع من القرن الماشي تعمل بكل جهدها على تحقيق مشروعها الاستعماري هذا. لذلك فقد عملت على دعم حكمها في مصر في هذا الفترة وابعاد فرنسا عن أعالي النيل وتشجيع إيطاليا على وضع الحماية على أثيوبيا وتوسيع مستعمرتها حتى تمنع فرنسا من تحقيق مشروعها الاستعماري (197).

ولقد بدأت فرنسا محاولاتها في تنفيذ الجزء الأول من مشروعها هذا بنشر نفوذها في أثيوبيا على أنقاض النفوذ الايطالي ، ثم دفع منليك إلى إصدار منشوره السابق الذي يمد حدوده إلى الخرطوم ويكلف مستشاره المهندس السويسري إيلج ذا الميول الفرنسية، بدراسة مشروع مد خط حديدي من جيبوتي إلى أديس أبابا والنيل الابيض مارا بمناطق هرر وأنطوطو وكافا، واستعان إيلج بصديقه شفنو التاجر الفرنسي في الحصول على وعد من الشركات الفرنسية بتمويل هذا المشروع. وبالفعل في 9 مارس سنة 1894 منح منليك شركة فرنسية امتياز مد الخط الحديدي من جيبوتي إلى هرر وادارته لمدة 99 عاما (198)، في الوقت الذي كانت فرنسا تعمل فيه من جهة الغرب في مستعمراتها الأفريقية لارسال حملة فرنسية بقيادة مونتي إلى أعالي النيل وكانت الحكومة الفرنسية قد قررت في مايو سنة 1893 أن تبدأ حملة مونتي خط سيرها من الأوبانجي العليا في الكونغو الفرنسي، ثم يتجه شرقا حتى يصل إلى فاشوده التي تسيطر على مجرى نهر النيل الأعلى وعلى ملتقى رافديه بحر الغزال ونهر السوباط (199).

وبالرغم من تحذير بريطانيا لفرنسيا من أن تؤدي هذه الحملة إلى صدام مسلح بين البلدين فان فرنسا استمرت في الاستعداد لهذه الحملة. على أن فرنسا أجلت ارسال هذه الحملة مؤقتا بسبب رغبتها في نجاح المفاوضات التي جرت بينها وبين انجلترا بهدف الوصول إلى اتفاق ودي، على أن هذه المفاوضات فشلت بسبب تمسك كل من الطرفين بموقفه. ففرنسا تريد الوصول إلى حوض النيل وبريطانيا تعارض ذلك. وقد أدى فشل هذه المفاوضات والشائعة التي راجت وقتها بأن بريطانيا قد تزحف على النيل من الجنوب من أوغندا التي كانت تحت الحماية البريطانية إلى أن عينت الحكومة الفرنسية ليونار في سبتمبر سنة 1894 مندوبا ساميا للأوبانجي العليا، وانعقد الأمل على أن يصل إلى النيل قبل وصول البريطانيين حتى يمكنها أن تحتل موقعا استراتيجيا في أعالي النيل تستطيع فرنسا به الضغط على بريطانيا لارغامها على الجلاء عن مصر (200)ز

وقد أثارت مشروعات فرنسا هذه ثائرة بريطانيا التي أعلنت أن وادي النيل كله يخضع لنفوذ انجلترا ومصر وأن حكومة فرنسا لا يمكنها أن تتجاهل هذه الحقوق بأي حال، وأن عملها هذا تعتبره بريطانيا اجراء عدائيا. وعلى ذلك فقد بدأت الحكومة البريطانية تعمل من أجل السيطرة على وادي النيل من أوغندا إلى فاشودة، وسألت معتمدها في مصر عما اذا كانت الحكومة المصرية قلقة بسبب تقدم الفرنسيين نحو النيل. وقد أكد كرومر أن حكومة مصر وشعبها بأسره يرغب في استرداد السودان خصوصا الخرطوم، وأنه نتيجة لمعارضته بسبب عدم تحمل ميزانية تكاليف حملة الاسترداد، يحجم الوزراء المصريين على الافصاح عن رغبتهم في استرداد السودان. على أن تهديد الفرنسيين في أعالي النيل قد خلق موقفا مغايرا اعترف به كرومر، وأكد أن الاحتلال البريطاني قد استقر في مصر وصار واجبا على بريطانيا الدفاع عن مصالح مصر الحيوية، وأن أي دولة متحضرة في أعالي النيل يمكنها التحكم في هذه المصالح لذلك فانه يجب على بريطانيا أن تقوم بعمل ايجابي ازاء هذه المسألة. وبذلك توقف الأمر عند معرفة متى وكيف يكون قرار العمل الايجابي تجاه السودان، وأن الوقت قد حان لانزال ضربة ساحقة بالمهديين واسترداد السودان. ووضع حد لصراع الدول الأوروبية وأثيوبيا على وادي النيل من منبعه حتى حدود مصر (201).

وقد تضافرت عوامل في الفترة التالية ساعدت الحكومة البريطانية على أن تحدد الوقت الذي ستقرر فيه متى وكيف تتحرك لاسترداد السودان، ذلك أن فرنسا قررت ارسال حملة بقيادة مارشان تمد بها نفوذها إلى نهر النيل، وأصدرت اليه الأوامر بأن يتجه إلى نهر النيل ويرفع العلم الفرنسي على فاشودة (202). كما أن نجاح منليك في هزيمة الايطاليين في موقعة عدوة كان أحد العوامل الهامة التي دفعت بريطانيا إلى العمل والتحرك من أجل استرداد السودان (203). وكانت ايطاليا قد انتهزت فرصة التنافس البريطاني الفرنسي وتوغلت داخل أثيوبيا بهدف اخضاعها لنفوذها (204)، على أن منليك استطاع أن يهزم الايطاليين في أمبالاجي في 7 ديسمبر سنة 1895 ثم في عدوة في أول مارس سنة 1896 ، وكانت الهزيمة الأخيرة قاسية أصابت النفوذ الايطالي في شرق أفريقيا بضربة قاصمة (205).

وكان وراء انتصار الاثيوبيين هذا الفرنسيون والروس الذين أمدوهم بالسلاح عبر هرر، بعد أن وجدوا في تقوية جيش منليك فرصة طيبة لتحقيق أغراضهم في هذه المنطقة، في الوقت الذي حرم فيه الانجليز والألمان بيع الأسلحة للاثيوبيين (206). كما أمدته روسيا بالسلاح والمستشارين الحربيين مثل الكابتن ليونتيف، وقد بدأ الأخير بمجرد وصوله إلى أثيوبيا بتعليم وتدريب الرؤوس الأثيوبيين على الاساليب الحربية الروسية التي استخدمت ضد نابليون الأول ويشير عليهم باستخدامها ضد الايطاليين، كما اشترك هذا الروسي مع زملائه الفرنسيين في تدريب قوات منليك على استخدام البنادق والمدافع الجبلية استعدادا لمواجهة الايطاليين (207). وعلى ذلك فقد أخذ منليك يستعد سرا لمواجهة الايطاليين منذ أن ألغى معاهدة أوتشيالي سنة 1893، فبدأ في مد الطرق وتعبيدها من شوا إلى شمال أثيوبيا بناء على مشورة مستشاره السويسري إيلج، وبنى مخازن الأسلحة في المراكز الحربية القوية ومدها بالأسلحة الوفيرة التي كانت تمده فرنسا بها (208).

وكانت هزيمة الايطاليين وما تعنيه لبريطانيا من انهيار سياستها التي كانت تعتمد على وجود ايطاليا قوية مدعمة ضد الأطماع الفرنسية، وزيادة النفوذ الفرنسي زيادة كبيرة في أثيوبيا، لدرجة أننا نستطيع القول أن فرنسا هزمت ايطاليا والسياسة الانجليزية في أثيوبيا، واصبح خطرها هائلا على السودان وعلى وجود بريطانيا في مصر. لذلك فقد كانت هزيمة ايطاليا على يد منليك عاملا هاما في بدء العد التنازلي لأن تسترجع مصر السودان، وساعد على ذلك السياسة التي اتبعها منليك في التقرب إلى المهديين في السودان بهدف اثارة المتاعب في وجه الايطاليين وما قد يترتب على تطور هذا السياسة في تدعيم قوة المهديين (209). مما قد يؤدي إلى امتداد نفوذ فرنسا وما قد يترتب عليه من سقوط السودان في دائرة النفوذ الفرنسي (210).

وكان منليك قد اتبع سياسة سلمية مع المهديين بعكس سلفه يوحنا الرابع، وقد تمت هذه السياسة ووصلت إلى حد المفاوضات بين البلدين لتدعيم العلاقات السلمية بينهما (211). ثم بدأ منليك يحرض المهديين ضد الايطاليين، وكان الأولون يتحرقون شوقا للانتقام من الآخيرين لهزيمتهم السابقة في أجوردات وكسلا. ولذلك رحب التعايشي بما عرضه عليه منليك، وقيل انه نتيجة لهذا التقارب بين أثيوبيا والسودان أن هناك اتفاقا على اليام بعمل مشترك بينهما ضد الايطاليين، ومع أنه من المتعذر اثبات ذلك فانه من الثابت أن هناك اتفاقا تاما بينهما على ضرورة تبادل المساعدة ضد القوى المعتدية الأوروبية (212).

ولقد اثار هذا التقارب بين السودان وأثيوبيا ، الشائعات التي صاحبته بأن هناك عملا مشتركا ضد الايطاليين والحكومة البريطانية، فأرسلت الأخيرة الى معتمدها في مصر تسأله عما اذا كان يمكن القيام بمظاهرة عسكرية في وادي حلفا لكي يحول أنظار المهديين عن كسلا حيث ذكرت الشائعات أن منليك والتعايشي سيهجمون معا عليها. على أن كرومر رفض القيام بذلك وذكر أنه من الصعب اقناع حكومة مصر بأن تتحمل نفقات عملية حربية لمساعدة ايطاليا فقط ولا تعود بأي فائدة على مصر. وأشار بأنه لابد من القيام بعمل حربي وذلك بالزحف على حلفا إلى سوارده أو دنقله، أو بالزحف على سواكن إلى العطبرة. على أن سلوسبوري رأى التريث حتى يظهر ما يدل على أن المهديين بدأوا بالفعل يزحفون على كسلا (213)، كما لم يهتم كثيرا بنداءات الايطاليين في أنهم سيخلون هذه المدينة، معللا ذلك بأنه لن يجني شيئا في الوقت الحاضر من احتلال كسلا وأنه وقت أن تصبح سيطرة مصر وبريطانيا محققة في السودان فان مشكلة كسلا يمكن حلها بسهولة، وإلى أن يحدث هذا تبقى هذه المدينة قليلة الأهمية (214). على أن هزيمة ايطاليا في عدوه في أول مارس سنة 1896 ووصول المهديين ومحاصرتهم كسلا وبدء المفاوضات الحربية بينهم وبين الحامية الايطالية في قلعة المدينة وخطورة هذا الموقف ، كل ذلك كان سببا في أن يسرع السفير الايطالي في لندن ويطلب من رئيس الوزراء البريطاني أن يأذن للجيش المصري بالقيام بعمليات حربية لتخفيف الضغط على الحامية الايطالية في كسلا. وزاء هذه التطورات الخطيرة التي حدثت في هذه المنطقة ونتج عنها تهديد مصالح مصر وبريطانيا في وادي النيل أسرعت حكومة بريطانيا وأرسلت برقية إلى كرومر بأن من مصالح مصر أن تحتل دنقلة وتتحمل نفقات العمليات الحربية المؤدية لذلك، وان هذا الاحتلال من شأنه أن يقضي على كل فكرة في مهاجمة مصر قد يشجع على وجودها لدى الداويش انتصار الأثيوبيين الأخير في عدوه، وعندما يتم احتلال دنقلة يحتفظ بها وليس هناك ما يدعو إلى اخلائها (215).

ويتضح من هذه البرقية مدى خطورة انتصار أثيوبيا المدعمة من فرنسا وروسيا على السياسة البريطانية وعلى مصالح مصر في السودان (216). ويؤكد ذلك البقية التي أرسلها سولسبوري في اليوم التالي لبرقيته السابقة يعلل سبب اتخاذه قرار الزحف واحتلال دنقلة بأنه الرغبة في مساعدة الايطاليين في كسلا ومنع المهديين من احراز انتصار قد تكون له آثار بعيدة المدى، والى جانب هذا أردنا أن نرمي عصفورين بحجر واحد وأن نستخدم الجهد الحربي نفسه لتأسيس سلطان الحكومة المصرية إلى مسافة أبعد على النيل، ولهذا قد فضلت حكومة بريطانيا هذا العمل بدلا من اقتراح كرومر بالزحف من سواكن لأن هذا الاقتراح ما كان ليمكن حينئذ من جني فوائد أخرى من هذه التحركات. وهكذا يتضح أن الهزيمة الايطالية وما تمثله قد أمدت الحكومة البريطانية بالفرصة المناسبة لبدء غزو السودان واسترداده (217)، أي أن ما قام به منليك من أنزال هزيمة منكرة بالايطاليين أجبر بريطانيا على تنفيذ ما كانت ترغبه مصر من عودة السودان إليها.


وهكذا فقد كان لكل هذه العوامل السابقة معا أن ساعدت حكومة بريطانيا على أن تحدد الوقت والأسلوب لاسترداد السودان وتأمين أعالي النيل لمصالحها ولأمن وسيادة مصر من خطر التقدم الفرنسي من الغرب والخطر الأثيوبي الفرنسي من الشرق، لذلك تقرر ارسال حملة لفتح دنقلة. وقد صدر قرار هذه الحملة بعد أيام قليلة من اصدار التعليمات النهائية لكل من ليونار ومارشان (218) وقد وافقت مصر على ارسال حملة لاحتلال دنقلة (219)، وتم فعلا استرداد دنقلة في سبتمبر سنة 1896 (220)، وباستردادها تأكدت ضرورة الاستمرار في الزحف للوصول إلى الخرطوم وذلك لعدة أسببا منتها النفقات القليلة التي تكلفتها الحملة ازاء الانتصارات الباهرة التي أحرزتها بسهولة وفي زمن قصير، كذلك أثبتت أنه من الممكن تحطيم قوة المهديين. وساد الاعتقاد بأن الجيش الزاحف لن يلقى مقاومة جدية من المهديين، ولأن الخوف من أن نيصل الفرنسيون إلى بحر الغزال وأقاليم النيل العليا كان لا يزال شديدا بل أخذ يتزايد منذ أن صار يخشى من وصولهم وبعثتهم برياسة الكابتن مارشان إلى أعالي النيل، لهذه الأسباب جميعهها كان لابد من استمرار الزحف لاستكمال استرداد السودان، ولذلك قررت بريطانيا من باب الاحتياط من ناحية أثيوبيا أن تنشأ معها علاقات طيبة لضمان وقوفها على الحياد – على الاقل – عند استنئاف الحرب الفاصلة للقضاء على المهديين ، فأوفدت بعثة إلى أثيوبيا برياسة سير رنل رود أحد رجال الوكالة البريطانية في القاهرة وأحد مساعدي كرومر (221).

بعثة رنل رود إلى أثيوبيا

عزل الجنرال باراتيري حاكم مستعمرة إريتريا الايطالية بعد هزيمته في عدوه (222)، واستبدل به الجنرال بالداسيري، كما استقال رئيس الوزراء الايطالي كريسبي وخلفه دي روديني (223). وقد دخلت ايطاليا في مفاوضات مع منليك انتهت بعقد معاهدة صلح في 26 أكتوبر سنة 1896 أنهت حالة العداء بين الدولتين وألغت معاهدة أوتشيالي التي كانت سبب هذا الصراع، والتي كان لها تأثير كبير في العلاقات بين دول هذه المنطقة والدول الأوروبية ايطاليا وفرنسا وإنجلترا، ورسمت بصفة مؤقتة الحدود بين إريتريا وأثيوبيا وعلى خط أنهار المأرب – بيليسيا – مونا (224). وفي نفس الوقت ظلت أثيوبيا مسرحا للنشاط الفرنسي الروسي، الأمر الذي أقلق الحكومة البريطانية وجعلها تخشى أن يسعى وكلاء الدولتين إلى تشويه أغراض الإنجليز في حوض النيل بصورة قد تستنفر منليك ضد المطامع البريطانية (225). ويعتقد أنها موجهة ضده.

وكان انتصار أثيوبيا في عدوة قد لفت أنظار دول أوروبا إليها فسعت إلى صداقتها (226). ولقد أوفدت فرنسا في ديسمبر سنة 1896 سفيرها ليون لاجارد في بعثة إلى أديس أبابا ودعمته بأموال طائلة وكميات كبيرة من الأسلحة لاستخدامها في تقوية النفوذ الفرنسي في أثيوبيا والحصول على موافقة منليك على تسهيل مرور حملتين فرنسيتين في بلاده الأولى برئاسة كلوشيت وكان وقتها في اثيوبيا. والثاني رياسة بونفولو وكان منتظرا وصوله في أية لحظة، ومهمتها الوصول إلى النيل. واستطاع السفير الفرنسي هذا أن يعقد معاهدة تجارية وأخرى سياسية تتعلق بتخطيط الحدود بين الصومال الفرنسي وأثيوبيا، ثم جاءت أثيوبيا بعثة فرنسية أخرى ليست لها صفة رسمية يرأسها الأمير الفرنسي السابق هنري دورليان. وكان هناك اعتقاد بأن الغرض من مجيئه إلى أثيوبيا هو الوصول إلى أعالي النيل لمقابلة حملة مارشان القادمة من منطقة الأوبانجي العليا إلى النيل (228). وكانت روسيا قد أرسلت بعثاتها أيضا بهدف تدعيم صداقتها مع امبراطور أثيوبيا، التي ازدادت بعد انتصاره في عدوة (229).

كان هذا النشاط الفرنسي الروسي المتزايد في أثيوبيا بالاضافة إلى الوفاق بين منليك والمهديين، اذ أن منليك كان يعتقد أن الإنجليز هم الذين شجعوا الايطاليين على غزو بلاده، لذلك أرسل إلى التعايشي يلفت نظره الى الخطر الإنجليزي الذي دخل بلاده واستولى على دنقله وأن عدوه هو عدو منليك وأنهما يدا واحدة في تجاه المهديين في الحرب المنتظرة مع الانجليز بنفس الدور الذي قامت به كل من فرنسا وروسيا تجاه أثيوبيا في صدامها مع ايطاليا وذلك بمد المهديين بالسلاح والمستشارين عبر الأراضي الأثيوبية ولما كانت بريطانيا تسعى إلى منع أي تعاون بين أثيوبيا والمهديين كما ترغب في الحصول على معلومات عن الحالة الداخلية في أثيوبيا نفسها أرسلت بعثة رنل رود إلى منليك في أوائل سنة 1897 (230) وبناء على اقتراح قدمه كرومر في ديسمبر سنة 1896 باراسل هذه البعثة الى منليك ردا على بعثة فرنسا ولابعاد شكوكه عن العمليات الحربية التي تقوم بها مصر في السودان (231).

وقد أصدرت الحكومة البريطانية في أوائل فبراير سنة 1897 تعليماتها إلى رنل رود بالذهاب إلى أديس أبابا ليوضح لمنليك أن العمليات العسكرية التي تقوم بها حكومة مصر في السودان تستهدف استرداده، كما كان من قبل، وأنه ليس لهذه العمليات الحربية أية نوايا عدائية نحو أثيوبيا. وتؤكد بريطانيا بمقتضى هذه التعليمات أنها لا تعارض في الاعتراف بتخطيط الحدود الأثيوبية بين خطي عرض 15 شمالا مما لا يتجاوز منطقة النفوذ التي أعطيت لايطاليا بمقتضى اتفاق 15 أبريل الذي يقع بين كركوج وفامكه، في حالة ما اذا كان الامتداد ضروريا على ألا يلحق هذا الامتداد أذى بالمصالح المصرية في مقابل الحصول على محالفة منليك وتعاونه ضد المهديين (232).

وقد تقابل رود مع منليك يوم وصوله أديس أببا (28 أبريل) حيث قدم نفسه إليه وأبلغه بأنه موفد من قبل ملكة بريطانيا حاملا اليه رسالة ود وصداقة وتأكيد لنوايا بلاده السلمية والرغبة الصادقة في أن تسود العلاقات الطيبة بين البلدين، ثم سلم رود منليك رسالة الملكة فيكتوريا وأخرى من الخديوي عباس وثالثة من البطريرك (233). وقد حضر هذه المقابلة من جانب رجال الامبراطور منليك مستشاره الخاص ألفريد إيلج وأعضاء البعثات الأجنبية. وعلى رأسهم بونفولو وهنري دورليان الفرنسيين وليونتيف الروسي، وقد عرف رود أن البعثة الفرنسي برياسة كلوشيت قد وصلت إلى أديس أبباا قبل وصوله بأسابيع قليلة، وأن كلوشيت لا يزال يعيد تنظيم حملته في مكان بعيد عن أديس أباب استعدادا لاستنئاف الزحف صوب النيل حتى يقابل الحملة التي يقودها مارشان من الغرب (234). ولكنه لم يستطع أن يحصل على معلومات كافية عن وفد المهديين هذا الا أنه فهم أن الغرض هو اقامة العلاقات الودية مع منليك في الوقت الذي كان متوقعا فيه أن يستأنف المصريون زحفهم جنوبي دنقلة. وقد اعتقد رود أن منليك قد اتخذ موقف الحياد عندما أجاب رئيس البعثة المهدية (محمد عثمان ودحاج خالد) بأنه لا يرغب في تجديد الحرب والعداء ضد المهدية – ولكنه لا يريد في الوقت نفسه أن يعد بمساعدة الخليفة، واعتقد رود أيضا بأن البعثة المهدية حددت اقامتها أثناء وجودها في أديس أبابا فسمح لها بالنزول في منزل المطران متاؤس المصري ومنعت من الاتصال بأحد، وهذا ما اعتقده رود بخصوص البعثة المهدية (235).

والواقع أن بعثة التعايشي هذه كانت ردا على رسالة منليك التي حذره فيها من الزحف الانجليزي المصري القادم الهي من الشمال. وقد استقبل منليك البعثة المهدية استقبالا طيبا حيث تسلم من رئيس البعثة محمد عثمان رسالة التعايشي الذي ذكر فيها قبوله مبدئيا العرض المقدم من منليك لعقد الصلح بينهما ولكنه أبدى تحفظات معينة، فهو يؤكد لمنليك بأن لا صلة له بالأوروبيين وليس بينه وبينهم الا الحرب. وطلب من منليك أن يكون كذلك وأن يمنع جميع الأوروبيين من الدخول إلى بلاده، واذا وافق عليه أن يرسل شخصا من طرفه لعقد الصحل. وقد تلقى منليك الرسالة بسرور ووافق على طلبات التعايشي وكان متحمسا لعقد الصلح ورأى أن الخلافات الدينية لا تهم كثيرا، بل اقترح انشاء مواصلات منتظمة بين البلدين. وقد صحبت البعثة المهدية بعثة سلام من منليك مكونة من عشرة أشخاص، وقد وصلت البعثتان إلى أم درمان، وسلمت التعايشي رسالة منليك الذي أوضح له أنه لا توجد بينه وبين الأوروبيين أي علاقة ما عدا التجارة وهي ضرورية لبلاده وللسودان معا، وأن وقفها يضر بالبلدين، وأعرب عن استعداده لقبول أي شروط أخرى وتقديم أي مساعدة من مال وعتاد، وفي حالة أي غزو أوروبي ضد السودان، وهكذا فقد كاد التحالف يتم فعلا بين منليك والتعايشي لكن ذلك لم يحدث، ربما لأن الغزو البريطنيا شغل التعايشي، ولعله كذلك قد صرف منليك عن الخليفة المهدي (236).

وتتابعت المقابلات بين رود ومنليك وأوضح الأول للثاني أن بريطانيا تريد تنظيم الحدود الشرقية للسودان وحماية مصالحها التجارية، كما أنها ترغب في الوصول إلى تفاهم مع منليك فيما يتعلق بمصالح مصر بشأن بعض الأراضي وأنه على أثيوبيا بمقتضى معاهدة عدوه سنة 1884، أن تحيل إلى الحكومة البريطانية كل المنازعات التي تحدث بينها وبين مصر، ولكن منليك اعترض وقال أن هذه المعاهدة ألغيت بعد أن أحضرت بريطانيا الايطاليين الى مصوع في فبراير سنة 1885 وقد نفى رود مسئولية بريطانيا عن ذلك لأن ايطاليا دولة مستقلة ليس لها سلطان عليها ولعدم استطاعة مصر انهاء الاحتلال وقتها، كما أن ذلك لا يعني الغاء او اضعاف هذه المعاهدة، بدليل أن أثيوبيا لا تزال تحتل بوجوس بمقتضاها، أما بخصوص معاهدة أوتشيالي فان بريطانيا قبلتها بالصورة التي أبلغتها بها ايطاليا ولم تعلم انجلترا إلى مؤخرا أن أثيوبيا لا تعترف إلا بالنص الأمهري للاتفاقية. وتحدث رود مع منليك في مسائل شتى منها مكافحة تجارة الرقيق ومنع مرور الأسلحة الى السودان ، وأوضح له أن المهديين أعداؤه مثلما هم أعداء الإنجليزي. وتناول رود موضوع بعثة كلوشيت ونفى منليك أنها تحمل سلاحا، وطلب السماح لاثيوبيا بنقل الاسلحة من زيلع فودعه رود بأن تبحث حكومته ذلك. وفيما يتعلق برسم الحدود بين مصر (السودان) وأثيوبيا، فقد اكتشف رود أن منليك قد أصدر منشورا إلى كل الدول لم يعلم به اطلاقا وهو الخاص بمد حدود أثيوبيا إلى الخرطوم وبحيرة نيانزا. وهذه المناطق اعتبرها منليك حدوده الغربية. وقد وجد رود أن ما يقدمه الى منليك والذي سمحت به حكومة برطيانيا نظير عقد محالفة صريحة معه، يقل كثيرا عن التوسع الذي يريده منليك في هذه المنطقة. وعلى ذلك فقد رأى رود من الحكمة تأجيل كل المسائل المتعلقة برسم الحدود في هذا الجانب الغربي إلى ما بعد استرجاع الخرطوم وتأسيس السيطرة المصرية في حوض النيل (237).

وفي 14 مايو سنة 1897 استطاع رنل رود أن يوقع معاهدة مع منليك عرفت باسم معاهدة أديس أبابا، وبعدها غادر أثيوبيا إلى لندتن (238). وتكونت هذه المعاهدة من ست واد نص فيها على حرية التجارة والانتقال لرعايا الدولتين واستيراد الأسلحة والذخيرة عن طريق المستعمرات البريطانية ، على أن تكون هذه الأسلحة خاصة بالامبراطور. كما تعهد منليك لملكة بريطانيا بأن يمنع بكل ما لدية من قوة مرور الأسلحة من أرضه وكل أملاكه إلى المهديين، ويعلن أنهم أعداء امبراطوريته (239). وعلى ذلك تكون بعثة رنل رود قد أحرزت بعض النجاح في مهمتها التي أرسلت من أجلها، فقد استطاعت أن تزيل الى حد ما سوء التفاهم بين بريطانيا ومنليك بسبب موقف الأولى من معاهدة أوتشيالي ومؤازرتها للايطاليين في مشروعاتهم التوسعية في اريتريا، وذلك باتصالها به مباشرة وليس عن طريق ايطاليا كما كانت من قبل. كذلك استطاعت هذه البعثة أن تنتزع تعهدا من منليك بعدم مساعدة المهديين واعتبارهم أعداء لبلاده. واتفق على تسوية مشاكل الحدود التي قد تنشأ بين السودان وأثيوبيا عندها يستأنف الزحف إلى الجنوب لاسترداده. وبذلك أصبح الطريق ممهدا للجيش المصري لاستمرار الزحف (240).

على أن هذه البعثة فشلت في أن تحدد الحدود بين السودان وأثيوبيا وتركتها للمستقبل، وذلك لأن منليك تمسك بمنشوره الدوري الصادر في 10 أبريل سنة 1891، وكان تمسك منليك بهذا المنشور منتظرا ما تسفر عنه الأيام مستقبلا. وربما كان وراء ذلك، أن مبعوث فرنسا لاجارد عندما زار أديس أبابا قدم له مزايا عديدة أكثر من مبعوثي الدول الأخرى وأكثر مما قدمه رنل رود، فقد أعترفت فرنسا بسلطة منليك على طول النقطة التي تبعد 100 ميل جنوبي الخرطوم، كما تعهدت بمساعدته في اقامة سلطته على الضفة الشرقية من هذه النقطة وحتى لادر جنوبا. والتي اعتبرتها فرنسا منطقة أثيوبيا، وذلك في مقابل وعد من منليك أن يؤيد البعثات الفرنسية القادمة من الغرب كما يحمي ويسمح للبعثات الفرنسي من المرور عبر بلاده لكي تصل إلى أعالي النيل (241). وبالطبع فان شروط هذه المعاهدة الفرنسية التي تتفق مع رغبات منليك وتحقق الى حد ما منشوره التوسعي، تجعله يؤجل التفاوض مع بريطانيا فيما يتعلق بتحديد الحدود بين السودان وأثيوبيا.

وربما ساهم في هذا التأجيل كذلك أن الفوضى المنتشرة في السودان وانشغال المهديين بزحف المصريين قد تعطيه الفرصة للتوسع في السودان، وبالتالي يؤكد منشوره التوسعي، الذي لم يستطع أن يحققه حتى لا يصطدم بالثور المهدية، وقد يترتب على اصطدامه هذا هزيمة أخرى مثل هزيمة يوحنا الرابع. لذلك فقد تمسك بمشنوره هذا أمام رنل رود حتى يوهمه بتوسعاته في السودا، التي قد يحققها سواء بمعاونة الفرنسيين أو يقوم هو بها منتهزا الفوضى الناشبه في دولة السودان المهدية، ووقتها يستطيع أن يضع بريطانيا ومصر أمام الأمر الواقع وذلك عندما يتم لهما القضاء على المهديين. ومما يؤكد ذلك أن منليك انتهزر فرصة طلب التعايشي منه أن يعاونه في اخضاع ولد نور الغوري حاكم بني شنقول المتمرد عليه، فزحف منليك بحدوده غربا نحو النيل الأزرق، كما أرسل حملة أخرى نحو النيل الأبيض بغرض وقف الزحف الاوروبي على النيل، وكتب إلى التعايشي موضحا تلك الخطوة بقوله : "أخبرك أن الأوروبيين الموجودين حول النيل الابيض مع الإنجليز قد خرجوا من الشرق والغرب وقصدوا أن يدخلو بلادي وبلادك والآن أمرت جيوشي بأن تصل إلى النيل الابيض، ولربما تسمع خبرا من التجار أو غيرهم وتعتقد في شئ آخر، لذلك كتبت إليك لكي تعرف القصد وأنت من جهتك تحفظ ولا تدع الأفرنج يدخلون بيننا وتشدد لأنه اذا دخل الأفرنج في وسطنا يصير تعب عظيم لنا واذا كان يحضر عندك أحد من الأفرنج عابر طريق اعمل كل اجتهادك حتى تصرفه بالمحبة". وعندما أخذت جيوش كتشنر تقترب من أم درمان، بعث منليك برسالتين إلى التعايشي يطلب منه أن يفتح عينيه حذرا من الأوروبيين كما أرسل له علما فرنسيا لكي يرفعه على حدوده اذا هاجمه الإنجليز، ولكن التعايشي رفض رفع العلم وأعاده ثانية الى منليك (242).

ويتضح مما سبق مدى دهاء منليك ، فقد أراد أن يصرف نظر التعايشي عن تحركاتها الحدودية، كما أراد أن يخدع الانجليز عندما يرون علما فرنسيا مرفوعا على أم درمان بكل ما قد ينتج من اشكالات دولية توقف زحف الجيش المصري عندها، وفي هذه الأثناء يتم وصول البعثات الفرنسية إلى أعالي النيل وتتم أيضا سيطرة منليك على الضفة الشرقية للنيل ويضع مصر وبريطانيا أمام الأمر الواقع (243). كذلك يتضح أن منليك بالرغم من قصده من تعهده بعدم التحالف مع المهديين فقد ظل على اتصال بهم، بل حاول أن يستغلهم لصالحه ضد الانجليز والمصريين في تقدمهم لاسترداد السودان. وواضح جدا أن منليك قد أرسل أربع حملات بعد رحيل بعثة رنل رود، إلى النيل الابيض والأزرق وبحيرة رودلف لمد نفوذه إلى هذه المناطق، وأنه بالتالي لا يثق في بريطاينا، ولذلك نستطيع أن نقول أن رود لم يحصل على ضمان قوي يمنع من تحالف منليك مع المهديين ، سوى تعهده في المعاهدة المعقوة بينهما والتي كان يمكن أن ينقضها امبراطور أثيوبيا اذا ما ساعدته الظروف على ذلك (244)ز


ولقد شعر رود بأطماع منليك هذه المدعمة بتأييد فرنسا له. ولما كان المبعوث الانلجيزي أوسولسبوري لا يستيطع أن يقدم عرضا أفضل من عرض فرنسا هذا ، كما أن الحملة الزاحفة على السودان هي لاسترداده لتحكمه وليس معناها استبدال حكم التعايشي بحكم منليك ومعه حلفاؤه الفرنسيون، كما واضحا لرود ومن معه أن هذه المشكلة لن تحل الا بمعركة كبيرة، وأنه عندما يشق كتشنر قائد حملة الاسترداد طريقه إلى الخرطوم وتسيطر بريطانيا على النيل حتى فاشوده جنوبا فان منليك يكون أكثر ادراكا لعدالة الهدف البريطاني (245). ولذلك فقد كتب رود إلى سولسبوري يوم توقيع المعاهدة 14 مايو سنة 1897 "أنه اذا حصل أن تقرر اعادة الاستيلاء على أم درمان، وقام أسطول قوي من البواخر بأعمال الرقابة على امتداد النيل الطويل الذي يجري دون عقبات من الخرطوم إلى فاشودة فسوف يكون لدينا تلك القوة الأدبية التي تسندنا عند بيان مطالبنا ومطالب مصر في عبارات واضحة صريحة وهو الشئ الذي نفتقده الآن تماما " (246).

كذلك لم توفق البعثة في مسعاها لوقف نشاط البعثات الفرنسية أو وقف زحفها غربا أو الحصول من منليك على وعد بألا يقدم اليها اية مساعدات قد تساعد على تحقيق أهدافها في الوصول إلى أعالي النيل من أثيوبيا أو من جهة الغرب (247)ز

وبالرغم من فشل رود في ذلك، فان البعثات الفرنسية التي اتخذت من أثيوبيا ميدانا لها قد صادفها سوء الحظ مما أدى إلى فشلها. وساعد على ذلك غرور لاجارد المبعوث الفرنسي وحبه للسيطرة عليها. وكان عدم تعضيد لاجارد بونفولو سببا في فشله في الاتفاق مع منليك، مما دفعه إلى العودة إلى فرنسا، تاركا قيادة البعثة إلى نائبه بوتشامب وفي النهاية استطاع الأخير أن يحصل على المرشدين وخطاب توصية إلى الدجزماتش حاكم جوري في أعالي نهر السوباط، وعندما وصل بوتشماب اليها كان لكوشيت يصارع الموت فيها. ويبدو أن منليك لم يؤيد هذه البعثة فأمدها بمرشدين نجحوا في تضليلها، كما أن تساما عرقل نشاطها وتحركاتها وقد أدى ذلك إلى عودة بوتشامب إلى أديس أبابا ليطلب تدخل منليك الشخصي حتى تنجح البعثة في انشاء مراكز خاصة به على النيل.

وفي ذلك الوقت كان لاجارد قد عاد إلى أديس أبابا في بعثة أخرى من فرنسا، وقام بعد عودته بضم بعثة بوتشامب مع ما تبقى من بعثة كلوشيت في بعثة واحدة وذلك لاتمام مهمتها. وكان على بوتشامب أن يسير إلى جانب الضفة اليسرى لنهر السوباط حتى النيل ويقيم قلعة اثيوبية على الضفة اليمنى وأخرى فرنسية على الضفة اليسرى . كما زود منليك بمذكرة يخوله فيها رفع علم أثيوبيا والاتفاق مع الأهالي، كما أمده بأكثر من رسالة ايجابية إلى تساما. وبالفعل فقد تغيرت سياسة تساما تجاه البعثة الفرنسية وتمكن بوتشامب من أن يبدأ رحلته واتخذ الطريق الذي رسمه لاجارد، وقام بعقد محالفات مع الزعماء الوطنيين على طول الطريق باسم منليك وليس باسم فرنسا. وكان الطريق شاقا كما واجهتها صعوبات قاسية أجبرتها على العودة بعد أن وصلت إلى ملتقى السوباط والاجوبا في أواخر ديسمبر سنة 1897، وكانت تبعد عن فاشودة مائة ميل.

وفي أثناء عودتها قابلت حملة كبيرة بقيادة تساما ومعه أحد المغامرين الروس ويسمى آرتامنوف المفوضية لاروسية في آديس أبابا. وقد اهتم بعض أعضاء بعثة بوتشامب الى هذه الحملة الأثيوبية التي كان هدفهخا انقاذ بوتشامب وتثبيت النفوذ الأثيوبي في وادي نهر السوباط حتى النيل. وقد استمرت هذه الحملة في سيرها في مارس سنة 1898، واستطاعت أن تصل الى النقطة التي يلتقي فيها السوباط بالنيل في 22 يونية سنة 1898 قبل وصول مارشان بستة عشر يوما، وانتظرت مارشان ولكنه لم يكن قد وصل بعد. وكان سوء الأحوال المناخية والطبيعية الأثيوبيين سببا في عودتها إلى مواقعها واخلائها هذه المنطقة، وان كانت تقد تركت ما ينم عن وصولها إلى هذا المكان. وكانت حملة تساما هذه جزءا من عملية واسعة النطاق، فهي احدى الحملات الأربعة التي أرسلها منليك ليدعم مطالبه الخاصة بالحدود المبينة في منشوره سنة 1891، فبالاضافة إلى هذه، الحملة كانت الحملة التي وجهت الى شمال بحيرة رودلف، ثم أعقبتها حملة أخرى الى هذه المناطق لتأكيد تبعيتها الى منليك وأخيرا وأهمها حملة الراس ماكونين والتي تقدمت في منطقة النيل الأزرق في ربيع سنة 1898 (248).


وعلى أي حال فقد وصلت بعثة مارشان فاشودة في 10 يولية سنة 1898 ورفعت العلم الفرنسي فوق أطلال القلعة المصرية القديمة. ومع أنه لم يجد أحدا في انتظاره من الفرنسيين أو الأثيوبيين، فقد ظل مارشان في موقعه حتى جاءه كتشنر قائد الحملة المصرية الإنجليزية المكلفة باسترداد السودان (249). وزاء هذا النشاط الفرنسي وفشل رود في ايقافه اشتد قلق سولسبوري، وحثه رود عندما وصل لندن على أن يسرع بارسال حملة من اوغندا تسير بحذاء النيل الى فاشودة أملا في الوصول قبل مارشان. على أن حملة ماكدونالد التي أرسلت من اوغندا لهذا الغرض فشلت في الوصول إلى فاشودة بسبب ثورة جنود الحملة السوادنيين الناتجة من ارهاقهم وعدم دفع مرتباتهم. وعندما قام برحلته أخيرا في صيف 1898 لم يصل الا الى مسافة مائة ميل من لادو، وعرفت وزارة الخارجية البريطانية في نوفمبر سنة 1897 أن ماكدونالد لن يستطيع أن يصل الى فاشودة في الوقت المناسب (250).

وازداد الموقف خطورة في السودان مع بداية عهام 1898، فقد فشلت محاولة الوصول الى فاشودة من الجنوب، كما أن منليك والفرنسيين يواصلون محاولاتهم للوصول الى أعالي النيل وتدعيم سلطة الامبراطور الأثيوبي في هذه المناطق واستيلائه على بني شنقول والروصيرص. لذلك قررت بريطانيا استنئاف الزحف في السودان حتى الخرطوم. وبالفعل زحف كتشنر حتى وصل أم درمان، حيث هزم المهديين في معركة أم درمان الفاصلة في 2 سبتمبر سنة 1898 وفر بعدها التعايشي وزالت دولة المهديين في السودان بهذه الهزيمة (251).

وقد اقترح كرومر بعد انتصار كتشنر في معركة أم درمان أن يرسل حملتان احداهما بقيادة السردار كتشنر في النيل الأبيض لوقف الفرنسيين، والأخرى في النيل الأزرق لوقف الأثيوبيين الذين وصلوا الى بني شنقول، وأن يقتصر عمل رجال العملتين على اتخاذ موقف الدفاع فقط اذا تقابلتا مع فرنسيين أو أثيوبيين وألا يعملوا على استفزاز هؤلاء لمهاجمتهم. وفي حالة رفع الفرنسيين علمهم على بقعة من النيل يحتج قائد الحملة على ذلك ويطالب باسترداد هذه الأرض باسم الخديوي (252). وقد قررت حكومة بريطانيا الأخذ باقتراح كرومر هذا. كما تقرر رفع العلمين المصري والإنجليزي على الخرطوم بعد الاسترداد، وأصدرت أوامرها الى كتشنر بأن يقود حملة النيل الابيض وألا يبدو منه عند تعامله مع السلطات الأثيوبية أو الفرنسية ما يفهم منه بالقول أو بالعمل الاعتراف باي حق في النيل لفرنسا أو أثيوبيا. كما أوصى كتشنر بألا يصطدم بأية قوة أثيوبية وأن عليه أن يحيل أي نزاع إلى الحكومتين الإنجليزية والأثيوبية. ويوضح لقائد القوة الفرنسية التي يجدها بأن بقاءه في وادي النيل اعتداء صارخ على حقوق مصر وبريطانيا. وكانت الأخيرة قد أوضحت لحكومة فرنسا أنها لا تعترف بحق أي دولة أوروبية غير بريطانيا في امتلاك أي جزء من وادي النيل وهكذا فقد أشركت بريطانيا نفسها مع مصر في حق السيادة على وادي النيل منذ أن اعترف ايطاليا ضمنيا بذلك في اتفاق 15 أبريل سنة 1891. وقد تدعم هذا الاشتراك بالمساهمة في عملية استرجاع السودان مع مصر صاحبة الحقوق الشرعية عليه (253).

وبالفعل فعندما تأكد وجود الفرنسيين في فاشودة، زحف كتشنر على راس حملة صاعدا النيل الأبيض حتى وصل فاشودة في 21 سبتمبر سنة 1898 فوجد حملة مارشان التي وصلت هذا المدينة في 10 يولية سنة 1891 أي قبل سقوط أم درمان (254). وفي 21 سبتمبر تقابل مارشان وكتشنر في فاشودة وأصلا كلاهما على موقفه فقد كان مارشان قد أوضح له في رسالته التي رد بها على رسالة كتشنر اليه بأنه انما جاء الى هذا المكان بناء على أوامر من حكومته وانه قد احتل منطقة بحر الغزال حتى مشرع الرق والى ملتقى بحر الجبل بالاضافة الى بلاد الشلك الواقعة على الضفة اليسرى للنهر حتى فاشودة، وانه عقد اتفاقية مع ملك لاشلك قبل بموجبها وضع بلاده تحت الحماية الفرنسية، وكان مارشان قد أرسل يطلب مددا من فرنسا عن طريق أثيوبيا وبحر الغزال. وأوضح لكتشنر بأنه نتيجة لحضوره ان تغير الموقف وانه لا يستطيع أن يبرح المكان دون تعليمات أخرى من حكومته (255)ز

وكان هذا هو موقف مارشان الذي أصر عليه، أما موقف كتشنر فقد كانت الأوامر الصادرة اليه هو استرجاع هذه المنطقة الى السلطة المصرية، ثم أخيرا اتفقا على أن يذهب مارشان الى القاهرة ليستطلع رأي حكومته في هذا الموقف. على أن كتشنر كان قد رفع الراية المصرية بموافقة مارشان وترك السردار قوة عسكرية في فاشودة في مواجهة القوة الفرنسية ثم غادرها الى أم درمان وترك الموقف كله في أيدي الحكومتين الفرنسية والإنجليزية (256). وأخيرا حلت هذا لمشكلة وديا وانسحب مارشان بحملته من المنطقة عائدا الى بلاده (257). وقد ساعد على حل مشكلة فاشودة أن منليك انشغل بثورة منجاشا حاكم تيجري، التي تم اخضاعها في نفس الوقت الذي وصل فيه مارشان إلى أديس أبابا عائدا من فرنسا (258). وبانسحاب الفرنسيين من فاشودة تم القضاء على كل المحاولات الفرنسية والتي تهدف الى الوصول إلى أعالي النييل وأصبح النفوذ الانجليزي هو النفوذ السائد القوي في هذه المنطقة وضعف النفوذين الفرنسي والايطالي (259). واستردت مصر مدينة كسلا من الايطاليين في آخر سنة 1897 (260).

وازاء تحركات الأثيوبيين، أرسل كتشنر عند وصوله الى فاشودة قوة صعدت نهر السوباط واحتلت الناصر ولما عاد الى أم درمان أرسل قوة أخرى في النيل الأزرق بقيادة هنتر للوقوف في وجه الأثيوبين (261)، واحتل سنار والروصيرص والقضارف والقلابات والجزيرة وفازوغلي وتأسست نقطة في فامكة. أما بني سنقول فقد بقيت في يد الأثيوبيين، وبذلك سيطرت مصر وبريطانيا على السودان (262). وعادت مرة أخرى الحدود المشتركة بين مصر وأثيوبيا. ولما كانت بريطانيا تحتل مصر فقد نصبت نفسها حامية لمصالحها في السودان وأعالي النيل كما أنها اشتركت في حكم السودان مع مصر بموجب الاتفاق الثنائي الموقع في سنة 1899، وكانت هناك محاولة لتحديد الحدود بين السودان وأثيوبيا ولكنها أرجئت بسبب تمسك منليك بمنشوره الصادر في سنة 1891 مما جعل رنل رود يطلب تأجيلها مستقبلا في ظروف تسمح بذلك، وعليه فقد كانت الخطوة التالية بعد استرداد السودان هي تحديد الحدود بينه وبين اثيوبيا (263).

تحديد الحدود بين السودان وأثيوبيا

وكان منليك كما رأينا من قبل يحاول أن يستغل الصراع الذي دار بين مصر والمهديين في أن يوسع حدوده على حساب حدود السودان المصري. ولكي تصفي بريطانيا مشكلة الحدود هذه ارسلت الى مندوبها جون لين هارنجتون في أديس أبابا عن طريق كرومر تعليماتها له بأن يوضح الخط الذي سيتبعه في العلاقات بين مصر واثيوبيا وطلب منه أن يزيل أية شكوك تكون لدى منليك بشأن وجود بريطانيا في مصر والسودان، كما أوصاه بألا يعترف بأية ادعاءات أثيوبية بشأن الحدود الغربية والشمالية الغربية مما ينسحب على أية منطقة كانت تحت الحكم المصري، كذلك ذكر له أن بريطانيا تؤيد بصفة عامة حقوق مصر في وادي النيل، وبالتالي فعليه ألا يعطي أية ردود على الادعاءات الاثيوبية هذه دون أن يكتب بذلك الى الحكومة. وكان تعيين هذا السفير الانجليزي بناء على اقتراح قدمه رنل رود الى حكومته بعد عودته من رحلته الى اثيوبيا بضرورة انشاء علاقات سياسية دائمة مع أثيوبيا بسبب أهميتها كعامل سياسي في شرق افريقيا ولكي يقف ضد الدعاية السيئة التي شنتها الدول الاوروبية الأخرى (264).

وقد تسلم هارنجتون منصبه في أوائل سنة 1898 (265)، وعلم تماما بسياسة منليك التي اعتمدت على سياسة الاحتلال الفعلي لكي يحقق منشوره الصادر في سنة 1891 بالتوسع في السودان ، وقد اعتقد كل من هارنجتون وكرومر بأنه لن يوقف منليك عن توسعاته على حساب مصالح مصر في السودان سوى صدمة، وأن هذه الصدمة لن تأتي الا بعد هزيمة المهديين وبالفعل فقد كانت هزيمة المهديين في أم درمان سببا في تغير الموقف السياسي في اثيوبيا، فقد فزع الاثيوبيين لسقوط الخرطوم، وبذلك تحركوا عل طول الحدود حتى يشعروا أنفسهم في موقف أفضل عندما تبدأ المفاوضات مع الإنجليز الذين نظر الاثيوبيين إليهم على أنهم أكبر قوة في المنطقة، وقد تحرك الاثيوبيين الى داخل القلابات وكانوا ينوون التحرك الى كركوج. ورفع الاثيوبيون علمهم على المتعة. لهذا فقط طلبت الحكومة البريطانية من مندوبها هارنجتون أن يطلب من منليك أني قدم مطالبة في الحدود، وبالذات بعد ان احتلت القوات المصرية الانجليزية القضارف والروصيرص في أول نوفمبر سنة 1898. وقد ثار منليك لاحتلال الروصيرص ذات الموقع الهام على النيل الأزرق وكان منليك يطمع في هذه المنطقة والتي تمتد حتى النيل الابيض، وبدأ هارنجتون يتفاوض مع منليك مؤكدا أن هذه المنطقة ملك مصر. وبالرغم من أن بريطانيا أظهرت بعض التنازلات عن أرض كانت ملكا لمصر فانه أصر في هذه الفترة من المفاوضات على ادعاءاته التي جاءت في منشوره سنة 1891 ، وبالرغم من أن هارنجتون أوضح له أن حكومة بريطانيا لم تقبل هذا المنشور (166).

واستمرت المفاوضات بين المندوب البريطاني ومنليك الذي شكى له أن بريطانيا قد احتلت مناطق كانت خاضعة له مثل جوري والقلابات، ولكن هارنجتون أوضح له أن هذه المناطق كانت ملك لمصر واستولى منلكي عليها ابان الصراع بين المهديين والجيش المصري الانجليزي الزاحف. وقد عرض هارنجتون في مقابلة أخرى (22 أبريل) خطا للحدود للمناشة، وكان هذا الخط المقترح يتجه جنوبا من تودلوك الى خوريابوس وضم الحمران وكيداوي والقلابات وديباتيه ودار السماني ودارجو باودار وجوموريني وشنقول. وهذه كلها عرضها باعتبارها بلادا مصرية، على أن منليك تمسك ببني شنقول وذلك للذهب الموجود فيها، ولأهميتها الاستراتيجية لمنطقة من السهل الوصول إليها ملاحيا عن طريق النيلين الابيض والأزرق كما أنها تتحكم في جزء مناسب من تجارة السودان وقد ووافقت بريطانيا على ضمها الى منليك . وقد حاول الامبراطور أن يسيطر على المتمة. وهي مدينة ذات أهمية استراتيجية تجارية في اقليم القلابات تقع على نحو 95 كم غربي جندر العاصمة الأثيوبية القديمة، وكلن هارنجتون رفض ادعاءاته وذلك للأهمية التجارية لهذه المنطقة للسودان (267).

وكان الاثيوبيون قد استولوا على القلابات ورفعوا علم بلادهم عليها، وذلك عقب علمهم بنهاية التعايشي في أم درمان، وكتب قائد الاثيوبيين في هذه المدينة الى القائد الانلجيزي في القضارف بأن دخوله القلابات كان بأمر منليك الذي يغرب في خلق علاقات حسنة معها بغرض فتح الطريق التجاري وانشاء علاقات تجارية بين السودان وأثيوبيا، وأنه ليس بين أثيوبيا وبريطانيا (268) الا الود. وواضح أن منليك لم يكن يريد الحرب مع بريطانيا وانما اتخذ اسلوب المفاوضة معها لكي يحصل على ما يريده ولقد عرض هارنجتون رغبة منليك في ضم القلابات اليه على رنل رود الذي اقترح بأن بريطانيا تحتاج فقط الى القلعة التي كانت في المدينة الجديدة. وعلى ذلك فان منليك يعطي المدينة القديمة شرق خور أبنكارا كمركز تجاري تحت حكمه. وقبل منليك هذا التقسيم (269).وعلى ذلك أخلى الاثيوبيون القلابات ودخلها المصريون (270).

وبناء على هذه التغييرات في الحدود بين السودان وأثيوبيا فقد تشكلت مجموعاتان للمسح أرسلتا لبحث الحدود وتحديدهما احداهما لمسح الحدود المقتروح من الشمال والأخرى من الجنوب. وبعد ان انتهت هاتان اللجنتان من عملهما أرسلتا تقريرهما الى هارنجتون الذي عرضهما على منليك. وكان سولسبوري قد أوصى هارنجتون بأن يأخذ في اعتباره بأن يكون خط الحدود المتفق عليه ملائما لاقامة سلسلة من النقاط على الحدود بني نهري السوباط والنيل الأزرق، وأن يتم تحديد الحدود على الطبيعة بواسطة لجنة مشتركة. كذلك عليه أن يحصل على اتفاق من منليك يضمن ألا يكون هناك أي تدخل أثيوبي في مياه النيل الأزرق أو بحيرة تسانا عدا الموجود في الاتفاق مع حكومة بريطانيا أو حكومة السودان. وتحصل الحكومة البريطانية على حق بناء خط سكة حديد خلال المناطق الأثيوبية إلى السودان بهدف وصله بأوغندا. وقد استغرق وصول هذه التعليمات الجديدة من لندن إلى هارنجتون بأديس أبابا عدة شهور. ويبدو أن تأخر وصول هذه التعليمات اثار قلق منليك الى حد أن هارنجتون أرسل يستعجل في يناير سنة 1901 وصولها موضحا خطورة تأخيرها حتى لا تسنح الفرصة لفرنسا وروسيا لكي تغير الموقف الودي لمنليك ازاء بريطانيا (271). والذي استطاع هارنجتون بسياسته أن يحوز ثقته ويجعل بريطانيا تأخذا مكانا كبيرا عنده. والواقع أنه بفضل جهود هارنجتون السياسية استطاع أن يزيد من النفوذ البريطاني في اثيوبيا وبالتالي تضاؤل النفوذين الروسي والفرنسي (272).

وبعد أن تم كل شئ بين هارنجتون ومنليك ولم يبق سوى الانتظار لتوقيها تقدم منليك بطلبات جديدة حرضه عليها كل من فرنسا وروسيا منتهزة في ذلك انشغال بريطانيا بحرب البوير في جنوب أفريقيا، وذلك لكي تتوتر العلاقات الطيبة بين أثيوبيا وبريطاينا، وقد تتطور الى اشعال حرب استعمارية بين هاتين الدولتين. على أن هارنجتون استطاع أن يحبط هذه المؤامرة وأن يتقدم في أوائل سنة 1902 بمسودة اتفاق، وفي المقابل أرسل إيلج مستشار منليك الى هارنجتون نسخة أمهرية بها بعض المواد المخالفة للاتفاقية هدمت عمليا كل ما اتفق عليه حتى هذا التارخي، ذلك أن منليك غير الحدود جنوب مليلي لمصلحته، وأدخل مادة بشأن بحيرة تسانا والنيل الأزرق هدمت كل ما اتفق عليه من قبل، بل أدخل مادة جديدة تنص على أن هذه المعاهدة سارية المفعول لعشر سنوات، ويمكن انهاؤها عن طريق مذكرة تسلم الى أحد الطرفين قبلها بستة أشهر. وقد رفض هارنجتون هذه المواد التي قدمها اليه ايلج واعتبر أن هذه العقبات التي توضع لتعطيل توقيع المعاهدة سيكون لها نتائج خطيرة وسيئة. على أنه لم ينقضي اثنا عشر يوما حتى كان قد تم الاتفاق على مواد المعاهدة كما أرادها هارنجتلون (273)، وقد ساهمت الدبلوماسية الايطالية مع الدبلوماسية البريطانية في معارضة محاولات فرنسا لعرقلة اتمام هذا الاتفاق حتى تم في النهاية لهارنجتون من توقيع المعاهدة في 15 مايو سنة 1902 الذي بمقتضاها تم تخطيط الحدود أخيرا بين السودان الشرقي وأثيوبيا (274)، وذلك بعد صراع كبير بدأ في عهد محمد علي عندما امتدت الادارة المصرية الى السودان، كن سببه عدم تحديد الحدود واستمر طوال القرن التاسع عشر حتى تم أخيرا في أوائل القرن العشرين تحديد هذه الحدود وبالتالي استقرت الاوضاع بين مصر وأثيوبيا (275).

وكان أهم بنود معاهدة 15 مايو سنة 1902، ما جاء في المادة الأولى من تحديد الحدود بين أثيوبيا والسودان المصري الانجليزي. ويسير خط الحدود من خور أم حجر على نهر ستيت الى القلابات فالنيل الأزرق جنوب فامكه فنهر بارو ونيبور واكروبوالي مليلي، ومنها الى نقطة تقاطع الخط السادس من خطوط العرض الشمالي مع الخط الخامس والثلاثين من خطوط الطول شرق جرينتش. وبعبارة أخرى فان الأزجاء السفلى من العطبرة والنيل الأزرق والسوباط تخضطع للحكم المصري الإنجليزي في السودان، كما تعهد منليك قبل ملك بريطانيا بعدم تشييد أو السماح بتشييد أي بناء في النيل الأزرق وبحيرة تسانا أو نهر السوباط يكون مشأنه منع جريان المياه إلى النيل الا بالاتفاق مع حكومة جلالة ملك بريطانيا وحكومة السودان. كذلك تعهد منليك بأن يسمح لحكومة السودان باختيار قطعة ارض بجوار ايتانج على نهر بارو لا يزيد طولها عن ألفي متر ولا تزيد مساحتها عن 400 ألف متر لاحتلالها وادارتها محكمة تجارية ما دام السودان قد خضع للحكم المصري الانجليزي. وقد اتفق عى ألا تستخدم هذه الأرض في الأغراض السياسية أو الحربية. ووافق منليك أيضا على منح الحكومة البريطانية وحكومة السودان الحق في انشاء خط حديدي عبر الأراضي الاثيوبية لربط السودان باوغندا وذلك من الناحية الشرقية، لأن الناحية الغربية منخفشة وكثيرة المستنقعات ووسف تتفق الحكومتان السودان وأثيوبيا فيما بينهما على طريق هذا الخط الحديدي (276).

وبهذه المعاهدة استقرت الأوضاع في حدود السودان مع أثيوبيا ، وانعكش ذلك على العلاقات بين مصر واثيوبيا التي تحسنت أخيرا بعد أن انتهت مشكلة الحدود التي كانت عاملا أساسيا في توتر هذه العلاقات.


الفصل الثالث:العلاقات السياسية بين مصر وأثيوبيا 1902 - 1935

=تمهيد

تحسنت كثيرا العلاقات السياسية بين مصر واثيوبيا في هذه الفترة من القرن العشرين عما كانت عليه في القرن التاسع عشر، وقد وضعت المعاهدة التي توقعت بين بريطانيا التي كانت تحتل مصر، وأثيوبيا في سنة 1902، حلا لمشاكل الحدود التي ساهمت من قبل في تدهور العلاقات بين مصر وأثيوبيا، كما أن هذه المعاهدة حافظت على حقوق مصر في منابع النيل الأثيوبية. ومما ساعد أيضا على تحسين العلاقات بين البلدين أن أثيوبيا لم تعد تنافس مصر وبريطانيا في السودان، ولم يكن هناك دول أوروبية يمكن لأثيوبيا أن تتفق معها ضد مصالح انجلترا في مصر أو السودان، وذلك بعد أن استطاعت بريطانيا أن توقع الاتفاق الودي في سنة 1904 مع فرنسا، كما أن ايطاليا كانت تسير في ذلك الوقت في ركاب بريطانيا. بل اننا نلاحظ أن التنافس الدولي بعد أن كان من أجل السودان، أصبح يستهدف أثيوبيا نفسها بسبب تشابك المصالح بين الدول الأوروبية الثلاث (بريطانيا وفرنسا وايطاليا) وساعد على هذا التنافس أيضا تدهور صحة منليك ودخول أثيوبيا في طور ضعف نتيجة للصراع الذي نشب بين رؤوس هذه البلاد على عرشها وانتشار الاضطرابات والفوضى في أرجائها.

ولقد تاثرت مصر بهذا التنافس الدولي في علاقاتها مع أثيوبيا بسبب احتلال بريطانيا لها ومشاركتها في حكم السودان. وقد استغلت انجلترا ارتباط مصر والسودان باثيوبيا عن طريق منابع النيل الأثيوبية ، في تدعيم نفوذها في هذا التنافس الدولي فيها. ولقد وضح هذا الاستغلال في الجزء الأول من هذه الفترة أي منذ سنة 1902 وحتى سنة 1922 وهي السنة التي استقلت فيها مصر رسميا وليس فعليا عن بريطانيا. وقد قل هذا الاستغلال الانجليزي لمصر في الفترة التالية أي منذ سنة 1922 وحتى الحرب الايطالية الأثيوبية، وان كان هذا لا يعني أن سيطرة بريطانيا على مصر قد انتهت في هذه الفترة، الا أنها تميزت عن سابقتها بأن مصر مارست بعض مظاهر هذا الاستقلال الرسمي مع أثيوبيا. على أنه بصفة عامة كانت العلاقات بين البلدين طيبة، بل أنها تطورت، وان كان هذا التطور محدودا وبطيئا ولا يتلاءم مطلقا مع الروابط الطبيعية والتاريخية بين البلدين.

أولا: العلاقات السياسية بين البلدين في الفترة 1902- 1922

تعتبر هذا امتدادا للفترة السابقة عليها، وذلك في علاقاتها مع أثيوبيا، اذ كانت مصر مازالت خاضعة للاحتلال البريطاني ، على أنها اختلفت عن سابقتها في أن العلاقات السياسية تحسنت كثيرا وذلك لتحسن العلاقات البريطانية الأثيوبية، وبعبارة أخرى فانه بسبب الاحتلال البريطاني ارتبطت مصر ببريطانيا في العلاقات السياسية الخارجية مع أثيوبيا (1)، هذا بالاضافة الى أن مصر رغبت في أن تحتفظ هي والسودان بعلاقات طيبة مع جيرانها المشتركين معها في حوض نهر النيل وأهمهم بالطبع أثيوبيا (2).

ولعى ذلك فيمكن القول بأن جهود المعتمد البريطاني في أديس أبابا جون هارينجتون ، والتي بذلها منذ أن عين في منصبه هذا في سنة 1898 واستطاع بها أن يعيد نفوذ بريطانيا في بلاط منليك الى ما كانت عليه ابان حكم الامبراطور يوحنا الرابع (3)، يمكن القول أنه عمل أيضا على تحسين علاقة مصر باثيوبيا والواقع أن منليك كانت علاقته بمصر طيبة، منذ أن كان ملكا لشوا، الا أنه عندما أصبح امبراطورا لاثيوبيا وتورط في التنافس الدولي في أعالي النيل وتحالفه مع المهديين والفرنسيين ضد بريطانيا، كل ذلك باعد بينه وبين الأخيرة، وبالتالي بينه وبين أن يتصل سياسيا بمصر وحكامها المصريين. على أن ذلك انتهى بفضل التقارب البريطاني الأثيوبي والذي تم على يد هارنجتون، وقد وضح ذلك في زيارة الأنبا متاوس مطران أثيوبيا إلى مصر، والتي لم تكن لتتم لو لم تتحسن العلاقات بين البلدين.

زيارة الأنبا متاوس لمصر

تعتبر زيارة الأنبا متاوس لمصر أول زيارة يقوم بها مطران كنيسة أثيوبيا إلى بلده، ومع أن لهذه الزيارة جانبا دينيا (4). فان لها أيضا جانبا سياسيا ، وهو تأكيد السلام والعلاقات الطيبة بين مصر وأثيوبيا. فقد حمل هذا المطران في زيارته هذه في أوائل سنة 1902 رسالة ود من منليك الى خديوي مصر عباس حلمي الثاني وهدية تؤكد السلام بين البلدين. وقد ذكر بها التعريف بالمطران وسبب زيارته لمصر وهو الرغبة في مشاهدة بلده وأهله ورئيسه الديني (البطريرك). وطلب منليك أن، يشمل خديوي مصر الأنبا متاوس برعايته حتى يعود إلى أديس أبابا سالما (5). كذلك بعث منليك برسالة تحمل نفس المعاني إلى معتمد بريطانيا في مصر اللورد كرومر (6).

وقد ينفي البعض الجانب السياسي لهذه الزيارة، وانما اقتصرت على الجانب الديني فقط، الا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا اذن مقابلة الخديوي واللورد كرومر . والاستقابل الرائع الذي استقبل به من جانب المسئولين في الحكومة المصرية وسلطات الاحتلال البريطاني؟ والتي تتعارض مع استقبال رجل دين وتتفق مع مبعوث دولة صديقة لمصر وبريطانيا (7). فقد كان في استقباله محافظ القنال والسويس، كما خصص له قطار حمله الى القاهرة حيث كان في انتظاره مندوب من الخديوي وآخر من اللورد كرومر وثالث من الحكومة المصرية، وبعد ان انتهت مراسيم الاستقبال ذهب الى السراي التي خصصتها له البطريركية في مهمشة في موكب ضخم وفخم (8).

وفي 8 فبراير استقبل الخديوي والنظار في قصر عابدين مطران أثيوبيا استقبالا رسميا، مما يؤكد أنه يستقبل مبعوثا سياسيا يمثل امبراطور دولة صديقة. وقد احتفى الخديوي بضيفه الذي أعرب له عن شكره لهذه الحفاوة وأبلغه سلام الامبراطور منليك وقدم له نيشان "كوكب الكرامة" من الدرجة الأولى، وهو أكبر نيشان في أثيوبيا أهداه منليك للخديوي تقديرا منه لمحبته الصادقة له، وقد أعرب الخديوي عن سروره، وأبلغ المطران بأنه على أتم استعداد لمساعدته على بلوغ ما يريد، كلفه بتبليغ سلامه وامتنانه للامبراطور (9). كما قدم المطران النياشين الى كل من مصطفى باشا فهمي رئيس مجلس النظار وبكرس باشا غالي ناظر الخارجية والى غيرهم من رجال الدولة العاملين في الحكومة المصرية، كما تبادل المطران معهم الزيارة حيث عبر كل منهم عن العلاقات الطيبة بين البلدين (10).

وبالرغم من أنه قيل أن توزيع هذه النياشين على هؤلاء كان بهدف الحصول على تأيديهم في النزاع الدائر في ذلك الوقت بين أقباط مصر والأثيوبيين حول دير السلطان، وقد يؤكد ذلك أنه بالرغم من توتر العلاقات الدينية بين اثيوبيا والكنيسة المصرية بل وقطعها، إلا أن ذلك لا يمنع من أن العلاقات السياسية بين مصر وأثيوبيا كانت طيبة ولم تتأثر بتدهور العلاقات الدينية هذه. ومع ذلك فان توزيع هذه النياشين لا يتعارض مع كون هدفها الحصول على هذا الدير أيضا (11). ولم يقتصر الترحيب بمطران أثيوبيا على الخديوي وحكومته، بل رحبت أيضا المعتمدية البريطانية واللورد كرومر وحكمدار السودان الذي كان موجودا في القاهرة وقت زيارة المطران (12)، مما يؤكد أن زيارة المطران هذا كان لها جانب سياسي تهدف من ورائه مصر وبريطانيا الى تدعيم العلاقات بينهما وبين أثيوبيا بل والسودان أيضا. وقد أنعم الخديوي على الأنبا متاوس بالنيشان المجيدي الأول، والنياشين المختلفة على كبار رجال حاشيته (13) وارسل معه رده على رسالة منليك، الذي تضمن ابلغ عبارات الود والصداقة والشكر على النيشان الذي أهداه له (14). وبعد ان انتهت زيارة مطران أثيوبيا لمصر عاد الى أثيوبيا في أواخر شهر ديسمبر سنة 1902 (15).

موقف مصر من معاهدة سنة 1902

وفي أثناء زيارة مطران أثيوبيا لمصر، وقعت معاهدة 15 مايو سنة 1902 بين بريطانيا وأثيوبيا. ويتضح من هذه المعاهدة أن بريطانيا استغلت احتلالها لمصر ومشاركتها في حكم السودان في تدعيم نفوذها في بلاط منليك، اذ وضعت هذه المعاهدة حدا للصراع الدولي بين الدول الأوروبية لصالح بريطانيا، فهي انتصار للسياسة الاستعمارية الانجليزية (16)، لم تستطع الحصول عليها الا بسبب احتلالها لمصر والسودان وادعائها أنها ترعى مصالح مصر في تحديد الحدود بينها وبين أثيوبيا، وحقوقها التاريخية والطبيعية في منابع النيل الأثيوبية، اذ لولا ذلك لما استطاعت أن تحصل على هذه المنح التي أعطاها منليك بموجب هذه المعاهدة والتي لم تستطع أي دولة أخرى أن تحصل على مثلها، فقد حصلت على مركز تجاري هام بالقرب من حدود السودان، ونالت تعهدا من منليك بعدم التدخل في فيضان وتدفق النيل من بلاده إلى السودان ومصر الا بعد موافقتها. وكان هذا اعترافا رسميا من أثيوبيا بمصالح بريطانيا في هذه المنطقة، وان ثلث اثيوبيا اصبح تحت نفوذ بريطانيا (17)ز

ويلاحظ على هذه المعاهدة أن الحكومة البريطانية تجاهلت حق مصر في التوقيع عليها، وبالرغم من حقوقها الطبيعية والتاريخية في منابع النيل الأثيوبية وحقوقها كشريكة في حكم السودان مع أنها وقعت على معاهدة عدوه في سنة 1884، وكان السبب في ذلك أن بريطانيا وطدت احتلالها لمصر، واصحبت تتحدث باسمها وهو ما لم تستطع أن تقوم به في بداية عهد الاحتلال (18). وقد أدى ذلك الى احتجاج خديوي مصر على عدم حضور مندوبه للتوقيع على هذه المعاهدة، وعلى اعتبار أن للسودان صفة قائمة بذاتها في نظام ادارته تخول له التعاقد أو الاتفاق باسمه كما جاء في نصوص المعاهدة اذ أن هذه المسألة من شئون السيادة عليه أي (مصر وبريطانيا) ولو أنه – السودان – تعاقد بهذه الصفة لكان الحاكم العام له هو المتحدث عنه ولكن كان المتحدث هو ملك إنجلترا ولم يكن ليستقل بهذا الأمر دون خديوي مصر (19).

وقد نتج عن تجاهل بريطانيا لمصر في كل الأمور المتعلقة بالسودان، وقوع خلافات عديدة بين اللورد كرومر والخديوي عباس حلمي الثاني، على أنه نتيجة لارتباط المصالح بين مصر وبريطانيا في تحديد حدود السودان وتنميته اقتصاديا والحفاظ على منابع النيل الأثيوبية، جعل الحكومة المصرية الخاضعة لبريطانيا لا تحفل كثيرا باحتجاج الخديوي هذا ، وبعبارة أخرى أنها وافقت على هذه المعاهدة بل وما تقوم به بريطانيا بعد ذلك من اجراءات مترتبة عليها (20). كما أنه كان هناك دعوة في ذلك الوقت الى ضرورة تحسين العلاقات مع أثيوبيا والحفاظ على صداقتها وخصوصا بعد أن عادت الحدود المشتركة معها مرة أخرى (21). وعلى ذلك فبعد توقيع المعاهدة بدأت اجراءات تنفيذها.

بعثة ديبوي لدراسة منطقة بحيرة تسانا

يعتبر من أهم بنود معاهدة مايو سنة 1902 البندان الخاصان بتحديد الحدود بين أثيوبيا والسودان، وتعهد منليك الثاني بالا يسمح باقامة أية أعمال انشائية على النيل الأزرق أو بحيرة تسانا أو نهر السوباط، قد تؤثر في النظام الطبيعي لجريان المياه بالاتفاق مع بريطانيا وحكومة السودان (22). فالنسبة لتحديد الحدود فقد حددت من ملتقى خور ريان مع نهر ستيت في الشمال وحتى نقطة مليلة في أعالي نهر أكوبو في الجنوب (23)، على أنه لم تحدد الحدود جنوب هذه النقطة وحتى بحيرة رودلف بسبب الظروف القاسية التي واجهتها لجنة تحديد الحدود في هذه المناطق مما أدى الى فشلها في عملها وعودتها الى الخرطوم (24)ز

هذا بالنسبة للبند الأول، أما بالنسبة للبند الثاني فقد بدأت عمليات دراسة منطقة بحيرة تسانا – حقيقة كان التفكير في دراسة هذه المنطقة كان موجودا من قبل توقيع المعاهدة عند مصر وبريطانيا، الا أن الظروف لم تسمح بارسال اية بعثات دراسية اليها (25). على أنه بعد أن تعهد منليك بتعهده هذا في معاهدة سنة 1902 وتأكدت بها حقوق مصر والسودان في هذه المنابع الأثيوبية، بدأت الحكومة المصرية في أواخر سنة 1902 في تجهيز بعثة دراسية برياسة المستر ديبوي أحد موظفي نظارة الأشغال المصرية وارسلتها الى بحيرة تسانا وأعالي النيل الأزرق (26)، وذلك لبحث ودراسة خمسة أمور، منها دراسة البحيرة نفسها وامكانية استخدامها كخزان (27).

وبالفعل قامت هذه البعثة بما اسند اليها، وعادت في ربيع سنة 1903 وكتب ديبوي تقريرا هاما عن البحيرة، وأوضح فيه أنه يمكن جعلها خزانا بتعديل ملائم في مخرج مائها الى النيل الأزرق، على أنه ذكر أن بناء هذا الخزان لن يفيد مصر بسبب طول المسافة بينهما مما يساعد على تبدد المياه بالبخر. كما أن المشاكل السياسية قد تسبب المتاعب لمصر اذا ما اعتمدت على هذا الخزان. كما أنه يصلح أن يكون خزانا للنيل الأزرق تستمد منه ترع الري التي تنشأ لكي تسقي أراضي الجزيرة وشرق النيل الأزرق في السودان. وذلك في المستقبل حيث يمكن الانتفاع منه عندما يتقدم السودان حضاريا ويزداد عدد السكان. وأبدى ديبوي أسفه لقيام مصر بناء هذا الخزان الذي لا يهمها بقدر ما يهم السودان، وأوصى بالتخلي عن هذا الخزان وشق ترعة كبيرة بدلا منه لري أرض الجزيرة، وذلك لأن السودان غير مستعد لاستخدام مياه هذا الخزا، وأشار أيضا ألى أن البحيرة لا تصلح لأن تكون خزانا لسعتها الكبيرة وزيادة نسبة البخر الى أكثر من نصف ايرادها، كما أن صيانة وادارة الخزان قد تسبب مشاكل سياسية مستقبلة (28).

وبالرغم من أن اللورد كرومر أيد – من حيث المبدأ – البند الخاص بتعهد منليك ازاء بحيرة تسانا في معاهدة سنة 1902 ووصفه بأنه قيد مهم، وأنه رفض تنفيذ أي عمل في هذه البحيرة حتى ولو وافق عليه منليك. وقد علل رفضه هذا بالنفقات الباهظة لأي عمل يعمل في بحيرة تسانا، ثم أنه لابد من انشاء خط حديدي من أي مكان في وادي النيل الى هذه البحيرة ، وقبل اقامته يجب عمل دراسات عديدة لكي يختار أحسن الطرق التي يمد فيها هذا الخط ومدى صلاحيته الهندسية ونفقاته. هذا بالاضافة إلى أن كون بحيرة تسانا هذه داخل الاراضي الأثيوبية يمنع تنفيذ أي مشروع بها. لأن أي عمل بها قد يولد الشبهات والمخاوف عند الاثيوبيين من أن يكون هذا العمل بداية للتعدي على جزء من بلادهم فتكون بداية لتوتر العلاقات بين بريطانيا ومصر من جهة وأثيوبيا من جهة أخرى (29). وطلب صرف النظر عن هذا المشروع ووافقه في ذلك جارستن (30). وبالفعل صرف النظر عن المشروع وبدأت الدراسات لشق ترعة كبيرة وانشاء قناطر عند الروصيرص لتعمير وزراعة أراضي سهل الجزيرة وذلك حتى لا تتاثر مصر من جهة مقنناتها المائية (31)ز

ومنذ بعثة ديبوي هذه لم ترسل بريطانيا ومصر أية بعثات دراسية أخرى الى هذه المنطقة. على أنه في سنة 1915 ارسلت مصر وبريطانيا بعثة أخرى الى منطقة بحيرة تسانا وذلك من أجل اجراء مزيد من الدراسة والبحث. وقد كان ارسال هذه البعثة نتيجة لمفاوضات جرت بين مصر وبريطانيا والسودان من جهة وأثيوبيا من جهة أخرى وكانت هذه البعثة مكونة من بيرتون بكلي ويمثل مصر وكولونيل بيرسون يمثل السودان ومعهما وفد أثيوبي. ولكن نتيجة للاضطرابات التي كانت تجتاح أثيوبيا في ذلك الوقت لم تستطع هذه البعثات أن تقوم بعملها على أكل وجه. وان كانت قد قامت ببعض القياسات في مخرج البحيرة وعمل مسح مفيد لسطحها وتحديد المناطق التي يغمرها الفيضان السنوي حول جزء كبير من شاطئها (32). وبصفة عامة أيدت هذه البعثة ما سبق أن ذكره ديبوي في تقريره عن رحلته الى البحيرة في أواخر سنة 1902 (33).

وربما كان السبب في ارسال هذه البعثة هو تأكيد حقوق مصر والسودان، وبريطنيا في منابع النيل الأثيوبية لدى حكام أثيوبيا الجدد، اذا كان منليك الذي تعهج بتعهده الذي سبق أن ذكرناه في سنة 1902 قد مات وخلفه لدج باسو، وبالتالي فهذه البعثة والموافقة عليها من حكام أثوبيا الجدد وهو اعتراف ضمني باستمرار معاهدة سنة 1902 والتزامهم بها، أو ربما تكون لهذه الدراسات علاقة بخزان مكوار الذي كانت بريطانيا قد بدأت في سن 1913 تفكر في انشائه للتوسع في زراعة سهل الجزيرة (34). ونلاحظ أن بريطانيا فضلت انشاء خزان مكوار داخل الأراضي السودانية عن انشاء خزن بحيرة تسانا، وذلك لأنه خارج نفوذها ولأنه قد ينتج عنه مشاكل سياسية مستقبلية.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى واستقرار الأوضاع السياسية في أثيوبيا بتوليى الامبارطورة زوديتو العرش وتعيين الرأس تفري ماكونين وليا للعهد ووريثا للعرش أرسلت مصر وبريطانيا والسودان بعثة جديدة مكونة من مستر جرابهام ويعمل في ادارة الري المصري بالسودان، ومستر بلاك ويعمل في ادارة الطبيعيات في وزارة الأشغال المصرية. وكانت البعثة تحت اشراف الحكومة المصرية. وقد وافقت الحكومة الأثيوبية – بعد مفاوضات – على أن تقوم هذه البعثة بأبحاثها في منطقة البحيرة على أنها طلبت أن تأتي أولا أديس أبابا لمقابلة الرأس تفري، وبالفعل تم ذلك واتضح من هذه المقابلة أنه لم يكن يعرف سبب اهتمام بريطانيا بهذه البحيرة أو ما هي فائدتها لها. وقد قدمت البعثة شرحا مختصرا لأهمية معرفة الكميات المتاحة من المياه التي تمد بها البحيرة النيل الأزرق، لتحديد حجم الأراضي الزراعية التي يمكن التوسع في زراعتها في سهل الجزيرة في السودان، وأشار ايضا الى أن مصر تحتاج إلى مياه النيل الأزرق في فصل الجفاف ، ووافق تفري على أن تقوم البعثة بأبحاثها. وقد كتبت ، هذه البعثة تقريرا هاما أوصت فيه ببناء خزن على البحيرة قدرت تكاليفه 2.300.000 جنيه مصر وبناء خط حديدي أو طريق سيارات يربط البحيرة بالسودان. ولقد شكرت الحكومة المصرية حكام أثيوبيا على سماحهم للبعثة بالقيام بابحاثها في منطقة البحيرة (35).

على أن هذا الخزان لم يبن لأن الحكومة الأثيوبية الجديدة خافت على بلادها من تغلغل النفوذ الأجنبي فيها وانتهائه بالسيطرة عليها، كذلك خشيت على كنائسها وآثارها الدينية المحيطة بالبحيرة والجزر الموجودة بداخلها (36). ويلاحظ هنا أن الحكومة الأثيوبية الجديدة لم تعرف بتعهد منليك وبالتالي لم تعترف به، وفي هذا هدم لكل ما قامت به بريطانيا من جهود لتحصل على تعهد منليك هذا. كذلك يلاحظ أن بعثة جرابهام شرحت للراس تفري أهمية البحيرة للسودان ومصر وأوصت بعد ذلك في تقريرها ببناء الخزان، وبالتالي فقد أعطت للحكومة البريطانية عاملا جديدا تفاوض به الحكومة الأثيوبية مرة أخرى للحصول على الأقل على تعهد مشابه لتعهد منليك.


تأسيس بنك الحبشة

سعت بريطنيا بعد أن دعمت نفوذها السياسي في اثيوبيا بمعاهدة 15 مايو سنة 1902 (37)، الى تدعيم نفوذها الاقتصادي أيضا، فحاولت استقطاب التجارة الأثيوبية الى السودان ومصر عن طريق المحطة التجارية التي حصلت عليها في المعاهدة المذكورة في حدود السودان مع أثيوبيا، وذلك بدلا من ميناء جيبوتي الفرنسي (38)، وساعد على ازدياد نفوذ بريطانيا الاقتصادي، تحول منليك عن فرنسا بسبب غلطة سياسية كبرى وقعت فيها حكومة فرنسا، اذ لم تنتبه الى تاثير الاتفاقية التي عقدتها مع الشركة الفرنسية المنفذة لمشروع الخط الحديدي جيبوتي – أديس أبابا على علاقتها بأثيوبيا (39).

وكانت هذه الشركة قد حصلت على امتياز بناء هذا الخط الحديدي، وعانت اضطرابا ماليا عاقها عن الاستمرار في تنفيذ هذا المشروع، وحاولت انجلترا عن طريق شركاتها المسيطرة على المشروع وبالتالي على تجارة أثيوبيا التي يخدمها هذا المشروع في نقلها الى ميناء جيبوتي. على أن الحكومة الفرنسية عقدت اتفاقية مع الشركة منحتها اعانة سنوية مقدارها نصف مليون فرنك لمدة خمسين عاما وذلك لمنعها من الالتجاء لمعونة بريطانية، واشترطت أن تظل الشركة الفرنسية وتحت اشراف وزير المستعمرات الفرنسي سواء في لائحتها أو خط سيرها الذي لا يعدل الات باذن منه، كما أسندت عملية تحديد أجور النقل الى الادارة الفرنسية في الصومال الفرنسي الذي تنتقل اليه ملكية الخط من جيبوتي الى هرر، وذلك بعد 99 سنة من تأسيس الشركة التي تلتزم باعطاء تخفيض لنقل موظفي الحكومة الفرنسية وبضائعهم أو أي بضائع أخرى مرسلة باسم الحكومة الفرنسية. كما خولت الاتفاقية لوزير المستعمرات الغاء الاتفاقية ومصارة، جزء من الخط يقع بين جيبوتي وحدود أثيوبيا (40).

وكانت غلطة الحكومة الفرنسية أنها حلت محل الشركة دون استشارة منليك في ذلك. ولما كان الامبراطور الأثيوبي حريصا على استقلاله، فقد استغل سيرجون هارينجتون معتمد بريطانيا في أثيوبيا هذه الفرصة، ولفت نظر منليك الى مطامح فرنسا في بلاده، مما أدى الى انقلاب سياسته ازاء الفرنسيين، فاحتج رسميا على الاتفاقية السابقة الذكر، واعتبرها تعديا على حقوقه كحاكم دولة مستقلة، وبذلك هبط النفوذ الفرنسي في أثيوبيا هبوطا فاحشا (41).

لذلك فعندما أصبح من الضروري انشاء نظام مصرفي في البلاد خصوصا بعد تأسيس العاصمة أديس أبابا وانفتاح البلاد على العالم الأوروبي وبالذات بعد انتصار عدوه، وتدفق الأوروبيين عليها، رفض منليك أول مشروع لتأسيس بنك أثيوبي لأنه مقدمه كان فرنسا. على أن ضرورة وجود بنك أثيوبيا عادت الى الظهور مرة أخرى في أوائل شهر مايو سنة 1903، جعلت منليك يطلب – وذلك بعد تحوله عن فرنسا – من هارينتجتون المعتمد البريطاني في أثيوبيا، أن يطلب من حكومته المساعدة والتدعيم في انشاء هذا البنك (42).

وبالفعل ارسل هارينجتون برقية الى وزارة الخارجية البريطانية يعرض عليها رغبة الامبراطور الاثيوبي، ويطلب منها أن تعهد بتنفيذ هذه الرغبة الى بعض رجال المال والتجارة في انجلترا. وحول هذا المطلب بعد عام ونصف الى اللورد كرومر في مصر الذي كتب الى سير الوين بالمر مدير البنك الأهلي المصري يقول له أن منليك يعطي امتيازا لمدة خمسين عاما لشركة مصرفية لها اختصاصات تتعلق بأعمال المصارف وسك العملة واصدار الأوراق المالية وتخليص البضائع وتخزينها والحفاظ على كل أموال الدولة واقراضها. وأضاف كرومر أن الحكومة البريطانية تحبذ هذه الفكرة وتؤيدها وأن الايطاليين والفرنسيين مهتمون بها ولهذا فهو يرحب بدخولهم في المساهمة في انشاء هذا البنك، وقد استجاب مدير البنك لهذا الطلب بسرعة وارسل مندوبا عنه ذا سلطات تنفيذية واسعة الى أديس أبابا للبحث والدراسة (43).

وتسلم ماك جيلفري مبعوث البنك الأهلي إلى أديس أبابا الامتياز الصادر من الامبراطور منليك في 10 مارس سنة 1905 الخاص بالاحتكار المصرفي في أثيوبيا وجاء في مادته الأولى، بأن يمنح البنك الأهلي المصري امتيازا لمدة خمسين عاما لكي ينشئ شركة مصرفية تسمى باسم "بنك الحبشة" لا يقل راس مالها عن نصف مليون جنيه موزعة على مائة ألف سهم تطرح في أسواق المال في كل من لندن وباريس ونيويورك وبرلين وروما وفينا والقاهرة وأديس أبابا للاكتتاب العام فيها مع موافقة حكوماتها، ويكن لهذا البنك أن يزيد راس ماله كلما استدعى الأمر ذلك على أن يكون مركزه الرئيسي في أديس أبابا ومع ذلك فقد صرح له بانشاء فروع كلما راى ذلك وجابا سواء كان في الداخل أو الخارج (44).

وضمانا لهذا البنك وموقفه الاحتكاري لمدة خمسين عاما، منحه منليك ثمانية امتيازات هي: أن لا يسمح لاي بنك آخر بممارسة أية أعمال مصرفية في أثيوبيا وأن له الحق وحده في اصدار الأوراق النقدية والعملات والتبادل الحر في الذهب والفضة، وأن لا تقوم الدولة بسك أية عملة معدنية، انما اسند اليه ذلك بالتشاور مع الحكومة الاثيوبية التي اعتبرته بنك الدولة تضع فيها أموالها العامة ومدفوعاتها الحكومية تكون بموجب اذون مقبولة الدفع لدى هذا البنك، وتعطي الحكومة الأثيوبية ايضا الافضلية في الاقتراض منه، كما سمحت له بأن يبني مخازنه في المناطق التي يستطيع فيها التجار تخزين بضائعهم في مقابل القروض، هذا بالاضافة الى أن الحكومة الأثيوبية منحت البنك أرضا بلا مقابل سواء للمركز الرئيسي في أديس أبابا أو فروعه وتوكيلاته ومخازنه – وسمح للبنك بأن يستخدم السكك الحديدية في نقل البضائع بالنسبة الحكومة المقررة لها، ويحصل الامبارطور منليك على 20 % من صافي الأرباح، وذلك بعد دفع التكاليف ووضع جزء من الأرباح كاحتياطي وتوزيع جزء آخر على حاملي الأسهم، وقد حدد هذا الامتياز بانه اذا لم يفتح البنك قبل أول يوليو سنة 1906 يعتبر لاغيا (45).

وقد أثارت هذه الامتيازات التي بموجبها أصبح هذا البنك المقترح انشاؤه مسيطرا على كافة الأنشطة الاقتصادية في أثيوبيا. اثارت الدهشة والحيرة في الراي العام المصري واعتقد ان استقلال أثيوبيا قد انتهى وذلك بالرغم من أن هذا البنك كان يخضع للبنك الأهلي المصري وكان سيعمل على تنمية العلاقات التجارية بين مصر وأثيوبيا (46). والواقع أن منليك فطن الى هذا، فطلب أن يكون المكتتبون في راس مال البنك من جنسيات مختلفة وتتاح الفرصة للاشتراك في تأسيس البنك. وذلك لكي يستخدم أموال هذا البنك الدولي في تمويل سكك حديد جيبوتي – أديس أبابا بقصد تدويلها هي أيضا (47).

ومع هذا فقد كانت نسبة الأموال المودعة والمكتتب بها المجموعة الانجليزية والمصرية تمثل 39% أي أكثر من الثلث وذلك بالنسبة الى المجموعات الأخرى فكانت المجموعة الفرنسية حوالي 19.5% والمجموعة الايطالية كذلك. والمجموعة الألمانية والنمسوية والأمريكية حوالي 11%، ومجلس ادارة البنك 5% والمكتتبين الأثيوبيين حوالي 6% (48). وهكذا نرى أن انجلترا ومصر احتفظتا بالسيادة على البنك بحكم أنها أكبر نسبة وبالتالي على اقتصاديات أثيوبيا وتدعيم النفوذ الاقتصادي البريطاني في هذه البلاد (49).

وبعد وصول الامتياز الى البنك الأهلي المصري، وتقديم ماك جيلفري تقريره في 15 مارس سنة 1905 مزكيا قيام بنك الحبشة، وموضحا أن هناك مجالات كثيرة يمكن أن يحقق البنك ارباحا من خلالها والتي تزيد كثيرا عن أرباح أي بنك ينشأ في البلاد المتقدمة، سعى المسئولون في البنك الأهلي المصري الى الحصول على ديكريتو من الخديوي عباس حلمي الثاني يسمح فيه باقامة هذا البنك طبقا للقانون المصري (50). وبالفعل صدر هذا الدكريتو في 30 مايو سنة 1905، حيث وافق فيه على عقد الشركة الابتدائي المحرر بصفة عرفية في القاهرة في 29 مايو سنة 1905 بين الأجانب سير الوين بالمر، ف. ت. رولت، وماك جليفري وجميعهم من رعايا انجلترا، بوهو بخار، روفائيل فنري، هيمبرت ايبانو وهم من رعايا ايطاليا، ألفريد فيبت من رعايا ألمانيا، وذكر أن هؤلاء مقيمون في القاهرة وأسسوا شركة مساهمة مصرية تدعى "بنك الحبشة" ورخص لها ذلك على عهدتهم ومسئوليتهم في مصر، بحيث لا يترتب لى هذا الترخيص أدنى مسئولية أو احتكار أو امتياز من الحكومة المصرية أو عليها، وبشرط أن يتبع هؤلاء المؤسسون قوانين القطر المصري وعاداته وأنظمته (51). وفي نفس يوم صدور هذا الدكريتو صدر دكريتو آخر يزيادة رأس مال البنك الأهلي الصمري بمبلغ نصف مليون جنيه هي قيمة راس مال بنك الحبشة المزمع انشاؤه (52).

وهكذا جاء "بنك الحبشة" على أنه فرع للبنك الأهلي المصري، له وضع خاص بادارة في أديس ابابا والقاهرة، وعين محافظ البنك الأهلي المصري محافظا لبنك الحبشة، ولكن كان له مدير تنفيذي وهيئة ادارية مكونة من جنسيات مختلفة يغلب عليهم الجنسية البريطانية (53). وقد عين ماك جيلفري مديرا تنفيذيا لبنك الحبشة، وتكون مجلس ادارته من ثمانية أعضاء منهم اثنان من الرؤوس الاثيوبيين وقد عين الامبراطور منليك الرئيس الشرفي للبنك الرأس تساما بدلا من الرأس ماكونين الذي توفي سنة 1906، الراس ولد جيورجيس وهما اللذان يمثلان الجانب الأثيوبي في هذا البنك (54) على أن جميع العاملين في هذا البنك كانوا من اليونانيين والايطاليين والفرنسيين والانجليز لافي المركز الرئيسي في أديس أبابا وفي الفروع الأخرى التي افتتحت في أنحاء الامبراطورية الأثيوبية (55)ز

وبمجرد اعلان تأسيس البنك بدأت اجراءات طرح أسهمه للاكتتاب العام وتحدد أول شهر نوفمبر سنة 1905 موعدا لبدء بيع أسهمه في مصر وسائر العواصم الأجنبية الأخرى (56). وقد بلغ عدد الأسهم 100.000 سهم قيمة كل سهم منها خمسة جنيهات، وقد أخذت المجموعة المصرية الانجليزي ربع هذه الأسهم، والمجموعة الفرنسية والايطالية الربع الثاني منها، أما ما تبقى فقد احتفظ مجلس ادارة البنك منه ب5000 سهما وطرح الباقي (45.000 ) للاكتتاب العام، فطرح في أديس ابابا 7.500 سهم وفي مصر 6.625 سهم ومثلها في كل من المدن، لندن، باريس، روما، فينا وأخيرا نيويورك (57).

وبالرغم من أن الثمن المحدد لبيع الأسهم كان خمسة جنيهات، فان القائمين على البنك طرحوها في الأسواق المالية بأزيد من سعرها هذا، فبيعت في مصر بسبعة وتسعة جنيهات على أن هذا السعر لم يستمر طويلا في الأسوال المالية بمصر. اذ سعان ما هبط تدريجيا حتى وصل إلى 6.75 جنيها، وذلك يرجع الى اضطراب الثقة في هذا المشروع ولأن مستقبله محفوف بالمخاطر وقائم في بلاد لا تعرف حتى هذا الوقت قيمة التعهدات، هذا بالاضافة الى أن مصر كانت تمر بأزمة ثقفة في المصارف والأوراق المالية فقل اقبال الناس عليها مما أدى الى هبوط أسعارها الاسمية في الأسواق المالية، وبالطبع تأثرت أسهم بنك الحبشة، بل أن اسهم البنك الأهلي المصري نفسه تأثرت. فانخفض سعر السهم بأزيد من جنيهين (58). وظلت أسهم بنك الحبشة في الانخفاض حتى جاء الوقت الذي سارت تباع فيه بأقل من سعرها الأصلي أي أقل من خمسة جنيهات (59).

وعلى أي حال فقد افتتح الامبراطور منليك البنك في 15 فبراير سنة 1906، وذلك في قصر الرأس ماكونين، وفي هذا القصر المركز الرئيسي للبنك حتى يناير سنة 1910 عندما انتقل الى مبنى جديد صممه وبناه المهندسون الايطاليون، كذلك انشئت فروع للبنك في ديرداوا في سنة 1908، وجوري وجامبيلا، سايو، في سنة 1912 ، في دبسي وجيبوتي في سنة 1920. وظل محافظو البنك من الرعايا البريطانيين يعينهم البنك الأهلي المصري وذلك حتى سنة 1931 عندما أمم وأصبح خاضعا للحكومة الأثيوبية (60).

ومن البداية واجه البنك مشاكل جدية خطيرة، فقد كان عليه أن يغطي المرتبات الكبيرة لموظفيه وتكاليف الادارة للبنك وفروعه في أنحاء أثيوبيا، وكانت هناك صعوبة أخرى واجهت البنك، تتمثل في اصطدامه بمصالح المستثمرين الأجانب في بلد بعيدة كأثيوبيا تحتاج الى مجهودات ضخمة لكي تبدأ في اعطاء عائد مجز لها، كذلك لم يجد البن قبولا من المستثمرين الأثيوبيين الذين لم تجذبهم معدل الفائدة المنخفض (3%) لايداعاتهم، مفضلين استثمار أموالهم في الأرض، كما أن عملية الاقراض كانت تتم بين الأثيوبيين بمعدل فائدة (10) شهريا، هذا بالاضافة إلى احتياج الشعب الأثيوبي الى وقت كاف لادراك وفهم أهمية وفائدة البنوك. اذ لم ينظروا اليه الا على أنه يقرض جميع أفراد الشعب، وحتى الحكومة الأثيوبية لم تستعمل البنك كما كان متوقعا فهي لم تضع دخلها القومي المتراكم في البنك ولكنه كان يخبأ في القصر الامبراطوري (61).

وساعد على بطء تقدم هذا البنك عدم اكتمال بناء الخط الحديدي ومده الى أديس أبابا، وبالتالي تفرعه الى المدن والاقاليم المجاورة مما يؤدي إلى وجود شبكة مواصلات جيدة تساعد على رواج التجارة فتزداد معاملات التجارة مع البنك، هذا بالاضافة الى أن الأثيوبي لا يعرف ولا يفهم معنى التجارة، ولذلك فقد كانت الأعمال التجارةي يقوم بها الأوروبيون والهنود واليمنيون والعرب، وكان عدد الأوربيين قليلا والفئات الأخرى لها عاداتها التجارية المستقلة عن البنوك (62). لذلك كان التقدم في هذه الظروف بطيئا، فلم تحصل أرباح مجزية حتى سنة 1914، اذ كان السهم يدر عائدا وقف عند 4 أو 5 شلن فقط، الا أنها قفزت في السنة المذكورة الى 10 شلن وبعد ذلك الى 40 شلن، وكان السبب وراء ذلك تدهور الفرنك الفرنسي نتيجة الحرب العالمية الأولى، على أنه بعد انتهاء الحرب بدأ البنك يعطي عائدا 3.5 % لحاملي أسهمه، تزايدت بعد ذلك الى 4.5% واستمرت هذه الزيادة ، نتيجة لازدياد أعمال البنك المالية وتطورها وذلك حتى سنة 931 سنة التأميم (63).

وقد ظل هذا البنك خاضعها للبنك الأهلي المصري طوال هذه المدة (19.6-1931) في ادارته وتوجيه سياسته، وكانت جمعيته العمومية تعقد في مصر سنويات بمقر البنك الأهلي المصري بالقارة، حيث ينظر في تقرير مجلس ادارة بنك الحبشة وتقرير مراقبي الحسابات، والحسابات الختامية للعام السابق، وتعيين مراقبين للعام الالي، وتقدير المكافأة التي تمنح لهم. وكان لكل مساهم في البنك يحمل على الأقل خمسة أسهم، الحق في أن يحضر هذه الجلسة، وذلك بشرط ايداعها باحدى المراكز التي يحددها البنك الألي المصري سواء في مصر أو في الخارج وذلك قبل عقد الجلسة بخمسة أيام على الأقل يحصل بعدها على تذكرة تسمح له بحضور الجلسة (64)، وظل هذا التقليد ساريا حتى بطل بانتقال ملكية بنك الحبشة الى الحكومة الأثيوبية (65).

موقف مصر من المعاهدة الثلاثية (1906

يعود التفكير في أن تتخذ الدول الثلاث (إنجلترا، فرنسا، ايطاليا) عملا مشتركا ازاء أثيوبيا الى منتصف سنة 1902، أي الى وقت توقيع المعاهدة البريطانية الاثيوبية في 15 مايو سنة 1902. وكان هذا العمل المشترك كما صرح مارتيني حاكم مستعمرة إرتيريا الإيطالية هو مساعده واختيار من يخلف منليك على عرش أثيوبيا (66). على أن بريطانيا خافت في ذلك الوقت من أن تنجح فرنسا في تعيين مرشحها أو قد يؤدي هذا العمل الى تقسيم أثيوبيا وبالتالي تهديد مصالح بريطانيا ومصر معا (67). وتلا ذلك أن دخلت الدول الثلاث الأوروبية في مفاوضات، اشترك فيها لورد كرومر معتمد بريطانيا في مصر، الذي حرص في هذه المفاوضات على الحفاظ على حقوق مصر وبريطانيا في منابع النيل الأثيوبية وصيانة وحدة أثيوبيا وتحديد محدود غربية لنفوذ فرنسا السياسي في أثيوبيا (68).

وظلت المفاوضات جارية بين الدول الثلاث بشأن تحديد مناطق النفوذ لكل منها في أثيوبيا حتى 4 يوليو سنة 1906 عندما تم الاتفاق بينهما على توقيع ما عرف بالمعاهدة الثلاثية. وكان السبب ورا اتفاقهم ازدياد الوجود الألماني في البلاد وعرض حكومة ألمانيا على الامبراطور تمويل مشروع السكك الحديدية وبنائها بدلا من فرنسا (69). وبالرغم من أن منليك أعلن رفضه الاعتراف بهذه المعاهدة فان الموقعين عليها لم يهتموا بذلك واعتبروها ملزمة لهم، وأصبحت سارية بعد توقيعها النهائي في 13 ديسمبر سنة 1906 (70).

وبموجب هذا المعاهدة ، قسمت أثيوبيا الى ثلاث مناطق نفوذ للدول الثلاث، فكانت المنطقة البريطانية تشمل اقليم بحيرة تسانا وحوض النيل الأزرق، والمنطقة الفرنسية تشمل الخط الحديدي الممتد من أديس أبابا إلى جيبوتي، والمنطقة الايطالية عبارة عن شقة من الارض تربط الصومال الإيطالي بإريتريا (71). وجاء في المادة الرابعة من هذه المعاهدة أنه اذا حدث اضطراب يؤدي الى انقلاب فعلى الدول الثلاث أن تسعى جهدها في الاحتفاظ بوحدة البلاد الأثيوبية، وان تتداول في سلمة وضمان ثلاثة أشياء، الشئ الأول مصالح بريطانيا ومصر في وادي النيل ولاسيما ما يختص بمجرى مياهه، والثاني مصالح ايطاليا في السودان وبنادر وغيرها من المستعمرات والمرافق، والثالث مصالح فرنسا في سواحل الصومال والخط الحديدي بين جيبوتي – أديس أبابا والعمل عليه. أما المادة الأخيرة فتمنع من أن تصنح احدى هذه الدول نظاما يضر بمصالح الدولتين الأخيرتين (72). بعبارة أخرى أن منطقة نفوذ دولة أصبحت محرمة على الأخيرتين ومعترفا بها منهما اعترافا مطلقا.

ويلاحظ في هذه المعاهدة أن بريطانيا تجاهلت مصر مرة أخرى في التوقيع عليها مثلما تجاهلتها في معاهدة سنة 1902، مع أن مصر تهتم هي الأخرى باستقرار الحالة السياسية في أثيوبيا وذلك حرصا على مصالحها في وادي النيل. وحدودها المشتركة في السودان مع أثيوبيا، والتي ستتأثر بالطبع في حالة حدوث الاضطرابات الداخلية فيها، ويلاحظ أيضا أن توقيع الدولتين الأخريتين (فرنسا وايطاليا) على المعاهدة هو اعتراف منهما باحتلال بريطانيا لمصر لأنه كما جاء في المادة الرابعة ما معناه أن مصالح مصر وبريطانيا واحدة وأن توقيع الأخيرة على المعاهدة يعني أنها صاحبة السيادة على الأولى. ويلاحظ كذلك أن هذه المعاهدة لم يكن هدفها حماية أثيوبيا ووحدتها وانما هو تقسيمها الى مناطق نفوذ فيما بينهم وذلك لتلافي الخطر الذي قد ينجم عن تصادم المصالح بين الدول الثلاث في حالة انهيار البلاد وهي الحالة المنتظرة بعد وفاة الراس ماكونين ومرض منليك وعدم وجود الشخصية القوية التي يمكن أن تسيطر على هذه الحالة (73)ز

ولقد أدركت مصر هذه الحقيقة، بالرغم من أنها تعتبر اعترافا ضمنيا من هذه الدول باحتلال بريطانيا لها، وضرورة الاشتراك في كل ما يتعلق بحقوقها في منابع النيل الأثيوبية، فلم تعترض على هذه المعاهدة ولم تطلب التوقيع علهيا (74). وربما اعتقدت أن هذه المعاهدة لن يكون لها نتائج مؤثرة بل هي تحافظ على الأوضاع المستقرة بعد سنة 1902 وتعترف بها الدول الثلاث الموقعة عليها، هذا بالاضافة الى أن أثيوبيا لم توقع عليها وبالتالي فهذه المعاهدة كانت عبارة عن خطة عمل وضعتها الدول الثلاث المتنافسة حتى لا تتضارب مصالحها وكذلك حتى لا تجعل أحدا يشاركها فيها (75). ولذلك فان رد الفعل في مصر لهذه المعاهدة لم يكن مماثلا لما حدث عقب توقيع المعاهدة سنة 1902 عند الخديوي أو حكومته وانما اثارت في الراي العام المصري القلق على استقلال أثيوبيا من أن تكون هذه المعاهدة بداية مستترة لتقسيمها وابتلاعها وذلك بالرغم من معرفته بأنها لحفظ استقلال ووحدة أثيوبيا (76). وفي هذا دليل على ما يكنه الرأي العام المصري من مشاعر طيبة نحو هذه البلاد واهتمام بتطور الأمور فيها أو خارجها.

والاواقع أن شعب مصر كان يهتم اهتماما كبيرا باثيوبيا وعلاقته بها وبتطورات أحداثها وبصحة عاهلها وتنازله عن العرش لولي عهده لدج ياسو واثر ذلك على الحدود الشرقية للسودان، مما أدى الى تدعيم هذه المناطق خوفا من تأثرها بوفاة منليك واضطراب الحالة السياسية في البلاد وانعكاسها على هذه الحدود (77). وكان هناك اعتقاد في مصر ان وفاة منليك سوف تؤدي الى نشوب حرب أهلية شاملة بين الامبرطورة طايطو وبين ولي العهد. تضطر بسببها الدول المجاورة لأثيوبيا وهي مصر وفرنسا وانجلترا وايطاليا التي لها أملاك على حدودها الى التدخل بارسال حملة قوية من السودان الى حدود أثيوبيا للمحافظة على الحدود والنيل أو أن يقوموا بأي عمل آخر تقضيه الطوارئ المتوقعه فان خزينة مصر هي التي تدفع المال جريا على العادة. على أن شيئا من هذا لم يحدث لأن الأوضاع السياسية في أثيوبيا في ذلك الوقت قد استقرت الى حين لولي العهد والوصي تساما، ونفيت الامبراطورة الى أحد الأديرة تمضي فيه بقية حياتها (78).

ولقد استمرت العلاقات الطيبة بين مصر وأثيوبيا ، وذلك بالرغم من الاضطرابات السياسية الداخلية التي كانت تمر بها وكانت بين لدج باسو وزعماء شوا، لأنها لم تفكر في أن تنصر أحدهما على الآخر، بل ظلت تقوم بدورها الحضاري فكانت تستقبل وترحب بالوفود الأثيوبية القادمة اليها سواء للزيارة أو العلاج، كما أن الخديوي انعم على حنا صليب مدير البعثة التعليمية المصرية في أثيوبيا برتبة البكوية تقديرا لما يقوم به من أعمال قيمة يرفع بها قدر مصر والمصريين في هذه البلاد (79) كذلك أنهم لدج باسو بالأوسمة على بعض رجال الدولة المصريين مثل سعيد ذو الفقار باشا كبير أمناء السلطان حسين كامل سلطان مصر وقليني فهمي باشا (80). وكان هناك اتجاه أن يقوم لدج باسو بزيارة مصر هو ووالده الملك ميخائيل وذلك بعد التتويج الرسمي له امبراطورا على أثيوبيا. وسيكون في حالة اتمام هذه الزيارة، في استقباله سلطان مصر ونائب الملك البريطاني لأن مص وقتها كانت محمية بريطانية بسبب الحرب العالمية الأولى التي منع نشوبها وصول لدج باسو الى مصر كما حالت دون تتويجه وبالتالي دعوة سلطان مصر الى حضور حفل التتويج حيث كان من ضمن المدعوين اليها (81).

ومما ساعد على استمرار العلاقات الطيبة بين البلدين، أن الأثيوبيين نظروا الى مصر نظرة دينية بحتة لم يربطوا بينها وبين الأمور السياسية، وان مصر المحتلة من بريطانيا لا حول لها ولا قوة، وانها لن تنفعهم أو تضرهم سياسيا لانها خاضعة في علاقاتها الخارجية لبريطانيا وما دامت الأخيرة على علاقة طيبة مع حكام أثيوبيا فهي أيضا طيبة مع مصر، والدليل على ذلك أن الملك ميخائيل أرسل وفدا دينيا الى البطريرك في مصر بهدف الحصول على تأييده لاستغلال ذلك ضد مناوئيه ومناوئي ابنه لدج باسو (82).

الواقع أنه يمكن القول أن العلاقات السياسية بين البلدين منذ سنة 1902 وحتى استقلال مصر الرسمي في سنة 1922، لم تكن قوية متطورة مثلما كانت في القرن التاسع عشرن وساعد على ذلك الاضطرابات التي عمت أثيوبيا ونشوب الحرب العالمية الأولى وانشغال مصر بثورتها في سنة 1919 وصراعها مع بريطانيا للحصول على استقلالها، على أن العلاقات السياسية بين البلدين اتخذت شكلا جديدا بعد سنة 1922 يختلف كثيرا في مظاهره عن الفترة السابقة لهذا التاريخ.


ثانيا: العلاقات السياسية بين البلدين في الفترة 1922/1935

استمرت العلاقات الودية بين مصر وأثيوبيا في هذه الفترة ايضا، وان تطورت بعض الشئ عما كانت عليها في الفترة السابقة للاستقلال الرسمي لمصر. وربما يعود ذلك الى أن مصر بدأت تهتم بعلاقاتها الخارجية، كما أن تطلع الراس تفري ولي عهد أثيوبيا في ذلك الوقت الى تدعيم علاقاتها بالدول الخارجية ومنها مصر بهدف تمدين وتحضير بلاده ، ساعد أيضا على تطوير العلاقات بين مصر وأثيوبيا (83). لذلك يمكن القول أن هذه الفترة شهدت تغيرا في العلاقات الودية العادية الى علاقات دولية ايجابية متطورة الى حد ما، فقد زار مصر ولأول مرة الرأس تفري وقرينته وهو حدث لم يحدث من قبل، كذلك تم ولأول مرة انشاء تمثيل سياسي متبادل بين البلدين، كذلك جرت مفاوضات مباشرة معها بشأن بناء خزان تسانا، هذا بالاضافة الى التأييد الشعبي الجارف لأثيوبيا في صراعها مع ايطاليا من أجل الحفاظ على استقلالها.

زيارتا الأميرة مينين والراس تفري لمصر (1923-1924)

تعتبر زيارة الأميرة مينين لمصر أول زيارة تقوم بها واحدة من أفراد الأسرة المالكة الأثيوبية فهي قرينة ولي العهد الأثيوبي الراس تفري . وقد استقبلتها الحكومة المصرية استقبالا رسميا وشعبيا حافلا (84)، وقد أقامت في القاهرة أسبوعا زارت في خلاله قصر عابدين ودار المندوب السامي البريطاني ومعالم القاهرة القبطية والاثيوبية والمعاهد التعليمية، ثم زارت مدينتي الأقصر والإسكندرية وكانت فيها موضع الترحيب من شعب مصر بجميع فئاته وعناصره (85). وحرص الملك فؤاد ملك مصر في استقباله لها والترحيب بها على أن يبدي مدى اهتمام مصر بتدعيم علاقاتها السياسية مع أثيوبيا (86).

وبالفعل فقد استجاب حكام أثيوبيا (الامبارطورة زوديتو والرأس تفري ولي العهد) فبعد أن انتهت زيارة الأميرة مينين وعادت الى بلادها، ارسلا وفدا يمثلها الى مصر حيث قابل الملك فؤاد وقدم له الوشاح الأكبر من نيشان سليمان المهدي له من قبل الامبراطورة والراس، والقى أحد أعضاء الوفد كلمة أمام الملك رجاه فيه قبول الوشاح وأعرب بلسان الامبراطورة وولي العهد عن رغبتهما في مكين دعائم الصداقة بين البلدين، واستمرارها. وقد شكر الملك فؤاد الامبراطورة وأبدى ارتياحه وتقديره للأماني القومية التي أعرب عنها الوفد الأثيوبي نيابة عن حكام أثيوبيا وأكد دوام الصداقة بين البلدين (87). كما وزعت مجموعة من النياشين الأثيوبية على كبار رجال الدولة المصريين الذي ساهموا في استقبال الأميرة والترحيب بها. كما أنهم الملك فؤاد بالنياشين على أعضاء الوفد الاثيوبي (88).

وهكذا يمكن القول أن يزارة الأميرة مينين وما نتج عنها تعتبر الخطوة الأولى في تدعيم العلاقات بين مصر وأثيوبيا في عهديهما الجديد، وان هذه الزيارة لم تكن الا زيارة استطلاعية تمهد لزيارة الرأس والتي تمت في العام التالي لها أي في سنة 1924. ويلاحظ أن تدعيم العلاقات السياسية بين البلدين قد بدأ بوازع حقيقي من حكام البلدين وليس بتاثير مباشر من بريطانيا كما حدث منها ابان الاحتلال، صحيح أن مصر كانت تحت النفوذ الانلجيزي اذ أن استقلالها كان رسميا وليس فعليا وأن بريطانيا تؤيد بالطبع العلاقات الودية بين مصر وأثيوبيا، الا أنها – أي بريطانيا – لم يكن لها تاثير سياسي قوي على أثيوبيا، كما أن الراي العام المصري أبدى ترحيبه وتأييده لهذه العلاقات الودية بين البلدين في استقباله الرائع للأميرة الأثيوبية ومن هنا جاءت أهمية زيارتها.

وسعى الرأس تفري منذ أن أصبح وليا للعهد الى تمدين بلاده ووضعها في مكانها الدولي اللائق بها كدولة مستقلة، فنجح في جعلها عضوا في عصبة الأمم في سنة 1923 (89). كما دعم علاقاتها بالدول المستقلة بغرض تحسين مركز بلاده في المجال الدولي (90)، لذلك قام بزيارة هذه الدول ومن بينها مصر لكي يحصل على أقصى ما وصلت اليه في مجالات التقدم في الادارة والصناعة والتعليم وغيرها من مجالات الحياة. ويطبقها في بلاده. وعليه فقد حرص على أن يصطحب في رحلته هذه مجموعة منتخبة من الشباب الأثيوبي لكي يطلعهم على التقدم الحضاري والصناعي في هذه البلاد، لكي يعاونوه في تطبيقها عند عودتهم الى بلادهم وليكونوا سندا له يؤيدونه في سياسته التقدمية هذه (91).

وبالرغم من أن مصر لم تكن دولة كبرة، بل دولة نالت استقلالها الرسمي فقط منذ عامين وانها كانت لم تزل خاضعة للنفوذ البريطاني، فان ثقلها الحضاري والديني وتقدمها بالنسبة لأثيوبيا يجعلها من الدول المتقدمة، فهي ليست مثل البلاد القريبة منها في هذه المنطقة. لذلك وضعها الراس تفري في برنامج زيارته، ودعم ذلك أطماعه الدينية التي أراد انتزاعها من الكنيسة المصرية (92).

وعلى أي حال فعندما وصل الرأس تفري الى مصر في أول مايو سنة 1924 استقبل استقبالا حافلات من المسئولين الرسميين وأفراد الشعب المصري بجميع طوائفه وعناصره في كل مكان وصل اليه القطار الذي خصصته الحكومة والذي أقله من منطقة القنال حتى القاهرة حيث كان في استقباله كبير الأمناء موفدا من قبل الملك واللورد اللنبي المندوب السامي البريطاني والوزراء وكبار رجال الدولة ومندوبي الدول الأجنبية وجمهور غفير من الشعب المصري مسلمين وأقباطا، وبعد انتهاء مراسيم الاستقبال الرسمية استقل السيارات المعدة له والوفد المرافق له الى فندق شبرد حيث نزل ضيفا على ملك مصر (93). وقد تبادل الزيارة بعد ذلك الرأس تفري مع الملك فؤاد وسعد باشا زغلول رئيس مجلس الوزراء، كما أقيمت الحفلات والمآدب لولي عهد أثيوبيا من الملك والمندوب السامي البريطاني ورئيس الوزراء، كذلك تم تبادل الأوسمة والنياشين فأهدى الملك فؤاد الوشاح الأكبر من نيشان محمد علي الى الرأس تفري ونياشين مختلفة أخرى إلى أفراد حاشيته (94). وأهداه الراس تفري الوشاح الأكبر من نيشان نجمة أثيوبيا ومجموعة من الأسلحة التقليدية الأثيوبية والهدايا القيمة، كما أنعم على وزير الخارجية الصمري ومجموعة أخرى من كبار العاملين في الدولة بالنياشين المختلفة. (95).

والواقع أن الرأس تفري كان مرحبا به طوال مدة زيارته لمصر سواء من الحكومة أو الكنيسة المصرية أو الشعب المصري بكل طوائفه وطبقاته، فكان في كل زياراته التي تركزت على المعالم الحضارية القديمة والاسلامية والقبطية والمدارس والكليات الجامعية وفي زيارته الى الأقصر والاسكندرية وعلى طول الطريق اليها، كان يجد الترحيب البالغ به من الشعب ورجال الحكومة (96). وكان يرافق الراس تفري في جميع تنقلاته في مصر مندوبا من قبل الملك فؤاد (97)، وعندما انتهت زيارته لمصر ودع وداعا رسميا وحافلا. ومن الاسكندرية استقل الباخرة مستأنفا رحلته الى أوروبا والتي بدأها بمصر وزار بعدها فرنسا وانجلترا وايطاليا وبلجيكا واليونان وغيرها من دول أوروبا (98). وعندما انتهت زيارته لدول أوروبا عاد إلى مصر ليعرف ما استقر عليه راي أقباطها في مشكلة دير السلطان ومع أن هذه الزيارة لم تكن رسمية فان ملك مصر وحكومتها استقبته مرة أخرى استقبالا حافلات وودعته ايضا باحتفال كبير عندما استقل الباخرة من السويس متوجها على بلاده (99).

ولقد أثارت زيارة الأميرة مينين والراس تفري ، وتفاقهم أزمة دير السلطان بين الكنيسة المصرية وأثيوبيا، الرأي العام المصري الذي نظر الى علاقته مع أثيوبيا نظرة قومية فدعا الى ضرورة تدعيم العلاقات السياسية بين البلدين وأن تكون في المقام الأول وخصوصا أن أثيوبيا بدأت تأخذ بالمدنية الغربية وتبتعد تدريجيا عن المجتمع الديني المغلق، يليها في الأهمية العلاقات الدينية التي يجب أن تكون تحت اشراف الحكومة حتى لا تكون سببا في تدهور العلاقات السياسية أو تتعارض معها ولذلك فيجب أن يكون هناك تنسيق كامل بين الحكومة والكنيسة المصرية وهذا التنسيق من شأنه أن يفيد ويدعم العلاقات الدينية لأن اخيتار قادة الكنيسة الاثيوبية سيكون بموافقة الحكومة التي ستحرص على اختيار أصلح العناصر لها وفي نفس الوقت يدعم العلاقات السياسية. ودعا الراي العام المصري حكومته أيضا الى ضرورة الاسراع بارسال ممثليها السياسية الى أثيوبيا حتى تأخذ العلاقات السياسية وضعها السليم كذلك استنكر ما قامت به الكنيسة المصرية من مظاهرات دينية طائفية في استقبال الراس تفري توحي بأنه ليس في مصر سوى أقباطها مما أدى الى عدم مشاهدته شيئا من النهضة الحديثة لمصر وهو ما كان يهدف اليه الرأس وحاشيته وخرجوا من بلادهم له، ودعا الى ضرورة نبذ الطائفية وأن ينظر المصريون جميعهم الى مصر وطنهم القومي (100).

ولقد عبر الرأي العام المصري عن رأيه هذا وبلوره في شكل تكوين جماعة سميت باسم أصدقاء الحبشة غرضها الدفاع عن مصالح مصر القومية وعلاقاتها السياسية مع أثيوبيا، وتهيئة الجو الملائم لتنمية العلاقات الودية الوثيقة في مختلفة مظاهرها بين شعبي البلدين والحرص على صداقتها والذود عن كل ما يهددها، وقد شكلت لهذه الجماعة لجنة تمهيدية مكونة من مجموعة من النواب المسلمين والمسيحيين في مجلسي النواب والشيوخ ومن الشخصيات العامة، وقد أدارت هذه اللجنة الجماعة بصورة مؤقتة وذلك الى أن يتم انتخاب مجلس ادارتها، وقد اعلنت هذه اللجنة فتح باب العضوية لجميع العناصر المصرية لتنضم اليها، واسندت سكرتارية اللجنة الى الاستاذ عزيز ميرهم المحامي بصفة مؤقتة (101).

وكان من رأي عزيز ميرهم السكرتير المؤقت للجماعة أن تغتنم الحكومة المصرية الصلة الدينية بين البلدين فتوثق علاقتها مع الحكومة الأثيوبية، فدعاها الى أن تسيطر على كنيستها لتحصل من ورائها المنافع لمصر مثلما تفعل الدول الأجنبية، والى تدعيم العلاقات السياسية والاقتصادية الحضارية بين البلدين، وطالب الشباب المصري المتعلم بالهجرة – إلى أثيوبيا لتعميرها وتعليم شعوبها ما يجهلونه من طرق الري والزرع والانتاج والثقافة والمعرفة، ونادى حكام مصر بضرورة زيارة ولي العهد لمصر، حتى تزداد العلاقات بين البلدين (102). ولقد صدر بيان من جماعة أصدقاء الحبشة طالبت فيه الحكومة المصرية بالتدخل في مشكلة دير السلطان خوفا على العلاقات المصرية الأثيوبية من أن تتدهور بين البلدين وينتج عنها عواقب وخيمة تؤثر على المصالح المصرية في أثيوبيا، وحثتها فيه على أن تتفق مع الرأس تفري على تبادل المنافع الأدبية والمادية ووضع أسس العلاقات السياسية والقنصلية (103).

وقد أرسلت جماعة أصدقاء الحبشة برقية تعريف بها الى الرأس تفري وتمنت له سفرا سعيدا من مصر الى بلاده. وقد رد عليها شاكرا تمنياتها وصداقتها. ويبدو من هذا الرد أنه لم يهتم كثيرا بقدر اهتمامه بتحقيق مطالبه الخاصة بدير السلطان (104)، كما أن زيارته لمصر لم تدفعه الى أن يزيد من علاقاتها معها سواء أكانت سياسية أو اقتصادية ولم يفعل سوى أن ارسل مجموعة من الطلبة ليتعلموا في كلية فيكتوريا (والليسه فرانسيه) بالاسكندرية وذلك على نفقة الحكومة الأثيوبية (105).

وبالرغم من أن الرأس تفري لم يبد أي اهتمام للعلاقات السياسية مع مصر فان الراي العام المصري استمر في مطالبته بضرورة طرح – مشكلة دير السلطان – في الملجس لكي يقرر وجوب تدخل الحكومة في فحصها وتسويتها، وخاصة بعد أن فشلت جمعية الاقباط الخصوصية في الوصول الى نتيجة مرضية للطرفين، وذلك خوفا من تأثيرها السيئ على العلاقات السياسية بين البلدين (106). كذلك دعا الكثيرون من نواب الحكومة المصرية الى وجوب انشاء تمثيل سياسي بين البلدين (107). ولقد أثير هذا الموضوعان (دير السلطان – والتمثيل السياسي) في مجلس النواب المصري خصوصا عندما توفى مطران أثيوبيا الأنبا متاؤس والذي كان يعتقد فيه أنه يعمل لمصر ولكنيستها، وأنه بوفاته وظهور حركة انفصالية دينية في اثيوبيا وارتباطها بمشكلة دير السلطان، يهدد الاثيوبيون بالانفصال، هذا بالاضافة الى أنه كان هناك من يعمل على تعميق الخلافات الدينية بين البلدين لعزل احداهما عن الأخرى مما قد يهدد مصالح مصر والسودان في أثيوبيا، ولذلك فقد طالب أحد النواب من وزير الخارجية في البرلمان ضرورة التدخل لحل مشكلة هذا الدير حتى لا تتاثر العلاقات الطيبة بين البلدين، على أن الحكومة لم تفعل شيئا في هذا النزاع (108)، وظل كما هو حتى الآن.

أما بالنسبة لمسالة التمثيل السياسي، وطلب بعض النواب بضرورة انشائه، وبالرغم من أن هذا الطلب كان قد قدم في الدورة السابقة لمجلس النواب 25/1926 فان الحكومة لم توافق على ادراج مشروع انشاء قنصلية في ميزانية ذلك العام وعندما جدد في الدورة التالية 26/1927، ووفق عليه، وأعلن وزير الخارجية في المجلس أنها أدرجت في ميزانية العام التالي أي 27/1928 الاعتمادات اللازمة لانشاء هذه القنصلية، وقد واجه النواب هذا الاعلان بالتصفيق والتأييد، بل طالب بعضهم أن تكون هذه القنصلية تمهيدا لانشاء سفارة مصرية في العاصمة الأثيوبية (109).


انشاء قنصلية مصرية في أثيوبيا

وباعلان تصريح 28 فبراير سنة 1922 من جانب انجلترا، أصبحت مصر بموجبة دولة مستقلة ذات سيادة، وتلا ذلك اعلان من جانب الحكومة المصرية باعتبارها حكومة ملكية دستورية لدولة مصر المستقلة، وقد عنى ولاة الأمور في مصر باعطاء هذا الاستقلال لون الاستقلال الحقيقي الذي تتمتع به الدول صاحبة السيادة الفعلية في الداخل والخارج فبادروا الى التوسع في انشاء الهيئات السياسية التي تمثل مصر المستقلة في الخارج. على أن هذا التوسع شابه الكثير من الأخطاء مثل اختيار العناصر التي تمثل مصر في الخارج. كذلك التوسع في انشاء هذه الهيئات السياسية في بلاد ليس لها صلة بمصر، والتعاضي عن انشائها في بلاد تهم مصر كثيرا (110).

وقد كثر النقد والاعتراض على هذا التوسع، كان بعضه في محله والبعض الآخر كانت وراءه عامل حزبية أو نفعية لا يعنيها صالح البلاد ونفعها. كذلك كان هناك الكثيرون يؤيدون هذا التوسع لأنه صورة لاستقلال مصر ومصلحتها وكرامتها وأن الغاءها أو التقليل منها قد يعود بمصر الى ما كانت عليه قبل التصريح باستقلالها في سنة 1922 حينما كانت السفارات الانجليزية قائمة بأمور مصر في البلاد الأجنبية، ومما يؤكد ذلك أن كل مفوضية مصرية انشئت في الخارج كانت تتسلم من المفوضيات الانجليزية مصالح مصر السياسية في البلد التي انشئت فيها (111).

وكان من ضمن البلاد التي لم تنشأ فياه مفوضية أو قنصلية أثيوبيا، وذلك بالرغم من أهميتها لمصر والضجة التي قامت في أعقاب زيارة الراس تفري وأزمة دير السلطان ومطالبة الرأي العام المصرية بتدعيم العلاقات السياسية بين مصر وأثيوبيا واقامة هيئة سياسية تمثل مصر فيها (112)، والتي كان من المفروض أن تنشأ بها مباشرة بعد استقلال مصر وصدور اللوائح والقرارات المنظمة للسلك السياسي والقنصلي المصري (113). وكانت المفوضية البريطانية هي التي تدير المصالح المصرية وشئون المصريين في اثيوبيا وقد ظل هذا الوضع قائمة الى أن تقرر قنصلية مصرية في أديس أبابا (114)ز

وبدأت تتخذ اجراءات انشاء القنصلية المصرية بعد أن وافق البرلمان المصري على ميزانيتها (115). فتم اختيار الأستذا عاذر اسحق المدرس بمدرسة التجارة العليا بالقاهرة قنصلا لمصر في أديس ابابا، والأستاذ اسكندر عبد الملك المحامي مأمورا بها والأستاذ نمر شنودة سكرتيرا لها (116). وقد صدر القرار الخاص بانشاء هذه النقصلية وتعيين قنصلها في الوقائع المصرية وهو أمر ملكي رقم 87 لسنة 1927 (117). وبذلك تم انشاء قنصلية مصر في اثيوبيا بعد ما يزيد عن أربع سنوات منذ انشاء التمثيل السياسي لمصر في الدول الأجنبية في 18 سبتمبر سن 1923 (118).

على أن الأستاذ عاذر اسحق المعين قنصلا لمصر لم يسافر ليتسلم عمله، لأ، المرتب الذي يحصل عليه كمدرس بمدرسة التجارة العليا كان يوازي تماما مرتبه كقنصل، لذلك فقد طلبت وزارة الخارجية المصرية منحه مرتب 70 جنيه شهريا نظير عمله كقنصل لمصر في اثيوبيا، ويبدو أن طلب وزارة الخارجية رفض، فعين شخص آخر بدلا منه، على أن باقي العاملين في القنصلية وافقوا على العمل بها وبدأ تدريبهم على الأعمال التي سيقومون بها، ثم يسافرون بعدها الى مقر عملهم (119). وبالرغم من انتهاء تدريباتهم لم يسافروا لاستلام عمله مباشرة، وهو ما كان موضع تساؤل في مجلس النواب عن سبب عدم سفرهم وعدم فتح القنصلية المصرية. وكان التعليل لهذا التأخير في سفرهم أنهم يستعدون للسفر الى هذا لابلاد النائية (اثيوبيا ) (120). والواقع أن المصريين كانوا في ذلك الوقت يشعرون برهبة من السفر اليها ويعتقدون أنها في نهاية العالم، لذلك كانت تفشل كل دعوة توجه الى الشباب المصري المتعلم بالهجرة الى اثيوبيا والعمل فيها وذلك بالرغم من وجود نسبة ضخمة من العاطلين المتعلمين في مصر في ذلك الوقت (121). على أن هؤلاء المبعوثين قاموا بواجبهم السياسي طوال مدة بقائهم في مصر وقبل سفرهم الى اديس أبابا، وذلك بالرغم من أنه لم يكن قد عين القنصل البديل بعد. من ذلك حضورهم حفل توديع أول بعثة حكومية تعليمية أرسلت إلى أثيوبيا، كما أرسل اسكندر عبد الملك برقية تمنيات طيبة الى مسيحه عبد السيد رئيس هذه البعثة التعليمية (122).

أما بالنبسة للقنصل قد اختير – بعد عام تقريبا في أواخر سنة 1928- فرج ميخائيل موسى السكرتير الثاني في مفوضية مصر في المانيا لكيون قنصلا في اثيوبيا، وكان سبب اختياره في هذا المنصب أنه كان يبدي اهتماما كبيرا بالأوضاع والأحوال الأثيوبية (123). وقد وافق فرج موسى على تولي هذا المنصب وجاء من برلين في أوائل سنة 1929. ومع أنه لم يكن قد تسلم مهام منصبه، فانه ساهم في حل مشكلة تعيين مطران أثيوباي الذي خلف الأنبا متاؤس المطران الراحل (124). ثم بعد ذلك استعد للرحيل إلى أديس أبابا فوصلها في 20 مارس سنة 1929، حيث كان في استقباله في العاصمة الأثيوبية موظفو القنصلية المصرية الذين سبقوه اليها ومدير الشئون الخارجية الأثيوبية بلاناجينا هيروي وكثير من كبار رجال الدولة الأثيوبيين والجالية المصرية في أثيوبيا، حيث هنأوه بسلامة الوصول، وبعد ذلك ركب السيارة الخاصة ومعه مدير الشئون الخارجية الأثيوبي وذهبا رأسا إلى القصر الملكي حيث الملك تفري الذي رحب به وأقام له مأدبة فاخرة حضرها مدير الشئون الخارجية وكبار رجال الدولة الأثيوبيين والسلك السياسي الأجنبي المعتمد لدى حكومة أثيوبيا، وقد لى القنصل المصري الترحيب الكامل في الأوساط السياسية الأثيوبية (125).

وعندما اكتملت مقومات القنصلية بوصول القنصل اليها بدأت تمارس نشاطها في العمل على تدعيم العلاقات المصرية الأثيوبية. فمن الناحية السياسية، كان القنصل المصري يخبر حكومته بكل التطورات السياسية التي كانت تحدث في أثيوبيا وذلك حتى تشارك مصر فيها مما يترتب عليه تدعيم العلاقات السياسية بينهما (126)ز

أما من الناحية الاقتصادية، فقد أرسل القنصل تقريرا اقتصاديا هاما عن البلاد الأثيوبية حيث عرف بها ووصفها وذكر أحوالها الاقتصادية وما تتميز به من منتجات زراعية أو صناعية. وأوضح أن السوق الأثيوبية، بالرغم من كثرة الحاصلات والمنتجات الأجنبية فانه قل أن يوجد شئ من الحاصلات المصرية، وعلل ذلك بعدم النشر والاعلان في حين ان الاعلان الأجنبي لمنتجاته التي تعتبر أقل جودة من الانتاج المصري يساعد كثيرا في رواجها. وطلب الاهتمام بالاعلان والدعاية وعرض بعض هذه المنتجات على الملك والرؤوس الأثيوبيين على شكل هدايا، وهذه عادة شائعة هنا، حتى اذا ما تبينوا جودتها انتشرت وبعدها تنافس المنتجات الأجنبية. ودعا بنك مصر ومصنعه الى تسويق منتجاته القطنية في أثيوبيا والتي يمكنها أن تستنفذ جميع ما تنتجه مصر مهما كانت كميته لأن المنتجات القطنية تدخل في اللباس القومي لما يقرب من عشرة ملايين أثيوبي رجالا ونساءا ، وعرض فكرة انشاء معرض مصري دائم للمنتجات القطنية والمنسوجات المصرية كنوع من الدعاية والاعلان (127).

أما في مجال العلاقات الدينية، فبالاضافة الى مساهمته في حل مشكلة تعيين المطران المصري لكنيسة أثيوبيا، فانه أيضا تابعها بعد تسلمه منصبه في أديس ابابا فارسل الى وزارة الخارجية يبلغها بسفر الوفد الأثيوبي المكلف بصحبة المطران الجديد، من أثيوبيا (128) وكتب تقريرا مفصلا عن وصوله أثيوبيا، وطلب تبليغ هذا التقرير الى البطريرك رغبة منه في تدعيم العلاقات الدينية وتقويتها بعد أن تدهورت (129).

أما في مجال العلاقات الثقافية، فقد حافظ على استمرار مد أثيوبيا بالمدرسين المصريين وبالكتب المدرسية لتوزيعها، على مدرسة منليك، كما ساهم مساهمة كبيرة في تدعيم العلاقات الثقافية الاسلامية بين البلدين، فعن طريقه أرسلت مصر بالمدسين الصالحين والاعانات المادية الى المدارس الاسلامية المنشأة في أثيوبيا، كما أرسلت مشيخة الأزهر بعثة تعليمية دينية تقوم بالتعليم والتهذيب والوعظ والارشاد لمسلمي اثيوبيا. ولقد تابع القصنل المصري بنفسه عملية الدراسة في هذه المدارس مشجعا ومدعما لها. وكانت من أكبر طرق الدعاية المصرية في اثيوبيا، فقد شكرت حكومتها وشعبها حكومة مصر على ذلك بل اقترح على الحكومة المصرية أن تفكر وزارة المعارف بأن تفتح بعض المدارس المصرية في أثيوبيا وأن تشرع في تعليم اللغة الاثيوبةي (131) في الجامعة المصرية ليستطيع المصريون المهاجرون إلى أثيوبيا سرعة التأقلم. لاسيما أن الاثيوبيين لا يتكلمون سوى لغتهم ويكرهون التحدث بغيرها، هذا بالاضافة الى أنه أثرى متحف أديس أبابا بمجموعة كبيرة من الحاصلات الزراعية المصرية فهي من جانب دعاية اقتصادية ومن جانب آخر فهي ايضا مادة ثقافية لزوار المتحف (132).

هذا بالاضافة الى الأعمال الادارية التقليدية التي يقوم بها القناصل مثل التأشير على جوازات السفر والعقود والشهادات، ورأسه كل ما تصدره مصر من احصاءات وتقارير وارسال خلاصتها الى دولته ويكون على اتصال دائم بكبار التجار وأرباب المصانع والأعمال وتسهيل اتصالاتهم ومعاملاتهم مع مصر (133). ومن ذلك أنه أوصى بأحد الوزراء الأثيوبيين السابقين جاء الى مصر من قبل حكومته لكي يقيم علاقاته التجارية بين البلدين، وطلب القنصل من المسئولين في مصر تسهيل كل السبل الموصلة لاتمام مهمة هذا الوزير السابق (134).

وبفضل علاقات القنصل الطيبة مع حكام أثيوبيا استطاع أن يحصل للحكومة المصرية على حق التمتع بالامتيازات الأجنبية للمصريين في اثيوبيا مثلهم في ذلك مثل رعايا الدول الأجنبية التي لا تتلاءهم معهم القوانين الأثيوبية والنظم القضائية. وعندما وافقت الحكومة الأثيوبية وضعت وزارة الخارجية المصرية مشروع قانون بشأن الاختصاص القضائي للقناصل المصرية بصفة عامة بحيث يمكن تطبيقه في اثيوبيا وغيرها من البلاد التي يجوز فيها التمتع بالامتيازات بمقتضى الاتفاقات أو التشريع الخاص أو العادات المرعية. ويخول هذا الاتفاق للقناصل حق النظر والفصل في المنازعات المدنية والتجارية بين المصريين أو بين الأجنبي والمصري، عندما يكون الأخير مدعى عليه والحكم في المخالفات والجنح التي يرتكبها المصريون في دائرة اختصاصهم القنصلي. ولم يتعرض القانون لمسائل الأحوال الشخصية لصعوبة تكليف القنصل بالفصل فيها لتعدد الطوائف التي تتالف منها الأمة المصرية. ولما لم يكن لمصر قاض في قنصليتها بأديس اباب فقد ندب قنصلها فيها للقيام بأعمال القضاي. وقد وافق عليه البرلمان في 26/6/1937 وأصبح ساري المفعول بعد ذلك (135).


وبالرغم من أهمية وجود تبادل تمثيل سياسي، ومطالبة الراي العامل المصري حكومته بعقد معاهدة ودية مع أثيوبيا، وتشجيع الشباب الأثيوبي على دخول المدارس المصرية لا الأجنبية، ودعوة حكومة أثيوبيا لتعيين قنصل لها في مصر يكون صلة ود بين البلدين (136)، بل أن أحد أصدقاء الملك تفري في مصر وهو يوسف سليمان باشا شكل جمعية جديدة، بعد أن فشلت الجمعية السابقة، باسم "جامعة الرابطة المصرية الحبشية" هدفها تدعيم العلاقات المصرية الأثيوبية في جميع مجالاتها واشترك فيها مجموعة كبيرة من كبار المسلمين والاقباط في مصر (137)، بالرغم من ذلك كله لم يسارع حكام أثيوبيا في تعيين من يمثلهم في القاهرة، حتى بعد أن علموا برغبة مصر في تبادل التمثيل السياسي بينها وبين أثيوبيا في الوقت الذي عينت في الحكومة الاثيوبية من يمثلها في إنجلترا وفرنسا وايطاليا وهي الدول الكبرى المتاخمة لبلادها من معظم الجهات (138).

وربما كان الدافع وراء عدم تعيين قنصل أثيوبي في مصر في هذا الوقت، تفاقهم مشكلة دير السلطان وبعدها مشكلة تعيين مطران مصري لكنيسة أثيوبيا، أو ربما لأنه اكتفى بالقنصل المصري في أديس أبابا الذي نال الحظوة والثقة من الملك تفري (129)، وبالتالي لم يكن في حاجة ماسة لتعيين من يمثله في مصر وهو ما حدث تماما في مشكلة الطلبة والأثيوبيين الذين ارسلتهم حكومتهم الى مصر ليتعلموا فيها ولكنهم فشلوا وأعيدوا الى بلادهم بواسطة قنصل أثيوبيا في القدس (140). واعتقد بالاضافة لما سبق أن الملك تفري أراد أن يوضح لرجال الكنيسة المصرية أنه لا يهتم بمصر ولا بكنيستها، كذلك فان عدم تعيين ممثل له هو زيادة حرص منه فقد تفضح المكاتبات بين القنصلية الأثيوبية أو أن يتفوه أحد من العاملين الأثيوبين بها بحديث أو تصرف يكشف ما يجري في أثيوبيا من أحداث أو دوافع حقيقية للسياسة الدينية التي اتبعها الملك تفري وأتبعه مع الكنيسة المصرية (141).

وعلى أي حال، فقد بدأت المفاوضات بين البلدين لتعيين من يمثل أثيوبيا في مصر، وذلك بعد أن استقر الحكم له بوفاة الامبراطورة زويتو والمنادات به امبراطورا باسم هيلاسلاسي. وبالرغم من موافقة الحكومة المصرية على انشاء قنصلية أثيوبية في مصر فان هذه المفاوضات استمرت فترة طويلة وانحصرت في اختيار المكان الذي ستقام فيه القنصلية (142). وبالرغم من أن مصر عرضت على حكومة الاثيوبية بعض القطع الفضاء التي تصلح لاقامة قنصلية، فانها رفضت، وطلبت أن تمنح قطعة ارض بجانب محطمة مصر في منطقة "باب الحديد" (143). وبالرغم من استمرار هذه المفاوضات فقد كانت الحكومة المصرية تفكر في رفع درجة تمثيلها السياسي في اثيوبيا من قنصلية الى مفوضية يعين عليها مؤقتا قائما بأعمال مفوضية ثم بعد ذلك وزيرا مفوضا. وكان الهدف من ذلك تدعيم علاقتها مع أثيوبيا (144). على أن ذلك لم يتم لأن المفاوضات بين الدولتان كانت مستمرة فصرف النظر مؤقتا لحين اتمام انشاء القنصلية الاثيوبية في مصر.

واستمرت المفاوضات بين البلدين لأن الحكومة المصرية لم تستطع أن تحقق لاثيوبيا رغبتها في منحها قطعة أرض بجوار محطة مصر (145). وأخيرا وبعد ست سنوات من افتتحاح القنصلية المصرية في أديس أببا ، أبلغت حكومة أثيوبيا وزارة الخارجية المصرية أنها قررت انشاء قنصلية لها في مصر يكون مقها مدينة بورسعيد. وقد وافقت مصر على قرار الحكومة الأثيوبية هذا، ووصل القنصل الاثيوبية اوتوبرهانات مرقس الى القاهرة في أوائل شهر ديسمبر سنة 1924 حيث مكث فيها بضعة أيام ليبدا عمله فيها (146). وادراج اسم القنصل الأثيوبي في قائمة المتمتعين بالاعفاءات الجمركية مثل غيره من ممثلي الدول الأجنبية (147).

ويلاحظ أن انشاء القنصلية الاثيوبية في بورسعيد واكب تدهور العلاقات الايطالية الأثيوبية والتي بدأت في أواخر سنة 1934 (148)، فهل كان الدافع لانشاء هذه القنصلية واختيار مدينة بورسعيد مقرا لها هو مراقبة التحركات العسكرية الايطالية المارة في قناة السويس، ولخدمة الدعاية الاثيوبية ضد الايطاليين في مصر وتدعيم العلاقات السياسية بين مصر وأثيوبيا حيث كانت الأخيرة في اشد الحاجة الى تأييد الدول ومصر كذلك في صراعها مع الايطاليين من أجل الحفاظ على استقلالها. ومما يؤكد ذلك، أن القنصل الأثيوبي ذكر في تعليله لاختيار مدينة بورسعيد كمقر للقنصلية في أن أبناء بلاده يذهبون ويجيئون دائما عن طريقها ويجب أن يكون هناك قنصل للاهتمام بأمرهم (149).

وهذا صحيح ولكن لماذا في هذا الوقت بالذات وفي هذا المكان، فان الاثيوبيين من قديم يستخدمون بورسعيد في ذهابهم ومجيئهم، كذلك ففي هذا الوقت ايضا نجد أن أثيوبيا ترفع درجة التمثيل السياسي بينهما وبين مصر بعد أن ظلت تتفاوض معها طيلة ست سنوات لكي تنشئ قنصلية لها في الاراضي المصرية، هذا في الوقت الذي تسرف فيه حكومة مصر النظر عن رفع التمثيل السياسي بينها وبين اثيوبيا وذلك تطبيقا منها لسياسة الحياد الذي اتبعتها ازاء الصراع الايطالي الاثيوبي، وبالفعل ارسلت الحكومة الاثيوبية قائمة بأعمال المفوضية وقدم أوراق اعتمداه واقام في القاهرة مع استمرار اقامة القنصل الأثيوبي في بورسعيد. أليس في هذا محاولة لكسب التأييد المصري لجانب الأثيوبيين، وبالفعل فقد تجددت الدعوة في مصر الى ضرورة تدعيم العلاقات المصرية الأثيوبية في جميع مجالاتها (150).

ولقد استمر القنصل المصري فرج موسى يقوم بعمله في اثيوبيا حتى تقرر نقله الى روما العاصمة الايطالية وتعيين الأستاذ عوض أحمد البحراوي بدلا منه في هذا المنصب، ولقد اثار هذا الاجراء من جانب الحكومة لامصرية الرأي العام لامصري واعتبرها محاولة لكسب رضاء ايطاليا وطالب بضرورة الحرص على علاقة مصر بأثيوبيا للروابط الدينية والتاريخية والطبيعية التي بينهما، كما أن القنصل فرج موسى كان قد درس البلاد وأهلها واتكسب ثقة ومحبة حكامها وبالتالي فائدته تكون أكثر من آخر يعين بدلا منه يجهل البلاد وظروفها ويحتاج الى زمن طويل لمعرفتها واكتساب ثقة حكامها وخصوصا في هذه الظروف الحرجمة التي تمر بها أثيوبيا (151). على ان هذا الاعتراض لم يجد، فقد تم نقله على أن القنصل الجديد لم يستطع أن يتسلم عمله سبب الحرب الايطالية الأثيوبية وتعذر السفر الى اثيوبيا (152).

ولقد أحدث نقل القنصل السابق فرج موسى بعض التأثير السيئ في الدوائر الرسمية الاثيوبية وأعرب الامبارطور الاثيوبي هيلاسيلاسي عن عدم ارتياحه لهذا النقل في ذلك الوقت خصوصا وأنه كان يثق فيه كثيرا (153).


اهتمام الحكومة المصرية بتعيين المطران المصري لكنيسة أثيوبيا

ظلت الحكومة المصرية لا تتدخل في العلاقات الدينية بين الكنيسة المصرية وكنيسة أثيوبيا، وكانت تنظر دائما الى المسائل المتعلقة بأثيوبيا بأنها من اختصاص الكنيسة المصرية واعتقد البعض من كبار الأقباط وكنيستهم أن الشئون الخاصة بأثيوبيا هي أمر يخصهم. لذلك عندما أثيرت مشكلة دير السلطان في البرلمان وعلى يد أحد النواب المسلمين – والذي كان أول صوت يرتفع في مجلس النواب في هذه المشكلة وفي أمر العلاقات الدينية بين الكنيسة المصرية وأثيوبيا – واجه نقدا شديدا لأنه أولا هذه مسألة دينية يقتصر أمرها على الأقباط، فمن الجرأة في نظرهم أن يعني بها عضو مسلم وثانيا أن المجلس كان بعد عدد من الأقباط كانوا أولى بالاهتمام بها منه، وربما جال في ذهنهم شيئا من هذا ولكنهم امتنعوا عنه وتركوه لكنيستهم، لذلك كانت دهشتهم بالغة عندما تدخل زميلهم "عبد اللطيف سعودي" وأثار المشكلة، على أن كثيرا من الأقباط رحبوا باثارة هذه المشكلة لعلها في ذلك تجد حلا وتحفظ العلاقات بين الكنيستين وبالتالي بين مصر وأثيوبيا (154).

حقيقة أن هذه المشكلة لم ولن تحل عن طريق البرلمان الا أن إثارتها في البرلمان كانت تنبيها للحكومة المصرية والرأي العام المصري بضرورة الاهتمام بالعلاقات المصرية الأثيوبية بصفة عامة والدينية بصفة خاصة، وبالفعل بدأ هذا الاهتمام من كليهما، مع أثيوبيا فأنشأت قنصلية لها في أديس أبابا وبدأت تعمل على حل مشكلة تعيين مطران مصري لكنيسة أثيوبيا.

وكانت الحكومة المصرية قد بدأت تدرك خطورة تأخير تعيين المطران المصري لكنيسة أثيوبيا،وخصوصا عندما بلغها وجود حزب في أثيوبيا يسعى الى الاستقلال بكنيسة بلاده، وأنهم فشلوا في تتويج الرأس تفري ملكا على يد مطران الروم الأرثوذكس وأن هناك حزبا آخر لا يرغب في الانفصال وطلب من الكنيسة المصرية سرعة تعيين المطران الذي يستطيع بعمله أن يعيد نفوذ الكنيسة المصرية في أثيوبيا الى مكانته ويعزز العلاقة بين الكنيستين. لذلك اهتمت الحكومة المصرية بتدعيم هذه الرابطة الدينية بين البلدين، والتي كانت الرابطة الوحيدة في ذلك الوقت، وأعربت للقائمين على الأمور في الكنيسة المصرية في سنة 1927 والذي في يده فقط سلطة تعيين مطران أثيوبيا وذلك حتى لا يتأخر تعيين الآخر كثيرا (155).

وبعد انتخاب البطريرك الأنبا يؤانس التاسع عشر، عقد في أوائل شهر يناير 1929 اجتماع برياسة في الدار البطريركية. حضره حافظ عفيفي بك وزير الخارجية والقنصل الجديد فرج موسى، بالاضافة الى كبار رجال الدين الأقباط. وقد أعرب وزير الخارجية في هذا الاجتماع عن اهتمام حكومة الملك فؤاد بحل المسائل المعلقة بين الكنيسة المصرية وكنيسة أثيوبيا في اقرب وقت، للمحافظزة على العلاقات الودية بين البلدين وضرورة سرعة انتخاب مطران أثيوبيا طبقا لرغبة حكام أثيوبيا، وقال أيضا الحكومة المصرية لا تنظر الى هذه المسألة باعتبار أنها مسألة طائفية أو دينية. بل باعتبار انها مسألة قومية ذات تأثير في العلاقات بين البلدين، وهي علاقة تحرص الحكومة المصرية على دوامها، وذكر أن الحكومة على استعداد تام لبذل كل ما يطلب منها بذله من المساعدة لتسهيل التفاهم بين الاثيوبيين والكنيسة المصرية على هذه المسألة (156)، وواضح أن الحكومة المصرية – من خلال حديث وزير الخارجية – تخلت عن سبيلها ورغبت في تحمل مسئوليتها.

وفي هذا الاجتماع تم بحث المشكلة من جميع زواياها، وعرض يوسف باشا سليمان الموضوع وتطوراته أمام وزير الخارجية، وبعد مناقشات طويلة استمرت ساعة ونصف مع الوزير، ثم استمرت ما يقرب من ساعة بعد انصرافه – استقر رأي المجمتعين على أن يرسل البطريرك برقية الى الملك تفري (157). ولقد رفع وزير الخارجية تقريرا عن هذه الجلسة وما تم فيها الى رئيس الوزراء، لأخذ رأيه والسير بارشاداته، وقد وافق الأخير على ارسال هذه البرقية الى اثيوبيا (158).

وظلت الحكومة المصرية تتابع الموقف تماما، وذلك عندما وصل وزير المعارف الأثيوبي بلاتن جيتاسهلا سيدالو ليتفاوض مع البطريرك والكنيسة المصرية (159). وعندما تم الاتفاق بين الكنيستين، أرسل قنصل مصر في أثيوبيا برقية الى وزارة الخارجية المصرية يخبرها فيها بقدوم الوفد الأثيوبي الذي سيرافق المطران المنتخب ومعه الرهبان الذين سيرسمون أساقفة في بلادهم. أو بعبارة أخرى أن المشكلة التي كانت بين الكنيستين قد تم حلها وهدية الى البطريرك (160). كما قابل البطريرك ملك مصر وقدم له رئيس الوفد الأثيوبي ووزير المعارف الأثيوبي. ويبدو أن هذه المقابلة كانت لاشعار الملك بأن كل شئ على ما يرام بين الكنيستين (161). كذلك قام البطريرك ومعه المطران الجديد لكنيسة أثيوبيا والأساقفة الأثيوبين بعد رسامتهم، بزيارة محمد محمود باشا رئيس مجلس الوزراء فهنأهم الأخير بتوليتهم مناصبهم هذه، وكان يرافقهم يوسف باشا سليمان والوزيران الأثيوبيان (162). وكانت زيارة البطريرك هذه ردا للزيارة التي قام بها رئيس مجلس الوزراء عندما تم الاتفاق بين الكنيستين، وذلك لتهنئة البطريرك على حل مشكلة تعيين المطران بما يؤكد استمرار سيادة مصر الدينية على أثيوبيا (163). وقد أعرب الراي العام المصري عن سعادته لحل هذه المشكلة التي أبقت العلاقات الودية بين البلدين (164).

وبالرغم من انتهاء هذه المشكلة، فقد تابع الملك فؤاد تطور العلاقات الدينية فوافق على زيارة البطريرك لأثيوبيا، والتي قام بها في مطلع عام 1930 بهدف تدعيم العلاقات الدينية وازالة كل ما قد يكون علق في النفوس من جانب كلا من الطرفين، كما حمل الملك فؤاد البطريرك تمنياته الطيبة الى حكام أثيوبيا (165). وعندما عاد البطريرك الى مصر بعد انتهاء رحلته في أثيوبيا قابل ملك مصر وأبلغه تحيات حكام أثيوبيا وذكر له ما كان لزيارته من وقع عظيم في نفوس الأثيوبيين، فأعرب الملك له عن ارتياحه الى نتائج هذه الزيارة لاعتقاده أن العلاقات الدينية قد عادت الى ما كانت عليه ولم يدرك أبعاد الخطة التي وضعها الملك تفري للاستغلال الذاتي لكنيسته عن الكنيسة المصرية (166).

=دعوة مصر لحضول حفلة تتويج الامبراطور هيلاسلاسي

في أوائل شهر أبريل سنة 1930 أرسل قنصل مصر في أثيوبيا برقية الى وزارة الخارجية في مصر يخبرها بوفاة الامبراطورة زوديتو والمناداة بالملك تفري امبراطورا على أثيوبيا، فأرسل الملك فؤاد برقية تعزية للملك تفرى، كما أرسل وزير الخارجية بالنيابة برقية تعزية باسم الحكومة المصرية (167). وبعد فترة أرسل وزير الخارجية الأثيوبي إلى زميله المصري برقية يخبره فيها بارتقاء الملك تفري عرش أثيوبيا في الثالث من شهر أبريل ولقب بالامبراطور هيلاسلاسي، وقد بادر وزير الخارجية المصري بارسال تهنئة الحكومة المصرية للامبراطور الجديد وتمنياتها الطيبة لرفاهية أثيوبيا (168). ولما كانت العلاقات طيبة بين البلدين في ذلك الوقت، فقد أرسلت دعوة الى الملك فؤاد والحكومة المصرية لحضور حفلة تتويج الامبراطور هيلاسيلاسي. وقد أناب الملك فؤاد عنه محمد توفيق نسيم باشا رئيس الديوان الملكي في السفر الى أثيوبيا لحضور حفلة التتويج هذه، كما أنابت الحكومة عنها صليب بك سامي المستشار الملكي لقسم القضايا بوزارة الحربية والبحرية (169).

وهكذا فقد تكون وفد مصر منهما ومعهما شريف صبري بك وكيل وزارة الخارجية، وياور الملك عمر فتحي ، وأسندت رياسة هذا الوفد الى محمد توفيق نسيم باشا (170).

ولقد نظر البعض في مصر الى هذه الفترة على أنها علم من الأعلام القائمة في نهضة مصر ونجاحها واعتراف الدول بمقامها ودليلا على استقلالها، وأن زيارة هذا الوفد لأثيوبيا سوف يزيد من العلاقات بين البلدين ويؤكد أن عصرا جديدا قد بدأ، تقام فيه علاقات البلدان الواقعة على نهر النيل على قواعد من الوئام وتبادل الثقة والتعاون على ما فيه المصلحة العامة (171).

ولقد سافر وفد مصر الرسمي في 18 أكتوبر 1930 متوجها الى أثيوبيا (172). حيث كان في استقباله في العاصمة الأثيوبية مندوب من قبل الامبراطور، وبعد أن استقبل رسميا، استقل السيارت المعدة له يرافقه سكرتير خاص أثيوبي خصص لمرافقة الوفد طوال مدة اقامته في أثيوبيا، الى الدار المخصصة لاقامته حيث كان خال الامبراطور في الانتظار على باب الدار، الذي عين مضيفا للوفد مدة اقامته بالعاصمة (173). وبعد ذلك قابل الوفد طيبا (174). وبعد أن حضر الوفد حفلات التتويج، أقام الامبراطور حفلة خاصة له تقديرا منه لمصر وللمصرين (175). كما دعى الوفد المصري لتناول الشاي في القصر الامبراطوري واستقبله الامبراطور والامبراطورة في غرفة خاصة فرشت بالأثاث الذي أهدته اليه الحكومة المصرية بمناسبة التتويج. وكان حديث الامبراطور مع الوفد مشبعا بروح الود والعطف، وأعرب عن تمنيه في نمو العلاقات بين البلدين وتعاونهما معا وأن باب أثيوبيا مفتوح على مصراعيه أمام المصريين ليعاونوا بخبرتهم وأموالهم في نهضة بلاده. وقد أهدت مصر الامبراطور قلادة محمد علي والامبراطورة قلادة الكمال. فضلا عن أثاث غرفة استقبال من الطراز العربي الجميل الرسم الدقيق الصنع. وقد أهدى الامبراطور أعضاء الوفد المصري الأوسمة (176)، وأهدى الدار الذي نزل فيها الوفد المصري الى القنصلية المصرية لكي تتخضها مقرا لها (177)، وبعد أن انتهت مهمة هذا الوفد عاد الى مصر (178).

وتقديرا من الامبراطور هيلاسلاسي، لملك وحكومة وشعب مصر لمشاركتهم في احتفالات تتويجه، أرسل ولي عهده الأمير أصفاوصن الى مصر لكي يقدم شكره وامتنانه (179)، وذلك ضمن جولة يقوم بها ولي العهد في الدول الأجنبية التي شاركت في هذه الاحتفالات (180). وفي نفس الوقت أرسل الامبراطور هيلاسلاسي الى الملك فؤاد برقية بمناسبة زيارة ولي العهد لمصر يوصيه به ويشمله بعطفه وقد أكد الملك فؤاد للامبراطور بأن بولي عهد أثيوبيا سيكون موضع عطفه ورعايته (181).

وبالفعل فقد رحب بالأمير ترحيبا كبيرا من الملك والحكومة والشعب المصري والبرلمان كما أنعم عليه الملك فؤاد هو وحاشيته بالأوسمة المصرية المختلفة. وبعد أن انتهت زيارة ولي العهد لمصر ودع وداعت حافلا لا يقل عما استقبل به (182).

تصفية بنك الحبشة

منذ أن وصل الرأس تفري الى الحكم في سنة 1917 وهو يعمل على تطوير أثيوبيا وتحديثها لذلك فقد كان هو وأتباعه وراء حركة المعارضة التي ظهرت منذ سنة 1882، لاستمرار وجود مؤسسة مصرفية أجنبية تستغل بلادهم وتحقق ربحا كبيرا لصالحها. وقد تزايدت هذه المعارضة خصوصا بعد أن عبر أحد الماليين البلجيكيين من الكونجو عن أمانيه في التعاون في اقامة بنك تملكه الحكومة الأثيوبية (183). وعلى ذلك أرسل الامبراطور هيلاسلاسي بعد أن توفيت الامبراطورة زوديتو وفدا الى القاهرة مكونا من أتوماكونين وهو من كبار مجلس أديس أباب البلدي، لمفاوضة البنك الأهلي المصري الذي يملك "بنك الحبشة" تمهيدا لشرائه (184).

وكانت الحكومة الاثيوبية قد استعدت لشراء بنك الحبشة، بأن فرضت ضريبة فادحة على جميع الواردات ما عدا مواد البناء والماكينات والسيارات والبنزين، ومن حصيلة هذه الضرائب تحصل على الأموال اللازمة لشراء البنك ولادخال نظام ثابت للعملة الذهبية واصلاح نظام النقد في البلاد (185).

وقد نجحت المفاوضات بين مندوبي أثيوبيا والبنك الأهلي المصري، واتفق الطرفان على أن تأخذ أثيوبيا البنك بشروط يراعا مجلس ادارته أنها في مصلحة المساهمين، وعرضت هذه الشروط على جمعية عمومية للمساهمين عقدت في القاهرة في شهر سبتمبر 1930 وذلك لاقرارها (186). وبالفعل فقد وافق أغلب المساهمين، وتنازلت الجمعية العمومية عن الادارة وعن امتيازه وممتلكاته وجميع حقوقه مقابل ما تدفعه الحكومة لها نقدا من الذهب يساوي تلك الممتلكات والمباني والحقوق هذا علاوة على مكافأة مالية لا تقل عن أربعين ألف جنيه. وقد دفعت الحكومة الأثيوبية حتى أواخر سنة 1839 0 125 ألف جنيه ذهبيا والباقي يدفع قبل أواخر العام التالي (187).

وعندما تمت تصفية أعمال البنك القديم، أعلن ذلك في 10 اكتوبر 1931 وكتبت ادارة هذا البنك المصفى الى عملائه بأن يستردوا ودائعهم وأوراقهم منه اذا شاءوا أو يرخصوا بنقلها الى البنك الأهلي الاثيوبي (188). وقد صدر مرسوم في القاهرة بتاريخ 29 أغسطس 1931 بتصفية بنك الحبشة واحلال البنك الأهلي الاثيوبي محله ليقوم بالأعمال التي كان يقوم بها "بنك الحبشة"، وان كان اختلف عنه في أنه أصبح بنكا وطنيا في كل أعماله محافظ بنك الحبشة المصفى نائبا للرئيس، وكان أغلبية مجلس الادارة للأثيوبيين وان استمر الموظفون في البنك المصري يعملون في البنك الجديد، الذي شغل نفس مقاره سواء في أديس أباب أو في فروعه الأخرى في أنحاء أثيوبيا وخارجها. كما أن الحكومة الاثيوبية تملك 60% من رأس ماله وطرح الباقي للاكتتاب العام (189).

على أن تصفية بنك الحبشة وانشاء بنك وطني أثيوبي لا يعني أن العلاقات التجارية قد انتهت بل استمرت ولكنها كانت محدودة جدا، وتحت البحث والدراسة من كلا البلدين لمعرفة امكانية التوسع التجاري بينهما (190). ومع ذلك فقد عقد اتفاق تجاري مؤقت بين البلدين في أواخر شهر ديسمبر 1920. وكان هذا الاتفاق قد اعتمد على خطابين متبادلين بين قنصل مصر في أديس أبابا ووزير الخارجية الأثيوبي. وبموجب هذا الاتفاق تقبل الحكومة المصرية تطبيق معاملة الدولة الأكثر امتيازا على جميع الحاصلات والمصنوعات المنتجة أصلا في أثيوبيا والتي تستورد الى مصر للاستهلاك المحلي فيها أو تصدر منها أو تعبرها الى بلاد أخرى. وتطبق هذه المعادلة بصفة مؤقتة على الوارد من هذه المنتجات الى مصر عن طريق بلاد لم تعقد مع مصر اتفاقات تجارية. وهذه المعاملة تقوم على شرط المعاملة التامة بالمثل مع استثناء المعاملة الخاصة بالحاصلات السودانية والتي قد تطبق على حاصلات البلاد المتاخمة بمقتضى اتفاقات محلية خاصة بها. وقد وافقت الدولتان مصر وأثيوبيا على أحكام هذه الاتفاقية وبدأ العمل بها من 29 ديسمبر سنة 1930 (191).

وبالرغم من ذلك، فقد ظلت الحركة التجارية محدودة بين البلدين، بدليل أن واردات مصر من أثيوبيا لم تكن تقارن بما تصدره مصر اليها، فقد بلغت واردات مصر من أثيوبيا في سنة 1933 (85) جنيها مصريا تقريبا، وتتمثل هذه الواردات في الماشية والدجاج والبن والجلود وغيرها، أما صادرات مصر الى أثيوبيا في نفس العام فكانت 1932 جنيها مصريا، وتتمثل هذه الصادرات في البصل والثوم والصودا الكاوية والأحذية والجلود وخيوط الحرير الطبيعي والمنسوجات الحريرية (192). وعندما اكتمل تبادل التمثيل القنصلي بين البلدين في أواخر سنة 1934 بدأ القنصل الأثيوبي الجديد في مصر يدرس امكانيات تجارية بينهما (193)، على أن هذا القنصل لم يستمر طويلا في منصبه اذ سرعان ما نقل، وحل محله قنصل آخر (194)، ثم تأزمت الأمور بين ايطاليا وأثيوبيا أدت بعد ذلك الى قيام الحرب بينهما واحتلال الأولى للثانية. وبذلك لم تتطور العلاقات التجارية عن ذلك.


مصر ومشروع خزان بحيرة تسانا

شغل مشروع بناء خزان بحيرة تسانا الحكومة المصرية والرأي العام المصري فترة طويلة بلغت أقصاها سنة 1933 عندما عقد مؤتمر في أديس أبابا ضم مصر وأثيوبيا والسودان والشركة الهندسية الأمريكية التي اسند اليها بناء مشروع هذا الخزان. وكانت بريطانيا وراء هذا المشروع التي اهتمت به كثيرا لأمور سياسية بحتة هي الحفاظ على نفوذها ومصالحها في أثيوبيا وحماية منابع النيل الأثيوبية من أطماع الدول فيها.

ولقد ظلت بريطانيا تحرص دائما على أن تظل منابع النيل الاثيوبية في مأمن من وقوعها في أيدي أجنبية قد تكون معادية لها وبالتالي يضر بمركزها في مصر والسودان كما تضر الزراعة وسكان هاتين البلدين (195). لذلك ففي أواخر القرن الماضي وابان التنافس الفرنسي الانجليزي في أعالي النيل، وبالرغم من تحالف ايطاليا مع انجلترا، فان الأخيرة عقدت مع الأولى اتفاقية في سنة 1891 أبدعت بموجبها ايطاليا عن منابع النيل الأثيوبية، وكان كريسبي رئيس الوزراء الايطالي يرغب في ضمها اليه، كما تعهدت ايطاليا بعدم انشاء أي مشروع على نهر العطبرة قد يعدل من تدفق مياهه في النيل. واعترفت كذل بمنطقتين كانت من بينها منابع النيل الأثيوبية على أنهما خاضعتان للنفوذ البريطاني (196).

وتأكد حرص بريطانيا على هذه المنابع في المعاهدة التي وقعت مع الامبراطور منليك في سنة 1902 والتي تعهد فيها بعدم تنفيذ أي مشروع يعوق تدفق المياه منها الى مصر والسودان بدون موافقة بريطانيا وحكومة السودان. وقد تبع ذلك أن أرسلت مصر بعثة متخصصة في أعمال الري والمساحة لدراسة منطقة بحيرة تسانا والنيل الأزرق حتى تؤكد هذا الحق الذي حصلت عليه من منليك أمام الدول الأخرى. وكما استطاعت بريطانيا أن تحصل على اعتراف منليك بحقوق مصر والسودان في هذه المنابع، حصلت أيضا على اعتراف من ايطاليا وفرنسا سنة 1906 بهذه الحقوق بل وبأن منطقة بحيرة تسانا منطقة نفوذ ومصالح بريطانية (197). ويلاحظ هنا أن بريطانيا لم ترسل بعدها بعثة دراسة الى هذه المنابع لأنها كانت قد حصلت على اعتراف دولي منهم وبالتالي لم يكن هناك داعلي لارسال هذه البعثة.

على أن بوفاة منليك سنة 1913 وازدياد النفوذ الألماني في أثيوبيا كان لابد لبريطانيا من تأكيد ما حصلت عليه في سنة 1902 من الحكام الجدد في أثيوبيا وخصوصا عندما استجد عامل آخر هو قيام الحرب العالمية الأولى ودخول بريطانيا في حرب من ألمانيا. لذلك فقد دخلت بريطانيا في مفاوضات مع الحكومة الأثيوبية الجديدة أثمرت عن موافقتها على ارسال بعثة بكلي، واعتبرت بريطانيا أن موافقة أثيوبيا على ممارسة هذه البعثة لأعمالها في منطقة تسانا هو اعتراف ضمني منها لحقوق بريطانيا ومصر والسودان في هذه المنطقة. على أن الاضطرابات الشديدة التي عمت أثيوبيا في هذه الفترة أدى الى عودة البعثة الى مصر بدون أن تتم دراستها (198).ط وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، والتي دخلتها بريطانيا في جانب الحلفاء على أمل أنه في حالة الانتصار، تحصل على بعض مستعمرات ألمانيا في أفريقيا، لم تأخذ ما كانت ترغب فيه واعتبر الحلفاء أن ما حصلت عليه ايطاليا في أوروبا أكثر قيمة مما كانت ترغب في الحصول عليه في أفريقيا وبالتالي أصيبت ايطاليا بخيبة أمل شديدة جعلها تفكر في العمل على ضم أثيوبيا اليها (199). وساعد على ذلك أن بريطانيا رفضت ما عرضته ايطاليا علهيا في نوفمبر سنة 1919 وهو الخاص بأن تؤيد ايطاليا بريطانيا عند حكام أثيوبيا في أن تحصل على امتياز بناء خزان على بحيرة تانا. في مقابل أن تؤيد بريطانيا ايطاليا في أن تحصل على امتياز بناء خط حديدي يربط أريتريا بالصومال الايطالي مارا بغرب اديس أبابا. وعللت بريطانيا عدم موافقتها على اقتراح ايطاليا هذا. بأنها ترفض فكرة الترخيص لدولة أجنبية (ايطاليا) بفرض أي نوع من الرقابة على منابع النيل الأثيوبية اللازمة لرخاء مصر والسودان (200).

وتلى هذا الرفض، أن أرسلت بريطانيا بعثة جرابهام التي أوصت ببناء خزان بحيرة تسانا وعندما وجدت أن الرأس تفري قد لا يعترف بتعهد منليك في معاهدة سنة 1902 ، بدأت تدخل في مفاوضات معه لكي تحصل على تعهد مشابهة لتعهد منليك (201).

من العرض السابق نجد أن بريطانيا لم تكن ترغب في بناء الخزان لأنه خارج عن نفوذها فهو يقع في أثيوبيا وبالتالي فوقوع هذا الخزان في حالة انشائه تحت نفوذ دولة معادية لبريطانيا تنجح في السيطرة على أثيوبيا يهدد النفوذ البريطاني في مصر والسودان (202). والدليل على ذلك أنها نالت تعهد منليك سنة 1902 ثم اعتراف الدول في المعاهدة الثلاثية في سنة 1906 فلماذا لم تبن هذا الخزان في هذه الفترة بالرغم من أن الظروف كانت متاحة لذلك، بل أنها عندما أرادت التوسع في الأراضي الزراعية في سهل الجزيرة بالسودان بنت سد مكوارا (203). واذا كانت بريطانيا لوحت ببناء خزان بحيرة تسانا فقد كان ذلك لهدفين الهدف الأول دولي وهو الحفاظ على هذه المنابع الأثيوبية من الأطماع الايطالية (204) والثاني استخدامه في تهديد الرأي العام المصري والحكومة المصرية لتحقيق أغراضها وتدعيم سيطرتها على مصر والسودان (205).

وبدأت المفاوضات بين بريطانيا وأثيوبيا، حاولت فيها بريطانيا أن تطمئن الحكومة الأثيوبية بأن بناء هذا الخزان لن يكون ماسا باستقلالها لهما الفوائد التي تعود من وراء هذا الخزان وتعهدت بدفع أثمان الأملاك والأبنية والأراضي التي تغمرها مياه الخزان. وقد اقتنعت الحكومة الأثيوبية وأرسلت الى القاهرة في سنة 1921 وفدا للوقوف على مطالب الحكومة الانجليزية والاطلاع على مشروع الخزان (206). وقد طلبت الحكومة البريطانية من الحكومة الأثيوبية استئجار البحيرة لمدة 99 عاما. على أن الحكومة الاثيوبية رفضت ذلك لأنه يعني وضع جزء من أثيوبيا تحت النفوذ البريطاني (207)، وهكذا فشلت هذه الجولة من المفاوضات بين بريطانيا وأثيوبيا.

وانتهزت بريطانيا فرصة زيارة الرأس تفري لها في جولته التي قام بها في سنة 1924، وتفواض معه رئيس وزراء بريطانيا. على أن هذه المفاوضات لم تثمر شيئا في هذا الموضوع (208). وعندما علم الرأي العام المصري بهذه المفاوضات طالبت حكومته بالتصدي لمحاولات بريطانيا هذه وذكروا أن الهدف من انشاء الخزان هو احكام سيطرتها على كل من مصر والسودان وذلك عن طريق السيطرة على مياه النيل الأزرق وتوجيهها الى مشروع الجزيرة (209). كما طالب أيضا بضرورة انشاء تمثيل سياسي مع أثيوبيا حتى تستطيع مصر بواسطته معرفة كل ما يحدث في هذا الموضوع من تطورات (210)، واقترح التنازل عن دير السلطان الذي يطالب به الرأس تفري حق لا ينساق لمطالب بريطانيا في منطقة بحيرة تسانا (211).

على أن الحكومة المصرية لم تفعل شيئا ازاء ذلك بل أنها قدمت استقالتها بعد أن رفضت انذار المندوب السامي البريطاني عقب مقتل السردار وحاكم السودان السير لي ستاك (212).

ولما لم تسفر المفاوضات البريطانية الأثيوبية عن شئ، بالاضافة الى التغيرات السياسية في ايطاليا ووصل الفاشيست الى الحكم فيها وانتهاجهم سياسة جديدة طابعها التوسع والاستعمار بهدف استعادة مجد الامبراطورية الرومانية ولم يكن هناك من مجال لهذا سوى المناطق المجاورة للمستعمرات الايطالية في شرق افريقيا. وكان القناصل الايطاليون قد مهدوا السبيل اذ مسحوا أثيوبيا واتصلوا ببعض زعمائهم لشراء ضمائرهم استعدادا لضمها الى امبراطوريتهم المقترحة (213). كذلك رأت بريطانيا أن التعاطف مع الايطاليين قد يخفض من خطورة تهريب السلاح الى السودان من المستعمرة الايطالية أريتريا (214). لذلك فقد قبلت حكومة المحافظين ما كانت عرضته ايطاليا على بريطانيا في سنة 1919. وتم ذلك في صورة خطابات متبادلة بين السفير البريطاني في روما وموسوليني رئيس الوزراء الايطالي ، اعترف فيه الأخير بحق بريطانيا في أن تحصل على امتياز اقامة خزان على بحيرة تسانا لخدمة الري في مصر والسودان واقامة طريق يصل بين البحيرة وحدود الوسدان. أي أنه يعترف بأن منطقة منابع النيل الأثيوبية منطقة نفوذ بريطانية، وذلك في مقابل أن تحصل الحكومة الايطالية من حكومة أثيوبيا على امتياز اقامة سكة حديد من أريتريا الى الصومال الايطالي. وقد احتج بشدة الرأس تفري، عندما علم بهذا الاتفاق، لدى حكومتي ايطاليا وبريطانيا وعصبة الأمم (215). وبالرغم من أنه لم يترتب شئ على هذا الاتفاق فانه أثار الرأي العام المصري ضد بريطانيا وطالب حكومته بضرورة التصدي لها لوقف محاولاتها هذه في السيطرة على مياه النيل وبالتالي على مصر والسودان وطالب بضرورة انشاء تمثيل سياسي مع أثيوبيا وهو ما تقرر فعلا في أوائل 1927 (216).

على أن بريطانيا – بالرغم من احتجاج أثيوبيا هذا – سعت بمفردها عند الحكومة الأثيوبية لكي تنال اعترافا منها بحق بناء هذا الخزان. ففي مايو سنة 1927 أرسل معتمد بريطانيا في أديس أبابا مذكرة الى الراس تفري أشار فيها الى تعهد منليك في معاهدة سنة 1902 ، وعلى أساسه تطلب بريطانيا الحصول على اذن لبناء الخزان على بحيرة تسانا حتى يمكنها الاستفادة بمياه الخزان في رفاهة شعبي مصر والسودان. وتعهدت الحكومة البريطانية بالحفاظ على الكنائس الموجودة داخل البحيرة وحولها كما أنها ستعوض السكان المحليين - حول البحيرة – عن أي ضرر قد يتسبب لهم بل سيستفيدون أيضا من اتمام هذا العمل كما أن أي حقوق قد تكسبها بريطانيا من الاشراف على الخزان أو النيل الأزرق لن تمس حقوق السيادة الأثيوبية أو استقلالها الذي هو نقطة أساسية في سياسة حكومة بريطانيا (217).

ولذلك فان حكومة بريطانيا تقترح على الحكومة الأثيوبية بناء على تعهد منليك في سنة 1902 ابرام معاهدة جديدة تقو م على أساس أن يسمح بانشاء الخزان على البحيرة، ودخول المهندسين والعمال المهرة وغير المهرة الضرورين لانشاء الخزان والمحافظة عليه. وبعد الانتهاء من بناء الخزان تخفض أعداد هؤلاء الفنيين الى العدد الملائم لتنظيم العمل بالخزان بعد ذلك. ويسمح لهم ببناء المباني الضرورية لاقامتهم. وعلى الحكومة الأثيوبية أن تسهل للحكومة البريطانية الحصول على المواد اللازمة للبناء في الأماكن القريبة من البحيرة، كذلك تسهيل استخدام الأثيوبيين في عملية البناء. كما تسمح الحكومة الأثيوبية أيضا لبريطانيا باستخدام البواخر الصغيرة والقوارب لنقل الأدوات المطلوبة، وانشاء طريق من القلابات الى البحيرة بهدف نقل الأدوات الضرورية للعمل وتكون معفاة من الجمارك والضرائب المحلية. وتتعهد الحكومة البريطانية بالمحافظة على حقوق السكان القاطنين على ضفتي النيل الأزرق على طول مجراه في الأراضي الأثيوبية في استعمال المياه لأغراضهم المدنية وللزراعة الضرورية لأرضهم ولكن لا تبذل أي محاولة لوقف سريان المياه الى النيل الأزرق أو فروعه بأي وسيلة مما يتعارض مع معاهدة سنة 1902 وترتبط بريطانيا بأنه بعد بناء الخزان لا يزيد سطح ماء البحيرة عن أعلى مستوى يسجله وقت الفيضان. وتعطي الضطان الكامل أن لا يحدث ضرر للكنائس، كذلك تعهدت بريطانيا بدفع المبالغ الآتية: 30 ألف جنيه عند اتمام الخزان، وفي حالة عدم اتمامه في مدى ثلاث سنوات بعد التوقيع تدفع عشرة آلاف جنيه سنويا بعد انتهاء هذه النسوات الثلاث حتى تمام العمل. كذلك تدفع 100 ألف جنيه عند اتمام الخزان ايجار قدره 20 ألف جنيه سنويات خلال السنوات الخمس الأولى من بناء الخزان و30 ألف جنيه في الخمس السنوات التالية ثم 40 ألف جنيه لخمس سنوات ثالثة وبعد انتهاء هذه المدد يبحث الموقف من أجل تقدير المخزون في البحيرة. ويتفق على أن مقدار الايجار يعادل الفائدة وحسابها يكون على أساس متوسط الخمس سنوات التالية لابرام الاتفاق ويعمل مثل ذلك كل عشر سنوات (218).

على أن الرأس تفري لم يوافق على المذكرة ولا على المقترحات التي عرضت عليه لابرام معاهدة جديدة مع بريطانيا بشأن هذا الخزان، الا أنه ذكر أنه سيبني خزانا على البحيرة بالأموال الأثيوبية اذا أمكن ذلك. وبعد حجز الماء الذي تحتاجه أثيوبيا لحاجتها فان الحكومة الأثيوبية تؤجر الباقي الى حكومة السودان. وفي حالة تأليف شركة لبناء الخزان، يمكن للشعب البريطاني أن يساهم فيها بقدر ما تسمح به أثيوبيا. ومع ذلك يجب أولا مناقشة الأمر للوصول الى اتفاق يبيح تاليف شركة لمعرفة مبلغ الايجار ومدة سريان الاتفاق وما شابه ذلك. وأشار أيضا الى أنه اذا كانت الحكومة البريطانية راغبة في حل لهذه المسألة فان – الرأس تفري – سيكتب تسويدة للاتفاق يعرضها عليها وذلك في ردها (219).

وبعد ذلك فترة أرسل الرأس تفري مندوبه د. مارتن الى أمريكا للتفاوض مع شركة هندسة أمريكية مركزها مدينة نيويورك بشأن خزان بحيرة تسانا (220). وكان الدافع وراء اختيار شركة أمريكية في أمريكا ليست لها أطماع في أثيوبيا كما أن هذا الاختيار يجنب أثيوبيا من تغلغل النفوذ البريطاني فيها وقد يؤدي بناؤها للخزان هذا الى السيطرة على هذه المنطقة. كذلك فان منح بريطانيا امتياز بناء الخزان، سيجبر الحكومة الأثيوبية الى منح ايطاليا بناء خط حديدي يربط بين إريتريا والصومال الايطالي (221). وكان السبب وراء اختيار شركة هوايت الهندسية الأميريكية انها قدمت أحسن عرض لبناء هذا الخزان لمندوب الرأس تفري ابان وجوده في الولايات المتحدة (222).

وبالرغم من أن رحلة مارتن الى أمريكا كانت للتفاوض فقط مع الشركة الأمريكية وليس الارتباط الذي لن يتم الا بعد أن تعرض نتائج هذه المفاوضات على الرأس تفري وعلى قراره يترتب عليه الارتباط أم لا ، بالرغم من ذلك فقد ثار الرأي العام الانجليزي وهاجم هذه المفاوضات وأثيوبيا وأمريكا التي لامها لوما شديدا ونعتها بالخيانة (223). أما بالنسبة للحكومة البريطانية فقد جاء أرسلت رسالة الى معتمدها في أديس أبابا ليبلغها الى الرأس تفري جاء فيها "وذلك ردا على رسالته التي أرسلها اليها في أواخر سبتمبر 1927 ، لفتت نظره فيها الى ارتباط أثيوبيا بتعهد منليك في سنة 1902 وضرورة الحفاظ على هذا التعهد. وأوضحت له أن السودان لا يحتاج الى مياه خزان بحيرة تسانا لمدة سبع أو ثمان نسوات. أي أنه لن يجد من يشتري منه الماء الباقي بعد أن تأخذ أثيوبيا احتياجاتها منه. أما بالنسبة لاختياره للشركة الأمركية فقد وافقت عليه حفظا لماء وجه الأثيوبيين واعتبرته ذا أهمية ثانوية. ولكنها اشترطت أنه بعد بناء السد يجب أن يكون الاشراف من حق سلطات الري في مصر والسودان، وأن تتعهد الحكومة الأثيوبية باستمرار سريان الماء المعتاد غير كاف. وقد رأت الحكومة البريطانية في اختيار هذه الشركة، وذلك في حالة موافقة الأخيرة على هذين الشرطين، وان التعاون معها قد يسهل كثيرا من اعتراضات الحكومة الاثيوبية أكثر من اختيار شركة بريطانية ذات وجهة أثيوبية (224).

وعندما علمت مصر بمفاوضات د. مارتن مع الشركة الأمريكية المتعلقة بخزان بحيرة تسانا، قامت ضجة كبرى فيها شملت الرأي العام المصري والحكومة المصرية. فقد هاجم الرأي العام المصري هذا المشروع المزمع تنفيذه، وطالب حكومته بالتدخل فورا فوقفه (225). وقال أحد زعماء مصر في ذلك الوقت (مصطفى النحاس باشا) أن هذا الأمر خطيرة فانشاء سد على مخرج بحيرة دون أن تضع مصر شروطه وشروط تصيرف مياهه بصورة يضمن لها حقوقها الثابته فيه عمل يعرض حياتها للخطر وليس في استطاعتها أن تقره أو تسكت عليه. وأبدى دعشته من أن تقدم أثيوبيا على هذا العمل وهي جارة مصر وعلاقاتها بها قوية من فجر التاريخ حتى اليوم الذي هي فيه أقوى مما كانت. فقد ساهمت الحكومة المصرية في حل مشكلة تعيين مطران مصري لكنيستها، كما تقرر انشاء تمثيل سياسي لمصر في أديس أبابا. وظهرت محبة المصريين للأثيوبيين في أسمى معانيها عندما زار الرأس تفري مصر في سنة 1924 ، وطالب في حالة صحة هذا الاتفاق، الحكومة المصرية ألا تغض الطرف عن هذا الأمر لأن فيه مساسا بحقوقها المكتسبة على مياه النيل الأزرق ولا يسوغ انشاء سد عليه من غير اتفاق على الحكومة المصرية للمحافظة على تلك الحقوق (226).

وقد كانت هناك عدة اقتراحات نادى بها الرأي العام المصري، كوسائل مختلفة يمكن أن يأخذ بها لحل هذه المشكلة منها أن تستنجد مصر بالشعب والحكومة الأميريكية مشيرة الى الأخطار التي تهددها من جراء تنفيذ هذا المشروع وتطلب منها ايقافه، والا ضاع موقف أمريكا في نظر الشرق (227). واقتراح آخر يقول أن بريطانيا التي دافعت عن حقوق مصر في مياه النيل منذ القرن الماضي ستدافع عن حقوق مصر مرة أخرى لصيانة مياه النيل الأزرق، ودعا الى التحالف معها والعمل على الانضمام لعصبة الأمم (228). واقتراح ثالث يدعو الى الاتصال بالحكومة الأثيوبية والتفاوض معها رأسا وتدعيم علاقات مصر بها ونبذ أي اتجاه معاد لها في مصر. كذلك فقد نادى بعضهم بالاحتياط من بريطانيا خشية أن تنتهز هذه المسألة وتوهم المصريين بأهميتها لهم ودعا الى الاتفاق مع أمريكا وأثيوبيا بدون تدخل الانجليز في هذا الموضوع (229).

وكما تأثر الرأي العام المصري بهذه المسألة تأثرت الحكومة المصرية أيضا فقد اجتمع مجلس الوزراء في دار أحدهم اجتماعا غير رسمي شرح فيه وزير الأشغال مشروع خزان بحيرة تسانا. وبعد أن بحثوا الموضوع قرروا أن يرسلوا نتيجة بحثهم بقريا الى عبد الخالق ثروت باشا رئيس الوزراء الذي كان في لندن وقتها (230)، وقد ذكروا بأن خبر منح حكومة أثيوبيا امتيازا في بانشاء الخزان على البحيرة الى شركة أمريكية أحدث قلقا شديدا في الرأي العام المصري دعا الحكومة على درء الخطر فاجتمع الوزراء وسمعوا لشرح وزير الأشغال الذي أكد الضرر الذي سيصيب مصر في حالة بناء هذا الخزان، اذ أن ايراد البحيرة في زمن التحاريق يمثل 6% من ايراد النيل الأزرق الذي يمثل 25% من المياه التي تصل مصر في هذه الفترة والباقي من النيل الأبيض. وتعتمد مصر مدة التحاريق على الكمية التي ترد اليها من مياه النيل الأزرق كل الاعتماد بحيث ترى ضرورة زيادتها وأعربوا في نهاية برقيتهم عن مدى خطورة اعطاء امتياز مشروع خزان تسانا بدون أن يكون لمصر في هذا العمل وبدون أن تحقق لها الرقابة الكاملة عليه (231). كما أرسل مجلس الوزراء برقية الى وزير مصر المفوض في واشنطن يطلبون منه اخبارهم بآخر تطورات هذا الموضوع أولا بأول (232).

ولم يهتم كثيرا عبد الخالق ثروت رئيس الوزراء بهذه البرقية لأنه بالتأكيد علم بالتعليمات التي أرسلتها وزارة الخارجية البريطانية الى معتمدها في أثيوبيا ليبلغها الى الرأس تفري والتي سبق أن ذكرت من قبل. وأكد ارتباط مصر ببريطانيا في هذا الموضوع، وتؤيدها في كل ما تقوم به من اجراءات تتعلق به (233). كذلك بدأ الرأي العام المصري يهدأ عندما صرح د. مارتن مندوب الرأس تفري في بيان نشرته الصحف المصرية وقتها، نفى فيه ما أشيع كذبا عن هذا الاتفاق المزعوم، وأكد أن أثيوبيا صديقة لمصر ولا يمكن أن تضرها وأنها تعمل كل ما في وسعها لخير مصر (234).

ومع ذلك فقد استمرت المفاوضات سرا بين بريطانيا وأثيوبيا وشركة هوايت الهندسية الأمريكية التي وافقت عليها انجلترا وتعاونت معها (235). ومع أن مصر لم تشترك في هذه المفاوضات فان قنصلها في أديس ابابا كان يخبرها بكل تطورات الموقف في العاصمة الأثيوبية (236). وقد انتهت هذه المفاوضات الى عقد مؤتمر يحضره مندوب كل من السودان وأثيوبيا والشركة الأمريكية للتفاوض في شأن الخزان (237). وعندما علمت مصر عن طريق قنصلها بعقد هذا المؤتمر طلبت من المندوب السامي البريطاني الاشتراك فيه الا أنه رفض. وأبلغها بأن بريطانيا سوف تتشاور معها في أي اتفاق قد يحدث بشأن الخزان أو تقسيم المياه الذي سيخزن فيه أو تكاليف العمل أو الايجار الواجب دفعه لأثيوبيا (238).

وتم عقد المؤتمر في أوائل سنة 1930 وحضره مندوب السودان مستر ماكجريجور مستشار الري بها، مستر لاردنر نائب رئيس شركة هوايت الهندسية الأمريكية، ووزير الخارجية الأثيوبية بلاتن جيتا هيروي، وقد ووفق في المؤتمر على بناء طريق يصل بين أديس ابابا والبحيرة بدلا من الطريق الذي يربط السودان بالبحيرة. وعندما أراد المؤتمر البحث في المسائل الفنية والمالية المتعلقة ببناء الخزان والطريق لم يجد في تقرير بعثة جرابهام البيانات اللازمة للاستعانة بها في بحثه هذا، وعلى ذلك قرر أن تنتدب الشركة الأميريكية لجنة من مهندسيها لتحضير هذه البيانات وبعد أن تنتهي منها، ويبدأ المؤتمر من جديد في عقد جلساته أي بعد عام تقريبا (1931) (239)، وقد دفعت حكومة السودان تكاليف هذه اللجنة المكلفة بتحضير البيانات اللازمة لبناء الخزان والطريق (240).

وقد قدمت اللجنة تقريرها بعد أن انتهت منه، وكان من المفروض أن يعقد المؤتمر مرة أخرى لدراسة هذا التقرير واتخاذ القرار في مصير الخزان، الا أن بريطانيا طلبت تأجيهل الى مارس 1932 وكان السبب في هذا التأجيل التكاليف الباهظة التي قدرتها اللجنة لبناء الخزان والطريق المقترح من أديس أبابا الى البحيرة. ولما كان السودان لا يستطيع أن يعينهم بشئ في أية مصاريف اضافية يتطلبها المسح الجديد للمنطقة والتي أوصت به الشركة الهندسية بسبب الظروف المالية التي سادت العالم في هذا الوقت. فان بريطانيا فاتحت الحكومة المصرية في اشتراكها في المفاوضات مقابل مساهمتها في تنفيذ هذا المشروع. وقد وافقت الحكومة المصرية على التمويل والاشتراك في المؤتمر (241).

واستغلت بريطانيا موافقة مصر على الاشتراك في المؤتمر وطلبت تأجيله الى شتاء عام 1933 وذلك لدعوة مصر الى حضوره ومنحها الفرصة لكي تنتهي من أبحاثها واحتياجاتها المالية، وبالفعل وجهت أثيوبيا الى مصر الدعوة لحضور المؤتمر الذي حدد له شهر فبراير عام 1933 (243).

وبمجرد أن علم الرأي العام المصري بعودة هذا المشروع مرة أخرى حتى ثار وشن هجوما شديدا على المشروع (244)، على أن هذا الهجوم لم يثن الحكومة المصرية عن اختيار من يمثلها في حضور المؤتمر وقد اختير عبد المجيد عمر مدير الخزانات بوازرة الأشغال (245). وبدأ وضع الخطة المشتركة بين مصر والسودان التي ستتبع في المؤتمر وكانت تتمثل في وضع العراقيل التي تؤدي الى تأجيل هذا المؤتمر مرة أخرى ، وعلى ذلك سافر المندوبان – مصر والسودان – الى المؤتمر واتفق فيه على ان تدفع مصر نفقات المسح الاضافي الذي عن طريقه تخفض التكاليف الكلية للمشروع وهذه النفقات تقدر بحوالي 50.000 جنيه مصري (247). وقد دفعت الحكومة المصرية هذا المبلغ بالرغم من المعارضة الشديدة التي وجدتها من البرلمان والرأي العام المصري (248).

وبالرغم من انتهاء الشركة من المسح الاضافي وتقديمها للتقرير فان هذا المؤتمر لم ينعقد مرة أخرى وظلت الحكومة البريطانية تؤجل فيه حتى لا تتخذ القرار ببنائه وذلك حتى سنة 1935 عندما استغلت بريطانيا تدهور الموقف بين ايطاليا وأثيوبيا وأجلت المؤتمر بحجة أن ايطاليا قد تعتبره تأييدا من بريطانيا ومصر لاثيوبيا ضدها (249). وهكذا يتضح من العرض السابق أن بريطانيا اتبعت كل الوسائل لتأجيله وان كانت في نفس الوقت لم تظهر هذه الرغبة بل أظهرت اهتمام به حتى تحافظ على مصالحها ونفوذها في مصر والسودان وأثيوبيا وتحمي منابع النيل الأثيوبية من الأطماع الدولية.


موقف مصر من تدهور العلاقات الايطالية الأثيوبية

بالرغم من هزيمة الايطاليين من الأثيوبيين في موقعة عدوة سنة 1896 ، فان ايطاليا ظلت ترنو ببصرها الى احتلال أثيوبيا ، وزادت رغبتها هذه عندما وصل الفاشيست الى الحكم في ايطاليا. وبدت النذر الأولى لهذا الاحتلال في حادثة بئر وال وال، وتتلخص في أن البعثة الايطالية الأثيوبية لتعيين الحدود بين منطقة الأوجادين والصومال البريطاني، بعد أن انتهت مهمتها وأخذت طريقها في العودة نحو هرر للوصول الى ديرداوا لركوب القطار الى أديس أبابا وعند منطقة بئر وال وال ، وتقع على بعد 60 ميلا من الحدود الأثيوبية والصومال الايطالي وداخل أثيوبيا، شاهدت كتيبة ايطالية معسكرة فأمرها رئيس الفرقة الأثيوبية المرافقة للبعثة، بالرحيل عن الأراضي الأثيوبية، وسرعان ما اصطدمت القوتان، وبالرغم من أن هذه المسألة كان يمكن حلها وديان فان ايطاليا رفضت، وفشلت جميع المحاولات لوقف تدهور العلاقات بين البلدين مما أدى في النهاية الى قيام الحرب بينهما، اذ أن ايطاليا انتظرت حتى ينتهي موسم الأمطار في اكتوبر 935 وبدأت حربها في الثاني من هذا الشهر (250).

وكانت بريطانيا بالرغم من أنها لم تتردد في تسوية الأمر سلميا بين ايطاليا وأثيوبيا، تقف في وجه الأطماع الايطالية وتساند أثيوبيا (251). وازاء هذه المحاولات السلمية وارتباط مصر الوثيق بايطاليا وأثيوبيا، كذلك تأثرها في سياستها الخارجية بالسياسة البريطانية، اتبتعت الحكومة المصرية سياسة الحياد بين الدولتين في صراعها هذا. أما الرأي العام المصري فقد كان منحازا بالكامل وبجميع فئاته وطوائفه مع أثيوبيا. على أن ذلك لا يمنع أن مصر حكومة وشعبا تابعت تطورات الموقف بين البلدين وما قد ينعكس على بحيرة تسانا أو العلاقات التاريخية والديني بين مصر وأثيوبيا والعلاقات الودية بينها وبين ايطاليا.

وقد بدأت تأييد الرأي العام المصري لأثيوبيا مباشرة بعد حادثة بئر وال وال ومجئ القنصل الأثيوبي لى مصر، فتجددت الدعوة بضرورة تدعيم العلاقات المصرية الاثيوبية في جميع مجالاتها السياسية والتجارية والثقافية والدينية، وتأييدها ضد ايطاليا المعتدية (252). وكان هناك أسباب عدة دعت الرأي العام المصري للتعاطف مع أثيوبيا، منها أن المصريين اعتبروا تهديد ايطاليا لأثيوبيا تهديدا لهم ولأمنهم، اذ كانت ايطاليا تحتل ليبيا الواقعة على حدود مصر الغربية، وكان معنى احتلالها لأثيوبيا، أنها احتلت أيضا الحدود الجنوبية الشرقية، ومعنى ذلك أنه يسهل على ايطاليا أن تحقق هدفها وهو احتلال مصر والسودان عن طريق أثيوبيا وليبيا (253).

كذلك كانت أثيوبيا دولة افريقية مجاورة لمصر، وترتبط معها من قديم الزمن بروابط تاريخية وطبيعية اذ أن نهر النيل يربطها ويرتبط مفهوم الجار في الثقافة المصرية العربية الاسلامية بوجوب نجداته وحسن معاملته واقامة علاقات طيبة معه طبقا لتعليم الأديان السماوية (254). وبالاضافة الى ذلك فقد كان لعامل الدين الأثر الكبير في التعاطف المصري تجاه المشكلة الأثيوبية، فالمصريون يدينون بالاسلام والمسيحية وكذلك الأثيوبيين، أي أن هناك ما سماه البعض بصلة القربى بين شعبي مصر وأثيوبيا، لذلك تعاطف المصريون مع الأثيوبيين عندما شعروا بأن دولة أفريقية مستقلة سوف يضيع استقلالها على يد دولة أوروبية شبيهة تماما بالدولة التي تحتل بلادهم (255).

وكان معنى احتلال ايطاليا لأثيوبيا أن منابع النيل الأثيوبية قد سقطعت في أيدي الايطاليين وأن كل الضمانات التي حصلت عليها مصر وبريطانيا من الحكومة الأثيوبية، لترك مياه هذه المناعب لمصر والسودان قد زالت فاعليتها وان المشاريع الايطالية التي كان المصريون يعلمون بها منذ زمن بعيد والمتعلقة ببحيرة تسانا، سوف تنفذ بمجرد سقوط أثيوبيا في أيديهم، وبالتالي تحرم مصر من هذه المياه وفيضانها مما قد يسبب لها متاعب اقتصادية خطيرة (256).

لذلك فقد أظهر الشعب المصري تعاطفه مع أثيوبيا منذ أن عرف التصادم الايطالي الأثيوبي وظل يتابع أخبار تدهور العلاقات بين البلدين، اذ أن وسائل الاعلام في ذلك الوقت كانت تهتم بهذه الأخبار وراح الشعب يعلق عليها ويحللها ويظهر مدى عطفه على أثيوبيا وعلى ضرورة الوقوف بجانها ازاء الطغيان الايطالي (257).

وقدبدأ المصريون يعبرون عن تأييدهم لأثيوبيا، اذ كتب أحدهم في احدى الصحف الانجليزية مقالة في موضوع هذا النزاع لفت فيها أنظار الجمهور البريطاني الى أن المصالح البريطانية تقضي على بريطانيا بتأييد أثيوبيا ضد ايطاليا نظرا الى احتمال بناء خزان يحول مياه النيل الأزرق عن السودان ومصر اذا ما احتلت ايطاليا أثيوبيا (258). وأشارت الصحف المصرية الى المصالح المشتركة بين مصر وبريطانيا في بحيرة تسانا ومدى خطورة التهديد الايطالي على هذه المصالح، وحثت بريطانيا على التحرك وتأييد أثيوبيا حتى تحافظ على نفوذها في أملاكها المجاورة لأثيوبيا، وأشارت الى انه من البديهيات أن لمصر مصلحة جوهرية في تتبع أدوار هذا النزاع عن قرب لكي تكون مستعدة للاحتفاظ بحقوقها وصيانتها لئلا يتطور النزاع تطورا ينذر بالخطر (259). ولقد ناشد الرأي العام المصري البطريرك بأن يتدخل في هذا الصراع الايطالي الأثيوبي بما له من نفوذ روحي حتى يجنب أثيوبيا الصديقة شر الحرب ويأمنها ويحفظ السلام بينها وبين ايطاليا (260).

ولقد احتج الرأي العام المصري على حكومته عندما وقعت مع ايطاليا اتفاقا جويا مؤقتا يتجدد كل ستة شهور، ويبدأ العمل به في شهر يناير 1935، ويسمح بمقتضاه بتحليق الطائرات الايطالية في جو مصر والنزول في مطاراتها وهي في طريقها الى المستعمرات الايطالية في شرق أفريقيا. وطالب بالغاء هذا الاتفاق. ومنع مرور الطائرات الايطالية ايا كانت عبر مصر الى اريتريا والصومال الايطالي (261).

كما احتج الرأي العام المصري أيضا على حكومته عندما وافقت على ترحيل العمال المصريين الذين استأجرتهم الحكومة الايطالية عن طريق أحد المقاولين المصريين في مصر وذلك للعمل في مستعمراتها في شرق أفريقيا في بناء المنشآت العسكرية فيها، لاستخدامها في الحرب ضد أثيوبيا. وقد نجح الرأي العام في أن يجبر الحكومة المصرية على أن تلغي جوازات سفر هؤلاء العمال وتمنع ترحيلهم الى أريتريا والصومال الايطالي. ومما ساعد على ذلك أيضا أن مفاوضات الصلح بين ايطاليا وأثيوبيا قد فشلت، وأصبح من المتوقع قيام الحرب بين الدولتين، وفي هذا ما يتعارض مع سياسة الحياد التي اتبعتها الحكومة المصرية ازاء هذا الصراع الايطالي الأثيوبي (262). ولقد أخذت قرار منع سفر العمال المصريين الى اريتريا والصومال الايطالي تأثيرا حسنا عند المسئولين الأثيوبيين (263). وقد استغلت الحكومة الأثيوبية رغبة الحكومة الايطالية في استئجار هؤلاء العمال المصريين لصالحها، اذ قدمت مذكرة جديدة الى عصبة الأمم عرضت فيها طلبها الخاص ببحث النزاع بينها وبين ايطاليا في اجتماع العصبة التالي غير العادي الذي يعقد في 15 أبريل 1935. واستندت أثيوبيا في مذكرتها هذه الى أن قرار ايطاليا بتجنيد فرقة من العمال المصريين لانشاء طرق حربية في مستعمراتها، يدخل ضمن تعريف الاستعدادات العسكرية ومن المحتمل أن يزيد من خطورة النزاع الحالي بينها وبين ايطاليا (264).

ويلاحظ أنه في الوقت الذي نجح فيه الرأي العام المصري في احباط عملية ترحيل العمال المصريين الى اريتريا والصومال الايطالي، أم لم تنجح في الغاء الاتفاقية المصرية الايطالية المتعلقة بمرور طائرات ايطاليا في الأجواء المصرية والنزول في مطاراتها، وذلك لأ،ها كانت مرتبطة ببريطانيا التي وقعت مع الحكومة الايطالية اتفاقا شبيها بذلك وهو أن تعبر الطائرات الايطالية أجواء ممتلكات بريطانيا الأفريقية وتستخدم الخطوم والمطارات البريطانية في أفريقيا وهي في طريقها الى أريتريا والصومال الايطالي (265).

ولم يقتصر احتجاج الرأي العام المصري على حكومته على هاتين المسألتين، بل احتج أيضا على التسهيلات التي قدمتها الحكومة المصرية في تخفيض أجور السفر في السكك الحديدية وذلك لنقل العمال الايطاليين من مدينة الاسكندرية الى السويس. وكذلك سماحها بتأخير عربات النقل في هذه السكك الحديدية لنقل المؤن والذخائر الحربية الى السويس تمهيدا لنقلها الى إريتريا حيث تجرى الاستعدادات الحربية لغزو أثيوبيا (266).

ويبدو أنه نتيجة لمنع العمال المصريين من السفر الى إريتريا والتأييد القوي الذي أبداه الرأي العام المصري على وسائل الاعلام المصرية، لأثيوبيا في صراعها مع ايطاليا (267)، أن اعتقدت الأخيرة أن مصر قد لا تقف على الحياد كما اعلنت، وذلك في حالة نشوب الحرب بين ايطاليا وأثيوبيا. لذلك خاطب الوزير الايطالي المفوض في مصر رئيس الوزراء المصري، بناء على توجيهات الحكومة الايطالية بشأن هذا الموضوع. وكانت هناك شائعة تقول ان ايطاليا قد تلغي مفوضيتها في مصر اذا لم تحتفظ الأخيرة بالحياد الدقيق بين الدولتين المتحاربتين. ولقد أوضحت الحكومة المصرية موقفها وهو الحياد التام بينهما (268).

ومع استمرار حياد الحكومة المصرية، استمر أيضا انحياز الرأي العام المصري بكل فئاته وعناصره لأثيوبيا سواء داخل مصر أو خارجها. فقد حاول بعض الأقباط التوسط لدى حكومة ايطاليا لحل نزاعها سلميا مع أثيوبيا، الا أن ذلك المسعى لم ينتج عنه شئ (269). والى لندن وصل عثمان محرم باشا أحد الوزراء السابقين في مصر، واجتمع مع بعض المصريين المقيمين في العاصمة البريطانية وتباحثوا في النزاع الايطالي الأثيوبي، وبعد ذلك قرروا أن يدعو الفريقين الى صون السلام وتحكيم التسامح في حل ما بينهما من أسباب الخلاف، كما يدعون الحكومة الصمرية الى التأهب للمحافظة على حقوق مصر في منابع النيل الأثيوبية (270).

عندما وصل د. مارتن وزير أثيوبيا المفوض الجديد في لندن اليها، احتفل بتكريمه مجموعة من النواب البرلمانيين الانجليز وذلك باقامة مأدبة عشاء في دار مجلس العموم البريطاني دعي اليها كبار المصريين الموجودين في العاصمة البريطانية وممثلوا الصحافة المصرية كذلك (271). وكما ضمن كمبار المصريين عثمان محرم وزير الأشغال المصري وحمد الباسل وأحد رجال الدين الأقباط. وقد ألقيت الخطب من النواب البريطانين والوزير المفوض الأثيوبي والمصريين المدعوين في المأدبة، فألقى عثمان محرم خطبة أعرب فيها عن مشاعره كمسلم في الصراع بين ايطاليا وأثيوبيا وكيف أن العلاقات بين مصر وأثيوبيا علاقات عريقة وأن المسلمين الأثيوبيين كسائر مسلمي العالم يعدون مصر مركز رئاستها الدينية يتلقون منها الارشاد والعطف، وكذلك المسيحيون الأُثيوبيون الذين يعتبرون البطريرك المصري رئيسهم الديني الأعلى (272).

وأشار الى ترحيب امبراطور أثيوبيا بالمهاجرين المسلمين الذين فروا بدينهم من اضطهاد كفار قريش في أول عهد النبوة وأن المسلمين في العالم اليوم يذكرون ذلك بالشكر والامتنان لأثيوبيا.بالاضافة الى ذلك فان منابع النيل الأثيوبية، تدفع المصريين الى ضرورة الاهتمام بالمسائل الاثيوبية، لأن الأثيوبيين لم يفكروا منذ جر التاريخ في التدخل في سير هذه المنابع لهذا فان المصريين يعطفون على أثيوبيا وشعبها ويرحبون بشهامة بريطانيا وما تبذله لمساعدة أمة ضعيفة لا تؤذي أحد (273).

ولقد دخل الرأي العام المصري مرحلة جديدة في تأييده لاثيوبيا. بعد فشل المحاولات السلمية التي كانت تبذل لتصفية النزاع الايطالي الأثيوبي. وبدأت هذه المرحلة بنداء عام الى الأمة المصرية، أشير فيه الى أن الحرب قادمة لا ريب فيها بين ايطاليا وأثيوبيا فقد فشلت المساعي السلمية لانهاء الخلاف وان احتلال الأولى للثانية هو في الحقيقة قاتل لمصر لأن معناه ضياع منابع النيل الأثيوبية. دعا النداء المصريين الى مد يد العون لاخوانهم الأثيوبيين ماديا وأدبيا في مصر لجمع التبرعات (274)، كما وجهت دعوة الى جمعية الهلال الأحمر أن تتأهب للمساعدة اذا اقتضت الظروف. والى المجلس الملي العام ليظهر اهتمامه في هذا الأمر، والى كل الهيئات والأفراد من الشعب المصري مسلمين وأقباط على السواء الى التقدم لنجدة أثيوبيا. وفي عملهم هذا دليل حي على كراهيتهم للاستعباد ونفورهم من سياسة الاستعمار وأساليب المستعمرين (275).

ولقد استجاب الرأي العامل المصري سريعا لهذه الدعوات والنداءات التي وجهتها له وسائل الاعلام في مصر، اذ سرعان ما توالت على ادارات هذه الصحف الرسائل الكثيرة من كل مكان تطلب التطوع في الجيش الأثيوبي (276). كما أعلن فريق من الضباط المصريين المتقاعدين رغبتهم في السفر الى أثيوبيا للانضمام الى جيشها لمساعدته في الحرب المحتملة مع ايطاليا (277)، كما اجتمع الدكتور عبد الحميد سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين بمجموعة من كبار رجال الجمعية لدراسة مشكلة أثيوبيا واتخاذ الوسائل المؤيدة للأثيوبيين في صراعهم مع ايطاليا، وتألفت لجنة تحضيرية مؤقتة برياسة رئيس الجمعية، واتفق على أن يعقد اجتماع آخر في أول شهر أغسطس 1935 في منزل رئيس الجمعية، وان توجه الدعوة الى 250 شخصا من كبار رجال الدولة في مصر من المسلمين والأقباط وفي مقدمتهم الأمراء ورجال الدين والوزراء السابقين ورجال الصحافة واعضاء الهيئات الدينية لحضور هذا الاجتماع (278).

وقد تلقت الجمعية التحضيرية المؤقتة العديد من الرسائل من ضباط ومهندسين وصناع مصريين وغير مصريين يطلبون التطوع في الحرب. وقد أعدت اللجنة جداول نظمت فيها هذه الطلبات وذكرت أمام كل طلب المعلومات التي وصلت اليها عن صاحبه والعمل الذي يمكنه تأديته، وكان صاحب الفضيلة الأستاذ السيد محمد الغنيمي التفتازاني قد دعا الى اجتماع آخر لاعلان العطف على أثيوبيا وتأليف لجنة الدفاع عن قضيتها. فلما علم بالاجتماع الذي دعا اليه عبد الحميد سعيد وعد بأن يعرض على الذين دعاهم، الانضمام الى المدعوين في هذا الاجتماع تنظيما للجهود وتعاونا مع الأيدي العاملة (279).

وكان اجتماع أول اغسطس عبارة عن مظاهرة ضخمة لتأييد قضية أثيوبيا اذ حضره عدد كبير من المصريين، وأشير في كلمة افتتاح الاجتماع الى الروابط الدينية والسياسية بين مصر وأثيوبيا والآثار المترتبة على احتلال أثيوبيا من الايطاليين على مصر التي هي هدف ايطاليا، وانه على المصريين أن يثبتوا للعالم بأن مصر ما زالت حية تدافع عن جارتها من غير ضعف أو تعاون. ويجب عليها أن تكون خصما ثالثا، وعلى الحكومة المصرية أن تستعد بالدفاع عن البلاد وتمنع كل تسهيل يقدم لايطاليا سواء في بيع الماكينات والدواب والمحاصيل، وعدم التصريح لطائراتها بالمرور في أجواء مصر، واغلاق قناة السويس أمام السفن الايطالية، وان على هذا الاجتماع أن يعد ما يستطيع من اعداده وما يلزم لهذه الحرب من المعاونة بارسال بعثات الهلال الأحمر ومساعدة كل من يريد التطوع. حتى اذا ما احتاجت اثيوبيا لنا نكون مستعدين لتلبية ندائها. وقد تعهد الأمير اسماعيل داود بأن يكون أول متطوع مصري. وقررت اللجنة التحضيرية طبع عدة نداءات لمساعدة أثيوبيا وبث الدعاية لها والعمل على ايقاظ الشعور العام لمعاونة أثيوبيا (280).

وفي هذا الاجتماع تألفت لجنة رئيسية تحت رياسة الأمير اسماعيل داود، لمراقبة الموقف الايطالي الأثيوبي، وأعضاؤها من كبار المسلمين والأقباط في مصر وأسندت سكرتاريتها الى الأستاذ المليجي، وتقرر منح هذه اللجنة حق ضم من تختاره الى عضويتها برعاية الأمير عمر طوسون فوافق المجتمعون على ذلك. وقد سميت لجنة الدفاع عن قضية الحبشة.

وقد قررت هذه اللجنة مراقبة الموقف السياسي بين ايطاليا وأثيوبيا والاستمرار في بث الدعوة لمصلحة القضية الأثيوبية والاتصال بالسلطات الأثيوبية للوقوف على حقيقة الحال أولا بأول. كذلك الاتصال بالهيئات العامة في البلاد العربية والاسلامية. وبالاضافة الى ذلك قررت استنكار السياسة التي تجري ايطاليا نحو أثيوبيا. ووضعت صيغة هذا الاستنكار وأبلغت به عصبة الأمم والهيئات السياسية في مصر والخارج.

وقد ذكر فيه أن كبار المسلمين والأقباط في مصر المجتمعين الآن والممثلين لعواطف الشعب المصري تمثيلا صادقا يستنكرون خطة الاعتداء الاستعماري الايطالي مع أثيوبيا وتصر عليها رغم ما تجده من معارضة الشعوب المتمدنة في الشرق والغرب، وأن تماديها في ذلك من شأنه أن يبعث في نفس الشعوب عدم الاعتماد على العصبة (281).

وكما استجاب رئيس جمعية الشبان المسلمين لهذه النداءات والدعوات فقد لبى أيضا المجلس العام، واجتمع برياسة البطريرك وحضور الأساقفة ومدير الدار البطريركية ووكيلها وغيرهم من أعضاء المجتمع الاكليريكي المقدس للنظر فيما يستطاع عمله لمساعدة أثيوبيا مساعدة سلمية مشروعة نظرا لموقف مصر الدقيق. وقد استقر رأي المجتمعين على تكوين بعثة طبية تعمل في الميدان الأثيوبي كجمعيات الصليب الأحمر. ومدها بالمساعدات المالية اللازمة لها. وتأليف لجنة لذلك من بعض الأساقفة وأعضاء المجلس المالي العام. كذلك تقرر أن يوجه البطريرك نداء الى عصب الأمم لمصلحة السلام العام، وأيضا في حالة الفشل التام لمساعي السلام تكون هذه اللجنة عامة يشترك فيها جميع المصريين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم (282).

وقد اختارت اللجنة التي شكلها البطريرك الأمير عمر طوسون راعيا لها وقد وافق الأمير على ذلك (283). وبالفعل أرسل البطريرك نداءه الى عصبة الأمم يحثها فيه على أن تصل الى حل سلمي للخلاف الايطالي الأثيوبي (284)، كما وجه نداء الى وزراء الدول المفوضين طالبا منهم السعي لدى دولهم لمضاعفة الجهود لحل هذا النزاع بين ايطاليا وأثيوبيا (285). ولقد أثار هذا التطور الخطير في الرأي العام المصري ومجاهرته بعطفه على أثيوبيا، قلقا شديدا لدى موسوليني رئيس الوزراء الايطالي. وكان الايطاليون في مصر حتى هذه اللحظة وعلى رأسهم وزير ايطاليا المفوض حريصين على موقف الحكمة وكل ما أظهروه من نشاط هو انشاؤهم وكالة أنباء تفيض بالدعاية لهم على الصحف المصرية المحلية. على أن ازدياد العطف المصري على أثيوبيا دفع بموسوليني الى عزل وزير ايطاليا المفوض في القاهرة وتعيين آخر بدلا منه لكي يدعم الدعاية الايطالية في محاولة لصد تيار العطف المصري على أثيوبيا، الا أن هذا لم يأت بنتيجة فقد ازدادت حركة التطوع بين أفراد الشعب المصري بل ومن رعايا بلاد أخرى يقطنون مصر للانضمام في صفوف الأثيوبيين في حربهم المنتظرة مع الايطاليين (286).

وفي مدينة الاسكندرية عقد اجتماع كبير لتأييد السلام في نادي موظفي الاسكندرية في هذه المدينة، وألقيت الخطب المؤيدة لأثيوبيا، وحاول أحد محرري الصحف الايطالية الاعتراض عليها. الا أنه أوقف من المجتمعين، الذين وافقوا على ارسال برقية الى سكرتارية عصبة الأمم، أعربوا فيها عن رغبتهم في المحافظة على السلم العام ودعوا ايطاليا وأثيوبيا الى الامتناع عن كل حركمة من شأنها اثارة الحرب. وقد عرض على وزير المالية المصري الاشتراك في هذا الاجتماع الا أنه رفض خوفا من أن يؤول هذا بأن الحكومة المصرية خرجت عن حيادها باشتراك أحد أعضائها في هذا الاجتماع (287).

وشاركت سيدات مصر في مظاهرة التأييد لأثيوبيا التي انتابت مصر كلها في ذلك الوقت فأذاع الاتحاد النسائي المصري برياسة السيدة هدى شعراوي نداء موجها الى الشعب الايطالي تحدثت عن اصرار ايطاليا على الاعتداء الشعب الأثيوبي غير مكترثة بمساعي الصلح التي تسعى فيها الدول العظمى وعصبة الأمم، مع ماتبديه أثيوبيا من الرغبة في السلام، كذلك أشار النداء الى أن نداء مصر لا يسعهم رغم ما يربط مصر بايطاليا من روابط الصداقة أن يقفن غير مكترثات أمام هذا الانتهاك الجديد لحق شعب حر يريد الحياة في سلام، ثم ناشد النداء الشعب الايطالي أن يلزم حكومته بعد اتفاق ودي مع أثيوبيا (288).

ولقد استقبل الأثيوبيون عطف وتأييد المصريين لهم وتطوعهم في القتال بجانبهم ضد ايطاليا، بالحماسة والشكر، اذ قامت في أديس أبابا مظاهرات وطنية كبيرة تعالى فيها الهتاف لمصر ومليكها وللأميرين عمر طوسون واسماعيل داود ولجمعية الشبان المسلمين المصرية (289). وأرسل الامبراطور هيلاسيلاسي الى الأمير عمر طوسون برقية شكر وتقدير لعطفه ومجهوده نحوه ونحو أثيوبيا (290). وقد زار قنصل أثيوبيا في مصر جمعية الشبان المسلمين، فاستقبله رئيسها عبد الحميد سعيد، حيث قدم شكر الامبراطور هيلاسيلاسي على ما أبداه المصريين من شعور طيب نحو بلاده وقال ان مولاه وحكومة أثيوبيا يشكران المصريين عامة والمسلمين خاصة على عواطفهم نحو أثيوبيا وأنهما يقدران المصريين هذا الجميل وستذكره أثيوبيا ما دام لها وجود، كما زار القنصل الأثيوبي الأمير اسماعيل داود وأبلغه شكر الامبراطور على ما يقوم به وأعضاء لجنة الدفاع عن قضية الحبشة من الخدمات لقضيتها. كذلك زار القنصل الاثيوبي الدار البطريركية وأبلغ المسئولين فيها شكر بلاده على العطف الذي أبدته الدار البطريركية على قضيتها (291).

ولقد انتشرت فروع لجنة الدفاع عن قضية الحبشة في جميع أنحاء القطر المصري. وفي القاهرة، فقد أصبح في كل حي فرع لهذه اللجنة وسارع أفراد الشعب المصري بجميع فئاته في الانضمام اليها (292). وقد وافقت لجنة الدفاع عن قضية الحبشة على اعتماد هذه الفروع وقررت تأليف لجنة للدعاية والنشر. وكانت الصحف المصرية تنشر بانتظام أخبار وقرارات اجتماع هذه اللجنة وقوائم المتطوعين ثم بعد ذلك القوائم الكاملة لأسماء المتبرعين وقيمة تبرعاتهم (293).

ويبدو أن هذا العطف والتأييد الجارف من المصريين لأثيوبيا في نزاعها مع ايطاليا، بالاضافة الى خطب موسوليني التي خرج فيها عن كل حدود مقدرته ومقدرة بلاده، ولدت في نفوس بعض الايطاليين القاطنيين في مصر شعورا يحالف شعور الانسانية. فتصوروا انهم فوق البشر وأخذوا يندفعون في النيل من شعور المصريين والاعتداء عليهم. ولقد بلغهم حالة العنف هذه عند هؤلاء الايطاليين أقصاها في مدينة بورسعيد عندما زاد حماسهم في أفريقيا الشرقية وفي هتافهم مسوا شعور المصريين مسا عنيفا ولم يكتفوا بذلك بل اعتدوا على أحد الشبان المصريين عندما احتج البوليس وأنهاها. على أن مظاهرات الايطاليين استمرت في المدينة الى وقت متأخر من الليل، كما قامت مظاهرات مصرية صغيرة في الحي العربي تهتف بحياة أثيوبيا (294).

لقد أثار هذا الحادث شعور المصريين لدرجة أن بعضهم اعتقد أنه أصبح غربيا في بلده يهان من زائريه وضيوفه الذين يعيشون معه على خير بلده في الوقت الذي لا تهتم فيه وزارة الداخلية المصرية بالتحقيق في هذا الحادث وأخذ حقوق المصري الذي أهين في سبيل دفاعه عن بلاده ازاء عبارت نابية تفوه بها بعض المتهوسين الايطاليين (295)، كذلك فقد احتج طلبة الجامعة المصرية على اعتداء الايطاليين على الشاب المصري ومظاهراتهم التي عمت المدينة، كما احتجوا على المظاهرات العسكرية التي نظموها بغير داع. وقد أرسل هذا الاحتجاج الى وزير الداخلية طالبين تدخله لارضاء الشعور المصري والكرامة المصرية ومنع تكرار مثل هذا الحادث الخطير. وقد احتج الكثيرون من أبناء مصر على هذا الحادث الخطير. وقد احتج الكثيرون من أبناء مصر على هذا الحادث الخطير. سواء أفراد أو هيئات (296)، كما احتجت لجنة الدفاع عن قضية الحبشة على هذا الحادث وطلبت من الحكومة المصرية اتخاذ الاجراءات الحاسمة لمنع وقوع حادث مشابهه له ومنع المظاهرات الفاشية العسكرية التي تتنافى مع سيادة الدولة (297).

كما احتجت لجنة الدفاع عن قضية الحبشة في بيان أذاعته، على خطبة بابا الفاتيكان الرئيس الديني الأعلى للكنيسة الكاثوليكية بروما والتي برر فيها الحرب التي تعتزم ايطاليا شنها على أثيوبيا. وقد جاء في بيانها أنها لا تتوقع أن يقوم البابا ذلك ولا حتى ينسب اليه دون اعلان تكذيبه تأييدا لقضية السلام وحقنا للدماء وتأسف اللجنة لهذا لاقول في الوقت الذي تبذل فيه الجهود لمنع الحرب. وتأمل أن يكون ذلك مزيفا على البابا فان الدعوة الى السلام بين الناس من أقوى التعاليم التي جاءت بها الأديان السماوية. وقد أعدت اللجنة بيانا في شأن هذه الخطبة ليقرأه ممثلها في مؤتمر محبي السلام الذي تقرر عقده في باريس في 3 سبتمبر 1935 تقترح فيه على المؤتمرين جميعا أن يقروا ما أعلنته اللجنة من الأسف الشديد على صدور خطبة البابا التي برر فيها الحرب المتوقعة مع اعترافه بأناه ضرورية للتوسع الايطالي. كذلك احتج د. عبد الحميد سعيد على خطبة البابا هذه بصفته رئيس جمعية الشبان المسلمين (298).

والواقع أن الاعتداء المنتظر من جانب ايطاليا على أثيوبيا، قد أثار العالم المتمدين كله، فقد تألفت في باريس لجنة دولية للدفاع عن الشعب الأثيوبي، وعملت على تنظيم مؤتمر دولي يعقد في 3 سبتمبر 1935، وذلك في قاعة اتحادات النقابات بباريس، حضره 130 مندوبا عن 150 هيئة مختلفة النزاعات في سائر أنحاء العالم (299). وقد وجهت هذه اللجنة الدعوة الى عبد الحميد سعيد لحضور هذا المؤتمر، وقد رحب بذلك وأرسل من يمثل مصر فيه (300). وقد وجه المؤتمر نداء الى العالم كله يدعوه الى السلام. كما تقرر ارسال وفد يمثله الى عصبة الأمم في دورتها التي بدأت في 4 سبتمبر 1935 ليدعو أعضائها الى بذل الجهد لصون السلام (301).

ولقد ظلت لجنة الدفاع عن قضية الحبشة واللجنة البطريركية تعملان كل منهما بعيدا عن الأخرى، الى أن تقرر ضمهما معا وذلك في شهر سبتمبر 1935 ، وسميت باللجنة المالية. وقد عقدت أول اجتماع لها في أواخر شهر سبتمبر 1935 برياسة عمر طوسون ومطران القديس نائبا عن البطريرك وأعضاء اللجنة المالية. وقد تقرر في هذا الاجتماع، مخاطبة المسئولين في جمعية الهلال الأحمر، ووكيل وزارة الداخلية في مصلحة الصحة بشأن مساعدة اللجنة في ارسال بعثات طبية الى أثيوبيا (302).

وعندما نشبت الحرب الايطالية الأثيوبية في الثاني من شهر اكتوبر 1935 (304). دخلت اللجنة العامة للدفاع عن الحبشة مرحلة جديدة هي مرحلة المساعدة المادية المباشرة لاثيوبيا. وقد بدأت هذه المرحلة بعقد اجتماع في اليوم السادس من شهر اكتوبر قررت فيه أو يوجه كل من البطريرك والأمير عمر طوسون نداء الى الأمة المصرية يحثيانها على التبرع لشعب أثيوبيا، وقد تم ذلك. كما افتح الأمير عمر طوسون والبطريرك قائمة التبرعات بأن تبرع الأول بملبغ 500 جنيه مصري والثاني مبلغ 400 جنيه مصري. وقد تقرر أيضا انشاء صندوق للتبرعات انتخب سيد خشبة باشا أمينا له، وأن توضع المبالغ المتبرع بها في بنك مصر باسم اللجنة، كذلك شكلت لجنة لفحص طلبات الأطباء والصيادلة والممرضين وتوجيه نداء لهم للتقدم لهذه الخدمة الانسانية الجليلة. وأخيرا تقرر الاتصال بمخازن الأدوية والصيدليات للتبرع بالأجهزة والأدوات الطبية (305).

وقد استجابت الأمة المصرية لنداء الأمير عمر طوسون والبطريرك، فطلب المجلس الملي العام من مؤتمر الجمعيات القبطية، أن تلبي هذه الجمعيات نداء اللجنة العامة هذا، وتقوم بمساعدتها أن تلبي هذه الجمعيات نداء اللجنة العامة هذا، وتقوم بسماعدتها ماديا وأدبيا في اتمام عملها وواجبها نحو الأمة الاثيوبية في محنتها الشديدة، ولو أدى ذلك الى ارجاء مشروعاتها مؤقتها وذلك بالتبرع من رصيدها، ويجمع التبرعات من مشتركيها ومعضديها حتى تأتي المساعدة وافية بالغرض في تخفيف آلام الجرحى ومنكوبي الحرب (306).

كذلك شرعت الهيئات العلمية والدينية في ارسال النداءات الى أعضائها تستحثهم على المبادرة بالمعونة المادية، وأذاعت هيئة التدريس بكلية الطب نداء للشعب يدعو الى معونة أثيوبيا. وطلب من المساهمين في يانصيب جمعية المواساة التنازل عن جزء من نصيبهم في السحب القادم على أن تحول المبالغ المتحصلة الى اللجنة المساهمة في جمع التبرعات للجنة المذكورة (307).

كذلك وجهت لجنة الطلبة نداء الى جميع طلبة الجامعة والمدارس للتطوع لجمع التبرعات في مصر والأقاليم لمساعدة أثيوبيا (308). وقد شجعهم مصطفى النحاس باشا بأن قابل أعضاء لجنة الطلبة في بيت الأمة، وقد طلب الطلبة من وزيري المواصلات والمعارف اعفاءهم من أجور المواصلات تشجيعا للمتطوعين، واصدار أمر الى المدارس المختلفة بتسهيل مهمة لجنة الطلبة (309) وقد وافق وزيرا المواصلات والمعارف على كل ما طلبه الطلبة. كذلك اسندت "اللجنة العامة للدفاع عن قضية الحبشة" الى اتحاد الجامعة بتنظيم لجان مشروع القرش لاثيوبيا (310). كما كون تجار الجمالية لجنة لجمع التبرعات، وتبرعوا بمبلغ 500 جنيه محولة على بنك مصر، كذلك ألفت لجنة للذهاب لزيارة الوزراء وتلقي اكتتاباتهم للبعثات الطيبة المرسلة الى أثيوبيا، كما أرسلت الرسائل الى جمعية المهندسين ونقابة المحامين والجمعية الطبية تطلب فيها مؤازرة اللجنة في مهمتها الانسانية (311)، وأقامت جميعة ثمرة التوفيق القبطية سوقا خيريا خصص ايراده لاعانة منكوبي وجرحى الحرب الأثيوبييين، وأرسلت مجموعة كبيرة من الأدوية والأدوات الطبية الى هيئة الصليب الأحمر بأثيوبيا، وارسل المستشفى القبطي مؤونة طبية وأدوات كاملة طبية الى الامبراطور هيلاسيلاسي (312).

وبدأت "اللجنة العامة للدفاع عن الحبشة" في اجراء الاستعدادات اللازمة لارسال البعثات الطبية ومستلزماتها الى ميادين القتال بأثيوبيا وفي أقرب وقت، فأعلنت أن على كل من يرغب من الأطباء والصيادلة والممرضين المساهمة في هذا العمل أن يقدم علهي الى سكرتير اللجنة . كما بدأت "اللجنة العامة للمساعدة الطبية" المنبثقة من "اللجنة العامة للدفاع عن الحبشة"، في اعداد مشروع أول بعثة طبية وقدرت نفقاتها لسنة واحدة بمبلغ 25 ألف جنيه وكان مرتب الطبيب عضو البعثة يتراوح بين 30 و40 جنيها والصيدلي 25 جنيها، وثمانية جنيهات لرئيس الممرضين و6 جنيهات للممرض (313).

كما تقرر سفر الأمير اسماعيل داود الى أثيوبيا تلبية لدعوة الامبارطور هيلاسيلاسي ، ولكي يكون أيضا حلقة اتصال بين اللجنة العامة، والحكومة الأثيوبية في كل ما له علاقة بالبعثات الطبية التي تقرر ارسالها الى أثيوبيا (314)، وقد سعت اللجنة لدى الحكومة المصرية للتصريح للأطباء الموظفين باعطائهم اجازات لمدة ستة أشهر لانضمامهم للبعثات (315).

وقد سافرت البعثة الطبية الأولى مع الأمير اسماعيل داود في 24 اكتوبر 1935 – وكانت مكونة من ثلاثة أطباء وصيدلي ومعاون، وقد استقبل الامبراطور والشعب الأثيوبي والحكومة الأثيوبية اسماعيل داود وابعثة الطبية أروع استقبال، عندما وصلوا الى أديس أبابا (316)، وقد استقبل الامبراطور هيلاسيلاسي اسماعيل داود وأظهر له امتنانه وامتنان الأمة الأثيوبية للأمة المصرية (317). وتوالي ارسال البعثات الطبية المصرية، فأرسلت بعثتنان أخريان تتألفان من مجموعة كبيرة من الأطباء والصيادلة والممرضين ورؤسائهم والطهاة والمعاونين (318). وكانت هذه البعثات الطبية مشمولة برعاية الامبارطور وحكومته التي تكفلت بمصاريف تغذية واسكان أعضاء هذه البعثات (319).

واتفق اسماعيل داود مع السلطات الأثيوبية في أديس أبابا على تقسيم هذه البعثات الطبية المصرية الموجودة في أثيوبيا على شعبتين طبيتين، تعمل أولاهما في منطقة هرر، والأخرى في منطقة جقجقة. وبالفعل غادرت هذه البعثات أديس أبابا الى المنطقتين المخصصتين لهما. وقد سلمت الحكومة الأثيوبية اسماعيل داود دارين كبيرين لتحويلهما الى مستشفتين مصريتين على حساب اللجنة العامة للمساعدة الطبية كذلك اتفق مع السلطات الأثيوبية على شراء عشرة سيارات كبيرة ملأى بالأسرة لينقل فيها جرحة الحرب من ميادين القتال الى مكان كل مستشفى، وقد بدأت المجموعتان الطبيتان في ممارسة عملهما الانساني (320).

ولقد ظلت اللجنة المشرفة على البعثات الطبية تابعة للجنة العامة للدفاع عن الحبشة حتى 12 نوفمبر 1935 عندما تقرر فصلها وتسميتها باسم اللجنة العامة للمساعدة الطبية، وذلك حتى تكون لها الصفة المستقلة، لكي تتعاون مع الاتحاد الدولي لجمعيات الهلال والصليب الدولي. وقد تقرر أيضا ابلاغ جمعية الهلال الأحمر المصرية بهذه الصفة المستقلة الجديدة (321) لها، كذلك اعترفت الحكومة لامصرية بصفتها المستقلة هذه حتى يتسنى لبعثاتها الطبية في أثيوبيا القيام بعملها تحت رعاية اتحاد الهلال الأحمر والصليب الأحمر، وذلك باعتبارها جمعية اغاثة متطوعة تكونت بغرض اسداء المعونة الطبية للجيوش الاثيوبية وبالتالي تنطبق عليها معاهدة جنيف الموقع عليها في 27 يولية 1929 والمعروف أن مصر وقعت عليها وتلتزم بها، وعلى ذلك فقد طلبت وزارة الداخلية من اللجنة العامة للمساعدة الطبية بيانا بأسماء أعضاء بعثاتها في أثيوبيا حتى تبلغها للهلال الأحمر والذي يبلغها بالالي للاتحاد الدولي للصليب الأحمر. وبالفعل فقد أرسلتها الجنة العامة الى وزارة الداخلية (322).

ولقد ظل الشعب المصري طوال هذه الحرب الايطالية الأثيوبية يقدم كل ما يستطيع ان يقدمه كمساعدة لأثيوبية في أزمتها سواء كانت مادية في شكل أموال وغذاء وأدوات – طبية في شكل ارسال بعثات طبية متكاملة، وذلك طوال مدة كفاح الشعب الأثيوبي ضد الغزو الايطالي حتى سقطت أديس أبابا في مايو 1936 (323).

بل ان الشعب المصري ضحى بأحد أبنائه من الأطباء الذين كانوا يعملون في البعثات التي أرسلها، وكان شابا في مقتبل العمر، وذلك في سبيل الزود عن استقلال أثيوبيا، وقام بتشييع جنازته في القاهرة في احتفال مهيب عظيم كأنه مات عن مصر نفسها (324). وتحملت البعثات الطبية المصرية القصف الجوي الايطالي في شجاعة نادرة وظلت تمارس عملها الانساني الرائع مؤمنة بمبادئها وقيم مصر العظيمة. وقد احتجت اللجنة العامة للدفاع عن الحبشة على هذا الاعتداء الايطالي على بعثاتها الطبية الى الصليب الأحمر الدوي (325)، كما عقدت جمعية الشبان المسلمين اجتماعات برياسة الدكتور عبد الحميد سعيد للنظر في موضوع هذا الاعتداء الجوي، وأصدر الأمير عمر طوسون والبطريرك بيانا قالا فيه أن الاعتداء الايطالي سيزيدنا رغبة في مساعدة أثيوبيا، وان المصريين يتطوعون بعاطفة لا تخص جنسا دون جنس (326). وعقب وقوع هذا الاعتداء تقرر سفر الدكتور عبد الحميد سعيد الى أثيوبيا لدراسة الموقف واعادة تنظيم العمل الطبي المصري في ميدان القتال (327)ز

كان هذا هو موقف شعب مصر الرائع الأصيل، أما من جهة الحكومة المصرية نفسها فقد ظلت متبعة سياسة الحياد بين الدولتين وذلك حتى شهر اكتوبر عندما نشبت الحرب فعلا بين ايطاليا وأثيوبيا، عند ذلك تخلت مصر عن حيادها وذلك خوفا من الأطماع الايطالية التي كانت ترغرب في احتلال مصر والسودان، وعلى ما كانت تخاف من ايضا بريطانيا لذلك حاولت حل النزاع الايطالي الأثيوبي سلميا، ألا أن اعتداء ايطاليا على أثيوبيا بالحرب وما يمثله من تهديد لمصالح بريطانيا في هذه المنطقة . كما أن احتلال ايطاليا لأثيوبيا يعتبر خطرا على السويس وعدن والبحر الأحمر وقناة السويس التي هي رقبة الامبراطورية البريطانية وطريق الوصول الى أملاكها في الشرق لذلك تحركت بريطانيا وحركت عصبة الأمم التي قرب فرض عقوبات على ايطاليا المعتدية. وعندما وجدت الحكومة المصرية نفسها أمام تيار الرأي العام المصري الجارف المؤيد لأثيوبيا، وأطماع ايطاليا التي بدأت تتحقق في الخطوة الأولى منها باعلان الحرب على أثيوبيا، وبريطانيا بتحركها هذا انها غير راضية عما قامت به ايطاليا من شن الحرب، قررت تنفيذ القرارات التي أصدرتها عصبة الأمم والخاصة بتطبيق العقوبات على ايطاليا وذلك في 14 اكتوبر سنة 1935، وبهذا التنفيذ تخلت مصر عن سياسة الحياد بل وتورطت رسميا في الأزمة الدولية وأصبحت معرضة لعداوة ايطاليا التي احتجت بشدة لدى الحكومة المصرية على تنفيذها للعقوبات التي فرضتها عصبة الأمم عليها (328).

وعلى ذلك فقد كان لابد للحكومة المصرية ازاء هذه التطورات ان تتخذ بعض الاجراءات واللازمة والتي تتلاءم مع هذه التطورات منها اجراءات تتعلق بحماية الأمن الداخلي في مصر ازاء الجالية الايطالية الكبيرة وما كانت تقوم به من نشر دعايات وتقديم مساعدات لصالح ايطاليا. كما اتخذت اجراءات أخرى تتعلق بالدفاع الخارجي عن مصر فبدأت تعد الجيش المصري للقتال واعادة توزيعه على مناطق مختلفة في البلاد وبخاصة الحدود الغربية المصرية (329).

أما بالنسبة لموقف الحكومة المصرية ازاء أثيوبيا في ضوء هذه المتغيرات، فقد بدأت تساهم بدورها في دعم المجهود الشعبي المصري الذي كان يبذل لصالح أثيوبيا، فأعفت البعثات الطبية والمعونات الطبية المسافرة الى أثيوبيا من دفع اجور السفر والنقل (330). كما اعترفت باللجنة العامة للمساعدة الطبية للحبشة، وقدمت احتجاجا رسميا الى الحكومة الايطالية على ضرب المستشفى المصري بأديس ابابا بالقنابل أثر هجوم جوي ايطالي (331).

وعلى أي حال فان الصراع الايطالي الأثيوبي ، ونشوب الحرب بين ايطاليا وأثيوبيا، واحتلال الأولى للثانية، كان بداية لتطورات دولية متشابكة، دخلت بسببها العلاقات السياسية بين مصر واثيوبيا مرحلة جديدة من مراحل تطورها.